. خلق الله الكون، وهو يمده بأسباب البقاء، كما يعتني بالجنس البشري، وقد أعطانا الكتاب المقدس دليلاً لحياتنا. يدلنا الكتاب المقدس كيف نتصرف تجاه الله والناس. وكما أن الله غير محصور في زمن محدد كذلك حكمة الكتاب المقدس هي لكل الأزمنة
. والكتاب المقدس لا يناسب الأفراد فقط، بل المجتمع أيضاَ. فالمسيحية ليست مجرد سلوك فردي خاص وعبادة في الكنائس. إنها نظام عالمي ينافس الأنظمة العالمية الأخرى، وتبرهن بالحجة إنها أعلى من أن تكون علي قدم المساواة مع الماركسية، والوجودية، والقومية، والرأسمالية. إن كلاً من هذه الأنظمة مؤسس علي نظرته الخاصة للسلوك البشري، وجميعها لها مقاييسها الخلقية. أما المسيحي فيعتقد أن التعليم المسيحي من حيث هو حق يوافق المجتمع ويفيده أكثر من أي نظام آخر. فالكتاب المقدس يقدم لإنسان القرن العشرين الشيء الذي يبحث عنه
. لو كان الله غير موجود لما كان هناك شريعة إلهية. ولو أن الشريعة الإلهية غير موجودة لتوجب علي البشر التوافق علي الصواب والخطأ. وإذا لم يتوافقوا، فمن يفصل في الأمر؟ والنتيجة أن الطبقات الاجتماعية تصطرع والأمم تتحارب والنزاع يتصاعد بسبب رفض سلطة من خارج تفصل في الصواب والخطأ
. يعلن الكتاب المقدس وجود نظام أخلاق من خارج معطى من الله لخير كل البشر. وهم، ولاة أم عباد، مسؤولون أمامه، تعالى. فمقاييسه ملزمة لجميع الناس
أساس للعلم
. تدعي الفلسفات الأخرى ارتكازها علي العلم. لكن العلم نفسه يرتكز علي التعليم المسيحي. إن ما أدى إلى تطور المناهج العلمية في القرن السابع عشر كان الإيمان بأن الله إله نظام، وإله منطق، وإله أحكام ثابتة. والعلم يضل طريقه أن ترك نقطة الارتكاز هذه. جعل بعضهم من العلم إلهاً، وكثيرون اليوم يرفضونه بالكلية. نجاح العلم يكمن في العودة إلي الأساس: التعليم المسيحي
نظرة واقعية للإنسان
. الشر ظاهر بكل وضوح في عالمنا. لا الثقافة تستأصله ولا تحسين البيئة. ولم تحقق الثورات أو تغيير الحكومات، في معظم الأحيان، غير استبدال مجموعة من الشرور بأخرى. ويوضح الكتاب المقدس سبب ذلك. فالشر ليس مجرد أمر خارجي، بل هو كامن في عمق كيان الإنسان. إن التمرد الأول علي الخالق ترك الطبيعة البشرية تعاني الكثير من ميل وراثي دائم نحو الشر. وهذا الميل لا يقدر العقل علي تغييره ولا القوة. ويعلم الكتاب المقدس أيضاَ أن الله زود البشر ببعض المصالح المشتركة – الضمير، وإمكانية التمييز بين الخير والشر، وببعض المؤسسات (العائلة، الدولة، الكنيسة) التي تشجع الصلاح وتعيق الشر
الإنسانية تستعاد
