جغرافية الكتاب المقدس
. ما نجده في أحداث الأسفار المقدسة يكشف عن قصص تاريخية مرتبطة بالأرض، أرض محددة وشعب معين،أرض اختارها الله لشعبه تدور في ربوعها قصص العهد القديم كله
. وتقع الأرض المقدسة في منطقة الهلال الخصيب الذي يضم فلسطين وسوريا والفرات ويمتد حتى الخليج الفارسي ويحدها من الشرق الصحراء العربية الواسعة ومن الغرب البحر المتوسط أو البحر الكبير (يشوع 1 : 4)، وبسبب موقعها كانت أهم الأقاليم الجغرافية ومنطقة التنافس بين الإمبراطوريات العظيمة، فطبيعة موقعها كانت حلقة اتصال بين مدنيات عظمى في مصر وما بين النهرين، ولعدة قرون لعبت دوراً مؤثراُ وهاماً في عبور الجيوش الفاتحة لممالك عظمى قامت وسقطت، فموقع الأرض يعتبر ممر أكثر مما يعتبر مكان استيطان، فكانت مكان مرور العديد من البشر، وبهذه الخاصية كانت أنسب مكان لانتشار المعرفة عن الله الخالق المبدع في أزمنة العهد القديم وعن ابنه الفادي والمخلص في العهد الجديد
. فلم تكن أفضلية الأرض في ثرواتها، أو في أفضلية ذلك الشعب العنيد الذي كثيراً ما كان يتذمر علي الله، وليست أهميتها بسبب جغرافيتها أو امتيازاتها السياسية، لكنها هي الأرض التي التقى فيها الله مع الإنسان بعد طرده من جنة عدن، ففيها تحدث الله مع إبراهيم عند بلوطات ممرا وأصعد موسى علي "جبل نبو " ليريه الأرض، ودخلها يشوع وامتلكها، فيها صار المذبح والهيكل، بل فيها عاش السيد المسيح وصارت مكان الشروق الذي ظهر فيها شمس البر، ومنها انتشر المسيحية إلى العالم
. وإذا تأملنا طبيعة الأرض نجدها ملائمة جداً لمعاملات الله مع شعبه ففيها الأمطار وآبار المياه والمجاعة، وفيها المراعي والحقول، ومحاطة بشعوب كثيرة، لذلك فهي تدفع بالشعب أن يعتمد علي الله دائماً، وبتلك الظروف كانت الأرض مناسبة لإتمام القصد الإلهي. وبالرغم من أن مساحة الأرض صغيرة إلا أنها تتميز بمفارقات شديدة بين برية مخيفة جرداء إلى تلال مغطاة بالعشب والأشجار، فيها وديان وسهول خصبة إلي غور الأردن ويشقها نهر الأردن، وبين بحيرات تنخفض بمئات الأقدام تحت سطح البحر إلي جبال ترتفع آلاف الأقدام، وبين منخفضات إلي جبال حرمون المغطاة بالثلج
وكان أول وصف لأرض الميعاد ، في الكتاب المقدس ، هو ما أخبر الجواسيس به موسى وقالوا "قد ذهبنا إلي الأرض التي أرسلتنا إليها وحقاً إنها تفيض لبناً وعسلاً" (عدد 13 : 27)، وكان هذا التقرير هو الذي زود العبرانيين بقوة وحماس في نضالهم ليمتلكوا الأرض خلال تاريخ عنيف ونضال عاصف.
