الشريعة الإسلامية
سلسلة هداية المؤمنين للحق المبين
الجزء السابع
نظرة تاريخية
بحث في الموروث التشريعي للجزيرة العربية قبل الإسلام
وعلاقته بتشكيل الثقافة التشريعية العربية
خادم الرب يسوع المسيح الأخ .....
الفصل الأول ( الجزيرة العربية)
القبائل المسيحية في شبةالجزيرة –
الموحدون والحنفاء ومدّعو النبوة قبل الإسلام
1 - التراث التشريعي قبل الإسلام.
أولاً : الأحاديث الواردة عن النبي في سنن الدارقطني? الجزء الثالث? كتاب الحدود,
مقدمة
الجزء الأول
أديان الجزيرة العربية قبل الإسلام:
1 - الوثنية وعبدة الكواكب,
2 - الكعبات وبيوت الأرباب
3 - الصابئة
4 - اليهودية
5 - المسيحية
6 - الموحّدون والحنفاء ومدّعو النبوة
الجزء الثاني
1 - التراث التشريعي قبل الإسلام
2 - حكام العرب
3 - الحدود في الإسلام
4 - الشورى والخلافة
5 - الخاتمة
6 - المراجع والمصادر
المقدمة
الشريعة الإسلامية,,,!
موضوع هام كثيراً ما أغرى الجميع بالكتابة عنه? فكان لكثير منهم حجر عثرة? إما لتحيزهم الكامل لكل الكتب الصفراء? أو لرفضهم لها,
وقد اخترت بإرادتي أن أكتب في هذا الموضوع الهام? وأن أدع القلم ينزف فوق الأوراق صارخاً في الجميع: انتبهوا,,!
ففي هذا الوقت ترتفع فوق مصرنا الحبيبة سحابة سوداء مملوءة حقداً وبغضاً لكل ما هو جميل? فطوال تاريخنا لم يحدث ما نراه الآن من قتل وسرقة ونهب وترويع للآمنين وإهلاك الحرث والنسل,, وكل هذا يحدث باسم الإسلام - والإسلام براء منه - وكل هذا يحدث ممن يدّعون أنهم ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية,
وقد حاول كثير من الباحثين المخلصين تقديم دراسات جادة حول هذا الموضوع? ولكنهم لم ينجوا من القتل كما حدث للدكتور فرج فودة? أو التكفير كالشيخ علي عبد الرزاق والمستشار سعيد العشماوي? والدكتور سيد القمني,
وإني أقدم هذا البحث حتى تعلم الأجيال القادمة? أن هذا العصر كان فيه رجال لا يخشون التفكير ولا التكفير,
وقد وجدت إنني إذا أردت دراسة الشريعة الإسلامية دراسة وافية عليّ أن أعود قروناً عديدة قبل بعث خاتم النبيين - لأقف على الموروث التشريعي في الجزيرة العربية حتى لحظة ظهور الإسلام, ولا يخفى على القارئ ما في هذا البحث من مشقة ومجهود? وذلك إما لندرة المصادر والمراجع حول هذه الفترة أو للطعن في صحتها من قبل علماء الإسلام تارة والمستشرقين أخرى, وقد اخترت في هذه الدراسة إعادة بحث ما أرجع إليه من مصادر? وذكر المطاعن عليها, وسبب قبولي أو رفضي لأحد هذه المصادر دون غيره - إذا وُجدت ضرورة لذلك - وإني لأرجو من القارئ أن يختلف معي بمنهجية? ورحابة صدر? لأن غياب المنهجية ورحابة الصدر في الحوار هي أزمة جميع المثقفين,
وأخيراً,, هذا بحث تاريخي وليس دراسة دينية بالرغم من تعرّضه لموضوع ديني وهو الشريعة - فإني لا أدّعي العِلم بالدين? ولكني أرجو أن أكون قادراً على إعادة قراءة التاريخ,
افصل الأول
تمهيد
الجزيرة العربية:
هي تلك البقعة الجغرافية التي تُحد بالخليج الفارسي شرقاً? والبحر الأحمر غرباً? والمحيط الهندي جنوباً? وبادية العراق والشام شمالاً, وهي تلك المنطقة التي نشأ فيها الإسلام دين التوحيد المطلق? وترعرع فيها? وانطلق منها ليحكم أكثر من نصف المسكونة, وأيضاً هي المنطقة التي تميزت بكثرة الباحثين عن الله من أهلها بدءاً من كعب بن لؤي جد النبي البعيد? مروراً بزيد بن عمرو بن نفيل? وسويد بن الصامت? حتى أمية بن أبي الصلت,
وقد حبى الله الجزيرة بموقع منيع? فلم يكن من السهولة بمكان أن يهاجر إليها أحد إلا عن طريق بادية العراق والشام - مهد الأديان - مما جعل هذه الجزيرة ملجأ لكل دعاة الأديان? أو للفارين من الاضطهاد? أو الهراطقة, والجزيرة العربية هي ميدان لكل الباحثين الجاد منهم والهازل? فكم من كتب ومجلدات كتبت عنها? منها ما هو غث وما هو سمين وهي أيضاً ميداننا,, ودعوتنا للقارئ أن يشد رحاله إلى تلك الرحلة الشيقة للجزيرة العربية وأديانها قبل الإسلام,
استهلال
لا يخلو موضوع البحث في تاريخ الديانات في الجزيرة العربية قبل الإسلام من المتعة والإرهاق? أما المتعة فهي في محاولة سبر أغوار التاريخ والخروج بالحقيقة من وسط هذا الكم الهائل من الأقوال والأساطير? وأما الإرهاق فهو لصعوبة المصادر والمراجع حول هذا الموضوع, فمعظم المصادر إما فُقد أوأُعدم عمداً? فليس بخفي على أحد أن الغزوات التي تعرضت لها المنطقة العربية قد أفقدتها أعظم مكتبتين في التاريخ البشري? هما مكتبتا الإسكندرية وبغداد, ولعل القارئ يشعر بكم الإرهاق حين يحاول التيقن بنفسه من صدق خبر ورد في أحد كتب التاريخ العربي? فليس عندنا مثلاً أي شيء من الشعر الوثني الذي كُتب قبل الإسلام? ومن غير المعقول ألا يكتب قوم غارقون في عبادة الأصنام أي شيء عن أصنامهم? شعراً كان أم نثراً - اللهم إلا الشعر الذي تُسب فيه هذه الأصنام - كأشعار زيد بن عمرو بن نفيل - وجُل ما استطعت أن أفعله هو اعتمادي على كتابات من يؤمنون بعقيدة ما أو الاعتماد على أكثر المراجع حيادية, فمثلاً اعتمدت على الكتابات المنقولة عن اليهود والمسيحيية عند الحديث عنهم - ولم أناقش صحة هذا المعتقد أو خطئه حيث أن هذا لا يدخل في مجال هذا البحث - أما في حالة الوثنيين وغيرهم فقد اعتمدت على المراجع التاريخية وليست النقدية - دون التعرض بنقد لهذه المعتقدات - ودعوت القارئ أن يحاول أن يكون محايداً عند قراءة هذا البحث? حيث أنه - مرة أخرى - بحث تاريخي وليس بحثاً دينياً,
كان للعرب آراء عدة في وثنيتهم فبعضهم كان يقول: ليس لنا أهلية لعبادة الله بلا واسطة لعظمته? فلذلك نعبدها - أي الأصنام - لتقربنا منه ? وقال آخرون: هي قبلة لنا مثل الكعبة وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله? فمن عبد الله حق عبادته قضى له الشيطان حاجته (بلوغ الأرب للبغدادي - 2:197-198),
وكان أول صنم وضع حول الكعبة - كما يذكر اليعقوبي في تاريخه - هو هُبل? وكان على صورة إنسان من عقيق أحمر مكسور الذراع? وقد قام العرب بعد ذلك بصناعة ذراع له من الذهب الخالص, ويقول ابن هشام: إن عمرو بن لُحَى خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره? فلما قدِم مآب من أرض البلقاء? وبها يومئذ العماليق - وهم أولاد عملاق, ويُقال: عمليق? بن لاوذ? بن سام? بن نوح - رآهم يعبدون الأصنام? فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون? قالوا له: هذه أصنام نعبدها? فنستمطرها فتمطرنا? ونستنصرها فتنصرنا, فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب? فيعبدونه? فأعطوه صنماً يُقال له: هُبل? فقدم به مكة? فنصبه? وأمر الناس بعبادته وتعظيمه (ابن هشام ج 1 ص 75),
أما إساف ونائلة فكانا من أشهر أصنام العرب? وقد زعموا أنهما رجل وامرأة من جرهم? زنيا في الكعبة? فمُسخا حجرين? ووضعا على الصفا والمروة, فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما زلنا نسمع أن إسافاً ونائلة كانا رجلاً وامرأة من جرهم? أحدثا في الكعبة? فمسخهما الله تعالى حجرين (ابن هشام ج 1 ص 80),
ومن أصنامهم أيضاً اللات: وهي صخرة بيضاء مربعة? بنت ثقيف عليها بيتاً يحجّون له? وكانت سِدانته لآل العاص ابن أبي يسار? وكان جميع العرب تعظمه وتقدم له الهدايا والذبائح? وكانت تحت الصخرة حفرة يُقال لها غبغب تحفظ فيها الهدايا والنذور والأموال التي كانت تقدم للصنم, فلما هدم المغيرة الصنم أخذ تلك الأموال وسلمها إلى أبي سفيان امتثالاً لأمر الرسول (المفصل في تاريخ العرب - جواد علي - ج 6 ص 228),
أما العزى: فكانت نخلات في الطريق بين مكة والعراق? وكانوا قد بنوا عليها بيتاً يطوفون حوله ويسمعون الصوت (هواتف الجان) وقد عبد العرب العزى وتسمّوا باسمها مثل عبد العزى بن عبد المطلب , وقد أقسم العرب بالعزى? ولها يقول درهم بن زيد الأوسي:
إني ورب العزى السعيدة -- والله الذي دون بيته سرف
وقد كانت قريش وبني كنانة أكثر العرب تعظيماً للعزى? وكان سدنتها وحجابها من بني شيبان من سليم? حلفاء بني هاشم (المفصل - جواد علي - ج 6 ص 242),
وقد عبد العرب أيضاً مناة وتسموا بها? ولكن الأخباريون اختلفوا في هيئة مناة وشكلها? فمنهم من قال: إن مناة صخرة? سُميت بذلك لأن دماء النساك كانت تمنى عندها (أي تراق), ومنهم من يقول: إنها صنم كان منصوباً على ساحل البحر , وقد جعله بعض الرواة في الكعبة مع بقية الأصنام (المفصل - جواد علي - ج 6 ص 247),
وقد كان كل العرب يعظمونها ولكن أكثرهم تعظيماً لها الأوس والخزرج? وقد كانوا يذبحون لها? ويطوفون حولها,
وقد قال بعض الباحثين والمؤرخين: أن اللات والعزى ومناة تدل على معبود واحد هو الزهرة (النصرانية وآدابها - لويس شيخو - ص 10), ومع تقديري لشيخو ومن ذهبوا مذهبه إلا أني لا أتفق معهم? فهذه الأسماء الثلاثة وردت في القرآن على نحو يخالف ما ذهبوا إليه ففي سورة النجم 53:19 و20 يقول القرآن: أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُّزَى , وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى وليس من المعقول ولا المستساغ أن يكون المعنى (أفرأيتم الزهرة والزهرة والزهرة الثالثة الأخرى), إذن هذه الأصنام ثلاثة معبودات وليست معبدواً واحداً? فالعرب قبل الإسلام لم يكن لهم معبود واحد? ولم تكن وثنيتهم توحيدية, وقد ذكر ابن هشام في السيرة أن أصنام العرب بلغت 360 صنماً? وكانوا لا يفعلون شيئاً قبل سؤال أصنامهم? وكانوا يستسقون ويتشفعون ويقسمون بها, وكان من أصنام العرب حسب ما يذكر ابن هشام يغوت: عبده طئ وجرش من مذحج? ويعوق: عبده همدان? وود عبده كلب بن وبرة من قضاعة? وسواع: عبده هُذيل? ونسر: عبده ذو الكلاع بحمير? وسعد: عبده بنو ملكان? وذو الخلصة: عبده دوس وخثعم وبجيلة (ابن هشام ج 1 ص 81),
يغوث: وكان -على رواية ابن الكلبي - في جملة الأصنام التي فرقها عمرو بن لُحى على من استجاب لدعوته من القبائل? وقد دفعه إلى أنعم بن عمرو المرادي? فوضعه بأكمة مذحج باليمن? فعبدته مذحج ومن والاها? وكذا أهل جرش, وقد بقي في أنعم إلى أن قاتلتهم عليه بنو غطيف من مراد? فهربوا به إلى نجران? فأقروه عند بني النار من ضباب, وفي رأي جواد علي أن اسم هذا الصنم له علاقة بفكرة المتعبدين له عنه? أي أنهم كانوا يرون أن يغيثهم ويساعدهم,
يعوق: وهو أيضاً من جملة الأصنام التي فرقها بن لُحى? فكان أن سلمه إلى مالك بن مرثد من همدان, ويذكر ابن الكلبي: أن خيوان اتخذت يعوق? وكان بقرية لهم يُقال لها خيوان من صنعاء على ليلتين بمكة? ولم أسمع لها ولا لغيرها شعراً فيه ويستنتج جواد علي من ملاحظة ابن الكلبي من أنه لم يسمع شعراً في يعوق? أن يعوقاً لم يكن من الأصنام المهمة عند العرب - وقت ظهور الإسلام - وأن عبادته كانت قد تضائلت? وانحصرت في قبائل معينة, وهناك بيت ينسب لمالك بن نبط الهمداني الملقب بذي المعشار? وهو من بني خارف أو من يام بن أصي? هذا نصه:
يريش الله في الدنيا ويبري
ولا يبري يعوق ولا يريش
(المفصل - جواد علي - 6:262? 263)
ود: وكان من نصيب عوف بن عذرة من قضاعة - أعطاه إياه عمرو بن لُحى - فوضعه في وادي القرى? وسمى ابنه عبد ود? فكان أول من تسمى بهذا الاسم? وفي رواية لمحمد بن حبيب: أن ود كان لبني وبرة? وكان سدنته من بني الفرافصة من كلب , وود - حسب ما يصفه ابن الكلبي - تمثال لرجل كأعظم ما يكون من الرجال? قد ذبر عليه حلتان? متزر بحلة? مرتد أخرى? عليه سيف قد تقلده? وقد تنكب قوساً? وبين يديه حربة فيها لواء? ووفضة فيها نبل (الأصنام - ابن الكلبي - 35? 56),
سواع: أما سواع? فكان موضعه برهاط من أرض ينبع, وقيل أنه صنم على صورة امرأة? وهو صنم هذيل? وورد في رواية أخرى: أنه كان بنعمان, وقد عبدته كنانة? وهذيل? ومزينة وعمرو بن قيس بن عيلان, وكان سدنته بنو صاهلة من هذيل , وفي رواية ثالثة: أنه كان لكنانة (المفصل 6:258),
ويذكر ابن منظور في اللسان تحت كلمة :ثعلب أن غاوي بن عبد العزى كان عند سواع? إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى تسنماه? فبالا عليه فقال غاوي:
أربٌّ يبول الثعلبان برأسه
لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
ثم قال: يا معشر سليم! والله هذا الصنم لا يضر ولا ينفع? ولا يعطي ولا يمنع! فكسره ولحق بالنبي في عام الفتح (اللسان - ثعلب - وقيل: إن الحادثة وقعت لعباس بن مرداس وقيل: لأبي ذر الغفاري),
بالإضافة لما سبق كان للعرب عدة أصنام أخرى اختلفت مكانتها من قبيلة لأخرى مثل:
رضى: ويكتب رضاء أحياناً: وهو صنم بني ربيعة بن كعب? وهو أيضاً من الأصنام المعروفة لقوم ثمود? وقد ورد اسمه في نصوص ثمودية عديدة? وكانت عبادته منتشرة بين العرب الشماليين, وورد في نصوص تدمر وبين أسماء بني إرم? كما ورد في كتابات الصفويين (المفصل 6:269),
ذو الخلصة: وهو صنم خثعم وبجيلة ودوس وأزد السراة? ومن قاربهم من بطون العرب من هوازن? وقد كان له بيت يُطاف حوله? وكانوا يلبسونه القلائد? ويهدون له الشعير والحنطة? ويصبون عليه اللبن? ويذبحون له? ويعلقون عليه بيض النعام,
سعد: وكان لمالك وملكان ابني كنانة? بساحل جدة وكان عبارة عن صخرة طويلة يذبحون عندها? وقد روي أن رجلاً أقبل في إبل له ليقفها عليه? متبركاً به, فلما أدناها منه نفرت الإبل? وذهبت في كل وجه وتفرقت فأسف الرجل وتناول حجراً فرماه به وقال: لا بارك الله فيك إلهاً أنفرت عليّ إبلي ? ثم خرج في طلبها حتى جمعها وانصرف عنه وهو يقول:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا -- فشتتنا سعد? فلا نحن من سعد
وهل سعد إلى صخرة بتنوفة من -- الأرض لا يُدعى لغي ولا رشد
المفصل 6:275)
كما سبق وقررنا أن العرب كانت لهم معبودات شتى? ولم تقتصر عبادتهم على الاصنام بل كان كثير من قبائلهم يعبدون قوى الطبيعة من كواكب ونجوم? وكان لهذه العبادات الأثر الكبير في تشكيل بنية المجتمع العربي? بل في تشكيل العقلية العربية - في ذلك الوقت - فقد تركزت النظرة العربية للإله على قدر نفعه أو ضرره فكانوا يسترضون الإله الذي يخشون غضبه بالقرابين? وأيضاً يقدمونها للإله الذي يستزيدون من مراحمه, ولعل هذا هو سبب عبادتهم للشمس? والقمر? والشعري,,, ولكن أهم هذه الآلهة على الإطلاق كان الشمس,
الشمس: بالرغم من اختلاف المؤرخين في عبادة العرب للشمس إلا أن المرجح انتشار عبادة الشمس في شتى أنحاء الجزيرة, وقد رأى جواد علي أن شمس كان اسم صنم لبني تميم? عبدته معها ضبة? وعدي? وعكل? وثور, إلا أن هناك من المؤرخين من يرى غير ذلك فهيرودتس - مثلاً - يذكر في تاريخه أن العرب كانوا يعبدون إلاهاً سماه أروتال وهي لفظة آرامية مركبة تعني النور المتعالي ثم ذكر أن أروتال هذا هو ديونيسيوس أو بخوس وهو إله الشمس عند اليونان, ومن الأسماء التي شاع بها اسم الشمس في جهات العرب: ذو الشرى? والمحرق - لا بد أن هذه التسمية سببها حرقهم لقرابين بشرية لهذا الإله - وذريح - عند فلهوزن? ونولدكة - ونكرح (النصرانية وآدابها - شيخو - ص 9 والمفصل 6:286),
المقة: لم يتفق معظم الباحثين على أصل تسمية المقة وهل كانت تمثل عند العرب الإله بعل أم القمر ولعل أصوب تعليل لهذه التسمية هو ما قدمه د, القمني: من أن المقة اسم مركب من جزئين? إل: وتعني إله أو رب? ومقة أو مكى: وتعني معبد, وعلى هذا يكون اسم المقة يعني: إله أو رب مقة أو مكى أي إله المعبد الحرام الموجود على الأرض ويُسمى مكى (الأسطورة والتراث - للقمني - ص 120), ويؤيد القمني أن المقة هو نفسه الإله ذو سموى أو رب السماء? ويقصد به القمر, وقد ورود اسم المقة في كتابات المسند على نحو يصوره بصورة ثور أحياناً? وبنسر أو حيات أحياناً أخرى? وهذا يؤكد أن هذا الإله كان يشير إلى القمر (لأن هذه الرموز تدل على القمر عند الساميين), وقد أُشير الى المقة ب هلل بمعنى هلال وب ربع و حول وهذه الأسماء كلها تشير إلى القمر (المفصل 6:269),
الزهرة: وتُسمى عند العرب - أحياناً - عثتر? وكوكب الصبح? وقد كان العرب يتعبدون له بتقديم قرابين بشرية? ودائماً يكون القربان طفلاً? وكانوا يصورون الإله عثتر في صورة طفل صغير, وقد ورد دعاء عُثر على نصه في حران: إننا نقدم لك قرباناً يشبهك , وقد ذكر نيلوس أن العرب سرقوا ابنه الجميل ثيودولس وعزموا على تقديمه قرباناً لكوكب الصبح - الزهرة - (المفصل 6:171) ويروي الغلام بعد نجاته قصة اختطافه فيقول: وكان هؤلاء الغزاة قد عزموا على تضحيتي لنجمة الصبح? فأعدوا كل شيء للذبيحة في سحر اليوم التالي? فأقاموا لذلك وهيّأوا السيف والسكب والأًقداح والبخور, وكنت أنا ملقى على وجهي على الحضيض - أما نفسي فكانت مرتفعة إلى الله أدعو إليه بحرارة كي ينقذني من هذا الخطر العظيم ,,, وكانوا قد قضوا قسماً كبيراً من ليلهم أكلاً وشرباً وقصفاً حتى غلب عليهم النوم فهجعوا إلى الصباح ولم يستيقظوا إلا والشمس قد طلعت وفات وقت الضحية,,, فلما رأوا ذلك أخذوني إلى قرية تُدعى سوقا وتهددوا بقتلي أمام أهلها إن لم يفدني أحد منهم? فرحمني أحدهم ودفع فديتي واهتم بشأني أسقف المحل, وها أنا الآن عائد إلى والدي (النصرانية وآدابها - لويس شيخو - ص 17),
كانت لكل هذه الأصنام تلبيات مختلفة? وقد ذُكرت في أكثر من مصدر ومن أشهر هذه التلبيات قولهم: لبيك اللهم لبيك? لبيك لا شريك لك? إلا شريك هو لك تملكه وما ملك وكذلك لبيك اللهم لبيك? لبيك إن جرهما عبادك و لبيك اللهم لبيك لأننا عبيد? وكلنا ميسرة وأنت ربنا الحميد ,
وقد كان لهم بجوار ذلك شرائع عدة في العبادة منها: الحج? والطواف? والتلبية? ورمي الجمار? والصلاة والصوم وتحريم زواج الأمهات والبنات? والخالات? والعمات? وخِطبة المرأة لوليها? ويطلقون ثلاثاً? ويحرمون الأشهر الحُرم والبلد الحرام مكة ويكفنون موتاهم ويصلون عليهم ويختتنون? ويطلقون اللحى ويستعملون السواك? ويقصون شورابهم,,, (راجع: المفصل لجواد علي ج 6 - الملل والنحل للشهرستاني ج 2 - بلوغ الأرب للبغدادي ج 2),
هذا جزء من الموروث التشريعي لدى بعض عرب ما قبل الإسلام? وهو الجزء الذي رسخ في العقلية العربية?وخاصة عندما أقر النبي العرب بعض هذه الشرائع التي وافقت الإسلام? أو تلك التي لم يُنزل فيها وحي,
ولكن الكثير أيضاً من هذه الشرائع والشعائر? لم يوافق عليها الإسلام بل حاربها أشد محاربة حتى خبت وتلاشت? وسنتعرف في الفصول القادمة على بقية الموروث العقائدي والتشريعي لعرب ما قبل الإسلام? وخاصة ما أقره الإسلام منه,
للتاريخ العربي أن يحدثنا عن مكة وكعبتها على أنها قبلة العرب - قبل الإسلام - ومحجهم? وله أن يحدثنا عن رفع إبراهيم القواعد من البيت? ولنا أن نقبل كل ذلك دينياً وألا نناقشه - إذا ثبت صحته - ولنا أن نقبل كذلك كل الأساطير التي أوردها المؤرخون حول الثعبان الذي كان يحرس الكعبة? والرخ الذي قتله وألقاه بعيداً عند بنائها (السيرة الحلبية 1:233), ولكن كل ذلك لا مجال له في هذا البحث? لأننا نبحث في التاريخ? ويحق لنا ألا نثق في معظم ما جاءت به الأخبار,
وإذا بحثنا في موضوع الكعبة - تاريخياً - نجد أنها لم تكن الكعبة الوحيدة في الجزيرة العربية? ولكن كان هناك كثير غيرها في طول الجزيرة وعرضها, وبالنسبة لكعبة مكة يقول الدكتور طه حسين: للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل? وللقرآن أن يحدثنا أيضاً? لكن ورود هذين الاسمين في التوراة لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي? فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها? ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى? وأقدم عصر يمكن أن تكون نشأت فيه هذه الفكرة? إنما هو العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية? ويبثون فيه المستعمرات, فنحن نعلم أن حروباً عنيفة شبت بين اليهود المستعمرين? وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد? وقد انتهت بشيء من الملاينة? ونوع من المحالفة والمهادنة, فليس ببعيد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأه هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء عمومة? لا سيما وقد رأى الفريقان شيئاً من التشابه بين الفريقين غير قليل? فأولئك وهؤلاء ساميون,,, وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح (في الشعر الجاهلي - د, طه حسين - ص 26 و27), هذا ما يقرره طه حسين بالنسبة لتاريخية كعبة مكة, وكان في الجزيرة عدة كعبات أخرى وإن لم تكن بشهرةكعبة مكة - منتشرة في أنحاء الجزيرة? وكانت العرب تحج إليها في أوقات معلومة - وغير معلومة - وتذبح عندها وتقدم لها النذور والهدايا? وتطوف بها في طريق الميثولجيا عند العرب - محمود سليم الحوت), وأما أشهر كعبات الجزيرة قبل الإسلام - بعد كعبة مكة - بيت ثقيف? وبيت اللات? وكعبة نجران? وكعبة شداد الايادي? وكعبة ذي الشرى? وبيت الأقيصر? وبيت رضا? وكعبة رحيم? وبيت العزى? وبيت ذي الخلصة (راجع - المفصل - جواد علي - ج 5 ص 398 وما بعدها وطوالع البعثة المحمدية - العقاد - صفحة 130),
لم تكن عبادة العرب متوقفة على مجرد الطواف حول الكعبات أو الأصنام? أو حتى الذبح عندها والحلق والتقصير? بل كان لهذه الكعبات عدة تشريعات أخرى لم يكن يجرؤ أحد على انتهاكها? كتحريم القتال عندها وتقديم الأموال التي كانت بمثابة خراج يقدم الموسرون لإضافة الحجيج? بل إن الأمر بلغ بالعرب اعتبار من يعتلي كعبة مكة من العبيد حراً? لأنهم لم يساووا بين عز اعتلائها وذل العبودية (المفصل 6:431), وكانت كعبة مكة تتميز عن بقية الكعبات بعدة أشياء - مع اشتراكها في باقي أركان العبادة الخاصة بتلك الكعبات - مثل ما ذكره السيوطي في سبب نزول البقرة 2:158 إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا أن العرب - بعد الإسلام - كانوا يتحرجون من السعي بين الصفا والمروة لأنهم كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام? فظنوا أن ذلك من شعائر الجاهلية, فأخبروا النبي بذلك فوضح لهم أن السعي بينهما من شعائر الله التي توارثوها عن جدهم الأكبر إسماعيل, ومما تميز به بيت مكة أيضاً: رمي الجمرات والوقوف بعرفة? والإفاضة من المزدلفة? واستلام الركن? وتقبيل الحجر الأسود? إجارة المستعيذ بالبيت وتحريم إيذائه? وكل هذا مما وافق عليه الإسلام وأقره (المفصل ج 6 ف 74 - الحزب الهاشمي - د, القمني - ص 21 وما بعدها),
ومثلما وافق الإسلام على كل ما سبق إلا أنه لم يوافق على جملة أشياء كطواف العراة? فقد قال النبي: لا يوف بالكعبة عريان , ولم يكن العرب يطوفون بالبيت عراة لانحلالهم كما يصور لنا ذلك رواة التاريخ? ولكنهم كانوا يتحرجون من الطواف في الملابس التي اقترفوا فيها الذنوب - لقداسة الكعبة عندهم - فكانوا يستعيرون - أو يبتاعون - ملابس الحُمس لاعتقادهم أن القريشيين هم اهل بيت الله? وأنهم أطهر منهم, وكان أحدهم إذا لم يجد ما يرتديه من ملابس الحُمس? طاف بالبيت عرياناً, وتذكر الكتب أن امرأة كانت تطوف بالبيت شبه عارية - لأنها لم تجد من ثياب الحُمس ما ترتديه - فأخذت تطوف وهي تنشد:
اليوم يبدو بعضُهُ أو كله -- وما بدا منه فلا أُحله
(بلوغ الأرب ج 1 ص 244)
تشترك جميع كعبات الجزيرة في صفتين أساسيتين? فجميعها أبنية مكعبة? وجميعها أُطر لأحجار سوداء, وقد قال الدكتور القمني في كتابه الحزب الهاشمي : أن هذه الأحجار إما نيزكية أو بركانية? وإن سبب اسوداد لونها هو عوامل الاحتراق التي تعرضت لها? وإن سبب تقديس هذه الأحجار هو كونها آتية من عالم مجهول? فالحجر البركاني مقذوف ناري من باطن الأرض? وما صيغ حوله من أساطير قسمته طبقات ودرجات واحتسبته علماً لأرواح السالفين المقدسين? كذلك الحجر النيزكي? وربما كان أكثر جلالاً? لكونه يصل إلى الأرض وسط مظاهرة احتفالية سماوية تخلب لب البدوي المبهور (الحزب الهاشمي - د, سيد القمني ص 21 و22),
لكني أختلف مع الدكتور القمني في جزئية واحدة? وهي أن بعض هذه الأحجار السوداء إنما هي أحجار بركانية? فإنه من المرجح - إذا كانت هذه الاحجار بركانية - أن تنشأ عبادة لها طقوس أخرى? مثل حرق جثث الموتى? وتقديم ذبائح بشرية حية لهذه الآلهة - البراكين - لتسكين غضبها? كما كان يحدث في جنوب شرق آسيا واليابان? أو للتقرب إليها كما يحدث في الهند? ولانتشرت المجوسية أكثر من أي ديانة أخرى في شبه الجزيرة ولأحدثت البراكين حرائق يستحيل على البدوي أن يسيطر عليها - وهذا كله لم يحدث ولم يسجل لنا التاريخ أي شيء كهذا - ولكن عبادة تقديم القرابين البشرية الحية كانت متوقفة على عبدة الزهرة كما ذكرنا من قبل? وكانت ذبائحهم دائماً من الأطفال الصغار,
وفي رأيي أن هذه العبادة لم تكن منتشرة لا في الجزيرة? ولا في الشام ومصر? لبعد هذه البلاد عن المناطق البركانية? فلم تكن النار بالنسبة لهم سوى إلاهاً مستأنساً لا يخافون بطشه? وإن كان كثير منهم يعظمونه ويجلونه لفائدته لهم? وبالنسبة لما قاله الدكتور القمني? من أن هذه الأحجار السوداء? أحجار نيزكية? فهذا الرأي له شواهده في كتب التراث بل وفي القرآن? إذ يقول في سورة الجن 72:9 وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً , وفي كتب السيرة نجد الكثير عن تلك الشهب (أو النيازك) التي كانت تُرمى بها الشياطين (السيرة الحلبية - ج 2 ص 335 وما بعدها) وعلى هذا الأساس ترجع تسمية الكعبات? ببيوت الله - كما ذكر د, القمني - فهذه الأحجار تأتي لهم من عند إله السماوات? فجعلوا لها بيوتاً? وقدسوها? وعظموها وحجوا إليها? ظناً منهم بأنهم هكذا إنما يزورون الله في بيته ممثلاً في هذه الأحجار السوداء,
أما بيت مكة فقد كانت له تلك المكانة الخاصة لعدة عوامل? منها وقوع مكة في ملتقى القوافل? ووجود معظم معبودات العرب حولها? ووجود بئر زمزم - مع ما راج حوله من أساطير - جعلها أكثر استقراراً من غيرها من المناطق, بالاضافة إلى هذا فإن تلك المكانة - لمكة وقريش - لم تكن وليدة الصدفة بل لقد ترسخت عبر سنين عديدة بواسطة أشخاص عملوا على إعطاء مكة وقريش هذه المكانة الكبيرة? مثل: كعب بن لؤى? وقصي بن كلاب? وهاشم بن عبد مناف? وعبد المطلب بن هاشم (راجع قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية - لخليل عبد الكريم),
