Copyright © 2008 All rights reserved Good Way
هذه قصة اهتداء مسلم إيراني إلى المسيح، وقد كتبها بنفسه عام 1948 قبل وفاته، ونُشرت في إيران أولاً باللغة الفارسية، بعنوان «كيف نلت الخلاص». ويسرنا أن نضيف هذه القصة إلى مجموعة القصص التي سبق أن نشرناها عن المهتدين إلى المسيح، من مختلف البلاد الإسلامية.
وكثيراً ما جاء السؤال: «لماذا يصعب ربح المسلمين للمسيح، ولماذا نرى الكنيسة ضعيفة في معظم البلاد الإسلامية؟» وللإجابة على ذلك نقول إن الإسلام هو الديانة الوحيدة التي جاءت بعد المسيح، والتي تعترف أن المسيحية كانت ديانة عظيمة في وقتها، ويدَّعي أنه صار الدين الحقيقي الوحيد للعالم. ويعتقد المسلمون أن الله واحد، لكنهم يرفضون أن يدعوه «الآب». ويعتقدون أنه أرسل أنبياء كثيرين إلى العالم قدموا للبشر شرائع إلهية وأرشدوه إلى الطريق السوي، وأعظمهم نوح، وإبرهيم، وموسى، والمسيح ومحمد. ويعتقدون أن الله أنزل كتباً لبعض الأنبياء، مثل توراة موسى، وزبور داود، وإنجيل المسيح، لكنهم يعتبرون أن هذه الكتب لم تعُدْ ضرورية بعد أن أعطى الله إعلانه الكامل لمحمد. ويعترف القرآن بولادة المسيح من مريم العذراء، لكنه ينكر بنوَّته الإلهية. ويشير إلى معجزات المسيح في الشفاء. ويعترف المسلمون عامة أن المسيح وُهب قوة من الله لإقامة الموتى. لكن القرآن ينكر موت المسيح على الصليب، ويزعم أن واحداً من أعداء المسيح أو من أصحابه تغيّر بقوة الله إلى شكل المسيح فـ «شُبِّه لهم» وصُلب خطأ عوضاً عنه. ويقول أن المسيح رُفع حياً إلى السماء حيث هو اليوم. ومن الزعم المسلَّم به عند المسلمين أن المسيح في الإنجيل تنبأ عن مجيء محمد، وأمر أتباعه أن يقبلوه عندما يأتي. ولكن حيث أنه لا توجد إشارة إلى محمد في الكتب المقدسة المسيحية، لذلك يتهم المسلمون المسيحيين بجريمة تحريف كتبهم المقدسة، لأن النبوّات عن مجيء محمد قد حُذفت، وأُضيفت عبارات عن المسيح كابن الله، وعن صلبه وقيامته من الأموات.
وأغلبية المسلمين في بلاد مثل إيران، وإن كانوا يعترفون بالمسيح كنبي صالح وعظيم جداً، إلا أنهم يقولون إن محمداً هو خاتمة الأنبياء وأعظم المرسلين قد أخذ مكانه. ويقولون لا نريد «أن نرجع إلى الوراء» ونصبح أتباع المسيح، بل على عكس ذلك يجب على أتباع المسيح أن يطيعوا أمر سيدهم و «يتقدموا إلى الأمام» ويقبلوا محمداً والقرآن.
والإسلام ليس ديناً فقط بل هو أسلوب حياة، فيه تتوحد كل العناصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. بل حتى عندما يقتنع مسلم أن المسيح هو المخلّص الوحيد يصعب عليه أن يعترف بإيمانه علناً ويقطع علاقته بمجتمعه السابق.
وبالرغم من هذه الصعوبات التي تبدو مستحيلة في اهتداء المسلمين، يوجد مئات كثيرون من أعضاء الكنائس المسيحية في إيران ممن كانوا في الأصل مسلمين، أو هم أبناء مسلمين اهتدوا إلى المسيح بنعمة الله وقدرته، وبعضهم يخدمون الكنائس بأمانة كرعاة ومبشرين، وأسقف الكنيسة الأنجليكانية يحتفظ باسمه المسلم للدلالة على أنه من الممكن في إيران أن يعترف المسلم علناً بإيمانه بالمسيح وأن يخدمه بجرأة وشجاعة. لكن الحرية التي ينعمون بها اليوم، شأنها شأن الحرية الدينية في أية بلاد أخرى، لم تأتِ عفواً بدون شجاعة وآلام. فقد استخدم الله شهادة الرجال الأوفياء أمثال «مرآة السلطان» مع سائر العوامل الأخرى ليأتي بكثيرين من المسلمين إلى حظيرة المسيح، الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخطاة.
ونرجو أن يستفيد القارئ من هذه السيرة في اللغة العربية، كما استفاد قراؤها في الفارسية.
الناشرون
لما اجتمع ممثلو الكنائس المختلفة في شمال إيران لتنظيم سنودس، اختاروا رئيساً له كان شيخاً بالكنيسة الإنجيلية بطهران اسمه مرآة السلطان، واسمه العائلي أبراهيميان. كانت الأغلبية الكبرى من أعضاء الكنائس البالغ عددهم 2500 والممثَّلين في السنودس من الأشوريين، يليهم بضع مئات من الأرمن، تليهم أقلية أصغر من المهتدين من اليهودية والإسلام. لكن الشخص الذي اختاروه رئيساً كان من هذه الأقلية الصغرى، من الإسلام المهتدين، وكان انتخابه تقديراً سامياً لأخلاق الرجل ومقدرته، مع أنه من أصغر أقلية في الكنيسة. ترى كيف حدث أن ترك مرآة السلطان دينه الأول وصار قائداً للكنيسة المسيحية في إيران؟ إن قصته عجيبة جداً وكل الذين سمعوها من فم هذا المتجدد لن ينسوها.
و «مرآة السلطان» هو اللقب العربي الذي منحته الحكومة الإيرانية للرجل الذي نروي قصته الآن، لما كان ضابطاً في الجيش يعني «مرآة الملك». ولما ألغت الحكومة الألقاب فيما بعد، وطُلب من كل شخص أن يختار له اسماً عائلياً، اختار الرجل اسم «مرآة أبراهيميان».
ولد «مرآة» حوالي عام 1876 ولم يكن أميراً، لكنه كان في صغره يلعب مع الأمراء لأنه كان يسكن في قسم الحريم بقصر الشاه في طهران، حيث كانت أمه واحدة من اللواتي تبنّاهن البيت الملكي. وفي تلك الأعوام الأولى وهو قابل للتأثُّر تعلم كثيراً وتعرّف إلى عائلات النبلاء والأشراف في البلاد، إذ كانوا يأتون ويلعبون في ساحات القصر. وتعلم كيف يتعامل مع الناس دون أن يزعج أو يعثِر أي شخص من الذين يتعامل معهم.
ولما كبر «مرآة» ولم يعد لائقاً أن يقيم في قسم الحريم أُرسل إلى المدرسة. بعد ذلك دخل الجيش وأصبح ضابطاً وترقى بسرعة هائلة بسبب أخلاقه المحبوبة ومقدرته الإدارية، وصداقاته مع من كانوا أعلى منه رتبة. لقد كان سيداً نبيلاً من أعلى طراز. وكان لا يزال حديث السن عندما أُرسل إلى تبريز في الشمال الغربي لإيران بقرب الحدود الروسية ليكون مديراً للشرطة في تلك المدينة. وكانت تبريز وقتئذ مقر ولي العهد، وثاني المدن الكبرى البالغة الأهمية في إيران. وقد اعتبرت روسيا أن شمال إيران غنيمتها الشرعية. وكثيراً ما كشف «مرآة» وفضح مؤامرات روسيا ودسائسها فباءت بالفشل.