. أما المدنيات القديمة التي تصارعت في الأرض فلم تترك لنا أي وصف أو خرائط عنها ولم نعرف عنها كثيراً إلا من خلال قصص العهد القديم الذي زودتنا بمعلومات كثيرة عن الإقليم وأسماء المدن وطبيعة الأرض وجغرافيتها، وفي القرن الثاني قبل الميلاد جددت أماكن بعض المدن، وفي أيام السيد المسيح كان لدى اليهود فكرة غاية في الدقة عن الإقليم كله، فأورشليم تقع في قلب القطر في اليهودية وهي محط الأنظار والجليل في الشمال ومركزه بحر الجليل الذي تحيطه المدن وبين الجليل واليهودية تقع للسامرة، أما الشرق فهو منطقة بيرية. وفي القرن الرابع للميلاد ترك لنا يوسابيوس أسقف قيصرية قائمة بأسماء لمدن قديمة
. وكانت أول الخرائط العلمية تلك التي رسمها علماء نابليون أثناء حملته علي مصر سنة 1798م، ومن هذا الوقت بدأ الاهتمام برسوم خرائط أكثر دقة للأرض المقدسة وتطورت رسومات الخرائط لتكون غاية في الدقة بعد التقدم في صناعة آلات التصوير وأجهزة المساحة والقياس، وزيادة المعرفة عن الأرض المقدسة بدراسة دقيقة للتاريخ والآثار
. استولي العبرانيون علي الأرض التي تمتد من قادش برنيع ووادي العريش جنوباً إلى جبال حرمون شمالاً ومن البحر المتوسط في الغرب إلى الصحراء في الشرق باستثناء سهل الفلسطينيين وأرض موآب، وكان العبرانيون يذكرون أن بلادهم امتدت من دان إلى بئر سبع وهي مسافة حوالي (15. ميلاً = 24. كم) طولاً و (5. ميلاً = 8. كم) عرضاً، وكانت لهم فكرة في غاية الدقة عن الأرض وحدودها فالجغرافية الإقليمية لديهم كانت تقوم على أساس أقدس الأماكن متدرجة إلى أقلها قدسية وكانت أورشليم هي قدس الأقداس منذ عصر داود النبي
: وهناك عدة اقتراحات لدراسة جغرافية الأرض وهناك أكثر من وصف للأرض ولكن أكثرها سهولة ما اقترحه جورج آدم سميث سنة 1931 حيث يمكن تقسيم الأرض من الغرب إلي الشرق إلي ستة أقسام طبيعية كبرى هي
: [1] السهل الساحلي The Coastal Plain
. ويمتد جنوبي صور بطول الإقليم من الشمال إلى الجنوب مكوناً شريطاً ضيقاً يحده ساحل البحر المتوسط من جانب والتلال من الجانب الآخر. ويمتد السهل من الشرق حتى يندمج في وادي يزرعيل المتسع، ومن الغرب يكون خليجاً بين عكا (بتولمايس (أعمال 21 : 7) وحيفا، وهنا يعترض جبل الكرمل امتداد السهل، وشمال جبل الكرمل كان السهل يسمى سهل أشير وجنوب جبل الكرمل كان السهل يسمى فلسطين وسهل شارون في شمال الكرمل يضيق السهل إلا أن المرافئ الطبيعية تكثر به ومن هذا الإقليم خرج الفينيقيون للتجارة، وفي جنوبي الكرمل لم يكن هناك مرافئ طبيعية سوى مرفأ يافا الذي سافر منه يونان وهو هارب (يونان 1 : 3). ولم يقم ميناء بحري عظيم إلا في عصر هيرودس الكبير حيث أقام ميناء قيصرية (أعمال 21 : 7)، والفلسطينيون استوطنوا القسم الجنوبي من يافا ولم يقم به موانئ فلم يكونوا بحارة، وكانت أهمية هذا الجزء بسبب موقعه علي الطريق بين مصر وسورية وكان يسمى طريق البحر (أشعياء 8 : 23). وفي أزمنة العهد القديم لم تكن أرض الشواطئ جذابة فلم تكن سوي بعض من التلال الرملية التي تحيط بها الغابات والمستنقعات أحياناً وكانت تكثر فيها غابات الصنوبر ولكنها اختفت الآن، وآخر ما قطع منها كان بواسطة الأتراك سنة 1914م