ومن العوامل الهامة أيضاً وجود الحُمس? فالعرب يرون للحُمس فضلاً ومكانة? حيث أنهم هم أهل الحرم والقائمون على أمر الدين, والحُمس هم: المتشددون في الدين? وكانوا إذا أحرموا لا يلبسون الوبر ولا الشعر? ولا يستظلون به ما داموا حُرماً? ولا يغزلون الوبر ولا الشعر ولا ينسجونه? ولا يأكلون شيئاً من نبات الحرم? وكانوا يعظمون الأشهر الحرام ولا يظلمون فيها أحداً وكانوا يطوفون في ملابسهم ولا يخلعونها? وإذا أرادوا شيئاً من بيوتهم وهم محرمون دخلوا من الأَبواب - عكس سائر العرب - وقد بقيت هذه النظرة للحُمس - وهم قريش ومن ولدت من قبائل وكذلك حلفاؤها في بعض الروايات - إلى ما بعد الإسلام? فيروي النيسابوري: أن الناس في الجاهلية وأول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج والعمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه? فإن كان من اهل المدن نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج? أو يتخذ سلماً فيصعد منه? وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل من الباب حتى يُحل من إرحامه ويرون ذلك ذماً إلا أن يكون من الحُمس - وهم: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخثعم وبنو عامر بن صعصعة وبنو النظر بن معاوية - سموا حُمساً لشدتهم في دينهم - فدخل رسول الله بيتاً لبعض الأنصار? فدخل رجل من الأنصار على أثره من الباب وهو محرم? فأنكروا عليه ذلك? فقال له رسول الله : لِمَ دخلت من الباب وأنت محرم? فقال: رأيتك دخلت من الباب فدخلت على أثرك , فقال رسول الله : إني أحمسي ? قال الرجل: إن كنت أحمسياً فإني أحمسي? ديننا واحد رضيت بهديك وسمتك ودينك? فأنزل الله وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها (أسباب النزول - النيسابوري - 2 40),
فالواضح إذن من النص السابق أن هذه المكانة لقريش ومكة والكعبة? كانت راسخة في العقل العربي - حتى النبي نفسه - إلى ما بعد الإسلام? مع ما كان لها من تأثير كبير في عدة أمور هامة? كالخلافة? والإمارة - كما سنرى لاحقاً - ولم تتوقف مكانة مكة وكعبتها عند هذا الحد? بل إن الأمر وصل بالعرب? ألا يضعوا مواثيقهم وعهودهم إلا داخلها لقدسيتها? ومكانتها عندهم,
لم يرد في كتب التاريخ الإسلامي ما يشبع نهم الباحث حول الصابئين? لكن القرآن أشار إليهم أكثر من ثلاث مرات (البقرة 2:62? المائدة 5:69? الحج 22:17), وقد ربط الإخباريون بين الصابئة المذكورين في القرآن وصابئة حران والعراق وجعلوهم طائفيتن: حنفاء ومشركون (المفصل 6:701), وقد أطلق القريشيون هذه اللفظة على المسلمين في أول الأمر? وذكرت كتب السيرة أن قريش دعت النبي صابئاً (المفصل 6:703), ولعل سبب هذه التسمية أن العرب تستخدم هذا اللفظ لوصف الخروج على مُثل المجتمع وتقاليده,
والصابئون على ما تذكر الكتب الإسلامية? هم عُباد الكواكب? وقد قسمهم الشهرستاني إلى قسمين: أصحاب الروحانيات? وأصحاب التجسد, أما أصحاب الروحانيات فيقولون: إن للعالم صانعاً? فاطراً? حكيماً? مقدساً عن سمات الحدوث, والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله, وإنما يُتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه? وهم الروحانيون المطهرون جوهراً? وفعلاً وحالة , ويقولون: إن الأنبياء أمثالنا في النوع? وأشكالنا في الصورة? يشاركوننا في المادة? يأكلون مما نأكل ويشربون مما نشرب? ويماثلوننا في الصورة? فمن أين لنا طاعتهم? وبأية مزية لهم علينا لزمت متابعتهم? (الملل والنحل - ج 2 ف أصحاب الروحانيات),
وقد كان لهم عدة هياكل أكبرها الشمس? ثم القمر? فالزهرة? وزحل? والمريخ? وعطارد? والمشتري? ولهم أيضاً هياكل أخرى مثل هيكل العلة الأولى? وهيكل العقل? وهيكل السياسة? وهيكل الصورة? وهيكل النفس (الملل والنحل - ج 1 ف أصحاب الهياكل), ولهذه الكواكب عندهم عبادات ودعوات خاصة يصورونها في الهياكل ويتخذون لها أصناماً تخصها ويقربون لها القرابين? وكانت لهم صلوات تقام في الليل والنهار تقترب في طقوسها من الصلاة الإسلامية? واختلفوا في عدد هذه الصلوات فهي ثلاثة عند الشهرستاني? وخمس عند البغدادي (الملل والنحل - 2:56 وما بعدها - فصل مزاعم الحِرنانية? بلوغ الأرب - 2:223 وما بعدها - الصابئة),
لعل الغريب في الأمر هو ما قرره بعض أهل التأريخ كالبغدادي - حسب رؤيته للقرآن - فيقول: وقداختلف الناس في الصابئين اختلافاً كبيراً بحسب ما وصل إليهم من معرفة عن دينهم? وهم ينقسمون إلى مؤمن وكافر إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِا للَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة المائدة 5:69), فذكرهم في الأمم الأربع الذين تنقسم كل أمة منهم إلى مؤمن وكافر, وذكرهم أيضاً في الأمم الستة الذين انقسمت جملتهم إلى ناجٍ وهالك كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (سورة الحج 22:17), فذكر الأمتين اللتين لا كتاب لهما ولا ينقسمون إلى شقي وسعيد - وهم المجوس والمشركون - في آية الفصل? ولم يذكرهم في آية الوعد بالجنة? لكنه ذكر الصابئين (بلوغ الأرب - فصل الصابئة),
فالبغدادي يقرر أن الصابئين منهم مؤمن ناج? وكافر هالك? ولعل هذا الموقف من عبدة الكواكب غريب بعض الشيء بالنسبة لشخص مثل البغدادي? ولكن إذا نظرنا إلى تشريعات الصابئة قد يتضح لنا الموقف أكثر,
سبق وقررنا انقسام الصابئة إلى طائفيتن وكان لكل طائفة منهم تشريعاتها الخاصة? فمنهم من كان يصوم شهر رمضان? ويستقبل الكعبة في الصلاة? ويعظم مكة? ويحجون البيت كل عام? ويحرمون الميتة والدم والخنزير? ويحرمون من ذوي القرابة في الزواج ما يراه الإسلام محرماً (بلوغ الأرب - فصل الصابئة), وكان الصابئون يصلون ثلاثة صلوات - إلا طائفة منهم كانت صلواتها خمسة كأوقات الصلاة الآن - ويغتسلون من الجنابة? ومن مس الميت? ويحرمون أكل الكلب وكل ما له مخلب من الطير? وينهون عن السكر في الشراب ويأمرون بالاختتان? والزواج بولي وشهود? ولا يُجيزون الطلاق إلا بحكم حاكم? ولا يجمعون بين امراتين ( الملل والنحل - ج 1 - فصل عبادات الصابئة وهياكلهم),
وكان من شرائعهم رجم الزاني المحصن? وقطع يد السارق اليمنى? والقصاص من القاتل,
لعل الموقف قد صار اكثر وضوحاً الآن فالإسلام لم يجد فروقاً جوهرية بين ما جاء به من شرائع وشعائر وما كان يفعله الصابئون? ولذا كان تقسيمهم إلى مؤمن وكافر? وكانت المرجعية في الإيمان أو الكفر هي: الإيمان بالله? والعمل الصالح? وما خلا ذلك فالله يفصل فيه بينهم? فالإسلام إذن لم يقرر هلاك جميع من سبقوه - حتى وإن ظلوا على اعتقادهم - ولكنه ترك الفصل في هذا - لأن الإيمان صلة شخصية بين الإنسان وربه لا يحكم فيها سوى الله,
اليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا? وأكثر من قاوم النبي? وهم من فُضّلوا على العالمين, توافدوا على شبه الجزيرة قبل الإسلام بعدة قرون? وبالتحديد عام 70 م? وذلك بعد تدمير القدس وخراب هيكل سليمان على يد تيطس? الذي قتل من اليهود حوالي المليون ونصف المليون (1) ثم عام 132م حينما حاولوا القيام بثورة ضد الرومان? فقُتل منهم من قُتل - على يد هدريان - وهرب للجزيرة من هرب (2) وذلك لبعدها عن سلطان الرومان (1 - قصة الديانات? سليمان مظهر ص 337 - 2 - المفصل 6:522),
ومع قدوم اليهود إلى شبه الجزيرة العربية بدأوا العمل الدؤوب لتثبيت أقدامهم في الأرض الجديدة عليهم? فكان أن قامت عدة حروب عنيفة بين المستوطنين, اليهود والعرب? وبعد فترة انتهى تطاحنهم وقبلوا العيش معاً? وسبب هذه المهادنة - كما يرى د, طه حسين - أن اليهود اعتمدوا على صلة قرابتهم البعيدة بالعرب? ليتمكنوا من العيش معهم (الشعر الجاهلي ص 26 و27), ومن ثم استوطن اليهود في يثرب - موطن بني النجار أخوال النبي - وعملوا بصناعة السيوف? وتجارة الحُلي? والكهانة? والبيع بالرهن والزراعة,
وقد استوطن جزء كبير منهم في خيبر? واليمن? وحنين? ونتيجة لوجودهم في وسط سكان الجزيرة? اعتنقت بعض القبائل الديانة اليهودية ودانت بها مثل: بني كنانة? وكندة? وبني الحرث بن كعب? وبعضاً من العرب المتفرقين في مكة واليمامة? وحمير وحُنين (بلوغ الأرب - ج 2 - فصل اليهود),
لم يتفق أصحاب الأخبار على الزمن الذي بدأ اليهود يتوافدون فيه على شبه الجزيرة بأعداد كبيرة? ولم يتفقوا أيضاً على كون اليهود العرب يهوداً? أم عرباً متهودين, وقد قدم الأستاذ خليل عبد الكريم دراسة جيدة حول هذا الموضوع في كتابه قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية فليراجعها من يريد المزيد,
كان لليهود في شبه الجزيرة العربية شرائعهم الخاصة? بعضها مستمد من التوراة, والبعض الآخر من آراء أحبارهم? وأشهر هذه الشرائع وأقدسها عندهم هي الوصايا العشر التي ذُكرت في التوراة وهي: لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لَا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً - لَا تَنْطِقْ بِا سْمِ الرَّبِّ إِل هِكَ بَاطِلاً,,, اِحْفَظْ يَوْمَ السَّبْتِ,,, أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ,,, لَا تَقْتُلْ? وَلَا تَزْنِ? وَلَا تَسْرِقْ? وَلَا تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ - لَا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ (تثنية 5:7-21),
بالاضافة إلى هذه الشرائع فقد كان لليهود مجموعة أخرى من الشرائع المأخوذة من التوراة مثل:
كَسْرٌ بِكَسْرٍ وَعَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. كَمَا أَحْدَثَ عَيْباً فِي الْإِنْسَانِ كَذ لِكَ يُحْدَثُ فِيهِ (لاويين 24:20),
حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِتُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا لِلصُّلْحِ? فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ? فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ. وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْباً? فَحَاصِرْهَا. وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِل هُكَ إِلَى يَدِكَ فَا ضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ? كُلُّ غَنِيمَتِهَا? فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ (تثنية 20:10-14),
إِذَا كَانَتْ فَتَاةٌ عَذْرَاءُ مَخْطُوبَةً لِرَجُلٍ? فَوَجَدَهَا رَجُلٌ فِي الْمَدِينَةِ وَاضْطَجَعَ مَعَهَا? فَأَخْرِجُوهُمَا كِلَيْهِمَا إِلَى بَابِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَارْجُمُوهُمَا بِا لْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَا (تثنية 22:23-24),
إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِل هُكَ لِتَمْتَلِكَهَا وَاقِعاً فِي الْحَقْلِ? لَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ? يَخْرُجُ شُيُوخُكَ وَقُضَاتُكَ وَيَقِيسُونَ إِلَى الْمُدُنِ الَّتِي حَوْلَ الْقَتِيلِ. فَالْمَدِينَةُ الْقُرْبَى مِنَ الْقَتِيلِ? يَأْخُذُ شُيُوخُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ عِجْلَةً مِنَ الْبَقَرِ لَمْ يُحْرَثْ عَلَيْهَا? لَمْ تَجُرَّ بِا لنِّيرِ. وَيَنْحَدِرُ شُيُوخُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِالْعِجْلَةِ إِلَى وَادٍ دَائِمِ السَّيَلَانِ لَمْ يُحْرَثْ فِيهِ وَلَمْ يُزْرَعْ? وَيَكْسِرُونَ عُنُقَ الْعِجْلَةِ فِي الْوَادِي. ثُمَّ يَتَقَدَّمُ الْكَهَنَةُ بَنُو لَاوِي - لِأَنَّهُ إِيَّاهُمُ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِيَخْدِمُوهُ وَيُبَارِكُوا بِاسْمِ الرَّبِّ? وَحَسَبَ قَوْلِهِمْ تَكُونُ كُلُّ خُصُومَةٍ وَكُلُّ ضَرْبَةٍ - وَيَغْسِلُ جَمِيعُ شُيُوخِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبِينَ مِنَ الْقَتِيلِ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْعِجْلَةِ الْمَكْسُورَةِ الْعُنُقُِ فِي الْوَادِي? وَيَقُولُونَ: أَيْدِينَا لَمْ تَسْفِكْ هذَا الدَّمَ? وَأَعْيُنُنَا لَمْ تُبْصِرْ (تثنية 21:1-7),
وَإِذَا أَغْوَاكَ سِرّاً أَخُوكَ ابْنُ أُمِّكَ? أَوِ ابْنُكَ أَوِ ابْنَتُكَ أَوِ امْرَأَةُ حِضْنِكَ? أَوْ صَاحِبُكَ الَّذِي مِثْلُ نَفْسِكَ قَائِلاً: نَذْهَبُ وَنَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى لَمْ تَعْرِفْهَا أَنْتَ وَلَا آبَاؤُكَ مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ حَوْلَكَ? الْقَرِيبِينَ مِنْكَ أَوِ الْبَعِيدِينَ عَنْكَ مِنْ أَقْصَاءِ الْأَرْضِ إِلَى أَقْصَائِهَا? فَلَا تَرْضَ مِنْهُ وَلَا تَسْمَعْ لَهُ وَلَا تُشْفِقْ عَيْنُكَ عَلَيْهِ وَلَا تَرِقَّ لَهُ وَلَا تَسْتُرْهُ? بَلْ قَتْلاً تَقْتُلُهُ (تثنية 13:6-9),
لَا يَكُنْ مَتَاعُ رَجُلٍ عَلَى امْرَأَةٍ? وَلَا يَلْبِسْ رَجُلٌ ثَوْبَ امْرَأَةٍ? لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ذ لِكَ مَكْرُوهٌ لَدَى الرَّبِّ إِل هِكَ (تثنية 22:5),
وَالْخِنْزِيرُ لِأَنَّهُ يَشُقُّ الظِّلْفَ ل كِنَّهُ لَا يَجْتَرُّ فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. فَمِنْ لَحْمِهَا لَا تَأْكُلُوا وَجُثَثَهَا لَا تَلْمِسُوا (تثنية 14:8),
وَه ذِهِ تَكْرَهُونَهَا مِنَ الطُّيُورِ. لَا تُؤْكَلْ. إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ: اَلنَّسْرُ وَالْأَنُوقُ وَالْعُقَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْبَاشِقُ عَلَى أَجْنَاسِهِ? وَكُلُّ غُرَابٍ عَلَى أَجْنَاسِهِ? وَالنَّعَامَةُ وَالظَّلِيمُ وَالسَّأَفُ وَالْبَازُ عَلَى أَجْنَاسِهِ,,, الخ (لاويين 11:13-20),
وَأَمَّا الدَّمُ فَلَا تَأْكُلْهُ. عَلَى الْأَرْضِ تَسْفِكُهُ كَا لْمَاءِ (تثنية 12:16),
وَقَالَ الرَّبُّ لِهَارُونَ: خَمْراً وَمُسْكِراً لَا تَشْرَبْ أَنْتَ وَبَنُوكَ مَعَكَ عِنْدَ دُخُولِكُمْ إِلَى خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ لِكَيْ لَا تَمُوتُوا (لاويين 10:8-9),
كما رأينا أن هناك كثيراً من التشريع اليهودي كان قائماً معروفاً ومعمولاً به وسط عرب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام كالقصاص? والقسامة? والجهاد? والرجم,,, ومنه ما وافق الإِسلام عليه جملة وتفصيلاً? ومنه ما وافق على بعضه وعدّل بعضه? بالرغم من ندرة المصادر العربية التي تتحدث عن اليهود الذين عاشوا في شبه الجزيرة قبل الإسلام بزمن طويل? إلا أن المصادر الإسلامية تقدم لنا صورة دقيقة لليهود الذين عاصروا النبي أو الذين كانوا قبله بفترة وجيزة? وذلك لاحتكاك اليهود المباشر - والحاد أحياناً - بالنبي ومحاورتهم له, وقد أورد القرآن الكريم جانباً من هذه المحاورات في أكثر من موضع,
وقد كان لوجود اليهود في أنحاء متفرقة من شبه الجزيرة العربية تأثيراً واضحاً في كثير من عادات الجاهليين وشرائعهم? خاصة وأنهم تواجدوا قبل الإسلام بعدة قرون - تبدأ في رأيي منذ عام 70 م بعد خراب القدس - ومما ساعد على انتشار شرائع اليهود أن العرب كانوا يرون لليهود عليهم فضلاً? لأنهم أهل كتاب أولاً? وثانياً لأن العرب لم تكن تقبل فكر هراطقة النصارى المنتشر بطول الجزيرة وعرضها بسهولة,
ولعل أهم المناطق التي كان لليهود بها نفوذاً وتأثيراً هي المدينة - يذكر جواد علي أن اليهود هم من أطلق على المدينة هذا الاسم وقد أخذوه من الآرامية (المفصل 6:566) وتروي كتب التفسير قصة تهود كثير من أبناء الأنصار? وإجلائهم من المدينة مع بني النضير واحتجاج الأنصار على هذا (راجع أسباب النزول للسيوطي - البقرة 2:256),
بالإضافة لما سبق فقد كان لدعوة اليهود للتوحيد المطلق أثرها في إعداد العقلية العربية لتقبل عقيدة وحدانية الله? ولعل هذا يفسر لنا أن سبب دخول الأنصار في الإسلام أفواجاً ولا دخل في إسلامهم - كما قرره بعض الباحثين - وجود بني النجار في المدينة وهم أخوال النبي? فقد كان أشد الناس عداوة للنبي هم أعمامه ولم تؤثر صلة القرابة بينهم في شيء, ولكن وجود اليهود وسط المدينة وانتشار أخبار النبي المنتظر بين العرب? كان الدافع لدى الأنصار في سرعة إسلامهم ليكونوا هم السابقون وليس اليهود? وقد كانوا من قبل يترفعون عن الأنصار لأنهم أهل وثن (قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية - خليل عبد الكريم), ونتيجة لكل ما سبق كانت المدينة هي البقعة المثلى لانطلاق الإسلام لكل الجزيرة العربية ومن ثم للعالم,
حسب ما قرأنا في الفصول السابقة كانت هناك أديان عديدة قد انتشرت في شبه الجزيرة العربية? ولعل المسيحية كانت أكثر هذه الأديان انتشاراً? وهذا لأنها ديانة مُبشرة وليست ديانة مغلقة كاليهودية, وبالرغم من عدم وجود تاريخ محدد لانتشار المسيحية في وسط العرب? إلا أن المرجح عندي أنها بدأت في الانتشار في أواخر القرن الأول الميلادي تقريباً? فلو نظرنا للإنجيل - كمرجع تاريخي - نجد أنه كان هناك عرب في مدينة أورشليم في يوم الخمسين (يوم العنصرة) سمعوا البشارة من بطرس تلميذ المسيح (أعمال الرسل 2:12) بل إن الأمر بلغ أن يكون حاكم دمشق ونائب قيصر عليها هو الحارث العربي (2 كورنثوس 11:32),
ولم يقتصر الأمر على هذا بل إن بعض الباحثين يرى أن تلاميذ المسيح أرسلوا بعضاً منهم لدعوة العرب إلى المسيحية? وهذا مثل ما قاله شيخو: من أن متى? برتلماوس? تداوس? وتوما? ومتيا قد ذهبوا إلى الجزيرة لحمل بشارة المسيح للعرب (النصرانية وآدبها - شيخو ص 23),
والرأي السابق وإن كان فيه شيء من المغالاة إلا أنه يعطي صورة ليست بعيدة عن الواقع فكتب التاريخ الإسلامي تذكر قصصاً لتنصر قبائل عربية بكاملها لسبب أو لآخر مثل ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية من قصة فيميون - لعله فيليمون - الذي عاش في نجران وتسبب في أن يتبعه أهل نجران على دين النصرانية (البداية والنهاية 2:168), ومثل قصة أصحاب الأخدود التي لا يخلو منها أي تفسير للقرآن (راجع تفاسير القرطبي? وابن كثير? والرازي? في تفسير سورة البروج),
ويذكر الدكتور جواد علي ما كان بشأن إحدى البدع عند نصارى العرب وأنه أقيم مجمع سنة 246 م سُمي مجمع العربية لمقاومة هذه البدعة (المفصل 6:634: ?Religious Encyclopaedia, vol, I,p.122.A
وهذا الحادث يوضح ما كان عليه العرب النصارى من شأن فلو لم يكن عددهم كبيراً وله تأثير لما أقيم مجمع خاص بهم? ولعل ما يوضح الصورة أكثر هو عدد القبائل العربية التي دخلت في المسيحية سواء في شمال أم في جنوب الجزيرة,
القبائل المسيحية في شبه الجزيرة:
- بكر وتغلب بنو وائل بن ربيعة:
وهما من أقوى القبائل العربية? وقد بلغ من قوتها أن قال عمرو الشيباني فيها: لو تأخر الإسلام لأكلت بنو تغلب الناس (شرح معلقة عمرو بن كلثوم للتبريزي - النصارنية لشيخو 125), وقد قال عمرو بن كلثوم متفاخراً بشرف قبيلته:
ظعائن من بني جُشم بن بكر
جمعن بميسم شرفاً وديناً
والدين المقصود هنا هو المسيحية حيث كانت هي ديانة بني تغلب, وتذكر كتب السيرة تحول بني تغلب إلى المسيحية (المفصل 6:590)? وقد اتفق معظم الباحثين على اعتناقهم المسيحية مثل ما قاله البغدادي: وكان بنو تغلب أيضاً من نصارى العرب وكانت لهم شوكة وقوة يد ,
وهم عرب سوريا الذين هاجروا من اليمن? وقد ارتبطوا بالأمبراطورية الرومانية منذ القرن الرابع? ومن ثم أخذوا دورهم كدولة حاجزة ضد هجمات القبائل العربية وأيضاً ضد الفرس, وكان بنو جفنة هم أشهر الغساسنة? وهم أيضاً ملوكهم? وفيهم يقول النابغة:
(في بعض الروايات محلتهم - والمقصود هنا بالمجلة الإنجيل - المفصل 6:678),
ويذكر شيخو أن ملوك غسان ابتنوا عدة أديرة منها: دير هند? ودير حالي? ودير أيوب (النصرانية وآدابها ص 31),
وكما كان للروم عملاء على حدودهم فكذلك كان للفرس فكان اللخميون المستقرون في عاصمتهم الحيرة وما حولها يقومون بدورهم في تأمين حدود فارس مع العرب, وقد نقل ياقوت في معجم البلدان نص كتابة وُجدت في دير بالحيرة نصها: بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمر? الملكة سليلة الملوك? وأم الملك عمرو بن المنذر? أمة المسيح وأم عبده وبنت عبيده (معجم البلدان 2:609 - النصرانية ص 91),
4 - مكة:
كان للمسيحيين في مكة شأن مختلف فقد كان معظمهم من الأحابيش الذين جُلبوا للعمل والخدمة عند أسياد مكة? ويقول جواد علي: وقد ترك هؤلاء الأحابيش أثراً في لغة أهل مكة يظهر في وجود عدد من الكلمات الحبشية في لغة قريش? مثل المصطلحات الدينية والأدوات التي يُحتاج إليها في الصناعات وفي الأعمال اليدوية التي يقوم بأدائها العبيد, وقد أشار العلماء إلى عدد من هذه الكلمات التي ذكروا أنها تعربت فصارت من الكلام العربي, وقد أشاروا إلى وجود بعضها في القرآن الكريم والحديث النبوي (المفصل 6:606),
وقد أورد السيوطي في كتابه الاتقان في علوم القرآن فصلاً خاصاً لهذه الكلمات (الاتقان ج 1 ص 366 وما بعدها), والملاحظ أيضاً على نصارى مكة غير العرب - قبل الإسلام - أنهم لم يكونوا ينتمون فقط إلى الحبشة? بل كان بعضهم رومي? أو يوناني? مما جعل العرب ينظرون لهم نظرة أخرى, فقد كانت تلك الجماعة من العبيد أكثر فهماً - في أمور شتى - من أربابها? فكانت توكل لهم الأعمال التي تحتاج إلى وعي وإدراك, وتذكر لنا كتب التاريخ الإسلامي كثيراً من هؤلاء الأغراب مثل: صهيب الرومي الذي عمل مع عبد الله بن جُدعان - ثري مكة - حتى أصبح تاجراً ثرياً? ولعل قصة فراره إلى المدينة? ومطاردة قريش له? وقبولهم منه افتداءه نفسه بماله الذي أخفاه بمكة? توضح لنا ما بلغه من ثراء (البداية والنهاية - ابن كثير - ج 3 ص 173),
وهناك العديد من الأسماء التي يذكرها المفسرون? فقد أورد القرطبي في تفسير آية سورة النحل 16:103 أن قريش قالت: والله ما يعلم محمداً إلا جبر النصراني ,
وقال عكرمة: اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي? وكان يقرأ الكتب , ويورد القرطبي? والسيوطي عدة أسماء لهذا العبد فقيل: بلعام? ويسار? وعداس? وأبو فُكيهة? وعابس ثم يقول القرطبي: والكل محتمل? فإن النبي ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله? وكان ذلك بمكة , وقال النحاس: هذه الأقوال ليست بمتناقضة? لأنه يجوز أن يكونوا أوْمَؤُا إلى هؤلاء جميعاً? وزعموا أنهم يعلمونه (تفسير القرطبي ج 10 ص 117 - أسباب النزول للسيوطي - سبب نزول النحل 16:103),
وقد بلغ تأثر أهل مكة بالمسيحيين أن جعلوا في دعائم الكعبة صور الأنبياء وصور الشجر وصور الملائكة, فكان فيها صورة إبراهيم خليل الله شيخ يستقسم بالأزلام? وصورة عيسى ابن مريم وأمه? وصور الملائكة عليهم السلام أجمعين, فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول الله فأرسل الفضل بن العباس فجاء بماء زمزم وأمر بثوب مبلل بالماء? وأمر بطمس تلك الصور فطمست,,, ووضع كفيه على صورة عيسى بن مريم وأمه? وقال: امحوا كل شيء إلا ما تحت يدي , فرفع يديه عن صورة عيسى بن مريم وأمه, ونظر إلى صورة إبراهيم فقال: قاتلهم الله! جعلوه يستقسم بالأزلام, ما لإبراهيم والأزلام (المفصل 6:436),
نتيجة لانتشار المسيحية في الجزيرة? ومحاولة المسيحيين الدعوة لدينهم بشتى الطرق? نشأ نوع من الأدب الديني? الذي يدور حول الكتاب المقدس والدعوة إلى المسيحية? وأهم ما يميز هذا الأدب اختلافه عن الأدب القبطي? حيث كان مسيحيو الجزيرة ينتمون إلى طوائف مختلفة يعتبرهم الأقباط هراطقة مثل:
وهم ينسبون إلى نسطورس الذي انتُخب بطريركاً للقسطنطينية عام 428م وطُرد في مجمع أفسس 431 م (المنجد في الأعلام باب النون), وكان نسطورس يقول: إن للمسيح طبيعتين أحدهما قبل التجسد? والأخرى بعده? وقد ربط بينهما اتحاد معنوي بسيط, ونتيجة لهذه الأقوال تم طرد نسطورس وأتباعه من الكنيسة في مجمع أفسس عام 431 م, ويقول د, قنواتي: بعد مجمع أفسس انفصل النساطرة عن الكنيسة وتقربوا من الكنيسة السورية في إيران والتي اعتمدت النسطورية رسمياً في سنودس سلوكية ?Seleucie عام 485 م, وفي عام 489 م طرد الأمبراطور زينون النساطرة من الرها? فهاجروا إلى فارس, ومنذ ذلك الحين انفصلت الكنيسة النسطورية عن الكنيسة البيزنطية التي كانمقرها الأساسي في القسطنطينية (المسيحية والحضارة العربية - جورج قنواتي - دار الثقافة - ص 42),
وهي تُنسب إلى أريوس الذي كان كاهناً مصرياً في القرن الرابع الميلادي? وكان ينادي ببدعة في معتقد الكنيسة المصرية? وكان أريوس قد تعلم على يد الأسقف لوسيان في أنطاكية? الذي كان عالماً لاهوتياً? ومفسراً مشهوراً, وكان لوسيان يُعلّم إن الإله الواحد لا يمكن أن يظهر بالجسد على الأرض? ولا يمكن أن يكون الله شخصاً في المسيح? إنما الله ملأ المسيح بكلمته ?Logos أو بقوته? والكلمة صار أقنوماً في المسيح? والكلمة جوهر ثان من ذات الله خلقه قبل كل الدهور? والكلمة نزل إلى الأرض وصار جسداً (ضحى المسيحية - مكتبة المشعل - بيروت 57 - ص 16),
ونتيجة لتتلمذ أريوس على يد لوسيان? اعتنق الأول هذه التعاليم ونادى بها بعد أن صار كاهناً, وكانت تعاليم أريوس تتلخص - كما يبدو من رسائله - في خمس نقاط هي:
1 - كان زمن لم يكن فيه للابن وجود? أو قبل أن يُولد لم يكن,
2 - خُلق من جوهر لم يكن موجوداً من قبل? أو صنع من مادة لا وجود لها (أي أنه حُلق من العدم),
3 - خُلق من جوهر يتميز عن جوهر الله (أي مخالف لجوهر الله),
4 - ولأنه خُلق ولم يُولد? فإنه يشارك المخلوق في صفاته,
5 - ولأنه مخلوق لا مولود? فإنه قابل للتغير والاستحالة (المرجع السابق ص 18),
وقد طرد أريوس وأتباعه من الكنيسة في مجمع نيقية عام 325 م? وبقيت الأريوسية حتى القرن السابع الميلادي? وكان أكثر انتشاراً لها بين القوط واللومبارد (المنجد في الأعلام - باب الألف),
الغنوصية: "Gnostic?