. المذهب العقلي الذي عم جميع الأوساط في هذا القرن، وتغلغل في الثقافة والفلسفة، خفض قدر الإنسان فجعله حيواناً محكوماً بوجود لا معنى له يلاشي بالموت. غير أن الإنسان يصرخ معترضاً ضد هذا الاعتبار، لأنه يشعر بوجود شئ خارج صندوق الزمان والمكان الذي يجد نفسه فيه، فيأخذ يتلمس طريقه غريزياً متتبعاً حقائق الإيمان المسيحي الذي يؤكد أن الإنسان ليس مجرد جسد إنما هو نفس وروح أيضاً. ولا هو ذرة زائلة من كون هائل الحجم لكنه ذو شأن أبدي
. فائدة الكتاب المقدس لنا في جيلنا لا تقتصر على العموميات. إنه يمكننا من فهم أنفسنا والعالم الذي نعيش فيه ومن تقويمه. وهو يزودنا بنظرة شاملة – بفلسفة نحيا بموجبها. وفي الوقت نفسه يعالج ظروفاً وحالات عملية مثل أسلوب الحياة أو نظام المجتمع الذي نعيش فيه
. معظم تعليم الكتاب المقدس مؤسس علي قصة الخليقة. وتضمنت الشريعة المبادئ الأساسية ذاتها. وفي العهد الجديد أكد يسوع من جديد عليها
. انتهت الشريعة الطقسية الخاصة بالعهد القديم في الصليب، حيث أتمت غايتها. كذلك الشريعة المدنية لإسرائيل كأمة، لا يمكن نقلها من الإطار التي جاءت فيه وتعميمها كما هي، مع أن مبادئ كثيرة تحتويها هذه الشريعة لا تزال مناسبة لمجتمعنا المعاصر. بيد أن الشريعة الأدبية في العهد القديم هي سارية المفعول إلى الأبد. ربما يجبر الناس علي تغيير قوانينهم لكن الله لا يغير قانونه. هذه الشريعة الأدبية تتضمن الوصايا العشر. ويسوع جاء لتمم الشريعة الأدبية لا لينقضها. وأعلن معناها الأعمق في عظة الجبل وفي أقوال أخرى. ليس فعل الزنى خطيئة فحسب، بل تكفي نظرة شهوة. لقد سترت الشريعة الأدبية بقشور الرياء وفتاوى التحايل علي قوانين السلوك بين الناس. جاء المسيح وعزى الشريعة من القشور وكشف التزامات الناس الأدبية بعضهم نحو بعض بكل جلاء. والشريعة الأدبية المسيحية ليست سارية المفعول في كل زمان فحسب، بل هي أيضاَ تطبق علي كل الناس. ومع أن الناس يجدون المقاييس المسيحية عالية، فإنهم يقرون بالصواب والخطأ، بالخير والشر. إن الشريعة المسيحية تلقي تأييداً واسعاً لأسباب وجيهة
شريعة تحمي الضعيف
. إن أكثرية سكان العالم عرضة للاستغلال بشكل أو بآخر. وشريعة المسيح الخلقية تحمي الناس من المظالم حيثما أخذ بها. إنها تحمي الضعيف من المتسلط، والفقير من الغني وتنادي بحقوق المرأة والطفل، والأيتام والأرامل ضد كل إهمال واستغلال
القصد من شريعة الربا في العهد القديم، مثلاُ، كان استعمال ثروة المحظوظ في مساعدة الذين هم أقل حظاً ليتجاوزوا أزمة شديدة إلي أن يصبحوا مكتفين ذاتياً. كذلك حماية المزارعين العائشين علي الكفاف المحتاجين إلي من يدعمهم لتمكنوا من البقاء من موسم حصاد إلي آخر، وبخاصة إذا كان الموسم غير مغل. بلا شريعة كهذه كان يمكن الغني من مطالبة الفقير بفدية أو تعويض باهظ يفوق طاقته فكان هذا يضطره إلي بيع أرضه ليدفع التعويض. وهذه الشريعة ما كانت تمنع إقراض المال بفائدة قانونية، لأن إقراض المدخرات الجامدة بقصد تشغيلها أمر حيوي لتنمية الاقتصاد.
