الفصل الثالث
هل يمكن أن تكون فصاحة القرآن معجزة تدل على أنه موحى به من الله?
يجزم إخواننا المسلمون أن فصاحة القرآن وطلاوة عباراته بالغة حد الإعجاز حتى أنه يكفي لإثبات رسالة محمد سيما وأنه لم يكن يعرف الكتابة ولا القراءة فمن المحال أن يكون قادراً على الإتيان به ما لم يكن موحى به من الله ويقولون لكل نبي آية بينة تدل على أن رسالته من عند الله إلا أن الآيات تنوعت حسب أحوال الزمان الذي جاءت فيه الأنبياء ففي زمن موسى مثلاً بلغ السحر والسحراء مكانة عظمى عند المصريين فأوتي موسى من الآيات ما يشبه السحر في ظاهره وهو ليس بسحر في الحقيقة بل معجز للسحراء وفي زمن المسيح بلغ الطب مبلغاً عظيماً فكانت آيات المسيح مشبهة بالطب ولكنها تفوقه وفي زمن محمد كانت الفصاحة هي الصناعة الرائجة بين العرب فأوتي القرآن معجزاً لفصحاء عصره وشعرائه ومن أدلتهم على إعجاز القرآن ما جاء فيه من تحدي العرب على أن يأتوا بكتاب مثله أو سورة منه كما في سورة البقرة آية 23 ومن ذلك قوله قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَا لْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (سورة الإسراء 17: 88),
ورداً عليهم نقول إذا فحصنا دعواهم بإعجاز القرآن فحصاً دقيقاً خليقاً بأهمية الموضوع لا نجد دليلاً على صحة دعواهم لأنه كم من الكتب الشهيرة في العالم ألفها قوم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة وق جاءت لا مثيل لها ومن هذه الكتب كتاب وضعه ريج فيدا في بلاد الهند وضعه بين سنة 1000 و1500 ق م قبل أن تعرف صناعة الكتابة في تلك البلاد بزمن طويل يزيد حجمه عن القرآن صنفه أكثر من واحد إلا أنهم لم يكن لهم كاتب يملون عليه آيات كتابهم وفي اللغة اليونانية القديمة قصيدتان في غاية الفصاحة وهما الإلياذة والأودسة (<? LLiad - Odyssev< >) منسوبتان في الغالب إلى شاعر أعمى اسمه هوميروس وكانت العميان في سالف الزمان لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ولا كانت لديهم الوسائل التي لديهم اليوم وليس ثمت وجه للظن أن يكون أملى قصيدته على بعض الكتبة لأنه كان فقير الحال يحصل قوت يومه بالتجوال على البيوت يتلو أشعاره, على أنه لم يقم دليل قاطع على أن محمداً كما زعموا غير عالم بالقراءة والكتابة وغاية ما أوردوه لإثبات هذه الدعوى هو ما وصفه به القرآن بأنه النبي الأمي (سورة الأعراف 7: 156 و157) إلا أن هذا الوصف لا يثبت عدم معرفته القراءة والكتابة لموصوفه بل يثبت كونه نبياً من الأمم (1) (لقد قال بمثل ذلك بعض محققي المسلمين انظر السيرة النبوية لزيني دحلان اه مصحح) لا من بني إسرائيل وذلك واضح من سورة آل عمران آية 20 في قوله وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَا لأُمِّيِينَ الخ ومن ذلك ترى أن العرب مدعوون هنا بالأميين فقال النبي الأمي كما نقول اليوم النبي العربي وكانت عادة الأنبياء أن يأتوا من أهل الكتاب أي بني إسرائيل,
