حتمية التجسد الإلهي
1. إن كان السبب الرئيسي للتجسد هو فداء الإنسان الذي سقط و تجديد طبيعته التي فسدت , فلماذا خلق الله الإنسان؟
2. لماذا الوصية التي كانت سبباً للسقوط ؟ و لم خلق الله هذه الشجرة و منع آدم من الأكل منها ؟ و لماذا هذا الأمتحان الصعب؟
3. هل سقوط آدم يعتبر سقوط للبشرية جمعاء؟
4. ما ذنبنا نحن في خطية آدم ؟ و هل العدل الإلهي يقاصص القاتل فقط أم أنه يقاصصه هو و أولاده و ذريته؟ و إن كانت العدالة الأرضية القاصرة لا تحكم علي إبن القاتل بالإعدام فما بال السماء تحاسبنا علي خطية آدم؟ و هل أحاسب علي خطية أبي وجدي و أمي و جدتي .. و هلمَ جرا؟
6. لماذا لم يفني الله آدم و حواء و يخلق إنساناً جديداً يطيعه؟
7. لماذا لم يخلص الله آدم و حواء بالقوة , فمجرد كلمة منه قادرة علي رد آدم و حواء اللذان سباهما الشيطان؟
8. لقد أخطأ آدم رغم التحذير , فلماذا لم يتركه الله لمصيره المشئوم, و ليكتف بإنه يعطه الناموس و الوصايا؟
9. الله غفور رحيم.. فلماذا لم يسامح آدم وتنتهي المشكلة؟
10. إذا قدم آدم توبة نصوحة ألا يقبله الله و يرضي عنه ؟ و إلا فما لزوم التوبة للإنسان؟!
11. يقول البعض أن "الحسنات يذهبن السيئات " , فأن كان آدم أخطأ في واحدة , ثم صنع أعمالاً حسنة و صالحة , ألا تسمح هذه الأعمال الصالحة خطية آدم الوحيدة؟
12. فليقدم آدم ذبيحة فداء عن نفسه , و ليقدم ذبيحة أخري فداء عن حواء .. ألا تكفر الذبائح عن الخطايا؟ و إن كانت لا تكفر فلماذا أوصي الله بها في العهد القديم؟
13. لماذا لم يكلف الله موسي رئيس الأنبياء بتقديم ذاته فدية عن أبيه آدم ؟ أو لماذا لم يكلف الله رئيس الملائكة الجليل ميخائيل لحل مشكلة البشرية الساقطة؟
14. هل مبدأ الإنابة يتمشي مع العدالة الإلهية , و مع العقل فيموت البرئ نيابة عن المذنب؟
15. و مازال السؤال يلح : ما هو الدافع القوي الذي دعي الله للتجسد أو ما هية حتمية التجسد الإلهي؟
16. ما معتي أن الله تجسد و تأنس؟ و لماذا يجب أن نؤمن بعقيدة التجسد؟
عندما يتبادر إلي أذهاننا موضوع التجسد الإلهي , فحسناً يا صديقي أن تتصورَ طفل المزود وهو يرضع لبن البتول , و الملائكة ترتل بخشوع , و الرعاة يحملون الزبد و اللبن , و يقدمون حملاً صغيراً للحمل الحقيقي الذي يرفع خطية العالم كله , و النجم يتقدم المجوس فيأتون و يسجدون و يقدمون هداياهم , و في وسط هذة المشاعر الفياضة حسن أيضاً أن نتأمل في طبيعة مولود المزود مشتهي الأجيال .. كيف صار الكلمة جسداً ؟!.. كيف تجسد الإله و تأنس ؟! كيف اتحد الكلمة الأزلي بالجسد الزمني ؟!.. كيف اتحد الخالق بالمخلوق ؟!.. دعنا يا صديقي نتذوق و لو قليلا من طعام البالغين.
إن كان السبب الرئيسي للتجسد هو فداء الإنسان الذي سقط , و تجديد طبيعته التي فسدت , فقد يتساءل البعض و لماذا خلق الله الإنسان من الأساس ؟ و لماذا أعطاه الوصية التي كانت طريقاً للموت ؟ وإن كان الذى أخطأ هو آدم و حواء , فما هو ذنب الأبناء في توارث الخطية ؟ و لماذا لم يفكر الله في بديل آخر للخلاص غير رحلة التجسد و الصليب؟
س1: إن كان السبب الرئيسي للتجسد هو فداء الإنسان الذي سقط و تجديد طبيعته التي فسدت , فلماذا خلق الله الإنسان؟
ج: يسبق هذا السؤال سؤال آخر مؤداه :
كلا.. لأن كل هذة نتائج و ليست أسباباً.. لقد خلقنا الله فنحن مدينون له و لذلك نقدم له العبادة و الشكر و التسبيح , ليست كفروض و قيود وواجبات ثقيله , و لكنها علامة حب و امتنان و تقدير له .. لو خلق الله الإنسان لكيما يعبده فمعني هذا أن الله كان ينقصه عبادة الإنسان , بينما الله كامل في ذاته متكامل في صفاته منزَه عن النقص .. لم يكن الله محتاجاً قط لإنسان أو ملاك لكيما يعبده .. الله لم يكن يعاني من نقص معين فعوَضه بخلقه الإنسان "كان من الممكن أن لا يخلق الله أي كائن آخر و مع ذلك فإن كماله لن ينقص ولا سعادته تتغير, و الحقيقة أن الله خلق الإنسان من فرط جوده و محبته , فالإنسان هو وليد محبة الله الغظيمة .. خلق الله الإنسان لكيما يتمتع ذاك الإنسان بنعمة الوجود في الحضرة الإلهية , و قبل أن يخلقه أعدَ له كل شئ .. خلق من أجله الشمس و القمر و زين الكون بالنجوم .. هيأ له الأرض و خلق له النباتات و زينها بالأزهار و الورود .. خلق له الأسماك و الطيور و الحيوانات أنواعاً و أشكالاً و ألواناً بشكل يخلب الألباب , و رأي الله أن كل هذا حسن , و عندما خلق الإنسان ميَزه عن سائر الخليقة إذ خلقه علي صورته و مثاله في الوجود و العقل و الحياة .. خلقه علي الصورة التي سيتخذها لنفسه في ملء الزمان .. " نعمل الإنسان علي صورتنا كشبهنا "( تك 1:26 ) و كلمة "صورة بالعبرية "صليم" أي الظل أو الخيال , فالإنسان هو ظل الله علي الأرض , و "شبه" بالعبرية "ديموت" أي دمية أو مثال أو شبه , فالإنسان مثال الله في الإبتكار و حرية الإرادة و السلطة و الخلود.. إلخ و عندما خلقه قال "حسن جداً" (تك 1: 31) و ميَزه بأن نفخ في أنفه نسمة حياة, فاستقرت هذة النسمة في وجدان الإنسان و هي التي تدفعه للسعي نحو الأصل حتي بعد السقوط .
و يقول القديس أثناسيوس الرسولي " لأن الله صالح , أو بالحري هو بالضرورة مصدر الصلاح , و الصالح لا يمكن أن يبخل بأي شئ , لذلك فأنه إذ لا يضن بنعمة الوجود علي أي شئ ؟ خلق كل الأشياء من العدم بكلمته.. يسوع المسيح ربنا.. فإنه لم يكتف بمجرد خلقته للإنسان , كما خلق باقي المخلوقات غير العاقلة علي الأرض , بل خلقه علي صورته و مثاله , و أعطاه نصيباً حتي في قوة "كلمته" لكي يستطيع و له نوع من ظل "الكلمة" و قد خلق عاقلا, أن يبقي في السعادة أبداً, و يحيا الحياة الحقيقية , حياة القديسين في الفردوس وكان آدم و حواء في الجنة عريانان و هما لا يخجلان لأن نعمة الله كانت تسترهما, و الشهوة لم تقربهما, و المرض و الألم لم يعرفاهما , و الموت لم يقوي عليهما , فعاش آدم في إنسجام و حب مع جابله , و مع الآخرين (حواء) و كان ملكاً متوَجاً علي الطبيعة متسلطاً علي أسماك البحر وطيور السماء و حيوانات الارض.
و إذا تسائل أحد قائلاً : مادام الله يعلم بسابق علمه أن آدم سيعصاه و يسقط في الخطية.. فلماذا خلقه؟
و نحن نجيبه بأن الله بسابق علمه يعلم أن آدم سيعصاه و يخطئ , و لكنه يعلم أيضاً أنه دبَر له أمر الفداء منذ الأزل , و سيحول الشر الذي تعرض له إلي خير , و أنه سيرده ليس إلي مرتبته فقط إنما سيرفعه من الفردوس الأرضي إلي الملكوت.
و كمثال تبسيطي للرد علي التساءل السابق نقول أن الإنسان يعلم أنه عندما يتزوج و ينجب سيتعرض أبناءه إلي بعض الأمراض و بعض المتاعب في حياتهم , فهل هذا يدفعه للعزوف عن الزواج ؟.. كلا, لأنه يعلم أيضاً أنه متي تعرض أبناؤه للمرض فانه سيسرع بهم إلي الأطباء المتخصصين لعلاجهم , و متي تعرضوا للمتاعب فأنه سيقف بجوارهم حتي يتخطوا هذه المتاعب و يخرجوا للحياة أشد عوداً و أقوي صلابة. حقا أن لدي الله فيض من العواطف الأبوية تكفي بلايين البشر , و لذلك خلقهم لينعموا بأبوته , و عندما تجسد الله الكلمة لمسنا فيه هذا الحب الأبوي فجميع الخطاة و العشارين و الزناة التائبين و المطروحين وجدوا لهم مكانا في قلبه .. يالهذا الحب الإلهي الأبوي الذي أوجد الإنسان من العدم!!
س2 : لماذا الوصية التي كانت سبباً للسقوط ؟ و لم خلق الله هذه الشجرة و منع آدم من الأكل منها ؟ و لماذا هذا الأمتحان الصعب؟
ج: الحقيقة أن الوصية الإلهية لآدم لم تكن سبباً لسقوطه إنما جاء السقوط بسبب غواية الحية ابليس و أيضاً من الشك في كلام الله , و تصديقه لكلام ابليس , و كان عمل إبليس هذا موجهاً بالدرجة الأولي ضد الله , فهو يعلم أنه لو نجح في إسقاط الإنسان في المخالفة فلابد أن الإنسان سيسقط تحت حكم العدل الإلهي و ينال عقوبة الموت, كما أخطأ هو و طرد من السماء , و بذلك يفشل هدف الله من خلقه الإنسان.
و كانت الوصية بسيطة و سهلة "من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً . أما شجرة معرفة الخير و الشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت" (تك17,16:2)
فجميع شجر الجنة كان تحت تصرف آدم يأكل كما شاء ووقتما شاء, و هذة شجرة وحيدة وضعت بحكمة إلهية و كان من السهل أن يصرف النظر عنها و لو لم تعطي حواء إذنها للحية الماكرة ما كان السقوط .
