شبهات شيطانية حول العهد القديم
الفصل الأول
سلامة الكتب المقدسة
(1)
تعريف التناقض
لا يمكن القول بوجود شيء وعدم وجوده في وقت واحد وبمعنى واحد, ولا يمكن أن تجتمع صفتان متناقضتان في شيء واحد, ولا يمكن أن يكون قول ما صادقاً وكاذباً معاً,
هذا المبدأ يتفق في الجوهر مع المبدأ المشهور الذي وضعه أرسطو وهو: يستحيل القول بوجود صفة وعدم وجودها في شخص واحد، في وقت واحد، وبمعنى واحد , فإذا ثبت مخالفة مبادئ هذا التحديد في أية عبارة فلا بد من الحكم بوجود تناقض فيها, غير أن ناقدي الكتاب المقدس غالباً يعبثون بمضمون هذا التحديد فيصيحون قائلين: هنا تناقض! بينما المبدأ السابق لا يبرر عملهم هذا,
(1) لا يمكن القول بوجود شيء ما وعدم وجوده في وقت واحد , وقد يكون أمراً غير قابل للتصديق (مع كونه صحيحاً) أن الناس يتوهمون وجود تناقض بين عبارتين، بينما يكون غائباً عن ذهنهم إن كان المقصود بالعبارتين شيئاً واحداً أم لا, ففي أعمال الرسل 12 يقال إن هيرودس قطع رأس يعقوب، وبعد هذا ببضع سنوات عند عقد المحفل الرسولي العام كما ورد في أعمال الرسل 15 نجد أن أحد المتكلمين يعقوب , فقد يتسرَّع الناقد الطائش ويقول: هنا تناقض! فلا يمكن أن شخصاً ما يكون موجوداً وغير موجود في وقت واحد ,
ونحكم بوجود تناقض إذا كان الشخص نفسه هو المذكور في الأصحاحين, فهل الشخص المذكور في الحادثتين هو يعقوب واحد؟
إن من له ولو معرفة بسيطة بالعهد الجديد يعرف أن يعقوب أعمال 12 هو يعقوب بن زبدي، بينما يعقوب أعمال 15 هو يعقوب بن حلفي, ولذا يتلاشى التناقض الظاهري حالما نلاحظ بتدقيق أن الفصلين يشيران إلى شخصين مختلفين,
(2) ولْنُلاحظ القول وقت واحد , قد يبدو تناقض بين عبارتين بسبب عدم ملاحظة الزمن المقصود, ففي تكوين 1 يُشار إلى إكمال الخليقة كحقيقة واقعة بينما تكوين 6 ينفي هذا الإكمال, قد وُجد من قال إن سفر التكوين يناقض نفسه, ولكن سواء بتعمُّد أو بغير تعمُّد، قد فاتهم أن الإكمال المُشار إليه كان بعد الخلق مباشرة، بينما العبارة التي تنفي هذا الإكمال تشير إلى الزمن السابق للطوفان, كم يكون من الجهل أن يُقال إن ما كان يصْدُق عن بلادنا منذ ألفي سنة مثلًا يجب أن يصدُق عنها اليوم!!