فلما ادعى محمد النبوة وكان من غير أهل الكتاب دعوه النبي الأمي أي من الأمم كما تقدم تمييزاً له عن بقية الأنبياء الذين كانوا جميعاً من بني إسرائيل وبخلاف ذلك قد علم الملطلعون من المسلمين بالروايات المنسوبة إلى البخاري ومسلم التي تنفي عن محمد وصمة الجهل بالقراءة والكتابة من ذلك ما ينسبونه إليه في معاهدة الحديبية من أنه أخذ القلم وضرب على توقيع علي بن أبي طالب بالنيابة عنه تحت إمضاء رسول الله وكتب ابن عبد الله ومما ينسبونه إليه أنه لما أحتضر طلب أن يأتوه بأدوات الكتاب ليوصي بمن يخلفه وقبل أن يأتوه بها خانته قواه كما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس, وبما أن هذه الروايات موضوع نزاع بين أهل السنة والشيعة فلا نجزم بصحتها غير أننا نقول أن مجرد وجودها مسندة إلى أئمة الحديث أمر يستحق الاعتبار وخصوصاً لأن لا شيء فيها بعيد الوقوع,
واعلم أن فن الكتاب كان معلوماً عند العرب في عصر محمد لأنه معلوم بالتأكيد أنه لما وقعت بعض أهالي مكة أسرى عند أهالي المدينة افتدوا أنفسهم منهم بأن يعلموهم الكتابة ثم أن وجود المعلقات السبع (سواء كانت معلقة في الكعبة كما ظن جلال الدين السيوطي أم محفوظة في خزانة عكاظ كما قال أبو جعفر أحمد ابن اسمعيل بن نواس) دليل على أن الكتابة كانت أمراً عادياً بين مؤلفي ذلك العصر والذين قبلهم سواء كانوا يكتبون مؤلفاته بأنفسهم أو يكتبها كتبة آخرون على ذمتهم,
وإن قلنا أن محمداً كان يعرف الكتابة ولكنه لم يحسنها بحيث يتهيأ أن يكتب كتاباً فلا يؤثر ذلك في أهمية القرآن لأننا نعلم من أقوال السالفين أن زيداً بن ثابت كان من جملة الكتبة الذين استخدمهم محمد وكانوا يكتبون كما يملي عليهم على العظام وعلى الخشب والخزف بالحرف الكوفي (1) (هذا خلاف المشهور لأن الحرف الكوفي لم يكن يعرف إلا بعد وفاة محمد اه صحيح) خلواً من نقط الوقف وحركات الضبط وعلى مدى الأيام تبين لعلماء التفسير اختلاف القراآت القرآنية الذي نتج عن نقص الأبجدية الكوفية ولي هنا سؤال أمكتوب القرآن بالحرف الكوفي في اللوح المحفوظ أم بغيره على أن الحرف الكوفي وإن كان قديماً إلا أنه مستخرج من الأبجدية السريانية وتلك من الفينيقية,
وكان إذا أملا محمد آية على الكاتب يسارع إلى حفظها المتدينون من قومه ولكن ذلك لا يمنع من أن بعض الآيات لم يحفظها أحد أو مات الذين حفظوها, جاء في صحيح مسلم أن عائشة قالت ما معناه مما أنزل في القرآن عشر آيات في الرضاعة نهي عنها ونسخت بخمس آيات أُخر ومما لا شك فيه أن عائشة سمعت هذه الآيات في زمانها من بعض القراء ولا نجدها اليوم في القرآن,
وروى مسلم عن عمر بن الخطاب قال ما معناه أن الله أرسل محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب وبما أن آية الرجم مما انزله الله في هذا الكتاب رجم رسول الله ورجمنا من بعده والرجم حد الزاني وكان نص آية الرجم هكذا والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ,
ولكنا لا نجد هذه الآية في القرآن المتداول اليوم والذي نجده أن الزنى حده الجلد مائة جلدة (انظر سورة النور 24: 2-4) وروى ابن ماجة قالت عائشة أن آية الرجم والرضاعة نزلتا,,, وكان القرطاس المكتوبتان فيه تحت فراشي ومات رسول الله حينئذ وفيما أنا منشغلة بموته دخلت بهيمة وأكلت القرطاس وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري أنه قال لخمسمائة من حفظة القرآن في البصرة أنا اعتدنا أن نتلو سورة تضاهي سورة براءة في الطول والشدة وقد نسيتها ولم يبق منها في بالي غير هذه الكلمات توكلت الخ واعتدنا أن نتلو سورة على المسبحة ونسيتها ما عدا قوله أيها الذين الخ ,
