يسوع المسيح والكتاب المقدس
كتب أحدهم :" صادفت ذات يوم أكثر النساء حباً للقتل ، كنت أزور ورشة آثار في العراق ، فاستقبلتنا امرأة المشرف على الورشة . ولم نكن نعرف إلا بعد فوات الأوان أن تلك المرأة هي أجاثا كريستي ، الكاتبة الشهيرة للروايات البوليسية . لو عرفنا الأمر قبل فوات ذلك ، لكنا أطلنا الحديث معها ، أما الآن ، فكان علينا أن نستعيد ذكرياتنا القليلة .. بعض الكلمات التي نطقت بها ، وكيف كان لباسها …
. لعل مثل هذه القصة قد جرى لكل واحد منا
. وهذه القصة هي التي عرفها التلاميذ الأولون . لقد تبعوا يسوع المسيح ، لمجرد أن معلمهم يوحنا المعمدان دعاهم إلى اتباعه ، دون أن يعرفوا من هو في الحقيقة . أصغوا إليه بانتباه كما يصغي الناس إلى أحد الأنبياء ، لا بل اعتقدوا بأنه قد يكون النبي والمسيح . ولم يكتشفوا إلا بعد العنصرة ( يوم الخمسين ) أن ذلك الإنسان هو ابن الله ! وكان أن ذكرياتهم عن تلك السنين التي قضوها معه اكتسبت عندئذ أهمية عظيمة ، فأخذوا يستعيدون تلك الذكريات . ولكما انقضت السنون ، عظمت تلك الأهمية في نظرهم
. وأنا كمسيحي أريد أن أتبع يسوع المسيح، وأن أفعل ما علم به، وأسير حيث يقودني مقتفياً إثر خطواته، وأختبر الحياة الفياضة التي يقدمها
. في سبيل ذلك من واجبي قراءة الوقائع التي دونها شهود العيان الذين عرفوه. هنا أكتشف أن يسوع ادعي أنه يعلن الله بذاته، وأنه الذي يظهر لنا ماذا الله يشبه. وأكتشف أيضاً أن يسوع هو الإعلان الذروة والإتمام النهائي لقرون من إعلان الله المدون في سجلات تعود إلي مئات من السنين قبل زمانه
. إذاً، أنا أريد سلطة يسوع، وهو يقودني إلي سلطة الكتاب المقدس. ولا يمكن أن نكتفي بواحد دون الآخر
. الحقيقة أن يسوع أعلن الله للإنسان بطريقة ما كان يمكن للعهد القديم وحده أن يقوم بها. لقد شاهد المسيح يسوع أناس عاديون وسمعوه ولمسوه وأحبوه. أما نحن أنفسنا فلم نكن هناك. ولا يمكن أن نعرف ماذا كان يشبه، وما قال وفعل، من خلال ما كتبه مؤرخو ذلك الزمان من غير المؤمنين به
. فهؤلاء يخبروننا فقط أن نبياً يهودياً يدعى يسوع عاش ونادي برسالته وتشاجر مع السلطات فنفذ فيه حكم الإعدام. وقد يذكر واحد أو اثنان شيئاً عن معرفتهم بقيامته. وهذا كل شئ. لذا علينا أن نفتح كتاب العهد الجديد إذا أردنا معرفة الإعلان الذي قدمه يسوع المسيح، فإننا هناك نجده
. لا ينبغي أن نأسف لأن تكون معرفتنا ليسوع المسيح مؤسسة علي كتاب، فيسوع في الحقيقة قصد ذلك.فلم يكتب يسوع شيئاً إلا مرة واحدة على الرمل ! لقد تكلم ، ولقد عاش . هذا كل شئ ، وهذا أمر على جانب من الأهمية . أنظر إلى سقراط الفيلسوف اليوناني وإلى تلميذه افلاطون . إن سقراط ، أيضاً ، لم يكتب شيئاً ، وافلاطون هو الذي دون تعاليم معلمه . ونحن ندرس الآن مؤلفات افلاطون ، ولكننا نهتم بشخصية سقراط
