بيئة الكتاب المقدس
.. على سبيل التقديم
. بيئة الإنسان الطبيعية في معظمها هي من صنع يديه ، هذه الحقيقة وضعها شيشرون في فم بالبوس الذي قال في خطابه : " نحن البشر نتمتع بمر السهول والجبال . ولنا الأنهار والبحار ؛ نزرع الذرة ونغرس الأشجار ، نخصب التربة بجر المياه إليها ؛ نبني السدود على الأنهار ونقوم مسارها ، وبأيدينا نحاول أن نخلق عالماً ثانياً ؛ في وسط الطبيعة
! والكتاب المقدس يذكر لنا منطقة تحمل آثار ما صنعته يد البشر ، خيراً كان أم شراً ، بشكل بندر مثيله في مناطق العالم الأخرى . ففي هذا الجسر الأرضي المحوري ، الذي يربط بين قارات العالم الثلاث ، أفريقيا وآسيا وأوروبا ، تعلم الإنسان البدائي أولاً مبادئ الزراعة ودجن بعضاً من الحيوانات الأكثر فائدة له ، وكان ذلك بين الأعوام 12.... و 8.... ق.م . فهنا أيضاً ، تطورت نظم الري الأولى وأُسست أولى المدن ، وذلك خلال الألف الخامس أو الرابع ق.م .ولكن هنا أيضاً دمر الإنسان الحياة النباتية وسبب تعري التربة ، وربما أيضاً تدهور المناخ
. هنا إذاً ، حيث نشأت أولاً أقدم حضارات العالم ، في بلاد ما بين النهرين ومصر ، نجد العلاقات المتداخلة بين الإنسان والثقافة والبيئة الطبيعية أكثر قدماً ن وأشد تعقيداً
. إن الحضارتين الوثنيتين ، الشهيرتين ، القائمتين في مصر وبلاد ما بين النهرين ، عكستا بدقة البيئة الطبيعية في كل منهما . فديانة كل من هاتين المنطقتين ، كديانة جيرانهما الحثيين والكنعانيين ، ركزت على الطبيعة . فما كان عندهم من فكرة صائبة عن إله خالق واحد كلي القدرة ؛ لذلك عللوا تقلبات المناخ والأحداث التي تصيب الزراعة. جغرافية العالم حولهم بوجود مجموعة متكاملة من الآلهة . وارتبط هذا بالتمايز الخاص في جغرافية مصر وبلاد ما بين النهرين - وبخاصة مسارات الأنهار العظيمة ، كالنيل ودجلة والفرات - مما قرر ، إلى حد بعيد طرق الحياة المتباينة في كلتا الحضارتين
! ينبع نهري دجلة والفرات من جبال أرمنيا ، ويجريان مسافة 14.. ميل ، ويصبان في الخليج العربي . والفرات أكبر من دجلة وأهدأ ، أما مجرى دجلة الشديد الانحدار فيتسبب ببعض الفيضانات ، حيث ترتفع نسبة مياه النهرين في المنطقة الأدنى إلى البحر ، في شهري آيار ( مايو ) وحزيران ( يونيو ) عندما تنقطع مياه الثلوج الذائبة مع هطول أمطار الربيع المدرارة . وبما أن هذين الأمرين لا يتصادفان دائماً ، فإن زمن حدوث الفيضانات متقلب ولا يمكن التنبؤ به ، فل لا ترفعهم شعوبهم إلى مصاف الآلهة
. وفي المقابل ، لمصر نهر واحد ، نهر النيل ن الذي تعدل نسبة جريان المياه فيه خزانات المياه الهائلة في بحيرات شرق أفريقيا ، تأتي مياه الأمطار الموسمية في أعالي بلاد الحبشة فتسبب فيضاناً سنوياً منتظماً في النيل الأزرق يمكن التنبؤ به . فهناك ثلاثة مواسم ثابتة في التقويم الخاص بنيل مصر
. موسم الإغراق ؛ من منتصف تموز ( يوليو ) إلى تشرين الثاني ( نوفمبر )
. وموسم النماء ؛ ( عندما تنحسر المياه عن الأرض فتنمو البذار ) من منتصف تشرين الثاني إلى منتصف آذار
. وموسم الجفاف ؛ من المرجح أن يكون هذا التكرار المنتظم لجريان نهر النيل هو الذي أعطى الفراعنة شعوراً بالثقة أقوى ، مما رفع ملوكهم إلى مصاف الآلهة في نظر شعوبهم . 'ذ أنه من المؤكد أن كل فرعون بدا لرعاياه وكأنه يمتلك قدرة السيطرة على الطبيعة ، في حين أن ملوك ما بين النهرين ما شعروا بامتلاك مثل تلك القدرة
