الموضوع الخامس عشر: عدم امتزاج المياه

   منذ صغري وأنا أسمع العديد من الشباب يردد على مسامعي آيات قرآنية من سورة الرحمان والتي حسب اعتقادهم تحوي أعظم إعجاز علمي ، واضح كل الوضوح ، ومنذ ذلك الحين وأنا أصدق دعواهم دون أدنى فحص أو تحقق ، لكن شاءت إرادة الله ان أتوجه إلى هذا البحث فتكون هذه الآيات ضمن ما خضت في تمحيصه .

ـ تقول الآيات المقصودة (19ـ21 من سورة الرحمان ) " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان "

ـ في تفسير هذه الآية يقول محمد علي الصابوني " أي أرسل البحر الملح والبحر (الحلو) العذب يتجاوران ويلتقيان ولا يمتزجان (بينهما برزخ لا يبغيان) أي بينهما حاجز من قدرة الله تعالى لا يطغى أحدهما على الآخر بالممازجة " (1)

ـ ويقول ابن كثير " ...(مرج البحرين يلتقيان) قال ابن عباس : أي أرسلهما ، وقوله ( يلتقيان ) قال ابن زيد منعهما أن يلتقيا بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما ، والمراد بقوله البحرين الملح والحلو ، فالحلو هذه النهار السارحة بين الناس " ثم أضاف قائلا :" وقد اختار ابن جرير ههنا أن المراد بالبحرين بحر السماء وبحر الرض وهو مروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطية ابن أبزى " (2).

ـ وجاء في سورة الفرقان الآية 53:" وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا "

ـ يفسر أحدهم هذه الآية بقوله :" أي هو تعالى بقدرته خلى وأرسل البحرين متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان (هذا عذب فرات) أي شديد العذوبة قاطع للعطش من فرط عذوبته (وهذا ملح أجاج) أي بليغ الملوحة شديد المرارة (وجعل بينهما برزخا) أي جعل بينهما حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على الآخر (وحجرا محجورا) أي ومنعا من وصول أثر أحدهما إلى الآخر وامتزاجه به "(3)

ـ أما ابن كثير فيقول بخصوص هذه الآية " أي خلق الله الماءين الحلو والمالح ، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار وهذا هو البحر الحلو العذب الفرات الزلال ، قاله ابن جريج واختاره ابن جرير ، وهذا المعنى لا شك فيه فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات ... فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس ،  فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا وعيونا في كل أرض بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم وقوله (ملح أجاج) أي مالح مُرٌّ زُعاقٌ لا يُستساغ وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب : البحر المحيط وبحر القلزم وبحر اليمن وبحر البصرة ..." (4)

ثم أضاف قائلا :" (وجعل بينهما برزخا وحجرا) أي بين العذب والمالح (برزخا) أي حاجزا وهو اليبس من الأرض (وحجرا محجورا) أي مانعا من أن يصل أحدهما إلى الآخر" (5)

ـ وقال أحدهم :" فُحصت الظاهرة في مختبر بواسطة أنابيب على شكل U  " وقال  ملخصا في النهاية :" إن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1: صفوة التفاسير                  

2: ابن كثير 

3: صفوة التفاسير

4: ابن كثير 

5: ابن كثير

محمدا لم يكن له لا مختبر ولا معدات للبحوث لكي يكتشف هذه الأسرار ويرى هذا الحاجز المذكور بوضوح في القرآن وهذا مايبين مرة أخرى أن هذا الكتاب (القرآن) لم يُكتب بواسطة إنسان ما ولكنه كلمة الله الواحد " (1)

 

                                       الإعتراضات

1ـ الآيات واضحة جدا في ذكر نوعين من المياه واحد مالح والآخر حلو وأنهما لا يمتزجان لكن الشيء الغامض هو أي مياه؟ أمياه الأمطار أم الآبار أم الأنهار أم البحار ؟ ولعل هذا ما جعل المفسرين  يتخبطون تخبطا عشوائيا .

2ـ فإن كان المقصود " بالبحرين " بحرين من البحار المعروفة عندنا، فإنه خطأ وهفوة عظيمة لأنه لا يوجد بحر حلو "عذب فرات" وأنا أستبعد شخصيا هذا التفسير .

3ـ يتضح من أقوال المفسرين ثلاث آراء في هذه الآية :

أ ـ البحرين هما : البحار الحقيقية والمياه الأرضية ، فالبحار هي ماقصده القرآن في قوله (ملح أُجاج) والمياه الأرضية كالآبار والعيون هي التي قال عنها (عذب فرات) والبرزخ هو اليابسة التي تفصل بينهما .