: [2] الشفيلة The Shephelah
. هي المنطقة الثانية وتفصل بين جزء من السهل الساحلي حيث استقرار الفلسطينيين وبين منطقة تلال اليهودية وهي تلال منخفضة ترتفع أعلى قمة فيها إلى (15.. قدماً = 454 متراً). وكانت الشفيلة مغطاة بالغابات وتكثر بها أشجار الجميز (1 مل : 1. : 27) وتعتمد بها أراضي المزارع والمحاصيل (2 أي 26 : 1.)، ولكنها كانت تكثر فيها المعارك الحربية إذ كانت منطقة مرور للمتحاربين، ولذا كان لزاماً أن تحصن الطرق وتحرس حراسة مشددة (قض 14، 15، 1 صم 17) ولكنها في الأيام الحديثة تحولت إلى منطقة زراعية
: [3] المرتفعات الوسطى The Central Highlands
. هو الإقليم الأساسي للممالك اليهودية، ويقع في منطقة الجبال علي طول خط تقسيم المياه ويكون سلسلة الجبال الوسطى وتمتد من جبال لبنان حتى سيناء، وتنحدر الأرض بعيداً غرباً جهة شاطئ البحر من ناحية وإلى الأردن من الناحية الأخرى، ويبلغ أعظم ارتفاع لها إلى 328. قدماً = (944 متراً) قرب حبرون، وتنحدر غرباً انحدراً تدريجياً، أما في الشرق فانحدارها شديد، وكانت الجبال مغطاة بالغابات وقد اختفت منذ أمد بعيد وتحولت إلى إقليم تغطيه الأحجار الجيرية وتربته ضعيفة لذلك تقوم الزراعة علي مصاطب كمدرجات وأحياناً في حقول صغيرة، ومعظم الإقليم منطقة لرعي الحيوان
. وفي شمال الإقليم عدة تلال منعزلة تطل علي سهل إزدرائيلون تمتد تلالها إلي الشاطئ حتى صخرة بارزة في البحر هي جبل الكرمل ويبلغ ارتفاعه 197. قدماً (596 متراً) وهو يختلف تماماً عن الشاطئ شماله وجنوبه وعلى الطرف الشمالي للكرمل تقع مدينة حيفا، وكانت المدن الحصينة نقط دفاع قوية في الإقليم وكانتا عاصمتي المملكتين يهوذا وإسرائيل تقعان في الإقليم، ولم يكن بهذا الإقليم طرق سوى الطريق الأساسي من حبرون إلي أورشليم ومنها إلي شكيم
: ولسهولة دراسة إقليم المرتفعات الوسطى يمكن أن نقسمها كالآتي
: [1] سهل إزدرائيلون Esdraelon
. وهي السهول والوديان التي تفصل الجليل عن السامرة، وهو واد ضيق يبلغ الارتفاع فيه 3.. قدماً (9. متراً)، ولم يذكر السهل صراحة في العهد القديم لكن ذكر وادي يزرعيل وسهل مجدو وهما يقعان فيه. وتتقدم سلسلة المرتفعات الوسطى نحو الجنوب فيعترضها وادي يزرعيل وكلمة وادي ليست حقيقية إذ أن المنطقة في حقيقتها سهل مثلث الشكل يبلغ من الشاطئ حتى وادي الأردن 5. ميلاً (8. كم) عرضاً و2. ميلاً (32 كم) من الشمال إلى الجنوب، وهي منطقة تجمع المياه المنحدرة من التلال المجاورة لتصب في البحر عن طريق نهر قيشون، وفي هذه المنطقة تقع مدينة بيت شان. في الحد الغربي تقع الطريق الساحلية وهو الطريق الهام بين مصر ودمشق والطريق إلى ما بين النهرين لذلك كان طريقاً للتجارة كما كان طريقاً للغزو ونشبت فيه أعظم المعارك وفيه فقد سيسرا عرباته في مستنقعات الوادي وهرب على قدميه (قض 4 - 6)، وإلى الجنوب الشرقي من يزرعيل حيث جبل جلبوع احتدمت المعركة التي سقط فيها شاول وبنوه الثلاثة (1 صم 31 : 1 - 6)، وتقع مجدو عند الحافة الغربية لتل مجدو وما يسمى هرمجدون والذي صار علامة للمعركة العظمى (رؤ 16)