وقد نعم مرآة باختبار بهيج عندما عاد إلى طهران وتزوج بالفتاة التي اختارتها له أمه، ولم يكن قد رأى تلك العروس البالغ عمرها خسمة عشر عاماً ولا هي رأته قبل الزواج. لكنه قبل موعد الزواج بأسبوع أرسل لها صورته. وأحبت الفتاة ملامح ذلك الشاب العسكري المصقول، ووقْفَته التي تدل على اعتزازٍ بالنفس، وعينيه الحادتين في وجهٍ مرح ينمّ على الذكاء. وقد أثبت الزواج أنه زواج حب حقيقي متبادل بين الشريكين. ولما وُلد لهما أول مولود (وكانت ابنة) أحبها والداها وسمَّياها ملاك الزمان. ثم أنجبا فيما بعد ثلاث بنات وولدين ينعم بهم جميعاً الزوجان السعيدان.
ولما كان «مرآة» في طهران دُعي ذات يوم للغداء في بيت عم زوجته. وكان مضيفه هذا رجلاً مسلماً من القادة الدينيين الأعيان في المدينة. وكان الطقس حاراً. وبعد وليمة الغداء الفاخرة تمدَّد كل الضيوف على الفراش لغفوة العصر. لكن هذا الضابط الشاب لم يشعر بميلٍ للنوم، فاتّجه نحو مكتبة مضيفه عساه يجد كتاباً يقطع به الوقت.
وبينما هو يقلب بخفة كتاباً بعد آخر وجد كتاباً كان قد وقف خلف صف من الكتب واختفى عن الأنظار، فتناوله ومسح عنه التراب وتطلع في العنوان وإذا به كتاب «ميزان الحق». فبدأ يقرأ وظل يقرأ، ومضت ساعات حتى حلّ الغسَق وأصبح البيت هادئاً بعد انصراف الضيوف، وهو لا يزال يقرأ. وبحث المضيف عن ضيفه فوجده في المكتبة يقرأ. وما أن رأى مرآة مضيفه حتى سأله: «هل قرأتَ هذا الكتاب؟».
ابتسم مضيفه وأجاب: «لا بأس لشخصٍ مثلي أن يقرأ هذا الكتاب، فأنا رجل عالِم متبحر في علوم الإسلام، لكنه ليس مناسباً أن يقرأه شاب مثلك».
ولما قال هذا أخذ الكتاب من يد «مرآة» وأعاده إلى مكانه على الرف خلف الكتب الأخرى. ولم يعُد الضابط يرى الكتاب بعد ذلك لكن محتوياته ظلت تلازمه، وكثيراً ما كان يفكر في الأعوام التالية عن الفروق الهائلة التي بيَّنها كتاب «ميزان الحق» بين تعاليم المسيح وتعاليم الإسلام.
بعد مدة من الزمن عاد «مرآة» إلى تبريز كقائد للشرطة الإيرانية والجيش الإيراني، وكان ذلك في الوقت الذي يتأهَّب فيه الدب الروسي للانقضاض، وفجأة انقضَّ على تبريز. وكانت فِرق الجيش الإيراني غير مدرَّبة تدريباً حسناً، ولم تكن لديها معدات مناسبة، ولكنها حاولت أن تصد الهجوم بعض الوقت ولم تنجح، فلاذت بالهروب. أما القائد «مرآة»فأفضل ما كُتب عنه في هذه الصدد هو ما كتبه هو بنفسه في عام 1948 قبل وفاته بأعوام قليلة ونُشر في طهران باللغة الفارسية. وعلى وجه صفحة الكتاب الأولى صورة المؤلف والعنوان «كيف نلتُ الخلاص». ونحن ننشر هنا ترجمته.
في سنة 1330 هجرية (1912م) زحف جيش القياصرة الروسي إلى تبريز من مدينة «جلنا» على حدود القوقاز الروسية، بحجّة حماية رعايا الروس، بينما كان الدافع الحقيقي مساعدة محمد علي شاه إيران المخلوع ليكون حاكماً مؤقتاً، وذلك كان غير شرعي. ودخل الجيش الروسي يغزو تبريز، وقبض على عدد من الزعماء ورجال الدين وأصحاب النفوذ في المدينة، وشنقهم علناً في وسط ساحة التدريب في تبريز في اليوم العاشر من شهر محرم. ثم أرادوا أن يقبضوا على الحاكم ورئيس شرطة أزربيجان لإعدامهما أيضاً. وكان حاكم تبريز في ذلك الوقت الأمير أمان الله ميرزا، ورئيس الشرطة مرآة السلطان. ولما علم الأمير الحاكم بهذه الخطة، وكان يعرف ضعف الحكومة الإيرانية، وبُعد طهران عنه، فقد كل رجاء في الحصول على نجدة من الحكومة. ولما كان يريد المحافظة على كرامته لم يجد سوى الالتجاء لطلب الحماية من القنصلية البريطانية في تبريز، وأخيراً أقدم على الانتحار.
بعد هذا قدمت أنا مرآة السلطان استقالتي من رئاسة الشرطة إلى حكومة طهران ببرقية، وهربتُ متخفّياً بطريق الحدود التركية إلى أرمينيا (في تركيا) ومكثت فترة في فان حيث يقيم حاكم أرمينيا.
ولما تركت تبريز مررت في ميشك عبر إحدى القرى الأرمنية الواقعة على بعد 20 ميلاً شمال غرب تبريز. وبسبب شدة تهاطل الثلوج وقارس البرد اختبأت فترة من الزمن في بيت الكاهن الأرمني الذي كان يسكن هناك. وبعد أربعين يوماً تحسن الطقس وانقطع نزول الثلج وأصبحت الطرق صالحة للسفر، فتأهّبت لمواصلة سفري إلى الإقليم التركي. وقبل أن أبدأ السفر من بيت الكاهن، رفع مضيفي صلاة إلى الله طالباً منه أن يعينني في طريقي، ثم قال لي: «يا ضيفي العزيز، في كل أيام إقامتك في بيتي كنت أصلي يومياً إلى الرب يسوع المسيح أن ينقذك ويخلصك من شر الروس، وأن يجعل سفرك آمناً، وأن يوصلك إلى بيتك بصحة تامة وسلامة. وأنا واثق أن المسيح سيحفظك سالماً آمناً إلى أن تعود إلى بيتك وأسرتك. فهل أنت مستعد أن تعِد المسيح في قلبك أنك عندما تدخل إلى بيتك بسلام أنك لن تنساه، بل تسلّم نفسك لمخلّصك؟». فوعدت الكاهن قائلاً: «طبعاً» ثم بدأت سفري، والكاهن يقول: «اذهب واثقاً أن المسيح سيخلّصك. ولكن لا تنسَ وعدك».
قضيت شهوراً عديدة جائلاً حائراً في تركيا، هارباً كمتشرد من اضطهاد الحكومة الروسية. وأخيراً عدت من طريق سوجيولغ في غرب إيران إلى زنجان، واستأنفت رحيلي صوب كزفين في طريقي إلى طهران. ولما وصلت إلى مسافة تبعد نحو 12 ميلاً من كزفين توقفت في بيت للشاي لقضاء الليل متوقعاً أن أقطع المسافة في اليوم التالي وأصل إلى كزفين. لكن عند منتصف الليل قبض عليّ الجيش الروسي القوقازي وأنا في فراشي وأخذني إلى كزفين، حيث زجني في السجن فترة من الوقت، وذلك في القنصلية الروسية، وبعد ذلك أخذني إلى سجن عسكري ناوياً أن يرسلني إلى القوقاز للإعدام.
