شبهات شيطانية حول سفر الجامعة
قال المعترض : اختلفوا في الشخص الذي كتب سفر الجامعة ,
وللرد نقول بنعمة الله : جرت عادة المعترض أن يأتي بالآراء السقيمة ويغض الطرف عن التحقيقات الصحيحة, ولكن نقول من الأدلة على أنه وحي لسليمان الحكيم ما ورد في 1: 12 : أنا الجامعة، كنت ملكاً على إسرائيل في أورشليم وفي (آية 16) أنا ناجيت قلبي قائلًا: ها أنا قد عظمت وازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلي على أورشليم , بل أن 2: 4 _ 9 و 12: 9 و10 ناطقان بأن سليمان الحكيم هو الذي كتب هذا السفر، فإنه هو الذي اقتنى الثروة الوافرة والقصور الباهرة والعزّ والجاه والحكمة العظيمة، وكان ملكاً طائر الصيت والسمعة، ورأى ما لم يره أحد قبله ولا يراه بعده, ومع ذلك قال: وجدت كل ذلك باطل الأباطيل وقبض الريح ,
قال المعترض : قال لمشي (أحد علماء اليهود) إن سفر الجامعة كتبه إشعياء النبي، وإن علماء التلمود قالوا إنه لحزقيا، وإن هروتيوس قال إن زربابل أمر بتأليفه لابنه إيهود، وقال ياهن إنه كُتب بعد سبي بابل، وقال زركل إنه كُتب في زمن أنطيوخس أبيفانيس ,
وللرد نقول بنعمة الله : (1) هذه الأقوال لا تخرج عن الظن، وسببها أنهم رأوا فيه بعض ألفاظ من اللغات الأجنبية، فذهبوا إلى ما ذهبوا إليه لشدة تدقيقهم, ولكن ظهر بعد التأمل والتحري أن سبب وجود بعض ألفاظ دخيلة في هذا السفر هو مخالطة سليمان للنساء الغريبات (1ملوك 11: 1 و2) فأخذ بعض ألفاظ منهنّ,
(2) كانت تجارة الأمة اليهودية واسعة في عصر سليمان، فدخل في اللغة اليهودية بعض ألفاظ من لغات الأمم التي اختلطوا بها في التجارة, والكتاب يشهد أن الأمة الإسرائيلية بلغت في عصر سليمان أوج المجد واتسعت تجارتها وزادت ثروتها,
(3) الأوصاف الواردة في هذا السفر لا تصدق على إشعياء ولا على حزقيا ولا على غيرهما، بل تصدق على سليمان فقط، فإنه هو الذي اشتهر بالحكمة والغنى وغيرها من الصفات المميزة له عن غيره,
(4)ظهر الله لسليمان مرتين (1ملوك 3: 5 و9: 2 و11: 9),
(5) لمَّا شرع أنبياء اليهود في جمع الكتب المقدسة في مجلّد واحد بعد السبي جزموا بعد التدقيق بأن هذا السفر هو من الكتب المُوحى بها,
قال المعترض : جاء في جامعة 3: 19 و20 لأن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم, موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل, فليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل, يذهب كلاهما إلى مكان واحد, كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما , ولكن هذا منقوض بما جاء في يوحنا 5: 28 و29 لا تتعجبوا من هذا، فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة ,
وللرد نقول بنعمة الله : واضح من يوحنا أن كل الموتى سيقومون, ولكن وُجد في كل عصر أُناسٌ يعلِّمون بفناء النفس، وعليه يكون رجاء القيامة باطلًا, ثم أن الجامعة 3: 19 و20 إذا فُهم معناه صحيحاً لا يفيد فناء النفس، ولكنه يبين أنه كما تموت البهيمة هكذا يموت الإنسان أيضاً, وكلاهما يمضي إلى مكان واحد، بمعنى أن كليهما من التراب وإلى التراب يرجعان, ولا يخفى أن المقصود بهذه الإشارة انحلال الجسم الذي يتبع الموت,
وكاتب الجامعة لا ينفي وجود النفس الخالدة في الإنسان فهو يقول في 12: 7 فيرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها وهذا يعلّم عن خلود النفس ورجوعها إلى الله,
أمامنا إذاً حقيقتان ثابتتان: (1) وقوع الموت الجسدي على الناس والبهائم، مع مشابهة كبيرة بحسب الظاهر من جهة مصيرهما, (2) رجوع نفس الإنسان إلى الله على أثر الموت, فالنفس إذاً خالدة, وعليه نرى أن اتهام الجامعة بإنكار خلود النفس مجرد تخيل لا أساس له,
