وطنية
الاقباط
ذكر سير جاستون ما سبيرو "أن مصر هي
مصدر الحضارة وأم القوانين التي حكمت العالم
وأن أبناء هذه الأم ما زالوا يعيشون معنا تحت
اسم القبط"، وأقباط مصر يهيمون حبا بها بل
وتلتهب وطنيتهم عشقا بنيلها وأرضها. والقبطي
على مر العصور ليس في حاجة لان يستورد لنفسه
أبطالا من أى بلد أجنبى ولو كانت الجزيره
العربية أو فلسطين فتاريخ بلاده مليء
بالأمجاد والأبطال، وهنا تحدثنا الدكتورة
نعمات أحمد فؤاد
"
لم يزايل مصر الشعور بنفسها بل اعتدادها بما
أدت وأعطت حتى ذهب الأقباط إلى القول بأن
السيد المسيح له المجد لم يولد في بيت لحم
وأنما ولد في صعيد مصر وذلك ارضاء لحدة الشعور
بمصر وحدة التفاخر بها حتى ليكاد يُجمع
الدارسون على ان المسيحية في مصر كانت تعنى
القومية المصرية وكانت الكنيسة المصرية تعنى
الدين والدولة معا في وقت واحد أو كانت هى
الزعامة التى تلتف بها الامه وتثبت فيها
كيانها ومشيئتها في وجه القوة المفاجئة."
وعبر العصور كانت المقاومة القبطية لكل
ما هو أجنبى أو دخيل ولم تقتصر على طغيان
أباطرة الرومان بل وأيضا الى مقاومة الغزو
العربى والطغيان والتعنت الاسلامى ولقد رفض
أقباط مصر استعمار القسطنطينية المسيحية
بشدة ومما لا شك فيه أن القبط كرهوا استعمار
استنبول الأسلامية، وكما نكّل نابليون
الفرنسى وجيشه المحتل بأقباط مصر كذلك أيضا
كان دور المستعمر الانجليزى ازاء وطنية
الأقباط وحبهم الشديد لبلدهم. وحين نستعرض
معا بعض الصور التاريخية لمدي مقاومة القبط
وثوّراتهم المتتاليه ضد الاستعمار (سواء أكان
استعمارا بيزنطيا أو عربيا أو تركيا أو
أوربيا) لما كان في وسعنا إلا أن نحنى هاماتنا
احتراما لصلابة الشعب القبطى الأبى العريق.
يصف"جوميه" مدى تمسك القبط بمصريتهم
وشغفهم بوطنهم فيقول في دهشة لا تخفى:
"
لقد سعى الاسكندر الاكبر سعيه ليصبغ الروح
المصرية بالصبغة الهيلينية وأقتفى البطالمه
أثره فى ذلك وحاولوا جهدهم أن يستميلوا
المصرية ويضفوا على الفكر المصرى مسحة
يونانية بحته وقد ثابروا فى هذا السبيل مدة
ستة قرون يحاولون الوصول إلى غرضهم. وخيل
إليهم أنهم نجحوا في الوصول الى هدفهم لما
رأوا المصرى وقد شغف بمختلف أنواع الثقافات-
ولكن المصرى له قدره عجيبة على تكييف الفنون
وفق مزاجه. وهو ـ بعد هذا كله ـ مصرى تأصلت جذوره في هذه التربه
التى ازدهرت فوقها حضارته العريقة. فالمصرى
مع كل ما يهضمه من علوم وفنون غريبة فخور
بماضيه، مشغوف ببلاده، فهذا الفخر وهذا الشغف
تأصل فيه إلى حد بعيد الغور، فهو ثابت في
مصريته بحيث لا يمكن اقتلاعها منه أو تحويله
عنها مهما تنوعت المؤثرات".