كان حبسي العسكري في زنزانة مظلمة، وقد دام مدة طويلة، لا أعلم لماذا، وكنت أتوقع النهاية نهاراً وليلاً. وذات يوم فُتح باب السجن وإذا بعقيد من الجيش الروسي يدخل ويقول لي: «تفضل وتعال يا سيدي». خرجت من السجن مع العقيد إلى الشارع حيث وقف مصوّر ينتظرنا، فالتقط لي صورتين، إحداهما وأنا واقف والأخرى وأنا جالس. بعد ذلك أعادني العقيد الروسي إلى السجن. وقبل أن يتركني قال لي: «حيث أنك ستكون ضيفنا لمدة يوم واحد وليلة واحدة فقط فاطلب ما تريد وأنا أجيب طلبك». فسألته: «لماذا التُقطت لي هاتان الصورتان؟». فأجاب: «سنرسل واحدة إلى القوقاز ونحتفظ بالثانية هنا في القنصلية الروسية في كزفين». قلت: «شكراً يا سيدي، ليس عندي أي سؤال آخر».
عند ذلك قال العقيد: «أرى من واجبي أن أعرّفك بنفسي. أنا أمير إيراني، وكانت قسمتي أن أبعُد عن أرضي وبلادي وألتحق بالخدمة العسكرية لحكومة أجنبية. والآن وقد عرفتَ أني لست أجنبياً عنك، لك أن تسألني بدون تردد عن أي شيء تريده. وإن كان في مقدوري أن أفعله، فلن أتأخر في تحقيقه لك». فأجبت: «أما والحالة هذه فإني أصرح لك برغبة قلبي: مِن أَخْذ الصورتين لي أفهم أن الأمر بإعدامي قد وصلكم من روسيا. فهل لي أن أسأل بالتحديد متى يتم ذلك وتتخلّصون مني؟». أجاب: «غداً قبل الظهر بثلاث ساعات». وهنا أنهى الحديث وخرج من السجن وأغلق الباب مرة أخرى.
في الليلة المرعبة التالية حدث أمرٌ لم يذكره «مرآة» في قصته المكتوبة، لكنه رواه فيما بعد لأصدقائه المقرَّبين. قال إنه لما كان وحده في زنزانته يرى نفسه يُعلَّق غداً على المشنقة يواجه الخزي والعار، خطر بباله أن يلجأ إلى وسيلة أسهل، هي أن ينتحر بتناول قطعة كبيرة من الأفيون، وهي الطريق المفضَّلة للانتحار في إيران. وفعلاً سلَّم الخادم الذي كان يُحضر الشاي للسجناء مبلغاً من النقود ليشتري له كمية كافية من الأفيون لقتله. وقام الخادم بذلك وأحضر الأفيون وسلّمه للسجين مُلصقاً بقاع الصحن الذي عليه فنجان الشاي. ولما انصرف الخادم أخذ «مرآة» قطعة الأفيون ووضعها على الطاولة أمامه وتطلع فيها وسأل نفسه: هل يبتلعها؟
فكّر في السهولة التي بها يتناول الأفيون ويُنهي هذه الحياة بشكل أفضل من مواجهة عار الشنق علَناً بيد الروس المكروهين. ولكنه من الناحية الأخرى سيجلب الانتحار عليه وعلى عائلته عاراً مخجلاً. ترى ماذا يظن أصدقاؤه أصحاب المناصب العليا في حكومة بلاده عندما يعلمون أنه انتحر كجبان؟ ألا يكون أفضل لو فكروا فيه كشخص مات موت الشهيد أو كجندي باسل سقط في ميدان خدمة بلاده؟ ظل يصارع ساعات طويلة في هذه المشكلة في زنزانته في تلك الليلة. وأخيراً قرر أنه لا يقدر أن يحمل نفسه على تناول قطعة الأفيون الرمادية اللون برائحتها الكريهة وهي أمامه على الطاولة. وصار يقينه يتزايد أنه لا يليق به أن يقضي على حياته. فإن كان لا بد أن يموت فليمُت بيد الروس.
لكن هل كان الموت محتَّماً؟ كان قد ظل الأيام الكثيرة والليالي الطويلة في زنزانته يطلب معونة الأنبياء والأولياء القديسين في دينه الإسلامي، الذين كان يعرف أسماءهم، لكنه لم يحصل على يقينٍ بالخلاص. وفي ساعته الأخيرة المرعبة، وقد استولى الفزع على نفسه، أضاءت على ذهنه كومضة نور في الظلام كلمات الكاهن الأرمني: «لا تنس المسيح!». فركع في الحال وصرخ إلى المسيح: «يا يسوع المسيح، لقد ارتكبتُ خطايا كثيرة في حياتي، فأنا خاطئ كبير، لكني بريء من هذا الأمر الذي لأجله أُساق للإعدام. هؤلاء الروس هم مسيحيون، وهم شعبك، فلا تسمح لهم أن يرتكبوا هذه الجريمة. أنا لا أعرفك الآن، لكن إن أنت أنقذتني أعِد أن أسعى جاهداً أن أعرفك. ولما أجدك سأكرس حياتي لخدمتك!». وبعد أن قال هذه فارقه الخوف وملأ قلبه السلام، ووضع رأسه بين يديه على الطاولة ونام إلى الصباح.
وفي التاسعة من صباح اليوم التالي سمع «مرآة» صوت نفير البوق الروسي، فعرف أن ساعته الأخيرة قد دنت. ولكن قبل أن يدخل أحد ليُخرجه من السجن صرخ مرة أخرى إلى المسيح وقال: «يا يسوع المسيح، إن كنت حياً، وإن كنت أنت مخلّص الخطاة، فخلّصني أنا الخاطئ من هذه المصيبة لأؤمن بك».
وهنا نستأنف القصة كما كتبها مرآة نفسه:
حالاً بعد الصلاة فُتح باب السجن ودخل نفس العقيد الذي جاء في اليوم السابق، وقال لي: «يا سيدي، هيا بنا نذهب». خرجت معه من السجن إلى الشارع وأنا في عمق اليأس والقنوط. ورأيت علاوةً على الخمسة والعشرين جندياً المرافقين للعقيد عدداً كبيراً من الجنود الروس والقوازق واقفين على جانبي الشارع موكلين على أمري، يتحركون إلى الأمام كلما تحركت. ورأيت جماهير كثيرة أمام الحوانيت وعلى سطوح البيوت، عدداً كبيراً من الرجال والنساء الإيرانيين، وقد احتشدوا وهم يبكون لأن ضابطاً إيرانياً قضى عمره في خدمة وطنه سيُعدم بيد الأجانب في نفس بلده. كانت دموعهم ترافقني كل الطريق. وأثارني هذا المنظر المحزن وأربكني جداً حتى نسيت نفسي كلية، ولم أر شيئاً أمام عينيّ سوى حبل المشنقة، ما لم تحدث معجزة.
وبالطبع لم يستطع أحد أن يفهم حالتي سوى الله وحده. كنت ذاهباً إلى مكان الإعدام، سجيناً محكوماً عليه بالموت، يتحرك كجثة هامدة تحيط بها الجماهير، وأنا معدوم الإرادة. ودون أن أعلم ما أفعل قلت في قلبي: «أيها المسيح، ألا ترى أن شعبك يريدون شنقي ضداً للعدالة؟ إن كنت أنت المخلّص فخلِّصني». وفيما أنا مشغول بتقديم هذه الصلاة وأنا أسير في الطريق، رأيت ضابطاً إيرانياً معه اثنا عشر جندياً إيرانياً يقابل العقيد الروسي ويسلّمه رسالةً قرأها، ثم نظر إليّ وابتسم وأخذ يدي ووضعها في يد الضابط الإيراني. ثم عاد هو وكل الجنود الروس إلى مكانهم.