ليس من المعروف على وجه اليقين أين نشأت الغنوصية في أول الأمر ولا من هم مبتدعوها? وهي تتميز بخليط من فكر فارس? ومصر وأفلاطون (تاريخ الكنيسة - لوريمر - دار الثقافة - ج 1 ص 103), وتعتمد الغنوصية بالدرجة الأولى على المثنوية القائلة: إن مُبدع هذا العالم الغارق في الشرور? لا بد وأن يكون هو نفسه شريراً, وأن السبيل الوحيد للخلاص من شرور التواجد الجسدي وعالم المادة هو المعرفة الباطنية , وكان النهي عن الأكل من شجرة المعرفة تكوين 2) برهاناً جلياً على أن إله العهد القديم - وهو الإله الخالق الأدنى في الرتبة من الكائن الأسمى - هو عدو البشرية الذي سعى بنهيه هذا إلى منع الإنسان من الوصول إلى غاية الصلاح, وقد أظهر خبثه ثانية بعد تذوق الإنسان ثمرة المعرفة بأن سد الطريق المؤدي إلى شجرة الحياة, وعلى نقيض ذلك كانت الحية - التي هي أحيل الحيوانات (تكوين 3:1) صديقاً للإنسان حيث أنها أعلنت لحواء حسد وكذب الخالق والتأثير الصحيح للثمرة المحرمة ( ? "History Of Religions Moore 156( أما أهم تعاليم الغنوصية فهي أنها كانت تُعلِّم بوجود نوعين من الألوهية:
- النوع الأول: وهو الإله السامي? أو العظيم? وهذا الإله يرأس سلسلة كثيرة الحلقات من الآلهة المتميزين الواحد عن الآخر في الدرجة والسلطان قد انبثعوا سواء من هذا الإله الأعظم أو خرجوا الواحد من الآخر ,وهذه الكائنات سواء كانت منفردة منعزلة أو كانت أزواجاً فإنها كوّنت معاً ما يسمى المجموعة الإلهية, وقد حدث خلل في هذه المجموعة نتيجة لسقوط أحدها? ولكن هذا الكائن الإلهي الذي سقط سيرد إلى رتبته وطهارته عندما تتم عملية الفداء,
- والنوع الثاني: وهو يشبه النوع الأول من حيث النظام والتكوين? ولكنه يختلف من حيث النوع لأن الذي يرأس هذه المجموعة إله شرير? الإله الذي خلق المادة? نصف الإله وقد ساعد الإله? وتعاون معه الآلهة الأشرار والمخربون, والصراع بين إله الشر وأعوانه? وإله الخير وأعوانه مستمر (تاريخ الفكر المسيحي - حنا الخضري - دار الثقافة - ص 476),
الأبيويون ? Ebionites? وهم جماعة من اليهود المتنصرين عُرفوا بهذا الاسم الذي يعني بالعبرانية الفقراء ومن غير المعروف على وجه اليقين كيفية نشأتهم? أما عقيدتهم فهي مزيج من اليهودية والمسيحية? فقد كانوا يعتقدون بوجود إله واحد خالق الكون? ويعظمون السبت? ويرفضون رأي بولس في المسيح? ويقولون أن المسيح إنسان امتاز عن غيره بالنبوة? وإنه أي المسيح رسول الله أرسله للناس أجمعين? وأنكروا الصلب وذهبوا إلى أن الذي صُلب شخص آخر غير المسيح? وقد شُبه على من صلبه? فاعتقد أنه المسيح (المفصل 6:635),
وقد كانوا في الأصل يعبدون كوكب الزهرة ويسمونها ملكة السماء? وكانوا يقولون إن الشمس تزوجت القمر فأنجبا الزهرة? وقد بالغ أصحاب هذا الرأي في عبادة مريم العذراء وتأليهها? وكانوا يقدمون لها نوعاً من القرابين عبارة عن أقراص العجين والفطائر? فعرفوا بالفطائريين ? "lyridiens? وكانوا ينادون بثالوث مكون من الله والمسيح ومريم,
وقد ذكرهم ابن تيمية في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ولكنه أسماهم بالمريمانين? أو المريمانية, وقد انتشر هؤلاء في أنحاء مختلفة من الجزيرة العربية? ولكنهم لم يكونوا كغيرهم من المسيحيين بل كانوا أقل عدداً وانتشاراً (النصرانية 1:113 - المفصل 6:637),
كانت هذه الجماعات المسيحية الموجودة في الجزيرة العربية قبل الإسلام? بعضها بقرون عديدة والآخر بفترة قصيرة? وقد حارب النبي هذه الجماعات وشدد في محاربتهم وقد قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب (الطبقات - ابن سعد -2:242)? وقد نزلت كثير من الآيات المدنية التي تحرض المؤمنين على القتال وتأمر بقتال المشركين أينما وُجدوا ففي سورة التوبة 9:29 قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِا للَّهِ وَلاَ بِا لْيَوْمِ الْآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ , ونتيجة لمحاربة الإسلام لفكر هولاء نجد أنه لم يصل إلينا معظم ما كتبوه? إما لفقده أو لتحريم روايته? ولكن يمكننا أن نجد بعض الإشارات في أشعار الجاهليين - سواء كانوا من أتباع هذه الديانات أو من المتأثرين بها - ما يعطينا فكرة عما كان يدعو له هؤلاء? وسوف نتناول الآن بعض من نرى تأثرهم بما أطلقنا عليه الأدب الكتابي وبعض هؤلاء ثبت - لدينا - تهودهم أو تنصرهم والبعض الآخر هناك شك في تبعيتهم لأي دين كتابي بل كانوا يؤمنون بعقائد هي في الواقع خليط من عدة ديانات وهم من يُطلق عليهم الحنفاء أو المحودون,
هو أمية بن أبي الصلت? عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف الثقفي (البداية والنهاية 2:220 - دار الفكر), توفي سنة 630 م - 8 أو 9 ه - والأرجح أنه لم يسلم قبل موته, ويمتلئ شعره بذكر الجنة والنار? واليوم الآخر? والبعث والحساب? والكثير من الأمور الدينية? وكثير من الشعر المنسوب إليه منحول تتضح فيه الصنعة والتكلف? مثل قصيدته التي يَرثي فيها النبي ويدعو فيها لطاعته فيقول فيها:
أطيعوا الرسول عباد الإله-- تنجون من شر يوم ألم
تنجون من ظلمات العذاب -- ومن حرّ نار على من ظلم
فهذه القصيدة - أوردها شولتس في ديوان أمية تحت رقم 23 - واضحة الانتحال وأنها نُسبت إلى أمية بعد موته بمدة? فالمعروف أن أمية مات قبل موت النبي? ولم يمت مسلماً بل قال قبل موته: قد دنا أجلي وهذه مرضة منيتي? وأنا أعلم أن الحنيفية حق ولكن الشك يداخلني في محمد (شعراء النصرانية - 225), فهل يمكن لصاحب هذا الرأي أن يقول مثل ذلك الشعر? وهناك أشعار أخرى تُنسب لأمية لا يحتاج القارئ للحكم عليها لاكثر من قرائتها بتمعن? مثل قوله في قصة موسى:
وأنت الذي من فضل ومن رحمة
بعثت إلى موسى رسولاً منادياً
فقلت له يا اذهب وهارون فادعوا
إلى الله فرعون الذي كان طاغياً
وقولا له أأنت سويت هذه
بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له أأنت رفعت هذه
بلا عمد ارفق إذا بك بانيا
فهذا الشعر نموذج للأشعار المنتحلة وليس بنا حاجة إلى رد القارئ إلى آيات القرآن التي صيغ منها هذا الشعر? وبالرغم من الشك الذي يحيط بأصالة شعر أمية إلّا أن هناك بعض الأشعار التي ترجح نسبتها له - أو أتفق معظم رواة الشعر عليها - وهناك أيضاً بعض الأخبار المتفرقة التي رواها المُحدثون في أحاديث لم يطعن أحد في صحتها مثل ما ورد في صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله يوماً فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء? قلت: نعم? قال : هيه فأنشدته بيتاً فقال: هيه ثم أنشدته بيتاً فقال: هيه حتى أنشدته مائة بيت - زاد بعضهم قول النبي: كاد ليُسلم - (صحصح مسلم - شرح النووي - دار الشعب - ج 5 ص 110)? وعن ابن عباس أن النبي أُنشد قول أمية:
رجل وثور تحت رجل يمينه
والنسر للأخرى وليث مرصد
فقل: صدق وهذه صفة حملة العرش (لبلوغ الأرب - البغدادي - دار الكتب العلمية بيروت - ج 2 ص 253),
وهو قس بن ساعدة بن عمرو الأيادي? أسقف نجران? خطيب العرب وحكيمها? عُرف عنه الفصاحة حتى قيل أفصح من قس ? كان مؤمناً - لنصرانيته - بالبعث والحساب? واليوم الآخر? وأغلب شعره مفقود ولكن هناك خطبته المشهورة التي قالها بسوق عكاظ فيما يرويه المسعودي? قال: قدم وفد من إياد على النبي فسألهم عن قُس بن ساعدة, قالوا: هلك , فقال: رحمه الله كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أحمر? وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا? من عاش مات? ومن مات فات? وكل ما هو آت آت? أما بعد فإن في السماء لخبراً وإن في الأرض لعبراً? نجوم تُمور? وبحار تغور? وسقف مرفوع? ومهاد موضوع? وأقسم قُس قَسماً لا حانثاً فيه ولا آثماً إن - لدِينا هو أرضى من دين أنتم عليه, مالي أراهم يذهبون ولا يرجعون? أرضوا بالمقام فأقاموا أم تَُركوا فناموا? سبيل مؤتلف? وعمل مختلف, وقال أبياتاً لا أحفظها فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: أنا أحفظها يا رسول الله فقال: هاتها فقال:
في الذاهبين الأولين -- من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يسعى الأصاغر والاكابر
لا يرجع الماضي إليّ ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر
فقال النبي: رحم الله قُساً إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده (مروج الذهب - المسعودي -المكتبة الإسلامية - بيروت - ج 1 ص 69? 70),
وهو ابن عم خديجة زوج النبي وكان قد تنصر وقرأ كتب اليهود والنصارى وتعلم علمهم? وهو الذي أخبر السيدة خديجة بنبوة الرسول وفي ذلك يقول:
ووصف من خديجة بعد وصف -- فقد كال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي -- حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قُس مِنْ -- الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمداً سيسود يوماً -- ويخصم من يكون له حجيجا
ومات ورقة بعد البعثة النبوية وقد سمع زيد بن عمرو بن نفيل يتحدث عن النبي القادم فقال: أنا أستمر على نصرانيتي إلى أن يأتي هذا النبي , وقد اختلف الإخباريون في ما إذا كان ورقة قد أسلم قبل موته أم لا (البداية والنهاية - بلوغ الأرب - ترجمة ورقة بن نوفل),
تذكر كتب التاريخ الإسلامي أنه تهود ثم تنصر ثم صار من الحنفاء - لذلك سنورده في الفصل القادم بتفصيل أكبر - وكان زيد لا يذبح للأوثان? ولا يأكل الميتة والدم? ويحيي الموؤودة ولايشرب الخمر وتغلب على شعره النزعة الدينية? ويقول في شعره معلناً كفره بالأوثان:
أرباً واحداً أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعاً
كذلك يفعل الجلد الصبور
(البداية والنهاية - بلوغ الأرب - ترجمة زيد بن عمرو)
من شعراء البلاط في الجاهلية? وله قصيدة نظمها في معاتبة النعمان على حبسه يقول في بيت منها:
سعى الأعداء لا يألون شراً
عليك ورب مكة والصليب
ولعله يبدو غريباً أن يقسم شاعر مسيحي بالكعبة قبل الإسلام وهي مجمع الأوثان والأصنام, ولكن ما أوردناه سالفاً من تحول بعض أحياء مكة للمسيحية? ووجود صور مسيحية داخل الكعبة? قد جعل المسيحيين يقدسونها ويعظمونها,
ولعدي أيضاً أبيات يذكر فيها بدء الخليقة كما وردت في سفر التكوين يقول فيها:
اِسمع حديثاً لكي يوماً تجاوبه -- عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا
أن كيف أبدى إله الخلق -- نعمته فينا وعرفنا آياته الأولاد
كانت رياحاً وماءً ذا عراثية -- وظلمة لم يدع فتقاً ولا خللا
فأمر الظلمة السوداء فانكشفت -- وعزل الماء عما كان قد شغلا
وبسط الأرض بسطا ثم قدرها -- تحت السماء سواءً مثل مع فعلا
(جواد علي - المفصل - ج 6 ص 668)
هذا ما كان بشأن تواجد المسيحية في شبه الجزيرة قبل الإسلام? وبالرغم من أن المسيحية لا تحتوي على تشريعات محددة? إلا أنها تحوي الكثير من التعليم التي كان يتخذها معتنقو المسيحية نبراساً لهم, وفي رأيي أن كثيراً من هذه التعاليم قد رسخت في الموروث الأخلاقي والتشريعي في الجزيرة قبل الإسلام? والذي كان بمثابة إعداد للعرب لتلقي التعاليم الدينية, هذا بالإضافة إلى القصص المسيحي - خاصة في المواضيع التي لم يتعرض لها القرآن ولا الحديث النبوي - وهذا القصص لا يكان يخلو منه كتاب سيرة أو تفسير? وهذا القصص بعضه من الكتاب المقدس والبعض الآخر من خرافات وهرطقات مسيحيّي الجزيرة? ولعل أكثر من تأثر بهذا الأدب وتلك القصص هم جماعة المحودين والحنفاء الذين سأتكلم عنهم بالتفصيل في الفصل القادم,
الموحدون والحنفاء ومدّعو النبوة قبل الإسلام
(الشعر ديوان العرب)
هذه المقولة هي أصدق ما قيل عن عرب ما قبل الإسلام, والقراءة المتأنية للشعر الجاهلي تكشف لنا النقاب عن الموروث التشريعي والعقائدي لعرب الجزيرة قبل بعث النبي,
فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَاِد فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ (سورة هود 11:116),
هذا قول القرآن الكريم وهو يدفعنا لمعرفة (أولو البقية الذين ينهون عن الفساد), ولمعرفة هؤلاء لا بد لنا من القراءة المتمهلة للشعر الجاهلي? وخاصة الديني منه ولعل ما بقي لنا من آثار الشعراء الموحدين قبل الإسلام كافٍ للوقوف على هذا الكم الهائل من الشعر الذي كتب قبل بعث النبي, ونحن قد لا نذهب إلى ما ذهب إليه الدكتور طه حسين في موقفه من الشعر الجاهلي بوجه عام والديني منه بشكل خاص? فالتراث العربي لم يترك لنا شيئاً نرجع له عن عرب ما قبل الإسلام سوى أشعارهم وما كتبه عنهم بعض المؤرخين كهيرودتس وغيره? لذلك سنحاول إعادة قراءة الشعر الجاهلي, وبالرغم من أننا لا نركن إلى القول بصحة كل ما هو مكتوب من الشعر الديني قبل الإسلام فإننا أيضاً لا نوافق على المذهب القائل بانتحاله كله: لذلك سوف لا نعتمد كل المصادر أو نتجاهلها? بل سنحاول الاعتماد على أوثقها مع التأكد من توثيقه عند أهل التاريخ لأنهم المعنيون ببحثنا هذا,
لم يحظ التاريخ العربي كله بجماعة من الغامضين مثل ما كان من شأن الحنفاء فالأشعار المنسوبة لهم لا يمكننا الجزم بصحة نسبتها إليهم بل لا يمكننا - في وجود هذا الكم من الشعر - إلا الارتياب في هذا الشعر, هذا بالإضافة إلى تضارب الأخبار في شأن كينونة بعض هؤلاء النفر من العرب? فلم يتفق رواة التاريخ في أمر من أمور المحودين أو الحنفاء العرب? فتارة يضعون ورقة بن نوفل? وقُس بن ساعدة? وأمية بن أبي الصلت? وزيد بن عمرو في عداد الحنفاء الذين هجروا أصنام العرب واتبعوا دين إبراهيم? وتارة يذكرون أنهم ممن تنصر من العرب, ولذلك فنحن لا نعرف على وجه الدقة - طبقاً لما لدينا من مصادر - إذا كان أمية وزيد وقُس وورقة من المحودين أم الحنفاء أم النصارى, ولعل هذا هو سبب ذكرنا لهم باقتضاب بين نصارى العرب قبل الإسلام? وبتفصيل في هذا لفصل لأننا لا نرى أنهم كانوا نصارى? بل الأرجح لدينا أنهم تأثروا بنصارى ويهود الجزيرة وإن لم يقتنعوا بديانتهم, وعلى كل الأحوال سوف نتناول لاحقاً أشهر من عُرف منهم فيما قبل الإسلام,
زيد بن عمرو بن نفيل:
كان زيد ممن تحنف قبل بعث النبي وكانت له آراؤه في عبادة الأصنام والذبح لها وفي كثير من أفعال العرب? ومما يُروى عنه أنه كان لا يذبح للأنصاب? ولا يأكل الميتة والدم ويحيي الموؤودة ويحرم الخمر والخنزير (بلوغ الأرب للبغدادي ج 2 ف, زيد بن عمرو),
وقد روى ابن دريد: أن زيداً أدرك أيام الرسول? ثم قال: وكان النبي قبل الوحي قد حبب إليه الانفراد? فكان يخلو في شعاب مكة? قال: فرأيت زيد بن عمرو في بعض المشاعب? وكان قد تفرد أيضاً? فجلست إليه وقربت إليه طعاماً فيه لحم? فقال: يا ابن أخي إني لا آكل من هذه الذبائح (المفصل 6:473), وكان زيد يعيب على قريش ذبائحهم? ويقول: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذُكر اسم الله عليه (التفصيل 6:474), وقد أورد أهل الأخبار شعراً كثيراً لزيد ومعظمه - إن لم يكن كله - شعر ديني حتى كان قابي قوس أو أدنى من الشعر الإسلامي, وسبب عدم قبولنا لأغلب الشعر المنسوب لزيد هو نص هذا الشعر ذاته الذي يصرخ بانتحاله, وأفضل ما نفعله في هذا المقام هوإيراد بعض من هذا الشعر المنسوب لزيد لكي نرى روحه الإسلامية:
فتقوى الله ربكم احفظوها -- متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرار دارهم الجنان -- وللكفار حامية سعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا -- يلاقوا ما تضيق به الصدور
(السيرة النبوية - لابن هشام - ف, ذكر زيد بن عمرو),
سبق وقلنا: إن قس كان خطيب العرب وحكيمهم - في وقته - وعُد من الأوائل في أمور كثيرة? فهو أول من قال أما بعد? وهو أول من آمن بالبعث والحساب من أهل الجاهلية? وأول من كتب إلى فلان بن فلان? وأول من قال البينة على المدعي واليمين على من أنكر (بلوع الأرب 2:246 - السيرة الحلبية 1:318), ولقس أشعار كثيرة تتمحور كلها حول البعث والحساب واليوم الآخر كقوله:
يا ناعي الموت والملحود في جَدَتٍ -- عليهم من بقايا ثوبهم خِرقُ
دُعهم فإن لهم يوماً يُصاح بهم -- فهم إذا انبهوا من نومهم أَرِقوا
حتى يعودوا بحال عير حالهمُ -- خَلقاً جديداً كما من قبله خُلِقوا
منهم عراة ومنهم في ثيابهمُ -- منها الجديد ومنها المُنهَجُ الخَلَقُ
(السيرة النبوية - ابن كثير - 1:151),
ويذكر ابن كثير أن قُس هو أول رجل تأله من العرب ووحد? وأقرّ وتعبّد? وأيقن بالبعث والحساب? حذّر سوء المآب? وذكر النشور وندب بالأشعار? وفكر في الأقدار? وأنبأ عن السماء والنماء? وذكر النجوم وكشف الماء? ووصف البحار? وعرف الآثار وخطب راكباً? ووعظ دائباً? وحذّر من الكرب ومن شدة الغضب? ورسّل الرسائل? وذطر كل هائل? وأرغم في خطبه? وبيّن في كتبه? وخوّف الدهر? وحذّر الأزر? وعظّم الأمر? وجنّب الكفر? وشوّق إلى الحنيفية? ودعا إلى اللاهوتية (السيرة النبوية - ابن كثير - 1:146), وهذا الذي ذكره ابن كثير يوضح مدى أهمية دعوة قُس? إذا ما وُضع في الحسبان الخبر الذي ذكرناه قبلاً حول سؤال النبي عن خطبة قُس في سوق عُكاظ, فقُس شأنه شأن أغلب الحنفاء? لم يكتفي بمجرد اقتناعه بفكر ما? بل كان يدعو له بلا كلل مستغلاً في ذلك أهم ملتقى عربي وهو سوق عكاظ , وهو من القليلين الذين لم تُهاجم دعوتهم بعد الإسلام? بل قال عنه النبي: رحم الله قُساً? إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده (مروج الذهب - المسعودي - المكتبة الإسلامية - بيروت - د 1 ص 70), وهو أيضاً من القليلين الذين لا نجد عنهم ما يثير الغموض حول دعوتهم قبل الإسلام? حيث أننا نجد صعوبة تصديق كل ما كُتب عنه أو إنكاره? ولا نجد إلا تساؤلات كثيرة تحيط به وبدعوته,
على العكس من معظم الحنفاء قبل الإسلام نجد أمية يتمتع بصيت واسع دونهم? فما ذُكر عنه في كتب التاريخ أشياء أكثر من أن يحويها هذا الكتاب? وهذه الكثرة هي أول الدوافع عندنا للشك في أغلب هذه الأخبار? وعندي أن أغلب هذه الأخبار منحولة على أمية وبالتحديد في فترة الحجاج بن يوسف الثقفي? فالحجاج وأمية كلاهما ثقفي? وهذا في حد ذاته كاف لدفع أصحاب المنافع المادية إلى انتحال أخبار كثيرة عن أمية للرفع من شأن ثقيف? مثل ما يروى حول معرفة أمية للغة الطيور والحيوانات (السيرة النبوية - ابن كثير - 1:136), ومن ذلك قوله:
إله العالمين وكل أرض -- ورب الراسيات من الجبال
بناها وابتنى سبعاً شداداً -- بلا عمد يرين ولا رجال
وسواها وزينها بنور -- من الشمس المضيئة والهلال
ومن شهب تلألأ في دجاها -- مراميها أشد من النضال
(شعراء النصرانية - ص 226),
ورغم البصمة الإسلامية الواضحة في أغلب شِعر أمية إلا أن هناك من أشعارهما تتضح فيه الروح العربية? حيث يستخدم فيه ألفاظ لم تكن تستخدم إلا في شعره مثل قوله:
ملائكة لا يفترون عبادة -- كروبية منهم ركوع وسجد
فساجدهم لا يرفع الدهر -- رأسه يعظم رباً فوق ويمدَّد
وراكعهم يحنو له الدهر خاش -- عاً يردد آلاء الإله ويحمد
ومنهم مُلفٍّ في الجناحين رأسه -- يكاد لذكرى ربه يتفصّد
(شعراء النصراتية - ص 227)
هذا الوصف للملائكة غير مستخدم في الشعر المكتوب بعد الإسلام? حيث أنه وصف يعتمد بشكل أساسي على ما جاء في التوراة حول الكروبيم - الملائكة - وهو ما لا نجده في شعر ما بعد الإسلام, ومما يذكر عن أمية أنه كان يرى في نفسه نبي العرب القادم حيث يقول: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا فكنت أظن أنني هو? وكنت أتحدث بذلك (السيرة الحلبية - 1:301), ورغم أن معظم شعر أمية ديني الصبغة إلا أنه لم يُسلم قبل موته? بل أجمع أهل السيرة على موته كافراً بالإسلام? وقد ذكرنا قول النبي عن أمية كاد ليُسلِم - (صحيح مسلم 5:110),
لم تذكر كتب التاريخ شيئاً كثيراً عن سويد? اللهم إلا بعض السطور التي كُتبت عنه في كتب متفرقة, والغريب في هذا الأمر أن ما ذكر عنه يشير إلى تميزه عن معظم من ادعوا النبوة قبل الإسلام? فسويد من القليلين الذين تسميهم العرب الكامل لشرفه وعلو مكانته (المفصل - 8:166), وهو من قامت بسبب قتله حرب يوم بُعاث وهي من أشهر الحروب التي قامت بين الأوس والخزرج (طبقات ابن سعد - 3:552), ويذكر ابن هشام عرض النبي نفسه على سويد فيقول: قدم سويد مكة حاجاً أو معتمراً? وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم? لجلده وشعره وشرفه ونسبه,,, فتصدى له رسول الله حين سمع به? فدعاه الى الله وإلى الإسلام, فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي فقال له الرسول: وما الذي معك قال: مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان - فقال له رسول الله: اعرضها علي فعرضها عليه? فقال له: إن هذا الكلام حسن? والذي معي أفضل من هذا? قرآن أنزله الله تعالى علي هو هدى ونور فتلا عليه رسول الله القرآن? ودعاه إلى الإسلام? فلم يبعد منه? وقال: إن هذا لقول حسن ثم انصرف عنه? فقدم المدينة على قومه? فلم يلبث أن قتلته الخزرج? فإذا كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قُتل وهو مسلم وكان قتله يوم بعاث (السيرة النبوية -ابن هشام - 2:19? 20),
إذن فسويد لم يكن شاعراً أو شريفاً فقط? بل كان أيضاً داعية لدعوة جديدة في الجزيرة? وكانت دعواه تستند إلى مجلة لقمان - التي لا نعرف عنها أكثر من اسمها - وهي دعوة مختلفة عن دعوة مسيلمة باليمامة? أو دعوة الأسود العنسي بثقيف? فالنبي لم يهاجمها ولم يقل بوثنيتها? بل على العكس لم يزد النبي على قوله: إن هذا الكلام حسن فهل كانت دعوة سويد توحيدية? وهل كانت مجلة لقمان تحوي منهج هذه الدعوة? وهل تأثرت هذه الدعوة بأكبر تجمع يهودي في الجزيرة? وهو الذي كان موجوداً في المدينة موطن سويد? كل هذه التساؤلات لا يمكننا - طبقاً لما هو مكتوب عن سويد في كتب التاريخ الإسلامي - أن نجيب عنها? وأيضاً لا يمكننا تركها دون وضع الكثير من علامات الاستفهام والتعجب من موقف كُتاب التاريخ من سويد وغيره من الموحدين العرب قبل الإسلام,
كان مقراً بتوحيد الربوبية والألوهية? ناهجاً منهج الملة الحنيفية? وكثير من الناس ذهب إلى أنه كان نبياً? وجاء في الحديث: ذاك نبي ضيعه قومه ويذكر البغدادي خبر قدوم ابنة خالد إلى النبي فسمعته يقرأ قل هو الله أحد فقالت: كان أبي يقرأ هذا (بلوغ الأرب للبغدادي 2:278), ويذكر المسعودي: أن ناراً ظهرت في العرب? فافتتنوا بها? وكانت تنتقل? كادت العرب تتمجس وتغلب عليها المجوسية? فأخذ خالد بن سنان هراوة وشد عليها وهو يقول: بدا بدا? كلٌّ هدى? مؤدٍّ إلى الله الأعلى? لأدخلنها وهي تتلظى? ولأخرجن منها وثيابي تتندى فأطفأها, فلما حضرت خالد الوفاة قال لإخوته: إذا دفنت فإنه ستجيئ عانة من حمير يَفْذُمُها عيرٌ أبتر? فيضرب قبري بحافره? فإذا رأيتم ذلك فانبشوا عني فإنني سأخرج إليكم? فأخبركم بجميع ما هو كائن فلما مات ودفنوه رأوا ما قال? فأرادوا أن يخرجوه? فكره ذلك بعضهم وقالوا: نخاف أن تسبنا العرب بأنا نبشنا ميتاً لنا (مروج الذهب - 1:67), ويذكر ابن كثير عن ابن عباس? قال: جاءت بنت خالد بن سنان إلى النبي? فبسط لها ثوبه وقال بنت نبي ضيعه قومه (السيرة النبوية - ابن كثير - 1:104), ومن غير المعروف لنا أي شي أكثر مما ذكرناه عن خالد? ولا عن نبوته التي أضاعها قومه? حيث لا تحوي كتب التراث الإسلامي أي شيء عنه? وكما أضاعه قومه نبوته? أضاع أهل التأريخ ما يتعلق بسيرته,
كانت الجزيرة العربية تذخر بالكثير من الديانات والدعوات التوحيدية قبل الإسلام? وهذه الديانات كان لها دور كبير في تشكيل الموروث التشريعي لعرب ما قبل الإسلام? ابتداء من شرائع العرب المتأثرة بالديانات الكتابية كالقصاص والقسامة ورجم الزناة? انتهاء بما كان معمولاً به في ديانات غير كتابية كالصابئة من صلب لقاطع الطريق وقطع يد السارق? وتحديد دية القتل, وكل أو معظم هذه الشرائع اتفق مع ما جاء به الإسلام? وذلك إما لوحدة المصدر بين الإسلام والديانات السماوية? أو لموافقة الإسلام على هذه الشرائع عملاً بالقاعدة القائلة: شرع من قبلنا ما شرع لنا? ما لم نؤمر فيه بشيء , وكما رأينا في الفصول السابقة أن بعض الشرائع التي وافق عليها الإسلام ما تزال باقية حتى اليوم مثل قول العرب في: تحريم زواج الأمهات? والبنات? والخالات? والعمات? وخِطبة المرأة لوليها? والطلاق ثلاثاً? وتحريم الأشهر الحرُم والبلد الحرام مكة ? والقصاص? ورجم الزناة وحكمهم بأن الولد للفراش? وقسمة الغنائم? وقطع يد السارق اليمنى,,, وسنرى في الفصول القادمة أن هناك أموراً أخرى وافق الإسلام عليها? أو - إن شئنا الدقة - تركها للناس ليروا ما يناسبهم من أحكام على أن لا يكون فيما يروه خروجاً عن الإسلام? كأن يحلّوا حراماً? أو يحرموا حلالاً,
1 - التراث التشريعي قبل الإسلام.