. وما نجده من تدوينات المصريين ، من بداية السلالة الأولى الحاكمة ، في سجلاتهم لارتفاع نسبة المياه في النيل ، وقيامهم بتقديرات سنوية لفيضان النيل ومحاصيل الحنطة ، وما نجده في قصة يوسف ، لإيحاء بأنه كان على معرفة بأسرار نهر مصر ومواقيته ، لكنه نسب نجاحه إلى الله الواحد
. أفضى امتزاج الثقافات إلى حجب التباين بين حضارتي الأنهر العظيمة . ففي حين كانت بلاد ما بين النهرين عرضة للاجتياح من قبل الشعوب الجبلية وبدو الصحراء ، كانت مصر تتمتع بأمان أوفر في عزلتها . وكانت السهول الواطئة في ما بين النهرين مهددة أيضاً بفيضانات مفاجئة بسبب تقلبات الطقس ، وانهيار الأجرف التي تسد الروافد الرئيسية التي تصب في دجلة ، فتتدفق عندئذ المياه الحبيسة المتجمعة بكميات هائلة . وتساعد ملوحة الأرض التي تهدد خصوبة التربة في تعليل الهجرة الجماعية نحو الشمال إلى وسط سهول بلاد ما بين النهرين ، بعد سقوط الحضارة السومرية
. لا عجب إذاً أن يشعر سكان ما بين النهرين بأن مصيرهم تقرره الآلهة سنة بعد سنة - فليس ثمة إله واحد له سلطة مطلقة ، مما جنح بهم ، وبسبب احتياج المجتمع هنا إلى الاستقرار الذي تؤمنه القوانين والاتفاقات المبنية على العهود والمواثيق . على نقيض ذلك ، اعتبرت مصر عالمها ناتجاً من عملية إبداعية واحدة ، كما العصر الذهبي القصي ، عندما حكم الإله - الشمس في الأرض ، ومات ، مثال الاستقرار ، النظام العالمي العدل الذي يجب على كل من الآلهة والملوك والعامة أن تخضع له . وهكذا نجد أن " التقدم " عند قدماء المصريين كان في العودة إلى القواعد السالفة
. بينما كانت هذه المفاهيم ، حول الوجود في طور التكوين ، عمت حالة من عدم الاستقرار في آسيا الغربية وشرقي البحر المتوسط . ففي أواسط الألف الثاني ق.م ، انهارت الحضارتان الهرابانية في وادي نهر السند ( هندوس ) والمنيوية في بحر إيجه . وتسبب جفاف المناخ العام في ارتحال السكان من جنوب غرب آسيا ، وفي ازدياد الضغط على القبائل السامية الغربية - ومن بين هؤلاء العبرانيين " العابرين من مكان إلى آخر " ، كان إبراهيم " الآرامي التائه " ، - أما هجرة عائلة يوسف ، لاحقاً إلى مصر ونجاحة هناك فتظهر فترة ما بعد السلالة الحاكمة الثانية عشر ( انتهت حوالي 1786 ق.م ) حين سيطرت عشائر الهكسوس ( الأسيوية ) على فلسطين ومصر
. ومن الأحداث البارزة أيضاً في هذه الفترة ، مجيء بني إسرائيل إلى فلسطين في القرن الثالث عشر ق.م ، ونزول " شعوب البحر " وأشهرها الفلسطينيون إلى ساحل فلسطين . وكان هؤلاء مهرة في استعمال الحديد . كما انتقل بني إسرائيل من حياة نصف بدوية إلى استقرار في فلسطين يعتبر حدثاً مهما في هذه البلاد . أما الحدث الأهم والعبرة الأمثل فهماً انفطام إبراهيم عن النظرة إلى الوجود السائدة في بلاد ما بين النهرين وإنعتاق موسى من عادات مصر
. إن نظرة الإنسان إلى الطبيعة تقرر كيفية استعماله لها . ومعرفة بني إسرائيل لله خالقهم جعلتهم يقفون موقفاً مختلفاً تجاه الطبيعة والعناية بالأرض " لأن الأرض التي أنت داخل إليها .. ليست مثل أرض مصر … حيث كنت تزرع زرعك وتسقيه برجلك كبستان بقول ، بل … هي أرض جبال وبقاع ، من مطر السماء تشرب ماء ن أرض يعتني بها الرب إلهك . عينا الرب إلهك عليها دائماً من أول السنة إلى آخرها " ( تثنية 11 : 1. - 12 )