أما الضابط الذي أخذني بيدي فقال لي: «يا سيدي، مرآة السلطان هيا نذهب من فضلك». وسرنا صامتين نحو نصف ساعة حتى وصلنا رئاسة أقسام شرطة كزفين، فأخذوني إلى مكتب رئيس الشرطة، ثم أشار إلى كرسي الرئيس وقال لي: «تفضل اجلس حتى نخبر حاكم كزفين بوصولك».
ولما خرج الضابط من مكتب الرئيس رجعت إلى نفسي وسألت الخادم: «من هو الضابط الذي أتى بي إلى هنا؟». أجاب الخادم: «هو رئيس شرطة كزفين».
وجالت في ذهني الخواطر. قلت في نفسي: حيث أن هذه أرضٌ إيرانية، وليس للروس حق شرعي في إعدام شخص إيراني بأيديهم، فلا بد أن يسلّموني إلى حاكم كزفين لأُعدَم بيد الحكومة الإيرانية. ولا بد أن رئيس الشرطة قد ذهب ليخبر الحاكم بوصولي. والآن وقد وصل الأسير ليدهم، فهو يسأل ماذا يجب أن يُفعل به. ولا شك أنه سيعود بعد نحو ساعة، وينفذون فيّ حكم الإعدام. مع ذلك فإني أبتهج لأني أموت بيد الإيرانيين. ففي هذه الحالة يحسن بي أن أنتهز الفرصة وأكتب وصيتي ليسلّموها بعد موتي إلى أسرتي.
وفي الحال تناولت ورقة من الدرج الذي كان أمامي وقلماً وبدأت أكتب وصيتي. وفي تلك اللحظة دخل رئيس الشرطة عائداً من مكتب الحاكم، واندهش إذ رآني منهمكاً في كتابة رسالة، واقترب مني على الفور وسألني: «ماذا تكتب يا سيدي؟». أجبته: «أكتب وصيتي لعائلتي. وأرجوكم بعد موتي أن تتفضلوا بإرسالها إلى أسرتي بالوسيلة التي تريدون».
ولما سمع رئيس الشرطة هذا الكلام انزعج جداً، وأخذ الورقة من يدي ومزقها وقال: «حاشا لك أن تفكر في قتل نفسك!».
أجبته: «أنا لا أنوي ذلك مطلقاً، لكن أنتم المكلَّفون بإعدامي!».
قال الرئيس بدهشة بالغة: «يا سيدي مرآة السلطان، أنت مخطئ كل الخطأ، وليست لديك أية معلومات صحيحة عن مجرى الحوادث التي حدثت في الأيام الماضية. أرجوك أن تتناول فنجاناً من الشاي وأنا أوضح لك حقيقة الأمر».
ثم أمر بإحضار الشاي وجلسنا وهو يواجهني ويقول: «منذ اليوم الذي فيه قبض الروس عليك وسجنوك، أُخبر حاكم كزفين بذلك، فظل يرسل البرقيات إلى الحكومة في طهران ويخبرها بكل ما حدث ويتلقى منها التعليمات ليتخذ الخطوات اللازمة لإطلاق سراحك بالاتصال الدائم مع القنصل الروسي في كزفين. وكانت المفاوضات بين الحكومة الإيرانية والسفارة الروسية في طهران، والمحادثات بين الحاكم والقنصلية الروسية في كزفين، وبين القنصلية وسفارة الحكومة الروسية القيصرية ترمي كلها لهذا الهدف. وظلت تجري إلى الأمس دون جدوى. لكن وصلت في الليلة الماضية برقيتان إلى الحاكم، إحداهما من وزارة الخارجية والثانية من وزارة الداخلية. ومحتويات البرقيتين واحدة تقريباً، ومفادها أنه قد صدر أمر مشدّد من السفارة الروسية في طهران إلى القنصلية الروسية في كزفين بأنه يجب تسليم مرآة السلطان فوراً إلى حاكم كزفين ليرسله في الحال إلى طهران. هاتان البرقيتان وصلتا بعد حلول الليل بساعات، وكان القنصل قد آوى إلى فراشه ونام في ذلك الوقت، وكان من المتعذر مقابلته، فلم يكن هناك بد من الانتظار إلى الصباح. واليوم أمرني الحاكم أن أقابل القنصل وأسلّمه البرقيتين. واستطعت أن أراه الساعة التاسعة صباح اليوم، وتسلّمت منه رسالة يأمر فيها الضابط الروسي بتسليمك لي بدون تأخير حتى آتي بك إلى هنا. وهذا ما قمت به. والآن قابلت الحاكم فأصدر أمره أن أرسلك إلى طهران. ويمكنك أن تذهب إليها في أية ساعة تريد. ولكن حرصاً على سلامتك، ولئلا يزعجك الروس مرة أخرى، سنرسل معك ضابطاً وعدداً من الجنود. هذه هي القصة باختصار».
لما أنهى رئيس الشرطة حديثه طلبت منه معرفة اتجاه قِبلة للصلاة، فلما أراني إياها ركعت ووضعت جبيني في التراب ونطق لساني بهذه الكلمات صادرة من قلبي:«الحمد لك أيها الرب الواحد الحاضر الكامل القدرة. أنت خالقي، الذي لأجل يسوع المسيح سامحتني وخلّصتني من الموت! أنا أعترف في حضرتك القدسية بأني قد نلت هذا الخلاص من يسوع المسيح، وأعترف وأتعهد يا إلهي أني سأكون للمسيح ما دمتُ على قيد الحياة». ثم رفعتُ رأسي من الأرض واختبرت في أعماق نفسي في تلك اللحظة سعادةً تفوق الفهم والإدراك. وأخذت يد رئيس الشرطة في كلتا يديَّ وقلت له: «إني شخصياً أقدم لك أعظم الشكر. والآن أرجوك أن تسمح لي بوسيلة للسفر لى طهران». أجاب الرئيس: «رتب ما تشاء للسفر إلى طهران، فليس لدينا أي مانع».
عُملت الترتيبات اللازمة في الحال حرصاً على الوقت، وأخذت ضابطاً وبعض الجنود ورحلنا من كزفين، ووصلنا إلى طهران بعد يومين. وذهبت في الحال إلى مقر الحكومة والوزارة، وقابلت هناك رئيس الوزراء، ووزير الداخلية الذي كانت له اليد الطولى في إطلاق سراحي، والذي ما أن رآني حتى قبّلني وقال لي: «لا شك عندي أن الله العلي قد أنقذك من الموت، وهذا في رأيي معجزة! وأنت الآن يجب أن تبقى هنا ضيفاً على وزارة الداخلية إلى أن نستصدر لك من بطرسبرج حرية تامة من هذه الورطة التي لم تكن منتظرة».
طالت إقامتي بوزارة الداخلية سنة كاملة. تغيرت الوزارة، وقام رئيس الوزراء الجديد بمعونة وزير الداخلية الجديد بجهود جبارة لخدمتي حتى وصلَت في سبتمبر (أيلول) 1913 برقية من الحكومة القيصرية الروسية نصها: «يصبح مرآة السلطان حراً على شرط أن لا يخرج من طهران، وأن تكون الحكومة الإيرانية ضامنة له». بعد وصول هذه البرقية انتهى الأمر وبقيت حراً في طهران.
