الموضوع
السادس عشر: التيارات البحرية
ينادي بعض
العلماء بموضوع آخر يعتقدون أن القرآن أعلنه كحقيقة علمية حول التيارات البحرية
الداخلية قبل توصل العلم إليها بمئات السنين ، وبما أن محمدا لم ينشأ في بيئة علوم
فضلا عن ذلك لم تكن الفكرةمعروفة حينذاك إذن فالقرآن ليس من إنتاج بشري بل هو وحي
إلهي (على حد تعبيرهم وأدلتهم).
لكن لننظر إلى هذه الآيات بمنظور الحق
المجرد من الغايات ، ولنفحص ادعاءاتهم على ضوء العلم والقرآن نفسه والتفسير وقوال
المعترضين أيضا حتى نكتشف الحقيقة بأنفسنا.
ـ تقول الآيات
التي يدعون وجود عنصر الإعجلز فيها " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه
الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع
الحساب ، أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها
فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
". النور 40
ـ قال أحدهم
معلقا على هاته الآيات وخصوصا الآية الأخيرة :"...ففي هذه الآية إشارة إلى
الأمواج الداخلية والسطحية ، فأضخم أمواج المحيط وأشدها رعبا هي أمواج غير منظورة
تتحرك في خطوط سيرها الغامضة بعيدا في أعماق البحر ...وقد كان من المعروف منذ سنين
كثيرة أن سفن البعثاث إلى القطب الشمالي كانت تشق طريقها بكل صعوبة فيما كان يسمى
بالماء الميت ، والذي عُرف الآن أنه أمواج داخلية . وفي اوائل عام 1900 لفت
الأنظار كثير من سباحي البحار الإسكندنافيين إلى وجود أمواج تحت سطح الماء ، والان
بالرغم من أن الغموض لا يزال يكتنف أسباب تكوين هذه الأمواج العظيمة التي ترتفع
وتهبط بعيدا أسفل السطح فإن حدوثها على نطاق واسع في المحيط قد أصبح أمرا معروفا
جدا فهي تقذف بالغواصات في المياه العميقة كما تعمل شقيقاتها السطحية على قذف
السفن ويظهر أن هذه الأمواج تنكسر عند التقائها بتيار الخليج وبتيارات أخرى قوية
في بحر عميق ...فالآية القرآنية تقول :(يغشاه موج من فوقه موج) إشارة إلى الأمواج
الداخلية والسطحية ، ويؤيد هذا ما وصفه القرآن للبحر بأنه لجي أي كثير الماء ،
عميق ، وفي هذا إشارة إلى المحيطات وليس إلى الشواطئ "(1)
ـ ابن كثير يفسر
لنا هاته الآيات قائلا :" قال قتادة (لجي) هو العميق ، وقال ..."فهذا
مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد لا يعرف حال من يقوده ولا يدري أين
يذهب...وقال العوفي عن ابن عباس (يغشاه موج الآية) يعني بذلك الغشاوة التي على
القلب والسمع والبصر وهي كقوله :" ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى
أبصارهم غشاوة " وقال أبي ابن كعب في قوله (ظلمات بعضها فوق بعض) فهو يتقلب
في خمسة من الظُّلَم ، فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره يوم
القيامة إلى الظلمات ، إلى النار، وقال السدي والربيع بن انس نحو ذلك أيضا "
(2).
ـ ويقول الشخ
محمد علي الصابوني في تفسيره لهذه الآيات أيضا :" هذا المثل الثاني لضلال
الكفار والمعنى : مثلهم كظلمات متكاثفة في بحر عميق لا يُدرك قعره (يغشاه موج من
فوقه موج) أي يغطي ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1: روح الدين
الإسلامي ص 58و59
2: ابن كثير في
تفسيره لسورة النور
البحر ويعلوه موج
متلاطم بعضه فوق بعض (من فوقه سحاب) أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب كثيف (ظلمات
بعضها فوق بعض) أي هي ظلمات متكاثفة متراكمة بعضها فوق بعض " ...(إذا أخرج
يده لم يكد يراها) هذا من تتمة التمثيل ، أي إذا أخرج ذلك الإنسان الواقع في هذه
الظلمات يده لم يقارب رؤيتها فإن ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب قد تكاثفت
حتى حجبت عنه رؤية أقرب شيء إليه من شدة الظلمة فكذلك الكافر يتخبط في ظلمات الكفر
والضلال " (1).