. والأمر ينطبق على يسوع وبصورة خاصة في أصل البشرى الإنجيلية ، حيث نجد يسوع وشخصه . فلو كان قد ترك كتباً ، لكنا عددناه معلم حكمة فقط . ولكن ، لأنه عاش عيشة بسيطة وتامة ، فنحن نُحال إلى شخصه هو . فالذي أثر في تلاميذه هو هذا الشخص وما فيه من سر
كتاب يسوع المقدس
. لقد كان على رأس اهتمامات يسوع المسيح ، أن يختار رسله ويدربهم. وهذه المجموعة من الرسل التي عاشت معه كان عليها أن تحفظ تعاليمه وتنشرها. وتأسست الكنيسة علي تعليم الرسل. وما العهد الجديد سوى سجل لما علموا. إنه مجموعة من الكتب التي قبلتها الكنيسة الباكرة علي أنها كتبت علي يد الرسل أنفسهم أو بيد زملائهم الأقربين ، فهي لذلك تبرز الإيمان الرسولي القويم
. إذا أردنا معرفة يسوع وتعاليمه فعلينا الرجوع إلي العهد الجديد إلي شهادة أولئك الذين اختارهم يسوع بنفسه وأوكل إليهم أن ينقلوا تعاليمه. وفي سبيل ذلك أرسل هو نفسه الروح القدس "ليرشدهم إلى كل الحق"
. إن كنا نقبل سلطة يسوع يمكننا عندئذ أن نقبل العهد الجديد كمصدر لمعرفتنا به وبتعاليمه كلياً. ونحن أيضاً ملزمون بقبول العهد القديم، لأن يسوع نفسه، ابن الله المتجسد، قبله ككلمة الله الموجهة للإنسان. فإن كان يسوع هو مرجعنا الموثوق، فعلينا أن نفعل مثله
: نطق يسوع ببعض الأقوال المهمة حول العهد القديم
. "لا تظنوا أني جئت لأنقض بل لأكمل. فالحق أقول لكم إنه إلي أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف أو نقطة من الشريعة حتى يتم الكل"
. "لا يمكن أن ينقض الكتاب"
. "ينبغي أن يتم كل ما كتب في ناموس موسى وفي الأنبياء والمزامير"
. ولقد أطلق يسوع أقسى أحكامه علي الذين حاولوا ترك وصايا الله الواضحة (في شريعة العهد القديم) وحفظ تقاليد الناس، بغض النظر عما لهذه التقاليد من احترام
. إن أحكام يسوع الدائم إلي العهد القديم في كثير من الحالات والظروف المتنوعة أمر لافت للانتباه ، فقد أكثر من استعماله بعضاَ منه في تصريحاته بين وقت وآخر. ففي مناظراته الجدلية يقتبس باستمرار من العهد القديم ليفحم مقاوميه. وكان يفعل ذلك لا لمجرد أن يواجه الآخرين بسلاحهم، بل اعتمد العهد القديم بالمقدار ذاته ليواجه الشيطان! حتى في نزاعه الأخير فوق الصليب نبس من شفتيه آيات من العهد القديم
. إن أكثر اقتباسات يسوع من العهد القديم وردت في خطبه التعليمية إلي تلاميذه ، وذلك إما بشواهد واضحة منه أو بعدد لا يحصى من العبارات التي تنقل صداه، بحيث أن بعض خطبه تبدو وكأنها رقعة مطرزة بكلمات العهد القديم وأفكاره. وأفضل مثل هو نبوءة يسوع حول خراب أورشليم وعن مجيئه ثانية، فهذه الآيات مملوءة بلغة العهد القديم. ففي ثلاث منها فقط يقتبس لا أقل من سبعة مواضع منه
إتمامه العهد القديم
. والمسألة ليست فقط مسألة لغة، بل هي في أن مضمون تعليم يسوع نراه يستند بقوة إلي العهد القديم، فقواعد يسوع الأخلاقية الأساسية مستوحاة من شريعة موسى. وإذا اختلف مع معاصريه حول القضايا الخلقية فذلك لأنه اتهمهم بأنهم أخذوا وصايا العهد القديم بخفة وفهموها بسطحية