ما أعظم الفرح الذي يملأ القلب إذ يعود الإنسان إلى بيته وزوجته وأسرته! هناك مثَل إيراني مشهور للشاعر سعدي يقول «لا يدرك قيمة الرخاء إلا من قاسى الضيق والحرمان». من يدرك قيمة بركات الحياة البيتية أكثر من «مرآة» الذي كتب في كزفين وداعه الأخير لأسرته؟
في صباح يوم أحد قالت له زوجته: «أرجو أن لا تغضب إذا علمتَ أني في غيابك كنتُ أفرّج عن نفسي فأذهب مع صديقة لي إلى اجتماعات الكنيسة في شارع السلطانة غافان». فأجابها: «بالطبع لا. وأنا واثق أن الواعظ لم يقل شيئاً مهماً، وإلا كنت أسكته». وعلى ذلك ظلت زوجته تواظب على حضور اجتماعات كنيسة الإرسالية المشيخية.
وحدث بعد ذلك أن تقابل «مرآة» مع صديق في الشارع يدعى رجب علي نوزاد. وبعد تبادل التحيات قال له نوزاد: «يا سيد مرآة السلطان حين كنتَ في السجن المظلم تحت سلطة الروس في كزفين، كنت أنا في المدينة أقدّم للناس كلمة الله. ولما علمتُ بأن سجنك دخل مرحلة خطيرة للغاية، كنت أتوسل ليسوع المسيح وسيطي الوحيد أمام الله القدير حتى يتعطف بإطلاق سراحك. ولم أكفّ عن الصلاة لأجلك حتى سمعتُ أنك وصلت إلى طهران بسلام. والآن أريد أن أذكرك أنك مدين للمسيح بخلاصك من السجن ومن الموت». فأجاب مرآة: «أنا أعلم يا صديقي العزيز جيد العلم أن يسوع المسيح هو الذي خلّصني، فأخبِرني الآن ماذا يجب أن أفعل؟». فقال نوزاد:«آمِن بالمسيح تنل سلام القلب في هذا العالم وفي العالم الآتي. فبالإيمان بالمسيح تنال غفران خطاياك».
وفي اليوم التالي (وكان ذلك يوم جمعة) رافق نوزاد مرآة السلطان إلى مقر الإرسالية المشيخية ليقابل القس هـ . س . شولر وعدداً من المسيحيين الإيرانيين الذين كانوا يجتمعون مرة كل أسبوع لدرس الكتاب المقدس والصلاة. وكان معظمهم من المهتدين من اليهودية والإسلام. ولما قدم نوزاد صديقه مرآة لهم قال مرآة: «لقد نجوت من الموت بفضل يسوع المسيح. والآن جئت لأعترف بإيماني. فأرجو أن تخبروني ماذا يجب أن أفعل». ثم حكى «مرآة» لهم قصته العجيبة فتأثروا منها جداً، وبدا لهم كأنهم قد تقابلوا مع «لعازر» الذي أقامه المسيح من القبر بعد أربعة أيام من موته. ولما أنهى مرآة كلامه خرّ على ركبتيه في وسط الغرفة والتمس من الله بدموع أن يمنحه الصفح والغفران، لأنه لم يحفظ وعده مع الكاهن الأرمني بأسرع مما فعل، واعترف بإيمانه بالمسيح مخلّصه. وعند ذلك التفّ المسيحيون حوله ووضعوا أيديهم على رأسه وصلوا طالبين بركة الله على هذا الأخ الجديد في الإيمان.
بعد أن اعترف مرآة بإيمانه أدرك أنه يجب أن يخبر زوجته وأقاربه أنه قد صار مسيحياً. لكن تُرى كيف يستطيع أن يفعل ذلك، والشريعة الإسلامية تقضي بأن تترك المرأة زوجها إذا هجر الإسلام وأصبح من الكفّار. لا بد أن تتركه زوجته ويتحطم بيته السعيد. لكن مهما كان الأمر فلا بد أن يعترف بإيمانه بالمسيح.
وذات يوم وهو يفكر في وسيلة يحمل بها هذا الخبر لزوجته بطريقة لطيفة، جاءته زوجته تقول: «يوجد أمر يحول بيننا ويفصلنا الواحد عن الآخر، ولا بد أن أعترف لك به. كما أخبرتك من قبل كنت أذهب في أثناء غيابك إلى اجتماعات الكنيسة أحياناً، وكان قلبي مثقلاً بحزن عميق لبُعدك عنّا، وسمعت في الكنيسة كلاماً عزاني وطيب قلبي، فظللت أواظب على حضور الكنيسة ووجدت أن الحق هناك. والآن أنا مسيحية ولا أستطيع أن أخفي عنك ذلك، فافعل بي الآن ما تشاء!»
ظلّ مرآة لحظة صامتاً لا يستطيع أن ينطق بكلمة من شدة الفرح والخجل. أما الفرح فلأن زوجته المحبوبة قد صارت واحداً معه في الإيمان بالمسيح، والخجل لأنها كانت أشجع منه في الاعتراف بإيمانها.
بعد انقضاء عام على اعتراف مرآة بإيمانه تقابل ذات يوم مع صديقه نوزاد وقال له: «أرجو أن تخبرني بقوانين الكنيسة عما يجب أن أفعله بعد حتى أصير مسيحياً؟».
أجاب نوزاد: «يجب أن تطلب المعمودية من راعي الكنيسة». فذهب مرآة بنفسه إلى اجتماع شيوخ الكنيسة وطلب منهم أن يعتمد. ويقول أحد الحاضرين في ذلك الاجتماع إنه يتذكر أن مرآة عندما سُئل كيف صار مسيحياً روى قصة نجاته المثيرة، وكانت قد حدثت قبل ذلك ببضعة شهور. وتمّت المعمودية يوم 7 نوفمبر (ت2) 1920 وقد عمّده الدكتور صموئيل غوردون في خدمة عبادة باللغة الفارسية، بالكنيسة الإنجيلية بإيران. واعتمدت زوجته بعد ذلك بخمسة شهور. وفي السنة التالية أعتمد أولاده الستة. وكان قلبه في أشد الشوق أن يرى كل أسرته تصبح للمسيح.
بعد أن اعتمد مرآة بوقت قصير باع بيته واشترى بيتاً آخر أقرب إلى الكنيسة. ولم يكن لمرآة عمل مستديم في تلك الفترة، فكان ينفق من رأسماله ليدبر أحوال معيشته. وذات يوم ذهب إلى أحد إخوته في المسيح، وهو شخص جدير بالثقة، هو القس جوليانوس حكيم، وأخذ معه صندوقين ثقيلين وقال له: «يوجد بهذين الصندوقين مليونا قطعة فضية (وهو مبلغ يعادل 25 ألف دولار). ولقد عُرض عليَّ منصب كبير في وزارة الحربية، ولكن حيث أني قد أصبحت مسيحياً شعرت أنه لا يليق بي أن أقبل هذا المنصب. وقد حصلت على النقود الموجودة بهذين الصندوقين عن طريق بيع عقار كنت أملكه، والآن سأستخدم هذه النقود في شراء حاجياتي ولوزامي إلى أن يرشدني الله إلى منصب آخر. فأرجو أن تحتفظ بهذا المال لي». وقد عمل القس حكيم حسب رغبة «مرآة» وأصبح كأنه بنك له ظل يصرف منه حتى نفد المال كله.