و الحكمة من الوصية هي منح الإنسان الفرصة للتعبير عن حبه لله و طاعته له , ليس عن قهر و اضطرار بل بروح الحرية و الحب.. إنها إحترام لإرادة الإنسان الحرة , بواسطتها يعبر الإنسان عن إرادته في الإلتصاق بالله .. لقد قدم الله للإنسان الكثير و الكثير , فعندما يقدم آدم الطاعة البسيطة لله فهي بمثابة ذبيحة لذيذة يقدمها المخلوق للخالق فيشتم الله الخالق هذة الذبيحة و يستثمنها , مثل أب يحضر لإبنه شجرة ورد نادرة الوجود و يغرسها في حديقة المنزل, و يحضر لها السماد و يوفر لها الماء , و يوصي إبنه أن يرويها و يرعاها , فتنمو الشجرة و تترعرع , فعندما يقدم الإبن الوردة الأولي للأب .. كم تكون سعادة الأب بإبنه الذي نفذ وصيته و روي الشجرة و تعهدها بالرعاية؟!.
و كانت الوصية سنداً و دعماً للإنسان , فيقول القديس أثناسيوس "و لكن لعلمه (لعلم الله) أيضا إن إرادة الإنسان يمكن أن تميل إلي إحدي الجهتين (أي الخير و الشر) سبق فدعم النعمة المعطاه له بالوصية التي قدمها إليه , و المكان الذي قامه فيه , لأنه أتي به إلي جنته و أعطاه الوصية , حتي إذا حفظ , و أستمر صالحا , إستطاع الأحتفاظ بحياته في الفردوس بلا حزن ولا ألم و لا هم.. أما إذا تعدي الوصية و إرتد و أصبح شريرا فيعلم أنه يجلب علي نفسه الفساد بالموت الذي كان يستحقه بالطبيعة , و أنه لا يستحق الحياة في الفردوس بعد"
و يجب أن نلاحظ أن الله لم يقل لآدم "يوم تأكل من الشجرة سأميتك" إنما قال له "يوم تأكل من الشجرة موتا تموت " أي أنك تسلم نفسك بإرادتك للموت , لأن المعصية تحمل بذار الموت في طياتها , و لذلك قال الله علي لسان الحكبم " من يخطئ عني يضر نفسه, كل مبغضيَ يحبون الموت" (أم 8:36) و أخيرا نقول أنه كان من العدل أن يمتحن الله الإنسان , فإذا نجح يكافئه , و إذا فشل يعاقبه لكيما يتغلم الصح من الخطأ, ثم لماذا كل هذا الإحتجاج علي الوصية و كأنهم يريدون إتهام الله بالظلم , و هو الذي حول لنا العقوبة خلاصاً.
ج: "فنقول" نعم, فبالخطية فسدت طبيعة آدم . كل ذرة في جسد آدم أصبحت فاسدة, مثل شجرة التفاح التي أصابها مرض لعين فكل ثمارها أصبحت فاسدة, و الشجرة الفاسدة تحمل بذارا فاسدة و لو زرعت لن تنبت إلا شجرة فاسدة تحمل بالتبعية ثماراً فاسدة .. و هلمَ جرا. لقد ورث الأبناء عن أيبهم الطبيعة الفاسدة المملوءة بالغرائز البهيمية و جري الدم الموبوء بالخطية في عروق جميع بني البشر " ها أنذا بالآثام حبل بي و بالخطية ولدتني أمي" (مز 51:5)
و الدليل علي توارث الخطية أن الخطية جاءت إلي حواء من الخارج أي من الحية, و جاءت إلي آدم من حواء التي سبقته في السقوط. لكن قايين من أين جاءته الخطية؟ إنها اتت من داخله , لم يدفعه أحد لها بل هي ساكنة فيه, و هكذا سقط الجميع حتي الأنبياء "الجميع زاغوا و فسدوا معا ليس من يعمل الصلاح ليس ولا واحد" (رو 3:12) صحيح إننا لم نرتكب الخطية الأولي و لكننا ولدنا بها بالإضافة إلي خطايانا الشخصية , فليس مولود إمرأة بلا خطية و لو كانت حياته يوما واحداً علي الأرض. إذا وراثة الخطية أمر واقع"
و يوضح الإنجيل حقيقة توارث الخطية من أبينا آدم فيقول " من أجل ذلك كإنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلي العالم و بالخطية الموت و هكذا اجتاز الموت إلي جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو 5:12) فمن لا يخطئ بالفعل يخطئ بالقول و من لا يخطئ بالقول يخطئ بالفكر, و "النفس التي تخطئ تموت" (حز 18:4) و يقول القديس أثناسيوس "لأن البشر لم يقفوا عند حد معين حتي في سوء أفعالهم , بل تدرجوا في الشر حتي تخطوا كل حدود , و أصبحوا يخترعون الشر و يتفننون فيه, إلي أن جلبوا علي أنفسهم الموت و الفساد, و بعد ذلك إذ توغلوا في الرذيلة, و لم يقفوا عند شر واحد , بل راحوا يخترعون كل جديد من الشر , فقد أصبحت طبيعتهم مشَبعة من الخطية , فها هي خطايا الزني و السرقة قد عمَت كل مكان, و إمتلأت كل الأرض بخطايا القتل و النهب, و أصبح البشر لا يراعون حرمة للناموس , بل صاروا يرتكبون الجرائم في كل مكان, سواء كأفراد أو جماعات.. و صار كل إنسان يتنافس مع أقرانه في الأعمال القبيحة , و أصبحوا لا يترفعون حتي عن الجرائم التي ضد الطبيعة كما يقول عنهم بولس رسول المسيح و شاهده.. (رو 1:26,27)"
و كما أنه لا يمكن أن نجني من الشوك تيناَ و لا من الحسك عنباَ, و كما أن الخنزيرة لا يمكن أن تلد حملاً . كذلك لا يمكن أن يخرج من الإنسان الفاسد إنسان بار, و لا يقل أحد أن الإنسان يولد بريئاً و لكن البيئة التي يعيش فيها هي التي تزرع فيه الشر, لأن حتي الأطفال الذين يولدون في بيئة صالحة يصاحب تصرفاتهم الفساد و الكبرياء و الأنانية و الغيرة.. إلخ و جميع هذة النقائص هي خطايا, و حتي لذين يولدون في الغابات بعيداً عن المدينة فإنهم لا يخلون من المكر و الأنانية حتي أبدا البعض بعض الملاحظات التي يجب أن تؤخذ في الحسبان فقالوا أن الإنسان يولد و به ميل إلي الخطية و هذا الميل و إن كان لا يبدو بوضوح في الصغر, غير أنه يأخذ في الظهور كلما شبَ الإنسان و نما. فمثل هذا الميل مثل السم الكامن في الثعبان, فإنه لا يرد إليه من الخارج , بل أن الثعبان يولد و في جسمه أستعداد لتكوينه . و كل مافي الأمر, أن هذا السم لا يظهر بنتائجه المميته , إلا إذا بلغ الثعبان سناً معيناً..
و قد يتساءل البعض كيف نقول أن البشر جميعا قد ورثوا الخطية و فسدت طبيعتهم بينما يوجد رجال أبرار صالحون في العهد القديم فقيل عن نوح " كان نوح رجلاً باراً كاملاً في أجياله" (تك 6:9) و قيل عن أيوب "كان هذا الرجل كاملاً و مستقيماً يتقي الله و يحيد عن الشر" (أي 1:1) و قيل عن زكريا و اليصابات أنهما "كانا كلاهما بارين أمام الله" (لو1:6).
فنقول أن الصلاح بمعناه الحقيقي أن الأنسان لا يخطئ علي لإطلاق لا بالفعل و لا بالقول و لا بالفكر بالإضافة إلي عمل كل أعمال الخير . مثل هذا الصلاح لن نجده بين البشر علي الإطلاق, و لذلك قال الرب يسوع "ليس أحد صالحا إلاَ واحد و هو الله" (لو 18:19) أما رجال الله الصالحون فهم الذين فعلوا الصلاح النسبي و كانت خطاياهم قليلة و يقدمون عنها أعترافا و ذبيحة فتغفر لهم علي حساب دم المسيح.
و قد يقول البعض أنه مادام الإنسان قد ورث الخطية و بالتالي أصبح لديه ميل طبيعي لها فهو غير مسئول عن تصرفاته الخاطئة؟
و نقول لمثل هؤلاء أن غير المسئولين عن تصرفاتهم هم الأطفال الذين لا يدركون الصح من الخطأ , و كذلك ذوي العاهات الخاصة الذين لا يملكون قوة التمييز بين الصح و الخطأ. أما الإنسان الذي ميَزه الله بالعقل الراجح و يعرف الخير من الشر فهو مسئول مسئولية كاملة عن جميع تصرفاته لأنه فعلها بكامل حريته , و إذا إشتكي من ضعف إرادته فالطريق التي تقويتها هو الالتصاق بالله و التماس القوة منه, و عندئذ يقول الضعيف بنعمة الله بطل أنا.
س4: ما ذنبنا نحن في خطية آدم ؟ و هل العدل الإلهي يقاصص القاتل فقط أم أنه يقاصصه هو و أولاده و ذريته؟ و إن كانت العدالة الأرضية القاصرة لا تحكم علي إبن القاتل بالإعدام فما بال السماء تحاسبنا علي خطية آدم؟ و هل أحاسب علي خطية أبي وجدي و أمي و جدتي .. و هلمَ جرا؟
ج: صحيح أننا لم نرتكب الخطية الأولي, و لكننا ولدنا بها بالإضافة إلي خطايانا الشخصية , و من يستطيع أن يتبرر أمام الله من خطاياه و لو كانت حياته يوماً واحدا علي الأرض؟.
و من المعروف حسب قانون مندل للوراثة أن العوامل الوراثية تمتد حتي الجد السابع , فمثلا نوع الشعر و لون العينين و الطول و القصر و لون البشرة يرثها الإنسان عن أبائه و أجداده , و لم نر إنسانا عاقلا يحتج علي صفاته الوراثية . بل قد يرث إنسانا عن أبويه بعض الأمراض مثل السكر و خلافه , فهل يحتج هذا الإبن علي أبيه الذي أورثه ذلك المرض؟! و ماذا يفيد إحتجاجه ؟ أليس من الأجدي البحث عن العلاج و المواظبة عليه بشكر الله الذي بحكمة فعل أو سمح بهذا المرض لخير الإنسان؟
و كثيرا ما نري إبنا ورث عن أبيه ميراثا ماديا كبيرا و آخر ورث عن أبيه بعض الديون و أسرة كبيرة بلا مورد للرزق , فيتمتع الأول بميراث أبيه, و الثاني لو كان عاقلا حكيما فلا ينبغي أن يحتج و يلعن الظروف و الأقدار التي شاءت أن يكون مثل هذا الرجل أباه. بل يحافظ علي سمعة أبيه و يعمل و يجتهد و يجد لكيما يسدد ديون أبيه , و يعول والدته و اخوته.
إذا فالسؤال الحكيم لا يكن بالصورة السابقة المحتجة إنما يكون هكذا:
و الإجابة: نعم , و بكل تأكيد هناك علاج أكيد في دم المسيح "فإذا كما بخطية واحدة صار الحكم إلي جميع الناس للدينونه هكذا ببر واحد صارت الهبة إلي جميع الناس لتبرير الحياة. لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاه هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبرارا" (رو 19:18:5) "إذ لا شئ من الدينونة الآن علي الذين هم في المسيح يسوع الساكنين ليس حسب الجسد بل حسي الروح" (رو1:8) و لو ظل إنسان مازال يتساءل: ماذنبي في خطية أبي آدم؟ يرد عليه القديس أوغسطينوس قائلا: وأي فضل لك في خلاص المسيح؟!
