لا ينبئ الكتاب المقدّس عن وحدانيّة الله فحسب، بل ينبئ أيضاً عن كنه ذاته، التي تسمو فوق العقل والإدراك سموًا لا حد له - فالكتاب المقدّس، لا ينبئ فقط أن اللّه لا شريك له ولا نظير له، وأنه لا أجزاء فيه ولا تركيب، بل ينبئ كذلك أنه ليس أقنوماً واحداً، بل ثلاثة أقانيم. وحقيقة وحدانيّة اللّه وعدم وجود تركيب فيه، يُطلق عليها «التوحيد»، وحقيقة كونه ثلاثة أقانيم، يُطلق عليها«التّثليث».
وقد حاول كثيرون من رجال الفلسفة، توضيح إعلانات الكتاب المقدس عن ذات اللّه، أو بالحري عن ثالوث وحدانيّته، حتى يستطيع الناس فهمها وإدراكها، لكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، لأنهم انحرفوا عن أقواله، واعتمدوا على عقولهم وحدها.
ولما كان اللّه أعزَّ لدينا من كل عزيز في الوجود، عكفتُ - كما عكف ويعكف غيري - على دراسة كتب الفلسفة والدين، لتحقيق الغاية التي كان يسعى رجال الفلسفة إلى تحقيقها. ولكني وجدت بعد بحثٍ وتفكيرٍ داما بضع سنين، أن الإنسان لا يستطيع القيام بهذه المهمة بمجهوده الذاتي. فولّيْت وجهي شطر اللّه، لأنه لا يعرف ذاته وما بها من أسرار سواه، فتفضَّل وأعانني على قدر استطاعتي على تقبُّل المعونة منه. ولذلك فإني أقدم كتابي هذا، على مذبح المحبة والإخلاص له، راجياً أن يرافقه بنعمته، لأجل مجده وخير الراغبين في معرفته.
نرى من الواجب، ونحن في فاتحة هذا الكتاب، أن ننبّر على أننا نحن المسيحيين، نؤمن أن لا إله إلا اللّه، وأنه لا تركيب فيه على الإطلاق. فقد قال: «أَنَا ٱلأَّوَلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ وَلا إِلَهَ غَيْرِي»(إشعياء ٤٤: ٦)، وقال أيضاً: «أَنَا أَنَا هُوَ وَلَيْسَ إِلٰهٌ مَعِي» (تثنية ٣٢: ٣٩)، وقال للذين اتخذوا غيره إلهاً «أَلَيْسَ أَنَا ٱلرَّبُّ وَلا إِلَهَ آخَرَ غَيْرِي؟ إِلَهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ. لَيْسَ سِوَايَ» (إشعياء ٤٥: ٢١). ولذلك خاطبه نحميا النبي بالقول: «أَنْتَ هُوَ ٱلرَّبُّ وَحْدَكَ» (نحميا ٩: ٦). وقال موسى النبي: «ٱلرَّبَّ هُوَ ٱلإِلٰهُ فِي ٱلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَعَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ. لَيْسَ سِوَاهُ» (تثنية ٤: ٣٩) وقال أيضاً: «ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تثنية ٦: ٤) وقال بولس الرسول: «يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ» (١تيموثاوس ٢: ٥) وقال يعقوب الرسول: «ٱللّٰهَ وَاحِدٌ» (يعقوب ٢: ١٩).
أما عن حقيقة عدم وجود تركيب في اللّه، فإن كل الكتاب المقدس لم ينبّر عليها كما نبّر على حقيقة وحدانيته، وذلك لعدم ظهور خلاف بين الناس من جهتها. إلا أنه وردت به آيات تدل بوضوح على أن اللّه لا تركيب فيه، فقد قال إن «اَللّٰهُ رُوحٌ» (يوحنا ٤: ٢٤)، وإنه «غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ» (كولوسي ١: ١٥) وإنه لا يتحيز بحيّز (مزمور ١٣٩: ٨-١٢). وهذه الصفات تدل على أنه غير مركب، لأن المركّب متحيّز بحيّز، ومن الممكن أن يُدرَك أو يُرى، إذ أنه محدود بحدود الأجزاء المركب منها - هذا وقد أجمعت كل الكتب الدينية على اختلاف مذاهب كتّابها، على أنه «روح سرمدي، غير مركب، أو محدود، أو متغيّر».
وحقيقتا وحدانية اللّه وعدم وجود تركيب فيه، لا تتعارضان مع حقيقة كونه ثلاثة أقانيم، بل تتوافقان معها كل التوافق. وإن كنا سنتحدث عن ذلك بإسهاب في أبواب هذا الكتاب، لكن نرى من الواجب أن نذكر الآن شيئاً على أساس هذا التوافق.
كلنا يعلم أن اللّه يتصف بصفات وإن كنا لا نستطيع الإلمام بها، لأنّ اللّه يفوق العقل والإدراك. فالله يتصف مثلاً بالسّمع والبصر، والكلام والعلم، والإرادة والمحبة، لأنه ذات عاقلة لها علاقة مع غيرها من الكائنات، مثل البشر والملائكة. والذات العاقلة التي لها علاقة مع غيرها تتصف بهذه الصفات، بأي وجه من الوجوه. ومما لا شك فيه أيضاً أنّ هذه الصّفات لم تكن عاطلة في اللّه أزلاً ثم صارت عاملة عندما قام بخلق الملائكة والبشر وغيرهم من الكائنات، بل إنّها كانت عاملة فيه من تلقاء ذاتها أزلاً (أي دون وجود مؤثر، خارج عن ذاته) وذلك قبل وجود أحد منهم، لأنه لو كان الأمر غير ذلك، لكان اللّه تعرض للتغيُّر، إذ يكون قد صار عاملاً، بعد أن كان غير عامل، والحال أنه لا يتغير على الإطلاق.
ولو كان الأمر غير ذلك لكانت هذه الكائنات ضرورة لازمة لجأ إليها اللّه لكي يُظهر صفاته ويُعلن ذاته، والحال أنه تعالى لكماله التام، ظاهر في صفاته كل الظهور، ومُعلَن في ذاته كل الإعلان، بصرف النظر عن وجود الكائنات أو عدم وجودها.
وبما أن اللّه يتصف بهذه الصفات التي كانت عاملة فيه من تلقاء ذاتها أزلاً، قبل وجود أي كائن من الكائنات سواه، إذن لا شك في أنه كان يمارسها حينذاك بينه وبين ذاته وحدها. هذا من وجهة، ومن وجهة أخرى بما أن ممارسة هذه الصفات لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا بين كائنين عاقلين على الأقل، أو بين كائن عاقل وذاته، إن كان مركباً. وبما أن اللّه مع وحدانيته وتفرُّده بالأزلية وعدم وجود تركيب فيه، كان يمارس هذه الصفات بينه وبين ذاته أزلاً كما ذكرنا، فمن المؤكد إذن أن تكون وحدانيته، مع عدم وجود تركيب فيها، ليست وحدانية مجردة أو وحدانية مطلقة، بل وحدانية من نوع آخر لا نظير له في الوجود، لأن كل شيء في الوجود، حتى الذرة، مكوَّن من أجزاء.
و «الوحدانية المجردة» هي الوحدانية التي لا تتصف بصفة، وإسنادها إلى اللّه معناه (كما يُستنتج من آراء القائلين بها) أن اللّه لا يتصف بصفة، أو بالحري أنه ليس ذاتاً، أو موجوداً له كيان حقيقي، لأن لكل موجود حقيقي صفة، على أي نحو من الأنحاء.
أما «الوحدانية المطلقة» فهي الوحدانية التي لا حدَّ لها، وإسنادها إلى اللّه معناه (كما يُستنتج من آراء القائلين بها) أنه ذاتٌ يتصف بالصفات السلبية (كعدم الإرغام وعدم الجهل)، أو يتصف بالصفات الإيجابية (كالإرادة والعلم). ولكن هذه الصفات لم يكن لها مجال للظهور أو العمل، إلا عند قيامه بالخلق، أي أن صفاته تعالى كانت بالقوة أزلاً، ثم صارت بالفعل عندما خلق.
وإن كان لا بدّ من إطلاق اسم على وحدانية اللّه، فمن الممكن أن تُسمَّى «الوحدانية الشاملة المانعة» أو «الوحدانية الجامعة المانعة» أي الشاملة أو الجامعة لكل ما هو لازم لوجود صفات اللّه بالفعل، بصرف النظر عن وجود الكائنات أو عدم وجودها. لأنه بذلك يكون منذ الأزل الذي لا بدء له، عالماً ومعلوماً، وعاقلاً ومعقولاً، ومُريداً ومراداً، وناظراً ومنظوراً، وسميعاً وكليماً، ومُحباً ومحبوباً، دون أن يكون هناك تركيب في ذاته أو شريك معه، الأمر الذي يتوافق كل التوافق مع كماله، واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود.
ونحن وإن كنا لا نبني أسانيدنا في هذا الكتاب على أقوال الفلاسفة والعلماء، لكن استيفاءً للبحث نقول إن كثيراً منهم، في كل دين من الأديان، قد ذهب إلى أن اللّه جامع. فمن بين اليونان، قال أفلاطون: «اللّه جامع لكل المحامد»، وقال أرسطو: «اللّه هو الكل، فهو العقل والعاقل والمعقول». ومن بين اليهود قال فيلون: «اللّه لا يتصل بالعالم مباشرة، بل بواسطة كلمته». وقال سيمون بن يوشي: «كلمة إلوهيم (أي اللّه) تدل على أنه تعالى جامع». ومن بين المسيحيين، قال بوهمي: «لا بد أن يكون اللّه منطوياً على كثرة، هي الينبوع الخفي للحياة الكلية، إذ كيف يمكن تفسير الكثرة الموجودة في العالم بالوحدة المطلقة، وليس في الوحدة المطلقة شيء تريده، ما دامت وحدة مطلقة»، وقال فيكتور كوزان: «الحقائق المطلقة التي نجدها في عقلنا تتطلب وجود عقل مطلق، ولما كان عاقلاً، كان وجداناً، والوجدان يتضمن التنوُّع». وقال سانتلا: «كيف يتصور صدور الكثرة من الأحدية البسيطة المتعالية عن كل كثرة! إن الأمر لا يخلو أن يكون أحد حالين: إما أن يُقال إن الكثرة كانت مكنونة في ذات الأول المحض، كما قال بعض الصوفيين إنها كالشجرة في النواة. وإما أن يُقال إن الكثرة لم يكن لها أثر أو رسم في ذات اللّه. وكيف يُتصوَّر حينئذ أن يكون علة للكثرة!». فبناء على رأيه، يجب التسليم بوجود كثرة في اللّه، أو بتعبير أدقّ بوجود إله جامع أو شامل. ومن بين فلاسفة المسلمين وعلمائهم، قال صاحب التحقيق: «أرى الكثرة في الواحد، وإن اختلفت حقائقها وكثرت، فإنها عين واحدة، فهذه كثرة معقولة في ذات العين»، وقال ابن العربي: «إذا اعتُبر الحق ذاتاً وصفات، كان كلاً في وحدة». وقال غيره: «لكن من غلبت عليه الوحدة من كل وجه، كان على خطر. فالقلوب به هائمة والعقول فيه حائرة، وبذلك ظهرت عظمته سبحانه وتعالى». (عن كتب: مشكلة الألوهية، والفلسفة الإغريقية، وتاريخ الفلسفة اليونانية، وعلم الطبيعة، والفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، وتاريخ الفلسفة الحديثة، وفلسفة المحدثين والمعاصرين، والمدخل إلى الفلسفة، وفصوص الحكم لابن العربي، وتحفة المريد على جوهرة التوحيد، وحاشية الأمير على الجوهرة).
وهنا يتساءل البعض: كيف تكون وحدانية اللّه محض لا تركيب فيها على الإطلاق، وفي الوقت نفسه يكون اللّه شاملاً أو جامعاً؟
والجواب: لو أن أساس الجامعية والشمول في اللّه، يختلف عن أساس هذه الوحدانية فيه، لا يكون هناك مجال للاعتراض على الإطلاق. ولإيضاح ذلك نقول: إذا وُصف الإنسان مثلاً بأنه واحد وثلاثة، فإن هذا الوصف يبدو لأول وهلة متعارضاً مع الحقيقة المعروفة لدينا، لأنه لا يمكن أن يكون شخص ما واحداً وثلاثة. لكن إذا تبيَّن لنا أنه يقصد بهذا الوصف أن الإنسان واحد من جهة المظهر، وثلاثة من جهة الجوهر، فإن الشك في صحة هذا الوصف يزول من أمامنا، لأننا نعلم أن الإنسان واحد في مظهره، وفي الوقت نفسه هو في جوهره مكوَّن من ثلاثة عناصر متكاملة: هي الجسد والنفس والروح.
وعلى هذا القياس، مع مراعاة الفارق الذي لا حدَّ له بين الوحدانية الإلهية والوحدانية البشرية، لأن الأولى غير مركبة وغير محددة، أما الثانية فمركبة ومحدودة، نقول: بما أن اللّه جوهر، لأن القائم بذاته جوهر، و «الجوهر» ليس هو المادة، كما يتبادر إلى ذهن بعض الناس، بل هو ما ليس في موضوع، أو بتعبير آخر هو القائم بذاته. وليس هناك غبار على القول «إن اللّه جوهر». وقد شهد بهذه الحقيقة كثير من الفلاسفة. فقال ديكارت مثلاً «اللّه هو الجوهر الحقيقي» (المدخل إلى الفلسفة ص ١٧٧).
وبما أن هذا الجوهر، وإن كان لا متناهياً إلا أن له تعيُّناً خاصاً به، إذن يكون اللّه واحداً من جهة، وجامعاً أو شاملاً من جهة أخرى، دون أن يكون هناك أي تعارض أو تناقض في ذاته.
و «التعين» هو الوجود الواقعي الذي يتميز بمميزات تدل على أن له مثل هذا الوجود. ولا يُشترط فيه أن يكون محدوداً أو مجسَّماً، بل أن يكون فقط موجوداً وجوداً حقيقياً. ولذلك فلكل موجود تعيُّن بأي وجه من الوجوه، وليس بلا تعيُّن إلا غير الموجود.
فمن أي وجهٍ يكون واحداً، ومن أي جهةٍ يكون جامعاً؟
الجواب: لا شك في أنه يكون واحداً من جهة الجوهر، لأنه إن لم يكن واحداً من هذه الجهة، كان مركباً وقابلاً للتجزئة. والحال أنه ليس مركباً أو قابلاً للتجزئة. ويكون جامعاً من جهة التعيُّن، لأن وجود صفاته بالفعل منذ الأزل الذي لا بدء له، يدل بوضوح على أنه جامع من هذه الجهة. وجوهر اللّه الذي لا تركيب فيه، والجامع في تعيُّنه لكل ما هو لازم لكماله، واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود، ليس طبعاً سوى عين ذاته، لأنه لا تركيب فيه كما قلنا.
وإننا بقولنا سالف الذكر، لا نفرّق مطلقاً بين جوهر اللّه وتعيُّنه، بل نقصد فقط أن اللّه ليس جوهراً مبهماً أو غير معيَّن، بل إنه جوهر واضح أو معيّن - لأن التعين هو من مستلزمات كل موجود حقيقي، كما قلنا. فجوهر اللّه ما هو إلا اللاهوت. وهذا الجوهر نفسه بالنظر إلى تعيُّنه ما هو إلا اللّه. واللّه ليس شيئاً غير اللاهوت، بل هو اللاهوت معيّناً. واللاهوت ليس شيئاً غير اللّه، بل هو اللّه جوهراً. ولذلك كثيراً ما تُستعمل كلمة «اللاهوت» بدلاً من كلمة «اللّه»، وكلمة «اللّه» بدلاً من كلمة «اللاهوت»، كما يتضح بكثرة في الأبواب التالية.
وقد عبَّر ابن العربي في كتابه «فصوص الحكم»، عن «اللاهوت» بـ «الباطن»، وعن اللّه بـ «الظاهر»، ثم أعلن أنهما واحد. فقال عن اللّه «هو الظاهر وهو الباطن، وهو عين ما ظهر وعين ما بطن». كما أعلن ما يُستنتج منه أن الكثرة ليست في جوهر اللّه أو هُويته، بل هي في تعيُّنه أو ظاهريته، فقال: «لا كثرة في هُوية ذات الحق. وكل كثرة واختلاط (أو علاقات) فهو بعد ذاته وظاهريته». واصطلاح «الظاهر والباطن» اقتبسه ابن العربي من القرآن، فقد ورد في (سورة الحديد ٥٧: ٣) عن اللّه «هُوَ ٱلأَّوَلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ».
مما تقدم يتضح لنا ما يأتي:
ويتفق معنا في ذلك بعض علماء المسلمين. فمثلاً قال صاحب المواقف: «لا يجوز اجتماع الوحدة مع الكثرة في شيء واحد من جهة واحدة» (المواقف ص ٣٤٢)، ومعنى ذلك أنه يجوز اجتماعهما معاً في شيء واحد من جهتين.
وبذلك فإن وحدانية اللّه الجامعة، لا تتعارض مع وحدانيته، أو عدم وجود تركيب فيه، أو عدم وجود شريك له، بل تتوافق مع هذه الحقائق كل التوافق.
يعتقد بعض الفلاسفة الذين أدركوا أن وحدانية اللّه وحدانية جامعة أو شاملة، أن هذه الجامعية أو الشمول هي ذاته وصفاته. لكن هذا الاعتقاد لا يتفق مع الخصائص اللائقة باللّه، لأننا لو فرضنا أن جامعية اللّه أو شموله هي ذاته وصفاته. وصفاته كما مرَّ بنا كانت بالفعل أزلاً، فإنه يترتب على ذلك أن اللّه كان في الأزل يكلم صفاته ويسمعها، ويبصرها ويحبها، ويريدها ويعلمها. أو أن صفاته كانت تكلمه وتسمعه، وتبصره وتحبه، وتريده وتعلمه. أو أنها كان يكلم بعضها بعضاً، ويسمع بعضها بعضاً، ويبصر بعضها بعضاً، ويحب بعضها بعضاً، ويريد بعضها بعضاً، ويعلم بعضها بعضاً أزلاً. وكل ذلك باطل. لأن اللّه لا يتعامل مع الصفات، ولا الصفات تتعامل مع اللّه، أو مع بعضها البعض، لأن التعامل لا يكون إلا بين التعيّنات العاقلة، والصفات معان وليست تعيّنات. والمقصود«بالمعاني» في قولنا هذا ما ليس له وجود واقعي، بل ما وجوده في الذهن فحسب.
ولذلك فجامعية اللّه لا يمكن أن تكون هي ذاته وصفاته، بأي وجه من الوجوه. وإذا كان الأمر كذلك، فما هي جامعيته إذن؟
الجواب: إنها كما ذكرنا في الفصل الأول، هي ذاته عينها. فذاته مع وحدانيتها، وعدم وجود تركيب فيها، هي بنفسها جامعة، أو بتعبير آخر إنها ليست تعيناً واحداً بل تعيّنات.
وطبعاً ليس معنى ذلك أن اللّه قائم بآلهة مشابهة له. كلا، لأن اللّه لا شريك له ولا نظير. وليس معناه أنه ذات في ذوات، أو ذوات في ذات. كلا، لأنه ذات واحدة لا تركيب فيها على الإطلاق. بل معناه أن ذاته الواحدة التي لا تركيب فيها هي بعينها تعينات.
وبما أن ذات اللّه تعيّنات، إذن فمن البديهي أن يكون كل تعيُّن من هذه التعيّنات، ليس جزءاً من ذات اللّه، بل أن يكون هو ذات اللّه، لأنه غير مركّب من عناصر أو أجزاء. وأن يكون ذات اللّه نفسها، بكل خصائصها وصفاتها (لأن تعيّن اللّه هو عين جوهره، كما ذكرنا فيما سلف)، ولذلك يكون كل تعين من هذه التعينات هو اللّه الأزلي الأبدي، العالم المريد، القدير البصير، السميع الكليم، الذي لا يتغير أو يتطوّر على الإطلاق. لأنه بذلك، وبذلك وحده، يكون منذ الأزل الذي لا بدء له، كاملاً كل الكمال، ومستغنياً بذاته كل الاستغناء، إذ يكون، كما ذكرنا في الفصل الأول، عالماً ومعلوماً، وعاقلاً ومعقولاً، ومريداً ومراداً، وناظراً ومنظوراً، وسميعاً وكليماً، ومحباً ومحبوباً، إلى درجة الكمال الذي ليس بعده كمال، دون أن يكون هناك شريك في ذاته أو شريك معه.
اصطلح معظم فلاسفة المسيحيين في الأجيال الأولى، على تسمية هذه التعيُّنات بالأقانيم، والمفرد «أقنوم». و «الأقنوم» كلمة سريانية يطلقها السريان على كل من يتميز عن سواه، على شرط ألا يكون مما شُخِّص أوْ لَهُ ظل (A Compendious Syriac Dictionary, pp.٥٠٩-١٠ وسلك الفصول ص ٨٨-٩٠). ولذلك فإن المراد بكلمة «الأقنوم» هو نفس المراد بكلمة«التعيُّن». وكلمة أقانيم تختلف كل الاختلاف عن كلمة «أشخاص» المستعملة في اللغة العربية والكلمات المقابلة لها في اللغات الأخرى، من ناحيتين رئيسيتين (أ) فالمراد بالأشخاص، هم الذوات المنفصل أحدهم عن الآخر. أما المراد بـ «الأقانيم» فذات واحدة هي ذات اللّه الذي لا شريك له ولا نظير. (ب) إن الأشخاص وإن كانوا يشتركون في الطبيعة الواحدة، إلا أنه ليس لأحدهم ذات خصائص أو صفات أو مميزات الآخر. أما الأقانيم فمع تميُّز أحدهم عن الآخر في الأقنومية، هم واحد في الجوهر بكل خصائصه وصفاته ومميزاته، لأنهم ذات اللّه الواحد.
فالأقانيم ليسوا إذن كائنات في اللّه، أو كائنات مع اللّه، بل هم ذات اللّه، لأنهم تعيّنات اللاهوت، أو بتعبير أدق «تعيُّن اللاهوت الخاص». أو اللاهوت معيّناً. وتعيُّن اللاهوت أو اللاهوت معيّناً، هو ذات اللّه. وهم تعيُّن اللاهوت أو ذاته معيّنة، لأنهم هم اللاهوت معلناً في ذاته وصفاته. ولذلك كان اللاهوت، بتعيّنه أو أقانيمه، ليس هو اللّه المبهم الغامض، كما يتصوره بعض الناس، بل اللّه المعيّن الواضح، الذي نستطيع إدراكه والرجوع إليه، فنجد فيه مقصدنا، الذي تسكن إليه نفوسنا وتطمئن إليه قلوبنا.
أما عدد الأقانيم، فهو طبعاً أول عدد لا يمكن لأقل منه أن تتوافر فيه خصائص الوحدانية الجامعة المانعة، وهذا العدد هو «٣». ويتفق معنا كثير من الفلاسفة على ذلك، فمثلاً قال ابن العربي:«أول الأعداد الفردية هو الثلاثة لا الواحد، لأن الواحد ليس بعدد، بل هو أصل الأعداد» (فصوص الحكم ص ١٣٠).
وهناك اعتقاد عام عند البشر أن العدد «٣» هو أول عدد كامل، ففي أمثالهم يقولون «ٱلْخَيْطُ ٱلْمَثْلُوثُ لا يَنْقَطِعُ» (جامعة ٤: ١٢)، و «كل شيء بالثالث يكمل»، و «المرَّة الثالثة ثابتة». وفي قانون العقوبات يُعتبر المجرم عائداً يستحق عقوبة الجناية بدلاً من عقوبة الجنحة، إذا ارتكب مخالفة ثلاث مرات (المادة ٤٩ من قانون العقوبات). وفي الرياضيات، أول شكل هو الذي له ثلاثة أضلاع، وأول حجم هو الذي له ثلاثة أبعاد. وفي الطبيعة، كل نبات راقٍ مكون من ثلاثة أجزاء رئيسية، وكل حيوان راقٍ مكون من ثلاثة أجزاء رئيسية، وكل إنسان مكون من ثلاثة عناصر رئيسيّة. والذرَّة نفسها مكّونة من ثلاثة أجزاء رئيسيّة وهكذا.. وليس هذا الاعتقاد موجوداً فقط في اصطلاحات الناس وعلومهم، بل إنه موجود أيضاً في كل دين من الأديان. ففي الإسلام يُعتبر العدد «٣» في كثير من الأحوال أول عدد كامل، فاسم المولى يذكر أثناء كل ركعة ثلاث مرات، ويقوم المصلي بالمضمضة ثلاث مرات، والاستنشاق ثلاث مرات، وغسل الوجه ثلاث مرات، والقسَم لا يكون نافذاً إلا إذا كان باللّه ثلاثاً، والطلاق لا يكون قانونياً إلا إذا كان الإشهار به ثلاثاً. وفي اليهودية والمسيحية يُعتبر هذا العدد أول عدد كامل (إقرأ مثلاً ٢ صموئيل ٢٤: ١٢، دانيال ١: ٥، خروج ٢٣: ١٤، ودانيال ٦: ١٠، وتكوين ١٥: ٩، وإشعياء ١٥: ٥، وأستير ٥: ١، ولوقا ١٣: ٧، وأعمال ١٠: ١٦، و ٢ كورنثوس ١٢: ٨). وطبعاً ليس الغرض من هذه الاقتباسات هو الاستدلال بها على أن أقانيم اللاهوت أو تعيناته لا بدّ أن يكونوا ثلاثة. كلا! لأن اللّه أسمى من أن يُقاس بالنسبة الى أي شيء من الأشياء، بل الغرض منها هو الاستدلال بها على أنه لو أعلن لنا الوحي أن الأقانيم ثلاثة، لما جاز لعقولنا أن تعترض على الإطلاق، لأن هذه الحقيقة تكون متفقة مع الواقع المعروف لدينا. ونظراً لأننا سنبحث موضوع عدد الأقانيم بالتفصيل في هذا الكتاب، لذلك نكتفي بهذه الملاحظة.
أمام القول أن وحدانية اللّه هي وحدانية جامعة مانعة، لا يجد العقل مجالاً للاعتراض. وإن اعترض بشيء، فلا يمكن أن يقول سوى إن هذا الموضوع يسمو فوق إدراكه. ونحن من جانبنا نوافقه على ذلك كل الموافقة، لأن اللّه عجيب في ذاته ولا يمكن الإحاطة به إطلاقاً. ومع كلٍ، فإنه وإن كان يسمو فوق العقل، إلا أنه ليس ضد العقل، لأننا يجب أن نؤمن: إما بأن وحدانية اللّه هي وحدانية مجرَّدة، نفينا عنه الذات والصفات، والحال أنه ذات وله صفات. وإن قلنا إنها مطلقة، افترضنا اتّصافه بصفات لا علة له أو عمل أزلاً، وأسندنا أيضاً إليه التغيّر والتطوّر بدخوله في علاقة مع الكائنات التي خلقها، وكل ذلك باطل. ولذلك فمن المؤكد أن تكون وحدانية اللّه هي وحدانية جامعة مانعة، أو بتعبير آخر متميّزة بأقانيم أو بتعيّنات (أو سمِّها ما شئت، إذ لا قيمة للفظ بجانب سلامة المعنى)، لأن هذه الأقانيم أو التعيّنات هي الخصائص الأصلية الذاتية لوحدانية اللّه المحض، ولذلك كان اللّه مع لا نهائيته وتفرُّده بالأزلية، وعدم وجود أي تركيب فيه، ليس الإله المجرّد من الصفات، أو الإله الذي يتَّصف بصفات لم يكن لها عمل أزلاً، بل الإله المتَّصف بكل صفات الكمال، والذي كانت كل صفاته بالفعل، منذ الأزل الذي لا بدء له، إلى الأبد الذي لا نهاية له، الأمر الذي يتوافق مع كماله التام، واستغنائه عن كل شيء في الوجود، وعدم تعرضه للتطور والتغير، بأي وجه من الوجوه.
ومن هذا نرى أن هناك فرقاً كبيراً بين الأمور التي تسمو فوق العقل، وتلك التي لا تتفق معه. فالأولى هي التي تتفق معه في أساسها، لكن لسموها لا نستطيع الإحاطة بكنهها. أما الثانية فإنها لا تتفق معه إطلاقاً، لا في أساسها ولا في كنهها. فمثلاً إذا قلنا إن اللّه يحب الأشرار، فإن هذا القول لا يكون ضد العقل، بل يكون أسمى من إدراكه، لأن الأشرار وإن كانوا حسب عقولنا، لا يستحقون محبة أو عطفاً من اللّه، إلا أنه لكماله التام لا يمكن أن يكرههم، لأنه سبق وخلقهم على صورته كشبَهه. ولذلك فمن البديهي أنه يحبهم، ويهيء لهم سبيل الرجوع إليه والتوافق معه. أما إذا قلنا إن اللّه يحب الشر، فإن هذا القول لا يكون أسمى من إدراك العقل، بل يكون ضده، لأن الشر لا يتوافق مع قداسة اللّه بأي حالٍ من الأحوال.
٢ - التوراة وماهية الجامعية في الوحدانية الإلهية.
٣ - أسماء الأقانيم وعددهم ووحدتهم.
٤ - الأدلة على صدق شهادة التوراة.
وقد اختلف الناس فيما تدل عليه صيغة الجمع، المستعملة في الكلمات: «نعمل الإنسان على صورتنا كشَبَهنا». فقال فريق منهم إنها تدل على تعظيم اللّه لذاته، وقال فريق آخر إنها تدل على أن وحدانيته هي وحدانية جامعة. ولكي تتضح الحقيقة للقارىء نقول: إن استعمال صيغة الجمع للدلالة على التعظيم لم يكن معروفاً في اللغة العبرية التي كُتبت بها التوراة أو غيرها من اللغات القديمة - فالملوك والعظماء كانوا يتحدثون عن أنفسهم، كما كانوا يُخاطَبون بصيغة المفرد (إقرأ مثلاً الخطابات القديمة الواردة في كتاب النيل في عهد الفراعنة، للأستاذ أنطون ذكري: ص ١٣، ١٤، ١٠١، ١١٢، وفي كتاب الفلسفة الشرقية، للدكتور محمد غلاب: ص ٣٧، ٣٨، ٦٩، ٧٢، ٧٣، ٧٥، ٧٦، وفي كتاب مصر القديمة، للأستاذ سليم حسن: ص ٣٧٠-٣٧٢، ٣٧٨-٣٨٨). والكتاب المقدس يؤيد هذه الحقيقة، فقد قال فرعون ليوسف: «إِنِّي كُنْتُ فِي حُلْمِي وَاقِفاً عَلَى شَاطِئِ ٱلنَّهْرِ» (تكوين ٤١: ١٧) مستعملاً صيغة المفرد. وقال نبوخذ نصر ملك بابل لدانيال: «كُنْتُ مُطْمَئِنّاً فِي بَيْتِي وَنَاضِراً فِي قَصْرِي» (دانيال ٤: ٤)، مستعملاً صيغة المفرد أيضاً. فضلاً عن ذلك، فقد سجل الكتاب المقدس أن اللّه نفسه لم يتكلم عن ذاته، بضمير الجمع «نحن» بل بضمير المفرد «أنا». فقد قال لإبراهيم: «أَنَا تُرْسٌ لَكَ» (تكوين ١٥: ١) كما قال لإسرائيل: «أَنَا ٱلرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ»(إشعياء ٤٥: ٦). وهذا دليل على أن صيغة الجمع المستعملة مع اسمه في بعض الآيات، لا يُراد بها التعظيم، بل يُراد بها التعبير عن جامعية وحدانيته كما ذكرنا.
وبما أنه ليس من المعقول أن يستعمل اللّه في أقواله مع البشر اصطلاحاً لغوياً غير معروف لديهم، لئلا يسيئوا فهم الغرض منه، فمن المؤكد أنه لا يقصد بهذه الصيغة تعظيماً لذاته. وبما أنه لا يقصد بها تعظيماً لذاته، وفي الوقت نفسه هو وحده الخالق للإنسان، فمن المؤكد أيضاً أنه لا يقصد بها ذاته وغيرها من الذوات، بل يقصد بها ذاته وحدها. وإذا كان الأمر كذلك كانت ذاته ليست مجرَّدة أو مطلقة، بل شاملة أو جامعة كما ذكرنا في التمهيد.
فإذا أضفنا إلى ذلك، أن اللّه عظيم كل العظمة في ذاته. ومنْ هو عظيم كل العظمة في ذاته، لا يلجأ إلى تعظيمها - إذ لا يفعل ذلك إلا المخلوق الذي يشعر بوجود نقص في نفسه، فيدفعه مُرَكّبُ النقص إلى تعظيمها، لكي يغطّي ما فيها من نقص - لا يبقى مجال للشك في أن صيغة الجمع المستعملة مع «اللّه» في هذه الآية وغيرها من الآيات، تدل على أن وحدانيته وحدانية جامعة.
الجواب: بما أن اللّه واحد لا شريك له، وفي الوقت نفسه هو كافٍ للقيام بكل أعماله بمفرده، إذن فهو لا يضع ذاته جنباً إلى جنب مع أحد من خلائقه ويخاطبه بالقول: «هلم نعمل كذا و كذا.. ». وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ التداول المذكور، يكون قد حدث بين اللّه وبين ذاته وحدها. وحدوث تداول بين اللّه وبين ذاته دليل قاطع على أنّه جامع، أو بتعبير آخر على أنه أكثر من تعيّن واحد.
ومما يثبت كذلك أن الجمع في كلمة «إلوهيم»، لا يُقصد به تعظيم اللّه لذاته، بل الإعلان عن أن وحدانيته وحدانيه جامعة، الدليلان الآتيان:
وأمام هذه الحقيقة، يسأل البعض: وما غرض اللّه من إطلاق اسمين مختلفين على نفسه، وفي أيّ مجال يُطلق كلاّ منهما عليها؟
والجواب: لولا وجود الخلائق العاقلة، لما كان هناك داعٍ لأن يطلق اللّه على نفسه اسماً ما. ولكن عندما خلقها، استلزم الأمر أن يطلق على نفسه اسماً لتعرفه به، يُراعى في اختياره أن يكون ذا معنى يمكن لخلائقه أن تعرف به شيئاً عنه، لأن كل اسم يُراد به تعريف المسمَّى به لدى غيره. ولما كان المخلوق، بسبب قصوره الذاتي، لا يستطيع أن يعرف شيئاً عن اللّه، من حيث ماهيته. وكل ما يستطيع معرفته عنه هو صفاته وأعماله الظاهرة، كان من البديهي أنه عندما يطلق اللّه على نفسه اسماً، يختار اسماً يدل على صفاته أو أعماله الظاهرة لخلائقه. فإذا رجعنا إلى سفر التكوين، الذي هو أول إعلان للبشر عن اللّه، وجدنا أن أول اسم عُرف به في بدء الخلق وأثناء الخلق، هو «إلوهيم» الجمع. وعندما أكمل خلق العالم، وأخذ في خلق الإنسان والاتصال به، عُرف باسم«يهوه إلوهيم»، أو حسب الترجمة الحرفية «الآلهة الكائن بذاته» (إقرأ تكوين ١: ١، ٢، ٣، ٤، ٥ مع تكوين ٢: ٤، ٥، ٧، ٨). ومن هذا نستنتج:
وقد ورد اسم «إلوهيم» مرادفاً أيضاً لاسم «يهوه»، في آيات كثيرة مثل (تكوين ٢: ٧، ٨، ٩، ١٥، ١٨، ١٩، ٣: ١، ٨، ٩، ١٣، ٤: ٤، ٦، ٩، ١ أخبار الأيام ٢٨: ٨). ونظراً لأن«يهوه» هو «إلوهيم» و «إلوهيم» هو «يهوه»، تُسنَد الصفات الخاصة بـ «يهوه» إلى «إلوهيم»، وتُسنَد الصفات الخاصة بـ «إلوهيم» إلى «يهوه»، سواء بسواء (إقرأ مثلاً ٢ صموئيل ٧: ٢٣).
مما تقدم يتضح لنا أن التوراة، مع إعلانها أن اللّه واحد لا شريك له، تُعلن أيضاً أن وحدانيته جامعة، أو بالحري وحدانية جامعة مانعة.
اتضح لنا من التمهيد، أن جامعية اللّه ليست ذاته وصفاته، بل أنها ذاته وحدها. أو بتعبير آخر إن ذاته ليست أقنوماً واحداً بل أقانيم. وإذا أعدنا التأمل في الآيات التي ذكرناها آنفاً، وجدناها تدل بكل وضوح على هذه الحقيقة. فالآية «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» تدل على أن اللّه أقانيم، لأن العمل لا يُسند إلى اللّه وصفاته، بل إلى اللّه وحده، إذ أن الصفات هي مجرد معانٍ، والمعاني لا تشترك في عمل من الأعمال. والآية «هوذا الإنسان قد صار كواحد منا» تدل على أن اللّه أقانيم، لأن الصفات لا تكوّن آحاداً من اللّه، إذ أنها ليست تعيّنات، بل هي معانٍ لا وجود لها إلا في الذهن فحسب. والآية «هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم» تدل على أنه أقانيم، لأنه لا يدعو الصفات لتعمل معه، إذ أنه وحده هو العامل. والآية «من أُرسل.. من أجلنا» تدل على أنه أقانيم، لأنه تعالى لا يرسل رسولاً من أجله ومن أجل صفاته، بل من أجله وحده. والاسم «إلوهيم» الجمع، يدل كذلك على أن اللّه أقانيم، لأن أية صفة من صفاته ليست هي عين ذاته، ولذلك لا يكون بها اللّه «إلوهيم»أو «الآلهة».
وعدا هذه الآيات، توجد آيات كثيرة تدل على أن جامعية اللّه ليست ذاته وصفاته، بل أنها ذاته وحدها. أو بتعبير آخر تدل على أن ذاته ليست أقنوماً واحداً بل أقانيم، ولكن للاختصار نكتفي بالآيات التالية:
وقد كانت هذه الآية موضع جدال بين علماء اليهود زمناً طويلاً، لكنهم انتهوا بعد دراسة التوراة دراسة دقيقة، إلى أنه يقصد بهذا «الابن»، المسيّا أو المسيح. ومعنى «الابن» هنا، ليس هو المعنى الحرفي، بل المعنى الروحي الذي يتوافق مع روحانية اللّه وخصائصه الأخرى، كما سيتضح بالتفصيل في الباب الثالث.
ومن قول أجور هذا في أمثال ٣٠: ٤ يتضح لنا أن اللّه (أو بالحري اللاهوت) ليس مجرداً، بل متميز بـ «ابن». و «ابن اللّه»، وإن كان يبدو أنه غير اللّه، إلا أنه ليس سوى اللّه في جوهره، إذ أنه هو «كلمة اللّه» أو «المعلِن للّه» كما سيتبين بالتفصيل في البابين التاليين.
وقال على لسان إشعياء النبي سنة ٧٠٠ ق.م، كما ذكرنا فيما سلف «أَنَا ٱلأَّوَلُ وَأَنَا ٱلآخِرُ.. وٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ» (إشعياء ٤٨: ١٢-١٦). ومن هذه الآية يتضح أيضاً أن «الأول والآخِر»، قد أُرسل بواسطة اثنين، هما «السيد الرب» و «روحه». والأول والآخِر، والسيد الرب، وروح الرب. وإن كان يبدو أن أحدهم غير الآخر، إلا أنهم في الواقع كائن واحد، هو«الرب».
مما تقدم يتضح لنا أن التوراة لا تعلن فقط أن جامعية اللّه هي أقانيم، كما ذكرنا في الفصل السابق، بل تعلن أيضاً أن هؤلاء الأقانيم هم ثلاثة: إذ أن «الكلمة» و «الابن» هما واحد، و «الرب» و«السيد الرب» هما واحد، والثالث هو المسمَّى «الروح» أو «روح الرب». والأقانيم ليسوا كائنات غير اللّه أو كائنات معه، بل هم عين ذاته كما ذكرنا.
فضلاً عن أن الآيات السابق ذكرها مسجلة بالوحي الإلهي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها، فهناك أدلة عقلية كثيرة تؤيد أيضاً صدقها، نكتفي منها بما يأتي:
فموسى هو الذي سجّل قول المولى: «أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ... لا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي» (خروج ٢٠: ٢ و٣). وداود هو الذي قال «قُلْتُ لِلرَّبِّ: أَنْتَ سَيِّدِي. خَيْرِي لا شَيْءَ غَيْرُكَ... تَكْثُرُ أَوْجَاعُهُمُ ٱلَّذِينَ أَسْرَعُوا وَرَاءَ آخَرَ» (مزمور ١٦: ٢، ٤). وإشعياء هو الذي سجّل قول المولى «أَلَيْسَ أَنَا ٱلرَّبُّ وَلا إِلَهَ آخَرَ غَيْرِي؟» (إشعياء ٤٥: ٢١).
وبما أنهم بجانب هذه الأقوال، قد شهدوا في الآيات التي ذكرناها الآن، ما يُستنتج منه أن اللّه ليس أقنوماً واحداً بل أقانيم،إذن لا سبيل للظن أنهم نقلوا هذه الآيات عن الوثنيين، بل من المؤكد أنهم نقلوها من اللّه رأساً، كإعلان تفصيلي عن ذاته.
٢ - توافق التثليث مع وحدانية اللّه، وعدم وجود تركيب فيه.
٣ - توافق ظهور أقنوم دون آخر، مع ثبات اللّه، وعدم تعرُّضه للتغير.
هناك آيات كثيرة في الإنجيل تدل على أن وحدانية اللّه هي وحدانية جامعة مانعة، أو بتعبير آخر: إن اللّه ليس أقنوماً واحداً بل أقانيم، متى ٣: ١٦، ١٧ ومرقس ١: ٩-١١، ولوقا ٣: ٢١، ٢٢، ويوحنا ١٤: ١٦، ١٧، ١٥: ٢٦، ٢ كورنثوس ١٣: ١٤، وغلاطية ٤: ٦، وأفسس ٢: ١٨، ويهوذا ٢٠، ٢١.
لكن للاختصار نكتفي هنا بالآية التالية، على سبيل المثال:
قال المسيح لتلاميذه في أواخر خدمته على الأرض: «فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (متى ٢٨: ١٩).
والعماد في المسيحية، هو خدمة دينية، يغطس بها المؤمن في الماء، ثم يُقام منه ثانية، للدلالة على موته عن الخطية وقيامته بحياة روحية جديدة يحيا بها لمجد اللّه دون سواه. أما اعتماد بني اسرائيل لموسى في البرية، فيُراد به خضوعهم له وانقيادهم وراءه (١كورنثوس ١٠: ٢، وغلاطية ٣: ٢٧، رومية ٦: ٣، ٤).
كما أن معنى الأبوة والبنوة هنا، ليس هو المعنى الحرفي، بل المعنى الروحي الذي يتوافق مع خصائص اللّه، كما سيتضح في الباب التالي.
وبالتأمل في هذه الآية يتبين لنا:
ورُبَّ قائل يقول، إن استعمال كلمة «اسم» ليس دليلاً قاطعاً على أن «الآب والابن والروح القدس» كائن واحد، فمن المحتمل أن يكونوا ثلاثة كائنات منفصلة، وكلٌّ منهم مضاف على حِدة إلى كلمة «اسم» ولكن لا مجال لمثل هذا الاعتراض، إذا ذكرنا الحقيقة اللغوية، الواردة بعد ذلك في البند الثاني.
كما يدَّعي بعض المعترضين أن الآب وحده هو اللّه، وأن الابن والروح القدس منبثقان منه. لكن هذا الادعاء لا نصيب له من الصواب إطلاقاً، وذلك لسببين رئيسيين (أ) إن المراد بـ «الآب والابن والروح القدس» (كما يتضح من الفصل الثاني في هذا الباب) كائن واحد فحسب، وبما أن المعترضين يعتقدون أن «الآب» هو اللّه، وجب عليهم التسليم بأن «الابن والروح القدس»واحد معه في الجوهر أو الذاتية، وبالتالي بأن «الآب والابن والروح القدس» هو اللّه. (ب) إن الغرض الروحي من العماد هو الخضوع المطلق والتكريس الكامل، وبما أن هذا لا يكون إلا للّه، وللّه وحده، لذلك لا جدال في أن «الآب والابن والروح القدس»، الذين نعتمد باسمهم، هم اللّه. ونظراً لأننا سنرد على جميع الاعتراضات في الباب الخامس، نكتفي هنا بهذه الملاحظة.
ولزيادة الايضاح نقول: إذا أُريد التعبير عن مجيء ثلاثة أشخاص أحدهم محام، وثانيهم طبيب، وثالثهم مهندس، فانه بحسب قواعد اللغة اليونانية يُقال «جاء محام، طبيب و مهندس» بوضع فاصلة بين الاسمين الأول والثاني، وحرف عطف بين الاسمين الثاني والثالث. أما إذا أُريد التعبير عن مجيء شخص واحد، هو محام وطبيب ومهندس في نفس الوقت، فانه يُقال: «جاء محام وطبيب ومهندس»، بوضع حرف عطف بين كل من الاسمين الأول والثاني، والاسمين الثاني والثالث. وهذه هي نفس الصيغة المستعملة في الآية «باسم الآب والابن والروح القدس»، الأمر الذي يدل على أنه يقصد بهم كائن واحد، ليس سواه.
وحقيقة وحدانية اللّه وعدم وجود تركيب فيه يعبر عنها كما ذكرنا في المقدمة، بـ «التوحيد». ويُعبَّر عن حقيقة تميُّزه بثلاثة أقانيم بـ «التثليث». ولذلك فالتثليث ليس معناه أن هناك ثلاثة آلهة، كما يظن بعض الجهلاء، بل معناه أن اللّه الذي لا شريك له ولا تركيب فيه، هو بذاته ثلاثة أقانيم، لأنه هو بذاته المقصود بـ «الآب والابن والروح القدس».
وأول استعمال للفظة «التثليث» كان في القرن الثالث بعد الميلاد. وهي باللغة اليونانية «ترياس» ومعناها، كما يقول أساتذة اللغة اليونانية «واحد وثلاثة». فكلمة «واحد»، يُشار بها إلى جوهر اللّه، وكلمة «ثلاثة»، يُشار بها إلى أقانيمه (محاضرات لاهوتية ص ٢٠). وليس معنى ذلك أن عقيدة التثليث ظهرت في القرن الثالث، لأن هذه العقيدة كانت معروفة كل المعرفة لدى المسيحيين منذ القرن الأول، كما سنوضح في الأبواب التالية، إنما لم تكن في أيامهم حاجة إلى إطلاق اسم عليها، إذ كانوا في بساطة إيمانهم يكتفون بالاعتقاد أن اللّه هو «الآب والابن والروح القدس»، وأن«الآب والابن والروح القدس» هم اللّه. ولكن لما اعتنق المسيحية كثير من الفلاسفة في القرن الثالث، عبَّروا عن هذا الاعتقاد بـ «التثليث». ونقتبس من مجلة كلية الآداب الصادرة في مايو سنة ١٩٣٤ ومن كتاب فصوص الحكم للدكتور أبو العلا عفيفي (١٣٣، ١٣٤، ٣٢٥، ٣٢٦) الملخص الآتي:
قال محيي الدين بن العربي: «أول الأعداد الفردية هو الثلاثة لا الواحد، لأن الواحد ليس بعدد، بل هو أصل الأعداد». فأول صورة تعينت فيها الذات الإلهية كانت ثلاثية. وذلك لأن التعين كان في صورة العلم، حيث العلم والعالم والمعلوم حقيقة واحدة. كما أن أول حضرة إلهية ظهر فيها اللّه، كانت ثلاثية، لأنها حضرة الذات الالهية المتصفة بجميع الأسماء والصفات. فضلاً عن ذلك فان عملية الخلق نفسها هي ثلاثية أيضاً، لأنها تقتضي وجود الذات الالهية و الارادة والقول «كن». فالتثليث هو المحور الذي تدور حوله رحى الوجود، وهو الشرط الأساسي في تحقيق الإيجاد والخلق، ولذلك أنشد قائلاً:
تثليث محبوبي وقد كان واحداً كما صيَّر الأقْنام بالذات أقنُما
وطبعاً لا يقصد ابن العربي بقوله هذا، أن يشرح عقيدة الأقانيم المسيحية، فقد كان من كبار المسلمين المتمسكين كل التمسّك بعقيدتهم. إنما قصد أن يثبت أن اللّه لم يظهر مطلقاً بوحدانية مجردة أو مطلقة، بل كان يظهر دائماً أبداً في ثالوث. وهذا الثالوث هو العلم والعالم والمعلوم، أو الذات والأسماء والصفات، أو الذات والارادة والقول «كن». ومع كلٍّ، فان مجرد اتّصاف اللّه بصفات وقيامه بأعمال، دليل على أنه ليس أقنوماً واحداً، بل أقانيم. لأنه لولا ذلك، لما كانت له صفة إيجابية، ولما قام بعمل دون أن يتعرض للتطور والتغير، الأمر الذي لا يتفق مع كماله بأي وجه من الوجوه.
اتضح لنا من التمهيد، أن وحدانية اللّه الجامعة المانعة تتفق كل الاتفاق مع وحدانيته وعدم وجود تركيب فيه. لكن نظراً لأن البعض يظن أن التثليث يتعارض مع هاتين الحقيقتين، رأينا من الواجب أن نثبت في هذا الفصل خطأ هذا الظن، ومخالفته للحقيقة كل المخالفة، ولذلك نقول:
ولقد قلنا إن اللّه واحد ووحيد، لأن الواحد هو الفرد في العدد، والوحيد هو الفرد في النوع. فبطرس مثلاً واحد، لكنه ليس وحيداً، لأن هناك كثيرين مثله من بني جنسه. أما اللّه أو اللاهوت، فواحد ووحيد، لأنه ليس له نظير على الإطلاق.
مما تقدم، يتضح أن الكتاب المقدس يعلن لنا بالتثليث، أن الله لا شريك له، لأنه ينص على أن الأقانيم هم ذات الله، وليسوا كائنات غيره أو معه. وأنه أيضاً لا تركيب فيه، لأنه ينص على أن الأقانيم هم عين ذاته، وليسوا أجزاء أو عناصر فيه، أو صوراً أو أشكالاً له. ولذلك ليس هناك مجال للطعن في عقيدة التثليث على الإطلاق. فضلاً عن ذلك فإننا إذا تأملناها مليّاً، وجدناها على أعظم جانب من الأهمية، للأسباب الآتية:
إن وحدانيّة المخلوقات جميعاً، هي وحدانيّة شكلية أو ظاهرية، لأن كل مخلوق مكون من عناصر أو أجزاء. والمكون من عناصر أو أجزاء، لا تكون وحدانيّته وحدانيّة بمعنى الكلمة. قال أرسطو: «إن تركيب الجسم الطبيعي من عدة مواد يبطل وحدته» (تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٧٤) - وإذا كانت الذرّة نفسها، التي لا يمكن تقسيمها إلى أجزاء، مكوَّنة كما يقول العلماء من بروتنات ونيوترنات والكترونات، كان اللّه مع تميّزه بمميزات خاصة، هو وحده الذي لا تركيب فيه بأي وجه من الوجوه.
ولذلك كان اللّه هو وحده الذي مع جامعيّته، متوافق مع ذاته كل التوافق الذي يليق بكماله واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود - أما الإنسان (مثلاً)، فانه مع وحدانيّته، معرَّض للنزاع الداخلي بينه وبين نفسه، لأنه مكوَّن من عناصر مختلفة - (هي الجسد والنفس والروح). وقد شهد بهذه الحقيقة الكثير من العلماء، فمثلاً قال سادلر: «لو كان الإنسان وحدة مستقلة منسَّقة، لما كان للصراع النفسي وجود فيه» (العقل الباطن ١٠٤).
ولذلك فكون اللّه ثلاثة أقانيم، هو، إن جاز التعبير، من مستلزمات وجوده الذاتي وكماله التام.
اتضح لنا مما سلف أن الأقانيم واحد في اللاهوت، وأن اللاهوت واحد ووحيد ولا ينقسم أو يتجزأ على الإطلاق، ولذلك فمن البديهي ألا ينفصل أحدهم عن الآخر بأي حال من الأحوال. لكن الذين لا يدركون هذه الحقيقة، يعترضون عليها بالقول: كيف يتفق مثلاً مجيء أقنوم «الابن» إلى الأرض، مع الاعتقاد بعدم قابلية الأقانيم للانفصال، أو بالحري مع الاعتقاد بثبات اللّه وعدم تعرضه للتغير؟
ورداً على ذلك نقول:
وقد أشار السيد المسيح أقنوم الابن، الذي ظهر على الأرض، ليعلن لنا ذات اللّه ويقرّبنا إليه - أشار إلى حقيقة عدم تحيز أي أقنوم بمكان أو زمان حينما تحدث عن نفسه أثناء وجوده بالجسد على الأرض، إذ قال: «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاء» (يوحنا ٣: ١٣)، ومعنى ذلك أنه مع وجوده بالجسد على الأرض في وقت ما، كان في نفس هذا الوقت بلاهوته في السماء، وفي كل مكان أيضاً تبعاً لذلك.
مما تقدم يتضح لنا، أنه نظراً لأن اللاهوت لا يتجزأ ولا ينحصر في مكان أو زمان، وفي الوقت نفسه هو جوهر الأقانيم معاً وجوهر كل أقنوم على حدة، فإن الأقانيم واحد بوحدانية غير قابلة للانفصال على الإطلاق. ولذلك فمنذ الأزل الذي لا بدء له، إلى الأبد الذي لا نهاية له، لا ينفصل أقنوم عن الأقنومين الآخرين بأي حال من الأحوال. وقد وصف القديس أثناسيوس الرسولي وحدانية الأقانيم هذه، فقال: «إنها اتحاد بلا اختلاط، وتميُّز بلا انفصال»، وحقاً إنها كذلك.
أخيراً نقول، إننا لا ننكر أن التثليث يفوق العقل والإدراك، ولكنه مع ذلك يتوافق مع كمال اللّه كل التوافق. وليس هناك مجال للاعتراض عليه بأي وجه من الوجوه، لأن وحدانية اللّه، كما اتضح لنا، ليست وحدانية مجردة أو مطلقة، بل هي وحدانية جامعة مانعة. وجامعيتها ليست صفات بل أقانيم، والأقانيم متميّز أحدهم عن الآخر. وفي الوقت نفسه هم واحد في اللاهوت، ولا انفصال لأحدهم عن الآخر إطلاقاً، لأنهم ذات اللّه عينها. وطبعاً كما أننا لا نتصور اللّه في وحدة لاهوته كاللّه الواحد، شخصاً واحداً جالساً على عرش واحد، كذلك لا نتصوره في ثالوثه كالآب والابن والروح القدس، ثلاثة أشخاص جالسين على ثلاثة عروش، لأن هذا التصوّر تحديد وتجسيم للّه، مع أنه لا حدَّ ولا جسم له. فهو في ثالوث وحدانيته ووحدانية ثالوثه روح لا يدخل تحت حصر أو شكل، ولذلك فهو أسمى من أن يخوض فيه الفكر أو يتصوره الخيال.
وقد حاول البعض تشبيه ذات اللّه بأمثلة من الطبيعة، لكي يقربوا ثالوث وحدانيتها إلى عقول العامة التي لا تفهم الروحيات إلا بالمحسوسات. ولكن جميع الأمثلة التي أتوا بها، تقصر دون الإفصاح عن حقيقة ذات اللّه، لأنها لا تشبه الإنسان الواحد المكوَّن من نفس وروح وجسد، أو عقل ونطق وحياة، ولا تشبه الإنسان الواحد الذي يشغل ثلاث وظائف في وقت واحد، ولا تشبه النفس الواحدة التي فيها مع وجودها الذاتي النطق والحياة، ولا تشبه الشمس الواحدة التي فيها مع وجودها الذاتي الأشعة والحرارة، ولا تشبه... ولا تشبه... لأن الأقانيم ليسوا عناصر أو أجزاء من اللّه، أو صوراً أو وظائف له، بل هم عين ذاته التي لا تركيب فيها على الإطلاق، الأمر الذي لا يوجد له نظير بين الكائنات.
٢ - الآب
٣ - الروح القدس
يجد بعض الناس رغم توضيحاتنا السابقة، صعوبةً في إدراك حقيقة وحدانية اللّه في ثالوثه، لاعتقادهم أن أسماء الأقانيم تتعارض مع ما يجب له من توحيد تام. ولذلك رأينا أن نشرح في هذا الباب والباب التالي، ما تدل عليه أسماؤهم من معانٍ، وأن نبسط شيئاً من صفاتهم وأعمالهم، ليتضح لهؤلاء الناس أن التثليث يتوافق كل التوافق مع وحدانية اللّه، وعدم وجود تركيب فيه، وأن الأسماء التي أطلقها الوحي على الأقانيم، هي إعلان عن أن اللّه جامع لكل الخصائص والصفات الواجبة لكماله واستغنائه بذاته أزلاً، ووجود علاقات متكاملة بينه وبين ذاته حينذاك، دون أن يكون هناك تركيب في ذاته، أو يكون هناك شريك معه.
بما أن الكتاب المقدس ينص على أن اللّه روح لا أثر للمادة فيه، وأنه لا يولد ولا يلد، وأنه لا شريك له أو نظير، وأنه ليس قبله أو بعده إله، وأنه ثابت لا يزيد ولا ينقص على الإطلاق. إذن فمن المؤكد أنه لا يُراد بأقنوم «الابن»، «ابن» بالمعنى الحرفي الذي يتبادر إلى ذهن الإنسان الجسدي، بل «ابن» بالمعنى الروحي الذي يتوافق مع روحانية اللّه وخصائصه السامية الأخرى. ويعرف كل المسيحيين هذه الحقيقة تمام المعرفة. ولذلك ليس هناك واحد منهم يظن أن أقنوم «الابن» قد دُعي بهذا الاسم، لأنه وُلد بواسطة «الآب»، أو لأنه أحدث منه زماناً، أو لأنه أقل منه مقاماً، لأنهم جميعاً يعلمون من الكتاب المقدس، أن الابن واحد مع الآب والروح القدس في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته، كما ذكرنا فيما سلف. ولذلك إذا سمع أحدهم شخصاً يقول إنه يراد ببنوَّة أقنوم«الابن»، معنى من هذه المعانيَ المادية، اعتبر ذلك تجديفاً شنيعاً على اللّه، يصم أذنيه دونه، ويقاومه بكل ما لديه من حزم وعزم.
ذلك أن كلمة «ابن» تُستعمل في غير معناها الحرفي، ليس في هذا الموضع فحسب، بل وفي مواضع كثيرة أيضاً. فنحن نقول عن إنسان ما إنه «ابن مصر» أو «ابن هذا الجيل»، للاشارة إلى موطنه أو زمن وجوده. ولكن بنوة أقنوم «الابن» لا يُراد بها معنى من هذين المعنيين أو غيرهما من المعاني المادية، لأن اسم «الابن» واسمي الأقنومين الآخرين أيضاً، هي أسماء روحية منزهة عن الزمان والمكان، لأنها خاصة باللّه دون سواه، ولذلك قال «الابن» مرة: «لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ إِلاّ ٱلآبُ، وَلا أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاّ ٱلابْنُ» (متى ١١: ٢٧)، فالعلاقة التي بينهما، ليس لها نظير في الوجود على الإطلاق.
وفضلاً عما تقدم من دليل يقضي على هذا الظن قضاءً تاماً، فان التثليث ليس أباً وأماً وابناً، بل هو «الآب والابن والروح القدس». ولذلك لا يمكن أن تكون بنوة «الابن» إلا البنوة الروحية وحدها. وقد أدرك مترجمو الكتاب المقدس هذه الحقيقة، ولذلك ترجموا الآيات الخاصة ببنوة «المسيح» للّه، «يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ» (مرقس ١: ١)، باثبات حرف «الألف» في كلمة «ابن». أما كلمة «ابن» الواقعة بين اسمي والد ومولود، فترجموها «بن» بدون «ا» (لوقا ٣: ٢٤-٣٨)، حسب قواعد اللغة العربية، لأن المسيح ليس ابن اللّه بمعنى أنه مولود من اللّه، بل بمعنى أنه المُعلِن للّه، كما سيتضح فيما بعد.
وهنا يسأل البعض: إذا لم يكن المراد ببنوّة «الابن» معنى من هذه المعاني، فلماذا سُمّي بهذا الاسم؟
الجواب: ليس في الكتاب المقدس آية خاصة عن سبب تسمية هذا الأقنوم بـ «الابن» لأن اللّه لم يقصد بوحيه عن كنه ذاته بحثاً عقلياً، فيصوغه في قالب العلة والمعلول أو السبب والنتيجة، بل قصد به إعلاناً عن حقيقة لا يدركها إلا هو، ولذلك علينا أن نقبلها ونؤمن بها كما هي، فإن «الابن» دُعي بهذا الاسم، لأنه هو الذي يعلن اللّه، فهو صورة اللّه غير المنظور (كولوسي ١: ١٥) وهو الذي أعلن «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ» (يوحنا ١: ١٨).
وليست للّه صورة بالمعنى المعروف لدينا، لأن اللّه جوهر لا عرض له. ولكن من المؤكد أن تكون له صورة خاصة، روحية لا مادية، لأنه وإن كان جوهراً لا عرض له، إلا أنه ذو تعيُّن خاص، وكل من له تعيُّن خاص له مظهر أو صورة. أما سبب تسمية «الابن» بـ «صورة اللّه»، فهو نفس السبب في تسميته بـ «ابن اللّه» لأنه يعلن اللّه منذ الأزل، كما يتضح فيما يلي. و «الابن» لم يحصل على هذا الامتياز عن طريق الخلق، كما كان الحال مع آدم الذي خُلق على صورة اللّه، بل إن الابن هو بأقنوميته صورة اللّه منذ الأزل الذي لا بدء له. ولذلك لا يقول الوحي عن هذا الأقنوم إنه خُلق على صورة اللّه، أو إنه صار على صورة اللّه، بل يقول إنه «صورة اللّه»، أي أنه في ذاته هو «صورة اللّه» أو «المعلن للّه».
والاصطلاح «صورة اللّه» يُقصد به في الفلسفة اليونانية «مظهر جوهر اللّه» (عن محاضرات لاهوتية ص ٢٥)، ويُقصد به في الفلسفة اليهودية «حقيقة اللّه من حيث الوجود المعنوي» (موسى بن ميمون ص ٦٧)، ويُقصد به في الفلسفة الاسلامية «ماله نفس الكمال الذي لمسمى اللّه، لأن الصورة هي عينه» (فصوص الحكم ج ٢ ص ٥٥). فـ «صورة اللّه» ليست إذن رسماً أو شيئاً مادياً، بل هي «المعلِن للّه» أو «اللّه معلَناً»، وهذا هو ما قاله الكتاب المقدس من قبل.
فضلاً عن ذلك فان «صورة الشيء» قد وردت أحياناً في الكتاب المقدس بمعنى «ذات الشيء» أو «نصه». قال الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس: «تَمَسَّكْ بِصُورَةِ ٱلْكَلامِ ٱلصَّحِيح» (٢تي ١: ١٣)، وقال للعبرانيين: «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ، إِذْ لَهُ ظِلُّ ٱلْخَيْرَاتِ ٱلْعَتِيدَةِ لا نَفْسُ صُورَةِ ٱلأَشْيَاءِ» أي «لا نفس حقيقة الأشياء أو ذاتها» (عبرانيين ١٠: ١)، ولذلك لا غرابة إذا كان المراد بـ «صورة الابن»، «ذات اللّه» أو «اللّه معلناً».
ويظن البعض أنه نظراً لأن الاصطلاح «ابن اللّه» أُطلق على بعض خلق اللّه من الناس والملائكة، فان هذا الأقنوم (حسب زعمهم) يُعتبر واحداً من خلق اللّه. ولكن هذا الظن لا نصيب له من الصواب، لأنه بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتضح لنا أن الناس والملائكة دُعوا بوجه عام أبناء للّه، لأن اللّه خلقهم، وأن المؤمنين قد دُعوا بهذا الاسم، بمعنى أقرب إلى اللّه، لأنهم نالوا بالإيمان حياة روحية منه (غلاطية ٣: ٢٦)، جعلتهم في حالة التوافق معه في أفكاره وصفاته. أما أقنوم «الابن»، فلم يُدع بهذا الاسم لسبب من هذين السببين، بل لسبب يختلف عنهما كل الاختلاف، هو أن الابن يعلن اللّه ويظهره منذ الأزل الذي لا بدء له، قبل وجود أي مخلوق من المخلوقات. فهو من هذه الناحية، فريد في شخصه، وفريد في مركزه، وفريد في مهمته (إقرأ عبرانيين ١: ١-٨). ولذلك أُشير إليه بالوحي بأنه (١) «ابن اللّه الوحيد» (يوحنا ١: ١، ٣: ١٦)، أي الذي ليس له نظير في بنوته للّه على الإطلاق - فلا يكون ملاكاً أو إنساناً أو مخلوقاً، لأن كل واحد من هؤلاء ليس وحيداً، بل له نظير. و (٢) بأنه ابن الآب بالحق والمحبة (٢يوحنا ٣)، أي أن بنوّته ليست شيئاً مكتسَباً أو منعماً بها عليه، بل أنها حق من حقوقه الذاتية. وشخص مثل هذا لا يكون ملاكاً أو إنساناً أو مخلوقاً ما، لأن كلاً من هؤلاء، إن أُطلق عليه اسم «ابن اللّه» فانما يُطلق من باب النعمة وليس من باب الاستحقاق.
فالاصطلاح «ابن اللّه» ليس إذن لقباً للمسيح، بل هو اسمه بعينه، بينما الاصطلاح «أبناء اللّه» هو مجرد لقب للملائكة والبشر، لأنهم ليسوا في ذواتهم أو في جوهرهم أبناء اللّه. و «اللقب» يُراد به الاشارة إلى علاقة من العلاقات أو صفة من الصفات، أما «الاسم» فيُراد به التعبير عن الشخصية نفسها. ولذلك لا يجوز الخلط بين بنوّة المسيح للّه، وبنوّة الخلائق له، بأي وجه من الوجوه.
فتسمية المسيح بـ «الابن» إذاً ليست بالأمر الغريب، لأن البنوّة في لغتنا تدل فيما تدل عليه، على المشابهة. فإذا رأينا إنساناً يتصرف مثل أبيه في شكله أو أخلاقه، قلنا إنه ابن أبيه. وعلى هذا القياس (مع الفارق الذي لا بدّ منه) يكون أقنوم «الابن» قد دُعي بهذا الاسم، ليس لأنه يشبه اللّه، لأن اللّه لا شريك له ولا شبيه، بل لأنه صورته الذي يعلنه ويُظهره، إذ أن الصورة هي الشيء المنظور الذي يمثل حقيقة كائنة، ظاهرة لنا أم غير ظاهرة. فالابن هو «بهاء مجد اللّه ورسم جوهره» (عبرانيين ١: ٣). أي أنه الضوء المرئي الذي يُظهر مجد اللّه غير المرئي، والرسم المدرَك الذي يعلن جوهر اللّه غير المدرَك.
كما أن هذه التسمية تدل على المقام لأننا نقرأ في (متى ٢١: ٣٧) عن الغني الذي أرسل ابنه إلى الكرّامين قائلاً: «إنهم يهابون ابني» لأن «الابن» يحمل اسم أبيه ومقامه، ولا تدل مطلقاً على الطاعة والخضوع، لأننا نقرأ في (عبرانيين ٥: ٨) عن المسيح أنه «مع كونه ابناً تعلم الطاعة»، أي أن صفة الطاعة والخضوع لم تكن من صفاته كـ «الابن الأزلي»، ولكنه شاء بمحض اختياره أن يطيع، ليتمم مقاصد اللاهوت السامية التي لا يستطيع أن يتممها سواه.
بما أنه ليس هناك مجد إلا ويلازمه بهاؤه منذ وجوده، وليس هناك جوهر حقيقي إلا ويلازمه رسمه منذ وجوده أيضاً، وبما أن اللّه أو اللاهوت لا حدَّ له في ذاته،وفي الوقت نفسه ليس له شريك أو نظير، حتى يستطيع إظهاره أو إعلانه منذ الأزل، إذن لا يمكن أن يُظهره أو يُعلنه سواه. وبما أن «الابن» هو الذي يقوم بهذه المهمة منذ الأزل الذي لا بدء له، لأنه بهاء مجد اللّه ورسم جوهره، إذن فهو اللّه، أو اللاهوت معلَناً.
فالمسيحية، على العكس مما يظن بعض الناس، لا تعلن أن اللاهوت أو اللّه كان بدون «ابن» أزلاً، ثم اتخذ له «ابناً» في وقت من الأوقات، بل تعلن أنه متميز بهذا «الابن» أزلاً، وهذا هو عين الصواب، لأنه لا يتفق مع كمال اللّه، ألاّ يكون متجلياً لذاته أزلاً، ثم يتجلى لها بعد ذلك تجلياً عاماً أو كلياً. كما يقول بعض الفلاسفة، لأن تصرفاً مثل هذا - لو حدث - لكان دليلاً على طروء التغيُّر على اللّه، والحال أنه لا يتغير على الاطلاق.
الاصطلاح «ابن الشيء» في اللغة العبرية كثيراً ما يرد بمعنى «ذات الشيء». فمثلاً قول اللّه «بِنْتِ شَعْبِي» أو «ابنة شعبي» (إرميا ٨: ١١) لا يُراد به إلا ذات شعبه، وقوله «ابنة متبدِّديَّ»(صفنيا ٣: ١٠) يُراد به ذات الناس المتبددين من شعبه، ولذلك ترجم هذا القول إلى العربية «متبدديَّ» فقط، بينما تُرجم إلى الانجليزية، كما هو بحرفيته «The Daughter of My Dispersed» كما أن هذا الاصطلاح عينه قد يدل أيضاً في اللغة العربية على «ذات الشيء مُدرَكاً وواضحاً»، فالاصطلاح «بنات الفكر» يُراد به الفكر معلناً وواضحاً، و «ابن الإنسانية»يُراد به الإنسانية متجسمة وظاهرة.
وكما أن «روح اللّه» ليس عنصراً في اللّه، بل هو ذات اللّه، لأن اللّه لا تركيب فيه، كذلك فان «ابن اللّه» ليس كائناً مولوداً من اللّه، بل هو ذات اللّه، لأن اللّه لا يولد ولا يلد. وكل ما في الأمر أن«روح اللّه» دُعي بهذا الاسم، لأنه هو الذي يعلن اللاهوت مع مقاصده بوسيلة روحية. و «ابن اللّه» دُعي بهذا الاسم، لأنه هو الذي يعلن اللاهوت مع مقاصده بوسيلة ظاهرية.
والحق، أن الأمر لم يكن يتطلّب منا مجهوداً لإيضاح معنى الاصطلاح «ابن اللّه» أو إثبات أن المسمَّى به هو عين اللّه، لو أن الاصطلاحات الدينية كانت شائعة بيننا الآن كما كانت وقت وجود المسيح على الأرض، لأن الناس كانوا يفهمون بكل سهولة أن «ابن اللّه» أو «اللّه متجلياً». والدليل على ذلك أن المسيح الذي هو أقنوم الابن، عندما قال لليهود: «أبي يعمل حتى الآن، وأنا أعمل» فهموا من قوله هذا أنه جعل نفسه معادلاً للّه (يوحنا ٥: ١٧، ١٨)، فاضطهدوه أشر اضطهاد إذ اعتبروه مجدّفاً ودعيّاً. ولكنه في الواقع لم يكن مجدّفاً ولا دعيّاً، لأنه لم يكن يجدف أو يدّعي، بل كان دائماً أبداً يقول الحق، والحق وحده، كما يشهد أصدقاؤه وأعداؤه على السواء.
وعندما يقول الانجيل إن المسيح معادل اللّه، كان الغرض من ذلك، أنه في أقنوميته هو «اللّه» أو «المعلن للّه»، فان «اللّه» لا معادل له إطلاقاً، لأنه لا شريك له أو نظير.
مما تقدم، يتضح لنا أنه لو كان الفلاسفة قد أدركوا شيئاً عن وجود أقنوم «الابن» أزلاً، لما قامت في وجوههم مشكلة من المشكلات عن ذات اللّه، وذلك للأسباب الآتية:
ويقيناً إن جميع الكائنات كان لها وجود لدى اللّه (اللاهوت) أزلاً، وذلك من حيث أعيانها أو صورها، لأنه ليس من المعقول أن يكون قد خلقها اعتباطاً أو جزافاً، أو بواسطة فيض صدر عنه بالطبيعة أو الضرورة كما قال بعض الفلاسفة، بل أن يكون قد خلقها بحكمة وفطنة وإرادة حرة طليقة. لكن هل كان من الممكن أن يكون لهذه الكائنات مثل هذا الوجود لو كانت وحدانية اللّه وحدانية مجردة لا صفة لها، أو مطلقة لا عمل لصفاتها أزلاً، أو بتعبير آخر: لو لم يكن متميزاً بما يعلن ذاته وصفاته وأفكاره أزلاً؟ الجواب: طبعاً لا! وإذا كان الأمر كذلك،فهل يمكن أن يكون هناك مجال للاستغراب، إذا أعلن لنا الكتاب المقدس أن وحدانية اللّه هي جامعة مانعة، أي أنه ليس أقنوماً واحداً بل أقانيم، وأن جميع صفاته كانت بالفعل أزلاً، وأنه في أقنوم «الابن»الذي يعلن ذات اللّه وصفاته وأفكاره قد «خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ» (كولوسي ١: ١٦، ١٧)؟!
هذا فضلاً عن العلاقة الأزلية الكائنة بينه وبين ذاته، بسبب جامعية وحدانيته.
يظن البعض أن المسيحية هي أول من قال بوجود أقنوم «الابن» لكن الحقيقة غير ذلك، لأنه بالرجوع إلى التوراة، نرى إشارات واضحة عن هذا الأقنوم. فقد قال الله على فم داود النبي سنة ١٠٠٠ ق.م. عن شخص يجب أن تخضع له كل ملوك الأرض «أنت ابني» (مزمور ٢: ٧)، كما خاطب أجور، أحد رجال اللّه الأتقياء، صديقاً له سنة ٩٥٠ ق.م. قائلاً له بالوحي: «مَن ثَبَّتَ جَمِيعَ أَطْرَافِ ٱلأَرْضِ؟ مَا ٱسْمُهُ وَمَا ٱسْمُ ٱبْنِهِ إِنْ عَرَفْتَ؟» (أمثال ٣٠: ٢-٥). ولذلك كان علماء التوراة يعرفون تمام المعرفة أن للّه ابناً، وهذا الابن هو المعلِن له، أو هو ذاته مُعلَناً وظاهراً، كما ذكرنا في البند الثاني.
استنتج بعض الفلاسفة، الذين كانوا يؤمنون باللّه، حتى قبل مجيء السيد المسيح إلى الأرض، أن اللّه أو اللاهوت لا يتصل بالعالم مباشرة، بل بواسطة كائن أطلق عليه بعضهم اسم «ابن اللّه»، ولكنهم ذهبوا إلى أن «ابن اللّه» هذا، هو عقل انبثق من اللّه. فقد قال فيلون اليهودي: «اللّه من البُعد عن كل ما يدركه العقل، بحيث لا نستطيع أن نعلم عنه شيئاً... ولذلك فعنايته بالعالم ليست مباشرة، بل تتخذ وسطاء، والوسيط الأول هو اللوغوس أو ابن اللّه». أما في العصر الحديث، فقد أدرك معظم فلاسفة المسيحية أن «ابن اللّه» هو «اللّه» أو «اللّه معلَناً» (كما سيتضح في الباب السادس). ومما تجدر ملاحظته في هذه المناسبة، أن المسيحية لم تقتبس الاعتقاد بوجود «ابن اللّه» من فيلون، بل أن فيلون اقتبس اعتقاده من التوراة، والمسيحية أتت مكملة للتوراة ومفسرة لنبواتها ورموزها.
بما أن هذا الأقنوم هو الذي يُظهر اللّه أو اللاهوت، كان أمراً بديهياً أنه إذا أراد اللّه أن يعلن ذاته يتمّم ذلك بواسطة أقنوم «الابن» لأن اعتزال اللّه عن خليقته، وعدم إعطائه إياها فرصة لتعرفه معرفة حقيقية واضحة، لا يتفق مع الكمال الذي يتصف به. فاللّه الذي لا يُرى ولا يُعرف، يصبح من الميسور لنا رؤيته ومعرفته في هذا الأقنوم. وهذا هو ما حدث فعلاً، فقد ظهر هذا الأقنوم في شخص المسيح، إذ قيل بالوحي: «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا ١: ١٨).
وكلمة «حضن» لا يُقصد بها المعنى الحرفي بل الروحي، لأن اللّه ليس له حضن بالمعنى المادي. والمعنى الروحي للحضن هو التوالف والحب والاتحاد، وما يتبع ذلك من الإحاطة بكل الأسرار والمقاصد الباطنية. والآية لا تقول: إن الابن كان في حضن الآب، أو سيكون في حضنه، بل تقول: «الذي في حضن الآب». ومعنى ذلك أن حضن الآب هو مركز «الابن» الدائم. فهو مركزه قبل ظهوره على الأرض، وأثناء وجوده عليها، وبعد انتقاله منها - وهذا دليل واضح على أن وحدة الأقانيم هي وحدة متصلة غير منفصلة.
كما أن كلمة «خبَّر» هنا، ترد في اللغة اليونانية بمعنى «كشف» أي «كشف ما أُغلق على البشر فهمه من جهة اللاهوت».
وقيل أيضاً عن المسيح إنه اللّه الظاهر في الجسد (١تيموثاوس ٣: ١٦)، وإن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي ٢: ٩). وتعبير «ملء اللاهوت» اصطلاح ديني يُراد به التعبير باللغة التي نفهمها، عن اللاهوت في كامله، إن جاز أن نستعمل عبارة «في كامله» مع اللاهوت. والقول إنه يحل فيه جسدياً هو كما كان يحل فيه روحياً «الابن» الأزلي، إن جاز أن نستعمل الفعل«يحل» في هذه المناسبة.
وقد أثبتت الحقيقة الواقعة صدق أقوال الوحي، كما يتضح في نهاية هذا الباب.
نظراً لأن الأقانيم واحد في اللاهوت، فمن البديهي أنهم يتحدون معاً في القيام بجميع أعماله. ومن الناحية الأخرى، نظراً لأن كل أقنوم متميز عن الآخر، فمن البديهي أيضاً أن يقوم كل منهم بصفة خاصة، بإبراز العمل الذي يتناسب مع أقنوميته. فنرجو ملاحظة ذلك عند التأمل في عمل كل أقنوم من الأقانيم. ولما كان أقنوم «الابن» هو الذي يبرز خصائص اللاهوت ومقاصده، من الوجود غير المنظور إلى الوجود المنظور، إذن لا غرابة إذا علمنا أنه هو الذي خلق العالم ويعتني به (كولوسي ١: ١٦)، وهو الذي يُظهر عواطف اللّه ومقاصده من نحونا، وهو الذي يرعانا ويدبر أمورنا (متى ٢٨: ٢٠، عبرانيين ٤: ١٥، ١٢: ٦-١٠)، وغير ذلك من الأعمال الخاصة بعلاقة اللّه الظاهرة بنا.
بما أن «الابن» يقوم بالأعمال المذكورة، إذن فهو ليس صفة، بل أقنوم، كما ذكرنا في الباب السابق.
يُدعى أقنوم «الابن» أيضاً «الكلمة» فقد قال الوحي عن المسيح إن اسمه «كلمة اللّه» (رؤيا ١٩: ١٣)، وقال أيضاً عنه «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ. هٰذَا كَانَ فِي ٱلْبَدْءِ عِنْدَ ٱللّٰهِ» (يوحنا ١: ١، ٢).
وقد أدرك شيئاً من هذه الحقيقة فيلون الفيلسوف اليهودي، الذي وُلد سنة ٤٠ ق.م، فقد قال إن «الكلمة» هو «ابن اللّه» (تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٣٢٣)، ويرجع السبب في ذلك إلى أنه كان يستقي آراءه من التوراة، والتوراة كانت قد ذكرت هذا الأقنوم مرة باسم «الابن» ومرة أخرى باسم «الكلمة».
والقول «في البدء كان الكلمة» يختلف في المقصود منه عن كلمة «البدء» الواردة في الآية «فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ» (تكوين ١: ١)، فانها في التكوين يُقصد بها بدء خليقة اللّه، بينما في يوحنا ١: ١ يُقصد بها تاريخ سابق لبدء خليقته، أو بتعبير آخر سابق لكل شيء يمكن أن يُتَّخذ قياساً للزمن في نظر الناس وغير الناس، لأن هذا هو ما يُستنتج من قول الوحي بعد ذلك «كل شيء به (أي الكلمة) كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان» . ولذلك يُقصد بـ «البدء» هنا الأزلية بعينها. ومما يؤكد لنا صحة ذلك (أ) يشهد كل جزء من الكتاب المقدس أن «الابن» أو«الكلمة» أزلي، كما سيتبين بالتفصيل في الباب التالي. (ب) أن الكلمة المترجمة «البدء» هي في الأصل اليوناني «أرخي»، و يُراد بها عادة «قبل أول كل شيء» ولذلك تُرجمت في بعض نسخ الكتاب المقدس الانجليزية (originally) أي «في الأصل» و (in the very beginning) أي «في ذات البدء» أو «في البدء الذي لا بدء قبله». وطبعاً لا مجال للاعتراض على أن معنى «البدء» الوارد في (تكوين ١: ١)، يختلف عن معنى «البدء» الوارد في (يوحنا ١: ١)، لأن الكلمة الواحدة تُستعمل أحياناً لأكثر من معنى واحد، ويُفهم كل معنى بالقرينة الملازمة لهذه الكلمة.
مما تجدر ملاحظته في هذه الآيات (أ) أنه لا يقال فيها: في البدء خُلق «الكلمة» أو في البدء وُجد «الكلمة»، بل يقال «في البدء كان الكلمة»، أي أن البدء (أو الأزل) لم يكن، حتى كان«الكلمة» موجوداً، ولذلك فإن البدء هنا ليس هو بدء وجود الكلمة أو ظهوره. وإذا كان الأمر كذلك، فإن «الكلمة» لا يكون منذ الأزل فحسب، بل يكون أزلياً، أو بالحري يكون هو الأزلي، لأنه ليس هناك أزلي إلا واحد لا سواه. (ب) أن العبارة «والكلمة كان عند اللّه» تدل على أن «الكلمة» كان ملازماً للّه أو اللاهوت. وبما أن اللّه أو اللاهوت لا بدء له، فمن البديهي أن يكون«الكلمة» الملازم له لا بدء له أيضاً. (ج) يختلف الفعل «كان» في الأربع فقرات الأولى، في اللغة اليونانية القديمة عن الفعل «كان» الوارد في الفقرتين الأخيرتين. فالأول هو «إين»، ويراد به الكينونة الدائمة أو الوجود الدائم أي «كان ولا يزال»، أما الثاني فهو «اجنتو»، ويُراد به الكينونة التي تمت في الزمان أو الحدوث والصيرورة فيه (Liddle and Scott Dict.) الأمر الذي يدل على أن «الابن» لم يوجد كمخلوق، بل كان موجوداً منذ البدء أو الأزل، ولا يزال موجوداً إلى الآن، كما سيكون موجوداً إلى الأبد. وقد أشار إلى هذه الحقيقة الأستاذ مولر، في كتابه (مختصر تاريخ الكنيسة ص ٢١٨).
«والكلمة كان عند اللّه» هنا لا يُقصد بها المكانية أو الملكية، بل يُقصد بها الصلة الأزلية التي بين اللّه (أو اللاهوت) وبين كلمته. وإذا رجعنا إلى اللغة اليونانية القديمة، وجدنا أنه يعبر عن «عند»هذه (بكلمتين) هما «بروس، تون»، ومعناهما كما يقول أساتذة هذه اللغة، يدل على الارتباط والتوافق. ولذلك إذا رجعنا إلى النسخة الإنجليزية مثلاً، وجدنا انه يعبر عنها بكلمة «صهفا» أي«مع» وهي تدل أيضاً على الارتباط والتوافق. وفي اللغة العربية تدل «المعيّة» معنوياً على هذا المعنى بعينه، فنحن نقول مثلاً «الشعب مع الحكومة» بمعنى أنه متوافق معها في أفكارها ومقاصدها.
ومن هذه الآية يتضح لنا أن «الكلمة» هنا ليس كائناً غير اللّه، بل هو اللّه، أو بالحري هو أقنوم من أقانيمه.
ولكي نعرف شيئاً عن «الكلمة» هنا، علينا أن نتأمل في النقط الآتية:
«الكلمة» بمعنى اللفظ أو العبارة أو المقالة وفي هذه الحالة تكون مؤنثة، وتكون الأفعال والصفات والضمائر الخاصة بها مؤنّثة أيضاً. لكن المراد بـ «الكلمة» هنا، ليس معنى من هذه المعاني، بل المراد، كما يتبين من نص الآية، هو اللّه ذاته، أو بالحري أقنوم من أقانيمه. ولذلك لا يأتي الفعل المستعمل مع «الكلمة» مؤنثاً بل مذكراً. كما أننا إذا رجعنا إلى اللغة اليونانية، التي هي اللغة الأصلية للعهد الجديد، وجدنا أن اللفظ، المترجم إلى العربية بـ «الكلمة» للدلالة على هذا الأقنوم، هو «لوغوس». و «لوغوس» اصطلاح يوناني يُراد به «المعلِن للّه» أو «العقل المنفِّذ لمشيئة اللّه والقائم بتدبير العالم». أما اللفظ المترجم بـ «الكلمة» للدلالة على «القول» العادي، فهو «لكسيز»، ولذلك ليس هناك مجال للظن بأن كلمة «الكلمة» هنا، يُراد بها معنى من معاني الكلمة العادية.
وإذا رجعنا إلى اللغة العبرية أيضاً، وجدنا بها لفظين مختلفين تُرجما إلى اللغة العربية «الكلمة» وهما «إمرا» و «دابار». والأول مؤنث ومعناه الحرفي «أمر»، ويُراد به «القول» العادي، أما الثاني فمُذكَّر ومعناه الحرفي «تدبير»، ويُراد به «العلم أو المعرفة أو القوة الفعالة غير المنظورة» (قاموس العهد الجديد للدكتور كتل الألماني ج ٤ ص ٩٣). واللفظ الأخير يشبه في معناه لفظ «لوغوس» اليوناني، إلى حدّ بعيد. ومما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة أن بعض علماء المسلمين قد قال إن «كلمة اللّه» هي العليا، وإن تركيب الكاف واللام والميم (أي الحروف الأساسية للـ «كلمة» بحسب تصريفاتها الممكنة) تفيد القوة والشدَّة (الدين والشهادة ص ١٣٥).
يقول البعض إن كل شيء خُلق بكلمة اللّه، يُدعى كلمة اللّه، ولذلك يظنون أن المسيح دُعي «كلمة اللّه» لأنه حسب رأيهم خُلق بكلمة اللّه. لكن هذا الظن لا نصيب له من الصواب لسببين:
ونلاحظ أن «الكلمة» ليس لقباً من ألقاب المسيح بل إنّه نفسه هو «الكلمة»، ولذلك لو فرضنا جدلاً أن شخصاً غيره لُقب بـ «الكلمة»، يظل المسيح وحده هو الكلمة الذي لا شبيه له، لأنه هو الذي يعلن اللّه منذ الأزل الذي لا بدء له.
كلنا يعلم أن «الكلمة» هي «لسان حال» صاحبها الذي يعلنه ويظهره. ولذلك لا غرابة إذا كان الوحي قد دعا الأقنوم الذي يعلن اللاهوت منذ الأزل بـ «الكلمة». وقد أشار السيد المسيح مرة إلى هذه الحقيقة، فقال عن نفسه: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يوحنا ١٤: ٩)، كما أشار إليها بولس الرسول بعد ذلك فقال «لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (٢كورنثوس ٤: ٦).
ولزيادة الايضاح نقول مثلاً: إن الآية «قال اللّه نعمل الإنسان على صورتنا كشَبهنا» تدل على أن اللّه، قبل أن يخلق الانسان، كان له نشاط فكري ذاتي، عبَّر عنه موضوعياً بالقول «وقال اللّه.... ». وطبعاً لولا تميُّز اللّه أو اللاهوت بأقنوم «الكلمة» أو الأقنوم المعبّر، لما كان هناك مجال للإفصاح عن هذا النشاط الفكري الذاتي، ولما كان هناك أيضاً مجال لإبراز أو تحقيق موضوعه.
كلنا يعلم أن استيعاب المعاني وإدراكها لا يمكن أن يتم إلا اختيارياً، فمثلاً إذا حدثنا شخص عن الرحمة أو العدالة، فإن هذه أو تلك تظل معاني غير مفهومة ولا مدْرَكة لديه، حتى يعبّر عن كل منهما تعبيراً اختيارياً. وعلى هذا القياس، مع الفارق الذي لا بد منه، نقول: لو كان اللّه قد اقتصر في إعلانه عن نفسه، على الكلام الذي كان يُوحي به إلى أنبيائه، لما كان هذا بكافٍ لنعرفه المعرفة الصحيحة، لأننا لقصورنا الذاتي لا نستطيع أن ندرك مثلاً من هو اللّه في قداسته المطلقة أو محبته المطلقة، مهما بلغت الدقة في وصفه، لأن إدراكنا محدود، والمحدود لا يدرك إدراكاً كافياً أي معنى من معاني غير المحدود.
وتطبيقاً على هذه الحقيقة نقول: لو كان اللّه قد اكتفى مثلاً بالإعلان أنه لقداسته المطلقة يكره الخطيئة كراهية مطلقة، لما كان من الممكن لأي إنسان منا أن يدرك المعنى المتضمن في هذه القداسة، حتى يعبّر عنها موضوعياً. ولذلك كان من الضروري لنا، أن يتجلى اللّه في «الكلمة» ليفصح لنا عن غير المفهوم أو غير المدرَك، فينقله من المعنى المطلق إلى الفعل الاختباري. وهذا ما حدث فعلاً. ولذلك استطعنا بواسطة «الكلمة» أن ندرك أن من حفظ كل وصايا اللّه، وإنما عثر في واحدة، فقد صار مجرماً في الكل، وأن الغضب الباطل هو القتل بنفسه، وأن نظرة الاشتهاء هي الزنا بعينه، وأن السباب جريمة تستحق عذاباً أبدياً، وأن مجرد التفكير في الإثم هو شرٌّ كاقترافه تماماً، ولذلك فإن هذا التفكير يحرم صاحبه من الاتصال باللّه والتمتع به. لا بل وأدركنا أن عدم فعل الخير خطيئة كفعل الشر تماماً (يعقوب ٤: ١٧، متى ٥: ٢١، ٢٣، ٢٨، ١٥: ١٩).
وكذلك لو كان اللّه قد اكتفى بإعلان أنه يحبنا محبة مطلقة، لما كان من الممكن لأي إنسان منا أن يدرك المعنى المتضمن في هذه المحبة. ولكن عندما ظهر «الكلمة» بيننا، استطعنا أن ندرك شيئاً عن هذه المحبة، فقد رأيناه يقابل عدواننا بالمحبة، وتمرُّدنا بالشفقة، وإساءتنا بالإحسان، وخطايانا بالصفح والغفران. وعلى الرغم من جحودنا وعدم تقديرنا لأعماله هذه، لم يكلّ من خدمتنا أو الاهتمام بأمورنا أو مواساتنا في ظروفنا. فكان يشفي مرضانا، ويقيم موتانا، ويشبع الجياع منا، كما كان يبكي مع الباكين ويفرح مع الفرحين، وأخيراً بذل نفسه فدية عنا حباً بنا وعطفاً علينا، لننجو بقبولنا إياه من قصاص الخطيئة المخيف، وننعم بالحياة الأبدية التي نتوق إليها. هذه الأمور لم نكن نصدقها أو يصدقها غيرنا، لولا أنه ظهر بيننا وحققها بوضوح لنا.
فبالكلمة، وبه وحده، استطعنا أن نعرف أن «ٱللّٰهَ مَحَبَّةٌ» (١يوحنا ٤: ٨)، واستطعنا تبعاً لذلك أن نحبه ونتوق إليه، ونجد لذّتنا في طاعته والتعبُّد إليه، كما استطعنا بنعمته فينا أن نكره ليس الخطايا الكبيرة فحسب، بل وجميع الأعمال والأفكار والأقوال التي لا تتفق مع قداسته (١يوحنا ٥: ١٨). فضلاً عن ذلك لم يعد اللّه، الإله المحفوف بالغموض والإبهام، كما كنا نتصوره من قبل، بل الإله المعروف لقلوبنا والمدرِك لنفوسنا، الذي نستطيع بنعمته أن نتصل به ونتوافق معه في أفكاره وصفاته، في هذا العالم والعالم الآخر أيضاً، وهذه هي عين الحياة، والحياة الأبدية.
يظن البعض أن المسيحية هي أول من قال بوجود «الكلمة»، لكن الحقيقة غير ذلك. لأننا إذا رجعنا إلى التوراة، وجدنا بها آيات كثيرة تشهد عن وجوده، وعن قيامه بالأعمال التي لا يقوم بها إلا اللّه. فمثلاً جاء بها: «بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ صُنِعَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ»(مزمور ٣٣: ٦)، وأيضاً: «أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ» (مزمور ١٠٧: ٢٠). أما سليمان الحكيم، فكان يعبر عن هذا الأقنوم باصطلاح آخر، يدعوه «الحكمة»، والحكمة والعقل والكلمة، شيء واحد بالنسبة إلى اللّه. ولذلك كان يشهد أنها منذ الأزل، وأنها تحيي النفوس وترشدها إلى الحق (أمثال ٨: ٣٢-٣٦) ؟
كان الفلاسفة الذين يؤمنون باللّه، في كل مذهب من المذاهب، يعتقدون أن العالم خُلق بالعقل أو الحكمة أو الكلمة، كما يتضح مما يلي:
وقال انكساغوراس إن «الكلمة» هي العقل الإلهي أو القوة المدبرة للكون، وهي الواسطة بين الذات الإلهية والعالم، وقال أيضاً إن العامل في الطبيعة هو «الكلمة»، وهو عليم بكل شيء، متحرك بذاته لا بواسطة. وهو جوهر مجرَّدٌ لا تركيب فيه، خالد، واحد لا يتعدد. وهو اللّه، أو الصلة بين اللّه والعالم، أو اللّه في علاقته مع العالم.
وقال زينون إن العقل الحق أو «الكلمة» هو المدبر للكون، وهو الذي يمدّ العقول الجزئية بكل ما فيها من نطق وعلم.
أما المسيحيون فيسندون الخلق إلى «الكلمة»، لأنهم يعتقدون أنه هو اللّه، أو بالحري أقنوم من أقانيمه.
وقال الإمام الغزالي ما ملخصه: إن «المُطاع» الوارد ذكره في الآية «مُطْاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» (سورة التكوير ٨١: ٢١) موجود غير الذات الإلهية المنزّهة. وهو يحرّك الأفلاك ويدبّر الكون، وعن طريقه يتوصّل العبد إلى معرفة الموجود المنزّه عن كل ما أدركه البصر والبصيرة. وهذا الموجود «أي المُطاع» ليس هو اللّه، ولكنه أيضاً ليس شيئاً غير اللّه، بل إن نسبته إلى اللّه، هي نسبة الشمس إلى النور المحض. وهو أيضاً العقل الإلهي الظاهر أثره في الوجود، والذي به يتصل الإنسان بواسطة الوحي والإلهام - فيكون «المُطاع» لذلك، هو اللّه متجلّياً أو معيّناً أو عاملاً وفاعلاً، أو كما يقول المسيحيون: هو «أقنوم الكلمة».
وقالت الإسماعيلية الباطنية والقرامطة إن «القطب» أو «الهُوَ» أو «الكلمة» هو أداة الخلق في الكون، ومنبع العلم الباطني والوحي.
وقال ابن العربي ما ملخصه - (ما بين قوسين هو من عندنا للتوضيح) - : إن «القطب» هو الأصل الذي يُستمَد منه كل علم إلهي، ويُدعى حقيقة الحقائق (بالنسبة إلى كل ما هو فانٍ وزائل)، ويُدعى الكتاب (بالنسبة إلى إلمامه بكل شيء في الوجود)، ويُدعى العقل الأول أو الروح الأعظم (بالنسبة إلى كونه المبدع لكل شيء). وهو باطن الألوهية والألوهية ظاهره. (قال ابن العربي في موضع آخر إن باطن اللّه وظاهره هما واحد، لأنه هو عين ما بطن وعين ما ظهر) وهو الحق أو اللّه متجلّياً لا في زمان أو مكان معيّن.وهو العقل الإلهي الذي هو عين الذات لا غيره، وبه لا بذاته يعقل الحق نفسه. وهو أول تجلٍّ للحق بعد مرتبة التنزيه المطلق، وأول صورة ظهر فيها الحق وخاطب نفسه، وهو لا يقبل التعريف أو التحديد، وهو العلم الإلهي، بمعنى أنه العلم والعالم والمعلوم، وهو كمال محض، وتُعزَى إليه قوة الخلق والتدبير، لأنه الواسطة بين اللّه والعالم، فيكون «القطب» إذن، هو بمثابة «أقنوم الكلمة» عند المسيحيين.
قبل ظهور ابن العربي بألف سنة تقريباً، كان الكتاب المقدس قد دعا المسيح، «الحامل لكل شيء»، و «الذي فيه وبه وله خُلق الكل»، و «صورة اللّه الذي يعلن اللّه»، و «الحق»، و «الحياة»(أفسس ٤: ١٣، كولوسي ١: ١٥، ١٦، ويوحنا ١٤: ٦).
وبالطبع لا يقصد ابن العربي بهذا الكائن أقنوم «الكلمة» أو بتعبير آخر السيد المسيح، بل يقصد به «الحقيقة المحمدية»، وقد أشارت كثير من الكتب الدينية أيضاً إليها، فجاء بها: «مكتوب على باب الجنة قبل أن تُخلق السموات والأرض بألف سنة، لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه» و «لما خلق تعالى العرش، كتب عليه بقلم من نور، طول القلم ما بين المشرق والمغرب، لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه» (الاتحافات السنية بالأحاديث القدسية ص ١٧٣ و ١٨٧)، و «قال تعالى يا محمد جعلت اسمك مع اسمي يُنادى به في جوف السماء» (الاسراء معجزة كبرى ص ٤٧)، و «لما تعلقت إرادة الحق تعالى بايجاد خلقه، أبرز الحقيقة المحمدية من أنواره، ثم سلخ منها العوالم كلها. وما زال ينتقل الزمان حتى ظهر محمد صلى اللّه عليه وسلم بكليته جسماً وروحاً»، و «لما خلق اللّه آدم عليه السلام ألهمه أن قال: يا رب، لِمَ كنيتني أبا محمد؟ فقال له تعالى: يا آدم، ارفع رأسك، فرفع رأسه. فرأى نور محمد صلى اللّه عليه وسلم في سرادق العرش. فقال: يا رب ما هذا النور؟ فقال: هذا نور نبي من ذرّيتك اسمه في السماء أحمد وعلى الأرض محمد. لولاه ما خلقتك ولا خلقت سماءً ولا أرضاً»، ولذلك يناجيه الشاعر قائلاً:
عالم الإجمال أنت بحره | كان كل الخلق فيك مُجْمَلا |
كل موجود فأنت سرُّه | وبأمر اللّه منك فُصِّلا |
ولذلك أيضاً يوصف محمد بأنه «بحر علم اللّه» و «نور عرش اللّه» و «أفضل خلق اللّه» و «أول خلق اللّه» (الأنوار المحمدية من المواهب اللدنية ص ١-١٥، والاسراء معجزة كبرى ص ١١، ١٨، ٣٥، والدين والشهادة ص ١٨٢). وإذا كان الأمر كذلك، كانت «الحقيقة المحمدية» في نظر الفلاسفة المسلمين، تشبه إلى حد ما أقنوم «الكلمة» في نظر المسيحيين.
ويقول بعض العلماء إن ابن العربي قد اقتبس آراءه من المسيحية، ويقول البعض الآخر إنه اقتبسها من مصادر إسلامية، ولكل من الفريقين أدلته وبراهينه. ولكن الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان، هي أن ما قاله ابن العربي عن الحقيقة المحمدية، يشبه ما قالته الأشاعرة عن «الكلمة»، والاسماعيلية الباطنية والقرامطة عن «القطب»، والامام الغزالي عن «المُطاع»، الأمر الذي يدل على أنهم يعتقدون جميعاً بوجود كائن ما، ليس هو اللّه، ولكنه أيضاً ليس شيئاً سوى اللّه، وهذا الكائن هو الذي يعلن اللّه، ويتمم مقاصده.
هذه هي أقوال الفلاسفة، وهي في جملتها تكاد تكون واحدة، ومنها يتضح لنا ما يلي:
وهذه هي الطريقة التي اتبعها بولس الرسول مع أهل أثينا، فعندما رأى أحد مذابحهم مكتوباً عليه «لإله مجهول»، قال لهم: «فَٱلَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ، هٰذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ. ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ» (أعمال ١٧: ٢٣، ٢٤). وطبعاً لجأ الرسول إلى هذه الطريقة ليجتذبهم من الأوثان إلى اللّه الحي، مستخدماً اعترافهم بالجهل وسيلة لإرشادهم إلى الحق.
أما الأسباب التي بنى عليها المسيحيون اعتقادهم بأن المسيح هو «ابن اللّه»، أو «الكلمة»، أو «اللّه متجلياً»، فهي:
تُنطق كلمة «الآب» في الأصل، بالمدَّة وليس بالهمزة. وكون «الآب» هو «الآب» منذ الأزل الذي لا بدء له، دليل واضح على أن «الابن» هو «الابن» منذ الأزل الذي لا بدء له أيضاً، لأنه ليست هناك «أبوّة» إلا ومعها «بنوَّة». وإذا كان الأمر كذلك فان «الابن» لا يكون مولوداً من الآب أو مخلوقاً به، بل يكون واحداً معه في الازلية، أو بالحري في اللاهوت، بكل خصائصه وصفاته.
لنعرف ذلك، يجب أن نعرف أولاً أن هناك فرقاً كبيراً بين «الوالد» و «الأب»، فقد يكون هناك والد مجرد من كل معاني الأبوّة، وقد يكون هناك شخص تتجمع فيه كل معاني الأبوة دون أن يكون له أولاد مولودون منه. فالتوالد إذن حالة جسدية، بينما الأبوة حالة روحية. لذلك لم يطلق الوحي مرةً على «الآب» اسم (الوالد: parent)، ولا على الابن اسم (ولد اللّه: God's child)، بل أطلق على الأول دائماً أبداً اسم (الآب: father) وعلى الثاني دائماً أبداً اسم (الابن: son). كما أنه لم يبدأ بإطلاق هذين الاسمين عليهما عند ولادة المسيح من العذراء، أو في أي زمن من الأزمنة السابقة لولادته منها، بل أطلق على كلٍّ منهما اسمه الخاص به، منذ الأزل السابق لكل زمن، الأمر الذي يدل على أن الآب لم يكن سابقاً للابن، ولا الابن كان لاحقاً للآب، ولذلك ليس هناك مجال للشك، في أن معنى الأبوة هنا، هو المعنى الروحي وحده.
وبما أن الكتاب المقدس ينصّ على أن اللّه روح لا أثر للمادة فيه، وأنه لا يلد، وأنه لا شريك له أو نظير، وأنه ليس قبله أو بعده إله، وأنه ثابت لا يزيد أو ينقص على الإطلاق، إذن فمن المؤكد أنه لا يُراد بأقنوم «الآب»، «أب» بالمعنى الحرفي الذي يتبادر إلى ذهن الإنسان الجسدي بل «أب» بالمعنى الروحي، الذي يتوافق مع روحانية اللّه وخصائصه السامية الأخرى. والمعنى الروحي للأبوة بالنسبة إلى اللاهوت هو (كما يتضح من الكتاب المقدس) المحبة الباطنية. وتسميته بـ «الآب» لهذا السبب ليست بالأمر الغريب، إذ أنها تتوافق مع الحقيقة المعلومة لدينا من بعض الوجوه، لأن الأبوَّة في لغتنا البشرية تدل (فيما تدل عليه) على المحبة الباطنية السامية، ومحبة مثل هذه تليق باللّه، وبه وحده، لأن محبته لا يحدّها حدّ، كما أن ذاته لا يحدّها حدّ.
وتُستعمل كلمة «الآب» في غير معناها الحرفي، ليس في هذا الموضع فحسب، بل وفي مواضع كثيرة أيضاً، فنحن نقول عن شخص إنه أبو الفقراء أو أبو الخير، للإشارة إلى صفة من صفاته، أو عمل من أعماله. لكن معنى «الآب» هنا، يختلف كل الاختلاف عن هذين المعنيين، وعن غيرهما من المعاني، ولذلك ليس هناك مجال للظن بأنه دُعي بهذا الاسم لأنه أنجب أقنوم «الابن»، أو لأنه ذو فضل عليه، أو لأنه أقدم منه، أو غير ذلك من المعاني البشرية التي تخطر بذهن الإنسان الجسدي، لأن الوحي ينص على أن «الآب» واحد مع «الابن» في اللاهوت بكل صفاته وخصائصه. فقد قال الابن: «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا ١٠: ٣٠)، كما أنه عندما سأله تلميذه فيلبس: «يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هٰذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا ٱلآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ؟ ٱلْكَلامُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لٰكِنَّ ٱلآبَ ٱلْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ ٱلأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ، وَإِلا فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ ٱلأَعْمَالِ نَفْسِهَا» (يوحنا ١٤: ٨-١١). ولو لم يكن المسيح واحداً مع الآب في اللاهوت، لأجاب فيلبس إن الآب لا يُرى، لأنه اللّه غير المنظور، والمسيح رسوله الذي أتى إلى العالم ليخبر الناس عنه... لكن رده بالصيغة المذكورة، لا يدع مجالاً للشك في أنه واحد مع الآب في اللاهوت، كما ذكرنا.
فأسماء الأقانيم، كما قلنا فيما سلف، هي أسماء إلهية روحية خاصة باللّه دون سواه، والغرض الوحيد منها، هو الإعلان عن أنه جامع لكل الصفات والخصائص اللازمة لكماله واستغنائه بذاته أزلاً، ووجود علاقات متكاملة بينه وبين ذاته حينذاك، دون أن يكون هناك تركيب في ذاته أو يكون هناك شريك معه.
قال «أقنوم الابن» مرة، عندما كان بالجسد على الارض، في خطاب له مع «الآب»: «لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١٧: ٢٤). وبذلك كشف لنا عن سر من الأسرار التي كانت في اللاهوت، أو بالحري، بين أقانيم اللاهوت، قبل خلق أي شيء في الوجود، أو بتعبير آخر في الأزلية السحيقة التي لا يعرف الفلاسفة عن اللّه (أو غيره) شيئاً فيها، فوصفوها بالغيب، ووصفوا اللّه فيها باللاتعيُّن والعُزلة والتجرُّد من كل علاقة. لكن في هذه الأزلية السحيقة المجهولة لديهم، أعلن لنا «الابن» أن المحبة كانت متبادلة بين «الآب» وبينه. ولا شك أنها كانت متبادلة، وعاملة وقتئذ بكل كمالها، كما تعمل في جميع الأوقات، لأن صفاته ثابتة كاملة، وغير قابلة للزيادة أو النقصان.
ومما تجب ملاحظته في هذه المناسبة، أن الوحي لا يسند المحبة إلى أقنوم أو أقنومين، بل إلى الثلاثة أقانيم معاً، أو بالحري إلى اللّه أو اللاهوت في ذاته، فقد قال «اللّه محبة» (١يوحنا ٤: ٨)، ومعنى ذلك أن اللاهوت الذي هو جوهر كل أقنوم، وجوهر الأقانيم معاً، هو محبة. ولذلك فإن «الآب» يحب «الابن»، و «الابن» يحب «الآب» (يوحنا ١٤: ٣١)، والروح القدس هو روح المحبة (رومية ١٥: ٣٠، ٢ تيموثاوس ١: ٧). وتبادل المحبة بين الأقانيم، دليل على التوافق التام بينهم، أو بتعبير آخر على التوافق التام بين اللّه وذاته، الأمر الذي يلائم كماله كل الملاءمة.
لكن الوحي يدعو أحد الأقانيم بـ «الآب» لأن أقنوميته تُبْطن كل معاني المحبة في اللّه، ويدعو أقنوماً آخر بـ «الابن» لأن أقنوميته تظهر كل معاني المحبة في اللاهوت، ولذلك فان كلاً من الأبوّة والبنوّة، هي نسبة إلهية أزلية روحية، ليس لها نظير في العالم على الإطلاق.
ويدعو الوحي أقنوماً آخر بـ «الروح القدس» أو «روح المحبة» (رومية ١٥: ٣٠). ولذلك فهو الذي يسكب محبة اللّه في قلوبنا (رومية ٥: ٥)، وحتى نستطيع إدراكها والافادة منها، لأننا من تلقاء أنفسنا لا نستطيع إلى ذلك سبيلاً بسبب قصورنا الذاتي. والروح القدس هو مجرَى محبة اللاهوت المقدسة وحاملها.
وبما أن المحبة متجلية في الآب للابن، وفي الابن للآب، وأن الروح القدس هو روح المحبة وحاملها، لذلك لا جدال في أن اللّه كامل كل الكمال، ومستغنٍ بذاته كل الاستغناء، منذ الأزل الذي لا بدء له، لأن حياة المحبة هي في الواقع أسمى نوع من أنواع الحياة، ومن يحياها لا يشعر أنه في حاجة إلى شيء على الإطلاق، لأن المحبة هي «رباط الكمال». ومن هذا يتضح أن خلق اللّه للعالم لم يكن نتيجة لشعوره بحاجة إلى إظهار ذاته أو استثمار صفاته، كما قال بعض الفلاسفة وعلماء الدين، لكنه شاء منذ الأزل (والمشيئة إحدى الصفات العاملة فيه أزلاً، لأن وحدانيته هي وحدانية جامعة مانعة)، ألا تكون محبته أمراً ذاتياً لا ينعم بها سواه، بل أن يعبّر عنها في صورة خارجية موضوعية، فينعم بها غيره أيضاً، لأن هذا هو ما يتوافق مع خصائص المحبة الإيثارية التي يتصف بها، ولذلك قام بخلق الكائنات حسب مقاصده الأزلية من نحوها. وإذا كان من المحال أن يكون غرض اللّه من الخلق هو إظهار ذاته واستثمار صفاته، لأنه كامل كل الكمال في ذاته وصفاته، ومستغنٍ كل الاستغناء عن كل شيء سواه، ألا تكون عقيدة التثليث، التي تبيّن أن الخلق كان نتيجة طبيعية للمحبة الكائنة بين اللّه وذاته أزلاً، هي عقيدة صادقة تتفق مع كماله كل الاتفاق؟!
فأبوة الآب للابن، لا يُراد بها إذن أن الآب أفضل من الابن مقاماً، أو أقدم منه زماناً، بل يراد بها التعبير باللغة التي نفهمها عن نسبة من نسب المحبة السامية الكائنة بينهما، فأقنوم «الآب» يبطن محبة اللاهوت التي لا حد لها، وأقنوم «الابن» يعلن هذه المحبة ويظهرها بتمامها، لأنه واحد مع الآب في اللاهوت. ولذلك دُعي المسيح «ابن محبة اللّه» (كولوسي ١: ١٣). وهذا الاسم فضلاً عن دلالته على أن المسيح هو المعلِن لمحبة اللّه، فانه يدل أيضاً على أن بنوته للّه هي بنوة روحية محض، لا يُراد بها سوى إعلان اللّه واظهاره، كما ذكرنا في فاتحة هذا الكتاب.
وقد شاء اللّه في نعمته ومحبته اللتين لا حد لهما، أن يدعو المؤمنين الحقيقيين به أبناءً وأولاداً له فقال يوحنا الرسول لهم: «أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا ٱلآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلادَ ٱللّٰهِ! مِنْ أَجْلِ هٰذَا لا يَعْرِفُنَا ٱلْعَالَمُ، لأَنَّهُ لا يَعْرِفُهُ» (١يوحنا ٣: ١).
وهذا يرينا أن الإيمان الحقيقي باللّه، ليس هو مجرد الاعتراف بوجوده، أو معرفة صفاته وأعماله، أو محاولة الخضوع لوصاياه وأحكامه، بل هو الإدراك الروحي له الذي لا يتأتى إلا بمعرفة ذاته. وهذه بدورها لا تتأتى إلا عن طريق «الابن» لأنه هو الذي يعلن ذات اللّه. ولذلك فالاتحاد الروحي بـ «الابن» والخضوع التام له بواسطة عمل الروح القدس في القلب، هو السبيل لمعرفة اللّه، وبالتالي هو السبيل للايمان به إيماناً حقيقياً. ولذلك قال الوحي عن «الابن»: «وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلادَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ» (يوحنا ١: ١٢)، وقال له المجد عن نفسه: «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاّ بِي» (يوحنا ١٤: ٦).
ولولا ذلك، لكنا ننظر إلى اللّه، كما لو كان فقط الكائن المتعالي عنا، المترفع عن الاتصال بنا، والذي لا عمل له سوى تسجيل خطايانا ليعاقبنا عليها يوم الدين، ولكنّا لا نحيا تبعاً لذلك إلا حياة القلق والخوف، دون أن يخطر ببالنا أنه من الممكن أن يكون لنا أو لغيرنا حق الاقتراب إليه والتمتع به، بالحرية التي يتمتع بها الأبناء بأبيهم الطيب الصالح. نعم كنا نخشى بأسه وسلطانه، ونعمل كل ما نعتقد أنه كاف لاسترضائه، وجلب غفرانه ورضوانه، لكن كنا لا نعرف كيف نتمتع بحبه وحنانه، أو ننعم بالاتصال به والتوافق معه في صفاته وأفكاره، بل وكنا لا نضمن ونحن بشر خطاة، أن يكون لنا نصيب في سمائه الطاهرة.
وقال بولس الرسول للمؤمنين: «ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ رُوحَ ٱبْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: يَا أَبَا ٱلآبُ» (غلاطية ٤: ٦). وليس معنى ذلك أنهم أصبحوا واحداً مع الابن في أقنوميته، أو في نسبته الفريدة مع الآب. كلا، بل إنهم يُعتبرون فقط أولاداً للّه، بسبب إيمانهم القلبي بـ «الابن» واتحادهم الروحي به. فهم أبناء بالتبني والنعمة، أما هو فابن بجوهره وحقه الذاتي غير المكتسَب، ولذلك فإنهم مع تمتعهم بهذا الامتياز، لا يزالون كما كانوا من قبل إيمانهم واتحادهم به، خَلْق اللّه وعبيده، ولا يزال هو بالنسبة لهم، خالقهم وسيدهم.
وكلمة «آبا» أرامية، وهي اللغة التي كانت متداولة في فلسطين أثناء القرون الأولى للمسيحية. ونظراً لشيوع استعمال هذه الكلمة بين المسيحيين وقتئذ، نُقلت بحرفيتها إلى اللغة اليونانية وغيرها من اللغات، وكُتب معناها بعدها، فمعنى هذه الآية إذن، هو فقط «صارخاً أيها الآب». وبهذه المناسبة نقول، إن الأديان قد انقسمت من جهة الاعتقاد بمعاملة اللّه للناس إلى أربعة أقسام. (١) قسم يعتقد أن اللّه يقسو في معاملته مع البشر، فهو الذي يجلب عليهم المتاعب والآلام. (٢) وقسم يعتقد أنه لا يبالي بالبشر، فهو يتركهم وشأنهم في هذه الحياة. (٣) وقسم يعتقد أنه شفوق رحوم، يعطف عليهم ويهتم بهم. (٤) أما القسم الأخير وهو المسيحية، فينادي بأن اللّه لا يعطف على البشر فقط، بل ويحبهم أيضاً، فهو بمثابة الآب الطيب الصالح لهم. وهناك فرق كبير بين العطف والمحبة، فقد يعطف غني نبيل على شرير معوز، فيمده ببعض المال أو الطعام، ولكنه لا يستطيع مع عطفه عليه أن يرحب به في بيته ويجد لذة في السكنى معه، فهذا الغني النبيل يعطف على الشرير المعوز، ولكنه لا يحبه أو يميل إليه. أما اللّه فبرغم خطايانا وحقارة شأننا بالنسبة إليه، لا يعطف فقط علينا، بل ويحبنا أيضاً بمحبة لا حد لها، فقد قال الوحي عنه: «هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا ٣: ١٦). وقال أيضاً: «الذين أحبهم، أَحَبَّهُمْ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى» (يوحنا ١٣: ١)، وأيضاً إنه محبة أبدية أحبهم، ولذلك أدام لهم الرحمة (إرميا ٣١: ٣) - وهذا هو ما يُنتَظر طبعاً من إله كامل كل الكمال.
اسم اللّه كـ «الآب»، لم يرد في الإنجيل فقط، بل وفي التوراة أيضاً، فقد خاطبه النبي مرة قائلاً: «وَٱلآنَ يَا رَبُّ أَنْتَ أَبُونَا. نَحْنُ ٱلطِّينُ وَأَنْتَ جَابِلُنَا، وَكُلُّنَا عَمَلُ يَدَيْكَ» (إشعياء ٦٤: ٨). لكن بالتأمل في هذه الآية، والآيات المشابهة لها، يتضح لنا أن اللّه لم يكن معروفاً وقتئذ ك- «الآب»، بالمعنى المعروف به في المسيحية، بل كان معروفاً كالآب، بمعنى الخالق والمحسن فحسب، وهو من هذه الناحية أب لكل الناس على السواء. وإذا رجعنا إلى الفلسفة، وجدنا أيضاً أن اسم اللّه «كالآب»، قد استُعمل فيها بمعنى الخالق للعالم والمدبر له والمعتني به، كما كان يُقصَد به في التوراة من قبل.
ولذلك إذا رجعنا إلى تاريخ البشر الذين عاشوا في العهد القديم، لا نجد واحداً منهم كان يتمتع باللّه كالآب، بما في هذه الكلمة من معاني الحب والحنان والنسبة الكريمة السامية، بل كانوا يقشعرون جميعاً من حضرته، بسبب شعورهم بنقائصهم وخطاياهم المتعددة. أما المؤمنون الحقيقيون بالابن، فلهم أن يتمتعوا باللّه، كما يتمتع الأبناء البررة بأبيهم الطيب الصالح، لأنه بفضل إدراكهم الروحي لكفارة الابن وقبولهم إياها، تزول كل مخاوفهم من جهة قصاص خطاياهم، وبفضل عمل الروح القدس في نفوسهم، يحصلون على حياة روحية تؤهلهم للتمتع باللّه والتوافق معه في أفكاره وصفاته.
بما أن «الآب»، بوصفه «الآب»، هو الذي يُبْطن محبة اللّه الازلية، لذلك لا غرابة إذا علمنا أنه هو الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، وأنه هو الذي اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة (أفسس ١: ٣، ٤)، وأنه هو الذي ولدنا ولادة روحية لرجاء حي (١بطرس ١: ٣)، وأنه هو الذي أهّلنا لشركة ميراث القديسين في النور (كولوسي ١: ١٢)، وغير ذلك من الأعمال الخاصة بعلاقة اللّه الباطنية بنا.
وبما أن «الآب» يقوم بالأعمال المذكورة، إذن فهو ليس صفة، بل أقنوم، كما ذكرنا في الباب السابق.
لم يُدْعَ هذا الأقنوم بهذا الاسم لأنه يشبه الروح أو الريح. كلاّ، إذ هو مثل الأقنومين الآخَرين، لا شبيه له ولا نظير على الإطلاق. وليس لأنه يتميز عنهما بروحانية الجوهر. كلاّ، لأن للأقانيم جوهراً واحداً كما مرَّ بنا، فقد أعلن الوحي بعبارة صريحة أن اللّه (بأقانيمه الثلاثة) هو روح (يوحنا ٤: ٢٤). وليس لأنه حياة الآب والابن. كلاّ، لأن الأقانيم الثلاثة واحد في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته. إنما دُعي بالاسم المذكور، لأنه يقوم بأعمال اللاهوت بوسيلة روحية، أو بوسيلة غير منظورة، كما يتضح من اسمه.
كما أنه لم يوصف بالقدُس لأنه يتميز بالقداسة دون الأقنومين الآخرين. كلا، لأن الأقانيم الثلاثة يتصفون معاً بهذه الصفة، وبكل صفات الكمال الأخرى بدرجة واحدة. ولكنه وُصف بالقُدُس لأنه هو الذي بعمله الروحي في نفوسنا يقدسها ويجعلها في حالة التوافق مع اللّه. ومما يؤكد لنا أنه واحد مع الأقنومين الآخرين في اللاهوت بكل صفاته وخصائصه، أنه لم يوصف بالقداسة فحسب، بل وُصف أيضاً بالأزلية، والوجود في كل مكان، والعلم، والقدرة، وغير ذلك من الصفات التي يتصف بها هذان الأقنومان، كما يتضح بالتفصيل في الفصل التالي.
يظن البعض أن تسمية هذا الأقنوم بـ «الروح»، تدل على أنه مجرّد قوة إلهية يمنحها اللّه لمن يريد، لكن الحقيقة غير ذلك. لأن الوحي يُسنِد إليه الأعمال التي لا يقوم بها إلا الكائن العاقل، مثل الكلام والفحص والإرشاد والتعليم. كما يسند إليه الصفات التي لا يتصف بها إلا الكائن العاقل، مثل المحبة والصلاح والمشيئة، ولذلك يعلن أن الذين لا يطيعونه يقفون إزاءه موقفهم إزاء الكائن العاقل، فإنهم في جهلهم يكذبون ويجدفون عليه. وإليك الأدلَّة:
قال مرة لبعض الأنبياء والمعلمين: «اَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ ٱلَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ» (أعمال ١٣: ٢). كما قال السيد المسيح عنه: «وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ... وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ» (يوحنا ١٦: ١٣، ١٤)، وأيضاً: «ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ... يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يوحنا ١٤: ٢٦)، وقيل بالوحي عن الروح القدس إنه «يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ ٱللّٰهِ» (١ كورنثوس ٢: ١٠).
ومكتوب عنه أنه روح المحبة (٢تي ١: ٧)، وأنه الروح الصالح (نحميا ٩: ٢٠)، وأنه يوزع المواهب كما يشاء (١كورنثوس ١٢: ١١).
كما أن حنانيا وسفيرة لمَّا لم يقولا الصدق، اعتُبِرا أنهما كذبا عليه (أعمال ٥: ٣)، واليهود كانوا يُجدّفون عليه (متى ١٢: ٣١)، إذ كانوا في جهلهم يقولون عنه إنه رئيس الشياطين.
لم يرد ذكر «الروح القدس» أو «روح اللّه» في الإنجيل فحسب، بل وفي التوراة أيضاً، ومن أول صحيفة فيها فقد قال الوحي عن تكوين الخليقة «رُوحُ ٱللّٰهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ ٱلْمِيَاهِ» (تكوين ١: ٢). كما قال عندما استفحل شر الإنسان في العهد القديم «لا يَدِينُ رُوحِي فِي ٱلإِنْسَانِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (تكوين ٦: ٣)، كما قال على لسان حجي النبي «رُوحِي قَائِمٌ فِي وَسَطِكُمْ. لا تَخَافُوا» (حجي ٢: ٥). وقال موسى النبي: «جَعَلَ ٱلرَّبُّ رُوحَهُ عَلَيْهِمْ» (عدد ١١: ٢٩). وخاطب داود النبي المولى قائلاً: «رُوحَكَ ٱلْقُدُّوسَ لا تَنْزِعْهُ مِنِّي» (مزمور ٥١: ١١)، وخاطبه مرة أخرى قائلاً:«تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ. وَتُجَدِّدُ وَجْهَ ٱلأَرْضِ» (مزمور ١٠٤: ٣٠).
وإذا رجعنا إلى الفلسفة، وجدنا أن فلاسفة اليونان قد افترضوا أن هناك نفساً للعالم، تحرّكه وتسيّره، أطلقوا عليها اسم «النفس الكلية»، وأن بعض فلاسفة المسلمين قد أطلقوا على «روح القدس»الوارد ذكره في القرآن اسم «الروح الأعظم»، وقالوا عنه إنه غير مخلوق ولا يمكن إدراكه أو حصره، وإنه وجه خاص من وجوه الحق، قام الوجود بذلك الوجه، وهذه الأعمال تشبه من بعض الوجوه أعمال «الروح القدس» الواردة في الكتاب المقدس.
أقنوم «الروح» يقوم بأعمال اللّه بطريقة روحية، وقد ذكرنا فيما سلف طرفاً من هذه الأعمال، ولذلك نكتفي هنا بالقول إنه هو الذي بعث الحياة الجسدية إلى الكائنات الحية (مزمور ١٠٤: ٣٠)، وهو الذي منح القدرة على التنبؤ وعمل المعجزات للرسل والأنبياء (أعمال ١٩: ٦)، وهو الذي يساعد المؤمنين على القيام بالصلاة، ويمنحهم المواهب الروحية اللازمة لهم (رومية ٨: ١٧، ١ كورنثوس ١٢: ٤-١٢)، وهو الذي يُبَكِت ضمائر الخطاة ويرشدهم في الباطن إلى طاعة اللّه، وهو الذي يعطي من يطيعون صوته حياة روحية، يستطيعون بها الارتقاء فوق أهواء الجسد وشهواته، والسلوك في حالة التوافق مع اللّه في صفاته وأفكاره (يوحنا ١٦: ٨، غلاطية ٥: ١٦)، وغير ذلك من الأعمال الخاصة بعلاقة اللّه الروحية فينا.
قبل انتقال المسيح من العالم، أوصى تلاميذه ألا يبرحوا أورشليم بعد صعوده عنهم، حتى يحل الروح القدس عليهم (لوقا ٢٤: ٤٩). وطاعة لهذه الوصية، انتظروا في حالة الاتصال الروحي باللّه والتضرّع المتواصل إليه، فحلَّ عليهم الروح القدس بهيئة واضحة في اليوم العاشر من صعود المسيح عنهم، ومنحهم المواهب الروحية التي هيأتهم للقيام برسالتهم في العالم، كوعد المسيح السابق لهم.
والمقصود بمجيء الروح القدس هو ظهوره، وليس التحرك من مكان إلى مكان.
وهنا يسأل سائل: كيف يكون الروح القدس قد ظهر بعد صعود المسيح بعشرة أيام، وقد كان يعمل في نفوس الأنبياء قبل مجيء المسيح إلى العالم بمئات السنين؟
وللإجابة على ذلك نقول: هناك فرق بين عمل الروح القدس وظهوره، فهو بوصفه أحد أقانيم اللاهوت كان يعمل أزلاً في الخلق وبعد الخلق، مثله في ذلك مثل الأقنومين الآخرين. ولكن ظهوره، مثل ظهور الابن، هو تجليه بهيئة واضحة، ليفتح الباب أمام جميع الناس حتى يستفيدوا من عمله الروحي فيهم، كما أستفادوا من ظهور الابن من قبل، بعمله الفدائي لأجلهم.
بما أن حاجتنا إلى الروح القدس ليست أقلّ من حاجة الرسل إليه، كان من البديهي ألاّ يكون حلوله قاصراً عليهم. فإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، وجدنا أنه حلّ أيضاً على جميع المؤمنين الذين عاشوا في العصر الرسولي، ويحلّ وسيحلّ كذلك في جميع المؤمنين الحقيقيين في كل العصور والأجيال (أعمال ١٠: ٤٤، ١١: ١٥، أفسس ١: ١٣)، ليقدِّرهم بواسطة الحياة الروحية التي يبعثها فيهم، على التوافق مع اللّه والسلوك معه بالقداسة التي يريدها.
وبالطبع لا يُقصد بحلول الروح القدس في المؤمنين تحيُّزه فيهم، أو اختلاطه بطبيعتهم، لأنه غير متحيّز بحيز، ومنزَّه عن التأثُّر بأي مؤثر، بل يُقصد به ملازمته لنفوسهم في كل حين، ليحفظهم في حالة الاتصال باللّه والطاعة المستمرة له. وهذا العمل لا يتعارض مع خصائصه، بل يتوافق معها، كما يتوافق مع خصائص الأقنومين الآخرين. ولزيادة الإيضاح إقرأ (يوحنا ١٤: ١٧، ١كورنثوس ٦: ١٩، ٢ تيموثاوس ١: ١٤، مع يوحنا ١٧: ٢٣، ٢٦، أفسس ٣: ١٧).
مما تقدم يتضح لنا أن كل أقنوم سُمّي باسم خاص، ليس لأن أحدهم أقدم من الآخر زماناً، أو أفضل منه مقاماً، أو لأنه يختلف عنه جوهراً، بل لأن كلاّ منهم يقوم بعمل يتناسب مع أقنوميته، ولأن بين أحدهم والآخر نِسباً روحية خاصة، بها للاَّهوت علاقات متكاملة بينه وبين ذاته، منذ الأزل الذي لا بدء له، الأمر الذي بسببه هو في غنى عن كل شيء في الوجود. وسيتضح لنا في الباب التالي أنه وإن كان كل أقنوم يقوم بعمل خاص، إلا أنهم جميعاً واحد في كل الصفات والتصرفات، الأمر الذي يدل على أن وحدانية اللّه في ثالوثه، هي وحدانية حقيقية، كما ذكرنا مراراً وتكراراً.
٢ - وحدانية الأقانيم في أعمال اللاهوت وتصرفاته
٣ - الأدلة على صدق شهادة الإنجيل
تبين لنا أن الأقانيم هم ذات اللّه الواحد لأنهم تعيُّن اللاهوت، واللاهوت واحد ووحيد ولا ينقسم أو يتجزأ على الإطلاق. ولما كان البعض يظن أن هذه الحقيقة تتعارض مع بعض الآيات الكتابية، رأينا من الواجب أن نبيّن في هذا الفصل أن وحدانية الأقانيم في اللاهوت، بكل خصائصه وصفاته، هي حقيقة كتابية قبل أن تكون حقيقة فلسفية أو منطقية. وفيما يلي بعض الآيات التي تدل على ذلك:
فإذا جاز لنا أن نشبّه اللاهوت بدائرة لا حد لها، فإن كلا من الآب والابن والروح القدس، مع أقنوميته الخاصة، يكون تعيُّن هذه الدائرة، لأنه لا فرق بين أحدهم والآخر في الجوهر إطلاقاً.
ولذلك قيل بالوحي إنه لا يستطيع أحد أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس (١كورنثوس ١٢: ٣)، ولا يستطيع أحد أن يُقبِل إلى الابن إلا إذا اجتذبه الآب أولاً (يوحنا ٦: ٤٤)، ولا يستطيع أحد أن يأتي إلى الآب إلا بواسطة الابن والروح القدس (يوحنا ١٤: ١٦، ١٧، ١٦: ٨، ٤: ٢٣، ٢٤)، ولا يستطيع أحد أن يتمتع بالروح القدس إلا بواسطة الآب والابن (لوقا ١١: ١١-١٣، يوحنا ١٦: ٧-١٦).
وطبعاً إن عدم قيام أقنوم بالعمل مستقلاً عن الأقنومين الآخرين، ليس معناه عجزه عن القيام به بمفرده، بل معناه وحدته الكاملة معهما في القيام به، وذلك لوحدة جوهرهم.
مما تقدم يتضح لنا أن الأقانيم واحد في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته، وأنهم مع قيام كل منهم بعمل خاص، متحدون اتحاداً تاماً في جميع الأعمال والتصرفات، ولذلك نلاحظ أن الوحي الإلهي:
وقد علَّق المفسّر لانج على قول المسيح: «أنا والآب واحد» فقال: إن «الوحدة» هنا يُراد بها في الأصل اليوناني «وحدة الجوهر» (Unity of Essence )، وليس الوحدة في القصد فقط. ومما يدل على صدق هذه الحقيقة أن الابن قد أعلن في موضع آخر أن كل ما للآب هو له (يوحنا ١٧: ١٠)، وأن الكرامة التي تُقدم للآب يجب أن تُقدم له أيضاً (يوحنا ٥: ٢٣). وقد أعلن هذه الحقيقة ونبر عليها، على الرغم من نفور اليهود منها ومقاومتهم له بسببها.
والآن إذا كان المراد بالتوحيد في علم الكلام ليس هو الوحدة الشكلية، بل الوحدة الجوهرية، أي الوحدة في الذات (بمعنى نفي الشرك والتركيب عنها)، وفي الصفات (بمعنى نفي التناقض بينها، وعدم وجود شبيه لها)، فهل يبقى شك بعد الإيضاحات السابق ذكرها، في أن الكتاب المقدس يشهد بوحدانية اللّه الجوهرية بأدق الألفاظ والعبارات؟!
إن كون اللّه ثلاثة أقانيم، ليس معناه أنه ذو ثلاثة أشكال، لأن اللّه لا حد ولا جسم له، فهو في ثالوث وحدانيته ووحدانية ثالوثه روح محض، لا يدخل تحت حصر أو شكل. فضلاً عن ذلك فإن كونه ثلاثة أقانيم هو من مستلزمات الكمال المُطلَق الذي يتصف به منذ الأزل الذي لا بدء له، وأنه يتوافق مع وحدانيته وعدم وجود تركيب فيه كل التوافق.
فضلاً عن الآيات السابق ذكرها المكتوبة بالوحي الإلهي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها، فهناك أدلة عقلية تثبت هذه الحقيقة، نذكر منها ما يلي:
٢ - الاعتراضات الدينية والرد عليها
هذه الاعتراضات واردة في مؤلفات لدوان وموريس وليمز وبنصون ومورتيمور وغيرهم، كما جاء في كتب: نظرات في العقائد المسيحية للاستاذ مصطفي سعداوي المهر، والعقائد الوثنية في الديانة النصرانية للاستاذ محمد طاهر، والمسيح والتثليث للدكتور محمد وصفي وغيرها من الكتب.
نرى من الواجب، ونحن في فاتحة هذا الفصل، أن ننبّر على أن هناك أدلة دينية وعقلية لا حصر لها، ذكرنا بعضها فيما سلف، وسنذكر البعض الآخر فيما يلي، تثبت أن اللّه ثلاثة أقانيم، ولذلك يحق لنا ألا نقيم وزناً لأي اعتراض يُوجّه إلى هذه الحقيقة. لكن نظراً لتأثر ضعفاء الإيمان بأقوال بعض مدّعي الفلسفة، نعلن من أول الأمر أن هناك عدداً كبيراً من هؤلاء المدَّعين قد أنكر وجود اللّه، وبالتالي أنكر كل وحي، ثم أخذ يسعى لمقاومة المسيحية بكل ما لديه من جهد، لعدم قدرته على فهم عقائدها، أو لتعارض مبادئها مع ميوله وأهوائه. ولذلك ادَّعى أن هذه العقائد ليست أصلية أو حقيقية، بل أنها مقتبسة من الأساطير الوثنية. ولكي يثبت صدق ادعائه راح يضيف إلى هذه الأساطير ويحذف منها ما يشاء، حتى تبدو حسب وجهة نظره مماثلة للعقائد المسيحية من بعض الوجوه. فيجب على الباحث المدقق أن يرجع إلى الكتب العلمية الصادقة الخاصة بالعقائد والأديان، حتى يعرف الحقيقة كما هي. وهذا ما فعلته، فقد درست كل ما عثرت عليه من هذه الكتب، ودرست معها تعليقات مؤلفيها التي أرادوا بها إيجاد أوجه شبه بين المسيحية والوثنية. فوجدت أن الكتب الأخيرة، على الرغم من هذه التعليقات، تختلف في مادتها عن كتب مدّعي الفلسفة اختلافاً عظيماً. وعلى ضوء الحقائق الصادقة التي وصلت إليها، أردُّ فيما يلي على اعتراضات المعترضين أو بالحري على تُرَّهاتهم:
اعتراض (١): «يعتقد فريق من الوثنيين في الهند أن هناك ثلاث هيئات أو أقانيم للّه، يطلقون عليها براهما وفشنو وسيفا، فبراهما هو الآب الممثل لمبادئ التكوين والخلق، وفشنو هو الابن الممثل لمبادئ الحماية والحفظ، وسيفا هو الروح القدس، الذي هو المبدي والمهلك».
الرد: (أ) لم تكن كلمة الأقانيم معروفة عند الهنود أو غيرهم من الوثنيين، لأنها من الكلمات المسيحية المحض، التي صيغت في القرن الثاني للدلالة على تعيُّنات اللاهوت. كما أن عبارة «هيئات اللّه» هي من تصنيف الفلاسفة الذين كانوا يحاولون تفسير أقانيم المسيحية تفسيراً فلسفياً بعيداً عن روح الكتاب المقدس، كما سنوضح في الباب السادس. فضلاً عن ذلك فإن وصف براهما بالآب وفشنو بالابن وسيفا بالروح القدس، ليس له أصل في الأساطير الهندية، إنما هو من تلفيق المعترضين، لكي يضللوا البسطاء من الناس. كما أن إسناد الخلق والتكوين إلى «الآب» والتدمير إلى«الروح القدس» دليل على عدم الدراية بالكتاب المقدس، لأن هذا الكتاب يسند الخلق والتكوين إلى اللّه، بواسطة أقنوم «الكلمة» أو «الابن»، ويسند الإحياء، لا التدمير، إلى الروح القدس.
(ب) فضلاً عما تقدم فإن قول المعترضين إن الوثنيين يعتقدون أن اللّه هو براهما وفشنو وسيفا، هو محض اختلاق، لأنه بالرجوع إلى الأساطير الهندية، يتضح لنا أن الهنود كانوا يعتقدون في أول الأمر بآلهة متعددة، ثم اختصروها على مر الأيام إلى ٣٣ إلهاً (كما يتضح من كتاب الفيدا). وزعموا أن كل إله من هذه الآلهة يمثل صفة من صفات روح عظيم أطلقوا عليه اسم «براهمان». ومن أهم هذه الآلهة «حانيشا» إله الحزم والبصيرة، و «كارتيكا» إله الحرب، و «إندرا» إله المطر، و «إجي» إله النار، و «فارونا» إله المحيط، و «باما» إله الموت، و «كورا» إله الثروة. لكنهم رفعوا براهما وفشنو وسيفا فوق غيرها من آلهتهم بدعوى أنها تمثل صفات الخلق والرعاية، والانتاج والتدمير، التي هي (كما يزعمون) أهم صفات «براهمان». كما أنه لم يخطر ببالهم مطلقاً أن يجعلوا هؤلاء الثلاثة واحداً كما يقول المعترضون. بل بالعكس كانوا يقولون إن كلاًّ منهم منفصل عن الآخر، ومختلف عنه في صفاته وطباعه وأعماله كل الاختلاف.
فبراهما يُمثَّل برجل يركب على ظهر أوزة، ويقال إنه كانت له رأس واحدة كغيره من آلهتهم، لكن عندما أخرج من ذاته أنثى له، وأخذ يتأمل فيها كلما انتقلت إلى جهة من الجهات، نبتت له أربعة رؤوس أخرى، بعدد الجهات التي كانت تنتقل إليها. ولما رأى سيفا أن براهما قد تملَّكه الإعجاب برؤوسه الخمسة انقضَّ عليه وقطع واحدة منها، وأصبح لبراهما أربعة رؤوس فحسب. وفشنو يُمثَّل بشاب جميل الصورة له أربعة أذرع، يلعب على ربابة أو مزمار، ويُقال إنه كان وديعاً وشفوقاً، وله عند الهنود عشرة آلاف اسم، وكانت امرأته تُدعى لاكشمى أو الحظ الحسن، ونظراً لجماله فان الهنود يذكرون اسمه بالارتباط مع الشمس والنهار. أما سيفا فيُمثَّل برجل قوي قاس، ويقال إنه كانت له زوجة وولدان. وكان اسمه «رودا»، لأنه عندما وُلد كان يبكي (وكلمة «رودا» معناها«بكاء»). ويقال إنه عاش كل حياته شريداً، لأنه قطع رأس براهما، وأنه تزوج بعد ذلك ابنة ابن براهما بعد ما قتله في مجمع الآلهة. ويقال إنه تناول مرة طعاماً مسموماً، فلما رأت زوجته السم يسري في جسمه قبضت على رقبته لكي لا يصل إلى رأسه، فتجمع السم في رقبته واسودَّت. ويقال إنه عندما ماتت زوجته، حمل جسدها، وفي نشوة من الجنون، أخذ يرقص به حول العالم. وسيفا كما يزعمون هو الذي تنتهي إليه أعمال براهما وفشنو، فهو الذي يخرجها ويلاشيها، ولذلك يُذكر اسمه مرتبطاً بالليل والظلام - ولكل إله من هذه الآلهة أنصار من الهنود، يميز كل منهم نفسه بعلامات خاصة. وكان لبراهما في أول الأمر أنصار كثيرون، أما الآن فمعظم الوثنيين يعبدون فشنو وسيفا، والعبادة التي تُقَدَّم لفشنو مصحوبة بالفرح والسرور، بينما العبادة المقدَّمة لسيفا مصحوبة بالرعب والخوف، ولكل واحد من هؤلاء الثلاثة سرارٍ كثيرة، وحوادث غرامية يخجل المرء من ذكرها. فهل يمكن بعد هذه التفصيلات أن يظن إنسان ما أن تثليث المسيحية مقتبس من الأساطير الهندية؟!
اعتراض (٢): «يعتقد فريق آخر من وثنيي الهند أن بوذا ذو ثلاثة أقانيم، وأنه هو الألف والواو والميم، أي الأول والوسط والآخر، كما يقول النصارى عن المسيح».
الرد: فضلاً عن أن كلمة «الأقانيم» هي من صميم التعبيرات المسيحية، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في سوء نية المعترضين وتلفيقهم، فإنه بالرجوع إلى أساطير الهنود لا نجد أساساً لهذا الاعتقاد على الاطلاق، كما أن كل الصور الخاصة ببوذا تمثّله رجلاً عادياً مثل غيره من الرجال، لأنه كان إنساناً حقيقياً عاش في الهند حوالي ٥٠٠ سنة ق. م، ورآه كثير من أهلها رؤية العيان. أما وصفه بأنه الأول والوسط والآخر، فلا يدل على أن المسيحيين قد استقوا عقيدة التثليث من الوثنيين، لأننا لا نقول إن الآب هو الأول والابن هو الوسط والروح القدس هو الآخر. ولذلك فإن هذا الوصف يدل على أن الهنود قد اقتبسوا آراءهم، بعضهم من البعض الآخر، لأن الفريق السابق ذكره في الاعتراض الأول، كان يقول عن براهما إنه الأول، وعن فشنو إنه الوسط، وعن سيفا إنه الآخر. على اعتبار أن براهما، كما يزعمون، هو الخالق، وفشنو هو الحافظ لما خلقه براهما، وسيفا هو المُخَرِّب لما خلقه براهما وحفظه فشنو.
اعتراض (٣): «يعتقد فريق غيره من الهنود أن الواحد الذي هو أصل الوجود، اضطر إلى إيجاد ثان، ومن الثاني والأول انبثق ثالث».
الرد: هذا الاعتراض مختلق بأكمله، إذ ليس له أي أساس في الأساطير الهندية. ولا شك عندي أن المعترضين قد اقتبسوه من الفلسفة اليونانية وأسندوه زوراً إلى الأساطير الهندية، لأن فلاسفة اليونان هم الذين كانوا يعتقدون بهذا الاعتقاد، فكان يقول بعضهم عن الديمورج (أي الصانع) هو الآب، والمادة هي الأم، والعالم الذي نتج منهما هو الوليد. وكان بعض آخر يقول إن للوجود أصلين، هما الخير والشر، وباقترانهما معاً وُلد العالم. وكان بعض غيرهم يقول إن الأصل الأول هو اللّه غير المدرَك، والثاني هو زوجته السكوت المفكر، وباقترانهما معاً وُلدت الكائنات. ولكن المعترضين استعملوا كلمة «انبثق» المسيحية بدلاً من كلمة نتج أو ولد الوثنية، للتمويه على القراء. فضلاً عن ذلك فإننا نحن المسيحيين لا نعتقد أن الآب هو أصل الوجود، أو أنه اضطر إلى إيجاد الابن. وإن كنا نعتقد أن الروح القدس منبثق من عند الآب، أو من عند الآب والابن، إلا أننا نعتقد أنه كان أزلاً مع الآب والابن، لأن الثلاثة أقانيم هم تعيُّن اللاهوت، واللاهوت لا بدء له، وهو واحد ووحيد ولا تركيب فيه على الاطلاق. وما معنى الانبثاق هنا إلا الظهور، كما سيتبين في الباب التالي.
اعتراض (٤): «كان قدماء المصريين يعتقدون بمجموعات من الآلهة، كل مجموعة منها مكوَّنة من ثلاثة أقانيم. فالمجموعة الأولى كانت مكونة من أمون وكونس وموت، والثانية من أوزيريس وإيزيس وهورس، والثالثة من خنوم وساتيت وعنقت. والأول من كل مجموعة، هو الأب، والثاني هو الابن، والثالث هو الروح القدس».
الرد: ألفاظ الآب والابن والروح القدس هنا هي ألفاظ اختلقها المعترضون للتمويه على القراء، إذ أنه ليس لها أساس في عقيدة قدماء المصريين. كما أن كلمة «الأقانيم» كما ذكرنا مراراً، من صميم التعبيرات المسيحية التي لم تكن معروفة قبل وجودها. فضلاً عن ذلك فإننا إذا رجعنا إلى عقيدة قدماء المصريين، وجدنا أنها لم تنصّ على أن كل مجموعة من هذه الآلهة تكوّن إلهاً واحداً، بل بالعكس كانت تنصّ على أن هذه الآلهة منفصل أحدها عن الآخر كل الانفصال. والدليل على ذلك أنهم كانوا يمثلون أمون برجل، وكونس (وصحته خنسو) بالقمر، وموت بأنثى العُقاب، وأوزيريس برجل، وإيزيس بامرأة، وحورس بالصقر، وخنوم بالكبش، وساتيت زوجته الأولى بامرأة وعتقت زوجته الثانية بامرأة أخرى، وكان كل إله من هذه الآلهة خاصاً بقسم من أقسام مصر. فلكي يوحّد قدماء المصريين هذه الأقسام ويكوّنوا منها مقاطعات كبيرة، قرنوا آلهة كل ثلاثة أقسام تقريباً معاً، وكوّنوا منها مجموعة واحدة، وجعلوا فوق هذه المجموعات، التاسوع المصري العظيم، برياسة «رع» - الأمر الذي يدل على تلفيق المعترضين للحقائق لغرض في نفوسهم.
اعتراض (٥): «كان أهل بابل يعتقدون بثالوث مكوَّن من أب وأم وابن».
الرد: فضلاً عن أن عقيدة التثليث المسيحية لا تنصّ على أن اللّه هو أب وأم وابن، بل تنص على أنه هو «الآب والابن والروح القدس» الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الاعتراض، نقول إن أهل بابل لم يكونوا يعتقدون حتى بثالوث مكوَّن من أب وأم وابن، مثل غيرهم من وثنيي الشعوب القديمة، بل بثالوث آخر يشغل الابن فيه مركز الزوج لأمه (أي أنه ثالوث مكوَّن من أم وابن هو في الوقت نفسه زوجها) إذ كانوا يعتقدون أن نمرود مؤسس مملكتهم قد تزوج من أمه سميراميس، فأصبح إلهاً.. هذا هو التثليث الذي يقول المعترضون إن المسيحيين اقتبسوا عقيدتهم منه!!
اعتراض (٦): «كان الفُرس يعتقدون بإله مثلث الأقانيم هو أورمازدا الخالق ومتراث المخلص وإهرمان المهلك» كما أن كلاً من الكلدانيين والصينيين واليابانيين كان لهم إله مثلث الأقانيم.
الرد: لم يكن أحد من الفُرس أو الكلدانيين أو الصينيين أو اليابانيين، أو غيرهم من الشعوب الوثنية القديمة، يؤمن بإله واحد مثلث الأقانيم (كما يقول المعترضون) لأن كل الوثنيين كانوا يؤمنون بآلهة متعددة. وبمرّ الأيام اكتفوا منها بإلهين أو ثلاثة أو أكثر، جعلوها أفضل من غيرها من الآلهة. وهذه الآلهة منفصل أحدها عن الآخر كل الانفصال، ومختلف عنه أيضاً كل الاختلاف ولذلك لا يُعقل مطلقاً أن تكون عقيدة التثليث المسيحية مقتبسة من عقائد الوثنيين في آلهتهم.
كان الفُرس (بعكس ما يقول المعترضون) يعتقدون بإلهين رئيسيين، هما «أورمازدا» إله الخير و «إهرمان» إله الشر. والأول، كما يقولون، سيبقى إلى الأبد والثاني سيزول نهائياً من الوجود. أما «متراث» الذي يقول عنه المعترض إنه واحد من ثالوث الفُرس، فهو أحد آلهة المرتبة الثانية، التي كان الفُرس يؤمنون بها، بجانب هذين الاثنين، ولكن شاء المعترض أن يزجّ باسم متراث معهما، ليوهم المسيحيين أن عقيدة التثليث التي يؤمنون بها، مقتبسة من وثنيي الفُرس.
أما الكلدانيون فكان فريق منهم يعتقد بثلاثة آلهة هي «أنو» الرئيس الأعلى وسيد الظلام، و «بيل» أو «بال» خالق العالم وسيد الأرض والسماء، ويا إله العلوم والمعارف. وفريق آخر كان يعتقد بثلاثة غيرها هي «سين» القمر، و «شماس» الشمس، و «أراد» المناخ. وكان الصينيون يعتقدون بثلاثة آلهة، هي السماء والشمس والقمر، ثم اعتقدوا بثلاثة غيرها هي بوذا وذمة وسنجه، واعتبروا الأول مؤسس الديانة، والثاني نفس الديانة، والثالث هو الطائفة. وكان اليابانيون يعتقدون أن إله السماء أزاناجي تزوج أخته فولدت جزائر اليابان، ثم لقحاها ببذور الآلهة، فأخرجت اليابانيين. أما الشمس فخرجت من عين أزاناجي اليسرى، والقمر من عينه اليمنى، والرياح والأمطار من عطسه. فهل بعد هذه الاقتباسات يوجد شخص عاقل يصدق أن عقيدة التثليث المسيحية مقتبسة من الديانات الوثنية؟
أما السبب الذي دعا بعض الوثنيين إلى الاكتفاء بثلاثة آلهة، فيرجع كما يرى كل باحث مدقق، إلى أنهم كانوا يعتقدون أن العدد (٣) هو أول عدد كامل. أما المسيحيون فلم يقتبسوا عقيدتهم من آراء البشر واصطلاحاتهم، بل من أقوال الوحي التي لا يأتيها الباطل. ومن باب المصادفة البحتة، تبيَّن أن البشر يعتقدون أن العدد (٣) هو أول عدد كامل.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن عقيدة التثليث المسيحية تختلف كل الاختلاف عن عقائد الوثنيين في آلهتهم، كما تختلف أيضاً كل الاختلاف عن آراء الفلاسفة جميعاً، وأن كل القرائن تدل على أن الرسل لم يقتبسوا شيئاً من العقائد الوثنية أو الآراء الفلسفية، بل كانوا يسجلون تعليم المسيح وحده. اتضح لنا أن كل الاعتراضات السابقة لا نصيب لها من الصواب إطلاقاً. وقد شهد بهذه الحقيقة الأستاذ عباس محمود العقاد، فقال: «فكرة اللّه في المسيحية، لا تشبهها فكرة أخرى في ديانات ذلك العصر الكتابية أو غير الكتابية». وقال أيضاً: «روح المسيحية في إدراك فكرة اللّه، هي روح متناسقة تشفُّ عن جوهر واحد، لا يشبهه إدراك فكرة اللّه في عبادة من العبادات الوثنية، فالإيمان باللّه على تلك الصفة فَتْح جديد لرسالة السيد المسيح، لم يسبقه إليها في اجتماع مقوّماتها رسول من الكتابيين ولا غير الكتابيين، ولم تكن أجزاءً مقتبسة من هنا وهناك، بل كانت كلاماً متجانساً من وحي واحد وطبيعة واحدة» (كتابه «اللّه» ص ١٤٩، ١٥٤).
اعتراض (٧): «اقتُبست عقيدة التثليث من آراء فيلون اليهودي الذي وُلد سنة ٤٠ ق.م، لأنه كان يقول بوجود كائن يُدعى «الكلمة» يقرن اللّه بالمخلوقات، ويقرن المخلوقات باللّه» .
الرد: (أ) لم يردْ ذكر أقنوم «الكلمة» الذي هو أحد أقانيم الثالوث الأقدس في الإنجيل وحده حتى كان يجوز الادّعاء بأن عقيدة التثليث مقتبسة من آراء فيلون، بل أن التوراة التي كانت في الوجود قبل فيلون بمئات السنين، ذكرت الشيء الكثير عنه، كما اتضح لنا في الباب الأول.
(ب) تنصّ عقيدة التثليث على أن الآب والابن والروح القدس هم اللّه الواحد، وأن كلاًّ من الآب والابن والروح القدس له أقنوميته الخاصة. لكن فيلون كان يقول إن الكلمة ليس هو اللّه، بل هو مخلوق خلقه اللّه، وإنه ليس أقنوماً بل هو العقل أو الفكر. فضلاً عن ذلك فإنه لم يذكر شيئاً عن الروح القدس إطلاقاً، ولذلك لا يعقل أن تكون عقيدة التثليث، قد اقتُبست من آراء فيلون كما يقول المعترضون.
(ج) فضلاً عن ذلك، فإن رأي فيلون في «الكلمة» هو رأي كثيرين من الفلاسفة في كل دين من الأديان. وكل ما في الأمر أن بعضهم كان يستعمل عوضاً عن «الكلمة» عبارة «العقل المدبر للكون» أو عبارات مشابهة لها. ويرجع السبب في إجماعهم على التسليم بوجود هذا الكلمة أو العقل، إلى اعتقادهم أن وحدانية اللّه مطلقة أو مجردة، لأنه إذا كانت هذه وحدانيته، فانه يكون منزَّهاً عن الاتصال بالعالم مباشرة، لأن اتصاله به يجعله معرَّضاً للتغيُّر والتطوُّر. وهذا دليل غير مباشر على أن كون اللّه ثلاثة أقانيم، أمر يتوافق مع ثباته.
اعتراض (٨): «اقتُبست عقيدة التثليث من آراء أفلوطين، الذي عاش في القرن الثاني للميلاد، لأنه كان يقول إن اللّه أقانيم».
اعتراض (٩): «رسل المسيح هم الذين ابتدعوا عقيدة التثليث وأذاعوها بين الناس».
الرد: (أ) إن عقيدة التثليث أصلية في التوراة كما تبين لنا في الباب الأول. وعندما جاء السيد المسيح إلى الأرض أعلن صدقها بكل وضوح وجلاء، كما تبين من البابين الثاني والثالث. فإذا أضفنا إلى ذلك، أن هذه العقيدة ليس لها نظير في الطبيعة أو مؤلفات أهل العالم على الاطلاق، كما قلنا في الرد على الاعتراض السادس، وأن الرسل كان يختلف بعضهم عن البعض الآخر في الطباع والثقافة والسن والنشأة والعمل، كما حلَّت بهم كثير من المحن والاضطهادات اضطرتهم إلى التشتُّت في نواحي العالم المتعددة، اتضح لنا أنه لا يمكن أن يكونوا قد اتفقوا فيما بينهم على ابتداع عقيدة التثليث أو غيرها من العقائد المسيحية.
(ب) ولو فرضنا جدلاً أن الرسل قد ابتدعوا عقيدة التثليث (كما يقول المعترضون) فهل من المعقول أنهم كانوا يجرؤون على إذاعتها، وهم يعلمون تمام العلم أنها تتعارض كل التعارض مع ما يتمسك به الناس من عقائد عن اللّه، وأنها أسمى من مداركهم سمواً لا يستطيعون بلوغه على الاطلاق، وأنهم بذلك يعرّضون أنفسهم لمقاومة هؤلاء الناس واضطهادهم، كما يعرّضون كل تعاليم الإنجيل للرفض والمقاومة؟! الجواب: طبعاً كلاَّ. إذن فإذاعتهم لهذه العقيدة على الرغم من كل ذلك دليل على أنهم لم يبتدعوها، بل عرفوها من المسيح نفسه.
كما أننا لو فرضنا أيضاً جدلاً أنهم ابتدعوها وأذاعوها على الرغم من كل هذه الموانع والعوائق، أما كانوا يحاولون البرهنة على صدقها بالأدلة التي كانوا يرونها كافية لإقناع الناس؟! الجواب: طبعاً نعم. لكن إذا فحصنا الكتاب المقدس لا نعثر في عبارة واحدة منه على أية محاولة من هذا النوع. كما أننا إذا تأملنا جميع الآيات الخاصة بالتثليث، رأينا أنها لا ترِد بأسلوب يلفت النظر إليها بصفة خاصة، أو يدل على أنها متعلّقة بموضوع جديد، لا علاقة له بغيره من الموضوعات الكتابية، بل ترِد بأسلوب الكتاب المقدس العادي، وفي حالة التوافق الكامل مع جميع موضوعاته الأخرى. وقد اشار الأستاذ العقاد إلى هذه الحقيقة، فقال في كتابه «اللّه» ص ١٤١ «الأناجيل تدل على رسالة واحدة صدرت من وحي واحد». ولذلك ليس هناك مجال للظن بأن الرسل قد ابتدعوا هذه العقيدة كما يقول المعترضون.
(ج) أخيراً نقول، إن الرسل كانوا من اليهود، الذين تعلموا منذ نعومة أظافرهم أنه لا يوجد إلاّ إله واحد، وأن من يشرك به يُرجَم في الحال بواسطة أهله وعشيرته (تثنية ١٣: ١٠). لكن لما اتصلوا بالسيد المسيح، وشاهدوا كماله المطلق، وسلطانه الذي لا حدَّ له على الموت والطبيعة، وسمعوا شهادته عن نفسه (يوحنا ٨: ٣٥)، وشهادة السماء أيضاً عنه أنه ابن اللّه، مرة عند المعمودية، وأخرى عند التجلي (متى ٣: ١٧، ١٧: ٥)، ثم رأوه في أواخر خدمته على الأرض قد غلب الموت الذي غلب الناس قاطبة، فقام من بين الأموات في اليوم الثالث، كما سبق وقال، وصعد بعد ذلك بجسده حياً إلى السماء (أعمال ١: ٩)، مخالفاً بذلك نواميس الطبيعة جميعاً، واختبروا بعد صعوده عنهم حضوره بالروح معهم، وشفاءه للمرضى وإقامته للموتى على أيديهم، عندما كانوا يذكرون اسمه (أعمال ٣: ٦، ٤: ١٠)، أيقنوا كل اليقين أنه «الابن» أو «الكلمة» أو «الحكمة» الذي سبق وشهد الأنبياء عنه.
أما من جهة «الآب»، فقد سمعوا من السيد المسيح عنه، وعن علاقته به ووحدته معه في اللاهوت بكل صفاته وخصائصه، وعن محبته أيضاً لهم واهتمامه بأمرهم (يوحنا ١٦: ٢٧). كما سمعوا صوت الآب، مرة عند المعمودية وأخرى عند التجلي (متى ٣: ١٦، ١٧: ٥) ولذلك أدركوا كل الإدراك أنه «تعيُّن» آخر للاّهوت.
وكذلك «الروح القدس». فقد سمعوا من المسيح عنه وعن علاقته به ووحدته معه في كل شيء، وعن وجوب طاعتهم لإرشاده وتعليمه، كما سمعوا منه الوعد بمجيئه إليهم أو ظهوره لهم، ليكون فيهم يعلّمهم ويرشدهم ويقدّرهم على القيام برسالتهم (يوحنا ١٦: ١٣-١٦). وبعد صعود المسيح بعشرة أيام، اختبروا فعلاً ظهور الروح القدس وحلوله عليهم، كما اختبروا بعد ذلك مواهبه وقوته، وتوجيهه لهم في دعوة الناس وهدايتهم (أعمال ١٣: ٢)، فأدركوا عملياً أنه تعيُّن ثالث للاّهوت. ولذلك لم يشيروا إليه في حديثهم عنه بالكلمة المقابلة لـ «it» الإنكليزية، التي تُستعمل (فيما تُستعمل لأجله) للشيء العام أو المبهم، والتي كانت تُستعمل في أيامهم للروح عامة، بل أشاروا إليه بالكلمة المقابلة لـ «he» الإنكليزية، التي لا تُستعمل إلا للمذكر العاقل، على اعتبار أن الضمير المستعمل مع لفظ الجلالة «اللّه»، هو ضمير المذكر العاقل (إقرأ يوحنا ١٤: ١٦، ١٧، ٢٦، ١٥: ٢٦، ١٦: ٧، ٨، في الأصل اليوناني في الترجمة الإنكليزية مثلاً).ناني في الترجمة الإنكليزية مثلاً).
مما تقدَّم يتضح لنا أن الرسل فضلاً عن أنهم لم يبتدعوا عقيدة التثليث، فإنه لم يكن أيضاً يدور بخلدهم عندما بشّروا وكتبوا عن «الآب والابن والروح القدس» أنهم يثيرون معضلة فكرية، لأنهم كانوا يؤمنون بإله أو لاهوت واحد، كما يؤمن سائر اليهود المؤمنين. ومن الناحية الأخرى كانوا مقتنعين كل الاقتناع، بناءً على اختبارهم الشخصي، أن هذا الإله الواحد أو اللاهوت الواحد، هو بعينه «الآب والابن والروح القدس» كما سبق المسيح وأعلن لهم، ولذلك نادوا بالتثليث دون تردد - فالمسيح لم يفرض هذه العقيدة على الرسل فرضاً، ولا هم آمنوا بها إيماناً أعمى (كما يُقال)، ولا هم ابتدعوها من عندياتهم كما يقول المعترضون، بل عرفوها من المسيح، واختبروا حقيقتها بأنفسهم مرات متعددة، وهذا دليل قاطع على صدقها.
اعتراض (١٠): «كيف يكون الآب إلهاً، والابن إلهاً، والروح القدس إلهاً، ولا يكونون ثلاثة آلهة!».
الرد: إننا لا نؤمن أن الآب إله، والابن إله، والروح القدس إله، حتى يصح الاعتراض بأننا نؤمن بثلاثة آلهة، بل نؤمن أن الآب هو اللّه والابن هو اللّه والروح القدس هو اللّه. ولا مجال للاعتراض على ذلك إطلاقاً، لأنه بما أن جوهر الآب (وهو اللاهوت) هو نفسه جوهر الابن، وهو نفسه جوهر الروح القدس، وبما أن اللاهوت أو اللّه واحد ووحيد ولا يتجزأ أو يتفكك على الإطلاق - إذن فلا غبار على القول إن كلاًّ منهم هو اللّه، وإنهم معاً هم اللّه. هذه حقيقة منطقية لا شك فيها، وإن كانت لا تتحقق في أي كائن من الكائنات المنظورة، وذلك بسبب تكوّنها من عناصر وأجزاء، إلا أنها تتحقق في ذات اللّه وتتوافق مع كماله كل التوافق، لأنه واحد ووحيد، وأقانيمه ليسوا أجزاء أو عناصر فيه، بل هم تعيُّنه الخاص، أو بتعبير آخر هم عين ذاته.
اعتراض (١١): «إذا كان جوهر الأقانيم واحداً، فلماذا يكونون ثلاثة؟».
الرد: هذا الاعتراض سبق الرد عليه في التمهيد، فقد قلنا إنهم واحد من ناحية الجوهر أو الذاتية، وثلاثة من ناحية التعيُّن أو الأقنومية، ولا تناقض في ذلك على الإطلاق. أما لماذا كان اللّه ثلاثة أقانيم مع أنه جوهر واحد، فهذا سؤال لا يسأله عاقل، لأننا لا نعرف علل الأشياء جميعاً، لا سيما ما كان منها فوق الطبيعة، لكن نعلم علم اليقين، انه لولا أن اللّه أقانيم، لَمَا كانت صفاته بالفعل، بل ولَمَا كانت له صفات إيجابية إطلاقاً، ولَمَا كانت له تبعاً لذلك أية علاقة مع خلائقه. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى، لكان قيامه بالخلق (لو فرضنا جواز قيامه به، وهو على هذه الحال) أمراً ضرورياً له، لجأ إليه ليبرز به صفاته، ولكان أيضاً قد تعرض بسببه للتطور والتغيُّر، كما قلنا في التمهيد. فكون اللّه ثلاثة أقانيم هو من مستلزمات الكمال الذي يتصف به، لأنه على أساسه (إن جاز هذا التعبير) تكون صفاته بالفعل منذ الأزل، ويكون مستغنياً بذاته عن كل شيء سواها، ويكون ثابتاً لا يتعرض للتغيُّر أو التطور، عند قيامه بأي عمل من الأعمال.
اعتراض (١٢): «أليس بقولنا إن اللّه هو الآب والابن والروح القدس، قد اعتبرناه مُرَكَّباً، وكل مُرَكَّب قابل للتجزئة، مع أنه حاشا للّه أن يكون مُرَكَّباً أو قابلاً للتجزئة؟».
الرد: المُرَكَّب هو المكوَّن من أكثر من عنصر واحد، والأقانيم ليسوا عناصر في اللّه أو أجزاء فيه، بل إنهم تعيُّنه الخاص. وتعيُّن اللّه وجوهره واحد، لأن اللّه هو اللاهوت، واللاهوت هو اللّه، ولذلك فكون اللّه هو الآب والابن والروح القدس لا يدل على أنه مُرَكَّب. وبما أنه ليس مُرَكَّباً لا يكون قابلاً للتجزئة بأي وجه من الوجوه.
اعتراض (١٣): «إن التثليث يجعل اللّه جنساً من الأجناس، أو نوعاً من الأنواع، مع أنه لا شريك له».
الرد: الجنس، كما يقول رجال المنطق، هو كُلي ذاتي تندرج تحته أفراد (أو أصناف) مختلفة من جنسه. فالنبات جنس يشمل القطن والقمح والذرة وغير ذلك. والنوع هو كُلي ذاتي تندرج تحته أفراد (أو أصناف) متشابهة من نوعه. فالقمح مثلاً نوع من أنواع النبات، يشمل أصنافاً كثيرة مثل القمح الهندي والصعيدي والبحيري. وعلى ضوء هذه الحقيقة نقول: بما أن اللّه في ثالوثه ليس واحداً من أفراد متشابهة أو مختلفة، لأن ثالوثه ليس شيئاً سوى ذاته عينها، لذلك لا يعتبر في ثالوثه جنساً من الأجناس أو نوعاً من الأنواع.
اعتراض (١٤): «إذا كان اللّه لا يُعتبر في ثالوثه جنساً من الأجناس أو نوعاً من الأنواع، فلماذا يُقال في بعض دروس المنطق «هناك من الألفاظ والتصورات ما يعده الواحد مفرداً أو جزئياً، ويعده الآخر عاماً أو كلياً. فمثلاً اللفظ «اللّه»، يعده الموحِّد مفرداً أو جزئياً، بينما يعده المُشرِك عاماً أو كلياً، بوصفه اسم واحد من الآلهة التي يؤمن بها».
الرد: إن كان المراد بالمشرك في هذه العبارة هو المسيحي، فليس هناك مسيحي في الوجود، يؤمن بآلهة أو إله مع اللّه. وإن كان المراد به هو الوثني، فالوثني لا يؤمن بـ «اللّه» بل يؤمن بآلهة غير «اللّه». لأنه لو كان يؤمن بـ «اللّه» بأل التعريف، كما يؤمن المسيحي، لما آمن بآلهة غيره. ولذلك فالمراد بالمشرِك في هذه العبارة لا يمكن أن يكون هو الوثني أو المسيحي. وإذا كان الأمر كذلك، علمنا أن جهل أساتذة المنطق بحقيقة التثليث في المسيحية هو الذي جعلهم يخلطون الحق بالباطل فينتقدون ما هو جدير بالتأييد، ويتهكمون على ما هو جدير بالاعتبار والتقدير.
اعتراض (١٥): «وكيف يكون الثلاثة أقانيم واحداً، مع أن لكلٍّ منهم عملاً خاصاً!».
الرد: بما أن قيام أي أقنوم بعمل من أعمال اللاهوت لا يكون بالاستقلال عن الأقنومين الآخرين، بل بالاتحاد معهما، وذلك لوحدة جوهرهم، كما ذكرنا مراراً وتكراراً، لذلك ليس هناك أي تناقض بين قيام كل منهم بعمل خاص، وكونهم معاً اللّه الواحد.
اعتراض (١): «قول السيد المسيح إن الآب أرسل الابن إلى العالم (يوحنا ٥: ٣٧) يدل على أن الآب أسمى من الابن مقاماً».
الرد: مجيء الابن إلى العالم ليس معناه تحرّكه من مكان إلى مكان، بل مجرد ظهوره في العالم بهيئة واضحة، لأن اللاهوت مُنَزَّه في ذاته عن التحيُّز بمكان، وبالتبعية من الانتقال من مكان إلى مكان. ولم يكن مجيء الابن بإرادة الآب مستقلة عن إرادة الابن، بل كان بإرادتهما وإرادة الروح القدس معاً - فقد قال المسيح: «مِنْ عِنْدِ ٱللّٰهِ خَرَجْتُ» (يوحنا ١٦: ٢٧)، أي خرجت بمحض إرادتي. وقال الرسول عنه (فيلبي ٢: ٦، ٧): «ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ (أو الذي إذ كان كائناً في صورة اللّه)، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ» أي أنه أخلى نفسه وأخذ صورة عبد بمحض إرادته. وعن مجيء المسيح بإرادة الآب والروح القدس معاً، قال له المجد على لسان إشعياء النبي سنة ٧٠٠ ق م «وَٱلآنَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ»(إشعياء ٤٨: ١٦).
ولوحدة جوهر الأقانيم الثلاثة لا يكون إرسال الآب للابن دلالة على وجود أي تفاوت بينهما، بل بالعكس يدل على توافقهما، وتوافق الروح القدس أيضاً معهما في الاهتمام بالبشر والعطف عليهم. أما السبب في ظهور الابن (أو مجيئه) دون الأقنومين الآخَرين، فيرجع إلى أنه هو الذي يعلن اللّه ويظهره، كما مرَّ بنا في الباب الثالث.
اعتراض (٢): «يدل قول المسيح: «أبي أعظم مني» (يوحنا ١٤: ٢٨) على أنه أقل من الآب مقاماً» .
الرد: لا يقصد السيد المسيح بقوله هذا إن الآب أعظم منه من ناحية كونه «ابن اللّه» أو «الابن الأزلي» لأنه من هذه الناحية واحد مع الآب في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته. فقد قال عن نفسه: «أنا والآب واحد»، و «أنا في الآب والآب فيَّ»، و «مَنْ رآني فقد رأى الآب»، و «لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب». ولكنه يقصد أن الآب أعظم منه، من ناحية كون المسيح «ابن الانسان» فقد أخلى نفسه، وأخذ صورة العبد الكامل، الذي ينفذ جميع مقاصد اللّه (فيلبي ٢: ٧). ويُقصد بـ «العبد الكامل» في فلسفة ابن العربي «العقل بالفعل» أو «اللّه عاملاً»لأنه جمع في عين واحدة الحضرة الإلهية بكل صفاتها. والكتاب المقدس قد سبق وأشار إلى ذلك، فقد أطلق اسم «العبد الكامل» على السيد المسيح، الذي هو «اللّه معلَناً» (إشعياء ٥٢: ١٣).
والقرينة تثبت صحة ذلك، لأننا إذا رجعنا إلى الآية المعترَض بها، وجدنا المسيح يعلن أن الآب أعظم منه بمناسبة عودته إليه، بعد إتمام مهمة الفداء التي جاء لأدائها. ونحن نعلم من الكتاب المقدس أنه له المجد قد قام بهذه المهمة بوصفه «ابن الانسان» فقد قال: «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لوقا ١٩: ١٠، متى ١٨: ١١)، وقال «ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (متى ٢٠: ٢٨).
اعتراض (٣): «يدلّ قول السيد المسيح لتلاميذه: «إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلٰهِي وَإِلٰهِكُمْ» (يوحنا ٢٠: ١٧)، وقوله: «إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (متى ٢٧: ٤٦) على أنه كان واحداً من البشر لا أكثر ولا أقل» .
الرد: السيد المسيح هو أحد أقانيم اللاهوت، لكن بتجسُّده من جنسنا أصبحت له طبيعتان كاملتان، هما اللاهوت والناسوت. هاتان الطبيعتان متحدتان كل الاتحاد. فمن حيث اللاهوت كان ولا يزال وسيظل إلى الأبد هو اللّه بعينه، الذي لا إله مثله إطلاقاً، فمكتوب أنه فيه «يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي ٢: ٩)، وأنه «ٱلْكَائِنُ عَلَى ٱلْكُلِّ إِلٰهاً مُبَارَكاً إِلَى ٱلأَبَدِ» (رومية ٩: ٥). أما من حيث الناسوت فكان كأحد الناس، ولذلك كان يدعو اللّه من هذه الناحية أباً وإلهاً له. لكنه كان خالياً من الخطيئة خلواً تاماً، الأمر الذي لا يتوافر في إنسان ما.
وتُثبت القرينة صدق هذه الحقيقة، فإذا رجعنا إلى أولى الآيتين المعترض بهما، وجدنا المسيح يقول إن اللّه أبوه وإلهه، بمناسبة إعلانه عن عودته إليه، بعد إتمام مهمة الفداء التي جاء للعالم للقيام بها لأجلنا، بوصفه ابن الإنسان.
وإذا رجعنا إلى الآية الثانية وجدنا المسيح يدعو اللّه إلهاً له، عندما كان معلَّقاً على الصليب كفارة عن الإنسان. وكان قد سمح أن يُعلَّق عليه لهذا الغرض بوصفه «ابن الانسان»، (لأن الكفارة تكون دائماً من نوع المكفَّر عنه)، كما أن قوله بعد ذلك للّه: «لماذا تركتني؟» يدل على أنه لم ينطق به كابن اللّه، لأنه من هذه الناحية واحد مع الآب والروح القدس في اللاهوت، ولا انفصال له عنهما على الإطلاق. لكن هناك حالة واحدة يصح أن يُترك فيها من اللّه، وهي حالة وجوده كابن الإنسان للقيام بالتكفير عن الناس، لأن المكفِّر يجب أن يضع نفسه موضع الذين يكفِّر عنهم من كل الوجوه، حتى تكون كفارته حقيقية وقانونية. ولما كان الناس عن بكرة أبيهم خطاة، ويستحقون الترَّك من اللّه إلى الأبد، سمح له المجد أن يُعتبر أثيماً، وأن يُترك من اللّه عوضاً عنهم، وأن يحتمل كل ما يستحقونه من قصاص، حتى يصيروا أبراراً، ولهم حق الاقتراب من اللّه والتمتع به، إن هم قبلوا كفارته، وسلموا حياتهم له تسليماً كاملاً.
اعتراض (٤): «يدل قول السيد المسيح: «وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لا فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَلا فِي ٱلآتِي» (متى ١٢: ٣٢)، على أن الروح القدس أسمى مقاماً من الابن» .
الرد: غرض المسيح من هذه الآية أن يعلن لسامعيه أن الذين لم يؤمنوا بلاهوته من الناس الذين كانوا في عهده، يُلتمس لهم بعض العذر، لأنهم لم يروه كاللّه الذي لا حدَّ لمجده أو جلاله، بل رأوه كإنسان محدود متحيّز بحيّز. أما الذين أنكروا منهم قوة الروح القدس التي كان يعمل بها معجزاته وأسندوها إلى الشيطان، فليس لهم عذر على الإطلاق، لأن قوة الروح القدس كانت ظاهرة بدرجة لا تدع مجالاً للشك أمام إنسان ما في أنها قوة اللّه نفسه، ولأنهم أيضاً كانوا يعلمون تمام العلم، كما يعلم جميع الناس في كل العصور، أن الشيطان لا يشفي المرضى أو يحيي الموتى، كما كان يفعل المسيح بقوة الروح القدس. ولذلك فمن البديهي ألا يُغفر لهم ذنب إنكارهم لشخصيته والحطّ من مكانته، لأن هذا التصرّف رفض متعمَّد للّه وأعماله، وإصرار على عدم الطاعة لسلطانه. ومن يتصرف هكذا يطوّح نفسه بعيداً عن رحمة اللّه، ويحرمها من عفوه وغفرانه. فليس هناك مجال للظن، بأنه يُفهم من هذه الآيات أن أقنوم الروح القدس أفضل مقاماً من أقنوم الابن. ومما يدل أيضاً على صدق هذه الحقيقة أنه له المجد لم يقل: من قال كلمة على ابن اللّه يُغفر له، بل قال: «من قال كلمة على ابن الانسان يُغفر له»، لأنه كابن الإنسان، كان يبدو كأحد الناس، ولذلك كان من المحتمل أن يشك في شخصيته الذين لم يكن لديهم علم بما هو مكتوب في التوراة عنه. وشكهم هذا، كان من الجائز أن يُغفر لهم، لو أنهم لم يشاهدوا معجزاته، التي كان يعملها بقوة الروح القدس.
اعتراض (٥): «يدل قول السيد المسيح» «خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ ٱلآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَيْضاً أَتْرُكُ ٱلْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى ٱلآبِ» (يوحنا ١٦: ٢٨)، على انفصال الابن عن الآب، أو بتعبير آخر على عدم وحدته معه.
الرد: المسيح باستعماله الكلمات «خرجت.. أتيت.. أترك.. أذهب» يكلّمنا باللغة التي نفهمها. أما من حيث هو في ذاته، فإنه لا ينتقل من مكان إلى مكان، لأنه لا يتحيَّز بحيِّز. وقد شهد له المجد بهذه الحقيقة، فذكر عندما كان موجوداً بالجسد على الأرض، أنه كان في نفس هذا الوقت موجوداً في السماء (يوحنا ٣: ١٣)، كما ذكر أنه بعد انطلاقه عن تلاميذه بالجسد، سيكون ماكثاً معهم، كما سيكون ماكثاً أيضاً إلى انقضاء الدهر مع جميع المؤمنين الحقيقيين، في كل أنحاء الأرض (متى ٢٨: ٢٠). وهذا دليل واضح على أن ظهوره في مكان ما لا يؤدي إلى انفصاله عن اللاهوت، أو انفصاله عن أحد الأقنومين الآخرين، بأي حال من الأحوال. وقولنا «في مكان ما» هو بالنسبة إلينا، وليس بالنسبة إلى اللّه، لأن اللّه لا يتحيَّز بمكان. ولا غرابة في ذلك، فجوهر الأقانيم وهو اللاهوت، غير قابل للانقسام أو التجزئة، أو التحيّز بمكان أو زمان، فهم مميَّزون أحدهم عن الآخر، لكنهم واحد بوحدانية غير قابلة للتفكك على الإطلاق.
اعتراض (٦) : «إذا كان الأقانيم واحداً في الخصائص والصفات، فلماذا يُقال إن الآب كان يمثل العدالة، ولذلك كان يريد القضاء على البشر بسبب خطاياهم، وان الابن كان يمثّل الرحمة، ولذلك ظهر في العالم ومات على الصليب كفارة عنهم؟».
الرد: هذا القول ليس له أساس في الكتاب المقدس، لأن الاقانيم الثلاثة - لوحدة جوهرهم - يتَّصفون بالعدالة والرحمة (وباقي الصفات الأخرى) بدرجة واحدة. فاللّه بأقانيمه (وليس أقنوم واحد) لا يحب الخطيئة، ولا يقبل الناس الملوَّثين بها في حضرته، وفي الوقت نفسه يحب هؤلاء الناس ويعطف عليهم إلى درجة لا حدَّ لها، لأنه سبق وخلقهم على صورته كشبهه. ولذلك فإن المسيح على الصليب لم يكن معلِناً لرحمة اللّه فقط، بل كان معلِناً لعدالة اللّه ورحمته معاً، فقد قبل في ذاته نتائج الخطيئة بأسرها تحقيقاً للعدالة، وقبلها نيابة عن الناس تحقيقاً للرحمة (وقد تفرَّد بهذا العمل لأنه الأقنوم الذي يعلن اللّه)، وقد شهد الكتاب المقدس بهذه الحقيقة فقال: «إِنَّ ٱللّٰهَ (أو اللاهوت) كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ. إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، (يقصد السيد المسيح)، (كفارة) خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (٢كورنثوس ٥: ١٩-٢١). كما أنه لا سبيل للظن بأن عمل «الابن» في الفداء أعظم من عملي الآب والروح القدس فيه، فإن آلام الكفارة لم تقع على اللاهوت، بل على ناسوت المسيح وحده، لأن اللاهوت غير قابل للتأثر بأي مؤثر - كما أن الأقانيم واحد في الجوهر بكل صفاته وخصائصه. فإن كان الابن قد بذل نفسه عنا، فهو لم يقم بذلك بالاستقلال عن الأقنومين الآخرين، بل بالاتحاد معهما، فالآب بذله، وبالروح الأزلي قدّم هو نفسه، وبذلها.
اعتراض (٧): «قول السيد المسيح عن الروح القدس إنه ينبثق من الآب (يوحنا ١٥: ٢٦)، يدل على أن الآب كان موجوداً قبل الروح القدس، وأن الروح القدس قد انفصل منه، وهذا يتعارض مع القول بأقنوميته، لأن انبثاقه يدل على أنه مجرد قوة، كما يتعارض مع القول بوحدانيته مع الآب في الأزلية، وفي خصائص اللاهوت الأخرى، تبعاً لذلك».
الرد: ليس الروح القدس منبثقاً من الآب بمعنى أنه منفصل منه أو صادر عنه، لأن الكتاب المقدس ينكر نظرية الصدور التي قال بها الفلاسفة إنكاراً تاماً. أما الآية الخاصة بانبثاق الروح القدس فهي «روح الحق الذي من عند الآب ينبثق». وشتان بين الانبثاق من الآب والانبثاق من عند الآب. فالعبارة الأولى تدل على أن الآب سابق في وجوده للروح القدس، وأن الروح القدس منفصل منه أو صادر عنه، بينما العبارة الثانية تدل على أن الروح القدس موجود مع الآب، ثم انبثق أو خرج (أو بالأحرى ظهر) من عنده من تلقاء ذاته.
ولا يُقصد بالعبارة «من عند» هنا مكان ما، لأن اللاهوت منزه عن المكان والزمان، بل يُقصد بها التعبير باللغة التي نفهمها، على أن الروح القدس أقنوم خاص، وأنه كان مع الآب قبل حلوله على المؤمنين. ولذلك نرى أن العبارة «من عند» هذه، هي بعينها التي استُعملت في موضع آخر للدلالة على وجود أقنوم الابن مع الآب قبل ظهوره في العالم، فقد قال له المجد مرة «خَرَجْتُ (أو ظهرت) مِنْ عِنْدِ ٱلآبِ» (يوحنا ١٦: ٢٨، ١٧: ٨). أما من حيث أزلية الروح القدس والابن معاً، فقد تحدثنا عنها بالتفصيل في الباب السابق.
كما نلاحظ أن الفعل ينبثق، مبني للمعلوم وليس للمجهول، وهذا دليل آخر على أن الآب لم يخرج الروح القدس من ذاته، بل أن الروح القدس هو الذي خرج أو ظهر من تلقاء ذاته، الأمر الذي يدل على أنه لم يكن جزءاً من الآب، وأخرجه الآب من ذاته، بل أنه كان معه أزلاً.
فإذا رجعنا إلى اللغة الإنكليزية مثلاً، وجدنا أنها لا تعبّر عن «من عند» في هذه الآية بـ «out of» مثلاً، التي تدل على الانتقال من الداخل إلى الخارج، بل يعبر عنها بـ «from»، أي «من عند». وهذا دليل على أن الروح القدس ليس منبثقاً من الآب بمعنى أنه خارج من ذاته، بل بمعنى أنه خارج (أو ظاهر) من عنده، الأمر الذي يدل على أنه كان بأقنوميته معه، قبل حلوله على المؤمنين.
وفي ضوء هذه الحقيقة نقول: بما أن الروح القدس كان مع الآب والابن أزلاً، وبما أن انبثاقه لا يُقصد به انفصاله من أقنومية الآب، بل خروجه أو ظهوره من عنده، وبما أن الكتاب المقدس قد عبّر عن هذا الانبثاق في موضوع آخر بالإرسال (يوحنا ١٤: ٢٦)، وبما أن هذا الارسال، كما هو مسند إلى الآب، مسند أيضاً إلى الابن (يوحنا ١٥: ٢٦)، إذن لا خطأ في القول إن الروح القدس منبثق من عند الآب والابن، بمعنى أنه خارج من عندهما. وإذا كان الأمر كذلك، لا يكون هناك اختلاف بين الأرثوذكس والكاثوليك والإنجيليين في هذا الموضوع. لأن الفريقين الأخيرين لا يعتقدان أن الآب والابن قد بثقا الروح القدس، بل بالعكس يعتقدان أن الأقانيم الثلاثة واحد في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته، وأن الانبثاق المسنَد إلى الروح القدس معناه الظهور وليس الصدور. ولذلك فإن هذه الآية لا تدل على عدم أقنومية الروح القدس أو أسبقية الآب له في الوجود، كما يقول المعترضون، بل تدل على أقنوميته ووجوده السابق مع الآب.
اعتراض (٨): «إذا كان كل أقنوم غير الآخر، فإن الصلاة إلى أحد الأقانيم، لا تكون للأقنومين الآخرين، ولذلك لا تكون موجَّهة إلى اللّه في ذاته».
الرد: وإن كان كل أقنوم غير الآخر، إلا أن الثلاثة أقانيم واحد في اللاهوت، واللاهوت واحد ووحيد، وغير قابل للتفكك على الإطلاق كما ذكرنا مراراً وتكراراً. ولذلك فإن الصلاة المقدمة للآب (مثلاً) هي مقدَّمة للّه أو للاهوت في تعيُّن الآب أو أقنوم الآب. ونظراً لأن لاهوت الآب هو بعينه لاهوت الابن والروح القدس أيضاً، تكون الصلاة المقدمة للآب مقدمة للّه في ذاته.
اعتراض (٩): «إذا كانت عقيدة التثليث حقيقة موحى بها، فلماذا لم يعلنها اللّه بالتفصيل في التوراة، من أول الأمر؟».
الرد: نظراً لانتشار الوثنية في الأزمنة الغابرة، واحتمال إساءة اليهود فَهْم حقيقة التثليث وقتئذ، وجواز اتخاذهم إياها أساساً للاعتقاد بصدق عقيدة تعدد الآلهة، التي كان الوثنيون يؤمنون بها، كان من البديهي ألا يقوم اللّه (وهو العليم بسرعة زيغان الانسان وراء الباطل) بإعلان حقيقة كونه ثلاثة أقانيم دفعة واحدة، بل أن يعلنها لهم شيئاً فشيئاً، وذلك تبعاً لاتساع مداركهم الروحية والعقلية. ولذلك إذا رجعنا إلى التوراة، اتضح لنا أنه كان يعلن فيها أنه ليس أقنوماً واحداً بل أقانيم، كما ذكرنا في الباب الأول من هذا الكتاب.
اعتراض (١٠): «هناك آيات كثيرة تدل على أن الابن» مخلوق بواسطة اللّه أو مولود منه، فقد قال الرسول بالوحي: «المسيح بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ» (كولوسي ١: ١٥-١٧)، وقال أيضاً: «يسوع المسيح بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ ٱللّٰهِ» (رؤيا ٣: ١٤)،وقال اللّه للمسيح: «أَنْتَ ٱبْنِي. أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ» (مزمور ٢: ٧)، وقال النبي بالوحي عنه«الذي مَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا ٥: ٢)، وقال هو عن نفسه على لسان النبي: «اَلرَّبُّ قَنَانِي أَّوَلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. مُنْذُ ٱلأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ ٱلْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ ٱلأَرْضِ. إِذْ لَمْ يَكُنْ غَمْرٌ أُبْدِئْتُ» (أمثال ٨: ٢٢-٢٤).
الرد: هذه الآيات، لا تدل على أن الابن وُلد من اللّه، بمعنى أنه صدر عنه. كما أنها لا تدل على أنه خُلق من اللاشيء بواسطته، بل تدل على أنه أزلي وغير مخلوق، كما يتضح مما يأتي:
(أ) (المسيح) بكر كل خليقة. فإن «فيه خُلق الكل. ما في السموات وما على الأرض» - والفاء في كلمة «فإنه» هي فاء السببية، وهي مترجمة إلى الانكليزية مثلاً «for» أي «لأنه». ولذلك فالمسيح لم يُدْعَ «بكر كل خليقة» لأنه أول شخص خلقه اللّه، كما يقول المعترضون، بل دُعي بهذا لأن كل الخليقة خُلقت فيه. وإذا كان الأمر كذلك، فإن كلمة «بكر» هنا، لا تكون مستعملة بالمعنى الحرفي، بل بالمعنى المجازي. والمعنى المجازي للبكورية هو الرياسة أو الأفضلية والأولوية. وإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس وجدنا أن كلمة «بكر» قد وردت فيه بمعنى «رئيس» أو«أول»، لأن الناموس قد جرى على أن تكون الرياسة للبكر. فقد قال اللّه في (مزمور ٨٩: ٢٧) عن داود النبي: «وأنا أيضاً أجعله بكراً أعلى من ملوك الأرض» مع أن داود كان الابن الثامن لأبيه، وكان بالنسبة إلى الملوك المعاصرين له أصغرهم وأحدثهم سناً. فضلاً عن ذلك فإن كلمة «بكر» هذه استُعملت في موضع آخر عن «المسيح» نفسه، بمعنى رئيس. فقد قال اللّه عنه «لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ» (رومية ٨: ٢٩). ويُقصد بالأخوة هنا المؤمنون الحقيقيون بالمسيح، ويُعتبر المسيح بكراً بينهم أو رئيساً لهم، بوصفه ابن الإنسان الذي مجَّد اللّه على الأرض وتمم مشيئته، مثالاً لما يجب أن يعملوه. ويُعتبرون هم إخوته، بوصفهم قد آمنوا به إيماناً حقيقياً والتصقوا به التصاقاً روحياً، وعقدوا النية على السير في سبيله.
ولذلك لا غرابة إذا كان المسيح قد دُعي «بكر كل خليقة» بمعنى أنه رئيسها وسيدها، لأنه هو الذي أبدعها وأنشأها. واليهود أيضاً يعرفون أن البكورية تعني الرياسة أو السيادة، وأنها عندما تُسند إلى اللّه يُراد بها السيادة المطلقة والرياسة العامة. فقد ورد في التلمود اليهودي: «اللّه القدوس يُدعى بكر العالم، للدلالة على سلطته على كل الكائنات». فإذا أضفنا إلى ذلك أن كلمة «بكر» عندما يُشار بها إلى المسيح، لا تسبقها البتة كلمة «ابن»، فلا يُقال عنه أبداً أنه «الابن البكر»، وأنه لايشار البتة إلى المسيح كمخلوق أو منبثق من اللّه، لا يبقى مجال للشك في أن المراد ببكورية المسيح، ليس ولادته قبل غيره، بل رياسته وسيادته كما ذكرنا.
(ب) «(يسوع المسيح) بداءة خليقة اللّه». هذه الآية لا تقول إن المسيح هو أول شخص خلقه اللّه، بل إنه بداءة خليقة بمعنى أصلها، لأن بداءة الشيء أصله أو مصدره الذي ابتدأ منه. ومما يؤكد لنا صدق هذه الحقيقة أن كلمة «بداءة» هذه موجودة في النسخة اليونانية «أرخى» وترد بمعنى رأس أو مصدر أو أصل، ولذلك فالآية المذكورة، لا تدل على أن المسيح هو أول مخلوق، بل تدل على أنه أصل الخليقة ورأسها ومصدرها. ومما يثبت أيضاً صدق هذه الحقيقة أن المسيح دُعي «البداءة» (كولوسي ١: ١٨) أي «الأصل» أو «أصل كل شيء».
وكلمة «رأس» الواردة في أمثال ٩: ١٠ «بَدْءُ ٱلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ ٱلرَّبِّ» في الأصل اليوناني أو السبعيني «أرخى». وهذه الكلمة هي بعينها المترجمة «بداءة» في الآية «يسوع المسيح بداءة خليقة اللّه»، الأمر الذي يدل على أنه يُراد بها أن يسوع المسيح هو رأس الخليقة. فضلاً عن ذلك فان كلمة «أرخي» هذه، هي أصل الكلمة التي كان يطلقها فلاسفة اليونان على «الأرخونات» أو«الأيونات» التي زعموا أنها هي التي خلقت العالم وتقوم بتدبير شئونه. كأن الوحي باستعماله هذه الكلمة بالذات عن المسيح، يعلن لهم أن رأس العالم أو خالقه والمدبر لأموره، ليس هو الأيونات أو الأرخونات، بل هو «المسيح» أو «الابن الأزلي».
(ج) «أنت ابني. أنا اليوم ولدتك» بالتأمل في هذه الآية يتضح لنا أن البنوّة الواردة فيها ليست متوقّفة على الولادة، بل إنها سابقة لهذه الولادة، أو بتعبير آخر إنها بنوّة بدون ولادة، وذلك للأسباب الآتية:
ولا يُعقل مطلقاً أن يكون معنى الولادة هنا الخلق، لأنه لو فرضنا أن اللّه لم يكن متميزاً بالابن أزلاً (أو بتعبير آخر لو فرضنا أن وحدانيته هي وحدانية مطلقة أو مجردة) وأسندنا إليه بعد ذلك خلق «الابن»، نكون قد أسندنا إليه التغيُّر، إذ يكون قد عمل بعد أن كان لا يعمل، ويكون قد دخل في علاقة بعد أن لم تكن له علاقة. وبما أنه لا يتغير فلا مفرَّ من التسليم بأن «الابن»أزلي بأزلية اللّه أو اللاهوت، أو بتعبير آخر بأن وحدانية اللّه وحدانية جامعة مانعة.
والكلمة اليونانية المترجمة «اليوم» في هذه الآية، لا تدل على زمن من الأزمنة الأزلية، بل تدل على يوم من الأيام العادية، فلا يُفهم منها أن المسيح مولود من اللّه في وقت ما في الأزل، كما يقول بعض الهراطقة، بل يُفهم منها أنه موجود معه منذ الأزل، ولكن ظهر أو تجلى في يوم من الأيام.
وإذا كان الأمر كذلك، فما معنى الولادة في هذه العبارة؟ الجواب: لنفهم معناها علينا أن نتأمل كل الآيات التي وردت فيها هذه العبارة مع ما قبلها وما بعدها من آيات (لأن هذه هي الوسيلة الصحيحة لفهم كل آية في الكتاب).
فأولاً: سجَّل داود النبي بالوحي خطاباً من اللّه إلى المسيح باعتباره ابن الإنسان، جاء فيه: «أَنْتَ ٱبْنِي. أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ ٱلأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ وَأَقَاصِيَ ٱلأَرْضِ مُلْكاً لَكَ» (مزمور ٢: ١-٩).
ثانياً: قال الرسول بولس لليهود: «إِنَّ ٱللّٰهَ أَقَامَ يَسُوعَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَيْضاً فِي ٱلْمَزْمُورِ ٱلثَّانِي: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ» (أعمال ١٣: ٣٣). ويتضح لكل من درس الأصحاح المقتبسة منه هذه الآية، أن كلمة «أقام» هنا لا يُراد بها إقامة المسيح من بين الأموات، بل تنصيبه مخلصاً للعالم بعد إقامته من بين الأموات، مثلها في ذلك مثل كلمة «أقام» في الآية «أَقَامَ ٱللّٰهُ لإِسْرَائِيلَ مُخَلِّصاً»(أعمال ١٣: ٢٣) و «أقام» في الآية «وَأَقَامَ لَهُمْ دَاوُدَ مَلِكاً» (أعمال ١٣: ٢٢). ولكن مما يسترعي الانتباه أن الفعل الخاص باقامة المسيح مخلصاً، يرد في اللغة اليونانية بصيغة المضارع التام، ولذلك يكون المعنى الحرفي للآية أن اللّه أقام يسوع مخلصاً إلى الآن، أما الفعل الخاص بإقامة داود ملكاً فيرد في صيغة الماضي للدلالة على أن خدمته قد مضت وانتهت. فخدمة داود قد عفا عليها الزمن. أما خدمة المسيح فباقية إلى انقضاء الدهر.
ثالثاً: وقال لهم: «لِمَنْ مِنَ ٱلْمَلائِكَةِ قَالَ قَطُّ: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ»؟... وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ ٱلْبِكْرَ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: «وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلائِكَةِ ٱللّٰهِ» (عبرانيين ١: ٥، ٦).
رابعاً: ثم قال لهم: «كَذٰلِكَ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً لَمْ يُمَجِّدْ نَفْسَهُ لِيَصِيرَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ، بَلِ ٱلَّذِي قَالَ لَهُ: أَنْتَ ٱبْنِي أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ» (عبرانيين ٥: ٥).
فمن الآية الأولى، يتضح لنا أن العبارة «أنت ابني، أنا اليوم ولدتُك». قد استُعملت بمناسبة إعلان سلطان المسيح وملكه. ومن الثانية يتضح لنا أنها استُعملت بمناسبة الإعلان عن إقامة المسيح مخلصاً لجميع الناس. ومن الثالثة يتضح لنا أنها استُعملت بمناسبة الإعلان عن سمو المسيح فوق الملائكة. ومن الرابعة يتضح لنا أنها استُعملت بمناسبة الإعلان عن كهنوت المسيح الذي يفوق كل كهنوت.
مما تقدم، يتضح لنا أن الولادة في هذه الآية يُراد بها الإعلان والإظهار وهذا المعنى ليس بالغريب عن مسامعنا، فنحن نعلم أن الولادة يُراد بها معنوياً إظهار غير الظاهر، وإعلان غير المعلَن. والمسيح بسبب وجوده في الجسد كإنسان، لم يكن ظاهراً ومعلناً للناس، كما هو في ذاته، ولذلك كان من البديهي أن يظهره اللّه ويعلنه للناس كما هو، في حقيقة ذاته وأمجاده، أو بحسب التعبير المجازي أن «يلده» لهم.
(د) «الذي مَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا ٥: ٢) - وهذه الآية لا تدل على أن الابن «وُلد» من اللّه في الأزل، لأنه فضلاً عن استحالة حدوث ذلك، للأسباب التي ذكرناها فيما سلف، فإنه لو كان هذا هو المقصود منها، لكان قد قيل «مخرجه» بدلاً من «مخارجه». إذ أن الكلمة الأخيرة تدل على أن «الابن» قد خرج من أكثر من مصدر واحد، مع أن اللّه (لو فرضنا أن الابن خرج منه منذ الأزل، كما يقول المعترضون) هو واحد. ولذلك يُقصد بالآية المذكورة التعبير عن النواحي المتعددة، التي كان ولا يزال يخرج منها الابن، أو بتعبير أدق، يبدو منها لإتمام مقاصد اللاهوت، وذلك بوصفه المعلِن له والمنفِّذ لأفكاره ومقاصده. ومما يؤكد لنا صدق هذه الحقيقة أن كلمة «منذ» تدل دلالة قاطعة على أنه لا يُقصد بهذه الآية أن الابن خرج من عند اللّه في الأزل كعملٍ تمَّ وانتهى، بل تدل على أن مخارجه «going forth» أو «outlets» أو «outgoings»، كانت منذ الأزل ولا تزال إلى الوقت الحاضر. ولذلك فإن فعل هذه العبارة (المستتر في اللغة العربية لإمكانية معرفته، كما يُقال في قواعد هذه اللغة)، موجود في اللغات الأجنبية في صيغة المضارع التام present perfect tense . فهو في اللغة الانكليزية مثلاً «have been» وهذا الفعل يدل تماماً على ما تدل عليه كلمة «منذ» العربية، أي أنه يدل على أن مخارج الابن كانت منذ الأزل ولا تزال إلى الآن. ولذلك لا يمكن أن يكون الغرض من كلمة«مخارجه» هنا، سوى النواحي التي كان ولا يزال يبدو منها الابن، لتنفيذ مقاصد اللاهوت.
(هـ) «الرب قناني أول طريقه، من قبل أعماله، منذ القدم، منذ الأزل» - هذه الآية لا تدل على أن أقنوم «الابن» قد وُلد في الأزل، بل على أنه كان موجوداً منذ الأزل. لأن قوله «قناني» منذ الأزل، يدل على وجوده حينذاك، إذ أن الشيء لا يُقتنى إلا إذا كان أولاً موجوداً. أما اقتناء اللّه (أو اللاهوت) له أول طريقه، من قبل أعماله، منذ الأزل، فذلك لأن أقنوم الابن هو الذي يظهر اللّه ويعلن مقاصده ويتممها. ولا يُراد بالاقتناء هنا المعنى الحرفي الذي هو الحيازة أو التملُّك، بل المعنى الروحي الذي يتوافق مع وحدانية اللّه وثباته، واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود، وهذا المعنى ينحصر في ظهور اللاهوت في أقنوم الابن، وإتمام مقاصده فيه منذ الأزل.
(و) «منذ الأزل مُسحت... إذ لم يكن غمر أُبدئت». و «المسح» أو «المسح بالدهن»، اصطلاح ديني يقصِد به تعيين شخص في وظيفته، وفق مشيئة اللّه. وهذه الآية أيضاً لا تدل على أن الابن خُلق في الأزل، بل على أنه كان موجوداً في الأزل، لأن عبارة «منذ الأزل مُسحت» أو «عُيِّنت»، تدل على أنه كان موجوداً في الأزل، لأن الذي «يُمسح» أو «يُعيَّن» يجب أن يكون أولاً موجوداً. كما أن كلمة «أُبدئْتُ» لا تعني «خُلقْت» على الإطلاق، فهي لم ترد في الأصل بما يقابل «was created» أي «خُلقت»، أو «formed» أي «كُوِّنت» أو «اُنشئت»، بل بما يقابل «was brought forth» أي «أُظهرت» أو «أُعلنت» أو «وُلدت». ومن البديهي ألا يكون الأمر سوى ذلك، لأن «الابن» يُتحدث عنه في (أمثال ٨) بوصفه حكمة اللّه، وليس من المعقول أن يكون اللّه بلا حكمة أصلاً أو أزلاً، ثم يصنع لنفسه، أو يخلق لها الحكمة في وقت من الأوقات، إذ من المؤكد أن يكون متميّزاً بالحكمة أصلاً أو أزلاً، لأن هذا هو ما يتوافق مع كماله وعدم تعرُّضه للتغير أو التطور.
مما تقدم، يتبين بكل وضوح وجلاء، أن الكتاب المقدس لا يُفرِّق بين أقنوم وآخر، وأن الآيات التي يُقال إنها تدل على أسبقية الآب على الابن، أو أفضلية الروح القدس عليه، لا يُراد بالابن فيها«الابن» من حيث مركزه «كابن للّه»، بل من حيث مركزه «كابن الإنسان». أما من حيث مركزه «كابن اللّه» فهو «اللّه» في جوهره. وهو من هذه الناحية، واحد مع الأقنومين الآخرين، في اللاهوت بكل خصائصه ومميزاته.
٢ - آراء الفلاسفة المنتمين إلى المسيحية.
٣ - آراء الفلاسفة المسيحيين.
عاش هؤلاء الفلاسفة في الأجيال الأولى للمسيحية، وكانوا قد سمعوا عن عقائدها، لكنهم رفضوا الإيمان بها، واتخذوا فقط بعض عقائدها ومزجوها بالفلسفة اليونانية، التي كانت متسلطة على عقولهم وعقول غيرهم من الناس وقتئذ. وفيما يلي أهم آرائهم والرد عليها:
هذه هي آراء فلاسفة الوثنيين، ومنها يتضح لنا أنهم لم يفهموا شيئاً عن عقيدة التثليث. وكل ما فعلوه، هو أنهم استعاروا كلمة المسيح، أو كلمتي المسيح والروح القدس، ومزجوا بها أو بهما تصوُّراتهم عن اللّه من جهة علاقته بالعالم، مستخدمين في ذلك آراء فلاسفة اليونان وغيرهم من الوثنيين الذين سبقوهم. ولذلك ليست لأقوالهم هذه قيمة. ومع ذلك نقول إنهم وإن كانوا قد أطلقوا العنان لعقولهم لتفكر كما تشاء، إلا أنهم لمَّا اهتدوا إلى أن اللّه لا حد له، وإلى أن الإنسان لا يستطيع الاتصال به مباشرة، اضطر معظمهم إلى افتراض وجود كائنات عظيمة منبثقة من اللّه، يتصل اللّه عن طريقها بالناس، ويتصلون هم عن طريقها به، حتى لا يسندوا إليه شيئاً من التطوّر أو التغيّر، وهذا دليل غير مباشر على أن كون اللّه أقانيم، أمر يتوافق كل التوافق مع كماله وثباته، وعدم تعرّضه للتطوّر أو التغيّر عند القيام بأعماله، أو الدخول في علاقة مع خلائقه.
انتمى هؤلاء الفلاسفة إلى المسيحية يوماً، لكن بسبب تأثُّرهم بالفلسفة اليونانية وغيرها، فسَّروا بعض الآيات الكتابية تفسيراً يختلف عن غرض الوحي منها، فنُبذت وتنبذ الكنيسة آراءهم نبذاً تاماً. وفيما يلي أهم هذه الآراء والرد عليها:
الرد: اعتبر هؤلاء الفلاسفة أن وحدانية اللّه هي وحدانية مطلقة، وهذا خطأ محض. لأنه لو كانت هذه هي وحدانيته، لما اتَّصف بصفة إيجابية، ولما قام بعمل دون أن يتعرّض للتطوّر والتغيّر، الأمر الذي لا يتفق مع كماله وثباته بأي حال من الأحوال. ومما يدل أيضاً على خطئهم وتناقض أقوالهم، أنهم مع اعتبارهم وحدانية اللّه وحدانية مطلقة، أسند إليه بعضهم ثلاثة مظاهر، والحال أن القائم بوحدانية مطلقة لا يكون له مظهر ما، لأنه ليست له مميزات تجعل له كياناً خاصاً. وجعله البعض الآخر مركباً من ذات وعقل وحياة. والحال أن اللّه لا تركيب فيه على الإطلاق.
الرد: اعتبر هؤلاء الفلاسفة أن وحدانية اللّه هي وحدانية مطلقة، ثم أسندوا إليه خلق كائنين أو ثلاثة في الأزل، وبذلك أسندوا إليه التغيّر والتطوّر، إذ يكون بناء على اعتقادهم، قد دخل بالخلق في علاقة لم يكن لها أساس في ذاته أصلاً، ولذلك فآراؤهم ليس لها نصيب من الصواب.
الرد: اعتبر نسطور وحدانية اللّه وحدانية مطلقة، ثم أسند إليه العلم والحياة، أو العلم والعمل، وهذا خطأ كما مر بنا، لأن القائم بوحدانية مطلقة لا يتصف بصفة إيجابية ولا يقوم بعمل، دون أن يتعرَّض للتغيُّر والتطوّر، واللّه لا يتغيّر ولا يتطوّر. كما جعل صفات اللّه هي عين ذاته، وهذا خطأ أيضاً. ولذلك إذا رجعنا إلى تاريخ النساطرة وجدنا أنهم كانوا، كغيرهم من الفلاسفة، يبحثون فيما إذا كانت صفات اللّه هي ذاته أم غير ذاته، وفيما إذا كانت قديمة أو حادثة، فوقعوا بذلك في مشكلات كثيرة من جهة ذات اللّه.
الرد: اعتبر هؤلاء الفلاسفة اللّه مكوَّناً من ثلاثة جواهر أو طبائع، فاعتبروه بذلك مركّباً. ولمَّا كان المركّب من جواهر قابلاً للتجزئة معرضاً للنزاع الداخلي بينه وبين نفسه، واللّه لا يتجزأ ولا يتعرض لمثل هذا النزاع، لذلك فآراؤهم ليس لها نصيب من الصواب.
الرد: اعتبر هذا الفيلسوف وحدانية اللّه وحدانية مطلقة، وأسند إليه طبائع مختلفة، واعتبر العالم من طبائعه، وكل ذلك باطل، لأن وحدانية اللّه هي وحدانية جامعة مانعة، ولأنه لا تركيب فيه بوجه من الوجوه، ولأنه شيء والعالم شيء آخر.
الرد: اعتبر هذا الفيلسوف وحدانية اللّه مطلقة، واعتبر الابن كائناً يصدر عن اللّه ليعبّر عن أفكاره ومقاصده، واعتبر الروح القدس قوة تنبثق من اللّه عندما يقوم بالخلق والتدبير، وبذلك يكون قد أسند إلى اللّه التطوّر والتغيُّر، وهذا ما لا يتناسب مع كماله أو ثباته، كما ذكرنا فيما سلف.
الرد: لعل غرضه من عبارة إن المسيح هاوية وموت ولا وجود، هو أن اللّه (أو اللاهوت) بدون «الابن» يكون أشبه بالسكون والخلاء، منه بالكائن الذي يتصف بصفات واضحة تدل على أن له وجوداً ذاتياً، لأن بوهمي كان يعتقد كغيره من الفلاسفة، أن اللاهوت يتنزّه عن الاتصاف بصفات يمكن بها معرفة شيء عنه.
وقد جعل بوهمي الآب صفتين، وجعل الابن صورة تتجلى فيها هاتان الصفتان، وجعل الروح القدس شعاعاً يعلنهما في الخارج، وبذلك يكون قد نفى الأقنومية عن الآب والروح القدس، كما جعل اللّه مركباً من طبائع مختلفة، والحال أنه لا تركيب فيه على الإطلاق. ومع كلٍّ فإنه يُفهم من أقواله إنه يعتقد أن وحدانية اللّه هي وحدانية مطلقة، لكنه يحاول تصويرها كوحدانية جامعة مانعة، ولذلك جاءت أقواله مخالفة للقائلين بهذه الوحدانية، والقائلين بتلك.
الرد: جعل «كانت» وحدانية اللّه وحدانية مطلقة، ثم أسند إليه بعض الصفات والأعمال، ولم يدر بخلده أن اتصاف اللّه بصفات وقيامه بأعمال يدل على أن وحدانيته هي وحدانية جامعة مانعة.
الرد: جعل سويدنبرج وحدانية اللّه وحدانية مطلقة ثم أسند إليه الصدور، فجعله بذلك معرضاً للتفكك والانفصال، وكل ذلك باطل.
ومن هذا الفصل يتضح لنا:
٢ - تعذُّر البحث في الذات الإلهية
٣ - «الكلمة أو المسيح» وصفاته وأعماله
٤ - «روح القدس» وصفاته وأعماله
٥ - آراء علماء الدين عن التثليث
يظن كثير من الناس أن الإسلام ينتقد عقيدة التثليث. ولكن التثليث الذي ينتقده، ليس تثليث المسيحية الذي تحدثنا عنه في الأبواب الأربعة الأولى، بل هو تثليث آخر، ابتدعه الهراطقة الذين ألَّهوا العذراء وأنكروا لاهوت المسيح. والعذراء لم تكن إلا بشراً مثلنا، والمسيح وإن كان قد بدا كبشر، إلا أنه في جوهره هو اللّه متأنساً، كما ذكرنا فيما سلف. ولما كانت عقيدة التثليث على أعظم جانب من الأهمية، لأنها الإعلان التفصيلي عن ذات اللّه، رأينا من الواجب أن نزيل كل لبس وغموض يحوم حولها.
جاء في سورة المائدة ٥: ١١٦: «وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ؟». وجاء في سورة المائدة ٥: ٧٣: «لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ»- ومن هاتين الآيتين يتضح لنا أن القرآن لا ينتقد عقيدة التثليث المسيحية، بل ينتقد بدعة اتخاذ مريم والمسيح إلهين من دون اللّه، أو اتخاذهما معه إلهين. وتثليث المسيحية يختلف كل الاختلاف، كما تبين مما سلف، عمّا تتضمنه هاتان الآيتان من معنى، لأنه لا يُراد به أن اللّه ثالث ثلاثة، بل يُراد به أنه هو ذات الثلاثة. وهؤلاء الثلاثة الواحد في الذاتية، ليسوا هم المذكورين في القرآن، بل هم«الآب والابن والروح القدس». ولا يوجد مسيحي واحد يؤمن بالبدعة التي ذكرها القرآن، أو يطيق سماعها، لأن جميع المسيحيين يؤمنون أن لا إله إلا اللّه، ومن قال غير ذلك فهو في نظرهم مشرك بعيد كل البعد عن اللّه.
وهنا يسأل سائل: إذا كان الأمر كذلك، فمن هم الذين أشار إليهم القرآن في هاتين الآيتين؟
الجواب: إذا رجعنا إلى التاريخ وجدنا أن بعض الدخلاء على المسيحية كانوا قد نادوا في القرن الخامس بالعذراء مريم إلاهة عوضاً عن «الزهرة» أو «ملكة السماء» التي كانوا يعبدونها قبل انضمامهم الظاهري إلى المسيحية، وأطلقوا على أنفسهم اسم «المريميين». وبمجرد ظهورهم اعتبرتهم الكنيسة من الزنادقة، وفصلتهم من دائرتها فصلاً نهائياً. كما قاومت بدعتهم بكل الحجج الكتابية وغير الكتابية، ونهت المسيحيين عن الاختلاط بهم والتعامل معهم، ولذلك لم ينته القرن السابع حتى كانت هذه البدعة قد اندثرت اندثاراً تاماً.
وكان المريميون يطلقون على أنفسهم اسم «الكوليريديانيين» نسبة إلى اسم الفطير أو الكعك الذي كانوا يقدمونه حسب زعمهم إلى العذراء، على مثال ما كانوا يفعلونه في عبادتهم «للزهرة» أو«ملكة السماء» من قبل. (تاريخ الكنيسة لموسهيم ٢ف٢٥، وكتاب القول الابريزي للعلامة أحمد المقريزي ص ٢٦، وكتاب الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة ص ١١٣). وقال ابن حزم (في كتاب الملل والأهواء والنحل ج ١ ص ٤٨) إنهم كانوا يدعون «البربرانية». ولعله قصد بهذا الاسم شعباً كانوا ينتمون إليه، أو لقباً كانوا يُعرفون به. وربما لا يكون قد قُصد به هذا أو ذاك، بل قُصد به الاشارة إلى جهلهم وانحطاطهم من الناحية الدينية أو العقلية. وكانت «الزهرة» تُعبد في الشرق والغرب معاً، فهي فينوس الرومان، وافروديت اليونان، واشتار البابليين، وعشتاروث الفينيقيين. وقد انتقلت أيضاً عبادتها إلى جماعة من بني إسرائيل في الزمن القديم، فعاقبهم اللّه على ذلك أشد العقاب (ارميا ٧: ١٨-٢٠، ٤٤: ١٩ وحزقيال ٨: ١٤-١٨).
فإذا رجعنا إلى القرآن، وجدناه لا ينتقد عقيدة بنوّة المسيح المعنوية للّه أو اللاهوت، بل ينتقد بدعة اتخاذ اللّه زوجة وإنجاب ولد منها. «بديع السموات والأرض أنَّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة» (الأنعام ١٠١). وهذه البدعة بعيدة كذلك عن المسيحية كل البعد، وليس ثمة مسيحي واحد يؤمن بها أو يطيق سماعها، لأن جميع المسيحيين يعتبرونها إهانة لا تُغتفر في حق اللّه القدوس، المنزّه عن الأدناس والعيوب، بل وعن الجسدانية بكل خصائصها.
وهنا يسأل سائل آخر: إذا كان الأمر كذلك، فمن هم الذين كانوا يعتقدون أن اللّه تزوج وأنجب ولداً؟
الجواب: إذا رجعنا إلى التاريخ وجدنا أن الوثنيين المنتشرين في العصور القديمة في مصر وبلاد العرب واليونان وغيرها، هم الذين كانوا يعتقدون أن آلهتهم تتزوج وتنجب أولاداً. فمن المحتمل أن المريميين تصوَّروا (وتعالى اللّه عن تصوراتهم) أنه اتخذ زوجة مثل هذه الآلهة وأنجب منها ولداً. ومع كلٍ، فسواءً نشأت هذه البدعة من تصوّرات المريميين، أو غيرهم من الوثنيين، فإن التاريخ ينبئنا أن الكنيسة قاومتها بمجرد ظهورها بالحجج الكتابية وغير الكتابية حتى اندثرت تماماً قبل نهاية القرن السابع.
مما تقدم يتضح لنا أن القرآن لا ينتقد عقيدة المسيحيين، بل بدع المريميين وغيرهم من الوثنيين، ومما يثبت صحة ذلك، أنه يصف المسيحيين بكثير من الصفات الطيبة، التي تدل على إيمانهم باللّه الواحد، وسلوكهم بالأمانة في سبيله (آل عمران ١١٣-١١٤، والمائدة ٨٢)، كما يرفع شأنهم فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة (آل عمران ٥٥).
وليس القرآن وحسب هو الذي لا ينتقد تثليث المسيحية، بل يُستنتج من أقوال الأئمة وعلماء الدين أيضاً أنهم لا يتعرضون له بالنقد إطلاقاً، لأن التثليث هو ذات اللّه، وهم لا يبحثون مطلقاً في ذات اللّه، بل وينهون أيضاً عن البحث فيها، كما يتضح مما يلي:
ونحن نتفق كل الاتفاق مع هؤلاء الأئمة والعلماء على تعذُّر البحث في ذات اللّه. بل وأيضاً على عدم جواز البحث فيها، ومن جانبنا لولا أن الكتاب المقدس قد نصَّ على أن اللّه هو «الآب والابن والروح القدس» وأن الأدلة العقلية والنقلية قد أثبتت لنا صدق هذا النص وغيره من النصوص، لما خطر ببالنا مطلقاً أن يكون هذا هو كنه اللّه، أو حقيقة ذاته، وأقصى ما كان يخطر ببالنا عنه، هو أنه جامع في ذاته ومستغن بها كل الاستغناء.
ومع كلٍ، فإن القرآن قد شهد أن المسيحيين يؤمنون بالإله الواحد الذي لا شريك له، فقد جاء في العنكبوت ٢٩: ٤٦ «وَلاَ تَجَادِلُوا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِٱلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ». كما إننا إذا رجعنا إليه وجدنا أنه وإن كان لم يذكر مطلقاً أن «الآب والكلمة والروح القدس» هم اللّه، فقد ذكر أن للّه «كلمة»و «روحاً». فقال فيما قاله عن كلمة اللّه «إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» (النساء ٤: ١٧١). وقال عن «الروح» «آتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ» (البقرة ٢: ٨٧) - فمن هاتين الآيتين، يمكن أن نستنتج أن القرآن يشهد أن للّه كلمة وروحاً، وأن «كلمة اللّه» هو «المسيح» وأن الروح هو «روح القدس». واستيفاءً للبحث، لنتأمل في الصفات والأعمال التي يسندها القرآن وعلماء الدين إليهما، لنعرف حقيقة كل منهما من وجهة نظره ونظرهم، كما عرفناها من وجهة نظر الكتاب المقدس وفلاسفة المسيحيين، من قبل.