عندما يصبح مسلمٌ مسيحياً يكون عليه أن يحمل صليبه ويتبع المسيح. ولم يشذّ «مرآة» عن هذه القاعدة، وكانت أعوام حياته المسيحية الأولى غير هينة ولا لينة. في تلك الأوقات القاسية التي امتحنه فيها الله حصل على اختبارات روحية عميقة قرَّبته إلى المسيح أكثر وقوّت إيمانه بشكل أشد. وقد وصف تلك الاختبارات التي دعاها«إعلانات» في كتيب عنوانه «كيف خلصت» وها نحن نورد ترجمة غير حرفية لثلاثة منها:
بعد أن وضع القس شولر يديه عليّ، رأيت وأنا نائم في فراشي وإذا بي واقف في سهل متسع أتطلع أمامي إلى جبل عظيم، على قمته قصر فخم ضخم، وفوق سقف القصر صليب قائم. وكان باب الحديقة وبناية القصر مقفلاً من الداخل، وكان يقف أمام الباب المغلق رجل يتأمل في القصر بكل تمعُّن. وعند ذلك لاحظت فجأة شخصاً واقفاً بجانبي، فسألته على الفور: «يا سيدي، لمن هذا القصر، ومن هو الرجل الواقف أمام الباب المغلق؟». فأجابني هذا الشخص الغريب: «صاحب هذا القصر الذي تراه هو يسوع المسيح، والشخص الواقف خارج الباب هو مرآة السلطان، وهو يريد أن يفتح له الباب حتى يدخل إلى قصر المسيح».
لما سمعت هذا الكلام استيقظت فجأة من نومي، وقضيتُ مدة طويلة أتأمل وأتعجب وأنا كالأخرس. ثم قمت لأصلي وقلت: «أيها الإله القدير أنت تعلم أني آمنت بالرب يسوع المسيح من أعماق قلبي، ولا أعترف بمخلّص آخر سواه. فما معنى هذا الحلم المثبط لآمالي الذي فيه أرى باب قصر المسيح مقفلاً في وجهي؟».
صرفت بقية الليل في الصلاة إلى الصباح. ولما بزغ الفجر ارتديت ملابسي وذهبت إلى بيت القس شولر، ورويت له قصة حلمي الليلة الماضية. ولما سمع قصتي قام في الحال وأحضر كتاباً وضعه في يدي وقال لي: «اقرأ هذا حتى تستطيع أن تفسّر حلمك». ففتحت الكتاب فوراً فإذا هو كتاب «سياحة المسيحي». فأخذته للبيت وبدأت أقرأه. وعلى إحدى صفحات الكتاب رأيت صورة بناء على رأس الجبل هو البناء الذي رأيته في حلمي الليلة السابقة، ورأيت أيضاً إنساناً واقفاً أمام باب مغلق، يشبه الشخص الذي رأيته في حلمي بدون أي فرق. في الحال وضعت الكتاب جانباً، وخررت على وجهي إلى الأرض وبدأت أشكر الله.
وحدث مرة أخرى بعد عمادي أني رتبت مع بعض الإخوة بالكنيسة أن نجتمع ليلة في كل أسبوع في غرفة الصلاة بالكنيسة ونصرف ساعة في درس العهد الجديد والصلاة. وفي إحدى الليالي ونحن مجتمعون معاً في مكان العبادة بقلب واحد وروح واحد، قرأنا كلمة الله وبدأنا نصلي معاً. وفيما أنا أصلي لاحظت أن أسوار غرفة الصلاة قد زالت، وإذا بي أرى سهلاً واسعاً جداً وقد امتلأ كله بنور عظيم يبهر النظر. لم يكن هذا النور العظيم صادراً من القمر ولا من الشمس، بل كان واضحاً جداً أنه صادر من السماء لا تستطيع العين أن تراه، وكأني في رؤيا خارقة. نسيت الاجتماع كلياً ونسيت الأصدقاء الذين كانوا معي منسكبين في الصلاة، ووجَّهت كل انتباهي إلى النور الذي كان يغمرني.
لما رجعت إلى نفسي، ورفع الإخوة رؤوسهم من الصلاة صافحوني وهزوا يدي قائلين «يجب أن ننصرف الآن». ولكن واحداً منهم يُدعى السيد يبرم يرشان، وهو أخ مسيحي أشوري أخذ يدي بكلتا يديه وتساءل: «يا أخي ترى ما هو مزمع أن يحدث لك؟ إن وجهك يلمع بشكل عظيم». فأجبته: «ألم تر النور الذي رأيته أنا ونحن نصلي؟». قال الأخ يبرم: «هذه رؤيا جاءت لك في أثناء الصلاة. طوبى لك».
حدثت لي رؤيا ثالثة ذات يوم عندما خرجت من بيتي لأذهب كعادتي إلى اجتماع الصلاة. وحالما خرجت إلى الشارع بدا لي كأني لا أمشي على قدميَّ على الأرض، بل كأني أطير في الهواء. وفي نفس الوقت ملأ نور بهي عظيم كل الشارع، وكان ذلك النور لامعاً جداً بشكل ظهر فيه كل شيء ساطعاً، وكان النور يضيء كياني كله ويشع ببهاء أمامي. ومع أني كنت ألاحظ كل شيء وأتطلع إلى نفسي وإلى ذلك المنظر، لم أشعر بأية دهشة، بل كأني كنت أعيش دائماً في هذا النوع من العالم، وفي هذه النشوة اللامعة وصلت إلى المكان المعيّن، وقد حضر كل الإخوة وختم اجتماع الصلاة في ذلك اليوم بسعادة لا توصف وفرح لا يُعبر عنه.
ذهبت وأنا أحسب أن كل الإخوة الذين حضروا اجتماع الصلاة معي كانوا في مثل الحالة التي كنت فيها، وعندما وصلت إلى باب بيت الدكتور سعيد كردستاني أردت أن أراه لأنه كان دائماً أحد المسيحيين المستنيرين. ولما رأيته قلت له: «يا أخي هل أنت في نشوة الفرح بالاختبار اللامع المشع كما أنا؟».
أجاب الدكتور: «أيها الأخ، إن هذا الاختبار لم يعلنه لك لحم ودم، بل هو لمعان نور الله العجيب أشرق به عليك في هذه الأيام. افرح وتهلل لأنك سوف ترى أعظم من هذا وأفضل!». وقد ظلت هذه النشوة الروحية تلازمني، وظللت في غبطة لوجود هذا النور فيّ بحيث لا أستطيع أن أعبّر عن الفرح أو أصف تلك الحالة التي لا يعلمها سوى الله وحده.
واضح مما كتبه مرآة أن اختباراته الصوفية لم تكن وحدها القوة الحقيقية الرافعة له، بل كانت المحبة والشركة التي وجدها في تلك الزمرة من «الإخوة» فقد كانت مصادر تعزية عظمى جداً وقوة هائلة لهذا المؤمن الحديث. يذكر أحد أصدقائه أن مرآة عندما وعظ أعضاء الكنيسة الفارسية الصغيرة بنى كلامه على ما جاء في لوقا 18:28-30 حيث يقول: «فقال بطرس: ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك. فقال المسيح لهم: الحق أقول لكم: إن ليس أحدٌ ترك بيتاً أو والدَين أو إخوة أو امرأةً أو أولاداً من أجل ملكوت الله، إلا ويأخذ في هذا الزمان أضعافاً كثيرة، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية». وذكر أن هذا ما حدث معه شخصياً، فقد تمّتَ كلمات المسيح حرفياً في حياته، لأنه كان قد ترك معظم أقاربه وممتلكاته. وفي ختام خطابه الحماسي بسط يديه نحو الحاضرين وقال: «أنتم آبائي وأمهاتي وإخوتي. وأكثر من ذلك أصبحت لي الحياة الأبدية أيضاً». وكتب أحد الذين حضروا هذه الاجتماعات فقال: «لما وقف مرآة ليصلي بدا كأنه يضع يديه على مذبح الله، ويتكلم شخصياً لله. والغيرة المفعمة بالإخلاص من شخص يمتاز بثقافة مرآة ومقدرته، في بلاد إسلامية، جعلتنا نحن الغربيين نتساءل: لماذا ليس لنا إيمان مثله؟».