لا شك في القارئ للتاريخ الجاهلي أن يعتمد بشكل أو بآخر على المصادرالإسلامية? فكما نعلم - للأسف - أن الجاهليين لم يتركوا لنا من آثارهم المكتوبة شيئاً يذكر. وإننا إذا أردنا أن نعرف شيئاً عن الموروث التشريعي عند العرب قبل الإسلام يجب علينا أن نستنطق التاريخ الإسلامي والشعر الجاهلي - وحري بنا أن نفعل - حول تلك الإرهاصات الأولى للقانون? والتي وضعها بعضٌ ممن يُسَمّون بحكام العرب مثل: عامر بن الظرب العدواني ? وأكثم بن صيفي ? وقصي بن كلاب ? وكعب بن لؤى ? وغيرهم.
لم يحدث اتفاق بين الباحثين حول أي شخصية وأثرها في التاريخ العربي القديم مثل ماحدث حول قُصي بن كلاب. ولعل ما جعلهم يتفقون حوله هو وضوح دوره في وضع بذور الإمبراطورية العربية التي بدأت بعد 130 سنة على يد - حفيد قُصي - النبي صلعم .
فقُصي هو الذي حول سكان مكة من سكان خيام يعيشون في بيوت متنقلة حول مكة إلى سكان مدينة صارت محج العرب وقبلتهم (المفصل 4:22). وقد بلغ الأمر بالعرب أنهم لم يكونوا يعقدون حِلفاً ولا تجارة إلا في بيت قُصي دار الندوة . ولعل قُصي في سيرته هذه قد استلهم سيرة جده كعب بن لؤي? الذي كان أول من جمع العرب في يوم الجمعة ليتدبروا أمورهم ? وهذه القصة تملأ كتب السيرة? ولكن أعرضنا عنها لما تحويه من أمور لا يشك باحث في وضعها? مثل قصيدة كعب التي يقول فيها:
على غفلةٍ يأتي النبي محمدٌ -- فيخبر أخباراً صدوقاً خبيرها
(بلوغ الأرب? 1:273),
و المعروف أن كعباً هو الجد السابع للنبي ولم يقل أحد من المؤرخين - مهما بلغ به الخيال - بنبوة كعب حتى يمكن القول بصحة نسب هذه القصيدة له. ولكن ما يعنينا من أمر كعب هو أنه واضع اللبنة الأولى لقريش ? تللك اللبنة التي أكمل عليها حفيده قُصي الأساسات? ثم أتم الحفيد البعيد محمد باقي البناء لتخرج من قلب قريش تلك النخبة التي حكمت معظم المسكونة لقرون عديدة. (أورد الأستاذ خليل عبد الكريم في بحثه القيم قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية فصلاً عن قُصي ابن كلاب جمع فيه كل الأراء حول قصي ونشأته.. فليراجعه من يرغب في المزيد).
هو أكثم بن صيفي بن رباح? قيل في كنيته وكينونته الكثير ? فهو من الأوائل في أمور كثيرة ? ولعل أفضل ما نقدمه به هو ما جاء في كتاب يحمل اسمه ويبحث في أقواله? فقد جاء فيه: وقد أجمعت مصادر التراث على تقديمه في عصره على غيره من المشاهير ? حيث جعله الجاحظ رأس الخطباء والمقدم فيهم (البيان والتبيين 1:365) ? ولقبه بن عبد ربه وغيره بحكيم العرب (العِقد 2:87) ووصفه ابن كثير بأنه طبيب العرب? ولعله مجاز أو تصحيف ? ووصفه غيرهم بأ نه قاضي العرب في الجاهلية( دائرة المعارف الإسلامية 4:150).
وهو أول من حكم بأن الولد للفراش (الأوائل 73) ? وهذا من الأمور التي أقرها الإسلام. ويضاف إلى ذلك أن النبي ردد بعضاً من حكمه? وعُدَّت من الحديث النبوي. وكذلك تداخلت جمل من كلامه مع أساليب القرآن الكريم ... (أكثم بن صيفي ومأثوراته? كاظم الظواهري? دار الصابوني1991 م? ص 30). ولعل آراء أكثم وغيره ممن لُقِبوا بحكام العرب قد تعطي فكرة أوضح عن التراث التشريعي قبل الإسلام? فالكثير من الأحكام التي وضعوها صارت شرعاً متبعاً بعد الإسلام? أو كما يقول المفسرون وأهل السيرة: إنهم وفِقّوا لحكم الإسلام في تلك الأمور ? مثل حُكم ذو المجاسد عامر بن جُشم في الميراث ? فالعرب لم تكن تورث البنات فقرر ذو المجاسد توريثهن ? على أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين ? ومثل حُكم عامر بن الظرب العدواني ? وذرب بن حوط في الخنثى (المفصل 5:480) ? ومثل حكم أكثم الذي رويناه قبلاً. وهناك أيضاً بعض الشرائع التي اتبعها العرب قبل الإسلام لم يعرف واضعها مثل صلب قاطع الطريق ? أو ما يُسمى في الإسلام بحد الحرابة ? وقد صلب النعمان رجلاً من بني عبد مناف كان يقطع الطريق (المفصل 5:585 ? 608? المحبر 479) ? ومثل حكمهم في الديات فقد كانت عشر من الإبل حتى جعلها عبد المطلب جد النبي مائة من الإبل ? فجرت في قريش والعرب مائة من الإبل ? وأقرها الإسلام على ما كانت عليه (طبقات ابن سعد 2:89). وحكمهم في أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفراً على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلاً بين قوم ولم يُعرف قاتله ? فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يميناً ? ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد ? أو يُقسم المتهمون على نفي القتل عنهم. فإن حلف المدعون استحقوا الدية ? وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية (المفصل 5:602) ? وقد أقر الإسلام هذا الحكم? فقد ورد في صحيح مسلم أن رسول اأقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (صحيح مسلم? شرح النووي? 4:231).
أما بالنسبة لحد السرقة فيذكر جواد علي أن قريشاً كانت تقطع يد السارق - قبل الإسلام - واختلف في أول من أقر هذا الحكم فقيل إنه عبد المطلب أو الوليد بن المغيرة (المفصل 5:605). ومن جملة الأحكام التي كان يتبعها العرب قبل الإسلام: حكمهم في الزواج? والديون? واللقطة? والهبة? وبعض هذه الأحكام لايزال موجوداً في الفقه الإسلامي? وبعضها الآخر رفضه الإسلام جملة وتفصيلاً. وسنأخذ نبذة عن أشهر هذه الأحكام في الفقه الجاهلي? وهي تلك الأحكام التي أقرها الإسلام - إما تحت نفس المسمى أو تحت مسمى آخر - مثل:
حارب التشريع الإسلامي معظم أنواع الزواج التي اتبعها العرب قبله? ولم يُقّر غير نوعين فقط: أولهما الزواج المعروف? وهو أن تتزوج المرأة رجلاً واحداً بعقد دائم وغير محدد المدة في وجود شهود. وثانيهما هو زواج المتعة ? وهو أن تتزوج المرأة رجلاً واحداً بعقد مؤقت محدد المدة في مقابل مهر - أجر - يُتفق عليه? وينتهي الزواج بانتهاء الأجل بدون طلاق? وهذا النوع من الزواج لايعترف به الآن سوى بعض طوائف الشيعة (زواج المتعة? د فرج فودة? الدار العربية? ص 21 وما بعدها). هذان النوعان من الزواج كانا موجودين قبل الإسلام? وبقيا بعده بنفس الكيفية والشروط. أما بقية أنواع الزواج فقد اعتبرها الإسلام زنا? ومن ثم حاربها حتى قضى عليها تماماً.
أباح الجاهليون للرجل تعدد الزوجات? والجمع بين أي عدد يشاء منهن? كما أباحوا أيضاً امتلاك الجواري دون التقيد بعدد. وتذكر كتب الفقه أن بعض الصحابة قد تزوجوا عشر نسوة? فلما حدد الإسلام عدد الزوجات بأربع طلقوا ستاً منهن (نيل الأوطار? للشوكاني? دار الحديث بيروت 7:160). وقد وافق الإسلام على فكرة تعدد الزوجات? غير أنه أتى لها بقيود كثيرة جعلت التعدد إستثناء? بعد أن كان قاعدة عند العرب قبل الإسلام.
من المعروف أن كل المجتمعات على اختلاف درجاتها من الرقي والتخلف لها قانونها الخاص الذي يُطبق على المخالفين والخارجين عليه. ويكون هذا القانون غالباً ضد أي خروج على عُرف المجتمع وديانته? هذا إذا لم يكن لهذا المجتمع قانون مكتوب دستور يسير عليه. والعرب كغيرهم لهم أعرافهم التي يعتبر الخروج عليها جرماً يستحق العقاب ? فكانوا يعاقبون على القتل والسرقة وغيرها من الأمور التي يعتبرونها جرائم تستحق العقاب. وبالرغم من عدم تطبيق هذه العقوبات - غالباً - حيث كان أهل القاتل يعتبرون تسليمه إلى أهل القتيل للقصاص منه مثلبة ونقيصة? وكذلك في باقي الجرائم. ولكن ما يعنينا في هذا المقام ليس تطبيق القانون بقدر ما يعنينا وجود إرهاصات لتلك المجموعة من القوانين التي وجدت قبل الإسلام واستمر وجودها بعده. ويُعدد الدكتور جواد علي بعض هذه القوانين فيقول: ومن العقوبات التي جاءت بها شريعة الجاهلية عقوبة إقامة الحدود على الجناة? وذلك بالتعزير? وهو الجلد? جلد المخالف الذي لاتكون مخالفته جناية? بل مخالفة بسيطة في مثل أوامر الوالدين أو الولي الشرعي? وفي الاعتداء على الغير بالشتم والسباب والتحرش بالناس وما شاكل ذلك من أمور. وعقوبة دفع الغرامات وتعويض الضرر وعقوبة السجن على الجنايات المهمة ? وعقوبة الطرد من البيت أو من المدينة أو من أرض القبيلة والخلع والتبري من الشخص? والحبس في البيت ? وعقوبات القصاص (المفصل? د.جواد علي? 5:280)
ليس من الحكمة في شيء أن نُغمِض أعيننا عن تلك الأخبار التي تتحدث عن علاقة العرب بالفرس والروم ? وتلك الزيارات التي كان يقوم بها بعض ذوي الشأن من العرب لقيصر روما? أو لكسرى الفرس? فهذه الأخبار تحدد صورة العلاقات الدولية كما كان ينظر لها العرب? وإن كان هناك الكثير من المبالغة في حقيقة من يطلق عليهم العرب لفظة قيصر أو كسرى? وهل هم فعلاً هكذا أم هم مجرد بعض الحكام الموالين لفارس وروما. فإن هناك أمراً هاماً في كل هذه الأخبار? وهو نظرة العرب لهؤلاء الحكام على أنهم فرس ورومان? وهذا جعل العرب يتطلعون لكل شيء في بلاط هؤلاء الولاة ويحاولون محاكاته.
ومن المرجح أن يحاول بعض سادة القبائل محاكاة تلك النظم القانونية التي عرفوها في زيارتهم المتعددة للشام واليمن. وقد روت كتب التاريخ العربي الشيء الكثير عن تلك الزيارات بدئاً من أمرئ القيس وانتهاء بعثمان بن الحويرث (المعروف بالبطريق) الذي حاول أن يكون والياً على مكة من قبل قيصر? ولكن رفضه المكيون? فيذكر جواد علي أن عثمان طمع في ملك مكة? فلما عجز عن ذلك? خرج إلى قيصر? فسأله أن يملكه على قريش وقال: احملهم على دينك ? فيدخلون في طاعتك ? ففعل وكتب له عهداً وختمه بالذهب? فهابت قريش قيصر وهمّوا أن يدينوا له? ثم قام الأسود بن عبد المطلب? فصاح: إن قريشاً لُقاح! لاتُملك ولا تُمَّلك وصاح الأسود بن عبد العزى: ألا إن مكة حي لُقاح لاتدين لملك فاجتمعت قريش على كلامه? ومنعوا عثمان بن الحويرث مما جاء له? ولم يتم له مراده (المفصل 4:92). وهناك موقفان حدثا بعد الإسلام قد يوضحان لنا مدى اهتمام العرب بأمور الفرس والروم? أولهما هو ما يرويه صاحب السيرة الحلبية من أن النبي استشار أصحابه بعد الهجرة في كيفية جمع الناس للصلاة? فقال بعضهم بالقرن? وقال بعضهم بالناقوس? وقال بعضهم بالنيران. (السيرة الحلبية 2:297). أما الموقف الثاني فيرويه السيوطي قال: لما جمع أبو بكر القرآن قال: سموه فقال بعضهم: سموه إنجيلاً? فكرهوه? وقال بعضهم: سموه سفراً فكرهوه من يهود? فقال ابن مسعود: رأيت بالحبشة كتاباً يدعونه المصحف? فسموه به (الإتقان للسيوطي 1:148). فهذان الموقفان يوضحان وقوف العرب على كثير من أمور الفرس والروم والأحباش? مما جعلهم يلمون بكيفية جمعهم للناس للصلاة? وأسماء كتبهم المقدسة. بل أننا لانبالغ إذا قلنا إن العرب تأثروا بهؤلاء إلى حد كبير? أو على الأقل حاولوا الاقتداء بهم. فهذان الموقفان يتناولان أكثر المقدسات الإسلامية? الصلاة والمصحف? ومجرد تفكير الصحابة في هذه الأسماء والطرق لدليل كاف على أن العرب لم يروا غضاضة في الاقتداء بالفرس والروم في أي شيء. فالصحابة هم أولاً وأخيراً عرب ? وقد تكونت ثقافتهم ومعرفتهم قبل الإسلام? مثلهم مثل باقي عرب الجزيرة في هذا الأمر. وهم أيضاً من قطاعات مختلفة فكرياً واجتماعياً? واقتراحهم لتلك المسميات إنما يدل على نظرة العرب تجاه الفرس والروم? بل وعلى إلمامهم بكثير من أمورهم. وأحد هذه الأمور هي القوانين المتبعة في تلك البلاد? ولذا نجد تشابهاً بين بعض الأحكام العربية ومدونة جستنيان في القانون الروماني. وخلاصة القول إن العرب كغيرهم من الشعوب تأثروا بما يحيط بهم من دول وحضارات مختلفة? وعملوا على محاكاة مارأوا أنه صالح لواقع وظروف الجزيرة العربية? وكانت هناك عدة عوامل ساعدت على هذا التأثر مثل: رحلتي الشتاء والصيف? ووجود عدد غير قليل من العبيد الرومان في الجزيرة وهم من يسمون بالأحابيش.
اختلف المؤرخون - كحالهم دائماً - حول الأحابيش فقد ذكر بعضهم أنهم حلفاء قريش من بني المصطلق ? والحياء بن سعد ? والهون بن خزيمة? وكانوا قد اجتمعوا بذنب حبشي - جبل بمكة - فتحالفوا باللع إنا ليَدٌ على غيرنا ما سجى ليل وأوضح نهار? وما أرسى حبشي مكانه (المفصل 4:30). وسُموا بهذا الأسم نظراً لتحابشهم? والأحابيش لغة هم جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة (المنجد? حبش). وقيل سموا بذلك لاسودادهم. وقد بحث لامانس في موضوع الأحابيش ? وقرر أنهم قوة عسكرية مكونة من مرتزقة الحبشة ? ولكن عارضه في ذلك كثير من المستشرقين ولم يوافقوا على رأيه (دائرة المعارف الإسلامية? حبش). ولعل أكثر الآراء موضوعية هو ما يراه جواد علي من أن الأحابيش هم عرب وحبش ومرتزقة? وانهم من ساحل تهامة وهي المنطقة التي خضعت لحكم الحبشة مدة من الزمن? فاندمج من استقر بها من الحبش في العرب? وصار من المستعربة الذين ضاعت أنسابهم واتخذوا أنساباً عربية (المفصل 4:33). إذاً لم يكن الأحابيش مجرد مجموعة من العبيد والسبايا? أو حتى جماعة من العرب من قبائل مختلفة? بل كان لهذه الجماعة ثقافتها وقوانينها التي تحكمها? والتي تأثر بها أهل مكة كثيراً? خاصة إذا كانت هذه الجماعة تجيد القتال ومن الممكن الأستعانة بهم في الحروب المختلفة. وتذكر كتب السيرة ما يؤيد هذا الرأي حيث يذكرون الحليس بن علقمة على أنه سيد الأحابيش ورئيسهم يوم أحد (تاج العروس 4:130). ويذكره ابن سعد في صلح الحديبية على أنه سيد الأحابيش ? وأنه كان يتأله? ثم يذكر قوله لقريش: والله لَتُخَلُّنّ بينه - يقصد النبي - وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش! قالوا: فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به (الطبقات 2:96). وهذا التهديد الواضح من الحليس والرد اللين من قريش إنما يدل على قوة الأحابيش واستقلالهم برؤيتهم? خاصة وإن قريش جماعة من التجار? والتجارة لايمكن أن تكون آمنة في وجود هذا التهديد. وفي رأيي أن هذه الجماعةلما لها من قوة ولتركيبتها المتميزة قادرة على أن تؤثر تأثيراً كبيراً في أهل مكة? ففي هذه الجماعة هناك مرتزقة من أسرى الرومان وغيرهم? ولا شك في أن هذه النوعية كانت تتمتع بعقلية أفضل كثيراً من العبيد المستجلبين من الحبشة ولذلك كانت تسند لهم دائما الأعمال التي تحتاج قدراً من الفهم والتفكير? بل لعلنا لانبالغ إذا قررنا أن بعض هؤلاء العبيد كانوا مؤثرين حتى في سادتهم? وذلك للتفاوت الثقافي بينهم وبين أهل مكة? وتذكر كتب السيرة أن بعض هؤلاء العبيد كان لهم كتبهم التي يقرأونها وإن بعض أهل مكة كانوا يجلسون إليهم ويستمعوا منهم? وقد سبق وذكرنا أن النبي كان يجلس إلى بعض من يعملون بمكة من هؤلاء العبيد. وكنتيجة طبيعية لحتكاك أهل مكة بهؤلاء الأحابيش - وخاصة الرومان منهم - أن يعرف أهل مكة ولو قليل عن أسلوب الحكم وشؤونه في البلاد التي أتى منها هؤلاء.
لم يكن العرب قبل الإسلام هذه الأمة الهمجية المنعزلة التي لاتفعل شيئاً إلا بمشيئة أربابها من الأصنام ? ولم يكن اهتمامهم محصوراً في الخمر والإبل والنساء. بل على العكس من ذلك. كان في الجزيرة العربية كثير من الحكماء وذوي الرأي? فقد كان هناك قُصي بن كلاب واضع لبنات الإمبراطورية العربية? وكعب بن لؤي الذي تتبع قُصي خطواته في تأسيس حكومة مكية? وهاشم بن عبد مناف التاجر الحاذق الذي استطاع أن يخرج بقريش من قوقعتها المغلقة لتحتك بالعالم في رحلتي الشتاء والصيف. كل هؤلاء الأشخاص وغيرهم ممن كان لهم الأثر الكبير في حالة الجزيرة العربية قبل الإسلام جعلوا شخصاً مثل أكثم بن صيفي حكيم العرب يقول مشيراً إلى بني عبد المطلب بن هاشم : يابني تميم إن الله إذا أحب أن ينشئ دولة نبَّت لها مثل هؤلاء? هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال (أكثم بن صيفي? ص 128). ولم تكن الجزيرة العربية أيضاً هذا المجتمع الذي لايحكمه شيء? بل إن هناك إرهاصات لقوانين منظمة وضعتها العقلية العربية -وإن كانت قليلة - تتناسب مع الواقع العربي واحتياجاته البسيطة. ولعل الزمن يكشف لنا عما يخبئه باطن الجزيرة العربية من آثار? ونجد بينها ما يشبه مدونة جستنيان في الفقه الروماني. فقد أثبتت الأبحاث الحديثة وجود أثر لمجرى مائي يمتد بطول الجزيرة العربية? ووجود هذا النهر يمكن أن يكشف لنا في المستقبل عن وجود حضارة مندثرة في الجزيرة العربية? ومن المحتمل أيضاً أن يكشف لنا عن وجود قوانين وشرائع لم يكشف عنها التاريخ العربي للآن.