. هناك اتفاق عام علي أن الشريعة الخلقية تحمي الضعيف. فالنقابي يخشى، وسط التنافس في النظام الرأسمالي، علي الضعيف من الإفلاس. والعامل بطبعه يقف إلى جانب القرارات المؤيدة لحق الكادحين
. علي غراره، كان مبدأ شريعة اليوبيل يمنع الغني من تكديس كل صكوك الملكية بيده. ففي كل نصف قرن كان يعاد توزيع الأراضي إلي مالكيها الأصليين
مفهوم الشريعة والنظام
. الشريعة المسيحية تحمي المجتمع من الفوضى. جاء في رسالة بولس إلى رومية: السلطة المدنية أقامها الله لتثبيت الخير وكبح الشر
. أما بشأن الجرائم والعقوبات، فالشريعة الواردة في العهد القديم تضع عقوبات علي جرائم التعدي علي الأشخاص أشد من تلك المرتكبة ضد الممتلكات. فالناس أهم من الأشياء – هذا مثل أعلي نحن في خطر أن ننساه هذه الأيام
. تقتضي الجريمة عقاباً عادلاً. أما المجرم فيجب أن يعامل معاملة يشفق فيها عليه. لذلك فالمسيحي يقف خطي "القسوة" و"الشفقة" في مسألة العقوبة. تجتهد الشريعة في العهد القديم لضمان ألا تتعدى العقوبة مقدار الجرم، وكانت أحكامها علي أية حال، أقل بشدة مما لو قاضى الناس بعضهم بعضاً بأنفسهم. المسيح نفسه قال للمرأة التي أمسكت في حال الزنى – وعقوبتها الموت – "اذهبي ولا تخطئي بعد"
. من الناحية الأخرى، المسيحي ليس حراً لأن يؤسس نظرته في شأن الجريمة والعقاب علي الافتراض المسبق أن كل جريمة هي مجرد نوع آخر من المرض، وهي قابلة مثله للعلاج. نظرة الكتاب المقدس إلي الجريمة هي أنها فعل أخلاقي يقع مرتكبه تحت طائلة المسؤولية، بينما المرض غير ذلك. واهتمام المسيحي بإصلاح المجرم يجب ألا يجعله ينكر التعدي الحاصل، أو يقصر في حماية المجتمع من المعتدي. لكن بعد إيفاء العقوبة الصادرة، علي المجتمع أن يساعد المذنب ليصبح مواطناً صالحاً
. من أخطار معاملة المجرمين كمرضى حسبانهم مواطنين من الدرجة الثانية. إن مدى العقوبة في حكم القاضي تحدده طبيعة الجرم، أما الطبيب فيمكنه احتجاز المريض إلي أن يقرر أنه شفي. إذا رمينا المقياس الخلقي غير المنحاز جانباً، فماذا يمنه الغالبية في المجتمع – أو أقلية في السلطة – من حجز الذين لا تتلاقى نظرتهم بنظرتها في مصح الأمراض العقلية إلي أن "يشفوا"؟ هذا الأمر حدث فعلاً
دعم العائلة
. الشريعة المسيحية تحمي العائلة، المؤسسة الأولي في المجتمع. ولدي الكتاب المقدس الكثير ليقوله حيال مفهوم العائلة، ويختلف المثال الأعلى المسيحي للعائلة بشكل مميز عن بعض المفاهيم الجارية
. ثبات الزواج فكرة أساسية في الإيمان المسيحي. هذا يمنح الأمان للفريقين: الأزواج والأولاد. والعلاقات بين أعضاء العائلة تكون أكثر حرية مما لو كان علي الأزواج والأولاد أن يأخذوا في الحسبان إمكانية انهيار هذه البنية الأساسية بجملتها. إن التوتر الذي ينشأ من الشعور بعدم الاستقرار غالباً ما يعجل بانهيار الزواج، إذ تسود الغيرة والانقسام