ج: أهم نتائج السقوط تتمثل في الآتي :
أ- الموت الروحي الأبدي : أي إنفصال الإنسان عن الله مصدر الحياة, فبالمعصية انفصلت الصورة عن الأصل, و انفصلت الشركة بينهما , و صار الإنسان الخاطئ يهرب من الله لأنه يستحيل عليه التواجد في حضرة الله القدوس, و هل تثبت الظلمة أمام النور؟
و يقول القديس أثناسيوس "ما معني (الله) بقوله (موتا تموت) ؟ ليس المقصود مجرد الموت فقط بل أيضاً البقاء إلي الأبد في فساد الموت" (تجسد الكلمة 5:3).. لقد سقط آدم و صار مصيره إلي الجحيم الأبدي مع الملاك الساقط لو لا رحمة الله التي أدركته بالتجسد, و قد عاش آدم فترة حيا بالجسد و لكن للوقت سري عليه الموت الروحي كقول معلمنا بولس لأهل أفسس "وأنتم إذ كنتم أمواتا بالذنوب و الخطايا " (أف 1:2) و يقول القديس أوغسطينوس "إن موت الجسد هو إنفصال الروح عن الجسد , و موت الروح هو إنفصال الروح عن الله"
ب- الموت الجسدي: منذ اللحظة التي أكل فيها الإنسان من ثمرة الشجرة المحرمة و قد حطم الوصية بدأت تدب فيه عوامل الإنحلال , و إن كان آدم لم يمت عقب الأكل مباشرة فذلك بسبب إرادة الله الصالحة في إنقاذ الإنسان من الهلاك الأبدي , فتركه لكيما ينجب, و من نسله يأتي مخلص العالم . و أيضاً بالمعصية خضع الإنسان لساطان الأمراض التي تفضي به إلي الموت , و يقول القديس أثناسيوس "فاالله إذ خلق الإنسان , قصد أن يبقي في عدم فساد , أما البشر فإذا إحتقروا و رفضوا التأمل في الله , و اخترعوا و دبروا الشر لأنفسهم .. فقد أستحقوا حكم الموت الذي سبق تهديدهم به, و من ذلك الحين لم يبقوا بعد في الصورة التي خلقوا عليها, بل فسدوا حسبما أرادوا لأنفسهم (جا 29:7 , رو 21:1, 22) و ساد عليهم الموت كملك (رو 14:5) .. كذلك يجب أن لا يتوقعوا إلا الفساد .. و بتعبير آخر يجب أن تكون النتيجة الإنحلال و بالتالي البقاء في حالة الموت و الفساد" (تجسد الكلمة 4:4,5).
ج- الموت الأدبي: بالسقوط فقد الأنسان مجد الصورة الإلهية داخله, فقد وقاره و هيبته و كرامته, و صار مطرودا من الفردوس هائما علي وجهه يعاني من عار الخطية التي تركت وصمتها القوية داخل النفس , و بعد أن كان آدم و حواء عريانين و لا يخجلا لأن النعمة كانت تسترهما انتابهما عقب المعصية الإحساس بالعري و الخجل و الخزي "فخاطا أوراق تين و صنعا لأنفسهما مآزر" (تك 7:3) و إجتاح الخوف حياة آدم حتي من صوت جابله الذي كان يسعد و يتلذذ به فقال "سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني غريان فاختبأت" (تك 10:3) و ظل الإنسان يعيش الموت الأدبي الذي ينتهي به إلي الموت الجسدي . أما الموت الروحي فيعبر معه من هذا العالم إلي العالم الآخر.
د- العقوبات التي حلت بالإنسان و الحية: عقب السقوط حكم الله علي آدم و حواء و الحية , و لم يحكم علي إبليس لأنه سبق الحكم عليه , و جاءت العقوبات كالتالي:
للحية: "فقال الرب الإله للحية لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم و من جميع الوحوش البرية. علي بطنك تسعين و ترابا تأكلين كل أيام حياتك. و أضع عداوة بينك و بين المرأة و بين نسلك و نسلها . هو يسحق رأسك و أنت تسحقين عقبه" (تك 14:3 , 15) ففي طيات العقاب جاء الوعد بالخلاص إذ يسحق نسل المرأة رأس الحية.
للمرأة: "وقال للمرأة تكثيرا أكثر أتعاب حبلك . بالوجع تلدين أولادا . و إلي رجلك يكون اشتياقك و هو يسود عليك" (تك 16:3)
لآدم: "وقال لآدم لأنك سمعت لقول إمرأتك و أكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك . بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. و شوكا و حسكا تنبت لك و تأكل عشب الحقل . بعرق وجهك تأكل خبزا حتي تعود إلي الأرض التي أخذت منها لأنك تراب و إلي تراب تعود " (تك 17:3 , 18)
و طرد آدم و حواء من الفردوس و أقام الله كاروبيم و لهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة لئلا يأكل آدم منها فيحيا إلي الأبد بخطيئته , و ظل لآدم يحرث الأرض و يزرعها لتخرج له شوكا و حسكا , فيأكل خبزه بعرق وجهه , و هكذا أولاده , و لم يفلح أحد منهم قط في العودة إلي الفردوس المفقود إلا بالتجسد الإلهي و الفداء.
ه- تسلط الشيطان: "صار للشيطان سلطانا علي آدم كقول الإنجيل "أنتم عبيد لمن تطيعونه" (رو 16:6) فأصبح آدم عبداً للشيطان , و كما إن العبد ملكا لسيده ليس هو فقط, و لكنه هو و أولاده أيضاً. هكذا صار آدم و جميع بنيه ملكا للشيطان , و قام الشيطان بهذه المهمة خير قيام فوكل علي كل واحد من نسل آدم روحا من الأرواح الشيطانية يحثه علي إرتكاب المعاصي و الآثام , و متي أنتهت حياته يكشف عن منظره البشر فيرتعب الإنسان و تفيض روحه في يد الروح الشرير الذي يهبط به إلي الجحيم (حتي أرواح الأطفال الأبرياء و الأنبياء القديسين) لقد ملك الشيطان علي جنس آدم لكن ليس قهراً و لا جبراً ولا ظلماً إنما اقتناه لنفسه بالحيلة و المكر و الدهاء"
و- فساد الطيبعة البشرية: ونعيد القول "سكنت الخطية في الإنسان و أثرت علي جميع جوانب حياته , و فسدت طبيعته بالكامل فعاش في خوف و قلق و توتر و اضطراب و ألم و مرض بل قل أنه عاش في الموت. و أمتد أثر الخطية إلي الطبيعة فالأرض لم تعد تعطي ثمرها بل شوكا و حسكا تنبت لك و ها الحيوانات تغيرت طبيعتها فاصبحت متوحشه , و الرياح و الأعاصير و الفياضانات و اليراكين تطارد البشر".
بالسقوط فقد الإنسان حياة القداسه و البرارة و البراءة و الطهارة و السمو و البساطة و السلطة , فأصبحت نظرته مادية جسدية ترابية , و ثارت فيه غرائزه الطبيعية فأخذ يعاني من ضغطات الخطية من الداخل و المؤثرات الخارجية من الخارج , و صار عبدا للخطية يتردي فيها من سيئ إلي أسوأ فأسوأ.. صار عبدا لأهوائه و شهواته و لذاته الجسدية , و بالسقوط فقد الصورة الإلهية داخله فتمردت عليه الحيوانات و الطبيعة, و فقد سلامه الداخلي مع الله و مع نفسه و مع الآخرين , حتي شعر بالعداوة تجاه السماء , و اجتاحت حياته العزلة و الأنانية و القلق, و اجتاحته القلاقل و الخصومات, و بعد أن كان يقول عن حواء "هذه الآن عظم من عظامي و لحم من لحمي " (تك 23:2) أصبح يقول "المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة فأكلت" (تك 12:3) , و بالسقوط دخلت المعرفة الشريرة إلي الإنسلن , فبعد أن كان لا يعرف إلا الخير و الصلاح أصبح يعرف الشر , و تحول الإنسان من صورة الصلاح إلي صورة الفساد.. و من يقدر أن يجدد هذه الطبيعة الفاسده؟.
لقد وقف الإنسان عاجزا أمام خطيته الغير محدودة .. و من يخلصه منها؟ ووقع تحت سلطان الموت الروحي و الجسدي و الأدبي.. فمن يخلصه من قبضة الموت؟ و من يحطم شوكته؟
و صار الإنسان عبدا لأبليس السيد القاسي المتسلط .. فمن يخلصه من قبضة إبايس؟
ووقف الإنسان منكسرا أمام العدل الإلهي .. فمن يستطيع أن يوفي العدل الإلهي حقه؟..لاأحد.. لا أحد يقدر أن يصنع خلاصا هذا مقداره. فقط القادر علي كل شيئ هو الذي يقدر , و كم نشكره لأنه إرتضي أن تكون قضيتنا قضيته.
أما الذي يحتج بأن العدل الإلهي لا يمكن أن يقاصص إبن القاتل عن خطية أبيه القاتل , و إن معني توارث الخطية أن الإنسان يرث خطية أباه و جده و أمه و جدته.. فلمثل هذا نقول إن المشكلة إننا جميعا كنا في صلب آدم يوم أن أخطأ , وورثنا منه الخطية الجدية, و أيضا الطبيعة الفاسدة التي تدفعنا للخطأ, و لذلك لم نر إنسانا قط بدون خطية , و سواء هلك الإنسان بخطيته الشخصية أو بخطيته الشخصية و الخطية المتوارثة, فالنتيجة واحدة و هي الهلاك الأبدي , و الذي يحكم عليه بالموت مرة لا يضار لو حكم عليه بالموت عشرات أو مئات المرات.
بدائل التجسد: قد يتساءل البعض: ألم يكن هناك أي بديل آخر لرحلة التجسد و الفداء التي دفع تكلفتها بالكامل الله العظيم الممجد في السماء؟!
س6: لماذا لم يفني الله آدم و حواء و يخلق إنساناً جديداً يطيعه؟
ج: هذا البديل لا يصلح لحل هذه القضية للأسباب الآتية:
أ- لقد خلق الله هذا الإنسان ليحيا إلي الأبد , فعندما يجبر الشيطان الله علي تغيير هدفه و يفني الإنسان , فهذا يعتبر انتصار للشيطان علي الله , و ما رأيك عندما يعمل الله عملا فيفسده الشيطان , و لا يقدر الله علي علي إضلاح هذا الفساد؟.. ألا يعتبر هذا تحدي لقدرة الله و كرامته و حكمته ؟! إذا صمم مهندس حكيم ماكينة ريَ علي مستوي عال جداً من الكفاءة , و بعد ذلك حدث بها عطل فهل هذا المهندس الحكيم يدمرها أم أنه يجتهد لكيما يصلح العطل الذي حلَ بها؟ و إن كان هذا تصرف الإنسان الحكيم فكيف نستبعد هذا التصرف عن الله مصدر الحكمة؟!