ومن المشهور أن أبيا زاد على نسخة قرآنه سورتين قصيرتين تحت اسمين اعتباريين وهما سورة الخلع وسورة الحفظ وتسمى الأخيرة أيضاً سورة القنوت لأنه يؤكد أنهما نزلتا في القرآن وحذفهما عثمان في حين أن ابن مسعود حذف سورة الفاتحة والمعوذتين من مصحفه وقال قوم من الشيعة كان في القرآن بعض الآيات المشيرة إلى علي بن أبي طالب وحذفت عمداً من القرآن المتداول اليوم من ذلك في سورة النساء آية 136 و164 وسورة المائدة آية 71 وسورة الشعراء آية 288 وقالوا أن في سورة آل عمران آية 106 أبدلت كلمة أئمة الأصلية بكلمة أمة وفي سورة الفرقان آية 74 أبدلت العبارة الأصلية واجعل لنا من المتقين إماماً بعبارة محدثة واجعلنا للمتقين إماماً وذكروا تغييرات أخرى في سورة يوسف آية 12 والمؤمنين آية 39 أحدثوها عمداً وقد سلم الإمام فخر الدين الرازي أن في سورة هود آية 20 تختلف القراءة عن مصحف علي ففي القرآن المتداول تقرأ هكذا ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماًورحمة وتقرأ في مصحف علي هكذا ويتلوه بين العبارتين خليق بالاعتبار عند الشيعة لما في العبارة الثانية من الإشارة إلى علي باعتبار كونه هو الشاهد وهو الإمام والرحمة وليس كتاب موسى الإمام والرحمة كما في العبارة الأولى وقال آخرون أن سورة برمتها حذفت من القرآن بالقصد وتسمى سورة النورين واقتبسها إلى آخرها مرزا محسن من كشمير ببلاد الهند في كتابه المسمى (دبستان مذاهب),
وليس غرضنا من ذكر شبهات الشيعة في ما أضيف إلى القرآن وما حذف منه إثبات هذه الشبهات أو نفيها ولكن حيث أنهم قالوا أن القرآن معجزة لرسالة محمد صار من الواجب علينا الإشارة إلى ما قاله نفس علمائهم والثقة منهم في الزيادة والنقصان اللذين اعترياه دفعاً لدعوة الإعجاز,
نتقدم الآن إلى بيان المنهج الذي سلكوه لجمع متفرقات القرآن من سور وآيات إلى كتاب واحد ونعتمد في التحري عن ذلك على المصادر الموثوق بها عند المسلمين أنفسهم,
عن زيد بن ثابت قال أرسل إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر أن عمراً أتاني فقال أن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن استحر القتل بالقرار بالمواطن فيذهب كثير من القران وأني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله قال فقال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر, قال زيد قال أبو بكر أنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أخبرني به من جمع القرآن, قالت قلت كيف تفعلوه شيئاً لم يفعله رسول الله قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي حزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره لقد جاءكم رسول من أنفسكم حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر طول حياته ثم عند حفصة بنت عمر رواه البخاري كما في مشكاة المصابيح في آخر كتاب فضائل القرآن,
وذكر هذه الرواية ما عدا الجملة الأخيرة جلال الدين السيوطي (انظر تاريخ الخلفاء طبعة لاهور سنة 1304 للهجرة صحيفة 53),