وكما رأينا فيما سبق أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا عُزلاً من القوانين التي يدبرون بها شئونهم ? ورأينا أيضاً اتفاق هذه القوانين مع بعض القوانين التي جاء بها الإسلام. فالواقع التاريخي يؤكد على أن الإسلام لم يأت بمعزل عن الواقع المحيط به? ولم يأت كذلك بشرائع مجهولة - كلها أو بعضها - بالنسبة للعرب. وإذا سلمنا بعجزنا كبشر عن إدراك الماورائيات أو دراستها دراسة موضوعية? وإذا سلمنا أيضاً بأن الأمم لاتُولد ناضجة? قوية مكتملة الشرائع والقوانين?فيجب أن نسلم بأن الشريعة الإسلامية قد تأثرت بشكل أو بآخر بكل ما سبقها من شرائع. أو بمعنى آخر? إن الإسلام قد شرع للناس أمور دينهم? أما أمور دنياهم فقد تركها لهم? أو وافق على ما كان قائماً بالفعل. وبالرغم من علمنا بذلك? إلا أننا سوف نجد لدى الكثيرين آذاناً صاغية لمن يحاولون العودة بنا للخلف قروناً عديدة? ففي هذه الأيام نجد بعض من يرددون مقولات وهم ربما لايدرون أثرها إذا هي طُبقت كما يقولون. ولعل أشهر هذه المقولات التي ترددت أخيراً في مختلف المجالات الدينية هي مقولة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ? ونتيجة لهذه المقولة انتزع بعضهم آيات القرآن من سياقها وفسرها كما يحلو له فقالوا بظلم? وفسق? وكفر كل من يجرؤ ويفكر مجرد التفكير في أن يتحدث عن إمكانية وضع قوانين مناسبة للظروف الموجودة في المجتمع اليوم ? وطالبونا بتطبيق ما كان معمولاً منذ أكثر من ألف عام ? وحجتهم في ذلك آيات سورة المائدة 5:44-47 ونسوا أو تناسوا أن هذه الآيات تتحدث عن اليهود والمسيحيين ? وعن التوراة والإنجيل.ولم يقل أحد بأن هذه الآيات نزلت في شأن المسلمين ? أو في قضية الحاكمية. وبنفس الطريقة اقتطعت الآيات من سياقها? وعُزلت عن أسباب نزولها لا لشئ إلا لتكفير مجتمع بكامله واستباحة أمواله وأرواح من فيه. والحجة القوية للمُكفرين إن العبرة بعموم اللفظ . فإذا تكلم القرآن عن اليهود والتوراة? فيجوز أن تُطبق الآية على المسلمين والقرآن. وإذا جاء في السيرة أن رسول أمر بقتل كعب بن الأشرف لأنه كان يهجو النبي(السيرة الحلبية 3:146)? فمن الممكن أن يقتل أي شخص بحجة هجائه لهم. وهكذا اختلط الحابل بالنابل? وصار توجيه النقد لشيوخ توظيف الأموال ردة وطعناً في رموز العقيدة? والمطالبة بإعمال العقل في أمور الحياة إلحاد وزندقة? وقتل الأفراد وترويع الآمنين مجرد افتئات على السُلطة (الافتئات:هو الاستبداد بالرأي دون مشورة). ولم يعدم هؤلاء فقهاء يحلون لهم كل ما يريدون حله? ويحرمون ما يريدون حرمته. ولو تعاملنا مع هؤلاء بنفس المنطق واستعملنا نفس الأسلوب? لقلنا لهم: لقد قررتم أن العبرة بعموم اللفظ فهل توافقون على عموم كل الألفاظ? ولكي لايكون كلامنا مبهماً سنحاول أن نضرب بعض الأمثال حتى يتضح ما نقصده.
عن ابن مسعود قال: دية الخطأ أخماساً? عشرون جذعة? وعشرون حُقة? وعشرون بنات لبون? وعشرون بنو لبون ذكور? وعشرون بنات مخاض (سنن الدارقطني 3:172).
ونحن نسأل:هل يطلب منا دعاة العودة للخلف أن يتضمن التشريع الجنائي الإسلامي هذا النص ? أم سوف يسمحون بأن يوضع في القانون ما يقابل بنات المخاض ? وبنات اللبون?
لعل الموقف ليس هيناً? فإذا هم أصروا على وضع هذا النص كما هو? فكم من القضاة والمحامين يعرف الفرق بين الحقة والجذعة. وإن طالبوا بوضع ما يقابل ذلك بلغة العصر خرج عليهم بعض الشباب - كما يخرجون علينا كل وقت - واتهموهم بأنهم يشرعون من دون الله ويضعون قوانين ما أنزل الله بها من سلطان? وأنهم فاسقون? ظالمون? كافرون... - إلى آخر كل هذه الألفاظ التي يتقنها دعاة التأسلم السياسي - والسبب في كل هذه الاتهامات التي قد يُرمى بها هؤلاء الذين يرموننا بها اليوم? هو مقولتهم العبرة بعموم اللفظ . ولا مفر من التسليم بأن هناك طريقين لاغير? الأول: طريق إعمال العقل والبحث عن منظور جديد لقوانين تتناسب مع معطيات العصر الذي نحياه مع الالتزام بالمبادئ الإسلامية في التشريع? والثاني الوقوع في متاهة بنو المخاض? وبنو اللبون. وهناك مقولة اخرى شغلت حيزاً كبيراً من كتب الفقه الإسلامي? وهي لاعقوبة إلا بنص ? والنص المقصود هنا ليس نصاً قانونياً? وإنما المقصود هو وجود نص واضح في القرآن أو الأحاديث الصحيحة - وهذا الكلام جميل ولا نعترض عليه - ولكن لنا سؤال: ماذا عن الجرائم المستحدثة? وماذا عن النصوص التي يستحيل تطبيقها? فمثلاً يُروى عن ابن عباس قال: قال رسول الله ليس على العبد ? ولا على أهل الكتاب حدود (الدارقطني 3:87) فهل إذا تم تطبيق هذا النص سوف تستقيم الأمور? أي إذا ارتكب المسلم أي مُحرَم يقام عليه الحد? وإذا ارتكب واحد من أهل الكتاب نفس الجريمة لايعاقب لعدم وجود نص! أليس في هذا عدم مساواة بين رعايا الدولة الواحدة بل وفي جريمة واحدة? هل عرفنا الآن خطورة الأمر? وإننا في حاجة لأن ينقذنا دعاة التأسلم السياسي باجتهاد مستنير يتوافق مع معطيات العصر الذي نحياه? أم أنهم يفضلون الحياة في الماضي وأحلامه? والاعتماد على فتاوى ابن تيمية? وابن القيم ومحاولة تطبيقها الآن. إن أكثر من يسيء إلى الإسلام في وقتنا الحاضر هم المسلمون أنفسهم? فقد أعطوا للعالم أنطباعاً بأنهم يعشقون العيش في الماضي ويجترون أفراحه وأحزانه? حتى أصبح الإسلام - بفضلهم - يعني العودة للماضي السحيق. وبدلاً من أن يحاولوا مجابهة الحضارة العالمية? أخذوا يصرخون ويذرفون الدمع زاعمين أن الإسلام مستهدف من كل دول العالم. والواقع يقول إن الإسلام مستهدف فعلاً? لكن من دعاة التأسلم أولاً. فلو حاول كل أعداء الإسلام أن يسيئوا إليه بكل الوسائل لما استطاعوا أن يفعلوا ما فعله المتأسلمون بالإسلام? فقد حولوه من دين يأمر بعبادة لله_ ويحض على مكارم الأخلاق? إلى قنبلة ومدفع? ومن دعوة الي سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة? إلى دعوة إلىسبيلهم بالجهل والتعصب? ومن المجادلة بالتي هي أحسن? إلى المجادلة بالتي هي أشد انفجاراً.
لم تكن فكرة كتابة هذه الفصل من البحث مطروحة بالمرّة? حيث أني قررت أن يكون البحث مجرد دراسة تاريخية عن الموروث التشريعي بين عرب الجاهلية. ولكني وجدت أن الموضوع سوف يكون مبتوراً إذا لم يتم تناول النظرة الإسلامية للحدود? خاصة وأن بعض هذه الحدود لم ينزل بها تشريع قرآني? ولم تأت في تقريرها أحاديث نبوية صحيحة? بل أن بعضها اتى مخالفاً لأكثر من نص قرآني مثل حد الردة. ولذا سأحاول في هذا الفصل أن أتناول بالعرض الحدود المتفق عليها في الفقه الإسلامي? والتي أتى بها نص قرآني واضح أو أحاديث نبوية صحيحة? وبالتحليل لتلك الحدود التي لم يأت بها أي نص واضح? والتي هي في الواقع مجرد إجتهاد قد يصيب أو يخيب.
الحدّ لغة : هو الفاصل بين شيئين? وحد الشيء منتهاه? والحد المنع أو القيد. والحد في الفقه الإسلامي يعني العقوبة التي قدّرها المُشرِّع على فعلٍ خاطئ (دائرة المعارف الإسلامية - حدَّ ). والحدود النصية - أي التي ورد بها نص قرآني - في الفقه الإسلامي أربعة حدود هي: الزنى? والسرقة? والقذف? والحرابة (قطع الطريق(. وهذه الحدود ثابتة بالنص القرآني? ولامجال للاجتهاد مع وجود النص من حيث زيادة العقوبة أو نقصها? ولكن الاجتهاد يمكن في شروط تطبيق الحد? وموانع إقامته...إلخ. ولكن في الفقه الإسلامي لم يقف التشريع عند النص القرآني فقط? بل تعداه إلى ما ورد في الحديث النبوي الشريف? وإجماع الصحابة. ونتيجة لذلك أصبحت الحدود في الفقه الإسلامي ستة هي: حد السرقة? حد القذف? حد الزنى? وحد الحرابة (قطع الطريق)? وحد شرب الخمر ? وحد الردة (أصول الشريعة? العشماوي? ص 100). ( ملاحظة : عدَّد الأستاذ عبد القادر عودة في كتابه التشريع الجنائي في الإسلام الجرائم السابقة على أنها جرائم الحدود ? ولكنه أضاف حداً آخر هو حد البغي. وحسب علمي لم يقرر سواه مثل هذا الحد في الفقه الإسلامي).
هذه هي الحدود المقررة في الفقه الإسلامي? بالرغم من أن الشرع لم يحدد لبعضها عقوبة نصية مثل : حد شرب الخمر? وحد الردة - سنذكر هذا تفصيلياً في موضعه - وسوف نحاول في الصفحات القادمة أن نُعيد قراءة النصوص التي وردت في تقرير الحدود قراءة متأنية? فالواضح أن بعض فقهائنا المعاصرين لم يقرأوا أبواب الحدود بشكل واعٍ? ولذلك سنحاول أن نقرأها معهم مرة أخرى? عسى أن نجد بصيصاً من النور يُضيء لنا ظلمات هذا العصر الذي نحياه.
المقصود بحدّ السرقة هو العقوبة المفروضة على من أخذ مال أو متاع شخصٍ آخر على وجه الخفية والاستتار? قاصداً بذلك تملك الشئ المأخوذ. وقد اشترط الفقهاء عدة شروط في السارق كي يُطبق عليه الحد وهي:
1 - قيمة المال المسروق? وقد اختلفوا في ذلك على عدة أقوال. فقال عمر بن الخطاب? وعلي? وعثمان? وعائشة: لاقطع إلا فيما قيمته ربع دينار فصاعداً? لورود نص الحديث بذلك. وابن عمر يقول : ثلاثة دراهم? وابن عباس يقول: عشرة دراهم? وأنس يقول : خمسة دراهم. وقال أبو حنيفة والثوري: لاتُقطع يد السارق إلا في عشر دراهم كيلاً? أو ديناراً ذهباً عيناً ووزناً. وروي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخُدْريّ: أن اليد تُقطع في أربعة دراهم فصاعداً. أما رأي الخوارج فإن اليد تٌقطع في كل ما له قيمة ظاهرة .
2 - اتفق الجمهور على أن القطع لايكون إلا على من أخرج من حِرز ما يجب فيه القطع ? والحرز هو ما نُصب عادة لحفظ أموال الناس. قال ابن المنذر: ليس في ذلك خبر ثابت لا مقال فيه? وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم - وأما إذا أشترك جماعة من السُراق في إخراج شيء من مكانه - حرزه - ففيه أقوال كثيرة منها: إذا كانوا متعاونين في السرقة? ولم يكن في مقدور واحد منهم أن يسرق هذا الشئ وحده قُطعوا جميعاً. وإذا انفرد كل واحد منهم دون اتفاق بينهم (بأن ينقب أحدهم ويأتي الأخر ويسرق) فلا قطع على واحد منهم. قال الشافعي: لاقطع لأن هذا نَقَب ولم يسرق? والآخر سَرَق من حِرْز مهتوك الحرمة. وعلى هذا لا يُقطع مَن سرق مِن مكان عام كقاعة أحد الفنادق مثلاً.
3 - ألا يكون السارق مالكاً للمال أو لجزء منه ? مثل من يسرق من بيت المال أو من المسجد وذلك لأن له فيه نصيباً? أو كما يقول الفقهاء: يسقط الحد لشُبهة الملكية .
4 - لا يقطع مَن سرق مِن جوع أصابه? وكذلك لاقطع على أحد من ذوي المحارم مثل العمة والخالة والأخت وغيرهم. وهذا قول أبو حيبفة والثوري? وقال مالك بل يُقطع من سرق من هؤلاء .
5 - اختلف العلماء هل يكون غُرم على السارق مع القطع أم لا ? فقال أبو حنيفة: لايجتمع الغُرم مع القطع بحال? لأن الله سبحانه قال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَا قْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ ولم يذكر غُرماً. وقال الشافعي: يَغرم السارق موسراً كان أم معسراً. وقال مالك وأصحابه: إن كانت العين - الشئ المسروق - قائمة ردها? وإن تَلِفت فإن كان موسراً غَرِم? وإن كان معسراً لم يُتْبع به ديناً ولم يكن عليه شيء ( نُقل هذا الجزء بتصرف من تفسير القرطبي لسورة المائدة 5 الآية 38? ج 6 ص 104 وما بعدها? دار الكتب العلمية? بيروت ) .
هذه هي الأمور التي اتفق عليها الفقهاء بالنسبة لحد السرقة ? ولكن هناك بعض الأمور الآخرى التي ذكرها بعضهم دون بعض مثل: اشتراط البعض التكرار أي العودة للسرقة لكي ينطبق لفظ سارق الوارد في الآية (أصول الشريعة? العشماوي? ص 101).
وتلقين الإمام الإنكار للمتهم? وقد ورد في هذا عدة آثار عن الصحابة? منها عن أبي الدرداء: أنه أتى بجارية سرقت? فقال لها: أسرقتِ? قولي لا. فقالت: لا? فخلى سبيلها. وعن عطاء أنه قال: كان من مضى يؤتى لهم بالسارق? فيقول: أسرقت? قل لا? وسمى أبا بكر وعمر. وعن عمر أنه أتى برجل فسأله: أسرقت قُل لا? فقال لا? فتركه (نيل الأوطار? الشوكاني? ج 7 ص 134).
وبالرغم من صعوبة هذه الشروط لكي يُطبق الحد على السارق? فإن هناك كثيراً من الجرائم لا يمكن تطبيق حد السرقة فيها - لوجود أحاديث تمنع ذلك - كالاختلاس? والنهب? وخيانة الأمانة? فقد ورد عن جابر أن رسول قال: ليس على الخائن? ولا على المختلس? ولا على المنتهب قطع (سنن الدارقطني? 3:187) ? وأيضاً وردت عدة أحاديث تنهى عن إقامة الحدود على أهل الكتاب? وقد روى الدارقطني عن بن عباس أن النبي قال: ليس على العبد? ولا على أهل الكتاب حدود (الدراقطني? 3:86) وحديث آخر عن عائشة قالت: سمعت رسول الله يقول: لاتقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعداً (الدارقطني? 3:189). معنى هذا أنه إذا سرق شخص ربع دينار تُقطع يده? وإذا اختلس آلاف الجنيهات فلا قطع عليه. وقد يقول قائل: من الممكن لنا أن نضع عقوبة مناسبة للإختلاس. فنجيبه بما قاله الدكتور محمد طلبة زايد:
1 - خيانة الأمانة:وهي أن يأخذ الجاني المال المودع عنده بغير علم صاحبه ولا رضاه? ثم ينكره أو يتصرف فيه بغير إذن صاحبه ولا علمه - وهو ما يُسمى في القانون الجنائي بالتبديد - فيحكم عليه برد المال والتأديب...وحيث لانص فيه بالقطع? فلا قطع لأنه لا تشريع إلا بنص.
2 - جحد العارية: وهي أن يستعير المرء المتاع من صاحبه ثم ينكره? يريد أخذه لنفسه? وهو يعلم أنه ملك صاحبه...ولا قطع في جحد العارية ولكن رد المال والتأديب.
3 - الاختلاس: وهو أن يأخذ المختلس من الأموال التي هو أحد العاملين عليها بغير علم المالك وإذنه? فيكلف برد المال? ويعاقب بالتعزير والتأديب? ولا قطع فيها إذ لانص بذلك.
(ديوان الجنايات? باب الإختلاس? مشبهات السرقة? مطبعة السنة المحمدية? القاهرة? 1982م? صفحة 121 ? 122). والأمر لايقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى ما رواه الدارقطني عن عبد الرحمان بن عوف قال: قال رسول الله لاغرم على السارق بعد قطع يمينه (الدارقطني? 3:182) أي أن السارق يحتفظ بما سرق بعد تطبيق الحد عليه? ومن الممكن - في ظل التقدم الطبي - أن يقوم السارق بتركيب يده المقطوعة? فيحيا مستمتعاً بما سرق. ولايمكننا وقتها معاقبته لأنه لاعقوبة إلا بنص. ولعل البعض يقول: إن الجرائم التي لايوجد لها نص واضح في الشريعة? يعاقب عليها بالتعزير الذي قد يصل إلى الإعدام. ولكن هذا الرأي غير صحيح? لأن هناك حديثاً عن النبي يقول: لا يُجْلَدُ فوقَ عشر جلدات إلا في حدٍّ من حدودِ الله (متفق عليه? مشكاة المصابيح? تحقيق الألباني? حديث رقم 3630) وكما هو واضح أن التعزير والتأديب ليست حدوداً ولكنها عقوبة أقل من الحد. وعلى هذا الأساس لايمكن معاقبة من يرتكب جريمة غير منصوص عليها بأكثر من الجلد عشر جلدات. وإلا صار الناس - طبقاً لمنطق ضيقي الأفق من المتأسلمين - يشرعون من دون الله,
القذف في اللغة : هو الرمي? وفي اصطلاح الفقهاء: هو اتهام المحصن بالزنى? أو نفي نسبه من أبيه. أما من ينفي شخصاً عن أمه فلا حد عليه? لأنه لم يرمِ أحداً بالزنى (في أصول النظام الجنائي الإسلامي? د.محمد سليم العوا? ص 209).
وعقوبة القذف كما جاءت في القرآن هي الجلد ثمانين جلدة فقد جاء في سورة النور 24 الآية 4 وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَا جْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . ففضلاً عن عقوبة القذف? وهي الجلد? فإن القاذف تلحقه عقوبة أخرى: هي إسقاط شهادته ووصمه بالفسق إلى الأبد. والقذف المعاقب عليه في الشريعة له تسعة شروط: شرطان في القاذف? وهما العقل والبلوغ . وشرطان في الشئ المقذوف به ? وهما أن يُقذف بوطء يلزمه الحد? أو ينفي المقذوف من أبيه. وخمسة شروط في المقذوف? وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رُمي بها? وإن لم يكن عفيفاً من غيرها? وقد اشترط العلماء شروطاً أخرى مثل: أن يصرح بالقذف بكلام لا يحتمل معنى أخر? فإن استخدم التعريض قال الجمهور ليس بقذف? وقال مالك هو قذف. ولا يُحد من قذف أحداً من أهل الكتاب ولا من قذف عبداً أو أمةً. وإذا كان القاذف عبداً طُبق عليه نصف الحد . وهناك عدة أحاديث وردت في تأثيم قذف الرجال? مما جعل البعض يُسوي في العقوبة بين قذف الرجال وقذف النساء? مخالفاً بذلك ظاهر الآية. ولكن أغلب هذه الأحاديث تكلم فيها علماء الجرح والتعديل? وهذا مثل حديث عكرمة عن ابن عباس عن النبي قال: إذا قال الرجل للرجل يامخنث فاجلدوه عشرين ? وإذا قال الرجل للرجل يا لوطي فاجلدوه عشرين (ابن ماجة? حديث رقم 2568) وهذا الحديث مطعون فيه من طريق عكرمة ? فقد تكلم فيه غير واحد من رجال الحديث. (سنتناول شخصية عكرمة لاحقاً ).
لم يُقرر حد الزنى في الشريعة مرة واحدة? بل تقرر على ثلاث مراحل هي :
1 - وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَا سْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (النساء 4:15).
2 - وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً (النساء 4:16).
3 - الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَا جْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِا للَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمْا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (النور 24:2).
هذا هو تسلسل عقوبة الزنى? ففي أول الأمر كانت العقوبة هي الحبس المطلق? أو أن يجعل الله لهن سبيلاً? وفي نفس الوقت كانت عقوبة اللواط هي الإيذاء غير المحدد والمتروك تقديره للحاكم أو الإمام? ثم في النهاية كانت عقوبة الجلد? وهي العقوبة القرآنية المنصوص عليها في سورة النور (24:2) ? غير أن الأحاديث تذكر تطبيق النبي لعقوبة الرجم للزاني المحصن. رويت عدة أحاديث تذكر أنه كانت هناك آية في القرآن خاصة بحكم الرجم لكنها نُسخت تلاوةً? ونص هذه الآية والشيخ والشيخة إذازنيا فارجموهما البتة (الإتقان للسيوطي? باب الناسخ والمنسوخ ). وأول ما طبق النبي حد الرجم كان في واقعة زنا طرفاها يهوديان من المدينة ? ويذكر أبو داود في سننه هذه الواقعة عن ابن عمر? قال: أتَى نَفَرٌ من يهود فدعوا رسول إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا: يا أبا القاسم إن رجلاً منَّا زنى بامرأة فاحكم? فوضعوا لرسول الله وسادة فجلس عليها? ثم قال: ائْتُونِي بالتوراةِ فأُتي بها? فنزع الوسادة من تحته فوضع التوراة عليها? ثم قال: أمنتُ بكِ وبمن أنزلك ثم قال : ائْتوني بأعلمكم فأُتي بفتى شاب - وفي رواية أخرى - قال ائْتوني بأعلم رجلين منكم فأتوا بابني صوريا? فناشدهما: كيف تجدان أمر هذين في التورة? قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رُجما. قال: فما يمنعكما أن ترجموهما? قالا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل. فدعا رسول الله بالشهود? فجاءوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة? فأمر رسول الله برجمهما (سنن أبو داود? حديثان رقم 4449 ? 4452). يُلاحظ أن هذه هي الحالة الوحيدة التي تُذكر في الكتب الإسلامية التي تم فيها تطبيق الحد نتيجة لشهادة الشهود. (وقد وضع الإسلام شروطاً لتطبيق حد الزنى تكاد تجعله مستحيلاً على التطبيق - إلا إذا اعترف الزناة. فقد اشترط الفقهاء رؤية أربعة رجال للزانيين - واختلفوا في قبول شهادة المرأة - واشترطوا أيضاً ضرورة التأكد من شخصية الزانيين? ورؤية واقعة الزنا تفصيلياً. ولمعرفة صعوبة هذه الشروط ننقل ما رواه الطبري حول واقعة زنا المغيرة بن شُعبة فيقول: كان أبو بكرة ينافره - أي المغيرة - عند كل ما يكون منه? وكانا بالبصرة? وكانا متجاورين بينهما طريق? وكانا في مشربتين متقابلتين لهما في داريهما في كل واحدة منهما كوة مقابلة للأخرى? فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته? فهبت الريح ففتحت باب الكوة? فقام أبو بكرة ليصفقه? فبصر بالمغيرة وهو بين رجلي امرأة? فقال للنفر: قوموا فانظروا? ثم قال: اشهدوا? قالوا من هذه? قال: أم جميل ابنة الأفقم? وكانت أم جميل إحدى بني عامر بن صعصعة? وكانت غاشية للمغيرة بن شُعبة? وتغشى الأمراء والأشراف! - وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها ! - فقالوا إنما رأينا أعجازاً ولا ندري ما الوجه? ثم أنهم صمّموا حين قامت? فلما خرج المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة وقال: لاتُصلّ بنا. فكتبوا إلى عمر بذلك? وتكاتبوا? فبعث عمر إلى أبي موسى? فقال: يا أبا موسى? إني مستعملك? إني أبعثك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرخ? ... وأرسل عمر مع أبي موسى كتاباً يقول عنه الطبري : إنه أوجز كتاب كتب به أحد من الناس? أربع كلِم عزل فيها وعاتب? وأستحث? وأمّر: أما بعد? فإنه بلغني نبأ عظيم? فبعثت أبا موسى أميراً? فسلم ما في يدك والعجل . ويذكر الطبري أن المغيرة أهدى وليدة من مولدات الطائف إلى إبي موسى ثم ارتحل هو وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجليّ حتى قدموا على عمر? فجمع بينهم وبين المغيرة. فقال المغيرة: سلْ هؤلاء الأعبد كيف رأوْني? مستقبِلهم أو مستدبِرهم? وكيف رأوُا المرأة أوعرفوها? فإن كانوا مستقبليّ فكيف لم أستتر? أو مستدبري فبأيّ شيء استحلُّوا النظر إليّ? في منزلي ? على امرأتي ! - شبهات منطقية يسقط بها الحد إن ثبت - والله ما أتيت إلا امرأتي وكانت شبهها? فبدأ عمر بأبي بكرة? فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة قال: كيف رأيتهما? قال: مستدبرهما? قال: فكيف اسثبت رأسها? قال: تحاملت. ثم دعا بشبل بن معبد? فشهد بمثل ذلك? فقال: استدبرتهما أو استقبلتهما? قال: استقبلتهما . وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة. ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم? قال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة? فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان? واستين مكشوفتين? وسمعت حفزاناً شديداً. قال: هل رأيت كالميل في المكحلة? قال: لا. قال: فهل تعرف المرأة? قال: لا. ولكن أشبهها? قال: فتنحَّ? وأمر بالثلاثة فجلدوا الحدّ? وقرأ: فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكافرون (النور 24:23) ? فقال المغيرة: اشفني من الأعبد? فقال: أسكُت أسكَت الله نأمتك! أما والله لو تمّت الشهادة لرجمتك بأحجارك (تاريخ الطبري? دار المعارف? ج 4 ص 70 وما بعدها).