. وفوق ذلك كله، فإن تعليم يسوع عن دوره في مقاصد الله يعتمد كلياً علي قناعته بأن عليه أن يتم ما جاء في العهد القديم. وتعليمه بعد قيامته، عندما "بدأ من موسى وجميع الأنبياء يفسر لهما ما ورد في شأنه في جميع الكتب" كان ذروة ما قام به لسنوات خلال خدمته
. وفي عدد من المواضع نطق يسوع بتصريحات مشددة عن أنه جاء ليتمم نبوات الكتاب المقدس. لكن تصريحاته هذه ما هي سوى الظاهر من قناعته التي تقف خلف تعليمه عن إرساليته. لقد جاء "ليتمم"، وكأن هناك إلهياً حيال ما كتب. "ينبغي" أن يتم
. إذاً المسيحي هو تابع لمن اعتبر العهد القديم كلمة الله الموثوق بها من غير سؤال. لقد آمن يسوع بآيات العهد القديم وصادق علي تعاليمه، وأطاع وصاياه وكرس نفسه ليتمم نموذج الفداء الذي يرسمه. فواضح أن من يدعو يسوع "رباً" وينظر بخفة إلي العهد القديم، لا يكون علي وفاق مع من اعتبره إعلان الله الأسمى
. غني عن البيان أن جميع كتب العهد الجديد تؤيد تماماً نظرة يسوع إلي العهد القديم. فالاقتباسات والتلميحات الكثيرة من العهد القديم في الجديد تظهر اعتماداً مشابهاً لاعتماد يسوع عليه لتبيان شخصية الله ومقاصده. يقول كاتب الرسالة إلي العبرانيين إن الله تكلم بالأنبياء، ويقول بولس لتيموثاوس "كل الكتاب موحى به من الله". العهد القديم إذاً هو رسالة الله
. الأمر اللافت أن لا تمييز في العهد الجديد بين ما يقوله "الكتاب" وما يقوله الله. فقد نسبت بعض الاقتباسات من القديم إلى الله مع أن الله لم يكن المتكلم بحسب القرينة. وبالعكس، نسبت أقوال الله الواردة في نص العهد القديم إلي "الكتاب". لقد شق يسوع الطريق في قبوله العهد القديم ككلمة الله وسار العهد الجديد في إثره وإذا كنا نحن المسيحيين نضع أحكامنا أو تقاليدنا الموروثة فوق الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد فإننا ننشق عن الرب ورسله، ونفصل أنفسنا عن المصدر الأوحد لمعرفة الله
. وإليك هذا المثال بحسب البشير لوقا ( 24 : 13 - 34 ) كان تلميذان يعودان يوم الفصح إلى بيتهما في عمواس ، وقد بردت همتهما بعدما جرى ما جرى ليسوع " كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل …" . كان هذا الاعتراف ينم عن اختبار ورجاء كُتبت لهما الخيبة ، لم يوجه يسوع إليهما أي توبيخ ، بل اتضح له أنهما لا يزالان على رجاء العهد القديم . فجدد معهما قراءة الكتب المقدسة ، وإذا بقلوبهم تضطرم وتستطيع أن تعرف ، عند كسر الخبز ، أن الذي كان يخاطبهما هو الذي قام من بين الأموات
. قد يتفق لنا نحن أيضاً أن تخور عزائمنا . فالعهد القديم حاضر ليأخذ بيدنا على جميع طرقنا البشرية ويعود بنا إلى ذلك الذي ينبئ به ، يسوع المسيح الرابط بين العهدين ، ومحقق العهد القديم في نفسه