7 - التوراة لا تثبت ألوهية المسيح فهل كان موسى عالماً بها وأخفاها عن قومه أم كان جاهلاً بها؟
لم يكن موسى جاهلاً وجود الأقانيم الثلاثة في وحدانية الله, ولم يخف ذلك، بل صرح به فيع دة أماكن من الأسفار الخمسة التي أوحي إليه بها والتي أطلق عليها اسم التوراة منها:
إن أول آية كتبها موسى في سجلات الوحي هي القول: فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللّهُ ـ إلوهيم ـ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضَ ـ تكوين 1: 1 . وكلمة إلوهيم كما جاءت في لغة التوراة وردت في صيغة الجمع, مما يدل على أن وحدانية الله جامعة,
وكتب موسى أيضاً: إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ ـ تثنية 6: 4 . ولفظة إلهنا في هذه الآية وردت في صيغة الجميع، مع العلم أن القصد منها بيان الوحدانية,
ومما يلفت الانتباه في هذا المقام هو أن الله استعمل ضمير الجمع لنفسه في آيات عديدة دونها لنا موسى في أسفاره منها قوله تعالى:
نَعْمَلُ الْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا ـ تكوين 1: 26 . وليس المقصود بقوله عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا الصورة الجسديه بل الصورة العقلية الروحية,
هُوَذَا الْإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا ـ تكوين 3: 22 .
هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ ـ تكوين 11: 7 .
فهذه الآيات تدل على أن الله واحد في الذات مثلث الأقانيم, ولعله من الأفضل قبل أن ندرس هذه العقيدة، أو نبحثها البحث الكتابي المجرد، أن نلم في شيء من الإفصاح بتاريخها في كنيسة المسيح، والأفكار التي تناولتها، حتى انتهت إلى وضعها النهائي الدائم غير المتغير,
كان المسيحيون في أيام الرسل، وحتى هلة القرن الميلادي الثاني، لا يفكرون في وضع صيغ معينة للعقائد المسيحية، إذ كانوا يمارسون مبادئ هذه العقائد، كما جاءت في الكتاب المقدس دون أن يضعوا لها شكلاً معيناً وحين كانت تعترضهم صعوبة أو مشكلة كانوا يرجعون إلى الرسل أنفسهم أو إلى تلاميذهم من بعدهم, ولكن ما أن انتشرت المسيحية في رحاب الدنيا وقامت بعض البدع، حتى باتت الحاجة ماسة إلى أن تقول الكنيسة المسيحية كلمتها الفاصلة وخصوصاً عندما انتشرت ضلالات آريوس وسباليوس، المخالفة للعقائد المسيحية في ما يختص بلاهوت الابن والروح القدس فقام رجال أعلام في الكنيسة، وفندوا آراء المبتدعين ومن أبرز أولئك الرجال القديس أثناسيوس، الذي قاوم تلك البدع وأصدر القانون الاثناسي المعروف تاريخياً أما صورة هذا القانون فهي كما يلي:
ـ 1 ـ إن كل من ابتغى الخلاص وجب عليه قبل كل شيء أن يتمسك بالإيمان الجامع العام للكنيسة المسيحية,
ـ 2 ـ هذا الإيمان كل من لا يحفظه دون إفساد، يهلك هلاكاً أبدياً,
ـ 3 ـ إن هذا الإيمان الجامع هو أن نعبد إلهاً واحداً في ثالوث، وثالوثاً في توحيد,
ـ 4 ـ لا نمزج الأقانيم ولا نفصل الجوهر,
ـ 5 ـ إن للآب أقنوماً، وللابن أقنوماً، وللروح القدس أقنوماً,
ـ 6 ـ ولكن الآب والابن والروح القدس لاهوت واحد، ومجد متساو وجلال أبدي معاً,