وان بلغت
مقاومه القبط لليونان والرومان أشدها حتى
الاستشهاد فلا عجب إذا قلنا إن مثل هذه
المقاومة بل وأضعافها قد تصدت للتيار العربى
والأسلامى فمصر التى رفضت من قبل طغيان
أباطره الرومان هي نفسها مصر التى كرهت جشع
ونهم الخلفاء والولاة العرب فكانت ثورات
الشعب القبطى من آن لآخر لا تهمد أبدا، ومن
البديهى أن الغزو العربي كان صدمة عنيفة جاء
عقب الغزو الفارسي عام 619م، ودعنا نستعرض معا
قصة ذود أقباط مصر عن وطنهم الحبيب ضد الغزو
العربي في القرن السابع. يحدثنا "س. روبوبرت"
في كتابـه "تاريخ مصر"2 . بأن الفرس حكموا مصر لمدة 10 سنوات بعد أن
أغتصبوها من حكامها البيزنطيين الضعفاء وفي
هذه الفترة أختار الشعب القبطى الأنبا
بنيامين بطريركا للاسكندرية وهنا حل الأمن
والهدوء وشُيدت القصور الفاخرة بالاسكندرية
وما لبث أن استجمع هرقل قواه لمحاربة الفرس
الذين بدأوا في الضعف ومن الجانب الآخر كان
الزحف العربى بدأ يطفو على سطح الأحداث، وقاد
هرقل جيشه بشجاعة ضد "شوستوس" الذى ارتد
تاركا سوريا -حينئذ، تقدم هرقل واحتل مصر
ثانية عام626 م وكان انكسار الفرس أمام زحف
هرقل بجيوشه فرصة ذهبية لبدء الغزو العربى
الذى ما لبث أن اخترق المقاطعات الفارسية
المجاورة له بسرعة، ولاشك أن النزاع المستمر
بين الفرس والروم أنهك قواهما وهنا زحفت فلول
العرب لتخوض غمار معارك
وحشية تكون نتيجتها الاستيلاء على سوريا
وفلسطين وبلاد النهرين، وما شعر الروم الا
وقد أصبح أمامهم العرب كعدو جديد أكثر جساره
وتعطشاً للحرب من الفرس مما اضطر هرقل
لمهادنتهم حتى يواجه الانقسامات الداخلية
بجيشه المنهكة قواه من محاربة الفرس وفي شهر
يناير عام 640 م بدء عمرو بن
العاص هجومه على الديار المصرية وقد استعان
بكل الامكانيات التى استولى عليها من تلك
البلاد بالاضافة لما اكتسبه جيشه من خبرة
وحمكة وصمدت مصر وأقباطها في وجه هذا الزحف
ولقى عمرو مقاومه شديدة كلفته الكثير من
أفراد رجاله في معارك حاميه الوطيس خاصة في
الفيوم والبهنسا وهنا نترك الدكتور جمال
الدين الشيال يحدثنا عن ذلك في كتابه "تاريخ
مصر الاسلامية " حينما يلمح من بين السطور
عن مدى قوة المقاومة التى وقفت في وجه الغزو
العربى "أن الجيش العربى قد فقد الكثير من
أفراده اثناء المناوشات وبدأت الكفتان
تتكافآن وأصبح مركز عمرو وجيشه حرجا إن لم
يتداركه عمر بالمدد، إذ لم يكن في استطاعته
البته فتتح مدينة مصر وحصن بابليون بمن معه من
جند يقل عددهم يوما بعد يوم ولقد أرسل عمرو من
يستحث عمر بن الخطاب لإرسال المدد، وقد وصل
المدد المنتظر في شهر يونيه فاصبح جيش عمرو
خمسة عشر ألفا وستمائه جندى، وبلغ عنفوان
مقاومة الأقباط للزحف الاسلامى أن هرب عمرو
بن العاص بقواته على عقبيه من الفيوم بعد فشله
في الاستيلاء عليها- وبعد أن وصلته الأنباء
بأن المدد الذى طلبه من الخليفه قد وصل فعاد
أدراجه للاستعانه بهذا المدد الذى كان على
رأسه أقوى المقاتلين وأشرسهم من صحابة نبى
الأسلام وهم الزبير بن العوام... والمقداد بن
الاسود وعباده بن الصامت ومسلمه بن مخلد وكان
كل واحد منهم على رأس أربعه آلاف مقاتل وبذا
اجتمع لعمر جيشا مدربا قوته أكثر من 16 ألف رجل
بالإضافة إلى من أنضم معهم من بدو الصحراء
طمعا في السلايب والغنائم وكان عددهم ضخما
جدا وبهذا تكامل لعمرو بن العاص جيشا قوامه