قال المعترض : جاء في الجامعة 12: 14 لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة، على كل خفي إن كان خيراً أو شراً , ولكن هذا منقوض بقوله في إرميا 31: 34 ولا يعلّمون بعْدُ كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين اعرفوا الرب، لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب, لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد ,
وللرد نقول بنعمة الله : الآية الأولى تتكلم عن قضاء الله العادل، والثانية تتكلم عن نعمته الفائقة في مغفرة الخطايا, ولا يخفى على قراء الكتاب المقدس أنه حافل بآيات كهذه، إذ نجد فيه مئات العبارات المؤيدة للآية الأولى، ونجد الكثير منها أيضاً مؤيداً للثانية, يمكننا تقسيم الكتاب إلى فصلين عظيمين: أحدهما يتكلم عن غضب الله وقضائه،والثاني عن نعمته الغافرة, وعندما نتناول آيات كهذه ندرس قضية الناموس والنعمة,
يقول سليمان: إن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة، على كل خفي إن كان خيراً أو شراً , ومعنى هذا أن الله ديَّان عادل منزَّه عن المحاباة, فالخطأ لا بد أن يقع تحت قضائه العادل، والصواب لا بدّ له من الجزاء الحسن, والخلاصة المقصودة هنا تشبه ما جاء في مزمور 5: 4_6 وفصول أخرى من الكتاب تدل على عدل الله الكامل, ولا شك أن هذه الفصول تصف الله بالعدل، باعتبار أنه المتسلّط القدير على الكون أجمع، الذي يدين الأشرار، ويجازي برّ الأبرار, وواضح أيضاً في الآية المقتبسة من إرميا أن الله في أزمنة ردّ كل شيء يكون صفوحاً عن آثام شعبه ولا يذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد ,
هنا نجد ما يذكّرنا بكلام الله نفسه لموسى عندما عبر أمامه قائلًا: الرب إله رحيم ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء, حافظ الإحسان إلى الألوف, غافر الإثم والمعصية والخطية (خروج 34: 6 و7),
وفي العهد الجديد نسمع يسوع قائلًا: كونوا رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم، فإنه منعم على غير الشاكرين والأشرار (لوقا 6: 35 و36),
يظهر لأول وهلة أن هذه الآيات تناقض العدل، إذ كيف يمكن أن يكون الله عادلًا وفي الوقت نفسه يغفر آثام البشر؟ هذا السؤال يقودنا إلى جوهر الإنجيل، أي إلى بشارة الفداء المؤسَّس على عمل مخلصنا النيابي,
غير أن بولس يتناول قضية عدل الله وغفرانه للخطايا في رومية 3: 21 _ 26 ويشرحها شرحاً جازماً قاطعاً, فيعلّمنا أن الله الرحيم شاء أن يخلّص الجنس البشري الأثيم الذي يدينه عدلهُ, وكان بحسب الظاهر لا يمكن التوفيق بين عدل الله ورحمته, غير أن محبة الآب السماوي قد أعدَّت منذ الأزل طريقاً للنجاة، بحيث تُدان الخطية ولا تمنع الرحمة, فالمسيح ابن الله صار نائب الإنسان الخاطئ واحتمل القصاص الذي كان يقتضيه عدل الله, فلا يمكن إذاً أن ننكر على الله عدله بالقول إنه لا يدين الخطية، لأن المسيح قد جُعل خطيةً لأجلنا وحمل خطايانا في جسمه على الخشبة (2كورنثوس 5: 21 و1بطرس 2: 24), فإذاً قد وُفيت عقوبة الخطية، فوجدت رحمة الله مجالًا للعفو عن الجنس البشري وتدبير الخلاص الأبدي له، على شرط قبول نعمته، فصارت بشارة الإنجيل تنادي: لنا في المسيح الفداء، بدمه غفران الخطايا لأن عمل المسيح قد نفَّذ عدل الله، بحيث دينت فيه كل الخطايا، وأعطى مجالًا لنعمة الله الغافرة, فما يظهر عند أول نظرة مربكاً ومحيّراً يسهل توفيقه عند النظر إلى المسيح, فمجد إنجيل المسيح قائم في ثبوت التعليم عن عدل الله ونعمته,