ب- عندما يفني الله الإنسان الذي خلقه علي صورته و مثاله لأنه سقط بغواية إبليس.. ألا يعتبر هذا قسوة و اتهام صارخ ضد المحبة الإلهية التي أوجدت الإنسان من العدم ؟.. ألم يكن من الأفضل أن لا يخلق الله الإنسان بدلاً من أن يفنيه بعد خلقته؟! ألا يعتبر إفناء الإنسان دليل علي اليأس و قلة الحيلة , بينما أستخدام المحبة لعلاج القضية دليل علي القوة ؟! و هل تنسي أن الله محبة , وهو نبع الحب و الخير غيرالمتناهي .. فكيف تقصر محبة الله عن إنقاذ الإنسان محبوبه؟!.. يقول د. راغب عبد النور "أن المسيحية تعلمني أن الله من الإنسان مكان الوالد الحنون , و يرتبط بنا ارتباط المسئول عنا, و إن إلهنا المحبوب لا يتنازل عن أبوته حتي لو تنازل الإنسان عن بنوته, و إن إلهنا غير مستعد لكي يدمر الإنسان حتي لو أنتهي الإنسان إلي حالة العطب و عدم النفع. تعز علي إلهنا الفتيلة المدخنة, فيتولاها و يرعاها إلي أن تتحول إلي سراج منير.. كما أنه لا يدفع بالقصبة المرضوضة إلي النار , لكنه يعالجها بلطفه الشديد إلي أن تتحول إلي شجرة كثيرة الثمر, ممتدة الأغصان و وارفة الظل"
ج- إفناء الإنسان ضد صلاح الله , فيقول القديس أثناسيوس "وكان أيضاً أمرا غير لائق أن الخليقة التي خلقت عاقلة .. يصبح مصيرها الهلاك و ترجع إلي عدم الوجود بالفساد. لأنه مما لا يتفق علي صلاح الله أن تفني خليقته بسبب الغواية التي أدخلها الشيطان علي البشر.
و بصفة خاصة كان غير لائق علي الإطلاق أن تتلاشي صنعة الله بين البشر , إما بسبب إهمالهم , أو بسبب غواية الأرواح الشريرة.
و لو كان مصير الخليقة العاقلة قد بات إلي الهلاك , و صار مال هذه المصنوعات إلي الفناء , فما الذي يفعله الله في صلاحه إذاً؟ " (تجسد الكلمة 3:6-6) .
د- عندما يخلق الله إنسانا جديدا .. هل سيخلقه حرا مريدا؟ و لو كان حرا فما أدراك أن لا يأتي الشيطان ثانية و يسقطه بحيله أخري , و لا سيما أنه المحتال الذي يملك ألف حيلة و حيلة؟
س7: لماذا لم يخلص الله آدم و حواء بالقوة , فمجرد كلمة منه قادرة علي رد آدم و حواء اللذان سباهما الشيطان؟
ج: هذا الحل البديل لا يصلح للأسباب الآتية:
أ - ما أخذ بالقوة يسترد بالقوة . أما الشيطان فانه لم يأخذ الإنسان بالقوة .. لم يأخذ من ثمار الشجرة المحرمة , و لم يفتح فم آدم رغماً عنه , و لم يدفع إلي فمه الثمرة المحرمة . بل أن الشيطان في الأصل لا يقدر أن يسبي الإنسان بالقوة, لأن الإنسان في حماية القدير طالما كان ملتزما بطاعته. إنما أسقط الشيطان الإنسان بالحيلة و المكر و الدهاء و الخداع و الغواية " الحية غوتني فأكلت" (تك 13:3) و كما أن الله كامل في قوته فهو كامل في عدله أيضاً, فلو ردَ الإنسان بالقوة فإن هذا يعتبر ضد عدل الله الكامل.
ب- خلق الله الإنسان حرا مريدا , فعودة الإنسان لله لابد أن تتم بكامل حريته و إرادته , فربما يرده الله بالقوة فيقول آدم له : و من قال لك أنني أريد أن أسير معك .. أنا لا أحب الطريق الكربة و لا الباب الضيق , و ربما تقول حواء : انني معجبة بشغل الشياطين و لا أريد أن أتركهم .. من أجل هذا يا صديقي يطيل الله أناته علينا لكيما نعود إلي أحضانه الأبوي بكامل حريتنا و إرادتنا ,و يقول د. راغب عبد النور "أن يتدخل الرب الإله تدخلا مباشرا , و ينتشل الإنسان مما فيه , و رغم ما به و ما عليه , و هو إجراء لا يتمشي مع عدالة و طهارة الله , و حتي إن تصورنا إلهنا قابلا أن يقوم بهذا الدور. إلا أن الإنسان الذي سقط و تدنس , لا يستطيع أن يعايش الله في نوره و في قداسته , لأن كل ما فيه ينجذب نحو الظلام إنجذاباً تلقائياً , و قد يقبل الرب أن يقبل إلينا رغم ما فينا , فإننا في هذه الحالة سنهرب من وجهه هروبا , و لو إلي الموت"
ج - يناقش القديس أثناسيوس اقتراح البعض بأن الله كان يمكنه أن يخلص الإنسان بكلمة منه فيقول "يقولون إن كان الله قد أراد أن يصلح البشرية و يخلصها , وجب أن يتمم ذلك بمجرد نطق ملكي كريم , دون حاجة إلي تجسد "الكلمة" أي بنفس الطريقة التي اتبعها سابقاً عندما أوجدها من العدم. أما عن إعتراضهم هذا فنجيبهم جواباً معقولاً قائلين :سابقا لم يكن شئ موجودا علي الإطلاق , فالذي كان مطلوبا لخلقة كل شئ هو النطق الملكي, ثم مجرد الإرادة لإتمام ذلك. أما و قد خلق الإنسان , و أصبح الأمر يحتاج إلي علاج ما هو موجود , ووصل الأمر إلي تلك الحال , لا ما هو ليس موجوداً , لهذا السبب , و لكي يبرئ الموجود , دعت الضرورة بطبيعة الحال أن يظهر الطبيب , و المخلص تأنس و استخدم جسده أداة بشرية" (تجسد الكلمة 2,1:44).
وقال القديس كيرلس الكبير "كان من أجل خلاصنا أن كلمة الله يصير إنساناً لكي يجعل جسد الإنسان الذي تعرض للفساد خاصا له , و لكونه هو الحياة و المحيي يبطل الفساد الذي فيه".
د- عندما فسدت الطبيغة البشرية بالسقوط احتاجت للحياة لكيما تتحد بها و تطرد الفساد و الموت من داخلها , و هذا الأمر لا يحتاج لكلمة من الله , إنما يحتاج للتجسد الإلهي , فيقول القديس أثناسيوس "ثم يجب أن نعلم أيضاً , أن الفساد الذي حصل لم يكن خارج الجسد بل لصق به , و كان مطلوبا أن تلتصق به الحياة عوض الفساد , حتي كما تمكن الموت من الجسد , تتمكن منه الحياة أيضاً.
و الآن لو كان الموت خارج الجسد لكان من اللائق أن تتصل به الحياة من الخارج . أما و قد صار الموت ممتزجاً بالجسد و سائداً عليه, كما لو كان متحداً به , فكان مطلوباً أن تمتزج الحياة لأيضاً , حتي إذا م لبس الجسد الحياة بدل الموت , نزع عنه الفساد , و فضلا عن هذا فلو افترضنا أن "الكلمة" جاء خارج الجسد و ليس فيه , لكان الموت قد غلب منه (من المسيح) وفقا للطبيعة, إذ ليس للموت سلطان علي الحياة , أما الفساد اللاصق بالجسد فكان قد بقي فيه رغم ذلك.
لهذا السبب كان معقولاً جداً أن يلبس المخلص جسداً , حتي إذا ما اتحد الجسد بالحياة لا يبقي في الموت كمائت , بل يقوم إلي عدم الموت إذ يلبس عدم الموت .. لهذا لبس "المسيح" جسداً لكي يلتقي بالموت في الجسد و يبيده " (تجسد الكلمة 4:44-6).
ه- بالتجسد رد الله الضربة للشيطان بالفعل , فيقول القديس يعقوب السروجي "كما أن الشيطان دخل الحية و صرع الجنس البشري و أماته, هكذا أراد الله أن يأحذ جسد الإنسان و يختفي فيه ليقبض علي الشيطان الحية القديمة و يهلكه".
س8: لقد أخطأ آدم رغم التحذير , فلماذا لم يتركه الله لمصيره المشئوم, و ليكتف بإنه يعطه الناموس و الوصايا؟
ج: كان لا يمكن أن يترك الله آدم لمصيره المشئوم للأسباب الآتية:
أ-ضد صلاح الله: فهذا الترك لا يليق بالله الكلي الصلاح , و يقول البابا أثناسيوس الرسولي "إذ أسس ملك منزلا أو مدينة و احدق بها اللصوص بسبب إهمال سكانها , فإنه لا يهملها أو يتغاضي عنها بأي حال , بل يقوم و يهتم و ينتقم من العابثين بها لأنها صنعة يديه غير مبال بإهمال سكانها , عمل بما يليق بذاته.هكذا الله , كلمة الآب الكلي الصلاح , لم يهمل الجنس البشري صنعة يديه, و لم يتركه للفساد , بل أبطل الموت بتقديم جسده , و عالج إهمالهم بتعاليمه , ورد بسلطانه كل ما كان للإنسان"
ب- ضد محبة الله : هل يمكن أن نتصور الله بأن يقف موقف المتفرج من الإنسان الذي هو وليد المحبة الإلهية بل ينتظر حتي يمتلئ كأس خطاياه فينقض و يصب جام غضبه عليه؟!.. هل يمكننا أن نتصور الله بهذه القسوة و الجحود و اللامبالاة ؟!.. ليس هكذا إلهنا .. ليس هكذا قط, و المصلوب شاهد عيان علي كذب هذا الأفتراء.
ج- ضد رحمة الله: الذي أدان الغني لأنه أهمل اليعازر البلايا و لم يشفق عليه كيف يهملنا نحن خليقته؟ّ.. الذي طالب بطرس بأن يغفر للمسئ إليه سبع مرات سبعين مرة لكيما يكسبه للملكوت كيف يهملنا لمصيرنا المشئوم؟!
د- ضد كرامة الله: الإنسان مخلوق إلهي حامل الصورة الإلهية عندما يسقط بغواية الحية فيهمله الله و يتركه إلي مصيره التعث و يهان الإنسان .. ألس\يس إهانة الصورة هي إهانة للأصل؟! عندما يحرق إنسان علم الدولة هل يحاسب لأنه أحرق قطعة من القماش أم لأنه أهان رمز الدولة؟
ه- ضد حكمة و ذكاء الله: إذ كيف يقف الله عاجزا عن حل المشكلة التي اختلقها إبليس الذي أطاح بالإنسان إلي قاع الجحيم؟!