ـ 7 ـ كما هو الآب، كذلك الابن، وكذلك الروح القدس,
ـ 8 ـ الآب عير مخلوق، والابن غير مخلوق، والروح القدس غير مخلوق,
ـ 9 ـ الآب غير محدود، والابن غير محدود، والروح القدس غير محدود,
ـ 10 ـ الآب سرمد، والابن سرمد، والروح القدس سرمد، ولكن ليسوا ثلاثة سرمديين، بل سرمد واحد,
ـ 11 ـ وكذلك ليسوا ثلاثة غير مخلوقين، ولا ثلاثة غير محدودين بل واحد غير مخلوق وواحد غير محدود,
ـ 12 ـ وكذلك الآب ضابط الكل, والابن ضابط الكل, والروح القدس ضابط الكل ولكن ليسوا ثلاثة ضابطي الكل, بل واحد ضابط الكل,
ـ 13 ـ وهكذا الآب إله, والابن إله, والروح القدس إله, ولكن ليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد,
ـ 14 ـ وهكذا الآب رب, والابن رب, والروح القدس رب, ولكن ليسوا ثلاثة أرباب، بل رب واحد,
ـ 15 ـ وكما أن الحق المسيحي يكلفنا بأن نعترف بأن كلاً من هذه الأقانيم بذاته إله - ورب, كذلك الدين الجامع ينهانا عن أن نقول بوجود ثلاثة ألهة وثلاثة أرباب,
ـ 16 ـ فالآب غير مصنوع من أحد، ولا مخلوق, ولا مولود والابن من الآب وحده غير مصنوع ولا مخلوق، بل مولود والروح القدس من الآب والابن، ليس بمصنوع، ولامخلوق ولا مولود,
ـ 17 ـ فإذاً أب واحد لا ثلاثة آباء, وابن واحد لا ثلاثة أبناء, وروح قدس واحد لا ثلاثة أرواح قدس,
ـ 18 ـ وليس في هذا الثالوث من هو قبل غيره أو بعده ولا من هو أكبر منه ولا أصغر منه,
ـ 19 ـ ولكن جميع الأقانيم سرمديون معاً ومتساوون,
ـ 20 ـ ولذلك في جميع ما ذكر يجب أن نعبد الوحدانية في ثالوث, والثالوث في وحدانية,
ـ 21 ـ إذاً من شاء أن يخلص فعليه أن يتأكد هكذا في الثالوث,
ـ 22 ـ وأيضاً يلزم له الخلاص أن يؤمن كذلك بأمانة بتجسد ربنا يسوع المسيح,
ـ 23 ـ لأن الإيمان المستقيم هو أن نؤمن ونقر بأن ربنا يسوع المسيح هو ابن الله هو إله وإنسان,
ـ 24 ـ هو إله من جوهر الآب, مولود قبل الدهور وإنسان مولود من جوهر أمه, مولود في هذا الدهر,
ـ 25 ـ إله تام وإنسان تام كائن بنفس ناطقة وجسد بشري,
ـ 26 ـ مساوٍ للآب بحسب لاهوته, ودون الآب بحسب ناسوته,
ـ 27 ـ وهو إن يكن إلهاً وإنساناً, إنما هو مسيح واحد لا اثنان,
ـ 28 ـ واحد ليس باستحالة لاهوته إلى جسد, بل باتخاذ الناسوت إل اللاهوت,
ـ 29 ـ واحد في الجملة, لا باختلاط الجوهر, بل بوحدانية الأقنوم,
ـ 30 ـ لانه كما أن النفس الناطقة والجسد إنسان واحد, كذلك الإله والإنسان مسيح واحد,
ـ 31 ـ هو الذي تألم لأجل خلاصنا ونزل إلى الهاوية ـ أي عالم الأرواح ـ وقام أيضاً في اليوم الثالث من بين الأموات,
ـ 32 ـ وصعد إلى السماء, وهو جالس عن يمين الآب الضابط الكل,
ـ 33 ـ ومن هناك يأتي ليدين الأحياء والأموات,
ـ 34 ـ الذي عند مجيئه، يقوم أيضاً جميع البشر بأجسادهم، ويوؤدون حساباً عن أعمالهم الخاصة,
ـ 35 ـ فالذين فعلوا الصالحات يدخلون الحياة الأبدية, والذين عملوا السيئات يدخلون إلى النار الأبدية,
ـ 36 ـ هذا هو الإيمان الجامع، الذي لا يقدر الإنسان أن يخلص من دون أن يؤمن به بأمانة ويقين,
