الفصل السادس
شخصية كاتب إنجيل برنابا
وأدلة إسلامية على تزييف إنجيله
1 - ثقافة كاتب إنجيل برنابا وأهدافه:
اتضح لنا مما سلف أن هذا الشخص لم يكن مسيحياً بل يهودياً، وأنه عاش في القرن 15 في أسبانيا (أو الأندلس). وأنه كان يجيد بعض اللغات الأوروبية ويتصف بالطموح وسعة الخيال، فكانت له الفرصة المناسبة للاتصال بعلماء المسلمين، ومنهم في الأندلس عدد كبير أثناء حكم العرب لها (811-1472م). فاعتنق الإسلام على أيديهم، ودرس اللغة العربية والكثير من القرآن، كما درس شيئاً من الأحاديث النبوية والقدسية والعلوم الصوفية والفلسفة الإسلامية. ثم سوَّلت له نفسه أن يعمل إنجيلاً جديداً يلغي به حسب ظنه إنجيل المسيحيين، ليتركوه ويعتنقوا الإسلام مثله. فدرس إنجيلهم، ثم أضاف إليه وحذف منه، كما غيّر فيه وبدّل، حتى أخرج منه إنجيلاً يحقق أهدافه. ولتكون لهذا الإنجيل أهمية خاصة، نسبه بخبثٍ ودهاء إلى برنابا، أحد رفقاء الرسول بولس المشهورين. ثم لفق قصة فرامارينو مع البابا سكتوس الخامس التي ذكرناها في الفصل الأول من هذا الكتاب، ليُدخل في روع المسيحيين أن الإنجيل المذكور قديم حقاً. وكان الأجدر به، عوضاً عن أن يسلك هذا المسلك الشائن، أن يكتب عن المزايا التي رآها في الإسلام، وعن النقائص التي رآها في المسيحية (إن كانت بها نقائص) ثم يترك للناس حرية الاختيار، لأنه لا إكراه في الدين (البقرة 2: 256).
2 - الاسم الحقيقي لكاتب إنجيل برنابا :
يغلب على ظني أن هذا الشخص هو، بعد إسلامه مصطفى العرندي الذي عاش في أسبانيا، والذي ورد اسمه في النسخة الأسبانية للإنجيل المذكور، لأن عرندة كما يتضح من دائرة المعارف البريطانية من الأسماء المعروفة في أسبانيا. وسواء كان مصطفى العرندي هو الذي كتب هذا الإنجيل أم كتبه شخص غيره، فإنه كتابٌ حديث لا يمتُّ للمسيحية بصلة، فلا يُعّوَل عليه ككتابٍ صادق.
3 - سقوط الدعوى بوجود إنجيل برنابا الحالي، منذ القرون الأولى:
لا يجوز الأخذ بالدعوى أن إنجيل برنابا كان موجوداً في القرون الأولى، بزعم أن البابا جلاسيوس حرم قراءته سنة 492م وذلك للأسباب الآتية:
أ - أن برنابا الذي حرم البابا المذكور إنجيله (كما يتضح من دائرة المعارف البريطانية) كان من الغنوطسيين الذين كانوا يعتقدون بوجود إلهين، أحدهما للخير والآخر للشر. بينما إنجيل برنابا الحالي لا أثر فيه لهذا الاعتقاد.
ب - تدل محتويات هذا الإنجيل دلالة قاطعة على أنه كُتب في القرن 15 كما اتضح لنا من الفصول السابقة.
ج - وجود إنجيل باسم برنابا في القرن الخامس، ليس برهاناً على أنه كان هو إنجيل برنابا الذي نحن بصدده، للأسباب التي ذكرناها، وأيضاً لأن تشابه أسماء أشخاص منسوبة إليهم كتب عن موضوعٍ ما، لا يدل على أن شخصاً واحداً كتبها. فقد يكتب زيد من الناس كتاباً عن الفلك مثلاً، ويكتب آخر يدعى زيداً أيضاً كتاباً عن هذا الموضوع بعينه، دون أن يترتب على ذلك أن يكون الكتابان واحداً في المعنى أو المبنى. ولعل أوضح دليل على ذلك أن مِن بين الأناجيل المزيفة القديمة واحداً منسوباً إلى شخص يُدعى متى، والحال أن أحد الأناجيل الحقيقية كتبه رسول من رسل المسيح اسمه متى . لكن شتان بين ما ورد في هذا الإنجيل وبين ما ورد في ذاك. ولذلك أطلق العلماء المسيحيون منذ القديم على الأول إسم أبسودو أي المزيف ، حتى يفرّق الناس بينه وبين الإنجيل الحقيقي الذي كتبه متى الرسول.
4 - شهادة بعض علماء المسلمين عن تزييف إنجيل برنابا :
وقد درس بعض علماء المسلمين هذا الإنجيل بدقة وإخلاص، فانتهوا إلى ما انتهينا إليه تماماً، كما يتضح مما يلي:
أ - كتب الأستاذ عباس محمود العقاد في صحيفة الأخبار القاهرية الصادرة في 26 أكتوبر (ت 1) 1959 موضوعاً عن إنجيل برنابا، يتكون من النقاط الخمس الآتية:
(1) إن الكثير من عبارات الإنجيل المذكور كُتبت بصيغة لم تكن معروفة، قبل شيوع اللغة العربية في الأندلس وما جاورها. (2) يستند وصف الجحيم في إنجيل برنابا إلى معلومات متأخرة لم تكن شائعة بين اليهود في عصر المسيح. (3) بعض العبارات الواردة به كانت قد تسرّبت إلى القارة الأوربية نقلاً عن مصادر عربية. (4) ليس من المألوف أن يكون السيد المسيح قد أعلن البشارة أمام الألوف باسم محمد رسول الله . (5) تتكرر في هذا الإنجيل بعض أخطاء لا يجهلها اليهودي المطلع على كتب قومه، ولا يردّدها المسيحي المؤمن بالأناجيل المعتمَدة في الكنيسة الغربية، ولا يتورّط فيها المسلم الذي يفهم ما في إنجيل برنابا من المناقضة بينه وبين نصوص القرآن، مثل القول عن محمد إنه المسيا أو المسيح.
ب - قال دكتور محمد شفيق غربال في الموسوعة العربية الميسّرة تحت كلمة برنابا ما يأتي: إنجيل مزيف، وضعه أوربي في القرن الخامس عشر، وفي وصفه للوسط السياسي والديني في القدس أيام المسيح أخطاء جسيمة. كما أنه يصرح على لسان عيسى أنه ليس المسيح، إنما جاء مبشِّراً بمحمد الذي سيكون المسيح.
ج - سجّلت كتب التاريخ الإسلامية القديمة مثل (مروج الذهب، والقول الإبريزي، والبداية والنهاية، والتاريخ الكامل، وتاريخ اليعقوبي، وتاريخ أبي الفداء) والكتب الحديثة أيضاً مثل (كتاب دائرة معارف الناشئين) أن إنجيل المسيحيين هو المكتوب بواسطة متى ومرقس ولوقا ويوحنا، كما ذكرنا. فضلاً عن ذلك فقد اقتبست بعض الكتب المذكورة الكثير من الآيات التي وردت في هذا الإنجيل، بينما لا يوجد بها أي اقتباس من الكتاب الذي يدعى إنجيل برنابا - وهذا دليل على عدم قِدمه أو بالحري على عدم قانونيته. وفي هذا كل الكفاية لمن يريد الوقوف على الحقيقة، والسلام.