ويحدد الموقف السابق صعوبة الشروط المطلوبة لتطبيق حد الزنا? فرغم وجود الشهود ورؤيتهم للفعل? إلا أن تلجلج واحد منهم يُسقط الحد? بل ويُقام حد القذف على الباقين ? ويُوصمون بالفسق? ولا تُقبل لهم شهادة أبداً. ولم تقف صعوبة تطبيق الحد عند هذا الحد بل إن الفقهاء لا يقبلون بأي دليل آخر غير الاعتراف أو الشهود? فيقول د. العوا: ومن ثم جعلت الشريعة الإسلامية إثبات الجريمة بطريقين اثنين هما الإقرار? أوشهادة أربعة رجال مسلمين عدول أنهم رأوا الفعل المكون للجريمة بكل تفاصيله? واختلف في الحمل - إذا كان من امرأة ليس لها زوج - هل يثبت به الزنى أو لا? (في أصول النظام الجنائي الإسلامي? د. محمد سليم العوا? ص 229). وأيضاً لم يتفق جميع الفقهاء على أن الرجم هو العقوبة الشرعية للزاني المحصن? بل إن البعض يقول بنسخها? وحجتهم في ذلك هي: أن آية النساء (4:25) ذكرت أن حد الأَمة إذا زنت نصف حد الحرة? والرجم لا يتنصف. ولكن بالرغم من عدم ثبوت الرجم بنص قرآني إلا أنه ثابت بعدة أحاديث? منها ما روي عن ابن عباس عن عمر بأنه قال إن الله قد بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما نزل آية الرجم قرأنها ووعيناها وعقلناها? ورجم رسول الله ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس الزمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله? وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذ أحصن من الرجال والنساء? إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف (رواه الخمسة? تفسير ابن كثير? 3:252)? ويعلق الأستاذ دروزة على هذا الحديث وأحاديث آية الرجم عموماً? فيقول: أولاً: إن نسخ حكم قرآني تلاوة مع بقائه حكماً لايمكن أن يفهم له حكمة وبخاصةٍ في حد تشريعي خطير كحد الرجم. ثانياً : إن النص القرآني المروي مختلف فيه من جهة وفيه شيء عجيب وهو تخصيص الشيخ والشيخة بالعقوبة من جهة أخرى. ثالثاً: إن عمر أعدل من أن تُرفض شهادته في صدد تدوين آية? وأقوى من أن يسكت عن ذلك إذا كان متأكداً من قرآنيتها ومن كون النبي توفى وهي لم تنسخ تلاوة وحكماً. وهو الذي اقترح بكتابة المصحف على أبي بكر وكان المشرف على ذلك... وكل ما تقدم يجعلنا نتوقف عن الأخذ بأن الرجم تشريع قرآني قائم الحكم بهذه الصفة كما تفيد الأحاديث المروية عن ابن عباس وابن عمر ? ونقول: إن المحتمل أن يكون نزل به قرآن ثم نُسخ بصيغته المروية? ثم بدا للنبي أن يشرعه بأسلوب عام لايقتصر على الشيخ والشيخة. ويكون في هذه الحالة تشريعاً نبوياً? ويكون ما روي عن عمر باعتبار ما كان? لا باعتبار الحال الراهن (الدستور القرآني? محمد عزة دروزة 2:327 وما بعدها ). ولم يكن دروزة وحده هو صاحب هذا الرأي بل قال به أيضاً المستشار العشماوي في كتاب أصول الشريعة ? فيقول إذا كان النبي قد سار على حكم التوراة فأمر بالرجم بعد ذلك - مع أنه من المشكوك فيه أنه رجم بعد نزول آية الجلد - فهل يعني ذلك أن النبي قد نسخ بفعله حكم القرآن ? أم أن ما فعله يمكن أن يُحمل على أنه حكم خاص بالنبي وحده !? ويرجح العشماوي هذا الرأي? وذلك: لثبوت تفرد النبي ببعض الأحكام الخاصة به وحده? كالزواج بأكثر من أربعة? وعدم حقه أن يطلق أزواجه? وعدم حل أزواجه لأحد من المسلمين بعده ( الأحزاب 33:50-54) والحكم بين الناس بنور الله إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِا لْحَقِّ لِتَحْكُمَ بِيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ (النساء 4:105). ولا شك في أن هذه الأحكام خاصة بالنبي وحده. وهذا الأمر يثير مبحثاً هاماً عما إذا كانت ثمة أحكام أخرى خاصة به وحده? ومن ذلك - إن كان - حكم رجم الزاني والزانية المحصنين خلافاً لنص القرآن!? (أصول الشريعة? العشماوي? ص1104) .
ويسمى أيضاً: حد قطع الطريق ? وورد هذا الحد في القرآن في سورة المائدة 5:33-34 إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَا عْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . ونزلت هذه الآية كما يروي الواحدي عن أنس قال: إن رهطاً من عكل وعرينة أتوا رسول الله فقالوا: يا رسول الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف فاستوخمنا المدينة' - أي سكنوا على حدودها - فأمر لهم رسول الله بذود - مجموعة من إناث الأبل لاتقل عن ثلاث ولا تزيد عن ثلاثين - أن يخرجوا فيها ويشربوا من ألبانها وأبوالها? فقتلوا راعي النبي واستاقوا الذود? فبعث رسول الله في آثارهم? فأُتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم - فقأها - وتركوا في الحر حتى ماتوا على حالهم فنزلت فيهم هذه الآية (أسباب النزول? الواحدي? ص134). وبالرغم من أن الآية والحديث يبدوان واضحين بغير حاجة إلى تأويل? إلا أن الفقهاء - كعادتهم - وضعوا شروطاً عجيبة لتطبيق هذا الحد? فقال الحسن البصري: المحارب هو المشرك? إذ نزلت الآية في أهل الشرك. وقال الضحاك: الآية في أهل الكتاب? لأن محاربة الله ورسوله لاتكونإلا من أهل الكتاب. وقال مالك: لاتكون المحاربة إلا في الصحراء. وقال سفيان لاتكون المحاربة إلا في الصحراء (المحلى? ابن حزم? 13:308 ?312)وقال ابن قدامة: يشترط في المحاربة أن تكون في الصحراء? لأن المصر يلحق به الغوث غالباً (المغني? ابن قدامة? 8:28).
وقال أبو حنيفة : لا تكون المحاربة في مدينة ولا مصر ? ومن شَهَر علىآخر سلاحاً ليلاً أو نهاراً? فقتل المشهور عليه عمداً فلا شيء عليه. فإن شهر عليه عصا نهاراً في مصر فقتله عمداً قُتل به? وإن كان في الليل في مصر أو مدينة أو في طريق في غير مدينة? فلا شيء على القاتل. وإن جرح فقط أو قتل عمداً فتاب? أو كان فيهم غير مكلف? أو ذو رحم محرم من المارة? أو قطع بعض المارة على بعض? أو قطع الطريق ليلاً أو نهاراً في مصر أو بين مصرين فلا حد (المحلى? ابن حزم? 13:312). وهذا الرأي من أبي حنيفة هو أغرب الآراء على الأطلاق, ملاحظة: تتبع مصر المذهب الحنفي في الفقه. ومضمون الحكم الحنفي يفيد أن القاتل الذي يقتل إنسان عامداً بالعصا ليلاً في مصر أو في طريق مأهول لا شيء عليه. والقاتل الذي يقتل إنساناً عمداً بالسلاح ليلاً أو نهاراً في مدينة أو مصر لا شيء عليه. والقاتل الذي يقتل إنساناً عمداً ثم تاب لا عقوبة له. قاطع الطريق في مصر أو بين مصرين لا شيء عليه!!! (ديوان الجنايات? د. محمد طلبة زايد? ص 492) .
قرر بعض المعاصرين أن هذه الآية خاصة بالنبي وحده? ويقول العشماوي: واضح من الآية وسبب نزولها أنها تقضي بالجزاء على من يحارب الله ورسوله? أي يحارب دين الله وشخص الرسول? فهي بذلك من الآيات المخصصة بشخص النبي والنبي? وحده? هو الذي يوقع الجزاء على من يحاربه ويحارب الله في شخصه? وهو الفيصل العدل في تحديد شخص من حاربه وما يعتبر حرباً عليه. أما بعد النبي? وبعد خلفائه الراشدين? وحين صار الملك عضوضاً. بعد ذلك? فمن ذا يكون كذلك? الخلفاء ومنهم الفاسقون? أم الفقهاء وفيهم المغرضون! ? ( أصول الشريعة? العشماوي? ص 108) .
هذه هي الحدود الآربع التي نزل بها نص قرآني. وبالرغم من أن النصوص القرآنية لم تحدد أشياء كثيرة حول هذه الحدود كما رأينا? وبالرغم أن التراث الإسلامي نقل لنا مجموعة إجتهادات لبعض الصحابة مثل تعطيل عمر لحد السرقة عام المجاعة? وإلغائه لسهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة - مما يعني أن هناك منه إجتهاداً حتى في ظل وجود نص ثابت - إلا أن دعاة التأسلم اليوم يأبون إلا الجمود? فقد ادّعوا أن باب الاجتهاد قد أغلق إلى الأبد ولا يمكن إعادة فتحه مرّة أخرى? وهذا الرأي على ما فيه من خطورة ينقلنا عصوراً سحيقة للخلف. فيجب علينا أن نعيد التسري بالإماء وافتتاح أسواق الجواري? لا لشئ إلا لأن أهل الفقه لم يقولوا بمنع هذه الأشياء أيام كان باب الاجتهاد مفتوحاً? ويجب علينا ألا نحاكم قطاع الطرق? لأنهم قطعوا الطريق بين المدينة? ولعل من كانوا يطالبون بتطبيق حد الحرابة على تجار المخدرات والمغتصبين يعرفون الآن موقف دعواهم من الفقه الإسلامي عامة والحنفي خاصة? وهو المذهب الذي تتبعه مصر. ويجب علينا أيضاً ألا نحاكم المرأة غير المتزوجة إذا وجدت حاملاً? لأن الحمل لايؤخذ به في تقرير الزنا. لقد قلنا قبلاً وسنعيد تكرارها مراراً? إننا في حاجة إلى فقه آخر? فقه يتعامل مع معطيات الزمن الذي نحياه? فقد اجتهد القدماء لهم ولعصرهم لا لكل العصور. إننا نريد أن يعلم المتفقهون أن من يرفض ما قاله ابن حزم وابن تيمية لعدم ملائمته للواقع الذي نحياه ليس بكافر? وإن من يطلب باجتهاد مستنير ليس بمارق? وإن من يقول بعدم إلزامية إجتهاد الفقهاء لكل العصور ليس بزنديق? وإلا فليقولوا لنا كيف نثبت حد الزنا الآن مع الشكل الحالي للبيوت وعدم الأخذ بالحمل كدليل? أو كيف يعاقب قطاع الطرق داخل المدن? مع وجود شبه إجماع من الفقهاء على أن قطع الطريق لايكون في المدينة. إنها أسئلة كثيرة قد يستوعبها من هم فعلاً أهل للفقه? ولكن لا يستوعبها أو يستسيغها المتنطعون? وقد صدق النبي حين قال: هلك المتنطعون ولكنهم للأسف سيهلكون وسيهلكونا معهم إذا لم نستيقظ ونعرف أن العصر الذي نحياه يختلف عما كان يحياه غيرنا من ألف سنة مضت.
* * *
استعرضنا فيما سبق الحدود التشريعية التي ورد بها نص قرآني واضح? ولكن - وكما قررنا قبلاً - هناك حدود أخرى لم يرد بها نص في القرآن? ولم يرد بها أيضاً أحاديث صحيحة عن النبي? ونقصد بهذه الحدود حدي الردة? وشرب الخمر.
إن حد الردة من أكثر الحدود التي أسيء فهمها وإستغلالها? فقد أُلقي هذا القفاز في وجوه كثيرين على مدار التاريخ الإسلامي? وأول من قتل لأن المخالفين له بكفره هو عثمان بن عفان? فقد قالت عائشة: أقتلوا نعثلاً? لعن الله نعثلاً (ضحى الإسلام 3:252)? ونعثل اسم لرجل مسيحي من المدينة كانوا يشبهونه بعثمان لعظم لحيته) . ثم تذكر كتب السيرة بعد ذلك منع الناس من الصلاة عليه ودفنه بحش كوكب - مقابر اليهود بالمدينة - وأثناء احتضار عثمان نزا عليه عمير بن ضابئ فكسر أضلعه? ومُنع الناس من الصلاة عليه أو دفنه مدة ثلاثة أيام (تاريخ الرسل والملوك? الطبري? 4:412 وما بعدها ). وفي فترة الخلافة العباسية قتل الحلاج بدعوى كفره وارتداده ? فصُلب وقُطعت أطرافه وحُرقت جثته (البداية والنهاية? ابن كثير? 11:139 وما بعدها ). وفي خلافة أبي جعفر المنصور قُتل ابن المقفع بتلفيق تهمة الكفر له? لأنه أرسل خطاباً إلى الخليفة يوصيه بتقوى الله? فما كان من الخليفة إلا أن اتقى الله - بطريقته الخاصة - وأمر بشيّ أطراف ابن المقفع وإطعامها له (البداية والنهاية? ج 9ص 96ـ الخلافة الإسلامية? العشماوي? ص 177). أما في العصر الحديث فقد قامت جماعة التكفير والهجرة بقتل الشيخ الذهبي? ولن نحاول أن نستنتج التهمة الموجهة للشيخ? بل سندع أميرهم شكري مصطفى يجيب عن ذلك. ففي تحقيقات النيابة معه سُئل:
س: وما رأيك في المرحوم الشيخ الذهبي? أمسلم هو أم كافر?
ج: هو عندي كافر.
س: وما دليلك?
ج: دليلي أنه يعمل في هيئة الأوقاف? وكان وزيراً لها ومديراً للإشراف على مساجد الضرار? وقد أقسم اليمين على الحكم بغير ما أنزل الله في قَسَم الوزراء? وهذا لا يمكن أن يعتبر جهلاً منه وجوب الحكم بما أنزل الله? ولبعد الدولة والمجتمع عن الإسلام.
ج? من الناحية النظرية نعم ... ومن الناحية العملية لا... (النبي المسلح? رفعت سيد أحمد? ج أول الرافضون ص 103), أعلم أن البعض سيقولون: إن هذا المثال الذي اخترته لايعبر عن رأي الإسلام لأن جماعة التكفير لاتمت للإسلام بصلة? ولكني ألفت انتباه القارئ إلى أني لا أناقش فكر الجماعة أو اتجاهاتها? وأن من يقولون ذلك سوف يقعون دون شك في نفس الخطأ الذي وقعت فيه جماعة التكفير? ألا وهو اتهام الآخر بالكفر والخروج عن صحيح الإسلام ولم ينتهِ المسلسل عند جماعة التكفير? ولكنه امتد بعد ذلك للجماعة الإسلامية? أو كما تسمى أمنياً تنظيم الجهاد ? فهذه الجماعة بدأت بتكفير المجتمع? والعمل العسكري ضد مخالفيهم منذ أواخر السبعينات وحتى الآن. وهذا محمد عبد السلام أمير التنظيم يقول في كتيبه الفريضة الغائبة : فحكام هذا العصر في ردة عن الإسلام تربوا على موائد الإستعمار? سواء الصليبية أو الشيوعية أو الصهيونية . فهم لا يحملون من الإسلام إلا الأسماء? وإن صلى وصام وادّعى أنه مسلم . وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة ? منها أن المرتد يقتل وإن كان عاجزاً عن القتال? بخلاف الكافر الأصلي الذي هو من أهل القتال? فإنه لايقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد. ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد (النبي المسلح? 1:130) .
والملاحظ أن تهمة الردة والكفر تُلصق غالباً بالمخالفين في الرأي .. وفي الرأي فقط. فأشهر من اتهموا بالارتداد لم يحمل أحدهم سيفاً على معارضيه? وما كان يوماً عنيفاً? وقد أُلقيت هذه التهمة على بعض أئمة الإسلام كأحمد بن حنبل فيما يعرف بفتنة خلق القرآن.
و هذا مولانا أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان يقول: إن هناك طريقان لا غير للتعامل مع المرتد: إما أن نعتبره مجنوناً ونتركه حياً مع حرمانه من كل حقوق المواطنة? أو أن نُنهي حياته بالقتل. ومن المؤكد أن الطريقة الأولى أشد قسوة من الثانية? لأنها تجعله لا حياً ولا ميتاً? فالقتل أفضل له? إذ يضع نهاية لعذابه ولعذاب المجتمع في وقت واحد (عقاب المرتد? أبو الأعلى المودودي? نقلاً عن مرتد كي سزا إسلامي قانون مير بالأردية ? لاهور? 1981). يا لها من رحمة من مولانا المودودي ? ويالها من طريقة جديدة لاستنباط الأدلة الشرعية! لقد اتفق المسلمون عبر التاريخ على أن مصادر التشريع الإسلامي هي: القرآن الكريم? والسنة النبوية المطهرة? والقياس? وإجماع الأئمة? ولكن هاهو المودودي يضيف لنا مصدراً جديداً للتشريع? ويقرر المودودي حلاً لمشكلة المنافقين في المجتمع الإسلامي - حسب مفهومه - أنه حينما تقع الثورة الإسلامية.. يُعلن جميع المسلمين غير الملتزمين تحوُّلهم عن الإسلام? وخروجهم من المجتمع المسلم .. وذلك خلال عام واحد. وبعده يعتبر المسلمون بالمولد مسلمين ? وتسري عليهم كل القوانين الإسلامية (عقاب المرتد? ص 81). ألم نقل إنه مصدر جديد للتشريع يضعه المودودي? حيث يقرر من هو المسلم ومن هو المرتد? وما هي المدة التي يستحقها غير الملتزمين بالإسلام - حسب فهم مولانا - ليخرجوا من دين الله أفواجاً. ولو كان المودودي وحده هو صاحب هذا الرأي لكان الأمر هيناً? حيث يمكن أن يعتبره البعض متطرفاً? ولكن نفس هذا الرأي صدر مؤخراً من أحد أكثر المعتدلين - إن صحت التسمية - وهو الشيخ محمد الغزالي? فقد سأله الكاتب الصحفي صلاح منتصر? من أن هناك بعض الدارسين الذين يشككون في حد الردة? ويقولون: إنه ليس موجوداً صراحة في القرآن الكريم? فهل هذا صحيح? فأجاب فضيلته: نعم لم يرد في القرآن الكريم قتل المرتد? وإنما وردت بذلك السنن الصحاح. وعندي أن جريمة الردة متفاوتة السوء والخطر? وقد تستحق القتل إذا ساوت ما نسميه الآن الخيانة العظمى? أو ما نسميه الخروج المسلح على الدولة. وقد تكون شُبهة عارضة يُكتفَى فيها بالتوبة النصوح. وأمام القضاء تُعرف الحقيقة ويتحدد العقاب العدل ويُوزن خطأ كل فرد!! (مجرد رأي? جريدة الأهرام القاهرية? ص 9? بتاريخ 21/7/93). وفي شهادته أمام القضاء قال الغزالي إن له رأياً خاصاً في تطبيق حد الردة ? وهو أنه يجوز للحاكم إيداع المرتد في سجن مؤبد .. ولو أن المرتد هرب فلا يجري البحث عنه (مجلة أكتوبر? العدد3592? 13/7/1993م? ص 21). وهذا الرأي الأخير للشيخ الغزالي يحدد مدى تيقن الشيخ من حد الردة? فلو كان يراه حداً لما قرر - برأيه الشخصي - عقوبة أخرى غير القتل? وإلا كان يشرع من دون الله? وهو ما نستبعده على الشيخ الجليل. وكما أن هناك رأي مولانا المودودي? وشيخنا الغزالي فهناك رأي أخر وهذا الرأي لأحد المرتدين - حسب فهم المودودي - الذين يجب قتلهم? وهو مرزا طاهر أحمد إمام الطائفة الأحمدية فيقول في كتابه القتل باسم الدين : إن حرية التحول من دين وإليه هي المحك الحقيقي لمبدأ لا إكراه في الدين? إذ لايمكن أن تكون الحرية في اتجاه واحد? هو اتجاه دخول الإسلام? ثم لا مخرج منه (القتل باسم الدين? مرزا طاهر أحمد? لندن? ص 69). ويقول في موضع آخر يتحدث رجال الدين المسلمون بصوت عال عن الحرب المقدسة.. والتدمير النهائي للقضاء على القوى غير الإسلامية? وهم في الحقيقة لايقصدون بالقوى غير الإسلامية قوى المسيحية أو اليهودية أو البوذية أو الإلحادية.. وإنما يعنون بها كل من سواهم من الطوائف الإسلامية الأخرى.. فهم أعداء الإسلام.. إما بسبب خصائص معينة فيهم? أو بسبب عقائدهم التي تجعلهم محط لعنة الله وعباده الصالحين! فليس أعداء الإسلام الحقيقيون - في نظرهم - هم غير المسلمين? وإنما هم بعض الطوائف الإسلامية في عالم الإسلام. والميول النضالية المناهضة تتوجه من طائفة إسلامية ضد طائفة إسلامية أخرى أكثر من توجهها ضد غير المسلمين. وهذا هو السبب في إصرارهم على عقوبة الإعدام للمرتد. إنه سلاحهم الذي يشهرونه ضد الأقليات الإسلامية الذين يخالفونهم في مسألة مذهبية شائعة بين غالب أهل هذا البلد. هذه الطوائف - المناضلة - توزع ضربة الموت في طعنتين: الأولى إعلان أن عقائد مخالفيهم غير إسلامية? أي تعدهم مرتدين? والثانية القول بأن عقوبة الارتداد هي الموت? ومن ثم فهم يستحقون الإعدام (القتل باسم الدين? ص 125).
و لو تأملنا القرآن حول آيات الردة نجد أنه قد تكلم عنها في عشر آيات إحداها مكية. وهذه الآيات لم تقرر أي عقوبة دنيوية للردة? بل تُوقف العقاب كله على الآخرة? ولنقرأ معاً هذه الآيات جيداً.
جاء في سورة البقرة وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِا للَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (البقرة 2:126).
وفي سورة آل عمران كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (آل عمران 3:86-91).
وفي سورة النساء إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا (النساء 4:137).
وفي سورة المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة 5:54).
وفي سورة النحل مَنْ كَفَرَ بِا للَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِا لْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِا لْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النحل 16:106)
وفي سورة مُحمد إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (محمد 47:25) وكما نرى لم تقرر هذه الآيات أي عقوبة على المرتد بل على العكس فآية النساء 137 تنفي أي احتمال لعقوبة ما? فلو كانت عقوبة المرتد هي الإعدام كما يقولون? لما كان للمرتد هذه الفرصة في التردد بين الكفر والإيمان? وبالرغم من أن آيات القرآن تنفي زعم عقوبة الردة تماماً إلا أننا نجد أن بعض المتفقهين يحاولون إيجاد أسانيد لها بأي وسيلة. أما أدلتهم فهي هذه المجموعة من الأحاديث التي نعرضها مع تحليلها من حيث المتن والسند.
أولاً : الأحاديث الواردة عن النبي في سنن الدارقطني? الجزء الثالث? كتاب الحدود,
حديث رقم 108 أخبرنا أحمد بن اسحق بن بهلول? أخبرنا أبي أخبرنا يزيد? عن سعيد بن أبي عروبة عن أيوب عن عكرمة? عن ابن عباس عن النبي قال: من بدل دينه فاقتلوه قال يزيد: تقتل المرتدة. وهذا الحديث فيه سعيد بن أبي عروبة? وهو ثقة حافظ? لكنه كثير التدليس - واختلط? في المنجد اختلط الرجل: أي فسد عقله - وكانوا يقولون إنه من أحفظ الناس لقتادة (مقولة إنه أحفظ الناس في قتادة فيها شك? حيث روى البخاري? عن قريش بن أحمد? قال: حلف لي سعيد بن أبي عروبة أنه ما كتب عن قتادة شيئاً قط? المجموع في الضعفاء والمتروكون? كتاب الضعفاء الصغير? البخاري? ص 441? دار القلم? بيروت? 1985م).
حديث رقم 118 حدثنا عبد الصمد بن علي? حدثنا عبد الله بن عيسى الجزري? أخبرنا عفان? أخبرنا شعبة? عن عاصم عن أبي رزين? عن ابن عباس قال: قال رسول الله: لا تقتل المرأة إذا ارتدت قال أبو الطيب: عبد الله بن عيسى هذا كذاب يضع الحديث على عفان وغيره (التعليق المغني على سنن الدارقطني? أبو الطيب شمس الحق? بذيل السنن).
حديث رقم 122 أخبرنا إبراهيم بن محمد بن علي? أخبرنا نجيح بن إبراهيم الزهري? أخبرنا معمر بن بكار السعدي? أخبرنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن محمد بن المنكدر عن جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام? فأمر النبي أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت . قال أبو الطيب: الحديث فيه معمر بن بكار وفي حديثه وهم ? وأيضاً فيه محمد بن عبد الملك ? وفي التلخيص رواه البيهقي من طريقين في أحدهما زيادة? وإسنادهما ضعيفان (سنن الدارقطني? الجزء الثالث? كتاب الحدود? ص81 وما بعدها).
هذه بعض الأحاديث التي وردت في سنن الدارقطني ومعظمها فيه مقال أو ضعف? والمعروف أن الحديث الضعيف لايُعمل به في تقرير الحدود? وخاصة إذا كان يناقض نصاً قرآنياً صريحاً غير منسوخ. أما الحديث الذي يحتج به كل من يدعو لتطبيق عقوبة الإعدام على المرتد فهو حديث وارد في معظم كتب الصحاح? وهو مروي في جميع الكتب من طريق واحد عن عكرمة قال: أتى علي بزنادقة? فأحرقهم? فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أُحرقهم لنهي رسول الله عن ذلك? ولقتلتهم لقول رسول الله: من بدل دينه فاقتلوه (البخاري 9:18? أبو داود 4:124 ابن ماجة 2:848). وهذا الحديث يقع في طائفة أحاديث الآحاد - أي رواه راوٍ واحد هو عكرمة - ومن الممكن أن يكون الحديث صحيحاً ومعتبراً ? ولو كان من طريق راوٍ واحد . لكنه لا يتساوى مع حديث متواتر? أو حديث له أكثر من طريق صحيح. وقبل أن نبحث في نص الحديث فلنتعرف أكثر على راوي الحديث - وهو من تتعلق بشخصيته حياة من تُزعم ردتهم - عكرمة هو غلام ابن عباس وتلميذه ? ولم يكن عكرمة تلميذاً متحمساً بشهادته هو حيث يقول: إن ابن عباس كان يقيده من يديه ورجليه ويعلمه القرآن والسنة . وقالوا: كان عكرمة كثير الحديث والعلم بحراً من البحور? وليس يُحتج بحديثه? ويتكلم الناس فيه (الطبقات الكبرى? ابن سعد 2:386? 5:293) . وكان من المعارضين لعلي وكان يميل لرأي الخوارج (ميزان الاعتدال? الذهبي / تذكرة الحفاظ? الذهبي? ترجمة عكرمة). ويقول عنه الذهبي كان خارجياً ? وروايته مريبة لايعتد بها وكان مالك ابن أنس يصنف الأحاديث المروية عنه في بند الضعيفة الواهية (ميزان الإعتدال). هذا هو الرجل الذي روى الحديث والذي تتوقف عليه حياة من يغيرون.. أو يتهمون بتغيير عقيدتهم .
إذا فحصنا موضوع الحديث وجدنا فيه عدة أمور غريبة:
1 - شخص في منزلة علي وهو باب مدينة العلم? وهو من النبي بمنزلة هارون من موسى ? هل يجهل منع الإسلام لتعذيب الإنسان بالنار?
2 - جملة من بدل دينه فاقتلوه جملة عامة يمكن تفسيرها بعدة طرق. وهي على إطلاقها تصدق على الرجال والنساء والأطفال. ومع ذلك اختلف كثير من الفقهاء في هل تقتل المرأة المرتدة والطفل أم لا?
3 - لفظة دينه لفظة غير محددة? ويمكن أن تُفسر في لغة القانون بقتل كل من يترك دينه لدين آخر? حتى وإن كان إلى الإسلام .
يتفق جميع المؤيدين لتطبيق حد الردة على أن هذا الحد لم يرد في القرآن? ولكنهم يقولون إن هذا الحد ثابت بالسنة النبوية? وقد رأينا مدى ثبات هذا الحد في السنة القولية. ولكن هل ثبت عن النبي أنه طبق هذا الحد? وهل هناك أية إشارة إلى أن النبي عاقب شخصاً ما بتهمة الردة?
إن أشهر وأوضح الأحاديث في هذا الشأن هو مارواه مسلم عن جابر قال: إن أعرابياً بايع رسول الله? فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة فأُتي النبي فقال: يا محمد أقلني من بيعتي? فأبى رسول الله. ثم جاءه فقال: أقلني من بيعتي? فأبى. ثم جاءه فقال: أقلني من بيعتي فأبى فخرج الأعرابي فقال رسول الله: إنما المدينة كالكير تنفي خبثها? وينصع طيبها وفي رواية البخاري فبايعه على الإسلام (صحيح مسلم? كتاب الحج? باب المدينة تنفي خبثها? ج 3 ص 530? البخاري? كتاب الحج? باب حرم المدينة? ج 3 ص 29).
فهذه الحالة حالة ردة ظاهرة ورغم ذلك لم يعاقب النبي هذا الإعرابي بأية عقوبة? وهناك حالات أكثر وضوحاً بشأن الردة منها ما يرويه القرطبي في تفسير آية الأنعام و من أظلم ممن افترى على الله كذباً? أو قال أُوحى إليَّ ولم يوح إليه شيءٌ قال: المراد عبد الله بن أبي سرح ? الذي كان يكتب الوحي لرسول الله ? ثم ارتد ولحق بالمشركين . وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التي في المؤمنون : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ (المؤمنون 23:12) دعاه النبي فأملاها عليه? فلما انتهى إلى قوله: ثم أنشأناه خلقاً آخر عَجِب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين . فقال رسول الله: كذا أُنزلت عليّ فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقاً ? لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ? ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال . فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ... فلما دخل رسول الله مكة أمر بقتله وقتل عبد الله بن خَطَل? ومِقْيس بن صُبابة ولو وُجدوا تحت أستار الكعبة? ففر عبد الله بن أبي سرح إلى عثمان - وكان أخاه من الرضاعة? أرضعت أمه عثمان - فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له? فصمت رسول الله طويلاً ثم قال: نعم . فلما انصرف عثمان قال رسول الله: ما صَمَتُّ إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه . فقال رجل من الأنصار: فهلاّ أومأتَ اليّ يا رسول الله? فقال: إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين (تفسير القرطبي? ج 7 ص 27?28). هذه حالة أخرى من حالات الردة الواضحة والتي لم يعاقب فيها النبي بشيءٍ ? ولو كان هناك حد للردة لما تراجع النبي عن تنفيذه وهو القائل لأسامة بن زيد حِبه وابن حِبه حينما أتاه يستشفع في امرأة سرقت في غزوة الفتح أتُكلمني في حدٍّ من حدود الله (صحيح البخاري? 5:192). فهل من الممكن بعد كل هذا أن نقول: إن الردة حد شرعي يجب أن يطبق? والقرآن يقول وَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف 18:29). أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( يونس 10:99).