إن خلاصة ما تقدم، هي أن الله واحد وإن كان في اللاهوت ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس, اي جوهر واحد وثلاثة أقانيم غير أن الجوهر غير مقسوم,فليس لكل من الأقانيم جزء خاص منه, بل لكل أقنوم كمال الجوهر الواحد نظير الآخر, وإن ما بينهم من النسبة سر، لا يقدر العقل البشري أن يصل إليه, غير أن لنا في الكتاب المقدس ما يوضحه وكل ما جاء من خارج الكتاب المقدس عن الثالوث من أفكار فلسفية أو محاجات منطقية لم يكن إلا بسطاً أو عرضاً لما جاء في الكتاب العزيز عن طريق القياس,
والمعروف تاريخياً أن المسيحيين القدماء، قاموا بدرس عقيدة الثالوث في ضوء كتب الوحي المقدسة، وآمنوا بها واستقروا عليها, ورسموا صورتها في قوانين الكنيسة, وأبرز هذه القوانين، قانون الإيمان النيقاوي, الآتي نصه:
أنا أؤمن بإله واحد, آب قادر على كل شيء، خالق السماء والأرض، وكل ما يُرى وما لا يُرى,
وبرب واحد يسوع المسيح, ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور, إله من إله, نور من نور, إله حق من إله حق, مولود غير مخلوق, ذو جوهر واحد مع الآب, هو الذي به كان كل شيء, الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء, وتجسد بالروح القدس من مريم العذراء, وصار إنساناً وصُلب على عهد بيلاطس البنطي, وتألم, وقُبر وقام أيضاً في اليوم الثالث, وصعد إلى السماء, وهو جالس عن يمين الآب, وسيأتي أيضاً بمجد ليدين الأحياء والاموات الذي ليس لملكه نهاية,
وأؤمن بالروح القدس, الرب المحيي المنبثق من الآب والابن, المسجود له والممجد مع الآب والابن, الذي تكلم بالأنبياء,
وأعتقد بكنيسة واحدة جامعة رسولية, وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا, وأنتظر قيامة الموتى، وحياة الدهر الآتي, آمين,
الثالوث في الإسلام
الثابت أن الإسلام حارب تعلمياً يقر بتعدد الآلهة, وها هي النصوص التي بها حارب هذا التعليم الباطل:
وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ـ سورة النساء 4: 171 .
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ـ سورة المائدة 5: 116 .
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ـ سورة المائدة 5: 73 .
فواضح من هذه الآيات أنها تحارب تعليماً يحمل معنى الإشراك بالله وتعدد الآلهة وبما أن المسيحية لا تعلم بالإشراك ولا بتعدد الآلهة, بدليل قول المسيح: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ ـ متى 4: 10 .
فالثابت إذن أن الإسلام يحارب ثالوثاً غير ثالوث المسيحية, وتعليماً غير تعليمها، وعقيدة غير عقيدتها والظاهر أن حملات الإسلام على تعليم الإشراك بالله, كانت موجهة ضد بدعة ظهرت زمن بداية الدعوة الإسلامية وهذه البدعة لم يحاربها الإسلام وحده، بل حاربتها المسيحية بعنف حتى قضت عليها، كما سبق أن قلت في الرب على سؤال سابق,
ومرة أخرى أقول, إن المسيحية لا تعلم بتعدد الآلهة ولا تقول بأن المسيح إله من دون الله, بل تؤمن بأن الآب والابن إله واحد, بلا تعدد ولا افتراق وقد أكد المسيح ذلك بقوله: أَنَا والْآبُ وَاحِدٌ ـ يوحنا 10: 30 . ولا تعلم المسيحية بأن مريم المباركة آلهة ومريم نفسها لم تدع لنفسها الألوهية, بل صرحت بأن الله مخلصها ـ لوقا 1: 47 .