(3) نلاحظ في التحديد أيضاً هذه العبارة بمعنى واحد , كثير مما يُقال له تناقض يبدو واضحاً إذا روعيت هذه العبارة, كثيرون من غير المؤمنين يقولون بوجود اختلاف بين كلام المسيح عن يوحنا المعمدان وكلام المعمدان عن نفسه,
قال الرب يسوع عنه: إن أردتم أن تقبلوا، فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي (متى 11: 14) بينما يوحنا المعمدان نفسه في ردّه على المرسَلين من قِبَل الفريسيين ليسألوه إن كان هو إيليا أم لا، أجاب: لست أنا , فإحدى العبارتين تقول إن يوحنا المعمدان هو إيليا، والأخرى تفيد عكس ذلك, فهنا يبدو لأول وهلة تناقض صريح, ولكن على القارئ أن يفحص إن كان للعبارتين معنى واحد أم لا,
وعند مراعاة هذه النقطة يزول التعقيد والتناقض الظاهري، فلم يقل المسيح عن يوحنا إنه نفس إيليا النبي القديم وقد رجع إلى الأرض، ولكنه يقول إنه إيليا الذي كان مزمعاً أن يأتي, يعني إيليا المتنبَّأ عنه، أو سابق مسيا بحسب ما جاء في ملاخي 4: 5 وهذا بخلاف ما يُستفاد من قول يوحنا عن نفسه, فمعنى السؤال الذي وُجِّه إليه كان: هل هو إيليا القديم الذي عاش في عهد أخآب وإيزابل أم لا؟ فكان جوابه الصحيح نفياً صريحاً, فمن اللازم أن نراعي بدقة معنى كل عبارة,
(4) الصفات التي تُسند إلى شخص أو شيء ما يجب ألّا تكون متناقضة، فالطول والقِصر مثلًا صفتان متناقضتان، بمعنى أن الشخص لا يمكن أن يكون طويلًا وقصيراً في وقت واحد,
ولكن قبل القول بتصادم العبارتين لأنهما تنسبان صفتين متناقضتين إلى شخص واحد أو شيء واحد، علينا أن نتروَّى لئلا نخدع أنفسنا, يقول الكتاب عن الله إنه نار آكلة، كما يقول أيضاً إنه رحيم، ولذا قيل إنهما صفتان متناقضتان, كثيراً ما يكون القاضي الجالس على كرسي القضاء للحكم على المجرمين صارماً، ولكن عند احتكاكه بالبائسين الجديرين بالعطف يبدو منه الإشفاق واللطف والعون,
ولنأخذ مثلًا آخر, يُقال في الكتاب عن المسيحيين إنهم قديسون، ويُقال عنهم أيضاً إنهم يخطئون, فيقول قائل: هنا عبارتان متناقضتان , بينما عند الفحص ولو قليلًا يتضح أن هاتين الصفتين تجتمعان جنباً إلى جنب,
يخبرنا الكتاب المقدس أن الإنسان المسيحي ذو طبيعتين، فهو خليقة جديدة مولود من روح الله، ولا يزال في الوقت نفسه بطبيعته الذاتية المولودة في الخطية، أي الإنسان الجديد والإنسان العتيق, فبحسب طبيعته الجديدة هو قديس، ولكن بحسب طبيعته العتيقة هو خاطئ, وهنا نرى الصفتين المختلفتين الموصوف بهما المسيحي مجتمعتين معاً (راجع رومية 7),
(5) القول الواحد لا يمكن أن يكون صادقاً وكاذباً معاً, فإذا قلنا مثلًا إن يوليوس قيصر هزم فرنسا، فلا يمكن أن تكون هذه العبارة صادقة وكاذبة, فإن قال قائل في موقف ما إن هذه العبارة صادقة، وقال في موقف آخر إنها كاذبة يكون هذا تناقضاً منه, يقول الكتاب المقدس: يوجد إله واحد فيظهر أمامنا شيء من التناقض إذا وجدنا في الكتاب ما يفيد أن هذا التصريح صادق وكاذب، ولكننا نقول بكل يقين إن الكتاب المقدس خالٍ على الإطلاق من مثل هذا,
وفي خاتمة تأملنا في تحديد التناقض هذا نرجو القارئ عندما يسمع عن وجود تناقض في الكتاب أن يرجع إلى هذا التحديد ويطبّق عليه كل عبارة، فيرى في الحال أن ما يُقال له تناقض لم يكن له وجود إلا في مخيلة الناقد!