ب ـ البحرين هما بحر السماء أي المياه النازلة من السماء على شكل أمطار وثلوج وبحر الأرض أي البحار المعروفة ، وهذا ما اختاره ابن جرير.

ج ـ البحرين هما مياه الأنهار التي تصب في البحار وهي العذب الفرات ، والبحار المفتوحة هي الملح الأجاج .

 

إن اكتفينا بالقولين الأولين "أ" و"ب" نكون قد انتهينا إلى القول بأنه ليس في الآيات ثمة شيء يدعو إلى التعجب أو يستحق أن نطلق عليه اسم إعجاز ، لكننا سنكون قد غصبنا الرأي الأخير حقه ، لذا سنفحصه ونعطيه نصيبه من البحث أيضا ، فنقول بمشيئة الله :

  لو كان المقصود هو مياه الأنهار التي تصب في البحار وتبقى محافظة على عذوبتها لمسافة معينة وسط مياه البحار المالحة ، فلماذا استعمل القرآن الكلمات التالية "لا يبغيان" "حجرا محجورا " ؟ ألا تعني أن المياه لا يمكن أن تلتقي أو تمتزج البتة؟ فالمفهوم من هذه الآيات هو أن هذه المياه التي يتكلم عنها لا تمتزج ولن تمتزج بأي حال من الأحوال . (فالبرزخ معناه الفاصل والحاجز والحجر هو المانع والفاصل أيضا) لكن من المعلوم أن المياه الحلوة أي مياه الأنهار عندما تصب في البحار لا تمتزج بها لأول وهلة بل تسير مسافة معينة على هذه الحال دون اختلاط وفي النهاية تنتهي بالإمتزاج وهكذا دواليك يصير مصير كل قطرة الإختلاط بعد قطع هذه المسافة . ففي الوقت الذي يصب فيه ماء النهر في البحر ، تكون مياه النهر تجري بسرعة معينة ، وهذه السرعة تساعدها على اختراق المياه المالحة (مياه البحر) وهكذا يظل الماء الحلو (ماء النهر) محافظا على عذوبته ومتميزا عن ماء البحر ولو أنه داخل البحر ولكن بعد مدة جد قصيرة تختلط هاته المياه بمياه البحر وتصير ماء واحدا . إذن فالحاجز الوحيد هو حاجز زمني ، لأنه يلزم وقت معين لمزج كميات معينة من الماء ، وهذا مخالف للحاجز الذي يذكره القرآن ( حاجز مادي).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1: Le coran et la bible sous la lumière de l'histoire et la sience p 182 

وحتى لو سلمنا بأن مايعلنه القرآن هو بالضبط هذه الظاهرة الطبيعية (مصب الأنهار في البحار) فإنه ليس بالإعجاز وذلك لأن أي شخص خبير في الصيد وفي غوص البحار ، يمكنه معرفة ذلك بمجرد الملاحظة وليس من المستبعد أن يكون محمدا قد التقى بأحد الصيادين أو البحارة خصوصا في رحلتيه التجاريتين إلى الشام ، أو ان البحارة والناس العارفين بأسرار البحر زاروا مكة (لأن الحجاج كانوا يفدون إليها من أقطار عديدة حتى في أيام الجاهلية) فكان الحديث عن الأنهار والبحار قد ساقهم إلى إخبار القريشيين ومن بينهم محمد عن هذه الظاهرة . كل شيء ممكن الحدوث مادام أهل ذلك العصر وخصوصا البحارةة يعرفون ذلك جيدا ، وما يؤيد هذا الرأي هو أن القرآن وُجِّه أول الأمر إلى القريشيين خصوصا وأن سورة الرحمان مكية ويرتكز فيها الحديث على الظواهر الطبيعية (كالشمس والقمر والنجوم ...) كدليل على قدرة الله وعظمته ، فماذا يفهم أعرابي من قوله :" مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان" لو لم يكن يعرف هذه الظاهرة حق المعرفة؟؟ وإلا فسيُنعث محمد بالجنون إن هو نطق بما لا يعلمونه متخذا إياه كدليل على قوة الله !!

ومما يؤكد قولنا إلى حد أبعد هو ما صرح به وحيد الدين خان في كتابه "الإسلام يتحدى" حيث قال :" إن الظاهرة الطبيعية التي يذكرها القرآن في هذه الآيات معروفة عند الإنسان منذ أقدم العصور وهي أنه إذا ما التقى نهران في ممر مائي واحد فماء أحدهما لا يدخل (أي لا يذوب ) في الآخر"(1)

وأضاف أيضا بعد ذلك قائلا :" إن هذه الظاهرة كما قلت كانت معروفة لدى الإنسان القديم ...ولكننا لم نكشف قانونها إلا منذ بضع عشرات من السنين " (2)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1و2: الإسلام يتحدى ص142

عودة