لقد أطلنا الحديث حول حد الردة لنبين موقفين مختلفين? أولهما موقف الإسلام الذي أرسى قواعد الحرية في وقت كان فيه العالم يئن من وطأة الاستبداد? ففي الفترة التي كان يقام فيها مجمع القسطنطينية 870 والذي حُرِم فيه فوتيوس لهرطقته? ابتداعه في الدين? كان ابن الخياط يكتب الانتصار في الرد على ابن الراوندي? الذي لا يجادل إثنان في ردته وإلحاده. ولعل القارئ يتعجب إذا عرف أن في نفس الفترة تقريباً? التي كان يحيا فيها ابن الراوندي المتوفى 910 م ? مؤلف فضيحة المعتزلة وكتاب الفرند الذي يطعن فيه في شخص النبي? كان يحيا الإمام البخاري المتوفى 870 م ? والإمام مسلم المتوفى 875 م ? والطبري المتوفى 923 م ? وابن الخياط المتوفى 923 م . ومع ذلك لم يقرر واحد منهم أن يتربص به ويقتله. لقد كان هؤلاء يعرفون جيداً ما معنى الحوار? فالفكر لا يقاوم إلا بالفكر? وليس بإلقاء أحكام التكفير على المخالفين. أما الموقف الثاني فهو موقف المتفقهين الذين لم يقدموا للعالم من الإسلام إلا رأيهم وفكرهم? وأحكامهم بالكفر على من يختلف معهم? فأصبح الإسلام - بفضلهم - مرادفاً لحياة الجزيرة العربية منذ أربعة عشر قرناً? وأصبح جُل همهم هو التفتيش في عقول البشر للحكم بإيمانهم أو كفرهم.
لم يقرر الإسلام في بادئ الأمر أي إثمٍ على الخمر ? لا قرآنياً ولا نبوياً ? بل تم ذلك بتدرج مرحلي? بدأ بقول القرآن : وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً (النحل 16:67). ثم قال: يسألونك عن الخمر والميسر? قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس? وإثمهما أكبر من نفعهما (البقرة 2:219). ثم بعد ذلك قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ (النساء 4:43). وأخيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَا جْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( المائدة 5:90). هذا ما ورد بشأن الخمر في القرآن الكريم? أما في السنة النبوية فلم يرد عن النبي أنه حدد أية عقوبة لشارب الخمر من الممكن أن تُسمى حداً? لكنه كان يضرب شارب الخمر بالجريد والنعال (البخاري 8:196) . ولعل أوضح دليل على عدم تقرير النبي لحد شرب الخمر هو ما قاله علي بن أبي طالب : ما كُنت لأقيم حدّاً على أحدٍ فيموت فأجد في نفسي? إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته - أي دفعت ديته - وذلك أن رسول الله لم يَسُنهُ (البخاري 8:197). فكما نرى لم يكن هناك ما يعرف بحد شرب الخمر في أيام النبي? بل كان النبي يأمر بشارب الخمر أن يُضرب بالأيدي والجريد والنعال? واستمر هذا الوضع في إمارة الصدّيق وصدر إمارة عمر? وفي آخر عهد عمر أمر بالجلد أربعين? وظل على ذلك إلى أن عتوا وفسقوا فجلد ثمانين (البخاري? 8:197). وأصل ذلك كما يرويه الإمام مالك فيقول : إن عمر استشار في الخمر يشربها الرجل? فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن تجلده ثمانين ? فإنه إذا شرب سكر ? وإذا سكر هذى ? وإذا هذى افترى? وحد المفتري ثمانين فجلد عمر في الخمر ثمانين (الموطأ? مالك بن أنس? 526).
اختلف الفقهاء فيما إذا كانت هناك عقوبة محددة شرعاً للخمر أم لا ? فالقرآن لم يتضمن أية عقوبة? كما أن النبي لم يأمر بحدٍّ واضح? وإنما ضرب بالأيدي والجريد والنعال والثياب? بل أحياناً لم يعاقب النبي شارب الخمر مطلقاً مثل ما رواه ابن عباس من أن رجلاً شرب? فسكر? فلُقي يميل في الفج. فانطلق به إلى رسول الله? فلما حاذى دار العباس? انفلت فدخل على العباس فالتجأ اليه? فذُكر ذلك للنبي? فضحك وقال: أفعلها? ولم يأمر فيه بشئٍ.
أثار المستشار العشماوي عدة تساؤلات حول الخمر وهي:
- هل الخمر محرمة أم مأمور باجتنابها?
والفرق بين التحريم والاجتناب? ومجال النصوص السابقة - في الخمر - مع مجال الآية قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ (الأنعام 6:145).
2 - ما هي الخمر في مقصود النص?
فإن جمهور الفقهاء يرى أن الخمر لغة هي ما خامر العقل فخمره? أي ستره? وبذلك تكون الخمر كل ما يحجب العقل ويستره. وروي في ذلك عن النبي كل مسكر حرام أي كل ما خامر العقل وسيره فهو حرام. ويرى رأي آخر أن الخمر لا تطلق إلا على النييء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزيد? وإن الخمر الواردة في الآية القرآنية هو هذا النوع لا غير. أما ما عداه فإنه لا يعتبر خمراً? ولكنه إن أسكر يستحق عقوبة الخمر قياساً عليها? أي أنه ليس مما يؤمر باجتنابه لذاته ولكن لما يأدي إليه من إسكار. وأضاف هذا الرأي أن ثمة أنبذة تؤخذ من المطعومات الحلال التي لم تكن معتادة للإسكار عند العرب وليس من شأنها الإسكار ابتداء? مثل: نبيذ الحنطة والشعير والذرة والعسل والتين وقصب السكر? وهذه - في تقدير الرأي - لا حدّ فيها? لأن الأصل فيها الحل? والسكر طارئ عليها? فلا عبرة بالطارئ وإنما العبرة بالأصل وحده (أصول الشريعة? العشماوي? ص 106). وهذا الرأي الذي ذكره العشماوي له مؤيدين آخرين من الفقهاء فقد ذكر ابن عبد ربه رأي بعضهم في الخمر فقال: إنما حرمت الخمر بعينها? خمر العنب خاصة? بالكتاب? وهي معقولة ومفهومة لايمتري فيها أحد من المسلمين? وإنما حرمها الله تعبداً? لا لعلة الإسكار كما ذكرتم? ولا لأنها رجس كما زعمتم? ولو كان ذلك لما أحلها للأنبياء المتقدمين? والأمم السالفين? ولا شربها نوح بعد خروجه من السفينة? ولا عيسى ليلة رُفع? ولا شربها أصحاب محمد في صدر الإسلام (العقد الفريد? 8:72).
القارئ للتاريخ العربي قبل الإسلام لابد وأن يلاحظ تلك البدايات الأولى للشورى التي نشأت على يد كعب بن لؤي جد النبي البعيد? فكعب - كما تذكر كتب التاريخ الإسلامي - هو أول من جمع العرب في يوم الجمعة وكان يسمى قبله العروبة ? ولم يكن هذا الإجتماع في يوم الجمعة يحمل الكثير من مواصفات الحكومة القبلية? ولكنه كان تتويجاً لما صنعه قُصَي - جد كعب - من قبل ? فيذكر البغدادي ما كان من أمر مجتمعات قريش وأنهم ما كانوا يفعلون شيئاً في سلم أو حرب إلا بعد أن يجتمع أهل الحل والعقد في محل مخصوص ? وما يستقر عليه رأيهم يُعمل به ولا يستطيع أحد التخلف عنه? وقد كان أكثر اجتماعهم في دارقُصَي بن كلاب - دار الندوة - فما يتزوج رجل أو امرأة من قريش? ولا يتشاورون في أمر نزل بهم? ولا يعقدون لواء حرب إلا فيها (بلوغ الأرب? البغدادي 1:272). ونتيجة للمقدمات كانت نهاية الأمر? فقد حدثت بضعة مواقف قبل بعث النبي بفترة وجيزة تبلورت فيها صورة الحكومة العربية المركزية كما لم تتبلور من قبل. وأول هذه المواقف هو ما يرويه ابن هشام من أن قُصَي لما كبر ورقّ عظمه? وكان عبد الدار بكره? وكان عبد مناف وعبد العُزى وعبد شمس قد شرفوا في زمن أبيهم? قال قُصَي لعبد الدار : اما والله يا بُني لألحقنك بالقوم? وإن كانوا قد شرفوا عليك : لا يدخل رجل منهم الكعبة? حتى تكون أنت تفتحها له? ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك? ولايشرب بمكة إلا من سقيانك? ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاماً إلا من طعامك? ولا تقطع قريش أمراً من أمورها إلا في دارك? فأعطاه دار الندوة? التي لا تقضي قريش أمراً من أمورها إلا فيها? وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة ... ثم ان قُصَي بن كلاب هلك فأقام أمره في قومه وفي غيرهم ... ثم أن بني عبد مناف بن قُصَي : عبد شمس وهاشماً والمطلب ونوفلاً أجمعوا على أن يأخذوا من أيدي بني عبد الدار بن قُصَي ما كان لهم من السقاية والرفادة والحجابة واللواء? ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم فتفرقت عند ذلك قريش? فكانت طائفة مع بني عبد مناف على رأيهم? يرون أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم? وكانت طائفة مع بني عبد الدار? يرون أن لايُنزع منهم ما كان قُصَي جعله إليهم ? وعقدت كل طائفة حلفاً على ألا يتخاذلوا? ولا يُسلم بعضهم بعضاً? فكان حلف المطيبين يضم بني عبد مناف وأحلافهم? وحلف الأحلاف يضم بني عبد الدار وأحلافهم? وعُبئت القبائل لبعضها ثم قالوا : لتفنِ كل قبيلة من أُسند اليها . وكان من الممكن أن تكون هذه بداية لحرب ضروس لا تُبقي ولا تذر? فالقوم قد جمعوا لها وتكفلت كل قبيلة بأن تفني من أمامها من الحلف الأخر? إن الموقف - حتى هذه اللحظة - يعيد للأذهان صورة داحس والغبراء? وإن كان أكثر عنفاً? فالحرب هذه المرّة لها سبب قوي - حُكم مكة - والمتحاربون هم سادة مكة - بنو قُصَي بن كلاب - لقد كانت الحرب الوشيكة الوقوع كافية لإنهاء حلم قُصَي بالإمبراطورية العربية? لكن إرادة آخرى فوق إرادة الجميع لم تشأ لهذه الحرب أن تندلع? فيقول ابن هشام: فبينما الناس على ذلك قد جمعوا للحرب إذ تداعوا إلى الصلح? على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة? وتكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار كما كانت? وتحاجز الناس عن الحرب? وثبت كل قوم مع من حالفوا. فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الإسلام? فقال رسول الله: ما كان من حلف في الجاهلية? فإن الإسلام لم يزده إلا شدة (السيرة النبوية? بن هشام? 1:92 وما بعدها).
كانت هذه أول خطوة صحيحة على طريق الإمبراطورية العربية? فبني عبد مناف قد أدركوا استحالة انتزاع كل المآثر من أيدي بني عبد الدار? والآخرون أدركوا استحالة الحفاظ عليها دون إراقة الكثير من الدماء? وما هي إلا فترة وجيزة حتى كان بنو عبد مناف يضعون أيديهم على دار الندوة - بصورة أو بأخرى - وبذلك لم يبق لبني عبد الدار شئ سوى وظيفتين شرفيتين وهما : الحجابة واللواء.
أما الموقف الثاني فهو حلف الفضول? وكان أول من دعا له هو الزبير بن عبد المطلب? وسبب ذلك كما يذكر ابن كثير أن رجلاً من زَبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل فحبس عنه حقه? فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف? عبد الدار ومخزوم وجمح وسهم وعدي بن كعب? فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وانتهروا الزبيدي? فلما رأى الشر أَوفى على أبي قُبيس? جبل بمكة? عند طلوع الشمس? وقريش في أنديتهم حول الكعبة? فنادى بأعلى صوته :
يا آل فهر لمظلوم بضاعته -- 2ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عُمرته -- ياللرجال وبين الحِجر والحَجر
إن الحرام لمن تمَّت كرامته -- ولا حرام لثوب الفاجر الغَدِر
فقام الزبير بن عبد المطلب وقال : ما لهذا مَتْرك. فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مُرَّة في دار عبد الله بن جُدعان فصنع لهم طعاماً? وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام? فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكوننّ يداً واحدةً مع المظلوم على الظالم حتى يؤدّى إليه حقه ما بل بحرٌ صوفةً? وما رسى ثبيرٌ وحراء مكانهما? وعلى التآسي في المعاش. فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول? وقالوا : لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر. ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه (السيرة النبوية? ابن كثير? 1:259). وقد حضر النبي هذا الحلف فيه يقول ما أحب أن لي بحلف حضرته بدار عبد الله بن جدعان حُمر النَّعم وأنّى أغدر به? هاشم وزُهرة وتيم تحالفوا مع المظلوم ما بل بحر صوفةً? ولو دُعيت به لأجبت وهو حلف الفضول (طبقات ابن سعد? 1:129)? صوف البحر هو: شيء على شكل الصوف الحيواني? وواحدته صوفة? اللسان صوف ).
لقد كان هذان الموقفان من أهم المواقف التي توضح مراحل نمو الدولة الوليدة? فالتنازع بين بني عبد الدار وبني عبد مناف? هو نزاع حول سيادة مكة وحكمها? والحلفان اللذان عقدا يؤكدان قوة بني عبد مناف? فقد استطاعوا انتزاع أهم السلطات الفعلية من إخوتهم والسير بالأمر في الطريق الذي يريدونه. وقد استطاع هاشم بن عبد مناف استثمار هذه الأحلاف في صالح بنيه? فما هي إلا سنوات حتى وضع يديه على دار الندوة مقر الحكومة? وإن بقيت ملكيتها لبني عبد الدار? وتمكن فيما بعد من عقد عدة اتفاقيات مع القبائل التي تقع في طرق التجارة بين مكة والشام? وبهذه الاتفاقيات مكّن أهل مكة من الذهاب إلى الشام واليمن للتجارة? ولم يقتصر الأمر على التجارة فقط بل تعداها إلى حدوث حالة من المزج الثقافي بين ما كان شائعاً في الشام وما كان موجوداً في الجزيرة? فبعد هذه الرحلات أصبح من الطبيعي ظهور جماعة الحنفاء - أو بالأحرى تأكيد وجودها - وارتفاع صوت المنكرين لعبادة الأوثان والذبح لها? وأصبح من الطبيعي أن تتردد مجموعة من المصطلحات الغير عربية الأصل والتي تتعلق بكنه ونظام العبادة في اليمن والشام حتى لُقب عثمان بن الحويرث بالبطريق. وكنتيجة طبيعية لازدهار التجارة ازدهرت الحركة الثقافية وأصبح سوق عُكاظ يمثل أكثر من مجرد منتدى تتفاخر فيه العرب بمآثر الآباء? بل صار أشبه بمنتدى لعرض الأفكار المختلفة والدعوة إليها. ويأتي الموقف الثاني الذي نرى أنه محاولة من سادة القبائل في قريش لإرساء شكل من أشكال الحكومة البدائية التي تحاول الأخذ بيد المظلوم وإقامة العدل.
لقد كان أهل مكة على الطريق الصحيح لتشكيل حكومة قوية? وهو ما حدث فيما بعد على يد النبي محمد بن عبد الله? فقد بدأ قُصي بأهم جانب وهو جمع أهل مكة في مكان واحد وهذا أدى إلى شعورهم بالاستقرار لأول مرّة في تاريخهم الطويل? ثم بعد ذلك تبعه حفيده هاشم بإرساء شبكة من العلاقات مع القبائل والدول المجاورة لتمكينهم من تحسين أوضاعهم الاقتصادية.
فكل هذه المواقف كانت تمهد بشكل أو بآخر لقيام الإمبراطورية العربية? ولكن كان هناك مانعاً قوياً بالنسبة للمكيين? وهو رأي العرب في أنهم قوم لقاح لا يدينون لملك? ولذلك كان من المستحيل على أي شخص أن ينفرد بحكومة مكة? اللهم إلا إذا كانت هذه الحكومة آتية بأمر من لا يملك القوم رداً لأمره? ولعل ما يؤيد ما ذهبتُ إليه قول النبي لعمه عبد المطلب يا عم? إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها? تدين لهم بها العرب? وتؤدي إليهم بها العجم الجزية (تاريخ الطبري? 2:325).
وبالفعل دانت لقريش العرب بهذه الكلمة? وتحولت قريش من قبيلة ضمن قبائل العرب إلى حكام للجزيرة العربية كلها? وعرفت الجزيرة نظام الحكومة? وإن كانت غير محددة الملامح? المستقرة القادرة على هزيمة الفرس والروم وإخضاع أجزاء كثيرة من المملكتين لسلطانها في فترة وجيزة? واستقر نظام الخلافة في الجزيرة منذ وفاة النبي وحتى نهاية عصر الراشدين? وعرفت الجزيرة معنى الشورى كما لم تعرفه من قبل. ولكي تتضح الأمور لابد لنا من الإجابة على سؤال يحتاج منا إلى محاولة للإجابة عليه? وهو هل كان نظام الخلافة والشورى في الإسلام نتيجة لنصوص مقدسة? أم إنه كان مجرد نتيجة للموروث الثقافي للمسلمين في صدر الإسلام? إن الواقع التاريخي يؤكد أنه ليس هناك شكل محدد للحكومة الإسلامية بدءاً من أبي بكر الصديق وحتى نهاية الدولة العثمانية. بالإضافة إلى أن النصوص الواردة بشأن الخلافة? والتي تُنسب للنبي لا تُوضح الأمر? بل على العكس تزيده إبهاماً.
أما من حيث الواقع التاريخي فلم يكن هناك شكل أو مفهوم محدد للخلافة? فتولية أبي بكر تمت من خلال بيعة مباشرة في سقيفة بني ساعدة. وقد روى عمر بن الخطاب ملابسات هذه البيعة فقال: قد بلغني أن فلاناً منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلاناً فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وتمَّت? ألا وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها? وليس فيكم اليوم من تُقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر? وإنه كان من خيرنا حين تُوفى رسول الله? وإن علياً والزبير ومَنْ معهما تخلَّفوا في بيت فاطمة? وتخلّفت الأنصار عنّا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة? واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له : يا أبا بكر? انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار . فانطلقنا نؤمّهم حيث لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع القوم? فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين? قلت: نريد إخواننا من الأنصار فقالا: عليكم ألا تقربوهم? واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين فقلت: والله لنأتينَّهم فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة? فإذا هم مجتمعون? وإذا بين ظهرانيهم رجل مُزَّمِّل فقلت: من هذا? قالوا: سعد بن عبادة فقلت: ما له? قالوا: وَجِع فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله? وقال: أما بعد? فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام? وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا? وقد دفَّتْ دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا وتحضنونا من الأمر - أي الخلافة - فلما سَكَت أردت أن أتكلم وقد كنت قد زَوَّرْتُ مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر? وقد كنت أداري منه بعض الحد? وهو كان أحلم مني وأوقر? فقال أبو بكر: على رِسْلِكَ فكرهت أن أغضبه? وكان أعلم مني? والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قال في بداهته مثلها وأفضل منها حتى سكت? فقال: أما بعد فما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله? ولم تعرف هذا الأمر إلا هذا الحي من قريش? هم أوسط العرب نسباً وداراً? وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين? فبايعوا أيهما شئتم . فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح? وهو جالس بيننا? فلم أكره مما قال غيرها? وكان والله أن أقَدَّمَ فتتضرب عنقي لا يقربني ذلك أحبُّ إلي من أن أتأمر على قومٍ فيهم أبو بكر. فقال قائل من الأنصار: أنا جُذيلها المحكَّك وعُذيقها المرجب? ( أي قد جَرَّبَتني الأمور ولي رأيٌ وعلمٌيُشتفى بهما? اللسان? جذل) منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش . وكثر اللغط? وارتفعت الأصوات? حتى خشيت الاختلاف? فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده? فبايعته وبايعه المهاجرون? ثم بايعه الأنصار? أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أوفق من مبايعة أبي بكر? خشينا إن فارقنا القوم? ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة? فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى? وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد (تاريخ الخلفاء? السيوطي? 78? 79).
هذا الحديث من أطول وأوضح الأحاديث التي وردت في مسألة الخلافة? وقد رويته كاملاً? مع طوله? لعدة أسباب منها:
1 - ورود هذا الحديث في صحيحي البخاري ومسلم? وهما أصح كتب الحديث بإجماع العلماء.
2 - راوي الحديث: هو عمر بن الخطاب? ثاني الخلفاء? وهو الذي قال فيه النبي: بينما أنا نائم أُتيت بقدح لبن? فشربت حتى أنِّي لأرى الرَّيَّ يخرج من أظفاري. ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله? قال: العلم (اللؤلؤ والمرجان 3:126).
3 - وقت رواية هذا الحديث: هو يوم موت النبي وهو مُسجى في البيت لم يدفن بعد.
4 - موضوع الحديث: هو مبايعة أول حاكم للمسلمين بعد موت النبي بما يحويه ذلك من أهمية كبيرة للدولة الوليدة.
5 - المتواجدون: في هذا الموقف هم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وغيرهم من كبار المهاجرين? وسعد بن عبادة وغيره من كبار الأنصار.
6 - الغائبون عن هذا الحدث: الزبير بن العوام حواري الرسول وعلي بن أبي طالب باب مدينة العلم وغيرهم من كبار الصحابة.
7 - النتيجة: مبايعة أبي بكر الصديق.
من المؤكد أن كل هذه الأحداث تستحق التأمل الشديد? ولكن أهم ما في الأمر هو نص هذا الحديث ذاته? فهذا النص? لوضوحه الشديد? أثار عدة تساؤلات عند المستشار سعيد العشماوي فيقول: لم يحدث في الجدل الذي حدث في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والأنصار? أن لجأوا إلى آيات من القرآن الكريم أو الحديث النبوي بشأن الأمر? أو الحكم? وإنما كان الجدال بينهم يدور حول الأمر وهو اللفظ الذي يعني سياسة أمور الناس? ولا يتعلق بشؤون الدين. وكان الاقتراح المقدم من أحد الأنصار أن يكون منهم أمير? رئيس مدني? ومن المهاجرين أمير? رئيس مدني آخر. وهو نظام يشبه? أو يستعير? نظام تعيين قنصلين في روما? في بعض الفترات? وا قترح أبو بكر أن يكون من قريش الأمراء? ومن الأنصار الوزراء. فالصراع كان يدور حول الأمر? وعمن يكون الأمير? ولم يتعرض أحد أبداً بكلمة واحدة للدين أو الشريعة. وخلال الصراع الحاد? وتلك الفترة الحرجة? لم يحتج أحد من المهاجرين بحديث الأئمة من قريش ? وهو الحديث الذي صار بعد ذلك من أسس الفكر الإسلامي وأحد عمد فقه الخلافة الإسلامية? مع أن تلك الفترة الحرجة وذاك الصراع الحاد كانا المناسبة الهامة? وربما الوحيدة? التي كان ينبغي أن يوضع فيها الحديث أمام الناس. فهذا الحديث لو كان ظهر آنذاك? لكان قد حسم الخلاف من أصله وأنهاه قبل أن يبدأ? ولم يجعل من خلافة أبي بكر فلتة (الخلافة الإسلامية? المستشار العشماوي? ص96).
إن أغرب ما في موضوع الخلافة? في ظل وجود حادث السقيفة? هو وجود عدة أحاديث في هذا الموضوع جُعلت عماد ما يُسمى بفقه الخلافة? وهذه الأحاديث إذا نُوقشت تاريخياً (بغض النظر عن درجة صحتها) فسوف تضعنا في موقف صعب? حيث أنه في معظم فترات التاريخ الإسلامي لم يُطبق من هذه الأحاديث حرفٌ واحدٌ. أما إذا نُقشت من حيث المتن والسند.. فهذا أمرٌ آخر. ولكي تتضح أمامنا الصورة قليلاً? فلنقرأ بعض الأحاديث التي وردت في هذا الشأن.
أول هذه الأحاديث هو ما يرويه البخاري عن محمد بن جبير: أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش? أن عبد الله بن عمر يُحدث أنه سيكون مَلِكٌ من قحطان? فغضب? معاوية? فقام فأثنى على الله بما هو أهله? ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله? وأولئك جُهَّالكم? فإياكم والأماني التي تُضل أهلها? فإني سمعت رسول الله يقول: إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين . ويروي البخاري هذا الحديث بصيغة أخرى عن ابن عمر? لاحظ أن ابن عمر هو من اعترض عليه معاوية في الحديث السابق? لأنه يقول بإمارة غير القرشي? قال: قال رسول الله: لا يزال الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان (البخاري? 9:78). واضح أنه ليس من السهل تفسير الحديث السابق في ظل وجود حادث السقيفة? وهل كل من كانوا في السقيفة وقتها يجهلون هذا الحديث وهم من هم? ثم كيف تتفق محاولة أبي بكر أخذ البيعة لعمر أو لأبي عبيدة مع وجود حديث عن عائشة تقول فيه: قال لي رسول الله في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك? وأخاك? حتى أكتب كتاباً? فإني أخاف أن يتمنَّى متمنٍّ ويقول أنا أولى? ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر (مسلم? بشرح النووي? 5:248). ثم إذا كانت كل هذه الأحاديث التي وردت في خلافة أبي بكر صحيحة? فكيف تتفق مع ما رواه ابن سعد في طبقاته عن فاطمة قالت: لما تُوفى رسول الله قال العباس: يا علي قم حتى أُبايعك ومن حضر? فإن هذا الأمر إذا كان لم يرد مثله? والأمر في أيدينا فقال علي: وأحدٌ? يعني يطمع فيه غيرنا? فقال العباس: أظن والله سيكون! فلما بويع لأبي بكر ورجعوا إلى المسجد? فسمع علي التكبير فقال: ما هذا? فقال العباس: هذا ما دعوتك إليه فأبيت عليّ! فقال علي: أيكون هذا? فقال العباس: ما رُدّ مثل هذا قط! فقال عمر: قد خرج أبو بكر من عند النبي حين تُفيّ وتخلف عنده علي والعباس والزبير? فذلك حين قال العباس هذه المقالة (طبقات ابن سعد? 2:246). فهذا الحديث وعشرات غيره تؤكد أن الخلافة من حق علي دون غيره? كما نذكر مثلاً لاحصراً:
1 - عن جابر قال: قال النبي وهو أخذ بضبع علي? الضبع ما بين الإبط إلى نصف العضد? هذا إمام البررة? قاتل الفجرة? منصور من نصره? مخذول من خذله (المستدرك 3:129).
2 - عن ابن عباس قال: قال رسول الله لعلي: أنت ولي كل مؤمن بعدي (المراجعات? عبد الحسين الموسوي ـ173),
3 - عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى? إلا أنه لا نبي بعدي (المشكاة? حديث رقم 6078).
4 - عن زيد بن أرقم? أن رسول الله لما نزل بغدير خُمّ أخذ بيد عليِّ فقال: أَلستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم? قالوا: بلى? قال: أَلستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا: بلى? قال: اللهمَّ من كنت مولاه فعلي مولاه? اللهم والِ من والاه? وعادِ من عاداه فلقيه عمر بعد ذلك فقال هنيئاً يا ابن أبي طالب! أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة (المشكاة? حديث رقم 6094).
كل ما سبق من أحاديث? وغيرها كثير? تؤكد أمراً واحداً? هو أن علي أحق الناس بالخلافة بعد النبي. وقد يقول قائل: إن علي إنما ترك الخلافة تواضعاً? فنجيبه بما قاله علي نفسه? وأوردناه سلفاً? في جوابه للعباس وأحدٌ? يعني يطمع فيها غيرنا .