ومن المحتمل أنه لم تكن وقتئذ نسخة كاملة للقرآن سوى تلك التي جمعها زيد واعتمدت كافة المسلمين في قرآنهم على حفظه في الصدور وتلاوته بالشفاه إلا بعض أجزاء منه قد كتبت حسبما تلاها الحفظة في سبع قراآت, ولما أصبح القرآن في خطر الضياع والفساد والسريان والاختلال في جميع متونه أنذر حذيفة ابن اليمان عثمان بن عفان بسوء العاقبة وذلك عندما كان منهمكاً في افتتاح بلاد الأرمن وأذربيجان وروى ذلك البخاري بما معناه يا أمير المؤمنين تدارك المسلمين قبل أن يقع الاختلاف بينهم في القرآن كما اختلف من قبلهم اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة يقول لها ابعثي إلينا بالصحف لننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فبعثتها إليها وعند ذلك انتدب الخليفة زيد ابن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الله بن الحارث بن هشام فنسخوها وقال للثلاثة القرشيين إن اختلفتم مع زيد في شيء من القرآن فاكتبوه بلغة قريش لأنه نزل بلسانهم ففعلوا ذلك حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أقليم نسخة وأصدر أمراً أن كل قرآن خالف هذه النسخة يحرق فقال شهاب أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت يقول لما نسخنا القرآن فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمعها من رسول الله وبعد التحري عنها وجدناها عند خزيمة ابن ثابت الأنصاري: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا والله عليه فألحقناها بموضعها ومن ذلك يتضح وجود تنقيح في النسخ القديمة المخالفة لما استنسخه هو دليل آخر على وقوع الاختلاف في نسخ القرآن ومما يزيد ذلك الدليل وضوحاً أن نسخة حفصة نفسها أمر بحرقها مروان عندما كان حاكماً على المدينة لما تحققه من الخلاف بينها وبين ما استنسخه عنها عثمان وبالرغم عن هذه الوسائط المتناهية في الشدة التي اتخذها حكام المسلمين الأول لتوحيد نسخة القرآن لم يزل فيه بعض الاختلافات التي يعبرون عنها بالقراآت كما نعلم مما نقله إلينا الأئمة والمفسرون الراسخون في العلم ومنهم البيضاوي وانظر مثلاً تفسيره لسورة آل عمران آية 100 وسورة الأنعام 91 وسورة مريم 35 وسورة القصص 48 وسورة الأحزاب 6 وسورة سبا 18 وسورة ص 22 الخ,
إلا أنه من الوجه الآخر نقول أن السبب الرئيسي الذي نستنتج منه بقاء القرآن على ما كان عليه تقريباً بعد وفاة محمد هو أنه تضمن أقوالاً كشفت الستار عن حياته الأدبية مثل (سورة الأحزاب 37 و38 و49-52) لأنه من المحال أن يجترئ مسلم على أن يلصق بنبيه تلك الوصمة المشار إليها في هذه المواضع ما لم يكن اعترف بها هو نفسه وأمر أن تُدرج طي في كتابه الذي نزل عليه من السماء (على زعمه) ويا حبذا لو اعترف بأنها خطيئة اعترافاً صريحاً واستغفر ربه لكنه ادعى أنه فعل ما فعله بموجب تنزيل العزيز الحكيم لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهُ مَفْعُولاً لهذا لم يخجل أتباعه أن يذكروا له تلك الحادثة في ما دونوه من تاريخه وبالرغم عن الاعتذارات الكثيرة التي شفعوه بها لم يتبرر أمام الناقدين المحققين فاجتنبوه واجتنبوا دينه,
وليس بين علماء المسلمين اليوم من يستطيع أن يبرر القرآن ومحمداً من تلك القصة ومهما قالوا مدافعين لا يقدرون أن يسكتوا لسان الضمير الحي عن التصريح بالحق إن لم يصرح الفم قالوا إن القرآن لمعجزة بل الآية الواحدة منه معجزة دالة على رسالة محمد الإلهية وأنه لا الملائكة ولا الأنس ولا الجن يقدرون أن يأتوا بسورة منه ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً وإن كل كلمة منه خطت بالقلم في اللوح المحفوظ بجانب عرش الله قبل أن يبرأ البرايا بعصور كثيرة من العلم بأن القصة المشار إليها كانت من ضمنه ثم أن جبريل نزل به من عند