. لا يسمح الكتاب المقدس إطلاقاً بالطلاق علي أساس عدم التجانس. ففي كل زواج ثمة شئ من عدم التجانس. بيد أن الكتاب المقدس يضع الزواج في إطار أوسع. فهو ليس علاقة غرامية بين شخصين بمعزل عن سائر الناس، بل أن عائلتي الزوجين لهما صلة بالموضوع، وكذلك المجتمع. والعائلة الأوسع تحمي الزوج والزوجة كما تحمي الأولاد من الضغوطات والتوترات التي تنشأ في عائلة العصر الحاضر الصغيرة، حتى ولو أن معظم الاتصالات بالأعمام والأخوال والعمات والخالات وأبناء العمومة والخؤولة وبناتها وحتى الأحفاد تقتصر علي اتصالات بالهاتف تجرى من أسبوع إلى أسبوع
. المثال الأعلى المسيحي للزواج هو أن يكون بين رجل واحد وامرأة واحدة – هذا العامل رفع شأن المرأة ومقامها في العالم كثيراً. ومن يمل إلى الارتياب في صوابية الزواج من قرين واحد فقط عليه بقراءة المشاكل التي عانى منها يعقوب وداود وسائر الذين اقترنوا بغير امرأة واحدة. إن واجب الزوج أن يحب زوجته ويرعاها بحنانه، وليس له حقوق مطلقة بالسيادة عليها. غير أنه، رغم ذلك، هو رأس العائلة والحكم وصاحب الكلمة الأخيرة
. بعبارة دقيقة، العلاقة الجنسية قبل الزواج بنظر الكتاب المقدس هي تناقض لفظي. فالعيش معاً باتحاد الجسدين هو زواج. والاثنان يكونان جسداً واحداً. غير أن الأمر لا يتوقف هنا، فالزواج شأن اجتماعي كذلك. فهو يتضمن أن يترك الإنسان أباه وأمه، ويتضمن أيضاً العلاقة مع الآخرين – المجتمع عموماً. واحتفال عقد الزواج هو إقرار بذلك. أما بشأن الطلاق فيبدو أن المسيح يسمح به لسبب واحد: زنى أحد الزوجين بشخص ثالث
. العلاقة الجنسية، كما تظهر في الكتاب المقدس، جزء وقسم من علاقة أوسع. ينبغي أن يكون الجنس تعبيراً عن احترام دائم ومحبة تضحي بالنفس، فيكون عاملاً لتنمية المحبة والاحترام. وإذا مورس الجنس خارج هذا الإطار فالنتيجة تكون عكسية. والمرأة، بسبب اعتمادها علي الرجل لإعالتها، تكون عادة الفريق الخاسر
. العلاقة الجنسية بأشخاص متعددين علة دائمة في المجتمع. ولا أحد يدري ما سيؤول الحال إليه لو عمل بنصيحة المدافعين علناً عن جوازها. رغم ذلك، فإن غالبية البشر لا يرون أية فائدة عملية في هذا الأمر أو مرغوباً فيها. إن النظرة المسيحية للزواج، في المقابل، هي عملية وتؤدي إلى سعادة الحياة الزوجية أكثر من أي خيار آخر
. إن هذا مجرد إيضاحات بشأن الكتاب المقدس من حيث مناسبته لمجتمع اليوم والإنسان المعاصر. وهي ترتكز أول كل شئ علي الخليقة وعلى شريعة صادقة نحو الإنسان والمجتمع كما هما بالحقيقة
. غير أن الكتاب المقدس لا يقتصر علي شريعة وضعها الله للإنسانية، إذ إنه يقر بأن الإنسان غير قادر علي حفظ الشريعة، كما أنه غير قادر علي التعويض عن إساءاته ضد إله قدوس. هكذا نرى أن القصد من إعطاء الشريعة لم يكن لمجرد تنظيم السلوك في عالم غير كامل، بل كان لإظهار عدم كمالنا، وبالتالي قيادتنا إلي المسيح
فالمسيح بموته تلقى الحكم الصادر بحقنا بسبب خطايانا، وهو يقدم الغفران والحياة الجديدة للجميع: للمسيحيين في كل الأجيال وعلى مدى ألفين من السنين كما لجميع الأمم والأجناس، هذه هي الحقيقة الأسمى في المسيحية: اختبار غفران الخطايا، والشركة مع الله بالصلاة والعبادة، واختبار حضور الروح القدس الذي يغير الحياة. المسيحيون يعرفون أن شرائع الله صالحة وصادقة، والكتاب المقدس بالنسبة إليهم ليس مجرد كتاب واقعي عن الطبيعة البشرية. فلقد وضعوا الكتاب المقدس في بوتقة الاختبار فوجدوه صحيحاً.