الفصل الأول
في إيضاح سبب البحث
اسمح لي أيها القارئ الكريم أن أقص عليك حادثة: منذ سنين كثيرة سافر إلى شيراز (من أمهات مدن الفرس) تاجر مسيحي يحمل بين يديه تجارة لا يقدر ثمنها ألا وهي نسخ من كلام الله أي كتاب أهل الكتاب الذي يشهد له القرآن كما شرحنا في ما تقدم ومن العجيب أنه حالما اطلع الأهالي على تجارته أثار عليه المشائخ زمرة من الرعاع فأوسعوه ضرباً ومزقوا كتبه وداسوها بالأقدام وأخرجوا الرجل خارج المدينة وتهددوه بالقتل إن عاد بمثل هذه الكتب والحاصل أنهم عملوا به ما عمله الكرامون في العبيد الذين أوفدهم سيدهم ليأتوا بثمر الكرم (مت 21: 33-44) فكيف والحالة هذه يقولون بملء أفواههم قُولُوا آمَنَّا بِا للَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَا لْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (سورة البقرة 2: 136) ومن جملة الذين شاهدوا هذه الحادثة صبي من أهل تلك البلاد فأخذه العجب والحيرة من أولئك المشايخ الذين حرضوا على إتلاف كتب يقول القرآن أنها منزلة من عند الله وأنه مصدق لها ومهيمن عليها وأعمل فكره لحظة وقال في نفسه لعلها تشتمل على أمور يخشى منها ساداتنا العلماء على ثبات القرآن وأقلق هذا الفكر باله إذ كان متمسكاً بأذيال دينه واجتهد أن يتخلص من هذا الفكر ويريح قلبه من العناء, وحدث أنه لما شب صمم أن يقف على البينات التي تؤيد الإسلام ليستريح من الشكوك التي أزعجته حيناً من الدهر, وكان على مقربة من شيراز يسكن عالم حاز شهرة كبيرة في حرصه على مناسك دينه مثل إقامة الصلاة وتلاوة القرآن وصيام رمضان الخ فأتى إليه صاحبنا ابتغاء الاستفادة منه والوقوف على جلية الأمر وأخفى ما في نفسه من الشكوك خوفاً منه, وبعد عبارات التجلة والإكرام قال له إنني يا مولاي قابلت بالأمس يهودياً واجتهدت أن أبرهن له صحة دين الإسلام لأجتذبه إليه فسمع لي كل ما قلته لإثبات رسالة نبينا ولم يقتنع فهل يتكرم مولاي بسرد البراهين التي يجب أن أقولها له: فالتفت إليه العالم عابساً وقال الأرجح عندي أنك كافر فخاف الغلام وسافر إلى بومباي وحالما تيسر له الأمر استعار نسخة من الإنجيل وقرأها بتأمل رجاء أن يعثر على الشيء الذي أزعج المشائخ حتى حرضوا على إتلافه, ويُقال أن أشد التعذيب وقعاً على النفس بعد تبكيت الضمير هو ارتياب المرء في الدين الذي نشأ فيه, فضلاً عن كون الشك يضعف عزيمة الإنسان عن تأدية الواجب ويخيب رجاءه في الحياة الأخرى ويعرضه لتجارب إبليس إلا أن الله سبحانه وتعالى سمح أن تختلف الأديان وتتضاد حتى يتزكى المفكرون طلاب الحقيقة ويظهر الحريص من المتهاون فالواحد لا يبالي والآخر يحصر فكره في الموضوع باحثاً عن الأدلة التي تؤيد دينه ولولا الاهتمام بالسؤال والبحث ما غير أحد دينه سواء أكان حقاً أو باطلاً ومن هنا تظهر ضرورة فحص أركان الدين والوقوف على صحيحه من فاسده, والضمانة الوحيدة للسلامة من الضلالة في البحث هو أن يبحث طالب الحقيقة بروح التواضع والإخلاص جاداً في طلب مرضاة الله مبتهلاً إليه أن يمده بهدايته بنور من السماء ليعرف الحق من الباطل ويسلك في الحق كبني النور, فإذا كان من بعد البحث بهذه الكيفية يظهر لك أن دينك حق تنتفي من قلبك الشكوك إلى الأبد وتفيض نفسك حمداً لله لأجل توفيقه لك بالهدى ثم تقبل إلى بني جنسك ترشدهم بما فتح الله عليك شارحاً لهم طريق الخلاص, ولكن إذا اتضح لك بعد التأمل أن دينك باطل والشكوك التي خالجت قلبك مبنية على تثبت وحسن