و لم يكن الناموس كافيا لخلاص الإنسان , لأنه ما جدوي النصائح و الوصايا للإنسان الغارق في الخطية؟.. يقول القديس يعقوب السروجي "إذا أردت أن تنقذ غريقا أو تنهض إنسانا مطروحا , فلا ينفع أن تقدم له النصيحة. بل عليك أن تخلع ثيابك و تلبس ثياب البحر , و بعد أن تنزل تقيمه معك"
س9: الله غفور رحيم.. فلماذا لم يسامح آدم وتنتهي المشكلة؟
ج: و هذا الحل لا يصلح للأسباب الآتية:
أ- الله كامل في رحمته و كامل أيضاً في عدله , فلو سامح آدم فإن هذا يتعارض مع عدله .. لقد حذر الله آدم من الأكل من الشجرة , و أعطاه كل مقومات عدم السقوط مثل الحكمة و الشبع بخالقه و الفرح الروحي, و الأكل من جميع أشجار الجنة باستثناء هذه الشجرة فقط, فعندما يخطئ آدم و لا ينال العقوبة التي سبق أن فرضها الله عليه فإن هذا يعتبر ضد العدل الإلهي.
ب- لو ناقض الإنسان نفسه و غير أقواله فإن هذا يعتبر نوع من النقص.. فكيف ينقص الله أقواله؟!.. "ليس الله إنسان فيكذب . ولا إبن إنسان فيندم . هل يقول ولا يفعل أو يتكلم و لا يفي" (عد 19:23)" هل الله يعوج القضاء أو القدير يعكس الحق" (أي 3:8) هل يقول الله لآدم "وأما شجرة معرفة الخير و الشر فلا تأكل منها" و لم يكتف الله بهذه الوصية بل أوضح له مغبة المخالفة " لأنك يوم تأكل منها موتا تموت" (تك 18:2) و عندما يأكل الإنسان يسرع إليه قائلاً :إيه يا آدم ؟! هل أنت صدقت كلامي؟! أنني كنت أخيفك فقط , لكنك لن تر الموت قط لأن موتك ضد رحمتي الغير محدودة.. أذهب يا آدم لن تموت . فقط لا تكرر فعلتك الشنعاء ثانية لكيما أحبك .. هل يعقل هذا؟!!
ج – إن لم بمت الإنسان يكون الله غير صادق
د – لو برأ القاضي الأرضي مذنبا , لحسب هذا القاضي ذاته مذنبا في حق العدالة , فهل يحطم ديان الأرض كلها قانون العدالة الإلهية و يبرئ المذنب ؟!.. كلا..و إن قال أحد أن القاضي الأرضي لابد أن يحكم بالعدل لأنه مقيد بقوانين , كما إن رؤساءه يراقبونه , أما الخالق فهو حر يفعل ما يشاء .. نقول : نعم الخالق حر يفعل ما يشاء , و لكنه لن يفعل إلا الحق و العدل و ما يتناسب مع كماله الذاتي.
ه- الصفح شئ و إصلاح الطبيعة شئ آخر, فما الفائده إنك تصفح عن السارق دون علاجه من داء السرقة ؟
هب أنك أمسكت بلص و هو يمد يده و يسرقك , و صممت أن تذهب به إلي قسم الشرطة , فأخذ يسترق قلبك و يقول لك أن زوجته علي حافة الموت و تحتاج لعلاج يرد لها الحياة , و أولاده منذ البارحة لم يتذوقوا طعاما , فرق قلبك و رثيت لحاله و صفحت عنه .. تري هل بهذا العفو تكون قد أصلحت حاله ؟ كلا , لأنك ستتركه ليسرق غيرك بعد دقائق قليلة . انه يحتاج منك أن تذهب معه إلي بيته لتتأكد من صحة أقواله , و لو كان صادقا فانه يحتاج إلي عمل شريف يأكل منه لقمة العيش , و يحتاج لمن يراعيه و يعالجه من داء السرقة حتي يشفي تماما.
و- لو سامح الله آدم , فمن أدراك أنه لا يكرر الخطأ بصورة أو بأخري , و ربما طمعا في العفو الإلهي و الرحمة غير المحدودة , و لو سامح الله كل من يخطئ و عفي عنه لتحول العالم إلي فوضي و غابة , و تضيع المهابة الإلهية .. يحكي عن أحد الملوك و يدعي سلوقس ملك لوكري أنه سنَ قانونا و كل من يخالفه يتعرض لعقوبة قلع عينيه , و فوجئ بسقوط ابنه في المخالفة , و تكاثر الشفعاء علي الملك لكيما يعفو عن ولي العهد , إلا أنه رفض و أمر بقلع عين واحدة لإبنه , و قلع عينه هو متحملا بذلك نصف العقوبة و حفظ للقانون قدسيته و للعدالة حقها بالكامل.
لو فرضنا أن شخصا مثل أمام القاضي للحكم عليه بسبب إرتكابه جريمة قتل مثلا , و توافرت كل أسباب إدانته , فهل يصح أن يعفو القاضي عنه لرحمة قلبه , أو لأن القاتل ارتكب جريمة القتل لأول مرة في حياته؟!.. لو فرض أن عفي القاضي أو حاكم المدينة عن القاتل و غفر له و لم يعاقبه , و عفا عن السارق و غفر له و لم يعاقبه , فماذا يمكن أن يحدث في مدينة هذا الحاكم أو هذا القاضي الذي يغفر كل الأخطاء.. إن الصالحين أنفسهم في هذه المدينة لكي يأخذوا حقوقهم بأنفسهم, أو لكي يردوا الشرور عن أنفسهم سيستخدمون أسلوب الشر الذي يستخدمه الأشرار .. و تصبح المغفرة و الرحمة عند هذا الحاكم وبالا علي كل أهل المدينت .. و بذلك مغفرة هذا الحاكم تحول مدينته إلي مدينت أشرار و مجرمين..
و الأمر لا يتعلق بخطية آدم وحده بل خطايا البشر التي علي مثال خطية آدم , لأنه إن كان الله غفر لآدم خطيته لرحمته به و أعفاء من تحمل العقاب لوجب أن يغفر لكل الناس خطاياهم و يعفيهم من العقاب.
* و نطرح في نهاية الإجابة سؤالا جانبيا و هو إن كان الله لم يسامح آدم فلماذا أمرنا أن نسامح بعضنا البعض؟
و الحقيقة كما رأينا أن الموقف بالنسبة لله مختلف عن الموقف بالنسبة للبشر , فبالنسبة لله كان لابد للعدل أن يأخذ مجراه حتي يحتفظ الله بهيبته أمام الخليقة كلها , و لو سامح الله آدم فأن أبناء آدم سيتعدون علي بعضهم البعض و يضيع الهدف الإلهي من خلقة إنسان يعيش في حياة البر و القداسة و السلام , و قد صنع الله أعظم ما هو من التسامح إذ تحمل بنفسه عقاب خطايانا .. أما بالنسبة للبشر فقد أوصانا الله أن نتسامح لكيما نحفظ للمجتمع سلامه , و لا نقابل الشر بالشر حتي لا نعطي فرصة أكبر لعدو الخير , و فيما نحن نتسامح مع المسيئين و الأعداء نثق في الله ضابط الكل الذي سيجازي كل واحد بحسب أعماله "لي النقمة أنا أجازي يقول الرب" (رو 19:12) و إذا عجز الإنسان عن التسامح فإنه يلجأ إلي الحاكم الذي " لا يحمل السيف عبثا إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر" (رو 4:13).
و نضيف علي الإجابة السابقة بعض النقاط الصغير:
أ- الخطية الموجهة ضدنا هي خطية محدودة . أما الخطية في حق الله فهي غير محدودة .
ب- قد نصفح نحن بسبب نسياننا الإساءة , و هدوء عواطفنا البشرية , و قد نصفح طمعاً في صفح الآخرين عنا. أما الله فلا ينسي و لا يتغير و لا يتساهل في الحق الإلهي.
ج- ليست مغفرة الخطية بالأمر الهين , و ليست الخطية مثل القذارة التي تلتصق بجسم الإنسان فيتخلص منها بقليل من الماء , لكن الطريق الوحيد للخلاص هو سفك الدم غير المحدود.
د- ليست المشكلة في مغفرة الخطية فقط , و لكن بالأكثر في إصلاح الطبيعة التي فسدت بالخطية.
ه- حقا إن الله يسامح , و لكنه يسامح قانونيا , و قانون العدالة الإلهية يقتضي أنه "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عب 22:9) " لأن الدم يكفر عن النفس " (لا 11:7) و لذلك تجسد الله و سفك دمه لكيما يرفع عقاب خطايانا.
س10: إذا قدم آدم توبة نصوحة ألا يقبله الله و يرضي عنه ؟ و إلا فما لزوم التوبة للإنسان؟!
ج: لا تحل التوبة مشكلة السقوط للأسباب الآتية:
أ - عندما خرج آدم من الفردوس يجر أذيال الخيبة و العار , و أخذ يقرأ آثار خطيته علي الأرض التي تنبت له شوكا و حسكا , و علي جسده الذي بدأ يتعرض للتعب و العرق و الضعف , و علي الطبيعة الثائرة ضده , و الحيوانات التي تود إفتراسه لكيما يكون وجبة شهية لها , و عندما رأي لأبنه مقتولا أمام عينيه بيد أبنه .. كم وخذه ضميره بشدة و سال الدمع من عينيه و هو يصرح في أعماقه : هذه ثمرة خطيتي و معصيتي .. كم كانت توبته و ندمه؟! و كم كان حزنه و دموعه ؟! و لكن هل إستطاعت هذه التوبة أن تعيده إلي طبيعته الأولي و إلي فردوسه المفقود ؟ .. كلا.
ب- التوبة لا تلغي الحكم الصادر من فم الله , إنما تنقل هذا الحكم من الجاني إلي الفدية , فعندما تاب داود و اعترف أمام ناثان النبي قائلا " قد أخطأت إلي الرب " قال له ناثان " الرب أيضا نقل عنك خطيتك فلا تموت" (2صم 13:12) لقد نقل الله عقاب خطية داود ووضعها علي رأسه و هو علي صليب الموت و الحياة.. التوبة و الندامة هي الخطوة الأولي للمصالحة مع الله , و لكن يظل قصاص الخطية حتي يحمله الفادي في جسده.
ج- التوبة تفيد الإنسان في المستقبل حيث يمتنع عن إرتكاب الخطية و تكرارها , و لكن ما هو الحل في الخطية التي ارتكبها الإنسان ؟ هل ترفع التوبة الحكم الإلهي الصادر بموت الخاطئ ؟ كلا .. و هل توفي التوبة مطلب العدل الإلهي ؟ كلا .. و هل تنزع التوبة الخطية و تمحو الإساءة التي وجهها الإنسان لله ؟ كلا.
و لنضرب مثلا علي هذا . هب أنك سكبت قليلا من الحبر علي ثوب أبيض نقي , ثم توقفت عن سكب المزيد , فهل يعود الثوب إلي ما كان عليه من النقاء؟ كلا , لأن الحبر قد ألتصق بالثوب و تخلل أنسجته , و لا يمكن إزالته إلا بمزيل قوي لمحو آثاره , و هكذا لا يمكن محو الخطية إلا بدم المسيح كقول الملاك "هؤلاء الذين أتوا من الضيقة العظيمة و قد غسلوا ثيابهم و بيضوا ثيابهم في دم الخروف" (رؤ 14:7) و مثال لآخر لو أن مندوب صرف اختلس مرتبات الموظفين , ووصل الأمر للقضاء فاحتج بظروفه المأسوية , و أعلن توبته و تعهد بعدم تكرار هذا الخطأ .. تري هل يحكم القضاء بتبرئة ساحته و يسامحه بما اختلسه؟ قطعا لا.. إذا دموع التوبة و الاستجداء لا تكفر عن خطية هذا السارق , فجميع المحكوم عليهم بالإعدام يشعرون بالندم الشديد و بعضهم يقدم توبة نصوحة , و لكن لم تقدر هذه التوبة أن تنقذ واحدا منهم من تنفيذ الحكم .