: [ب] الجليل Galilee
. تستأنف المرتفعات شمال سهل إزدرائيلون سيرها وهي تمتد شمالاً وترتفع تدريجياً كلما اقتربت من جبال لبنان العالية، وترتفع في سلسلة من الدرجات تواجه حافتها المنحدرة إلى الجنوب والجنوب الشرقي، أما الدرجات السفلي فهي أرضاً رسوبية خصبة عرفت في زمن السيد المسيح بفاكهتها وزيتونها
. ويقسم الجليل إلي الجليل الأعلى ويبلغ الارتفاع فيه 2... - 3... قدماً (606 - 909 متراً)، والجليل الأدنى وبطبيعة الحال الجليل الأعلى جباله أكثر ارتفاعاً من الجليل الأدنى، وتنتهي مرتفعات الجليل الأعلى إلى قمم عالية ضيقة ليس فيها ممرات للسير وكان يصعب في أزمنة العهد القديم الاستقرار أو المعيشة فيها، أما عن الجليل الأدنى فهو يختلف تماماً فجباله معزولة الواحدة عن الأخرى
. وكانت الحدود الشمالية للجليل تتأثر تأثراُ كبيراً بما يحيطها من الجيران والشعوب ولم يخضعها الإسرائيليون إخضاعاً تاماً، وأهم الطرق التجارية كانت تخترق الجليل وازداد فيها مرور الأجانب وقضى السيد المسيح طفولته في الجليل، وامتازت الجليل كمنطقة زراعية ومصائد للأسماك حيث بحر الجليل الذي ينخفض إلى 66. قدماً (2.. متراً) تحت سطح البحر ومساحته 12 ميلاً (2. كم) طولاً و 6 أميال (1. كم) عرضاً
: [ج] السامرة Samaria
. تقع المنطقة جنوب سهل إزدرائيلون وفيها جبل عيبال 3077 قدماً (932 متراً) وجبال جرزيم 2849 قدماً (863 متراً) الجبلان اللذان يحرسان الممر عند شكيم وفي ملتقى الوديان حيث واد ضيق بينهما تقع مدينة شكيم (نابلس حالياً) (تك 12 : 6، 33 : 19)
: [د] في الاتجاه نحو الجنوب
. تمتد الوديان المتسعة حتى جبال بيت إيل 263. قدماً (797 متراً) ومنها إلى حبرون سلسلة متراصة من الجبال 22.. قدماً (667 متراً) وشديدة الانحدار إلى جهتيها من الشرق والغرب. وجبال حبرون منفصلة عن جبال بيت إيل وبها أودية متسعة يمر فيها عدة طرق تصل بين السهل الساحلي وسلسلة الجبال الوسطى، وعلى هذه المرتفعات تقع أورشليم 24.. قدماً (727 متراً) وهي المنطقة الهامة وتقع على ملتقى الطرق، وجبال حبرون جنوب بيت لحم قمتها 3... قدماً (909 متراً) وتنحدر حتى تلتقي بالنقب وهي أقل في الاتساع بكثير عن جبال بيت إيل
: [4] وادي الأردن (الغور) The Jordan Valley (Ghor)
. وهي المنطقة الرابعة في أقصى الشمال تقع دان عند أحد روافد الأردن العديدة، وينبع نهر الأردن من جبال حرمون وينحدر جنوباً إلى بحيرة الحولة وكانت مليئة بالمستنقعات (جففت حالياً)، وجنوب الحولة علي حافة الجليل العليا تقع مدينة حاصور وهي المدينة الهامة التي تحرس الطريق إلى الإقليم. وينحدر الأردن إلى بحر الجليل ونادراً ما ذكر في العهد القديم وعند طرفه الجنوبي يدخل وادي منخفض يسمى الغور، وليس جوانب الوادي نفسه شديدة الانحدار فقط لكن النهر حفر لنفسه مساراً متعرجاً داخل الوادي فامتلأ بالأدغال الكثيفة والسدود النباتية مما جعل عبور النهر صعباً (قبل إنشاء القناطر الحديثة) وجنوب بحر الجليل يمتد نهر الأردن مسافة 65 ميلاً (15. كم) لتصل إلي البحر الميت. وشواطئ البحر الميت تنخفض إلى 127. قدماً (385 متراً) تحت سطح البحر ومياهه عالية الملوحة جداً بالرغم من تغذيته بالمياه العذبة لنهر الأردن (حز 47)، وليس هناك طريق أساسي علي جانبي النهر لأن عبور الأرض شاق بسبب النهر وروافده ولأن الصيف في الغور حار جداً، وجنوب البحر الميت يمتد الوادي الجبلي والذي يرتفع إلى 65. قدماً (197 متراً) فوق سطح البحر قبل أن ينحدر ليلتقي بالبحر الأحمر عند خليج العقبة