الإعتراضات
1ـ إن ما سماه
الأستاذ ع الفتاح طبارة بأمواج داخلية يسمى " تيارات داخلية " وإن
أعطيناها إسم أمواج نكون قد ارتكبنا خطأ علميا ، لأن اسم موج له معنى مختلف تماما
عن التيار ، وما يظهر في المحيطات تحت سطح المياه هو تيارات وليس أمواجا لأن
الأمواج هو مايظهر على السطح ، وبالتالي لو أراد مصنف القرآن الإشارة ما يحدث داخل
المحيطات (تحت السطح) لقال:" يغشاه تيار من فوقه موج " وبما أنه لم يقل
ذلك فهو قصد الأمواج المتلاطمة والتي تظهر للعيان وكأن بعضها يركب بعضا ، ولذلك
ذكر أن البحر يغشاه موج من فوقه موج ، وذلك لأن الأمواج تبدو وكأنها الواحدة فوق
الأخرى ، وما هذا بالإعجاز لأنه أمر معلوم لدى كل من رأى البحر وأمواجه .
2ـ والمقصود
بقوله " كظلمات في بحر لجي " ليس التيارات ، بل المقصود هو الظلمة عينها
كما قال المفسرون ، ومن حملها على غير ذلك فهو محرف يخرج الكلام عن سياقه وإطاره
الخاص به .
ولما ذكر القرآن
الظلمة في أسافل البحار لم يكن ماقاله إعجازا لأن أي شخص سألته عما يمكن أن يراه
في أسافل البحار ودون ان يجرب ذلك يُخمِّن أنه لا يُمكن رؤية شيء سوى الظمات .
3ـ أما قوله
" يغشاه " ( الضمير يعود على البحر) فمعناه : يُغطيه (كما قال م علي
الصابوني) ، وهذه الكلمة وحدها كافية لإبعاد فكرة التيارات المائية عن الآية لأن
قصده هو أن البحر تغطيه (على السطح) أمواج متراكمة بعضها فوق بعض ، ولم يقل
أبدا " بداخله " ، وما
نعلمه هو أن التيارات لا تغطي البحر إنما الأمواج هي التي تغطي سطح البحار ،
وبالنتيجة نقول أن الرآن قد قصد الأمواج السطحية فقط ولا يوجد أي شيء في الآية يفيد بأنه تكلم عن
أسافل المحيطات ، ومنه نخلص إلى القول بأن عنصر الإعجاز لا يوجد تماما في هذه
الآية .
في الكتاب المقدس
أما في الكتاب المقدس فنجد على
الأقل نصين يتكلمان عن التيارات البحرية الموجودة في أعماق البحار، وأول هذه
النصوص هو في سفر يونان النبي الذي استطاع أن يُدرك بنفسه هذه التيارات عندما رُمي
في البحر فوصف لنا مايوجد هناك بوحي من الرب ، حيث يقول في الآيات 1ـ5 من الأصحاح
الثاني "...فصلى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت وقال دعوت من ضيقي الرب
فاستجابني ، صرخت من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1: صفوة التفاسير
جوف الهاوية
فسمعتَ صوتي لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار فأحاط بي نهر ، جازت فوقي
جميع تياراتك ولججك ، فقلتُ قد طُرِدْتُ من أمام عينيك ولكنني أعود أنظر
إلى هيكل قدسك ، قد اكتنفتني مياه إلى النفس ، أحاط بي غمر ، التف عشب البحر برأسي
".
ـ الكلمة العبرية ( نَهَرْ ) تُترجم إلى
العربية ب" نهر" أو " تيار" وهنا في الآية ترجمت إلى نهر ثم
إلى تيار ، وبالطبع مادام الحديث يدور حول أسافل البحار فالمعنيين صحيحين لأن
التيارات في أعماق البحار تسير مثل الأنهار ، ومامن أحد يمكنه الإعتراض على ذلك ،
لأن سياق الحديث هو عما يجري تحت سطح البحر ، لأن النبي يونان كان حين ذاك في جوف
الحوت تحت المياه وعاين تلك الظواهر بنفسه قبل أن يبتلعه الحوت .
أما النص الثاني
فهو لداود النبي (حوالي 1000سنة ق م) حيث يقول في المزمور 8 الآيات 4ـ8 :"
فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده وتنقصه قليلا عن الملائكة وبمجد
وبهاء تكلله ، تسلطه على أعمال يديك جعلت كل شيء تحت قدميه الغنم والبقر جميعا
وبهائم البر أيضا وطيور السماء وسمك البحر السالك في سبل المياه "
ـ نلاحظ أن النبي
ذكر " سمك البحر" ثم قال عنه " السالك في سبل المياه " يعني
بذلك " السمك الذي يسلك في سبل مياه في أسافل البحر " ، وما تلك السبل
إلا تيارات بحرية تشبه إلى حد بعيد الطرق والمسالك لأن كلا منها يسير في اتجاه
معين .
إذن فهناك على
الأقل إشارتان في الكتاب المقدس تتحدثان عن التيارات الداخلية في المحيطات ، وكلها
تعبر بشكل يُفهم منه أن المقصود ليس هو الأمواج الظاهرة فوق السطح ولا تلاطمها ،
بل مايجري في الأعماق . وهذا هو الإعجاز الحق الواضح الجلي ، أما إعجاز القرآن فلست أستطيع تسميته بالإعجاز
لحد الآن .