عند فحص المتناقضات المزعومة، من المهم جداً أن نتذكر أنه قد توجد عبارتان مختلفتان الواحدة عن الأخرى دون أن تكونا متناقضتين, في الغالب أن الذين يتَّهمون الكتاب بوجود تناقض فيه هم فريسة لاضطراب الفكر، بمعنى أنهم لم يميّزوا بين الاختلاف والتناقض, فالقول بوجود ملاكين على قبر يسوع في يوم القيامة يختلف عن القول بوجود ملاك واحد, (قابل يوحنا 20: 12 ومرقس 16: 5) وكل عاقل يرى فرقاً في العبارتين، ولكن: هل هما متناقضتان؟ كلا البتة! فإن إحداهما لا تنفي الأخرى، ولكن الواقع أن إحداهما أوسع من الأخرى, ولما كان القانون المشار إليه مطابقاً للعقل ومعمولًا به في الحكم على مؤلفات البشر، حقَّ لنا أن نجعله أساساً لكل ما يُقال له تناقض في الكتاب المقدس,
(6) أحياناً يبدو شيء من التناقض بين عبارتين في الكتاب، والسبب في هذا وقوع خطأ أو عدم تدقيق في الترجمة, ففي حالة كهذه كل من له إلمام باللغة الأصلية يمكنه بكل سهولة حل المشكلة, والخطأ في مثل هذه الأحوال لا يرجع إلى أصل الكتاب بل إلى الترجمة, فاللغتان العبرانية واليونانية المُعطى بهما الكتاب أصلًا لهما اصطلاحات خاصة بهما, وكثيراً ما يتعذَّر ترجمة هذه الاصطلاحات إلى ما يعادلها في اللغات الأخرى, ويمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى عبارتين وردتا في سفر الأعمال بخصوص اهتداء شاول الطرسوسي, ففي أعمال 9: 7 وأما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين، يسمعون الصوت ولا ينظرون أحداً وفي أعمال 22: 9 والذين كانوا معي نظروا النور وارتعدوا، ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمني , وعند أول وهلة يبدو في هاتين العبارتين تناقض ملموس, فالعبارة الأولى تفيد أن المسافرين مع شاول سمعوا الصوت، بينما الأخرى تفيد أنهم لم يسمعوه, ولكن من يعرف اللغة اليونانية يحل هذه العقدة بغاية السهولة، لأن العبارة الأولى تفيد مجرد سماع الصوت، أي مجرد وصول الصوت إلى الأذن, بينما العبارة الأخري تفيد أن المقصود بالسمع فهم كلام المتكلم, فأعمال 22 لا ينكر أن المسافرين مع شاول سمعوا الصوت سمعاً، ولكنه يفيد أنهم لم يفهموا معنى الكلام الذي قيل,
(7) لا يخفى أنه لا توجد بين أيدينا نسخ الأسفار المقدسة الأصلية، بل النسخ التي نُسخت فيما بعد, فمن المحتمل وقوع بعض هفوات في الهجاء وغيره أثناء النسخ, ولا يغرب عن ذهننا أن أصل الكتاب هو الموحَى به, وتعتبر النسخ التي نُسخت فيما بعد موحَى بها في كل ما كان فيها مطابقاً للأصل, على أن النسَّاخ الأولين قد تعبوا كثيراً وكانوا ذوي ضمائر صالحة, ولكن كما يوجد تشابه بين الحروف في كل لغة هكذا الحال أيضاً في اللغتين العبرانية واليونانية، مما يجعل النسخ عرضة لكتابة حرف بدلًا من حرف آخر,
هذا أمر مهم جداً فيما يختص بالأرقام، لأن اللغتين العبرانية واليونانية القديمتين لم يكن بهما الأرقام العربية, فكان العبرانيون يستخدمون الحروف الهجائية بدل الأرقام, وبعض هذه الحروف متشابهة الشكل, وكثير مما يُقال له تناقض يرجع سببه إلى عدم دقة غير مقصودة من الناسخ,