أما قول القرآن لقد كفر الذي قالوا أن الله ثالث ثلاثة التي يستند إليها أعداء المسيحية, فقد قيلت بطائفة المرقونيين, الذين لفظتهم الكنيسة وحرمت أتباعهم، لأنهم علموا بتثليث باطل, ونادوا بثلاثة آلهة هم:
أ - عادل, أنزل التوراة
ب - صالح, نسخ التوراة والإنجيل
ج - شرير, وهو إبليس
كما أن الإسلام حارب طائفتي المانوية والديصانية اللتين تقولا بآلهين, أحدهما للخير، وهو جوهر النور, والثاني للشر، وهو جوهر الظلمة,
وقد كانت هذه الطوائف وأشباهها شر ما منيت به المسيحية, قبل الإسلام وما بعده, ولا يزال حكمها في الكنيسة حكم المذاهب الخارجية في الإسلام, الذين عدلوا عن الكتاب والسنة, كالطائفة القائلة بأن الله حل في الحاكم بأمر الله الفاطمي,
إذن فالإسلام لم يحارب عقيدة الثالوث المسيحية الصحيحة، كما يتوهم البعض, ولهذا لا أعتبر آي القرآن المقاوم لتعدد الآلهة، كان موجهاً إلى المسيحية الحقة,
وحين نتتبع هذا الموضوع في الكتب الإسلامية، نرى أن علماء المسلمين، المعتبرين كأنبياء، قد بحثوا في عقيدة الثالوث المسيحية، وثبتوا لها فكرتها الصحيحة, وحسبي أن أورد في ما يلي ما جاء في نسخة قديمة لكتاب أصول الدين لأبي الخير بن الطيب، الذ يعاصر حجة الإسلام الإمام أبا حامد الغزالي, قال:
قال بعض المسيحيين لأبي الخير بن الطيب أن الإنجيل بقوله اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس قد أوجب الاعتقاد بثلاثة آلهة, فأجابه لا ريب في أن لباب الشريعة المسيحية هو الإنجيل، ورسائل بولس الرسول وأخبار الحواريين, وهذه الكتب وأقوال علماء النصارى المثبتة في آفاق الأرض تشهد بتوحيدهم، وبما أن أسماء الآب والابن والروح القدس، إنما هي خواص لذاته الواحدة, ولولا حب الإيجاز، لأتيت على إثبات عقيدتهم مفصلاً, ولكنني مع ذلك اقتضب من أقوالهم الناطقة بصحة معتقدهم ووقيم إيمانهم ما لا يخلو من فائدة, فأقول يرى النصارى أن الباري تعالى جوهر واحد موصوف بالكمال, وله خواص ذاتية كشف المسيح عنها القناع, وهي الآب والابن والروح القدس, ويشيرون بالجوهر ذاته الذي يسمونه الباري ذا العقل المجرد إلى الآب, وبالوهر نفسه الذي يسمونه ذا العقل العاقل ذاته إلى الابن, وبالجوهر عينه الذي يسمونه ذا العقل المعقول من ذاته إلى الروح القدس, ويريدون بالجوهر هنا، ما قام بنفسه مستغنياً عن الظرف ,
وقد أشار الإمام العلامة أبو حامد محمد الغزالي إلى عقيدة المسيحيين في كتابه الرد الجميل فقال: يعتقد النصارى إن ذات الباري تعالى واحدة في الجوهر، ولها اعتبارات:
فإن اعتبر وجودها غير معلق على غيره، فذلك الوجود المطلق هو ما يسمونه بأقنوم الآب,
وإن اعتبر معلقاً على وجود آخر، كالعلم المعلق على وجود العالم, فذلك الوجود المقيد، هو ما يسمونه بأقنوم الابن، أو الكلمة,
وإن اعتبر معلقاً على كون عاقليته معقولة منه, فذلك الوجود المقيد هو ما يسمونه بأقنوم الروح القدس، لأن ذات الباري معقوله منه,