أكثر من ثلاثين ألف مقاتل وبالرغم من هذا كله
فإن أقباط مصر خاضوا غمار هذه الحرب غير
المتكافئه بكل بسالة وما أوتوا من قوة وهنا
تهمز الدكتوره "سيده اسماعيل كاشف" في
كتابها "مصر في فجر الأسلام" صفحة167
"وقد حارب فريق من الشعب المصرى ممن كان
صنيعه للبيزنطيين في صفهم أو ربما حارب معهم
منتظرا أن يكون النصر للبيزنطيين لا للعرب"
وللاسف لم تدرك الدكتورة سيده أسماعيل أن
وطنية الأقباط وحبهم لمصر هو الذى دفعهم لان
يبذلوا دمائهم بسخاء وأن يصدوا الجحافل
الزاحفة من الغجر، والمتعطشة لخيرات البلاد،
أما المقريزى جزء 1
صفحة177
يذكر في أختصار الحروب الطاحنة التى خاضها
القبط ضد الغزو العربى " أنه كان على تنيس
رجل يقال له أبو ثور من العرب المنتصرة فلما
فتحت دمياط سار إليها المسلمون فبرز إليهم
نحو عشرين ألفا من العرب المنتصرة والقبط
والروم فكانت بينهم حروب طاحنه آلت إلى وقوع
أبى الثور"، أما عمر بن الخطاب فكان قلقا
مسهدا لا يعلم ماذا حدث لعمر بن العاص وجيشه
العرمرم وقد كان فى حسبانه أن مصر سهلة المنال
مثل باقى بلاد النهرين وسوريا وفلسطين وكل
بلاد الشام خاصة وإنه أرسل له المدد تلو المدد
على رأس أحنك قواده وأشرسهم فلم يكن يدرى بأن
أقباط مصر بمثل هذه البسالة والشجاعة للزود
عن مصر، وفي خطاب يرسله عمر بن الخطاب إلى
عمرو بن العاص نجده يتعجب ويتساءل عما حدث
حينما طالت المعارك دون جدوى "أما بعد فقد
عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم
منذ سنتين وماذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من
الدنيا وما أحب عدوكم وإن الله تبارك وتعالى
لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم"، وتوالت
الخطابات على عمرو تستحثه وتشدد عضده
بالامدادات وتدفعه لسحق شعب مصر وقتل أطفاله
وشيوخه وسبى نسائه وتدمير الاسكندرية
الجميلة وحرقها وحرق مكتبتها وكتبها
ومجلداتها وعلى الرغم من كل ذلك فان أقباطنا
لم يهزموا أبدا ولكن الذى هزم هو خيانات الروم
وتيرس حاكم مصر (وفي نفس الوقت هو البطريرك
المعين من قبل القسطنطينية ضد أرادة الشعب
القبطى) كل هؤلاء لم يكن يهمهم على الاطلاق
سلامة مصر أو حتى الدفاع عنها، أقول أن الذى
هزم هو الخيانة والانقسام والطعن في الظهر
أما الشعب القبطى فقد سجل صورة من صور كفاحه
العديدة المليئة بالفخار والتضحية فى سبيل
مصر العزيزة- فهل بعد كل ذلك يمكن أن ُيقال أن
أقباط مصر رحبوا بجلاديهم وساعدوا العرب
الغزاة في احتلال مصر هل يمكن أن يصدق أن
الأقباط هللوا لعداله العرب حينما حرقوا
الاسكندرية كلها ودمروها عن آخرها، هل نستطيع
الادعاء بسماحة المسلمين حينما سحقوا ارادة
الشعب القبطى وأرادوا له كما يقولون الذلة
والمسكنة، إن القول بمثل ذلك يجافى الحقيقة
ولا يتمشى مع منطق الحوادث التى يحاولون
طمسها بشتى الطرق ولقد جانب الصواب كثير من
المؤرخين المسلمين حينما حاولوا الإشادة
بمجد العروبة على حساب وطنية وشجاعة أقباط
مصر.
ولحديثنا بقيه عن وطنية الاقباط وثوراتهم
على الطغيان العربى الإسلامى.
المراجع:
Mikhail
Kyriakos,
Copts
and Moslems Under British Control,
Smith
Elder Company, 1911. London,
موسوعه
تاريخ مصر تأليف أحمد حسين، الناشر دار الشعب.
الهيئة القبطية
الامريكية
شمال كاليفورنيا