العرش إلى سماء الدنيا في ليلة القدر وبعد ذلك بلغه إلى محمد شيئاً فشيئاً حسب مقتضيات الأحوال قال ابن خلدون تأييداً لهذا اعلم أن القرآن أنزل من السماء باللسان العربي على الأسلوب الذي كان مألوفاً عند العرب للإعراب عن أفكارهم وأنزل عليه باللفظ حسب مقتضيات الأحوال ببيان وحدانية الله وشرح الواجبات المفورضة على الإنسان في هذه الدنيا وقال في غير موضع ويدلك هذا كله على أن القرآن من بين الكتب الإلهية إنما تلقاه نبينا صلوات الله وسلامه عليه متلواً كما هو بكلماته وتراكيبه بخلاف التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية فإن الأنبياء يتلقونها في حال الوحي معاني ويعبرون عنها بعد رجوعهم إلى الحالة البشرية بكلامهم المعتاد لهم ولذلك لم يكن فيها إعجاز وعلى رأي هذا العالم يكون القرآن لفظاً ومعنى من عند الله بخلاف التوراة والإنجيل فإن معانيها من عند الله وأما ألفاظهما فمن عند الأنبياء والرسل الذين كتبوهما وعليه إذا اتضح لنا من البحث أن عبارة القرآن ليست من الإعجاز في شيء أو على الأقل لا دليل على إعجاز القرآن فلا يصح أن يرد علينا المسلم بقوله كذلك عبارة التوراة والإنجيل خالية من الإعجاز ولا يمكن أن تدل على كونهما صادرين من الله لأننا لم ندع قط أن عبارة كتابنا تتضمن شيئاً من الإعجاز ولا ادعينا أنها دليل على تنزيله من عند الله بل نقول عن كتابنا ما قاله ابن خلدون مما يدل على أن مسيحي عصره والعصر الحاضر على رأي واحد من جهة أسفار الكتاب المقدس وهو أن كل كاتب من كتبته استعمل عباراته الخصوصية فمنهم من كتب شعراً فصيحاً بليغاً ومنهم من كتب نثراً بسيطاً فكانت المعاني من عند الله والتعبير من عند ذلك النبي أو الزبوري أو البشير أو المؤرخ كل حسبما أمره الرب أن يكتب,
ثم أنه من المحقق الآن عندا لعلماء أن لسان قريش الذي كتب به القرآن إنما هو لسان أهل مكة لا لسان أهل الجنة فإن العربية كما هو معلوم إحدى اللغات السامية وهي كأخواتها العبرانية والآرامية والحبشية والسريانية والأشورية وغيرها من اللغات التي هي أقل أهمية ونحن لا ننكر أن اللغة العربية إحدى اللغات القديمة كما أننا نعترف بأن القرآن في بعض فصوله فصيح العبارة وبليغ الأسلوب غير أن علماء اللغة أثبتوا اشتماله على كلمات غير عربية معدولة عن اللغات الأخرى, منها كلمة فرعون مأخوذة من اللسان المصري القديم وكلمتا آدم وعدن مأخوذتان من لغة قديمة تُدعى أكاديان وإبراهيم من لغة الأشوريين وهاروت وماروت والصراط وحول الجن والفردوس مأخوذة من لغة قدماء الفرس وتابوت وطاغوت وزكاة وملكوت من لغة السريان والحواريين من اللغة الأيتوبية وحبر وسكنية وماعون وتوراة وجهنم من ألفاظ اليهود والإنجيل من لغة اليونان, وعليه فكلام القرآن ليس عربياً محضاً وحينئذ لا مانع من أن تكون هذه الكلمات الغير عربية مكتوبة في اللوح المحفوظ إسوة بكلماته العربية ما دام لها الفضل عليها في التعبير عن كثير من معاني القرآن, مع أن هذا يفتقر إلى الإثبات وكما اشتمل القرآن على كلمات غير عربية اشتمل على تراكيب لو وردت في غيره من الكتب لعدها علماء النحو والبيان غلطات لا محالة وهي كثيرة نكتفي ببعضها: ففي سورة البقرة (1) (قابل منا رالحق) قوله أولاً تلك عشرةكاملة والصواب تلك عشر وقال في سورة الأعراف وقطعناهم اثنتي عشر أسباطاً فأنث العدد وجمع المعدود والصواب التذكير في الأول والإفراد في الثاني وقال فيسورة النساء 4: 162 لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَا لْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَا لْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَا لْمُؤْتُونَ الّزَكَاةَ وَا لْمُؤْمِنُونَ بِا للَّهِ وَا لْيَوْمِ الْآخِرِ والصواب والمقيمون الصلاة,