د- و إن كانت التوبة لا تصلح ما مضي من أخطاء فأنها أيضاً لا تصلح الطبيعة الفاسدة.. يقول القديس أثناسيوس "أي طريق كان ممكنا أن يسلكه الله؟ أيطلب من البشر التوبة عن تعدياتهم؟ و هذا قد يري لائقا بالله - لعلهم كما ورثوا الفساد بسبب التعدي ينالون عدم الفساد بسبب التوبة.
و لكن التوبة أولا : لا تستطيع أن توفي مطلب الله العادل , لأنه إن لم يظل الإنسان في قبضة الموت يكون الله غير صادق . ثانيا :تعجز عن أن تغير طبيعة الإنسان , لأن كل ما تفعله هو أنها تقف حائلا بينه و بين ارتكاب الخطية . و لو كان الأمر مجرد خطأ بسيط أرتكبه الإنسان و لم يتبعه الفساد , فقد تكون التوبة كافية . أما و قد علمنا أن الإنسان بمجرد التعدي إنحرف في تيار الفساد , الذي كان طبيعة له, و حرم من تلك النعمة التي سبق أن أعطيت له و هي مماثلة لصورة الله.. من الذي كان يستطيع أن يعيد إليه تلك النعمة , و يرده إلي حالته الأولي , إلا كلمة الله الذي خلق كل شئ من العدم منذ البدء" (تجسد الكلمة 2:7 - 4).
و نختتم إجابة هذا السؤال بسؤال جانبي : ألم يصفح الله عن أهل نينوي عند توبتهم ورد غضبه عنهم ( يون 10:3)؟
و نحن نقول أن الصفح عن أهل نينوي كان متمثلا في رفع الكارثة التي كانت ستحل بهم , فكما يسمع الله للخاطئين الصارخين إليه الذين يلتمسون نجاة الجسد هكذا سمع الله لأهل نينوي و لم يقلب مدينتهم , و لكن خطيتهم التي فعلوها لم تغفرها توبتهم القوية , و لم يكن لهم غير طريق واحد للخلاص من خطيتهم و هو الإيمان بإله إسرائيل , و تقديم ذبائح عن خطاياهم فتغفر لهم خطيتهم في دم الصليب .. فهل فعلوا هكذا ؟.. ربما.
س11: يقول البعض أن "الحسنات يذهبن السيئات " , فأن كان آدم أخطأ في واحدة , ثم صنع أعمالاً حسنة و صالحة , ألا تسمح هذه الأعمال الصالحة خطية آدم الوحيدة؟
ج: لا تغفر الأعمال الصالحة الخطية و لا تحل القضية للأسباب الآتية:
أ- الأعمال الصالحة ليست تفضل من الأنسان بل هي واجب عليه , و لذلك قال مخلصنا الصالح "متي فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا أننا عبيد بطالون. لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا" (لو 10:17) و قال معلمنا يعقوب "فمن يعرف أن يعمل حسنا و لا يعمل فذلك خطية له" (يع 17:4).
ب- كل أموالنا و ممتلكاتنا هي من الله , و كل ما نفعله إننا نرد جزء مما له كقول داود النبي " لأن منك الجميع و من يدك أعطيناك" (1 أخ 14:29) فأي فضل لنا في هذا؟
ج- كل أعمالنا الصالحة التي تنال إعجابنا و إعجاب الآخرين قد تبدو أمام الله غير كاملة , لأنه إن كانت السماء غير طاهلرة أمامه " و إلي ملائكته ينسب حماقة" (أي 18:4) فكم و كم أعمالنا الصالحة . حقا إنها تشبه فاكهة معسولة نأكلها و نتلذذ بطعمها , و لكن عندما تضع جزءا بسيطاً منها تحت المجهر تفاجئ بآلاف الجراثيم الملتصقة بها.
د- الخطية موجهة ضد شخص الله "إليك وحدك أخطأت" (مز 4 :51) فهب أن خادما أخطأ في حق ملك عظيم . ثم أدرك هذا الخادم خطأه و الخطورة التي تحيط به , فأسرع و جمع كل ما لديه و قدم هدية لهذا الملك الغني , فهل مثل هذه الهدية التافهة تسمح خطأ الخادم؟.. كلا.. حقا إن جميع الأعمال البشرية الصالحة ما هي إلا مجموعة من الأصفار التي لا قيمة لها بدون الإيمان بالإله المتأنس .
ه- هل الحسنات يذهبن السيئات ؟ لو كانت الحسنات يذهبن السيئات فمعني هذا إن الإنسان يملك في يده المغفرة الإلهية لأي خطية يرتكبها .. يستطيع أن يزني , فهذه سيئة يمسحها بالتصدق علي الفقراء , و يقف أمام الله كأنه إنسان طاهر بينما هو مملوء شر و نجاسة , و آخر يتاجر في المخدرات , فهذه سيئة يمحوها ببناء بعض دور العبادة , و يقف أمام الله كأنه إنسان بار بينما يداه مملوءتان بالدماء .. و عندما يكون الهدف من أعمال الخير هو الحصول علي مغفرة الخطايا فإن العملية تتحول إلي عملية تجارية , و لكل خطية ثمنها الذي يسدده الإنسان و ينام هادئ البال مستقر الفؤاد بينما هو في الحقيقة مقيدا بسلاسل الظلام منقاداً إلي جهنم النار .. فأي خطورة هذه؟
و- لو أن طبيبا صالحا مرموقا ناجحا فتح ملجأ للأيتام و مستشفي للمرضي من الفقراء , و بينما كان منطلقا بسيارته ليحضر دواء لأحد مرضاه الذي يعاني من حالة حرجة , صدم أحد الأولاد . ثم وقف أمام القضاء , و اكتشف القاضي أن المتهم الواقف أمامه هو ذاك الطبيب صاحب الأعمال الجليلة و إن سجنه سيؤدي إلي توقف هذه الأعمال العظيمة , فحذره من تكرار هذا الخطأ و عنفه بشدة ثم أطلق صراحه لأجل أعماله الصالحة.. تري هل يكون هذا القاضي عادلا؟ كلا , لأن الأعمال الصالحة لا ترفع عقاب الخطية.
و قد يتساءل البعض : ألا تغفر الصلاة الخطايا؟.. قطعا لا , لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة , بل أن صلاة الخطاة هي مكرهة للرب " آثامكم صارت فاصلة بينكم و بين إلهكم و خطاياكم سترت وجهه عنكم حتي لا يسمع " (اش 2:59) و قال الله للخطاة "حين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم و إن كثرتم الصلاة لا أسمع . أيديكم ملآنة دماً" ( اش 15:1).
س12: فليقدم آدم ذبيحة فداء عن نفسه , و ليقدم ذبيحة أخري فداء عن حواء .. ألا تكفر الذبائح عن الخطايا؟ و إن كانت لا تكفر فلماذا أوصي الله بها في العهد القديم؟
ج: مادمنا قد أعترفنا و أقرينا بمبدأ الفداء إذا يستحسن بادئ ذي بدء أن نعترف علي أهم صفات الفادي و هي أن يكون:
أ- إنسان : لأن الإنسان هو الذي أخطأ , و لا يوجد كائن آخر نظير الإنسان و مثيله , و لذلك يجب أن يكون الفادي إنسانا حتي يكون من نفس طبيعة المفدي , و قد سبق الكتاب و أشار للفادي الذي سيسحق رأس الحية انه من تسل المرأة .. إذا النائب عن الإنسان لابد أن يكون إنسانا , و هذا ما حدث في التجسد الإلهي إذ اتخذ الله الكلمة طبيعتنا البشرية كاملة جسدا و روحا " فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم و الدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس" (عب 14:2) و قال لتلاميذه بعد القيامة "انظروا يديَ و رجليَ إني أنا هو . جسوني و انظروا فإن الروح ليس له لحم و عظام كما ترون لي" (لو 39:24).
ب- بلا خطية: ليحمل عقاب خطايا الآخرين.. يكون بلا خطية شخصية , و خالي تماما من الخطية الجدية المتوارثة عن آدم , لأن الخاطئ لا يفدي خاطئا , و المفلس لا يفي دين مفلس آخر, و المحكوم عليه بالإعدام لا يقدر أن يفدي إنسانا آخرا محكوما عليه بالإعدام .. حقا إن فاقد الشئ لا يعطيه , و قد تمسكت طقوس العهد القديم باختيار الذبيحة بلا عيب داخلي و لا خارجي إشارة إلي الفادي الذي بلا عيب.
ولأنه لم يفلت إنسان واحد من الخطية الجدية لذلك تجسد الله الكلمة من مريم العذراء بدون زرع بشر, بعيدا كل البعد عن الخطية الجدية , لأن الروح القدس حل علي العذراء القديسة مريم و قدس مستودعها , و لذلك فالمولود منها قدوس كقول جبرائيل الملاك " القدوس المولود منك يدعي ابن الله" (لو 37:1) و لا يكفي أن يكون الفادي إنسانا خاليا من الخطية مثلما كان آدم قبل السقوط ثم تعرض للسقوط , إنما يجب أن يثبت بالدليل القاطع انه معصوم من الخطأ , و هذا ما تشهد به حياة السيد المسيح علي الأرض الذي قال "من منكم يبكتني علي خطية" (يو 46:8) و قال عنه الكتاب "قدوس بلا شر و لا دنس قد انفصل عن الخطاة" (عب 26:7).
ج- يقدم نفسه بإرادته : عن حب و سرور و ليس عن قسر و إضطرار كمن يساق إلي غرفة الإعدام رغما عنه , و لا يكفي أن يكون الفادي إنسانا مخلوقا و بلا خطية , لأن المخلوق لا يملك نفسه لكيما يقدمها فدية عن الآخرين , بل يجب أن يكون إنسانا بلا خطية يملك نفسه أي هو الله المتأنس الذي قال "لأني أضع نفسي للآخذها أيضاَ ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي . لي سلطان أن أضعها و لي سلطان أن اخذها" (يو 17:10 , 18).