والحاصل من هذا التعبير الاصطلاحي، أن الذات الإلهية واحدة في الجوهر، وإن تكن منعوتة بصفات الأقانيم ,
وقال أيضاً:
إن الذات الإلهية من حيث هي مجردة لا موصوفة، عبارة عن معنى العقل, وهو المسمى بأقنوم الآب,
وإن اعتبرت من حيث هي عاقلة ذاتها, فبهذا الاعتبار عبارة عن معنى العاقل، وهو المسمى بأقنوم الابن أو الكلمة,
وإن اعتبرت من حيث ذاتها معقولة منها, فهذا الاعتبار عبارة عن معنى المعقول, وهو المسمى بأقنوم الروح القدس,
وعلى هذا الاصطلاح يكون العقل عبارة عن ذات الله فقط, والآب مرادف له,
والعاقل عبارة عن ذاته, بمعنى أنها عاقلة ذاتها، والابن أو الكلمة مرادف له,
والمعقول عبارة عن الإله المعقولة ذاته منه, وروح القدس مرادف له ,
ثم عقب قائلاً: إذا صحت هذه المعاني فلا مشاقة في الألفاظ ولا في اصطلاح المتكلمين ,
أما الإمام فخر الدين الرازي، فيستعرض عقيدة المسيحيين الخاصة بالثالوث على الوجه التالي:
أما المتكلمون فحكوا عن النصارى أنهم يقولون جوهر واحد, ثلاثة أقانيم آب وابن وروح القدس, وهذه الثلاثة إله واحد, كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة وعنوا بالذات الآب, وبالابن الكلمة, وبالروح الحياة, وقالوا: إن الآب إله، والابن إله، والروح القدس إله, والكل إله واحد ـ التفسير الكبير جزء 12 صفحة 102 .
وقال صاحب كتاب اليواقيت ما نصه: قال سيدي علي بن وفا: المسلَّم أن الذات شيء واحد، لا كثرة فيه ولا تعدد, وإنما قالت المعتزلة عن تعدد القدماء من جهة تعيينها بالصفات, وذلك إنما هو تعدد اعتباري, والاعتباري لا يقدح في الوحدة الحقيقية, كفرع الشجرة بالنسبة لاصلها أو كالأصابع بالنظر إلى الكف ,
وجاء في كتاب المواقف صفحة 385 ما نصه ولا يتلبس عليك أن الأشاعرة لما أثبتوا لله صفات حقيقية، لم يكن هو تبسيطاً حقيقياً واحداً من جميع جهاته ,
وجاء في كتاب والملل والنحل ما نصه إن أبا هديل حمدان شيخ المعتزلة ومقدم الطائفة ومقرر الطريقة والمناظر عليها قال أن الباري تعالى عالم يعلم, وعلمه ذاته وقادر مقدرة, وقدرته ذاته وحي بحياة, وحياته ذاته, ولعل أبا هذيل اقتبس هذا من الفلاسفة الذين اعتقدوا أن ذات الباري واحدة, لا كثرة فيها بوجه, وإنما الصفات ليست وراء الذات معان قائمة بذاته، بل هي ذاته والفرق بين قول القائل عالم يعلم هو ذاته هو أن الأول نفى الصفة، والثاني أن إثبات ذاته هو بعينه صفة، أو إثبات صفة هي بعينها ذات وإن أثبت أبو هذيل لهذه الصفات وجودها للذات، فهي بعينها أقانيم النصارى,
وقال ابن سينا الملقب بالرئيس: أن واجب الوجود عقل وعاقل ومعقول، وأنه يعقل ذاته والأشياء, وصفاته الإيجابية والسلبية لا توجب كثرة في ذاته, ثم قال العقل يقال على كل مجرد من المادة, وإذا كان مجرداً بذاته، فهو عقل لذاته, وواجب الوجود مجرد بذاته عن المادة، فهو عقل لذاته, وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته فهو معقول لذاته, وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة فهو عاقل لذاته, وكونه عاقلاً ومعقولاً, لا يوجب أن يكون اثنين في الذات, ولا اثنين في الاعتبار ,