مع أن «مرآة» كان في حاجة إلى عمل دائم سنين كثيرة إلا أنه رفض أن يقبل عملاً في الإرسالية المشيخية بطهران، لأنه لم يُرد أن يقوم بعمل ديني نظير أجر. لقد أراد أن يقدم خدمة تطوعية للمسيح، وأبى أن يعطي فرصة لغير المسيحيين أن يتَّهموه بأنه صار مسيحياً لأسباب مادية، وظل يعيش على الفضة التي كان قد اختزنها في الصندوقين اللذين أودعهما في بيت أحد أصدقائه.
أخيراً أقنعه السيد ج. د. باين أمين صندوق الإرسالية أن يقبل وظيفة مدير أعمال مستشفى الإرسالية في طهران بمرتب متواضع. وكان عمله يشمل ملاحظة كل العمال والمشتريات، ويعقد كل الاتفاقات المالية مع المرضى. وكانت مواهبه في الأعمال والإدارة ومعرفته الواسعة، وجاذبيته، وحكمته، وشخصيته المحبوبة ومقدرته على كسب الأصدقاء ميزات لا تُقدر بالنسبة للمستشفى.
علاوة على أعماله الإدارية التي كان مرآة يتقاضى عنها أجراً، كان دائماً يتطلع إلى انتهاز كل فرصة لقيادة الناس للمسيح. وكثيراً ما كان يقرأ من الكتاب المقدس الموضوع دائماً على مكتبه للموجودين في مكتبه في انتظار مقابلة الطبيب. وكان بين المرضى العديدين عدد من أصدقائه القدامى، ومن الوجهاء والأعيان ذوي المناصب العالية ونبلاء إيران، وعندما كانوا يأتون إلى مكتبه كان ينتهز كل فرصة ليتكلم عن فرحه ويقينه بالحياة الأبدية التي صار ينعم بها في المسيح.
يذكر طبيب مرسل أنه جاء يوماً من غرفة العمليات إلى مكتب «مرآة» بحزن عميق ليخبره أنه فشل في عملية عدسة العين (كتراكت). فحاول مرآة أن يخفف آلام الطبيب فقال: «لا تتأسف جداً لذلك، فإنه وإن كنت لم تستطع أن تهب البصر الطبيعي للمريض في غرفة العمليات، فقد كنتُ طوال الوقت أقدم البصر الروحي لوالده في مكتبي إذ أخبرته عن المسيح نور العالم».
وكانت أعماله بالمستشفى تتطلب اتصالات كثيرة بالهاتف (التليفون) وكانت التليفونات وقتئذ تتم عن طريق عامل، وكان كل العمال من الرجال. وقد تأثر أحدهم من لطفه ومحبته الممتازة حتى عزم أن يقابله شخصياً ليرى الرجل الذي تعوَّد أن يسمع صوته الرقيق على الأسلاك. وكانت النتيجة أن الرجل أصبح صديقاً ليس لمرآة وحده بل لرب مرآة.
في عام 1924 ذهب دكتور فيليب مكدويل وزوجته وعدد من موظفي مستشفى الإرسالية بطهران إلى كاشان في عربة وقضوا بها عدة أسابيع في أعمال طبية وتبشيرية. وكتب دكتور مكدويل تقريراً عن هذه الرحلة، فقال: «كان للمبشر مرآة السلطان وميرزا عبد الله خان «الدكتور فاسل» حرية تامة أن يكرزوا بالإنجيل بدون أي اعتراض أو عائق. وأبدى الناس رغبة صادقة في معرفة الحق. دُعي هذان المتجددان إلى بيت زعيم ديني ذائع الصيت بالنسبة لقداسته وغيرته على الدين في المدينة، وقد تحدث كلاهما أمام جمهور كبير من الحاضرين عن الحقائق الأساسية في المسيحية، وتحدَّيا المُلا أن يدافع عن موقفه فلم يقدر، فأُعطي أطول وقت يريده لتحضير دفاعه، لكنه لم يقدم أي دفاع. وأصبحت هذه الحادثة موضوع الحديث العام في المدينة» .
بعد ذلك انتُخب مرآة في الوقت المناسب شيخاً بالكنيسة الإنجيلية في طهران، وقضى سنين كثيرة أحد أعمدتها. قد كتب القس جوليانوس حكيم عن هذه الخدمة، قال:«خدم بكل أمانة كشيخ، وكان رأيه صائباً جداً في الشؤون والمشاكل الحيوية الخاصة بالكنيسة. كان دائم المواظبة على حضور اجتماعات مجلس الكنيسة أو عمدتها، وأميناً في القيام بما يُعيَّن عليه من واجبات، حتى ولو كانت من النوع الذي لا يقبله سواه. لما أخطأ أحد المهتدين ووقع في صعوبة خطيرة تعيّن مرآة للنظر في أمره، وطلب من الرجل أن يعترف بخطيته علناً في اجتماع الكنيسة، فاعترف. وقد حزن مرآة أعمق الحزن حتى انفجر بالدموع والبكاء. وكان يُطلب من مرآة أن يعظ في اجتماعات الكنيسة للمسيحيين وفي الاجتماعات التبشيرية. وكان خطيباً مفوهاً للغاية. ومرة في اجتماع تبشيري، وقد امتلأت الكنيسة بالمسلمين روى مرآة قصة إنقاذ المسيح إياه من الموت بقوة عجيبة ظاهرة حتى بُهت الحاضرون وانذهلوا من شهادته الجريئة. وبعد أن سمع واحدٌ من أشهر الوعاظ الفصحاء بالفارسية إحدى عظات «مرآة» قال لواعظ مشهور آخر: «لماذا لا نستطيع نحن أن نعظ هكذا؟».
ولما زاد عدد المتجددين من اليهود والمسلمين في طهران قرر مجلس (عمدة) الكنيسة أنه بالإضافة إلى خدمة العبادة الجمهورية التبشيرية صباح الأحد في كنيسة المرسلية أن الحاجة تدعو إلى خدمة تعبدية خاصة للمسيحيين وحدهم. ولهذا حصل عدد من أعضاء الكنيسة الناطقين باللغة الفارسية على إذن بإقامة بناء خاص وتبرعوا بالأموال اللازمة لذلك، وبنوا مكاناً صغيراً جميلاً لعبادتهم. وكتب أحدهم يقول: «ما كان أشد فرحنا عندما تم البناء! واستخدمناه عدة سنين لخدمات الكنيسة، واجتماعات الصلاة، واجتماعات المجلس (العمدة) وكان ذلك بركة عظمى لجماعة المسيحيين. وكان دور «مرآة» في هذا المشروع كبيراً جداً» . وفي أثناء ذلك الوقت كان الأعضاء الأرمن يعقدون اجتماعاتهم الكنسية بلغتهم الخاصة في مكان منفصل عن البناية.
ولما نمت مدينة طهران وزاد عدد سكانها صار لزاماً على الكنيسة أن تحصل على قطعة أرض جديدة للمدافن. واقترح القس حكيم على العمدة أن تشتري قطعة أرض لهذا الغرض شرق مدينة سليماني، حيث توجد مدافن البهائيين والمسلمين. واهتم مرآة بهذا المشروع وعمل أكثر من أي شخص آخر في إعداد هذه الأرض. واختار مدفناً خاصاً له، وأعد قبره بفرح، بل رقص حوله، لأنه كان يثق أن من يؤمن بالمسيح لا يموت (مثل سائر الناس) ولم يكن يخاف من الموت.