د- أن يكون قابلا للموت: لأن الحكم الإلهي الصادر ضد آدم كان بالموت , و لأن أجرة الخطية موت, و لذلك تجسد كلمة الله ليتخذ لنفسه جسدا قابلا للموت يستطيع أن يقدمه فداءاً عن الإنسان .. يقول القديس أثناسيوس "وإذا رأي (الكلمة) إن فساد البشرية لا يمكن أن يبطل إلا بالموت كشرط لازم , و أنه مستحيل أن يتحمل (الكلمة) الموت لأنه غير مائت و لأنه ابن الآب, لهذا أخذ لنفسه جسدا قابلا للموت, حتي بإتحاده (بالكلمة) الذي هو فوق الكل يكون جديراً أن يموت نيابة عن الكل " (تجسد الكلمة 1:9) و يقول أيضاً " و لما كان مستحيلا أن يموت "الكلمة" لأنه غير قابل للموت , فقد أخذ لنفسه جسدا قابلا للموت حتي يمكن أن يقدمه كجسده نيابة عن الجميع" (تجسد الكلمة 6:20)
ه- أقوي من الموت: حتي إذا قدم نفسه بإرادته يستطيع أن ينتصر علي الموت و ينهض من رقاده , و يقدر أن يهزم إبليس الذي هزم البشرية , و يخلص الأسري من يد الجبار , و لذلك يجب أن يكون المخلص قوياً في قدرته و حكمته و خبرته, و لهذا تأنس الله.
و- غير محدود: لأن الخطية الموجهة ضد الله غير المحدود هي خطية غير محدودة , فلزم أن يكون الفادي غير محدود , و المثال الدارج علي هذا أنه لو صفع طالب زميله علي وجهه , فمن السهولة حل هذه المشكلة , بينما لو صفع وزير التعليم فالعقوبة تشتد.. أما إذا صفع رئيس الدولة فإن الإهانة تكون موجهه للدولة ككل و تصل العقوبة إلي أقصاها .. لقد تجسد الله الغير محدود ليرفع عقاب خطية غير محدودة . بل ليرفع خطايا العالم كله في كل زمان و مكان و ففيه تحققت صفات الفادي كاملة بناسوته صار إنسانا , و قابلا للموت , وبلا خطية , وبلاهوته هو الخالق الذي يستطيع أن يقدم نفسه , و هو أقوي من الموت و غير محدود .. يقول البابا ثاؤفيلس" فلما كان إلها تاما صار إنسانا بإرادته , و لم يترك شيئاً إليه مما ينتسب إلي الطبيعة البشرية ما عدا الشر الأثيم وحده, لأنه و إن كان طفلا فمع ذلك يغلرف بانه عمانوئيل"
و نعود يا صديقي إلي إجابة السؤال الثاني عشر, و نتساءل هل تكفي الذبائح لفداء الإنسان؟ هل تصلح هذه الحيوانات أن تكون وسيطا بين الله و الإنسان ؟ و هل تتوفر فيها صفات الفادي ؟ بالقطع لا ,فالحيوان لا يحمل طبيعة الإنسان , و يقاد للذبح قسراً , و هو محدود , و ليس لأقوي من الموت.. إلخ و لذلك قال الكتاب " لا يمكن أن دم ثيران و تيوس يرفع خطايا" (عب 4:10)
و أيضاً نقول أن الجسد البشري الذي سكنه الموت هو يحتاج إلي الحياة لتتحد به و تطرد الموت من داخله.
و نأتي إلي الشق الثاني من السؤال و هو: لماذا أوصي الله بتقديم الذبائح الحيوانية في العهد القديم؟
لأنها تشير و ترمز لذبيحة الصليب, و أخذت قوتها علي المغفرة من إرتباطها بذبيحة الصليب , فالإنسان الذي كان يخطئ كان يقدم ذبيحة بحسب خطيته و بحسب رتبته, و يقر و يعترف بخطاياه فينال وعداً بالمغفرة علي حساب الذبيحة المستقبلية كما ننال نحن المغفرة علي حساب الذبيحة الماضية, لأن ذبيحة الصليب غير محدودة بمكان و لا بزمان , فهي ممتده عبر الزمن تكفي الكل من آدم حتي آخر إنسان تائب قبل المجئ الثاني.
وأيضاًً أوصي الله بها حتي عندما يري الإنسان الحيوان البرئ يذبح عوضاً عنه فيسفك دمه و تشتعل فيه نيران العدل , فأن منظر الدم يحركان القلب القاسي و الضمير الذي تحجر فيشمئز الإنسان من خطاياه التي فعلت بالحيوان البرئ كل هذا, و الحيوان أقرب كائن للإنسان حيث يشعر بالراحة و الألم.. كما أن تكرار الذبائح يشير إلي قصوره و عجزها أما الإله المتأنس فقدم نفسه مرة واحدة فوجد فداء أبدياً.
س13: لماذا لم يكلف الله موسي رئيس الأنبياء بتقديم ذاته فدية عن أبيه آدم ؟ أو لماذا لم يكلف الله رئيس الملائكة الجليل ميخائيل لحل مشكلة البشرية الساقطة؟
ج: بالنسبة للنبي أو رئيس الأنبياء ينطبق عليه بعض شروط الفادي دون الأخري , فمثلا هو إنسان و لكنه ليس بلا خطية, و إن قدم نفسه بإرادته فهو مخلوق لا يملك نفسه هذه , لو سمح الله بتقديم نفسه فهو لا يستطيع أن يستردها ثانية, و هو محدود فلا يقدر أن يفي عقاب خطية غير محدودة, و لذلك قال الكتاب "الأخ لن يفدي الإنسان فداء و لا يعطي الله كفارة عنه" (مز 7:49) و قس علي ذلك الملاك أو رئيس الملائكة الذي ليس هو من طبيعة الإنسان , و إن كان بلا خطية فهو لا يملك نفسه حتي يقدمها فدية , و هو أيضاً محدود.. إلخ.
"إن الذي بذل ذاته عنا لم يكن إنساناً عادياً, فكل إنسان هو تحت حكم الموت كما قيل لآدم, "انك تراب و إلي تراب تعود" (تك 19:3) و لا كان هو واحداً من المخلوقات الأخري "
"و إذ كانت تلك المعصية غير متناهية لأنها موجهة مباشرة إلي اللامتناهي, لذلك كان غير ممكن للملائكة و الآياء و الأنبياء المتناهين أن يقدموا الكفارة عنها , و يفوا العدل الإلهي حقه , حتي ولا الناموس الموسي, إلا الله وحده غير متناهي , إذ لا يوجد شئ في هذا الكون إلا و هو متناه"
س14: هل مبدأ الإنابة يتمشي مع العدالة الإلهية , و مع العقل فيموت البرئ نيابة عن المذنب؟
ج: إذا وافق النائب أو الفادي أو الوسيط بمطلق حريته و كامل إرادته علي تحمل عقوبة المذنب يكون الوضع صحيحاً , و يتمشي مع العدالة الإلهية.
الخروف البرئ الذي ذبحه الله لكيما يغطي عري آدم عن الخطية , مع ملاحظة أن الله ذبح هذا الخروف خصيصاً لعلاج مشكلة عري آدم , لأن آدم لم يكن من أكلة اللحوم , فالسماح بأكل اللحوم جاء بعد الطوفان و قد استلم آدم طقس تقديم الذبائح و سلمه لأولاده, فقدم هابيل من أبكار غنمه و من سمانها ( تك 4:4) فقبل الله تقدمته , و قدم نوح من البهائم الطاهرة و الطيور الطاهرة . فتنسم الله رائحة الرضي (تك 20:8, 21) و قدم ابراهيم بالقرب من شكيم , و شرقي بيت ايل (تك 6:12 - 8) و عند بلوطات ممرا (تك 18:13) و قدم اسحق ( تك 25:26) و كذلك بعقوب لما آتي سالما إلي مدينة شكيم (تك 20:33) و أمره الرب أن يصعد إلي بيت ايل و يبني مذبحاً هناك ففعل (تك 1:35) و قدم ذبائح قبل نزوله إلي مصر (تك 1:46) و طلب موسي من فرعون أن يذهب إلي البرية ليقدم ذبائح للرب إلهه ( خر 27:8) و كان أيوب يقدم ذبائح بعدد أبنائه (أي 5:1)
وأوصي الرب موسي بتقديم الذبائح الصباحية و المسائية (عد 3:28 , 28) و ذبيحة يوم السبت (عد 9:28 , 10) و ذبيحة أول الشهر (عد 11:28 - 15) و ذبيحة الفصح (عد 16:28 - 25) و ذبيحة عيد الهتاف (عد 1:29 - 5) و ذبيحة عيد الكفارة (عد 7:29 - 10) و ذبيحة عيد المظال (عد 12:29 - 40) و ذبيحة البقرة الحمراء ( عد 1:19 - 10) و أوصي بتقديم الذبائح الشخصية مثل ذبيحة المحرقة ( لا 1:1 - 9) و ذبيحة السلامة (لا 1:3 - 5) و ذبيحتا الخطية و الأثم (لا 1:4 - 35) و ذبيحة الملء أو التكريس الكامل ( لا 22:8 - 36) و ذبيحة التطهير للأم بعد الولادة (لا 1:12 - 8) و تطهير الأبرص (لا 1:14 - 20) و المصاب بسيل (لا 1:15 - 5) .. فلماذا كل هذه الذبائح التي بلا عدد؟!
وبحسب مفهوم العدالة البشرية تشترط المحكمة وجود محامي للدفاع عن المتهم , و إذا لم يكن للمتهم إمكانية مادية لإنابة محامي عنه , فان المحكمة تنتدب له محامياً للدفاع عنه.
و بحسب مفهوم الإنسانية نجد أن الأب ينوب عن أبنائه في تحمل نتائج أخطائهم , و يدفع قيمة ما أتلفوه للغير , و الجندي في ميدان المعركة ينوب عن أسرته ووطنه و يقدم نفسه فداءاً عنهم .
و بحسب مفهوم تاعقل فان مبدأ الإنابة صحيح , و تحضرني قصة القاضي العادل الرحيم الذي حكم علي المفترض بأن يرد الدين أو أن يدخل السجن , فهذا هو العدل , و عندما علم هذا القاضي أن المفترض معدوماً ورقت أحشاؤه لصراخ أطفاله و دموع زوجته دفع الدين عنه و أطلقه بريئاً , فهذه هي الرحمة , و بذلك حقق هذا القاضي العدل و الرحمة معاً , و هذا ما فعله قاضي القضاة و رب الألرباب.
س15: و مازال السؤال يلح : ما هو الدافع القوي الذي دعي الله للتجسد أو ما هية حتمية التجسد الإلهي؟
ج: هناك أسباب عديدة لحتمية التجسد الإلهي نذكر منها الآتي:
أ- المحبة: الدافع القوي للتجسد هو المحبة "لأن المحبة القوية كالموت.. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة و السيول لا تغمرها . ان اعطي الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقاراً " (نش 6:8 , 7) و يقول القديس أثناسيوس "لم يشأ الرب المجد أن تبقي صورته (الإنسان) المجيدة ملطخة بالأثم و ملوثة و فاسدة , فتحرك حنانه .. و تحرك قلبه .. و تحرك تدبيره ليخلص الإنسان و يرد إعتباره , و يرد له كرامته أو يرد له الصورة الأصلية التي خلقه عليها. فقد تجسد الله الكلمة .. و في تجيده كل الحب , و ما من حب أعظم من هذا أن يقبل الإله صورة الهوان , صورة التراب و هو رب المجد , الساكن في نور لايدني منه , و النار الآكلة"
وقد تجد إنساناً عظيماً في مركز مرموق يحترمه الناس و تنحني له الهامات , و إذ به ينحني لأسفل حتي تكاد رأسه تمس الأرض , و تتعجب ماذا يفعل هذا الرجل العظيم ؟ .. انه ينحني ليربط سيور حذاء طفل صغير قد يكون حفيده فما الذي دفع هذا الرجل لهذا التنازل ؟ انه الحب..