وقال: ثم لما لم يكن جمال وبهاء فوق أن يكون الماهية عقلية صرفة وخبرية، محضة برية من المواد وانحناء النقص، واحدة من كل جهة ولم يسلم ذلك بكنهه إلا واجب الوجود, فهو الجمال المحض، والبهاء المحض، وكل جمال وبهاء وملائم وخير فهو محبوب معشوق، وكل ما كان الإدراك أشد اكتناهاً والمدرك أجمل ذاتاً, فحب القوة المدركة له، وعشقه له، والتذاذه به كان أشد وأكثر؛, فهو أفضل مدرك لأفضل مدرك, وهو عاشق لذاته، ومعشوق لذاته، عشق من غيره أم لم يعشق, وأنت تعلم أن إدراك العقل للمعقول، أقوى من إدراك الحس للمحسوس، لأن العقل إنما يدل الأمر الباقين، ويتحد به، ويصير هو هو, ويدركه بكنهه لا بظاهره، وكذلك الحس ,
ومقتضى قول ابن سينا، وهو أن الله عقل وعاقل ومعقول، أو قول أبو هذيل أن الله علم وعالم ومعلوم أن الله مركب, لأن العقل البشري لا يتصور كيف يكون الله عقلاً وعاقلاً ومعقولاً، ولا يكون مركباً, ومع ذلك فهو واحد بسيط منزه عن التركيب, وليس القصد من إيراد مثل هذا الكلام، أن الأقانيم الإلهية الثلاثة، هم عقل وعاقل ومعقول، أو علم وعالم ومعلوم, فإن كتاب الله علمنا أن الله كائن في ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس، وعبر عن الابن بالكلمة الأزلي الخالق, فلا يجوز أن نقول غير ذلك, وإنما أوردت كلام بعض علماء الإسلام للرد على سائلي بأن المسيحيين لا يعتقدون بالتعدد أو التركيب في ذات الله الواحد, ولا يتوهمن أحد أن الأقانيم مجرد تجليات مختلفة للذات العلية, بل أن العقيدة المسيحية تعني أن الذات الواحدة كائنة في ثلاثة أقانيم, وأن التعبير عن الأقنوم الثاني بالابن، لا يعني ولادة بشرية كالمعروف عند عامة الناس, بل هو كلمة تشير إلى النسبة الأزلية، التي بين الأقنوم الأول والثاني, وكذلك لفظة انبثاق مستعارة للإشارة إلى النسبة الأزلية بين الأقنوم الثالث والأقنومين الأول والثاني,
أما لفظة الكلمة التي أطلقت على المسيح في الكتاب المقدس واقتبشها الإسلام، فهي تدل على وحدة الأقنومين الأول والثاني, ولو أن المسلم يتألم بعمق نص القرآن، يدرك أن لفظة كلمة الله صفة أزلية قائمة بذاته تعالى، ليس بحرف ولا بصوت، منزهة عن التقدم والتأخر,
وخلاصة القول أن ذات الله واحدة في ثلاثة أقانيم متساوون في القدرة والعظمة والمجد, فكما أن صفاته منزهة عن التفاوت, فكذلك الأقانيم والسائل توهم أنه توجد ثلاث ذوات في الله وهذا خطأ,