إذن فعلي لم يكن راغباً عن الخلافة? بل كان راغباً فيها? وبالرغم من هذه الرغبة في الخلافة فإنه لم يحتج بأي من هذه الأحاديث لإثبات حقه الذي تركه له النبي. ولو افترضنا أنه لم يرد أن يُحدث فتنة بعد بيعة الصديق? فلماذا لم يتكلم بعد موت أبي بكر? أو حتى بعد موت عمر?
لم تمضِ على وفاة النبي أكثر من خمس وعشرين سنة حتى بدأت الآراء المختلفة تظهر? والعصبيات القبلية القديمة تسود? وكانت الفتنة الكبرى والتي راح ضحيتها كثير من المسلمين وعلى رأسهم عثمان بن عفان? بأيدي إخوانهم المسلمين? وكما شُرع وقتها قتال أهل القبلة بالسلاح? دون تكفيرهم? فقد ظهرت وسائل أخرى أمضى من كل السيوف التي رُفعت في الحرب? ألا وهي التوثيق الديني للآراء السياسية. ولتأكيد الآراء بدأ كل فريق ينسب ما قاله للنبي, ويقول الأستاذ محمود أبو ريّة: وقد أجمع الباحثون والعلماء المحققون على أن نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث على رسول الله إنما كان في أواخر عهد عثمان وبعد الفتنة التي أودت بحياته? ثم اشتد الاختراع واستفاض بعد مبايعة علي? فإنه ما كاد المسلمون يبايعونه بيعة صحيحة حتى ذر قرن الشيطان الأموي ليغتصب الخلافة من أصحابها ويجعلها حكماً أموياً (أضواء على السنة المحمدية? محمود أبو ريّة? ص91). ولم تكن الأسباب السياسية هي فقط الدافع لوضع الحديث النبوي? بل كان هناك أيضاً المكاسب المادية? والعصبية القبلية? بل إن البعض وضع الحديث على النبي ظناً منهم أن هذا في صالح الإسلام? وهذا مثل ما يروى عن أبي عمار المروزي: قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي: من أين لك عن عكرمة? عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة شئ منه? فقال: إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن اسحاق? فوضعت هذا الحديث حسبة ? وكان من هؤلاء الوضاع من يظن أن هذا جائز في الشرع لأنه كذب للنبي لا علي (الآثار المرفوعة? اللكنوي? ص 14). وأما من جهة المكاسب المادية فيروى أن غياث بن إبراهيم قال للمهدي حين رآه يلعب بالحمام: أن النبي قال: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح فزاد فيه جناح? فأعطاه المهدي عشرة آلاف درهم? وأمر بذبح الحمام وقال: أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول الله (السنة قبل التدوين? محمد عجاج الخطيب? ص 217). وقد تُزال دهشتنا? أو تزيد? حينما نعرف أن البخاري قال: أحفظ مائتي ألف حديث صحيح? ومائتي ألف حديث غير صحيح . ومسلم قال: أخرجت المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة ? ثم نجد أن ما أخرجاه في الصحيحين معاً حوالي عشرة آلاف حديث (شروط الأئمة? ابن طاهر المقدسي? ص 19). وهذا يعني أن هناك آلاف الأحاديث غير الصحيحة يرددها بعض الناس وهي تملأ بطون الكتب? وهذه الأحاديث لها رواتها والمولعين بها حيث أنها غالباً ما تحوي كل عجيب وغريب. أما الوضع في الحديث النبوي لأسباب سياسية مثل التشيع لعلي أو لمعاوية فكثير? بل إن البعض كان يضع الحديث لمجرد إستحسانه لرأي ما? مثل ما قاله حماد بن سلمة: حدثني شيخ من الرافضة قال كنا إذا اجتمعنا استحسنا شيئاً جعلناه حديثاً (الموضوعات? ابن الجوزي? 1:39). ويحدد الأستاذ عبد الرحمان عثمان في مقدمة كتاب الموضوعات لإبن الجوزي بعض الأسباب التي ساعدت على انتشار الوضع في الحديث فيقول: مات الرسول الكريم? وكان عدد من بقي بعد موته من أصحابه الذين رأوا وسمعوا منه? زهاء مائة ألف أو يزيدون? سمع منهم من التابعين وتابعي التابعين من لا يحصى كثرة.. من مختلف الأجناس وفي مختلف البقاع? وفي غمرة هذه الكثرة? وافتقاد ضابط الصحة للرواية? في الزمان والمكان? غافل الكذابون الناس ووضعوا ما شاءوا? وتعذر بل استحال حصر ما وضعوه. وانتهز الكذابون فرصة كثرة ما رواه أمثال أبي هريرة من الأحاديث الصحيحة عن النبي? بلغ ما رواه أبو هريرة عن النبي 5374 حديثاً? فوضعوا من الأحاديث المكذوبة شيئاً كثيراً ونسبوه للنبي زوراً عن طريق أبي هريرة? ليتوه كثيرهم المكذوب في كثيره الصحيح? وليشق تمييز صحيحه من سقيمهم..وقد كان (الموضوعات? ابن الجوزي? المقدمة? ص7).
إن السبب الواضح لكل هذا الكم من الأحاديث هو كيفية جمعها.ففي بداية الإسلام وقبل موت النبي لم يكن هناك من يقوم بكتابة الحديث النبوي? لأن النبي قال: لا تكتبوا عني? ومن كتب عني غير القرآن شيئاً فليمحه (مسلم بشرح النووي 5:847). وكما لم يقم أحد في عهد النبي بكتابة الأحاديث? كذلك لم يعن أحد بكتابتها في عهد الخلفاء الراشدين? وظل أمر جمع وكتابة الحديث لايتعدى محاولات فردية من بعض الفقهاء والمفسرين مثل: الزهري ومالك بن أنس? وحماد بن دينار? وسفيان الثوري? والليث بن سعد? وكان كل هؤلاء في فترة واحدة تقريباً وهي منتصف القرن الثاني الهجري? وكانت معظم كتبهم مقسمة لضعيف وصحيح? على حسب درجاته? وكان كل منهم يأخذ برأيه فقط في رجاله? فربما صح عند أحدهم ما هو ضعيف عند آخر. ولذلك قد نجد في بعض ما يرويه هؤلاء ما هو مردود أو ضعيف لا يحتج به. وبدخول القرن الثالث الهجري بدأ بعض أهل الحديث في العناية بتدوين وتدقيق الحديث? حتى وصلوا به إلى الصورة التي عليها كتب الحديث اليوم (أحاديث الرسول? عبد المنعم النمر? ص 72 وما بعدها).
وكما نرى فأول بداية حقيقية لجمع وتدوين الأحاديث كانت في منتصف القرن الثالث الهجري? أي بعد حوالي 240 سنة من وفاة النبي? وهذه الفترة حفلت بالكثير من أنواع البدع التي ظهرت في بداية ظهور الإسلام? فقد ظهر في هذه الفترة: الخوارج? والشيعة? والمرجئة.. وغيرهم كثير من الطوائف الإسلامية. والنتيجة الطبيعية أن نرى في موضوع الخلافة قدراً كبيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة? بل قد نجد بعضاً من هذه الأحاديث صحيحة سنداً ولكنها تخالف ما جاء في القرآن أو الأحاديث الصحيحة مثل ما رواه الترمذي عن زياد بن كُسيب? قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب? وعليه ثياب رِقاق. فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفُساق . فقال أبو بكرة: أسكت? سمعت رسول الله يقول: من أهان سُلطان الله في الأرض أهانه الله (المشكاة? حديث رقم 3695). وعن أبي هريرة? قال: قال رسول الله: من أطاعني? فقد أطاع الله. ومن عصاني? فقد عصى الله. ومن أطاع الإمام? فقد أطاعني. ومن عصى الإمام? فقد عصاني (سنن ابن ماجة? حديث رقم 2859). والملاحظ على هذه الأحاديث أنها اللبنات الأولى التي وضعت في تقرير فكرة الحكم بالحق الإلهي وهي الفكرة التي لاقت رواجاً طوال فترة الحكم الأموي والعباسي? وهي الفكرة التي لانجد لها سنداً في كتاب ولا سنة. وعن معاوية? قال: قال رسول الله: يا معاوية إن وليت أمراً فاتق الله واعدل (المشكاة? حديث رقم 3715). وعن عبد الرحمان بن أبي عميرة? عن النبي أنه قال لمعاوية: اللهم اجعله هادياً مهدياً? واهد به (المشكاة? حديث رقم 6235). عن جابر بن سمرة? قال: سمعت رسول الله يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثنى عشر خليفةً? كلهم من قريش . وفي رواية: لا يزال أمر النَّاس ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلهم من قريش . وفي رواية: لايزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة? أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (مشكاة المصابيح? 3:1688? حديث رقم 5974). فهذه الأحاديث رغم صحتها إلا أنها تتعارض مع نصوص أخرى صحيحة مثل ما رواه البخاري عن أنس أن رسول الله قال: أسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة (المشكاة? حديث رقم 3663). إن وضوح وتعارض الرؤية السياسية في الأحاديث السابقة لأمر يبعث على التساؤل حول مدى صحة هذه الأحاديث. إنني أعتقد أن الصواب قد جانب بعض المتفقهين وهم يحاولون التوفيق بين كل هذه الأحاديث فقد وجدوا أنهم مضطرون إلى تحميل الأحاديث ما لا تحتمله? مثل قولهم في حديث أسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة قال بن بطال عن المهلب: لا تجب الطاعة للعبد إلا إذا كان المستعمل له إماماً قرشياً? لأن الإمامة لا تكون إلا في قريش (نيل الأوطار? للشوكاني? 8:266). لقد تولى الخلافة الكثير من الحكام الذين ينتمون لقريش? فهل كان الإسلام عزيزاً في ظل حكمهم? وبنفس الأسلوب يحاول البعض أن يوفق بين كل ما يُروى من الأحاديث.
و بالرغم من أن صحة سند وتسلسل رواة هذه الأحاديث? إلا أن هذا لا يعني بالضرورة صحة المتن. لقد أنصف الإمام الغزالي الحديث بحق في كتابه السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث فقال فيه: ألم تر إلى ابن حجر على صدارته في علوم السنة قوَّى حديث الغرانيق? وأعطاه إشارة خضراء? فمر بين الناس يفسد الدين والدنيا...وفي هذه الأيام صدر تصحيح من الشيخ الألباني لحديث لحم البقر داء وكل متدبر للقرآن يدرك أن الحديث لا قيمة له? مهما كان سنده ويقول: عيب بعض الذين يشتغلون بالحديث قصورهم في تدبر القرآن وفقه أحكامه فلم الغرور مع هذا القصور? ولماذا يستكثرون على غيرهم من رجال الفكر الإسلامي الرحب أن يكتشفوا علة هنا أو شذوذاً هناك? (السنة النبوية ص 20 و21).
لعل الأمر اتضح الآن أمامنا. إن من ينادون بالتطبيق الفوري للشريعة ويدعون أنها موجودة في بطون الكتب لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة هذه الكتب? ولو هم فعلوا لأراحوا واستراحوا? فلعلهم يعلمون? إن هم أرادوا? إن الأمر كان محض ملك وسياسة أُلبست عباءة الدين? وادعى أصحابها أنهم حكام بأمر الله وأنهم ظل الله في أرضه. وفي هذه الأيام عادت الدعوة من جديد للحكم بالحق الإلهي? وهي دعوة ظاهرها الرحمة وباطنها الخلافة العباسية? فالذين يريدون هذا الشكل من الحكم لا يريدون حكم الإسلام? بل يريدون حكم الإسلام كما يفهمونه هم. وينسى هؤلاء أو يتناسون أن هناك دائماً وجه النظر الأخرى والاجتهاد الآخر. إنهم يقررون تكفير من يحدد عقوبة أخرى غير التي وردت في كتب الفقه. أما وجه النظر الآخرى هنا فهي ليست لأحد الذين يمكن أن يتهموا بالعمالة والخيانة? بل هي للخليفة العادل عمر بن الخطاب? فعمر لم يعطل الحد عام الرمادة فقط? بل إنه قام بإلغاء سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاه? وهو ثابت بنص قرآني لم يُنسخ (الإجتهاد? عبد المنعم النمر ص 93 وما بعدها). والسؤال: هل ما فعله عمر? وحجته في ذلك? كافيان لإقناع هؤلاء بوجود اجتهاد آخر مع وجود نص أم لا? إن الأمر الغائب عن هؤلاء هو وجود نصوص مرتبطة بواقع البيئة والزمن الذي قيلت فيه? وإن كل الأوامر والنواهي ليست واجبة التنفيذ? يحسن بنا أن نفسر ما نقصده هنا قبل أن نتهم بالكفر والمروق من الدين? إن هناك كثيراً من الأخبار الصحيحة الثابتة عن النبي ليست ملزمة التطبيق? مثل ما يرويه البخاري عن أبي هريرة قال: إن رسول الله قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كلَّه ثم ليطرحه? فإن في أحد جناحيه شفاء والآخر داء (البخاري? 4:158). فهذا الحديث رغم صحته? إلا أن هناك كثيراً من العلماء من رفضه جملة وتفصيلاً? فقد أثبت العلم الحديث أن الذباب كله أضرار? وهذا مما لايشك فيه عاقل? ورفض هذا الحديث تنزيهاً للنبي أن يقرر مثل هذا الكلام. وهناك حديث آخر أثبت صحته بعض رجال الحديث? وهو ما رواه إبن ماجة في باب الديات عن أبي جُحفة? قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم شئ من العلم ليس عند الناس? قال: لا. والله ما عندنا إلا ما عند الناس. إلا أن يرزق الله رجلاً فهماً في القرآن. أو ما في هذه الصحيفة? فيها الديات عن رسول الله? وأن لا يقتل مسلم بكافر (إبن ماجة 2:887? حديث رقم 2658). الحديث قد صححه أكثر من واحد من رجال الحديث? ورفضه أكثر من واحد من رجال الفقه? وقال فيه الغزالي: إن المتن معلول بمخالفته للنص القرآني النفس بالنفس (السنة النبوية ص 25).
هذا ما قصدناه من أن هناك أحاديث غير واجبة التنفيذ وإن صحّت سنداً? فهل اتضحت الرؤية? أم أننا ما زلنا ندفن رؤسنا في الرمال. معتبرين أن فهمنا للإسلام هو الإسلام? وأن من يخالفنا الرآي إما كافر أو مخدوع! إن مشكلتنا القديمة التي ما توشك أن تختفي إلا لتظهر من جديد هي: أننا لا نعرف كيف نختلف? فضلاً عن أن نتفق? ففي هذا الزمن لا نكاد نعرف أن هناك شيئاً ما يسمى الرأي الآخر? فمن يختلف معنا في الدين ..كافر. ومن يختلف معنا في تفسير الدين..كافر. ومن يختلف معنا في وجهة النظر السياسية..عميل. لقد صرنا لا ننظر إلا لأنفسنا? ولا نسمع إلا أصواتنا. ولكن الحمد لله? فهناك بقية من الرجال الذين يعرفون كيف يختلفون وكيف يتفقون. إن من أمتع الجمل التي قرأتها في الفترة الأخيرة هي تلك التي كتبها شيخنا الغزالي في كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث فيقول: إذا استجمع الخبر المروي شروط الصحة المقررة بين العلماء فلا معنى لرفضه? وإذا وقع خلاف محترم في توفر هذه الشروط أصبح في الأمر سعة? وأمكن وجود وجهات نظر شتى? ولا علاقة للخلاف هنا بكفر ولا إيمان? ولا بطاعة ولا عصيان (السنة النبوية ص 34).
ما أجمل هذا الكلام! وما أعقله! إن ما يقرره شيخنا الغزالي هنا? وما نصرخ ليل نهار مطالبين به? هو وجود مساحة للخلاف المنطقي مع كل شئ? إذا ما توفرت وجهه نظر محترمة لهذا الخلاف? حسب تعبير الغزالي. وإذا لم نفعل? فعلى أهلها جنت براقش!
- 1 -
لم يكن ما قرأناه رد فعل ضد ما يحدث اليوم في عالمنا الإسلامي? فغالباً ما يكون رد الفعل عفوياً? لقد قلت في مقدمة الكتاب إن البحث في التاريخ العربي مجهد وشاق? ولكني لم أكن أعلم أنه بهذه المشقة إلا بعد أن أنهيت هذا البحث. ولكن رغم المشقة فإني أرجو أن أكون قد قدَّمت لُبينة في هذا الصرح الذي نحلم جميعنا بشموخه يوماً ما? ألا وهو العقل العربي. لقد اكتشفت? وأرجو أن يكون القارئ قد اكتشف كمّ الغَبن الذي يناله منا تاريخ المنطقة العربية قبل الإسلام? فقلما نجد من يقول بغير تخلف العرب وهمجيتهم? فكم هم الذين ظلمتهم هذه المقولة. إن الذي يقول بعدم تأثير أشخاص كقُصي بن كلاب? وكعب بن لؤي? وأكثم بن صيفي في العرب? إنما يظلم العرب ويظلم? هؤلاء على حد سواء. لقد رأينا في الجزء الأول من هذه الدراسة أن العقلية العربية تشكلت بفضل هؤلاء وأمثالهم? ورأينا أيضاً أن هؤلاء هم واضعو اللبنات الأولى للإمبراطورية العربية? وإن العرب بعدالإسلام لم يتنازلوا عن تراثهم وثقافتهم التي تكونت بفعل عوامل شتى? بل تأثروا بهذه الثقافة في نواح عديدة امتدت عبر التراث الإسلامي بداية من نظرة العرب المنحازة دائماً لقريش - أهل الله - نهاية بنظرتهم للأعاجم مهما كان مركزهم الاجتماعي أو الديني. ولم يكن هذا هو الظلم الوحيد الذي أوقعناه بتراثنا العربي? فهناك ما هو أعظم من هذا? وهو زعم البعض أن العرب قبل الإسلام كانوا عُزلاً من القوانين التي تنظم? أمورهم وإن أول قانون عرفه العرب هو القانون الإسلامي.
- 2 -
هذه دعوة لكل المطالبين بالتطبيق الفوري للشريعة الإسلامية أن يعيدوا قراءة التاريخ العربي قبل الإسلام وبعده بتجرد وحياد? عسى أن يكتشفوا أن الأمر ليس بالبساطة التي صُورت لهم? فقد وجدنا أن الكثير مما يعتبره البعض حدوداً ماهو إلا اجتهاد أشخاص في تفسيرهم للنصوص. وهذا هو عين ما نطلبه أن يكون هناك اجتهاد يناسب معطيات العصر الذي نحياه? فلا يعقل أن يكون العالم من حولنا يفكر في مدى إمكانية وجود صور للحياة على كواكب أخرى? بينما تفكيرنا منحصر في جواز خروج المرأة للعمل أو للدراسة مسافة تزيد عن ثمانين كيلومتراً وإلا لعنتها الملائكة حتى تعود (فتوى للدكتور عمر عبد الكافي في جريدة عقيدتي العدد 42 بتاريخ 14/9/93 الصفحة التاسعة).
إن أشد ما نُكبت به هذه الأمة هو التفسير الديني لوجهات النظر السياسية? فقد بدأ هذا التفسير منذ عهد الفتنة الكبرى وإلى عهدنا هذا. وطوال التاريخ الإسلامي كان المتخالفون يساندون وجهات نظرهم المختلفة بحديث أو قول مأثور? بغض النظر عن درجة صحته? وإن لم يجدوا فلا أسهل من ليّ النصوص لتقوم بالغرض المطلوب? فما من أمر من أمورنا إلا وله فتوى? سواء كان هذا الأمر من أمور الدين أم الدنيا? وكلنا نذكر فتاوى توظيف الأموال التي ملأت الصحف حول الربح الحلال والذي عُرف مصدره فيما بعد.
الكتاب المقدس.
القرآن الكريم.
1 - أسباب النزول? السيوطي? مكتبة نصير? الأزهر? بدون تاريخ.
2 - أحاديث الرسول كيف وصلت إلينا? د.عبد المنعم النمر? دار الكتاب المصري? الطبعة الأولى? 1987م.
3 - اختلاف الحديث? الإمام الشافعي? دار الكتب العلمية? بيروت? الطبعة الأولى? 1986م.
4 - أكثم بن صيفي ومأثوراته? كاظم الظواهري? دار الصابوني? الطبعة الأولى 1991م.
5 - أصول الشريعة? محمد سعيد العشماوي? سينا للنشر? الطبعة الثالثة? 1992م.
6 - أضواء على السنة المحمدية? محمود أبو رية? دار المعارف? الطبعة الخامسة.
7 - الأسطورة والتراث? د.سيد القمني? سينا للنشر? الطبعة الأولى? 1992م.
8 - البداية والنهاية? دار الفكر العربي? الطبعة الثانية? 1387 ه .
9 - بلوغ الأرب? البغدادي? دار الكتب العلمية? بيروت? الطبعة الثانية? بدون تاريخ.
10 - تاريخ الخلفاء? السيوطي? دار القلم بيروت? الطبعة الأولى 1986م.
11 - تاريخ الرسل والملوك? الطبري? دار المعارف? طبعة سادسة? 1967م.
12 - تذكرة الحفاظ? شمس الدين الذهبي? حيدر آباد? 1956م.
13 - تاريخ الفكر المسيحي? القس حنا خضري? دار الثقافة? 1981م.
14 - التشريع الجنائي في الإسلام? عبد القادر عودة? مكتبة دار التراث? بدون تاريخ.
15 - تعريف أهل التقديس بمراتب الموصفين بالتدليس? ابن حجر العسقلاني? دار الكتب العلمية? بيروت? الطبعة الأولى? 1984م.
16 - حياة محمد? محمد حسين هيكل? مكتبة النهضة المصرية? الطبعة التاسعة? 1965م.
17 - ? الحزب الهاشمي? د. سيد القمني? سينا للنشر? الطبعة الأولى? 1990م.
18 - الخلافة الإسلامية? المستشار محمد سعيد العشماوي? سينا للنشر? القاهرة? الطبعة الأولى? 1990م.
19 - دائرة المعارف الإسلامية? مجموعة من المستشرقين? دار الشعب? الطبعة الثانية? 1969م.
20 - دلائل التوثيق المبكر للسنة? د. امتياز أحمد? ترجمة: د. عبد المعطي أمين قلعجي? دار الوفاء للطباعة والنشر? المنصورة? الطبعة الأولى? 1990م.
21 - ديوان الجنايات? دكتور محمد طلبة زايد? مطبعة السنة المحمدية بعابدين? طبعة أولى? 1982م .
22 - الدستور القرآني والسنة النبوية? محمد عزة دروزة? دار إحياء الكتب العربية? بدون تاريخ.
23 - سنن ابن ماجة? دار إحياء الكتب العربية? بدون تاريخ.
24 - سنن الدار مي? دار الفكر? بدون تاريخ.
25 - السيرة النبوية? ابن كثير? دار إحياء التراث العربي? بيروت? 1966م.
26 - السيرة النبوية? ابن هشام? مكتبة أسامة? الأزهر? بدون تاريخ.
27 - السيرة الحلبية? برهان الدين الحلبي? دار المعرفة? بدون تاريخ.
28 - سنن أبي داود? دار الحديث? القاهرة? 1988م.
29 - سنن الدارقطني? وبذيله التعليق المغني? عالم الكتب? بيروت? بدون تاريخ.
30 - السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث? محمد الغزالي? دار الشروق? الطبعة العاشرة? 1992م.
31 - السنة قبل التدوين? محمد عجاج الخطيب? دار الفكر? بيروت? الطبعة الخامسة? 1981م.
32 - شعراء النصرانية قبل الإسلام? لويس شيخو? دار المشرق? بيروت الطبعة الثالثة? 1986م.
33 - صحيح البخاري? دار الشعب? بدون تاريخ.
34 - صحيح مسلم بشرح النووي? دار الشعب? بدون تاريخ.
35 - ضحى الإسلام? أحمد أمين? مكتبة النهضة? الطبعة العاشرة? بدون تاريخ.
36 - ضحى المسيحية? مكتبة المشعل? بيروت? 1957م.
37 - الضعفاء والمتروكون? النسائي? دار الكتب الثقافية? بيروت? الطبعة الأولى? 1985م.
38 - الطبقات الكبرى? محمد بن سعد? دار صادر ـ
39 - علم القانون والفقه الإسلامي? د.سمير عالية? المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع? بيروت? الطبعة الأولى? 1991م.
40 - علم الحديث? ابن تيمية? دار الكتب العلمية? بيروت? الطبعة الأولى? 1985م.
41 - العقد الفريد? ابن عبد ربه? تحقيق: د.عبد المجيد الترحيني? دار الكتب العلمية? بيروت? الطبعة الأولى? 1983م.
42 - فهرس الكتاب المقدس? دار الثقافة? بدون تاريخ.
43 - فهارس الدارقطني? دار المعرفة? بيروت? الطبعة الأولى? 1986م.
44 - الفهرست? ابن النديم? المطبعة الرحمانية بمصر? بدون تاريخ.
45 - في الشعر الجاهلي? د.طه حسين? مطبعة دار الكتب? 1926م.
46 - في أصول النظام الجنائي الإسلامي? د.محمد سليم العوا? دار المعارف? الطبعة الثانية? 1983م.
47 - قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية? خليل عبد الكريم? سينا للنشر? الطبعة الأولى? 1993م.
48 - قواعد الحديث? الغُريفي? دار الأضواء? بيروت? الطبعة الثانية? 1986م.
49 - القتل باسم الدين? مرزا طاهر أحمد? مطبعة الرقيم? إسلام آباد? الشركة الإسلامية للنشر? لندن? الطبعة الأولى? 1990م.
50 - قاموس الكتاب المقدس? دار الثقافة? بدون تاريخ.
51 - اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان? جمع محمد فؤاد عبد الباقي? دار الحديث? القاهرة? 1986م.
52 - لسان العرب? ابن منظور? دار المعارف? بدون تاريخ.
53 - المسيحية والحضارة العربية? جورج قنواتي? دار الثقافة? طبعة ثانية? 1992م.
54 - مشكاة المصابيح? التبريزي? تحقيق الألباني? المكتب الإسلامي? بيروت? الطبعة الثانية? 1985م.
55 - المحلى لأبن حزم الأندلسي? مكتبة الجمهورية العربية بالأزهر 1967م .
56 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم? محمد فؤاد عبد الباقي? دار الحديث? 1987م.
57 - ? المغني لابن قدامة المقدسي? مكتب الجمهورية العربية بالأزهر
58 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام? الدكتور جواد علي? دار العلم للملايين? بيروت? الطبعة الثانية? 1978م
59 - الموضوعات? أبن الجوزي? تحقيق عبد الرحمان محمد عثمان? دار الفكر? الطبعة الثانية 1983م.
60 - المجموع في الضعفاء والمتروكين? السيروان? دار القلم? بيروت? الطبعة الأولى 1985م.
61 - الموطأ? الإمام مالك دار الشعب? بدون تاريخ.
62 - المراجعات? عبد الحسين الموسوي? دار الأندلس? بيروت? 1946م.
63 - مروج الذهب? المسعودي? تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد? المكتبة الإسلامية? بيروت? بدون تاريخ.
64 - المستدرك? الحاكم? بدون تاريخ.
65 - المجموع في الضعفاء والمتروكين? السيروان? دار القلم? بيروت? الطبعة الأولى? 1985م.
66 - مشكاة المصابيح? التبريزي? تحقيق الألباني? المكتب الإسلامي? بيروت? الطبعة الثانية? 1995م.
67 - مقدمة ابن خلدون? دار القلم? بيروت? الطبعة السابعة? 1989م.
68 - الملل والنحل? الشهرستاني? دار صعب? بيروت? 1986م.
69 - المنجد في اللغة والأعلام? دار المشرق? بيروت? الطبعة التاسعة والعشرون.
70 - المعجم الوجيز? مجمع اللغة العربية? 1991م.
71 - النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية? لويس شيخو? دار المشرق بيروت? طبعة ثانية? 1989م.
72 - النبي المسلح? رفت سيد أحمد? رياض الريس للنشر? لندن? طبعة أولى 1991م .
73 - نيل الأوطار? الشوكاني? دار الحديث? بدون تاريخ.
الدوريات والمجلات:
1 - مجلة المصور ? القاهرة.
2 - جريدة عقيدتي ? القاهرة.
3 - جريدة الأهرام ? القاهرة.
المراجع الأجنبية:
- HISTORY OF CHRISTIAN DOCTRINE - WILLIAM SHEDD - NEW YORK 1892.
- HISTORY OF RELIGIONS - G. F. MOOR - NEW YORK 1948.