فمثلًا حرفا الدال والراء في العبرانية متشابهان كل التشابه, والباحث المخلص يجد أن غلطات كهذه يرجع سببها إلى النَّسْخ، ولا تؤثر البتة على نص الكتاب وتعليمه, ويمكن النظر إليها كما يُنظر إلى ما يقع من الغلطات الكثيرة في وقتنا الحاضر أثناء طبع الكتب المختلفة, ومهما كثر عدد الغلطات المطبعية في أي كتاب فهذا لا يغيّر نصَّه ومدلوله, وعلاوة على هذا لا يلقي أحدٌ مسؤولية خطأ كهذا على مؤلف الكتاب,
إذا لم تُنسَ هذه الحقائق فالمؤمن التقي لا يعتريه اضطراب عندما يرى خطأ في النَّسْخ، ولا يكون في الوقت نفسه أقل حقٍ للناقد أن يتطاول على وحي الكتاب المقدس,
(8) ومن المهم أن نذكر أنه عند النظر في أي تناقض ظاهري يكفي الإتيان بحل واحد أو توفيق واحد بين العبارات التي يبدو فيها التناقض، وليس من العدل المطالبة بأكثر من هذا, إذا كتب كاتبٌ مثلًا عن شخص ما أنه أصفر اللون، وكتب عنه آخر أنه أسمر، يبدو اختلافٌ بين العبارتين، ولكن يمكننا أن نبين أن العبارتين خاليتان من التناقض، لأن الأول يشير إلى هذا الشخص وهو شيخ، والثاني يشير إليه وهو شاب, حلٌّ كهذا جدير بالقبول، ولا يصحُّ رفضه ما لم يُؤتَ بالدليل على عدم صحته, بمعنى أن التناقض يتلاشى إذا أمكن الإتيان بتوفيق لا يمكن الاعتراض عليه,
قال أحد المفسرين: في حل أي عقدة يجب الاكتفاء بتوفيق واحد يمكن الإتيان به , وإذا أمكن تقديم جملة حلول أو توفيقات فلا مكان لاعتراض أي معترض على الكتاب المقدس, وفي حالة وجود توفيقات كثيرة لا يكون من اللازم الجزم بأفضلية أحدها عن باقيها, على أنه قد يجوز أخذ حل دون سواه,
(9) وعندما نقابل في الكتاب عقدة معقدة نتعب باطلًا في حلّها، لا يجوز لنا مطلقاً في حالة كهذه أن نسلِّم بوجود تناقض حقيقي أمامنا، لأن عجزنا عن حل عقدة لا يفيد أن غيرنا أيضاً يعجز كذلك, لا يخفَى أن إدراكنا محدود ومعرفتنا ناقصة واختبارنا قليل, فما أجهل أن يقول قائل إن ما يحيّره يحيّر غيره! كثيراً مما حيَّر أسلافنا نجده الآن سهلًا, ومن المحتمل أن الأجيال المقبلة لا تجد صعوبة في حلّ ما نراه الآن معقداً وغامضاً,
(10) من الغباوة والتطاول أن ترتفع عقولنا على حكمة الله العظيم, فما نحتاج إليه بصفة خاصة عند تناول ما يُقال له تناقض في الكتاب هو روح الخشوع والوقار، فنحني رؤوسنا إجلالًا عندما يتكلم الملك السرمدي الخالد الغير المنظور الإله الحكيم وحده, فمن اقترب من الكتاب بهذه الروح تتضح له الأمور التي تظهر للناقد الطائش كأنها سفر ذو سبعة ختوم, إن الله يعلن ذاته في كلمته كما في أعماله، ففيهما معاً نرى إلهاً يعلن ذاته ويخفيها، ولا يراه إلا طالبوه بالحق, وفي كلمة الله وأعماله يرى الإنسان ما يؤيد الإيمان، وقد يرى فيهما أيضاً (بسبب قصر نظره) ما يدعو إلى الكفر, فيهما يرى تناقضاً ظاهرياً لا يستطيع حله إلا من يسلّم ذهنه لإرشاد الروح بالوقار, وقبول الإنسان إعلانات الله عن نفسه هو امتحان لقلبه, فعلى الإنسان أن يأكل خبزه بعرق جبينه في حياته الروحية كما في حياته الجسدية أيضاً,