فبكلمة أخرى أن اللاهوت، لا يحد ولا يحصر, مما يجعلنا نؤمن أن الكلمة الأزلي لما اتخذ جسداً، لم يصر محدوداً ولا متناهياً لأنه روح غير محدود ولا متناه, ولا يقبل الزيادة أو النقصان, بمعنى أن التجسد، لم يغير أو يحول الطبيعة الإلهية من الأزلية والسرمدية وعدم التغير والتناهي إلى الحدوث بأن جعلها كالممكنات، حاشا وكلا، وكذلك لا يوجد أي تمييز بين الأقانيم في الذات, لأن ذاتهم واحدة ولا في زمن الوجود, لأن كلا منهم أزلي ولهم علم واحد ومشيئة واحدة, وعقل واحد, ولم يقل أي مسيحي أن في اللاهوت ثلاثة عقول, وله ثلاث إرادات, وثلاث قوات, بل الأقانيم متساوون في القدرة والعمل، فقد قال المسيح مهما علم الآب فهذا يعمله الابن ـ يوحنا 5: 19 ـ وقال رسول الأمم بولس ه كَذَا أَيْضاً أُمُورُ اللّهِ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلَّا رُوحُ اللّهِ ـ 1 كورنثوس 2: 11 . فلا امتياز في الصفات والكمالات الإلهية فالابن تجسد وقدم نفسه كفارة, والروح القدس يجدد قلوبنا, والآب أرسل الابن, والكل ذات واحدة متصفة بصفات الكمال, ولا شك أن هذا فوق إدراكنا, وقد قال الرسول عن الله مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الِا سْتِقْصَاءِ! لِأَنْ مَنْ
عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟ ـ رومية 11: 33 و43 .
ولا ريب في أن الإسلام يعترف بهذه الحقيقة، بدليل قول الشيخ محي الدين في كتاب الباب صفحة 322 من خاض في الذات بفكره فهو عاص لله ولرسوله وما أمر الله تعالى بالخوض في معرفة ذاته لا النافي ولا المثبت وذاك لأن العبد إذا عجز عن معرفة كنه نفسه، فعن معرفة كنه الحق تعالى من باب أولى,
وقال في الصفحة 373 أعلم أن الحق تعالى لا يدرك بالنظر الفكري أبداً، وليس عندنا أكبر من ذنب الخائضين في ذات الله بفكرهم, فإنهم قد أتوا ناقصي درجات الجهل,
عمانوئيل الله معنا
في سنة 905 عقد في الأزهر اجتماع ضم الشيخ بدر الدين العلائي الحنفي والشيخ زكريا والشيخ برهان الدين بن أبي شريف، والشيخ إبراهيم المواهبي الشاذلي وجماعة وصنف الشيخ إبراهيم فيها رسالة هذا فحواها:
بحث في الاجتماع موضوع معية الله معنا فقال الشيخ برهان الدين: أن الله معنا بأسمائه وصفاته, لا بذاته فقال الشيخ إبراهيم بل هو معنا بذاته وصفاته, فقالوا له ما الدليل على ذلك فقال قوله في القرآن : والله معكم, ومعلوم أن الله علم على الذات, فيجب اعتقاد المعية الذاتية ذوقاً وعقلاً، لثبوتها نقلاً وعقلاً, وقد قال العالمة الغزنوي في شرح عقيدة النسفي، أن قول المعتزلة وجمهور النجارية أن الحق تعالى بكل مكان بعلمه وقدرته وتدبيره دون ذاته باطل, لأنه لا يلزم، أن من علم مكاناً أن يكون في ذلك المكان بالعلم فقط, إلا إن كانت صفاته تنفك عن ذاته, فقالوا له: هل وافقك غير الغزنوي في ذلك: فقال نعم,فقد ذكر شيخ الإسلام ابن اللبان في قوله: ونحن أقرب إليه منكم ولا تبصرون إن في هذه الآية دليلاً على أقربيته تعالى من عبده قرباً حقيقياً، كما يليق بذاته لتعاليمه عن المكان, إذ لو كان المراد بقربه تعالى من عبده قربه بالعلم، أو بالقدرة، أو بالتدبير مثلاً، لقال: ولكن لا تعلمون ولكن قوله لا تبصرون دل على أن المراد به القرب الحقيقي المدرك بالبصر، لو كشف الله عن بصرنا، فإن من المعلوم أن البصر لا يتعلق لإدراكه بالصفات المعنوية, وإنما يتعلق بالح
قائق المرئية, قال وكذلك القول في قوله: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وهو يدل أيضاً على ما قلناه، لأن أفعل من قرب، بدل على الاشتراك في اسم القرب, وإن اختلف الكيف، ولا اشتراك بين قرب الصفات وقرب حبل الوريد, لان قرب الصفات معنوي، وقرب حبل الوريد حسي، ففي نسبة أقربيته تعالى إلى الإنسان من حبل الوريد, الذي هو حقيقي، دليل على أن قربه تعالى حقيقي، أي بالذات اللازم لها الصفات,
وقال الشيثخ إبراهيم: وبما قررناه لكم، انتفى أن يكون المراد قربه تعالى منا بصفاته دون ذاته, وأن الحق الصريح هو قربه منا بالذات أيضاً، إذ أن الصفات لا تعقل مجردة عن الذات المتعالي كما مر,
فدخل عليهم الشيخ العارف بالله تعالى سيدي محمد المغربي الشاذلي شيخ الجلال السيوطي، فقال: ما جمعكم هنا، فذكروا المسألة فقال: تريدون علم هذا الأمر ذوقاً أو سماعاً، فقالوا: سماعاً: فقال: معية الله أزلية، ليس لها ابتداء, وكانت كل الأشياء ثابتة في علمه أزلاً يقيناً بلا بداية, لأنها متعلقة به تعلقاً يستحيل عليه العدم لاستحالة وجود علمه الواجب وجوده بغير معلوم واستحالة طريان تعلقه بها لم يلزم عليه من حدوث علمه تعالى بعد أن لم يكن، وكما أن معيته تعالى أزلية، كذلك هي أبدية ليس لها انتهاء, فهو تعالى معها بعد حدوثها من العدم عيناً, فأدهش الحاضرين بما قال لهم, فقال لهم: اعتمدوا ما قررته لكم في المعية, اعتمدوه ودعوا ما ينافيه تكونوا منزهين لولاكم حق التنزيه، ومخلصين لعقولكم من شبهات التشبيه, وإن أراد أحدكم أن يعرف هذه المسألة ذوقاً فليسلم قياده لي, أخرجه من ثيابه وظائفه وماله وأولاده وأدخله الخلوة وأمنعه النوم وكل الشهوات, وأنا أضمن له وصوله إلى علم هذه المسألة ذوقاً وكشفاً, قال الشيخ إبراهيم فما تجرأ أحد أن يدخل معه في ذلك العهد، ثم قام الجماعة فقبلوا يده,
فأقوال هؤلاء العلماء الأفاضل عن معية الله ظاهرة وفحواها أن حقيقة المعية هي مصاحبة شيء لآخر، سواء كانا واجبين كذات الله مع صفاته, أو جائزين كالإنسان مع مثله, أو واجباً وجائزاً وهو معية الله تعالى لخلقه بذاته وصفاته المفهومة من قول القرآن: والله معكم ومن نحوان الله مع المحسنين أو من قول الكتاب المقدس: هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ ـ ا لَّذِي تَفْسِيرُهُ: اللّهُ مَعَنَا ـ ـ متى 1: 23 ـ أو من قول المسيح: وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الْأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ ـ متى 28: 20 ـ وإذا تقرر ذلك, أقول أن حلول اللاهوت في الناسوت جائز، فليس كمعية الواجب للجائز, بل هو أسمى بما لا يقاس, وإنما أوردت المعية لتوضيح هذه المسألة وتقريبها لعقولنا, فإن الإسلام يعترف بمعية الله لخلقه بذاته وصفاته وهو أمر فوق عقل البشر فكيف يحتج عامة المسلمين على اعتقاد المسيحيين بتجسد الكلمة؟