نظر فما أجرى بك أن تطرح من وراء ظهرك هذا الدين الباطل وتجدّ في طلب الحق لتفوز برضوان الله والحياة الأبدية, وعلى كل حال فلا ضرر من البحث بإخلاص وتدقيق في أصول الإيمان وإنما الضرر هو أنه إذا فطن الباحث إلى موضع الخلل في دينه لا يقوى على عواطفه فيخدع نفسه ويتعامى عنه, نعم إن في هذا الطامة الكبرى إذ تتوالى عليه الشكوك ويقع أخيراً في شرك الكفر ويموت بلا إله وبلا رجاء فما أحسن البحث بإخلاص وجد كما في المثل المشهور من طلب شيئاً وجدّ وجد ومن قرع باباً ولجّ ولج,
فهلموا بنا معاشر الإسلام نبحث معاً نابذين التعصب جانباً في الأصول المبني عليها دينكم ونعرضه على القاعدة التي قدمناها في الجزئين الأولين من كتابنا وعرضنا عليها الديانة المسيحية,
فنقول أن الركن الأول الذي بُني عليه الإسلام هو الشهادتان أما الشهادة الأولى فمقبولة عند اليهود والمسيحيين كما هي مقبولة عند المسلمين أنفسهم وهي لا إله إلا الله وقد شرحنا هذه الكلمة في كتابنا وأن الأدلة على وجود الله ووحدانيته كثيرة ووردت في كتب متعددة عدا عن إمكانية الاستدلال عليها من الخليقة, وعليه فلا حاجة بنا إلى مزاولة البحث في ما نحن متفقون عليه, الله سبحانه عز وجل قد أقام الدليل على وجوده ووحدته في كل ورقة نبات وزهرة بل في ضمائرنا ووجداننا وفي وحدة نظام الكون والحاصل أنه توجد ألوف من الأدلة على صحة الشهادة الأولى,
أما الشهادة الثانية ألا وهي أن محمداً رسول الله فعليها مدار بحثنا فما هي الأدلة يا ترى على صحة رسالة محمد? أشار إخواننا المسلمون إلى جملة أدلة أهمها ما يأتي:
1 - قالوا أن أسفار العهد القديم والعهد الجديد تنبأت عنه,
2 - قالوا أن لغة القرآن وتعاليمه مما ليس له نظير في كل الكتب وعليه فالقرآن بمفرده هو الدليل الأعظم على صدق دعوى محمد,
3 - آيات محمد ومعجزاته كختم الله على رسالته,
4 - حياته وأخلاقه برهان على أنه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين,
5 - سرعة انتشار دينه برهان على أن الله أرسله بالكتاب النهائي,
نقول أن هذه البراهين لا شك أنها تستحق الاعتبار وتثبت رسالته فقط إذا كانت حقيقة ولهذا ينبغي للعاقل قبل أن يعتنق هذا الدين أن يفحص البراهين المذكورة فحصاً دقيقاً كما ينقد التاجر الدراهم التي يبيع بها بضائعه لئلا يقع في شرك محتال ذي دهاء وصدق من قال سعادة المرء في دنياه وأخراه متوقفة على نفاذ عزيمته في ما يختاره لنفسه, فالآن دونك شيئاً من شيئين أما أن تؤمن أن المسيح هو مخلص العالم أو المخلص هو محمد, قد أتينا بهذا التخيير لا من باب التحامل على الإسلام ولا التشيع للنصرانية من باب مقارنة الشيء بنظيره والبحث بعناية وحذر وصلاة في ما هو أقوم سبيلاً كل من المسلمين والنصارى لهم مصلحة في هذا البحث الهام فإن أخلصوا جميعاً لوجه الله كانت النتيجة خيراً لأن الحق لا يظل محتجباً وقتاً طويلاً ولا بد أن يظهر يوماً ما كالشمس عند الظهيرة,
وهذا ما عزمنا على بيانه في الفصول الآتية صادقين في المحبة كما يجب على المسيحيين (أف 4: 15) باذلين الجهد أن نمحص كتاباتنا من كل ما يجرح إحساسات إخواننا الذين يبحثون على الحقيقة بإخلاص وجد بأن نجتنب كل عبارة بل كل كلمة لا تنطبق على ناموس اللطف والمحبة فإذا زل قلمنا وكبتنا شيئاً يشتم منه رائحة التعصب فنرجو المعذرة سلفاً لأن نيتنا حسنة إذ لسنا نريد سوى الفائدة لإخواننا كما نريد لأنفسنا والإنسان مهما احترس لا يسلم من الزلل ومن شيم الكرام الصفح,