سأل الملك غير المؤمن وزيره المسيحي :تقولون أن الله تجسد و صلب و مات , فما هو الدافع لهذا العمل الذي يرفضه العقل؟
الوزير: أسألك يا سيدي أن تمهلني عدة أيام و أجيبك علي سؤالك , فوافقه الملك.
و في يوم سار الملك مع وزيره في حديقة القصر , و إذ بالمربية تسير بعربة الأمير الصغير ,و فجأة أعطي الوزير إشارة للمربية فدفعت العربة و ما بها في بحيرة الماء الصناعية أمام عيني الملك , فماذا فعل الملك؟.. لقد ألقي بنفسه في الماء إلا أنه وجد نفسه يحتضن تمثالا كامل الشبه بأبنه , و قبل أن يتملكه الغضب أسرع إليه الوزير قائلاً:
عفوا سيدي الملك . سامحني لأني فعلت هذا , فأنا الذي صنعت التمثل و أوصيت المربية بإلقائه في البحيرة متي أشرت لها بذلك .. يا جلالة الملك عندما شعرت بأن أبنك يغرق في البحيرة لماذا لم ترسلني أو ترسل أحد الجنود لإنقاذه؟
الملك: لأنه أبني .أنت تعلم أنني إنسان شجاع و لا أهاب الموت , و أفدي أبني بحياتي و أنا راض و مسرور.
الوزير: و هكذا أيها الملك عندما رأي الله أولاده يهلكون بالموت الأبدي اخذ شكل إنسان و صلب و مات و قام , و قهر الموت و انقذنا منه , كمثل ملك وجد جنوده مقهورين أمام عدوهم في ساحة الوغي فارتدي زي الجنود , و قاد الحرب و انتصر , و أهلك العدو القوي ووهبنا النصرة.
ب- انتزاع الموت: كما ان الموت دخل إلي أعماق حياة الإنسان كان لابد أن الحياة تدخل إلي الأعماق لتطرد الموت و تحيي الطبيعة التي فسدت بالموت "يجب أن نعلم أن الفساد الذي حصل لم يكن خارج الجسد بل لصق به , و كان مطلوباً أن تلصق به الحياة عوض الفساد , حتي كما تمكن الموت من الجسد تتمكن منه الحياة أيضاً.
و قال البابا كيرلس الكبير "لو كان تجسد الكلمة و تأنسه أمرأً لابد منه لخلاص الذين علي الأرض , فلو لم يكن قد ولد مثلنا بحسب الجسد, لما كان قد اشترك في الذي لنا , و بالتالي لما كان حررَ طبيعة الإنسان من الوصمة التي أصابتها من آدم , و ما كان قد طرد الفساد من أجسادنا".
"لم يكن هناك وسيلة أخري لزعزعة سلطان الموت إلا فقط بتجسد الابن الوحيد. الذي اقتني لنفسه جسدا قابلا للفساد (الموت).. لكي يستطيع بكونه هو نفسه الحياة أن يزرع في الجسد امتيازه الخاص الذي هو الحياة "
ج- الاتحاد بالله: لم يكن الهدف من التجسد رفع الخطية فقط بل اتحاد الله بالإنسان
و يقول البابا كيرلس الكبير أن مبادرة الصلح جاءت من الله لكيما يتحد بالإنسان " ان الطبيعة الإنسانية أسرت و صارت في قبضة الموت و ساد عليها الفساد لذلك فمن الضروري لكي تقوم علاقة جديدة لا يهدها الفساد أن يتم لقاء بين الله و الإنسان , تجد فيه جميع المشاكل القائمة بين الأئنين حلها النهائي و الأخير, فكان الحل الإلهي - لأن المبادرة بيد الصالح وحده - ان يأخذ لنفسه جسداً من هذه الطبيعة الفاسدة و يجعله واحداً مع لاهوته في اتحاد لا انفصال فيه أو اختلاط مثل اتحاد النار بالحديد"
د- تلاقي العدل الإلهي مع الرحمة الإلهية: فعندما تحدث مشكلة بين شخصين و يتخل شخص ثالث لفض النزاع يجب أن يكون هذا الوسيط من نفس مستوي الطرفين المتنازعين , و ليس أقل منهما لئلا يحتقر, و ليس أعلي منهما لئلا يستغل سلطته فيحل النزاع ظاهريا فقط , و أيضاً يجب أن يكون الوسيط محبوبا من الطرفين , و محل ثقة منهما ملتزماً بتعهداته أمامهما, و إذا تأملنا ما حدث في التجسد و الفداء نجد السيد المسيح هو الذي حل النزاع بين الله و الإنسان , و حقق أمنية أيوب عندما قال بأسي "ليس بيننا مصالح يضع يده علي كلينا" (أس 33:9)
و إن كان التسامح و العفو و المغفرة ضد عدل الله الكامل , و موت الإنسان ضد رحمة الله الكاملة , و الله لا يمكن أن يتنازل عن عدله و لا عن رحمته, و هذا ما يمثل مشكلة صعبة و عويصة, و من يقدر علي حلها إلا الله القادر علي كل شئ ؟ و فعلا قام بحلها عن طريق تجسده المنيف فالتقي العدل مع الرحمة في شخص الفادي الكريم.
و ما أجمل تشبيه نيلفة الأنبا رافائيل الأسقف العام عندما شبه سقوط آدم بالمصباح الذي انقطع عنه التيار الكهربائي , فلا توجد وسيلة أخري لعودة الإنارة للمصباح إلا بعودة نفس التيار الكهربائي له, و أي تيار آخر أو أي فولت آخر لن ينجح في إعادة الإنارة, و هكذا الإنسان لكيما يعود إلي حالته الأولي المنيرة لا يصلح أن يعيده نبي و لا ملاك بل لابد أن يتولي الخالق نفسه إعادة خلقته التي فسدت , و أيضاً عملية توصيل التيار الكهربائي للمصباح تشبه عملية التجسد التي فيها اتحد اللاهوت ( الكهرباء) بالناسوت ( المصباح) فأضاء لنا المسيح نور العالم طريق الملكوت.
تذكر
+ الله لم يكن محتاجا للإنسان ليعبده . إنما خلق الله الإنسان من فرط جوده و محبته .. لله يعلم بسابق غلمه إن الإنسان سيسقط بغواية إبليس و لذلك دبر له أمر الخلص منذ الأزل.
+ الوصية لم تكن سبباً لسقوط الإنسان . إنما سقط الإنسان بسبب غواية الحية في كلام الله , و الموت كان طبيعة لمخالفة الوصية.
+ كان سقوط آدم سقوط للبشرية جمعاء مثل شجرة التفاح اللذيذة التي صابها عطب فكل ثمارها و بذارها أصبحت تحمل الفساد .. حتي الأنبياء كانت لهم أخطائهم.
+ان سأل أحد :و ما ذنبي أنا في خطية آدم ؟ يرد عليه القديس أغسطينوس :وأي فضل لك في خلاص المسيح؟
+ من نتائج سقوط آدم الموت الروحي الأبدي , و الموت الجسدي , و الموت الأدبي, و العقوبات التي حلت بالإنسان و الحية, و تسلط الشيطان , و فساد الطبيعة البشرية.
+ لم يكن هناك بديلا للتجسد فمثلا:
- فناء الإنسان و خلقة إنسان جديد لا تحل القضية.
- خلاص الله للإنسان بالقوة يتعارض مع عدل الله , و مع حرية الإنسان
- ترك الإنسان لمصيره المشئوم يتعارض مع صلاح الله , و محبته , و رحمته , و كرامته , و حكمته.
- الصفح عن خطية الإنسان يتعارض مع العدل الإلهي.
- التوبة توقف فعل الخطية , و لكنها لا تحل مشكلة الخطية التي تمت , و لا تلغي العقوبة إنما تنقلها من التائب إلي الفدية.
- الحسنات لا يذهبن السيئات لأن الأعمال الصالحة واجب علي الإنسان و ليس تفضل منه.
- من صفات الفادي أن يكون:
ب- بلا خطية
ج- يقدم نفسه بإرادته
د- يكون قابلا للموت
و-غير محدود
وهذه الشروط لا تتوفر في الذبائح الحيوانية , و لا في نبي و ر رئيس أنبياء , و لا في ملاك و لا رئيس مرئكة . لكن الله بغير إستحالة تجسد و تأنس و فيه أكتملت صفات الفادي.
+ مبدأ الأنابة يتمشي مع العدالة الإلهية , و مع العقل و المنطق.
س16: ما معتي أن الله تجسد و تأنس؟ و لماذا يجب أن نؤمن بعقيدة التجسد؟
ج: معني أن الله تجسد أي الله الغير منظور اتخذ له جسداً بشرياً من نفس طبيعتنا البشرية , و معني أن الله تأنس أن الله الغير منظور صار إنسانا مثلنا و شابهنا في كل شئ ماخلا الخطية وحدها .. الله الغير منظور أصبح منظوراً في شخص الرب يسوع الذي حل بيننا, و قال الإنجيل " و الكلمة صار جسداً و حل بيننا و رأينا مجده مجدا كما لوحيد من الآب مملوءة نعمة و حقا" ( يو 14:1) و عندما حل بيننا تعاملنا معه معاملة محسوسة , و شهد بهذا يوحنا الحبيب " الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه و لمسته أيدينا" (1 يو 1:1) إن الله تنازل إلي مستوي الحس و الإدراك و حل بيننا بصورة منظورة مرئية و كشف عن أسرار الألوهية لأن " الله لم يره أحد قط . الإبن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَر" ( يو 18:1)
و الحقيقة أن كلمة تجسد تعني أنه تأنس أيضاً , فهي من قبيل إطلاق الجزء ( الجسد) علي الكل (الإنسان) و يقول القديس كيرلس الكبير " نحن نقر بإبن واحد , مسيح واحد , ورب واحد , لأن الكلمة صار جسدا , و إذا قلنا صار جسدا فإنما صار إنساناً"
وعقيدة التجسد في منتهي الأهمية , فبناء علي إيماننا الصحيح بالتجسد يتوقف أمر خلاصنا؟.. لماذا؟.. لأن السيد المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله و الإنسان , فيقول القديس كيرلس الكبير "فهو (المسيح) يعتبر واحد من أثنين, فهو إبن واحد , قد اجتمعت إليه و اتحدت فيه , في شخصه الواحد بطريقة لا توصف و لا تفحص الطبيعتان الإلهية و البشرية لتكونا وحدة واحدة بطريقة لا يمكن تصورها , فلهذا السبب أيضاً يعتبر هو الوسيط بين الله و الناس, لأنه قد جمع ووحد داخل نفسه الشيئين اللذين كانا متباعدين جدا إحداهما عن الآخر, و اللذين كان يفصل بينهما هوة عظيمة, أعني اللاهوت و الناسوت, فقد أظهرهما مجتمعين و متحدين في نفسه , و بذلك ربطنا بواسطة نفسه مع الله أبيه" (في الثالوث1).