إن المثل القائل «الصديق الحقيقي هو الصديق الذي تلقاه في وقت الحاجة» ينطبق على مرآة خير انطباق. روى القس حكيم كيف أسرع مرآة لنجدته في وقت الحاجة، فقد رتَّب القس اجتماعاً تبشيرياً في الحي اليهودي في طهران، ودعا الدكتور شولر ليكون الواعظ. وامتلأت القاعة بالحاضرين وازدحمت بغير مسيحيين. وكان الاهتمام شديداً جداً. ولكن حالما انتهى الاجتماع أرسلت الشرطة في طلب القس حكيم وأبقته للتحقيق أربعة أيام. وأجاب القس حكيم بأنه قسيس عمله الكرازة بالإنجيل، وأكد أن هذا هو الغرض من الاجتماع وأنكر كل ادعاء أن للاجتماع أي غرض سياسي. فلما سمع مرآة بما حدث لصديقه اتصل فوراً بالرؤساء وأوضح لهم ما عمله القس حكيم، وأكد لهم براءته التامة من أي مأرب سياسي. وألح عليهم بمراجعة سجل القس حكيم الماضي. ولما فعلوا ذلك وجدوا أن سجله نظيف وليس له أية سابقة. وطلب مرآة إطلاق سراح القس حكيم في الحال، وقدم نفسه للحبس عوضاً عنه إذا دعا الحال. ولم يكن هناك داع فأطلق القس حكيم في اليوم الرابع، وصرح له أن يعود إلى بيته.
ذات مساء دُعي أحد المرسلين للغداء في بيت مرآة المشهور بكرم الضيافة. وبينما كان يتكلم مع مضيفه قبل تناول الطعام وقع نظره على صورة معلقة على الحائط لرجل في لباسه البوليسي الرسمي بوجه صارم تبدو علامات القساوة على ملامحه، وسأله الضيف: لمن هذه الصورة؟. فأجاب مرآة: «هذه صورتي قبل أن يخلّصني المسيح». ثم أشار إلى صورة أخرى على الحائط المقابل وأضاف: «وهذه صورتي بعد أن أصبحت مسيحياً». وتطلع الضيف في الوجه المبتسم الذي تملأ قلبه محبة المسيح، فأدرك أكثر من ذي قبل حقيقة التغيير الذي حدث في حياة مرآة فقد أصبح الآن مرآة الملك حقاً وفعلاً.
ساءت صحة مرآة في سنيه الأخيرة، ولما كان أصدقاؤه يزورونه كانوا يجدونه جالساً عند الموقد، وكان يشتاق دائماً أن يتحدث عن أمور الله، ويصلي مع ضيوفه. مات معظم أصدقائه المسنين، إخوته في المسيح، فشعر مرآة بالوحدة المؤلمة جداً. وفي تلك الفترة حصل على «رؤيا» أخرى هي آخر رؤيا سجلها في كتيبه. وكتب عنها ما يأتي:
ذات يوم حين كنت مريضاً أجلس منفرداً في غرفة نومي منشغلاً بالصلاة ملتمساً النجاة من ضغط الدم العالي، رأيت وإذا أسوار الغرفة قد زالت في الحال، وتطلعت وإذا حديقة لم أر مثلها في كل حياتي، لا في إيران ولا خارج إيران. ورأيت نفسي وسط بساطها الأخضر بأزهارها المتعددة الألوان تملأ الحديقة كلها. وتأملت في الأزهار وجمالها الرائع ومساقط المياه بسحرها الأخاذ، وظللت أتأمل، لكني لم أفهم أي شيء عنها لأني لم أر شيئاً كهذا قط. وفيما أنا غارق في تأملاتي في الحديقة تأخذني الدهشة الفائقة، رأيت كل الإخوة الذين اعتدت أن أجتمع معهم للصلاة، يمشون تحت الأشجار واحداً بعد الآخر، ونظرت إليهم بكل لهفة، ولاحظت أنهم يرونني من بعيد ويبتسمون لي ثم يمضون في طريقهم. فلما رأيتهم انزعجت أشد انزعاج، ومددت يدي نحوهم وظللت أنادي بصوت عال: «يا إخوتي الأعزاء، خذوني معكم حيثما تذهبون». وجعلهم صياحي العالي يلتفتون إليّ أكثر، وكانوا يبتسمون لي وهم يسيرون. أما أنا فإذ اندهشت من أنهم لم يأخذوني معهم زدت صياحاً. كان هؤلاء هم الإخوة الذين انتقلوا من هذا العالم واحداً بعد الآخر ليكونوا مع المسيح. أخيراً صحت بصوت عال جداً لدرجة أيقظت زوجتي وأولادي فركضوا إلى غرفتي فزعين، وأحاطوا بي متسائلين ترى ماذا حدث لي. ولما عدت إلى نفسي أدركت أن هذه الحديقة وكل ما رأيته لم يكن سوى رؤيا. ومع أنه قد مضى على هذه الحادثة سنوات كثيرة، إلا أني لم أنسَ تلك الحديقة الساحرة، ولا الأشخاص الذين رأيتهم بعيني وهم يسيرون، وأحد هؤلاء الإخوة هو نوزاد الأخ الذي صلى لأجلي لما كنت محبوساً في السجن الروسي، كما كان بينهم رابي يبرم واعظ الكنيسة الإنجيلية. والبقية كانوا من الإخوة الذين اعتادوا أن يجتمعوا للصلاة في ليالي الصلاة في أثناء الأسبوع. ولا شك عندي أن المنظر الذي رأيته هو الفردوس الذي وُعدنا به، وأنا دائماً في صلواتي أتضرع إلى الله العلي أن يتوّب جميع الخطاة ليؤمنوا بالمسيح المخلص الوحيد.
كتب صديق لمرآة يقول: «كنت حاضراً في اجتماع الكنيسة في طهران عندما تكلّم مرآة عن الرؤيا التي رأى فيها إخوته الأعزاء الذين سبق أن ذهبوا ليكونوا مع المسيح، ورأيته وهو واقف على منبر الكنيسة يصف بشكل تمثيلي قوي مرور نوزاد وزملائه الآخرين تحت الأشجار، وشاهدت ملامح الحزن العميق على وجهه لما ذكر أنه لم يستطع أن يذهب معهم». نعم إنه لم يقدر أن يذهب وقتئذ، ولكن قبل أن تمضي شهور كثيرة انضم إليهم في ذلك الفردوس الجميل.
لما أدرك مرآة أن موته يقترب ظل في غرفته في بيته، وأنفق الوقت في درس الكتاب المقدس والصلاة، لأنه أراد أن يكون منفرداً مع ربه وسيده. وقد وافاه الموت في أغسطس (آب) عام 1948 وكان معظم أصدقائه المسيحيين المقربين بعيدين عن طهران. وقبل أن يتسنى ترتيب جناز مسيحي لدفنه في القبر الذي أعده لنفسه، وبالرغم من اعتراض راعي الكنيسة، حمل أقرباؤه المسلمون جثمانه ودفنوه في قبر قريب من ضريح ولي مسلم. والذين ظلوا يقاومون صيرورته مسيحياً في حياته قاوموا رغبته أن يُدفن في مدفن مسيحي في مماته.
قيل إنه في القيامة سيقوم في اليوم الأخير كثيرون من المسيحيين المدفونين في مدافن المسلمين، ولا بد أن يكون مرآة السلطان واحداً منهم. ولا ينسى أحد ما قدمه من خدمات فائقة في تبشير المسلمين وفي بناء كنيسة المسيح، ومنح الحرية الدينية في إيران.
أيها القارئ العزيز،
إذا قرأت هذه السيرة الممتعة بتمعن، يمكنك الاجابة على الأسئلة التالية وذلك بنسخ الأسئلة إلى قسيمة الاتصال بنا في الموقع وإضافة الجواب تحت كل سؤال.
الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:
www.the-good-way.com/ar/contact
او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:
The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland