البغاء الحلال

 

من بين الايات , التى طالما تسببت لي في عسر هضم فكري حاد , اثناء دراسة القرآن , تبرز الاية رقم 33 في سورة النور والتى تقول "وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌِ " . وكان الجزء المتعلق بالبغاء ,- والذى يبدو أنه قد أقحم أقحاما على النص , وبصورة لا تتناسب مع سياق الاية - يشكل لغزا عصيا بالنسبة لي ..الاية موجهة للمسلمين ,فما علاقة المسلمون بالبغاء ؟؟

الجواب الذي كان جاهز لدى مدرس الدين انذاك - ,هو ان البغاء (الدعارة) - كان من الظواهر اللااخلاقية التي كانت منتشرة في الجزيرة العربية في العصر الجاهلي, والتي جاء الاسلام لمحاربتها والقضاء عليها قضاء مبرما ..الظاهرة - كما شرح الاستاذ - كانت موجودة في مكة عندما تلقى محمد " الرسالة " , كما انها كانت موجودة ايضا في يثرب عندما هاجر اليها محمد , حيث كان لدى بعض من تظاهروا بالاسلام ( المنافقين ) مواخير تعمل فيها فتياتهن أى امائهن - وهن الرقيق من النساء . وان الاية نزلت لتأمرهم بالكف عن تلك الافعال الشنيعة التى تتناقض مع اركان الدين , و تشوه صورة الاسلام والمسلمين .
ولكن هذا الجواب , أثار بدوره العديد من الاسئلة . وخاصة فيما يتعلق بالقضاء المبرم على تلك الظاهرة .لان الاية تركت الباب مفتوحا - من الناحية التشريعية - لمالكى الفتيات في ان يستمروا في مزاولة تجارتهم طالما ان الفتيات موافقات على ممارسة البغاء , اى برضاهن .فان اردن- أى الفتيات - تحصنا , ورفضن الاستمرار في ممارسة الدعارة , فان على المالك ان لايكرههن على فعل ذلك , والا ..والا ماذا ..لاشىء.. لان الله غفور رحيم !!
. وبعبارة اخرى ان الاسلام يتدخل في حالة اكراه الفتاة غير الراغبة بممارسة الدعارة , بتقديم النصيحة لمالكها فقط , وما عدا ذلك فان الله غفور رحيم .!!
هل يعقل هذا ..دعارة وبغاء وزنا في الاسلام ..عينى عينك هكذا ..وفي عهد من ..عهد الرسول محمد الذى اشترط على المؤمنات لدخول الاسلام عدم ممارسة الزنا ؟؟
هذه الاسئلة كانت على طرف لساني , ولكنني لم اجرؤ على طرحها بالطبع .. وانما احتفظت باسئلتي لنفسى , واخذت اطور لنفسي نظرية خاصة للخروج من هذا التناقض . كان الحل الوحيد في وجهة نظرى انذاك , ان الاسلام قد وضع الارضية المناسبة لحل هذه المعضلة, مثلما فعل مع اصل المشكلة أى العبودية . حيث راهن الاسلام , على سمو اخلاق المسلمين , ووضع لهم الحوافز الاخلاقية والدينية , ورغبهم في عتق العبيد والاماء , فاذا ما تم تحرير جميع العبيد والاماء , فلن يعود هناك من سيد يجبر امته على البغاء , ولن تكون هناك امة تمارس الدعارة بعد اخذ موافقة مالكها .. اليس كذلك .؟؟؟ حل معقول , ولكنه حل زمني , اي يحتاج الي وقت لتحققه , والي ان يتم ذلك , كان على الرسول محمد ان يتحمل وجود دور الدعارة في المدينة , ويغض النظر عنها , وعن ما يحدث فيها من ممارسات يندى لها الجبين ؟؟ وهكذا عدت الي نقطة البداية , ولم استطع تجاوزها , الا بعد ان اخذت انظر الي الاسلام , ومحمد , نظرة اكثر واقعية , نظرة انسانية , تضع الامور في سياقها التاريخي الصحيح .ولنعد مرة اخرى الي الاية السابقة ونبحث في الظرف التاريخي الذى نزلت فيه ;
يذهب معظم مفسري القرآن , الي ان ذلك الجزء من الاية الوارد في سورة النور المتعلق بالبغاء , انما قد نزل في عبدالله بن ابي بن سلول , الذي كان سيد الخزرج , وكاد ان يصبح ملكا على يثرب , لولا قدوم محمد اليها , مما قضى على طموحاته السياسية . ويجمع المسلمون - الذين قلما اجمعوا على شىء - على ان ابن سلول , هو راس المنافقين , الذين دخلوا الاسلام في الظاهر , وناصبوه العداء في الباطن .وكان لابن سلول مواقف مشهوده , تجرأ فيها على محمد واهانه وتآمر عليه . و في المقابل كان محمد , يكظم غيظه ويحاول ان يتفادى الدخول في صراع مكشوف مع ابن سلول باى طريقة كانت, لانه كان يدرك ان مواجهة من هذا النوع , تستثار فيها النعرات والعصبيات , ستطيح باحلامه باقامة الدولة الاسلامية المنشوده . وفي هذا السياق , حدثت القصة التالية ;
كان لابن سلول اماء يساعين - اي يمارسن البغاء - وكان ياخذ منهن ما يحصلن عليه من اجر , واذا حبلت اي منهن نتيجة ممارسة الزنا , كان ياخذ المولود , يربيه ويبيعه . وكان هذا امرا شائعا لدى العرب انذاك , ولا ينقص من قدر الرجل الذى يقوم به - بدليل ان اهل يثرب كادوا ان ينصبوا ابن ابي سلول ملكا عليهم . ويبدو ان الكيل قد طفح باحدى الاماء , فقررت التمرد والثورة على ذلك الوضع المزري الذى كانت تعيشه , ويروي الطبري في تفسيره لسبب نزول هذه الاية أن " أمة لعبدالله بن أبي , امرها فزنت , فجاءت ببرد , فقال لها ارجعي فازني , فقالت والله لا افعل , ان يك هذا خيرا ( أى الزنا ) فقد استكثرت منه , ان يكن شرا فقد آن لي أن ادعه " .
واما ابن كثير فيورد قصة اكثر دلالة اذ يشيرالي انه بعد غزوة بدر وقع في نصيب ابن ابي سلول , اسير من قريش , ويقول " وكانت لعبدالله ابن ابي بن سلول , جارية يقال لها معاذه , وكان القرشي الاسير يريدها على نفسها , وكانت مسلمة , وكانت تمتنع منه لاسلامها , وكان عبدالله بن ابي يكرهها على ذلك , ويضربها رجاء ان تحمل من القرشى فيطلب فداء ولده " .
وايا كانت القصة , فان ما حدث بعد ذلك , هو ان الامور تصاعدت باتجاه حدوث المواجهة التى طالما سعى اليها ابن سلول , وكان يتحاشاها محمد بأى ثمن ..اذ لجأت الفتاة الي ابي بكر وشكت له حالها , وبدوره قام ابو بكر باخبار الواقعه للرسول ..وهنا اسقط في يد محمد اذ كان امامه خيارين لا ثالث لهما ..اما ان ينتصر للفتاة المسكينة,ويواجه ابن سلول , ويجازف بخسارة كل ما سعى لتحقيقه ..واما ان يخذلها ويفقد مصداقيته امام المؤمنين بدعوته .
يقول ابن كثير " فأقبلت الجارية الي ابي بكر رضى الله عنه فشكت اليه ذلك , فذكره ابو بكر للنبي صلي الله عليه وسلم , فامره بقبضها , فصاح عبدالله بن أبي من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا , فانزل الله فيهم هذا " .!! وكما يتضح من قول ابن سلول " من يعذرنا من محمد " -أى من يلومنا فيه - انه راى في الواقعه فرصه سانحة للتخلص من غريمه , ولعله اعتقد انه قد حشر محمد في الزاوية ..ولكن فات ابن سلول ان محمدا كان يمتلك سلاحا لا قبل له به ,,وهو جبريل - اى الوحي ! اذ ما ان وصلت الامور الي نقطة الصدام , حتى نزل جبريل مسرعا و مسعفا محمد بمخرج من هذه الازمة الخانقة..فجاءت تلك الاية بصياغتها التوفيقية العجيبة , لتطفىء النار التى كان يحاول ابن سلول اشعالها !!
وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌِ "
ومن يتمعن في تلك الاية يجد انها حاولت رفع الحرج عن محمد في عدم التدخل لنصرة تلك الجارية , من خلال حصر المسألة بين السيد وأمته - والتى تعتبر مما ملكت ايمانه وله ان يفعل فيها ما يشاء . دور محمد هنا يقتصر على نصح السيد بعدم اكراه فتاته على البغاء , فان ضرب السيد عرض الحائط بهذه النصيحة , فان المسالة هنا قد خرجت من يد محمد , واصبحت بين مالك الجارية وبين الله , والذى هو بالمناسبة غفور رحيم .!!
واما بالنسبة للفتاه المسكينة التى ترفض ممارسة الزنا لانها تريد تحصين نفسها , فانه لا حرج عليها طالما انها مكرهه على فعل ذلك . واما بالنسبة لابن سلول , فعلينا ان نلاحظ الصياغة السياسية الركيكة والمخادعة للاية , والتى تتحاشى القاء لوم مباشر او غير مباشر على مالك الفتاة - ابن سلول - وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌِ " .. ماذا سيحدث لمن وَمَن يُكْرِههُّنَّ ٌِ " وما هو جزاءه ؟؟.. هذا التعمد الواضح في ترك الامر مبهما على هذا النحو ,انما يهدف لافساح المجال امام محمد لاتخاذ الموقف الذى يشاء من ابن سلول . و لا يعطي اى ذريعة لابن سلول في اتهام محمد بالسعي الي تحريض جواريه عليه او كما قال " يغلبنا على مملوكتنا " .
وهكذا طويت المسالة , الفتاة عادت الي الماخور , وابن سلول عاد لنصب المكائد لمحمد . واما محمد الذى نجا من هذه الورطة بواسطة الوحي , فقد سن من حيث لايدري , قانونا للبغاء بحكم الامر الواقع , يستمد مشروعيته من تلك الاية - الفضيحة .!!!
وارجو ان تلاحظ ان الاية استخدمت لفظ فتاة , وذكرت "ولا تكرهوا فتياتكم " أى اماءكم , وليس بناتكم , وفي ذلك فرق كبير. لانك لن تجد بالفعل عربيا يجبر ابنته على ممارسة البغاء علنا , لا في الماضى ولا في الحاضر . واما الاماء فامرهن مختلف .اذ لم يجد العرب آنذاك ,و للاسف الشديد , مانعا من استغلالهن في مهن قذرة مثل الدعارة . وكان بعض وجهاء العرب يديرون بيوتا للدعارة ,ولم يكن احد يجد في ذلك غضاضة و لاعيبا , ومن بين هؤلاء الوجهاء كان عبدلله بن ابي بن سلول , والذى كاد الاوس والخزرج ان ينصبوه ملكا عليهم , لما له من المنعة والعزة فيهم . وهذا الامر كان يتم علنا , وجهارا نهارا, وبشهادة كتب التاريخ .فارجو ان لا تخلط بين ما يتم في وقتنا الحاضر وبين ما كان يحدث انذك .
واما قولك " بان الاية ليس فيها تشريع للبغي " . فاقول لك بلى . ولو اننا نعيش حاليا في دول اسلامية مثل موريتانيا او النيجر ,حيث لايزال يوجد فيهما مئات الالاف من العبيد , وطبق في احدى تلك الدولتين ما ينادى به اخواننا الاسلاميون من ان القرآن دستورنا , لطالب ملاك العبيد بالسماح لهم بفتح المواخير وبيوت الدعارة , محتجين بتلك الاية التى لم تنص على منع ممارسة البغاء..بل اباحته لان الاصل في الاشياء الاباحة وفق القاعدة الفقهية المعروفة .!!

واما ذكر لقصة ابن عبدالله ابن ابي سلول الذى طلب من الرسول ان يأذن له بقتل ابيه فرفض الرسول ذلك , فان هذه حجة عليك , وتحسب لمحمد ودهائه وبعد نظره ..وانظر الي ما تقوله كتب السيره في هذا الموضوع " وكان من امر عبدالله بن أبي بن سلول بعد ذلك ( اى بعد غزوة بني المصطلق ) انه اذا أحدث الحدث ,تصدى له قومه , فكانوا هم الذين يعاتبونه , ويأخذونه ويعنفونه ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم , كيف ترى يا عمر ؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله , لارعدت انف , لو امرتها اليوم بقتله لقتلته " ..من كتاب منافقون في عصر الرسول وحياتهم ص 521
هل ستجد ابلغ من رد رسولك عليك ..؟؟؟

 

الصفحة الرئيسية