: [5] شرق الأردن Trans Jordan
. تسمى الأرض الواقعة شرق الأردن عبر الأردن وهي المنطقة الخامسة وتوجد بها مرتفعات كالمرتفعات التي في غرب الأردن لكنها أكثر ارتفاعاً ففي شرق الجليل تصل إلى 19.. - 23.. قدماً (6.. - 7.. متراً) وفي جنوب وشرق البحر الميت 65.. قدماً (2... متراً) ويزداد المطر بالارتفاع مما يجعل شرق الأردن منطقة خصبة بين الوادي الجاف من جانب والصحراء العربية من الجانب الآخر
. ففي مقابل الجليل منطقة باشان الغنية فهي هضبة خصبة للزراعة ومنطقة صالحة لرعي الحيوان (حز 22 : 13، 4 : 1)
. وجنوب نهر اليبوق حيث يدخل وادي الأردن في النهاية الجنوبية لبحر الجليل منطقة جلعاد وهي أيضاً منطقة جبلية خصبة ومنطقة غابات كثيفة وموطن يفتاح (قض 11)، وخصب باشان وثراء مربي الأغنام حيث تكثر المراعي لتربية الأغنام والماشية في موآب (2 مل 3 : 4)، بالإضافة إلى نجاح التجار في أدوم جعل هذه الأقاليم منافساً قوياً للإسرائيليين جيرانهم في غرب الأردن وكان من الفائدة للإسرائيليين أنه كان صعباً علي هذه الشعوب المجاورة لها أن تعبر من الشرق إليهم لأن الوادي قد فصل بين إقليمين متشابهين كل منهما علي مرأى من الآخر عبر الوادي
: [6] الصحراء Desert
. هي الأراضي التي تمتد من صحراء الإقليم حتى تصل إلى الصحراء السعودية وهي منطقة لم تكن ذات قيمة
. وبنظرة عامة علي جغرافية الأرض المقدسة نجدها تتوافق بدرجة كبيرة مع القصد الإلهي لشعبه، فتلك الأرض التي اختارها الله لشعبه خلال تاريخ حافل بالمعاملات الإلهية دبر أن يرسل في آخر الأيام الابن الوحيد المخلص والفادي ليعيش في هذه الأرض ويؤسس خطة خلاصه علي أرضها "فالله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وبطرق شتى كلمنا في هذه الأيام في ابنه" (عب 1 : 1)، وإن كانت الأرض ليست هامة أو غنية لكن أهميتها العظمى ترجع إلى اختيار الله لها فليست هناك أرض اشتهاها وحارب من أجلها شعب أكثر من الأرض المقدسة
ثانياً : طبيعة الأرض
. لتبسيط دراسة طبيعة الأرض نقتصر على دراستها من جهة بعض الأمور الهامة من جهة المياه ومواردها وهي شريان الحياة في الأرض وموارد الأرض الأخرى وعن طبيعة المناخ من الأمطار والحرارة
: وطن جبلي A hill Country
. أرض الميعاد كما يعرفها الكتاب بين دان في الشمال وبئر سبع في الجنوب وهي 15. ميلاً (24. كم) طولاً، وأكبر مسافة ابتداء من الساحل هو 5. ميلاً (8. كم) عرضاً. والأرض في الواقع تشبه سقف بيت فهي ترتفع تدريجياً من ساحل البحر إلى 32.. قدماً (1... متراً) فوق سطح البحر ثم تنحدر فجأة إلى وادي الأردن، في شرق الأردن وشمال الجليل الجبال ترتفع إلى 65.. قدماً (2... متراً)، في أدوم جهة حافة الصحراء الشرقية، وترتفع إلى أكثر من 98.. قدم (3... متراً)، في جبال لبنان وجبل حرمون في الشمال. والإقليم معظمه مغطى بطبقة من الحجر الجيري يصعب معه إيجاد تربة زراعية وفي البحر الميت الملوحة العالية وعلي جانبي الأخدود توجد العيون الساخنة والصخور المعدنية، وفي هذا الوطن الجبلي انتشر الرعي الذي اشتغل به كثير من رجال العهد القديم