. ومن هنا ، نجد أنه ليس في لغة العبرانيين كلمة تدل على الطبيعة ، سوى نشاط الله نفسه . فالله المتكلم في الرعد ، والمبارك بالمطر ، والمبلي بالجفاف ، وهو الذي ينفخ في الريح ، ويدين بالزلازل ، ويعلن مجده في السماوات
. رأى العبرانيون الله ، حسب إيمانهم ، عاملاً من خلال نشاط الطبيعة وأسرارها ، وأدركوا أيضاً أنه تعالى فوق الطبيعة وأسمى منها . لم يكن الله في نظرهم محدوداً ضمن البيئة كما كان يعتقد الآراميون الوثنيون ، ولا كان مفهومهم لله والطبيعة مفهوماً فلسفياً ، بل نابعاً من الإيمان والخبرة
. إن مناخ أرض فلسطين الهضبية بما يميزه من اضطراب مواقيت سقوط المطر فيها ، كان يمثل التحدي الدائم لحياة بني إسرائيل الخلقية . وما أظهرته ألواح رأس شمرا أن البعل ، إله الخصب والمطر ، كان على رأس الآلهة الكنعانية . وفي هذا الإطار ، يكون انتصار إيليا على كهنة البعل في جبل الكر مل إثباتاً لقدرة الله المتفوقة .وهذا ما أكده ، بعد ذلك ، ارميا النبي : " هل يوجد في أباطيل ( أوثان ) الأمم من يمطر ، أو هل تعطي السماوات ( من ذاتها ) وابلاً ؟ أما أنت هو الرب ( الذي يمطر ) ؟ إلهنا ( أنت ) فنرجوك ، لأنك أنت صنعت كل هذه " ( إرميا 14 : 22 ) . وكان ثمة تجربة إضافية وهي الاتكال على خزانات محفورة في صخور كلسية للتزود بالمياه عند الحاجة . إذ أن اكتشاف ملاط مقاوم للماء في العصر البرونزي جعل تخزين المياه ممكناً . وهذا ما يفسر انتشار بني إسرائيل ، وسكناهم في تلال اليهودية والسامرة ، واستيطانهم في المساحات الخالية من الشجر التي لم يتم السكن فيها من قبل . وهذا ما نتلمسه في كلمات الكتاب المقدس " لأن شعبي عمل شرين . تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آباراً مشققة لا تضبط ماء " ( ار 2 : 13 ) . وكانت ، بالفعل ، تتشقق هذه الآبار بفعل هزات أرضية محلية ، فتتسرب المياه المخزونة للحاجات الطارئة خلال وقت الجفاف ، في فصل الصيف
المحافظة على البيئة
. الله الخالق يعتني بالأرض التي خلقها ، لذا كان لازماً على شعبة أن يكون وكيلاً أميناً على ما وهبه الله فيتحمل مسئولية الحفاظ على البيئة والحياة فيها . والمناخ في حوض البحر المتوسط ، والحياة النباتية فيه تتوازن بشكل دقيق ، والحروب تعرض هذا التوازن للخطر ، فإذا أُرغت الأرض من سكانها تتكاثر الوحوش ( خروج 13 : 29 ) والنباتات الضارة
. كما يؤدي قطع الغابات وإزالة النباتات إلى تعرية الأرض من التربة الصالحة للزراعة . وتشهد بذلك عبارة " المنزلقات " الواردة مراراً في العهد القديم على التفسخ السريع لمرتفعات الأرض الجافة وتضاريسها الحادة . وفي القرون الأولى للميلاد سن اليهود قوانين تمنع تربية الأغنام والماعز لئلا تنقرض الأعشاب وتتآكل التربة . قال الرابي عقيبه ، على سبيل المال : " لا يتبارك الذين يربون المواشي ويقطعون الأشجار المثمرة " . ويشبه سفر الأمثال 28 : 3 ظالم الفقراء " بمطر جارف لا يبقي طعاماً " . ويعتبر حزقيال انهدام الجلالي أو المدرجات الجبلية ، وهي تعادل تآكل التربة ، كارثة رهيبة : " الجبال تنهار والجلالي تسقط ، وكل جدار يقع إلى الأرض "