وقال قتادة: «للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة، ولكن الدين واحد، الذي لا يُقبل غيره، وهو التوحيد والاخلاص للّه، الذي جاءت به الرسل» (تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية ص١١٣).
ومما تجدر ملاحظته في هذه المناسبة، أن آدم الذي خُلق بواسطة اللّه مباشرة، لم يكتب عنه القرآن أنه روح اللّه، بل كتب عنه أن اللّه نفخ فيه من روحه (السجدة ٩) كما كتبت عنه التوراة من قبل (تكوين ٢: ٧). وشتان بين شخص هو بعينه روح اللّه وآخر كان كمجرد إناء نفخ فيه من روحه.
وقد أشار الكتاب المقدس من قبل، إلى أن المسيح من جهة كونه ابن الانسان، قد أُرسل من عند اللّه أو اللاهوت، ولذلك فانه من هذه الجهة يُدعَى رسول اللّه، لأن رسول اللّه هو الذي يعلن اللّه، والمسيح خير من يعلنه، لأنه صورته كما ذكرنا في الباب الثالث.
وإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، وجدناه يشهد بتميُّز المسيح بالصفات والخصائص المذكورة أعلاه. فعن عصمته قال إنه «لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلا وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ، ٱلَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ» (١بطرس ٢: ٢٢ و٢٣). وعن علمه الذاتي قال إنه كان يناقش معلمي اليهود عندما كان في سن الثانية عشرة، وإن كل الذين سمعوه بُهتوا من فهمه وأجوبته (لوقا ٢: ٤٧). وعن سلامه الذاتي قال إنه «يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ» (فيلبي ٤: ٧)، وإنه يمنحه لجميع المؤمنين به، فقد قال لتلاميذه: «سَلاماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلامِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي ٱلْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلا تَرْهَبْ» (يوحنا ١٤: ٢٧). وعن علمه بالغيب قال إنه كان يعلم كل شيء، كما ذكرنا في الباب الثالث.
ويسجل الكتاب المقدس أن المسيح أخذ مرة طيناً، ووضعه على عيني شخص وُلد أعمى فأبصر، وبذلك يكون قد خلق له عينين (يوحنا ٩: ٦، ٧). كما أن القول «بإذن اللّه» لا يتعارض مع ما جاء في الكتاب المقدس عن كيفية عمل المسيح للمعجزات، لأنه بوصفه «ابن الانسان» كان يعملها بقوة اللّه، فقد قال «بِإِصْبِعِ ٱللّٰهِ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ» (لوقا ١١: ٢٠)، أما بوصفه «ابن اللّه» فكان يعملها بإرادته الشخصية بعينها، التي هي إرادة الأقنومين الآخَريْن، أو بالحري إرادة اللّه، كما مر بنا في الباب الرابع، ولذلك كان يقول للأبرص: «أريد فأطهر» فيطهر في الحال (متى ٨: ٣).
وهذا يتفق مع ما جاء في الكتاب المقدس كل الاتفاق، فقد قال فيه إشعياء النبي سنة ٧٥٠ ق م لليهود: «وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (أي اللّه معنا)» (إشعياء ٧: ١٤). كما شهد جميع الرسل والأنبياء أن المسيح هو رحمة اللّه للناس (لوقا ١: ٧٢، ٧٣)، لأنه هو الذي فداهم وكفر عنهم سيئاتهم.
هذه هي أهم الأعمال والخصائص التي يسندها القرآن ورجال الفلسفة والدين إلى المسيح. وهي وإن كانت لا تدل في نظر الاسلام على شيء سوى أن المسيح كان إنساناً عادياً، يعمل أعماله بقوة اللّه مثل الرسل والانبياء، إلا أنها تدل في نظر الكتاب المقدس على أن المسيح كان هو اللّه ظاهراً أو متجسداً، وذلك للأسباب الآتية:
وكان فريق من علماء الكلام يقولون إن كلام اللّه صفة قديمة من صفاته، وإن صفاته هي عين ذاته، وبناء على منطقهم يكون كلام اللّه هو اللّه (أو على الأقل أنه في مرتبة اللّه) كما يمكن أن يستنتج من العبارة المذكورة أعلاه. وإذا كان الأمر كذلك، لا يكون هناك غبار على الاعتقاد بأن «كلمة اللّه» هو اللّه، لا سيما وأن المراد بـ «كلمة اللّه» ليس كلاماً عادياً، بل هو الأقنوم المعلِن للّه منذ الأزل إلى الأبد. وأرى من جانبي أنه من الممكن أن يُستنتج من الأحاديث القدسية أيضاً أن كلمة اللّه هي اللّه (أو على الأقل أنها في مرتبة اللّه)، فقد جاء بها: «قال تعالى لا إله إلا اللّه. كلامي وأنا هو، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمن عقابي» (الاتحافات السنية في الاحاديث القدسية ص ١٠).
ومما يثبت لنا أيضاً صدق هذه الحقيقة، أنه لا يتوافق مع كمال اللّه أن يكون مجرّداً في الأزل من «كلمة» يعلنه، ثم يتخذ لنفسه «كلمة» بعد ذلك، بل أن يكون متميّزاً بكلمة أو بالحري«بالكلمة» أزلاً، لأنه كامل كل الكمال، ولا يكتسب لنفسه شيئاً على الاطلاق، لأن الاكتساب يدل على التغيُّر، وهو لا يتغير.
أما الذين يرون ولادة المسيح من عذراء، لا تدل على أن له وجوداً ذاتياً قديماً، فقد قالوا «إن اللّه خلق آدم دون أب أو أم، وجبل حواء من أب دون أم، ولكي يبين قدرته على كل شيء سمح أن يُولد المسيح من أم دون أب»، وللرد على ذلك نقول:
خلق اللّه آدم دون أب أو أم، لأنه لم يكن قبله رجل أو امرأة يولد منهما، وجبل حواء من آدم لسببين: (١) ليكونا واحداً ولا ينفصل أحدهما عن الآخر إطلاقاً. (٢) لأنه لم تكن قبل حواء امرأة تُولد منها. لكن بعد وجود الذكور والإناث على الأرض لم يبق داعٍ لأن يأتي إنسان من أم دون أب، أو من أب دون أم، أو من دونهما معاً، لأن حكمة اللّه اقتضت وجود الجنسين في بدء الخليقة حتى يتناسل منهما البشر جميعاً. ولذلك لو كان المسيح مجرد إنسان، لما وُلد إلا من أب وأم مثل باقي الناس. أما القول بأن اللّه سمح بولادة المسيح من عذراء ليبيّن قدرته على كل شيء، فلا يجوز الأخذ به كسبب رئيسي، لأنه لو كان لم يسمح بذلك لما جاز لمخلوق أن يشك في قدرته، إذ أن هذه واضحة كل الوضوح في خلقه للعالم من لا شيء. ولو كانت قدرته هذه لا تتجلى إلا بسماحه بولادة إنسان من عذراء، لكان قد سمح بذلك في أوائل وجود الناس على الأرض حتى يؤمنوا جميعاً بها، فليس من المعقول أن يكون قد ترك ملايين البشر الذين عاشوا قبل المسيح في شك من جهتها، لأن هذا لا يتفق مع كماله أو عدالته. ولذلك فان هذا التعليل لا يكشف لنا عن السر الحقيقي في ولادة المسيح وحده من عذراء. لكن إذا سلمنا بأن المسيح كان له وجود ذاتي قبل ظهوره في العالم، كما ذكرنا أعلاه، اتضح لنا أنه لم تكن هناك حاجة إلى بذرة حياة من رجل ما ليتكوَّن منها ناسوت المسيح، فكان من البديهي أن يولد من عذراء لم تعرف رجلاً على الاطلاق.
ويتفق معنا القرآن على ذلك، فجاء به على لسان المسيح للّه: «إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ ٱلْغُيُوبِ» (المائدة ٥: ١١٦)، وجاء في سورة لقمان ٣١: ١١ «هَذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ»ولذلك نرى أن اللّه وإن كان قد منح الأنبياء قدرة على عمل بعض المعجزات، إلا أنه لم يمنح واحداً منهم قدرة على خلق شيء من الأشياء، لأن الخلق يتطلب من القائم به أن تكون له حياة في ذاته، وليس من له حياة في ذاته سوى اللّه. فإذا رجعنا إلى تاريخ المسيح على الأرض، وجدنا أنه كان يحيي الأموات بسلطانه الشخصي. يقول للميت «قم» فيقوم في الحال (لوقا ٧: ١٤). وهذا بخلاف ما كان يفعله الأنبياء والرسل في مثل هذه الحالة، إذ كانوا يقيمون الموتى بعد التوسل إلى اللّه والتضرع إليه كثيراً (١ملوك ١٧: ٢١، وأعمال ٩: ٤٠). فضلاً عن ذلك فانهم وإن كانوا قد أقاموا بعض الموتى، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقيموا أنفسهم من الموت، أما المسيح فأقام الموتى بسلطانه الشخصي، كما أقام نفسه من الموت الكفاري الذي ارتضى أن يموته نيابة عن البشر، بسلطانه الشخصي أيضاً.
فإن صحّت هذه المقابلة، كانت المصادر الإسلامية السابق ذكرها متفقة مع الكتاب المقدس من جهة شخصية المسيح إلى حد ما، لأن الكتاب المقدس بجانب إعلانه أن المسيح، من حيث جوهره، هو اللّه، فقد أعلن أنه، من حيث الحالة التي ظهر بها في العالم، هو إنسان. أما إذا لم تصح المقابلة يكون المسيح، بناء على ما ورد في المصادر المذكورة، هو فقط شخص ليس له بين البشر نظير على الإطلاق.
وهذه هي النتيجة التي انتهى إليها معظم الفلاسفة والكتَّاب الذين لا ينتمون إلى المسيحية، أو الذين كانوا ينتمون إليها يوماً، ثم انفصلوا عنها واعتمدوا على آرائهم الشخصية، فقد قال الأستاذ العقاد:«جاء السيد المسيح بصورة جميلة للذات الإلهية» (كتاب «اللّه» ص ١٥٩)، وقال أيضاً «إن مملكة المسيح من غير هذا العالم، وليست من ممالك الدول والحكومات. فأسلوبه هو أسلوب الآداب والمُثُل العُلْيا، وليس بأسلوب النصوص والقوانين» (عبقرية المسيح ص ١٢٦). وقال سبينوزا اليهودي: «إن حكمة اللّه الخالدة قد تجلّت في الأشياء كلها، ولكنها تجلَّت في عقل الإنسان بصفة خاصة، وفي يسوع المسيح بصفة أخص». وقال أيضاً: «المسيح أجدر الرجال بالحب» (قصة الفلسفة الحديثة ص٤٤، ٦٤٣)، وأيضاً: «اللّه أنزل وحيه على الانسان بألفاظ وصور محسوسة أو متخيلة، ما عدا المسيح، فانه عرف اللّه بدون ألفاظ أو رؤى، إذ اتصل به نفساً لنفس» (تاريخ الفلسفة الحديثة ص ١١١). وقال شوبنهور: «المسيح هو المثل الأعلى لمن يفهم مذهبه حق الفهم»(تاريخ الفلسفة الحديثة ص ٢٧٥). وقال ستروس: «المسيح باق إلى الأبد عنوان الدين الأسمى، ونموذج الكمال المطلق». وقال أيضاً: «من المحال أن يأتي بعد المسيح من يعلوه أو يدانيه أو يبلغ شأوه في الحياة الروحية» (كتاب المشرع ص ١٦٤، ١٦٥، عن كتابين لهذين العالمين). وقال كيم: «المسيح أعجوبة خارقة للطبيعة». وقال باركر: «سَرَى من المسيح نور جديد كالنهار ضياء، والسماء علواً، والإله ثباتاً. فهو فوق الفلاسفة والشعراء، وفوق الربانيين وفوق كل شيء من الأشياء». وقال شانينج: «المسيح أعظم من كائن بشري». وقال فولتير: «ليس بين الحكماء من استطاع أن يغيّر أخلاق الناس الذين عاشوا معه، أما المسيح فغيّر أخلاق المؤمنين به تغييراً تاماً». وقال فرانك: «ليس هناك من استطاع أن يصوّر اللّه بصورة واضحة كما فعل المسيح». وقال رينان: «مهما جاء به المستقبل من رجال، فان يسوع سيبقى أبداً الرجل الذي لا نظير له، وسوف تشهد جميع الأجيال أنه ليس بين المولودين من النساء من هو أعظم منه». وقال: «سيظل المسيح إلى الأبد الينبوع الذي لا ينضب، الذي ترتشف منه الإنسانية وتغسل فيه أدرانها، فترتوي وتتجدد».
جاء في سورة الإسراء ١٧: ٨٥ «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي». وبالتأمل في هذه الآية، يتضح لنا أنها تنكر على البشر جميعاً إمكانية معرفة الروح. فإذا تأملنا من وجهة نظر الكتاب المقدس في الآيات القرآنية التي ورد بها شيء عن عمل الروح، استنتجنا أنه هو «الروح القدس» الذي هو اللّه أو أقنوم من أقانيم اللّه.
وإذا كان السبب في عدم إمكانية معرفة ماهية الروح، راجعاً إلى كونه هو «الروح القدس»، الذي يؤمن المسيحيون أنه أحد أقانيم اللاهوت، فان القرآن يكون متفقاً مع الكتاب المقدس على عدم إمكانية معرفة ماهيته، لأن الكتاب المقدس يعلن أن الأقانيم لكونهم ذات اللّه، لا يمكن للبشر أن يعرفوا ماهيتهم. فقد قال: «وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ إِلاّ ٱلآبُ، وَلا أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاّ ٱلابْنُ» (متى ١١: ٢٧). وعن الروح القدس قال: «مَنْ قَاسَ رُوحَ ٱلرَّبِّ، وَمَنْ مُشِيرُهُ يُعَلِّمُهُ؟» (إشعياء ٤٠: ١٣).
والناسوت مصدر على وزن ملكوت ورحموت (مختار الصحاح ص ٦٣٣، ص ٢٣٨)، ويُراد به الطبيعة الإنسانية على وجه العموم. ولما كان الانسان قائماً بجسد ونفس وروح، لذلك لا يُقصد بالناسوت طبيعة الجسد وحدها، بل وطبيعتا النفس والروح أيضاً معها.
ويؤمن المسيحيون أن السيد المسيح، من حيث كونه «الابن الأزلي» ليس في حاجة إلى من يؤيده، لأنه من هذه الناحية هو الذي يؤيد ويعضد. ولكن من حيث كونه «ابن الانسان» يحتاج إلى ما يحتاج إليه الانسان من تأييد وتعضيد، إلا فيما يتعلق بحياة السلوك بالكمال، لأنه كان معصوماً من الخطيئة عصمة لا حد لها، ليس فقط بسبب ولادته من عذراء بقوة الروح القدس، وما ترتب على ذلك من عدم اتخاذه طبيعة خاطئة مثل طبيعة البشر، بل أيضاً بسبب كماله الذاتي الذي لازمه كل الملازمة طوال حياته على الأرض، كما لازمه منذ الأزل قبلها، ويلازمه إلى الأبد بعدها.
مما تقدم يتضح لنا أن القرآن، وإن كان لم يذكر أن روح القدس، أو روح اللّه، هو اللّه، إلا أنه يسند إليه أعمالاً تدل في نظر الكتاب المقدس على أنه هو اللّه أو أقنوم من أقانيمه، وذلك للأسباب الآتية:
قال تفسير الجلالين: « ونفخت فيه من روحي» أي أجريت فيه من روحي، وإضافة الروح إليه تشريف لآدم (ج ١ ص ٣٧٦)، ولكنه لم يذكر من هو هذا الروح، هل هو اللّه، أم هو كائن غير اللّه.
وقال الإمام البيضاوي عن تكوين جسد المسيح، إنه «من الروح الذي بأمر اللّه وحده، أو من جهة روحه جبريل» (تفسيره ص ٤٢٦). وقال الزمخشري: «يجوز أن يكون المراد جعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل، لأنه نفخ في جيب درعها (أي قميصها) فوصل النفخ إلى جوفها» (ج ١ ص ٥٢). ولكن من وجهة نظر الكتاب المقدس نفخة الملاك، لا يمكن أن تكون إنساناً ذا نفس وروح وجسد، لأن هذا العمل كما ذكرنا لا يفرق شيئاً عن الخلق، والملاك مخلوق، والمخلوق لا يخلق. لكن إن كان اللّه هو الذي نفخ فيها من روحه، بمعنى من ذاته، أو بحسب تعبير الكتاب المقدس، حل بروحه عليها، لأمكن في هذه الحالة أن يتكون جسد المسيح ونفسه وروحه في العذراء، لأن «روح اللّه» بمعنى ذات اللّه (أو أقنوم من أقانيم اللّه)، هو قادر على كل شيء ولا يعسر عليه أمر.
أما الإمام البيضاوي، فقال عن روح القدس الذي كان يؤيد المسيح إنه «روح عيسى» أو «جبريل» أو «الكلام الذي يحيا به الدين أو النفس حياة أبدية ويطهر من الآثام» (تفسيره ج ١ ص ١٧٤). وقال عن الروح الذي يؤيد المؤمنين إنه «نور القلب» أو «الإيمان» أو «النصر على العدو» أو «الضمير» (تفسيره ص ٧٥٣). لكن من وجهة نظر الكتاب المقدس أقول إن هذه الأشياء ليست هي ذات روح اللّه، بل هي مجرد وسائل، والوسائل لا تستطيع أن تعمل عملاً إلا بمعونة اللّه، ولذلك يكون اللّه وحده هو الذي يؤيد.
فضلاً عن ذلك، فإنه يمكن أن يستنتج من اقوال بعض علماء الدين والفلسفة أن «الروح» أو «روح القدس»، هو «اللّه»، أو بحسب الاصطلاح المسيحي هو أقنوم من أقانيمه، كما يتبين مما يلي:
أما المفسرون الذين يعتقدون أن روح القدس مخلوق فقد ذهبوا في أمره مذاهب كثيرة، بحسب الآيات القرآنية التي ورد ذكره فيها، إذ علاوة على ما قيل عنه فيما سلف، قالوا إنه ملك له ١١ ألف جناح وألف وجه يسبح اللّه إلى يوم القيامة (هامش السندي على صحيح البخاري ج ٤ ص ١٧٣). أو هو ملك في السماء الرابعة أعظم من في السموات، يسبح اللّه كل يوم ١٢ ألف تسبحة، يخلق اللّه من كل تسبحة ملكاً من الملائكة (الطبري ج ٣٠ ص ١٣)، أو هو خلق أعظم من الملائكة (البيضاوي ج ١ ص ٣٨١)، أو هو أعظم خلقاً من الملائكة وأشرف منهم، وأقرب من رب العالمين (الكشاف ج ٤ ص ٦٩١)، أو هم حفظة على الملائكة (الكشاف ج ٢ ص ٤٨٨)، أو هو أول في درجة نزول الأنوار من جلال اللّه، ومنه تتشعب إلى أرواح سائر الملائكة والبشر (على هامش الطبري ج ٢٩ ص ٤٢)، أو هو الوحي أو القرآن (البيضاوي ج ١ ص ٥٢١)، أو الإنجيل (الكشاف ج ١ ص ١٦٢) أو هو سبب الحياة (الرازي ج ٥ ص ٤٤٦)، أو هو الاسم الأعظم الذي كان يحيي عيسى الموتى بذكره (الكشاف ج ١ ص ١٦٢). وإذا تأملنا هذه الآراء وجدنا أنها مع تنوعها تدل بصفة عامة على أن شخصية الروح تفوق في عظمتها كل شخصية في الوجود. أما المسيحيون فيعتقدون أن روح اللّه هو اللّه، أو أقنوم من أقانيم اللّه، لأنه فضلاً عن شهادة الكتاب المقدس بهذه الحقيقة، فان روح الكائن إن لم يكن هو ذاته، فانه لا ينفصل عن ذاته. وبما أن اللّه لا تركيب فيه، يكون روحه هو ذاته أو أقنوماً من أقانيمه.
أخيراً نقول، وإن كنا نرى في القرآن عبارات يمكن أن يُستنتج منها أنه يتفق إلى حد ما مع الكتاب المقدس، من جهة «الكلمة» و «الروح»، لكن لا نرى فيه عبارة واحده تدل على أنه يتفق مع الكتاب المقدس على أن اللّه هو «الآب والابن والروح القدس». ومع كلٍ فإنه بإسناده الأعمال والصفات والعلاقات في كثير من آياته إلى اللّه، نستنتج أنه لا يعتبر وحدانيته وحدانية مجردة أو مطلقة، بل يعتبرها وحدانية جامعة مانعة، أو كما نقول نحن: وحدانية متميزة بتعينات أو أقانيم. ولذلك ليس هناك مجال للظن بأنه يشير بالنقد إلى عقيدة التثليث المسيحية، كما ذكرنا في فاتحة هذا الباب.
ذكرنا في فصل سابق، أن علماء المسلمين قد تجنبوا البحث في ذات اللّه، لأنهم اعتبروا البحث فيها كفراً أو إشراكاً، لكن لأنهم كانوا يعيشون مع المسيحيين، سواءً في بلاد العرب أو غيرها من البلدان، استطاعوا أن يطَّلِعوا على عقيدة التثليث المسيحية، ويقرأوا كتب المسيحيين عنها، وأن يذكروا بعد ذلك آراءهم الخاصة فيها، وفيما يلي أهم هذه الآراء والرد عليها:
الرد: يتضح من رأي هؤلاء العلماء، أنهم من الفريق الذي يعتقد أن صفات اللّه غير ذاتية، وأنها قديمة قدم ذاته (أو بتعبير آخر يعتقد بوجود ثلاثة قدماء ليسوا هم ذات اللّه، أي ثلاث صفات قديمة للّه، ليست هي عين ذاته) لأنهم يقولون إن الاعتقاد بثلاثة قدماء لا يُعتبر كفراً. ويتضح أيضاً من رأيهم هذا، أنهم لم يفهموا عقيدة التثليث فهماً صحيحاً، لأننا لا نعتقد بوجود ثلاثة قدماء، بل نعتقد بوجود قديم واحد، هو اللّه. واللّه كما نعتقد ليس مبهماً أو غامضاً، بل هو واضح أو معيّن، وتعيّنه أو أقانيمه، هم الآب والابن والروح القدس، ولذلك من البديهي أن يكونوا واحداً في الرتبة والاستحقاق، ولا إشراك أو كفر في ذلك، لأنهم ليسوا ذات اللّه وغيرها من الذوات، أو ذات اللّه وصفات صادرة منها، بل هم ذاته وحدها وبعينها.
الرد: يتضح من رأي هؤلاء العلماء أنهم (على عكس إخوانهم السابق ذكرهم) يعتقدون أن صفات اللّه هي عين ذاته، لأنهم لا ينتقدون القول إن الصفات هي نفس الذات. كما يتضح منه أيضاً أنهم اطَّلعوا على كتب النساطرة دون غيرهم (والنساطرة جماعة من الهراطقة خرجوا على تعاليم الكتاب المقدس). ولذلك لم يفهموا عقيدة التثليث كما هي واردة في الكتاب المقدس، لأنه لا يقول إن الأقانيم صفات للّه، بل يقول إنهم عين ذاته، فاللّه ليس شيئاً والأقانيم هم شيء آخر، بل اللّه هو الأقانيم والأقانيم هم اللّه، لأنهم تعيُّن اللّه، وتعيّن اللّه هو عين جوهره، إذ أنه لا تركيب فيه على الإطلاق.
الرد: لقد صدق هذان العالمان في قولهما إننا نؤمن أن اللّه واحد، وإن ذاته واحدة في الجوهر، وإن المراد بالجوهر هنا هو القائم بذاته والمستغني عن الظروف. ولكن يبدو لي أنهما لم يطلعا على عقيدة التثليث كما هي معلنة في الكتاب المقدس، بل نقلا فقط أقوال بعض فلاسفة المسيحيين الذين كانوا يقتبسون آراء أرسطو في ذات اللّه، ويحاولون تطبيقها على هذه العقيدة. لأننا وإن كنا نؤمن أن لا إله إلا اللّه، وأنه لا تركيب فيه على الإطلاق، وليس لدينا مانع من القول إنه عقل وعاقل ومعقول، إلا أننا لا نؤمن أن الأقانيم هم اعتبارات أو خواص أو صفات، أو أن الآب وحده هو العقل المجرد، والابن وحده هو العقل العاقل، والروح القدس وحده هو العقل المعقول، لأن صفة العقل المجرد تختلف عن صفة العقل العاقل، وصفتي العقل المجرد والعقل العاقل تختلفان عن صفة العقل المعقول. وإذا أسندنا إلى أقنوم صفة تختلف عن الصفة التي أسندناها إلى غيره، نكون قد جعلنا اللّه مكوَّناً من أقانيم مختلفة، وتبعاً لذلك يكون مركّباً، والحال أنه بأقانيمه ليس مركباً بل هو واحد بوحدانية لا تركيب فيها على الإطلاق، وأن صفات كل أقنوم هي بعينها صفات الأقنوم الآخر، وذلك لوحدانية جوهرهم. ومع ذلك فإن القول بأن اللّه عقل وعاقل ومعقول، لإثبات كماله المطلق واستغنائه بذاته (كما يرى الفلاسفة والعلماء، على اختلاف الأديان التي ينتمون إليها) يؤدي حتماً إلى الاعتقاد بأن وحدانية اللّه مع عدم وجود تركيب فيها، هي وحدانية جامعة مانعة. وهذا دليل غير مباشر على أن عقيدة التثليث تتوافق مع كمال اللّه كل التوافق.
وقال القاضي أبو عبداللّه الحسين (في كتابه أدب الجدل): «إن سائر الأمم تقيس القدير سبحانه وتعالى على الشاهد، في جميع ما يثبتونه له من وحدانية وصفات. فلو أن قائلاً قال: لا يُقاس الباري على أحدنا في الشواهد لأنه قديم ونحن محدثون، ونحن أجسام وهو غير جسم (وبناء على منطقه لا يجوز إسناد القدرة إلى اللّه، بدعوى أن القدرة صفة من صفاتنا) لكان كلاماً فاسداً. وكذلك النصارى يقيسون القديم على المحدث في كونه تعالى جوهراً، بمعنى أنه قائم بنفسه (وإن كان الجوهر في الشاهد محدثاً حاملاً للعرض). وإن كان ذلك كذلك، علمنا أن القياس صحيح من جهة واحدة ومعنى واحد، وإن افترق من وجوه أخرى».
وقال الامام جعفر بن محمد الأشعبي في كتابه «العلم الإلهي» : «قد تبيَّن أن المحرك الأول، أول على الإطلاق، فهو إذن علة الموجودات كلها. وفي هذه الحالة يكون أحد اثنين: إما جوهراً أو عرضاً. ومحال أن يكون عرضاً، لأن الجوهر علة وجود العرض، واللّه علة وجود كل شيء، ولولا الجوهر لما وُجد العرض. لذلك يتعين أن يكون اللّه جوهراً، أو شيئاً أشرف من الجوهر، أو جوهراً خاصاً، أو ذاتاً أو ما شئت فسمّه، إذ لا فرق في اللفظ مع سلامة المعنى» (عن نسخة أكسفورد سنة ١٠٧٢، التي نشرها الأب لويس شيخو اليسوعي في كتاب مقالات دينية قديمة ص١٢٧، والقس بولس سباط في كتابه المشرع ص ٢٨).
وقال ابن سينا: «معنى كون اللّه جوهراً، أنه الموجود لا في موضوع، والموجود ليس بجنس» وقال أيضاً: «الجوهرية ليست من المقومات لأنها عبارة عن عدم الحاجة إلى الموضوع». (تهافت الفلاسفة ص ١٦٢ ولباب الاشارات ص ٨٧).
الرد: حقاً إننا نعتقد أن اللّه جوهر واحد وثلاثة أقانيم، لكن لا خطأ في القول إنه جوهر، لأن كلمة «الجوهر» تُطلق على اللامتناهي باعتبار يختلف عن الذي تُطلق به على المتناهي، إذ يراد بها في الحالة الأولى «القائم بذاته» فقد شهد كثير من علماء المسلمين وفلاسفتهم، أنه لا مانع من إطلاق كلمة «جوهر» على اللّه بالمعنى المذكور. ولذلك فلا مجال للاعتراض على عقيدة التثليث، ولا مجال للظن بأن هناك فساداً في عبارتها أو أسلوبها.
الرد: الأقانيم ليسوا صفات اللّه، بل هم عين ذاته. ومع كلٍ فإن اتصاف اللّه بصفات أزلاً، يدل على أن وحدانيته هي وحدانية جامعة مانعة، أو بتعبير آخر على أنه ليس أقنوماً واحداً بل أقانيم، الأمر الذي يدل بطريق غير مباشر، على أن عقيدة التثليث تتوافق مع كمال اللّه.
الرد: حقاً إننا نؤمن أن اللّه ثلاثة وواحد، كما نؤمن أنه واحد وثلاثة، لأن الأقانيم ليسوا زائدين عن ذاته، بل هم عين ذاته. ونؤمن أيضاً أنهم ثلاثة بالقوة وواحد بالفعل، على اعتبار أنه لا انفصال لأحدهم عن الآخر، ولكنهم ليسوا صفات اللّه، بل هم تعينه الخاص الذي لولاه لكان مجرداً من الصفات، بل ولكان أقرب إلى العدم منه إلى الكائن الحقيقي.
الرد: لا شك عندي أن ابن الراوندي قد أخطأ في تعبيره، عن موضوع الكتاب الذي وضعه النظّام، لأن التثليث ليس أفضل من التوحيد، كما أن التوحيد ليس افضل من التثليث، لأن التثليث هو التوحيد مفصلاً، والتوحيد هو التثليث مجملاً. فالآب والابن والروح القدس هم اللّه الذي لا شريك له، واللّه الذي لا شريك له هو الآب والابن والروح القدس. أو بتعبير آخر، لأن التوحيد هو اللّه جوهراً، هو اللّه معيّناً، وتعين اللّه وجوهره واحد، لأن اللاهوت هو اللّه، واللّه هو اللاهوت.
الرد. وهذا هو عين الحق، لأننا نؤمن أن الأقانيم هم ذات اللّه الذي لا شريك له، ونؤمن أيضاً أنه هو الذي خلق العالم بمفرده، وأنه هو الذي يعتني به بمفرده، أما من جهة الشر فنؤمن أنه لم يُخلق بواسطة إله ما، بل إنه من عملنا نحن، فقد أتيناه بمحض إرادتنا عندما انحرفنا عنه تعالى.
الرد: لقد عرف الأستاذ العقاد اعتقادنا في ذات اللّه حق المعرفة، فنحن نؤمن حقاً أن الأقانيم جوهر واحد، وأن الآب والابن والروح القدس معاً هم وجود واحد، وأنه لا انفصال لأحدهم عن الآخر على الإطلاق، لأنهم ذات اللّه، الذي لا تركيب فيه بوجه من الوجوه.
هذه هي أقوال فلاسفة المسلمين وعلماء الدين والكتّاب بينهم، عن عقيدة التثليث، وهي في جملتها تدل على أن هذه العقيدة لا تتعارض مع وحدانية اللّه، وما دامت لا تتعارض معها، فإنها تتوافق معها.
١ - عقيدة التثليث
٢ - الأدلة على صدقها
٣ - أهميتها وفوائدها
أيها القارئ العزيز،
إن تعمقت في قراءة هذا الكتاب تستطيع أن تجاوب على الأسئلة بسهولة. ونحن مستعدون أن نرسل لك أحد كتبنا الروحية جائزة على اجتهادك. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملاً عند إرسال إجابتك إلينا.
عنواننا:
للاتصال بنا