. المناخ Climate : ونعني به الأمطار Rainfall والندى Dew والحرارة Temperature، الصيف حار جاف والمناخ عامة يقترب من مناخ الشرق الأوسط، والجبال مغطاة بالثلوج. والأمطار تختلف غزارتها باختلاف الارتفاع فتزداد فوق الجبال عنها في المناطق المنخفضة، وهذا يوضح ما ذكره السبطان والنصف اللذان امتلكا أرض شرق الأردن أن الأرض طيبة لرعي المواشي (عد 32)، وأرض جلعاد كانت ذات شهرة بسبب خصوبة الأرض حيث أن تلالها تتمتع بغزارة في سقوط الأمطار عنها في جبال اليهودية. والأمطار تسقط في فترة الشتاء بعد صيف جاف يستمر في الأشهر من يونيو إلى سبتمبر حيث ينعدم فيها سقوط الأمطار، والمطر المبكر في أكتوبر والمطر المتأخر في مارس، والمطر في إسرائيل أمر حيوي، فكان سقوط المطر أمراً هاماً في حياة الشعب (تك 12 : 1.، 26 : 1، 1 مل 18 : 1)
. من الأمور الحيوية في الأرض مصادر المياه ، لذلك لعب الندي دوراً هاماً في حياة الشعب خاصة أنه في بعض المناطق الساحلية يغطيها 2.. ليلة في السنة، فكان الندى مؤثراُ كما يظهر في قصة جدعون (قض 6 : 37) وقصة إيليا (1 مل 17 : 7). وتختلف درجات الحرارة في فصول السنة المختلفة فبينما تصل درجات الحرارة في الصيف في منطقة البحر الميت إلى 4. درجة مئوية، فالشتاء في الجليل الأعلى يكون مصحوباً بالجليد، لكن درجات الحرارة علي الساحل تتراوح في المتوسط بين 22 - 25 درجة مئوية صيفاً. وتهب رياح خماسينية حارة جافة من الجنوب آتية من الصحراء العربية وعن تلك تحدث السيد المسيح (لو 12 : 55)
. النبات Vegetation : تختلف حالة الأرض المقدسة في أيامنا عن تلك التي عاش فيها الشعب في العهد القديم خاصة أن كثيراً من الغابات قد اندثرت وبعض الأراضي تحولت إلى أرضي زراعية، وعامة تختلف النباتات من مكان لآخر ففي الصحاري تنمو النباتات الصحراوية والأعشاب والكلأ علي سفوح الجبال، أما فوق الجبال فتنتشر الغابات والأشجار الخشبية المعمرة، وهذا الاختلاف يعود إلى اختلاف كل من الجو وطبيعة الأرض التي تختلف من مكان لأخر. ففي الشمال حيث الجبال ناحية لبنان تغطيها الأشجار أما في الجنوب فهي جرداء بسبب الصحراء
. وكونت الأراضي الغنية بالحشائش والمصاطب حزاماً ضيقاً حول جبال اليهودية وشرق الأردن في الجزء المتوسط، في منحدرات السهل الساحلي تحولت أراضي الحشائش إلى أراض مستصلحة للزراعة، وبدأت التغيرات والاستفادة من الأرض في أزمنة الرومان حيث زرعت بعض الصحراء، وحالياً حدثت تغيرات واسعة إذ اختفت الغابات وتحولت الأراضي إلي بساتين وزرعت بالمحاصيل مثل مناطق بلاد موآب
: موارد الأرض The resources of the land
. لعبت الموارد الطبيعية دوراً فعالاً ومؤثراُ خلال مراحل حياة الشعب خاصة الماء والمعادن والصيد
. الماء Water من أكثر الأمور حيوية في الأرض كان إمكانية الاحتفاظ فالصحراء واسعة والأمطار لا تسقط إلا في الشتاء فقط والنهر الوحيد هو الأردن ويستمد ماءه من ثلوج جبال حرمون وينحدر بلا فائدة من ناحية تخزين الماء ليصب في البحر الميت. وكانت المدن والقرى قديماً في الإقليم تعتمد علي مياه الينابيع والآبار لحصولها علي الماء، ودعت الحاجة إلى الماء إلى أنظمة ومشاريع لحفظ الماء، فمدينة هامة مثل أورشليم وهي مرتفعة في موقعها علي جبال عالية من الحجر الجيري لابد أن تحتاج طريقة لجلب الماء إليها، وهذا ما دفع الملك حزقيا أن ينحت قناة في الصخر ليجلب المياه إلى المدينة المقدسة (2 مل 2. : 2.)، كما لم يفت الرومان أن يبنوا القناطر ويحفروا القنوات
. المعادن Minerals : الحديد والنحاس موجودان في صخور الأرض وتلالها (تث 8 : 9)، وعرف النحاس أولاً منذ عصور قديمة، لكن الحديد عرف متأخراً بعد أن اكتشف الحثيون طريقة صهره، وأتى الفلسطينيون بسر صناعته معهم، وظل الإسرائيليون لا يعرفون الحديد فترة طويلة ولم يستطيعوا صناعة أدواتهم وأسلحلتهم منه إلا في عصر داود، وهذا ما جعل بوفرة في خليج العقبة مما أتاح صناعة مزدهرة في عهد سليمان، وأنشأ سليمان أسطولاً تجارياً كان سبباً في ثراء المملكة فنشطت تجارة إسرائيل مع جيرانها فأتي بالذهب والفضة والأخشاب من صور، والعاج من أفريقيا، والأطياب والتوابل من البلاد العربية (1 مل 1. : 22)
. ولم يستفد من أملاح البحر الميت في القديم لكن حالياً ازدادت الاستفادة من الثروة المعدنية باستخراج الفوسفات من الصخور والبوتاسيوم والبروميد والماغنسيوم من أملاح البحر الميت
. الصيد Fishing : واقعياً لم يستطع الإسرائيليون أن يسيطروا علي الشاطئ لذلك لم يستفد منه في صيد الأسماك، وإن كان قد ذكر عن بوابة السمك (نح 13 : 16)، لأنه ربما كان مقابلها سوق لتجارة السمك، فكانت الأسماك تجلب بواسطة تجار غير إسرائيليين من صور، وبطبيعة الحال لم تكن مياه البحر الميت العالية الملوحة صالحة للحياة البحرية ومعيشة الأسماك فيها، لكن حزقيال تكلم في رؤياه عن صيادين يبسطون شباكهم في مياهه ويمسكون منه سمكاً (حز 47 : 1.)، وظلت الرؤيا سراً حتى تمت في أيامنا الحديثة حيث جلبت مياه عزبة إلى البحر الميت لتحلية مياهه
. أما في أزمنة العهد الجديد فنشاط الحياة حول بحر الجليل جعل هذه البحيرة تلعب دوراُ هاماً في حوادث الإنجيل إذ كانت مصدراً رئيسياً للغذاء في إسرائيل إذ كانت تمد الإقليم بكميات من السمك فالبحيرة ماؤها نصف عزب حيث يخترقها نهر الأردن
. موارد أخرى : كانت هناك بعض الموارد الطبيعية الأخرى وأيضاً كانت مؤثرة في حياة الشعب كغيره من الشعوب القديمة مثل صيد الحيوانات خاصة تلك التي تعيش في الغابات، فقد كان "عيسو" إنسان يعرف الصيد إنسان البرية (تك 25 : 27)، وكانت هناك حيوانات وطيور للصيد (أم 1 : 17)، وكان بعضها يؤكل وبعضها حرمته الشريعة (تث 14 : 4 - 8، لا 17 : 13)، ونعرف أن مائدة سليمان الفاخرة كانت تقدم عليها الغزلان والطيور (1 مل 4 : 23)
. إن تنقل الحياة البيئية بين " الأرض " و " البرية " كان بالغ الأهمية في الكتاب المقدس . وليس أبلغ منه سوى التباين بين الجبال الممتدة كعمود فقاري وسهول الساحل . كانت تفيد من هطول الأمطار ومن المياه المصرفة ومن كونها أكثر ملائمة لزرع الأشجار المثمرة . فبلدان كثيرة ومنها مصر كانت تستورد من فلسطين الزيت والخمر والزبيب والتين المجفف بكثرة . ويفوق ما سبق في الأهمية ، تحول كل قرية إلى قلعة حصينة بسبب الظروف السائدة القاسية . وكانت الحجارة متوافرة فلم ينشئ الناس هناك مناطق سكنية لصعوبة الدفاع عنها ، وبقيت الطرق الدولية عبر ماري Via Maris التي بناها المصريون زمناً طويلاً تحت سيطرتهم . وهذا السهل الساحلي كان بالحقيقة الحدود الشرقية لعالم البحر المتوسط ، أكثر مما كان الحافة الغربية لآسيا وشعوبها العائشة في السهوب الجافة
حل الفلسطينيون في القسم الجنوبي من هذا الساحل بموافقة المصريين ، وكانوا حراس الطريق الدولي المجاور للبحر . أما أرض دولة الفينيقيين فابتدأت حيث تترك الطريق الدولية الساحل لتعبر جبل الكرمل إلى سهل يزرعيل .
. يبدو أن الفينيقيين احترموا مجال النفوذ الفلسطيني / المصري ولم يمتدوا جنوباً . وعندما ضعف النفوذ المصري منع الملك داود الفلسطينيين من غزو سفوح الجبال التي تتجاوز الساحل وحصروهم في السهل الساحلي ، فلم تستعد فلسطين نفوذها السابق بعد ذلك . واحترم بنو إسرائيل مجال النفوذ الفينيقي بسبب أهمية أسواقهم التجارية وإفادتهم منها ، حتى سليمان ما قدر أن ينافس نفوذ التجار الفينيقيين في البحر المتوسط لكنه أفاد من فرص التجارة في البحر الأحمر والمحيط الهندي ، من خلال مرفأ عصيون جابر على خليج العقبة
. لكن نفاذ بني إسرائيل وتجار فينيقيا إلى المحيط الهندي هدد مصالح مصر التي احتكرت التجارة فيه . فأخذت تحيك المؤمرات ضد الملك سليمان ونجحت لاحقاً فيتحريض الآدوميين على التمرد ضده وقطع الطريق التجارية . وبعد ذلك ناصرت مصر ثورة يربعام التي أدت إلى انقسام الاتحاد الذي قام بين شمال مملكة إسرائيل وجنوبها ، وقضت على خطر نشاط اليهود التجاري في البحر الأحمر
. أدخل نهوض العالم اليوناني الذي سببته انتصارات الإسكندر الأكبر عاملاً جديداً إلى الساحة . فلقد دمر الرومان بلا رحمة سيادة فينيقيا التي دامت ألف عام . وضمن الإسكندر لسكان الداخل في البلدان التي احتلها مواقعهم وحقوقهم ليحافظ على طرق التجارة الساحلية والبحرية . وانتشرت الجاليات اليونانية ولغتهم وحضارتهم في الشرق وعلى الساحل الفلسطيني ، واستمر تأثيرهم - مع تعديل طفيف قام به الرومان - ألف عام . وبسقوط إمبراطورية قرطاجة في الغرب وجهت روما الضربة القاضية إلى الحضارة الفينيقية ، وتبع ذلك احتلال الرومان شرق المتوسط وفلسطين
. وما سيشعر به قارئ العهد الجديد من تباين بين جو الداخل اليهودي في فلسطين وحياته الريفية ( وهو ما ترسمه البشائر ) ، وجو الحياة في المدن الرومانية على الساحل وسائر مدن البحر المتوسط ( وهو ما تصفه الرسائل ) . وبعد سقوط أورشليم في العام 7. م ، إزداد الوجود الروماني كثافة في الداخل الجبلي أيضاً وأنشأوا شبكة طرق ومعسكرات ، وكان هذا تطعيماً للوجود الهليني المنتشر على السواحل