وقال في سورة المائدة 5: 69 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَا لَّذِينَ هَادُوا وَا لصَّابِئُونَ وَا لنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِا للَّهِ وَا لْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ والصواب والصابئين وقال في سورة المنافقين 63: 10 وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ والصواب وأكون بالنصب وقال في سورة آل عمران 3: 59 إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ والصواب فكان,
ومما أخطأ مراعاة المروي قوله سلام على الياسين والوجه الياس وقوله وطور سينين والوجه سيناء ومن خطإه في الضمائر وقوله في سورة الحج 19: 2 هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ والوجه اختصما في ربهما وقوله في سورة الأنبياء وأسروا النجوى الذين ظلموا والوجه وأسر النجوى وقوله في سورة الحجرات وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصحلوا بينهما والوجه اقتتلتا أو بينهم,
وبخلاف ما تقدم فإن الرأي العام عند العلماء الخالين من الغرض هو أن القرآن ليس بأفصح من كل الكتب العربية فبعضهم لا يفضله من حيث الفصاحة والبلاغة على المعلقات السبع وعلى مقامات الحريري وإن كانوا لا يتجاسرون على التصريح بذلك في البلاد الإسلامية على أن التاريخ ذكر أن كثيرين من علماء العرب أنكروا إعجازه من حيثية اللغة وقال السلطان إسمعيل في كلامه عن الإسلام إن عيسى ابن صابح المكنى بأبي موسى مؤسس شيعة المزدارية والمعروف بالمزدار كان يقول أن البشر يقدرون أن يكتبوا مثل القرآن في الفصاحة والبلاغة والروي وقال بخلقه ونشأ عن ذلك نزاع استفحل شره في حكم المأمون استمر من سنة 198 هجرية إلى سنة 218 وقال مؤلف كتاب شرح المواقف أن المزدار كان يقول كان ممكن للعرب أن يأتوا بأفصح من القرآن بكثير وقال الشهرستاني أبطل المزدار دعوى القرآن بالإعجاز من حيث الفصاحة والبلاغة والنظام يقول إن إعجاز القرآن ليس من حيث جمال عباراته بل من حيث أخباره بحوادث الماضي والمستقبل التي تضمنها وأن الذي صرف العرب عن مباراته هو عدم الإنصاف في الحكم بمضاهاته وادعائه بإحرازه السبق على غيره بغير حق مما ثنى عزيمته المناظرين عن الاهتمام بدعواه ولو وجدوا حكماً يقضي بينهم وبين صاحب القرآن لأتوا بمثله بدون نزاع,
نعم أن إخواننا المسلمين يعتبرون من قال منهم بعدم إعجاز القرآن مبتدعا ويسوءهم إعادة هذا القول إلا أننا لسنا نريد إساءتهم ولا إهانة كتابهم بل نقصد فقط أن نبين لهم بما لدينا من الأدلة أن مسألة إعجاز القرآن لم تقع موقع القبول والتسليم حتى عند العرب أنفسهم بل كانت من بدء الإسلام إلى الآن موضوع خلاف ونزاع أدى إلى التحزب والانشقاق فإن كان العرب ارتابوا في إعجاز القرآن وأنكروه حالة كونهم أرباب اللغة وأهلها فكيف يتعين على الأعاجم أن يسلموا بإعجازه ويتخذونه دليلاً على نبوة صاحبه فاحكموا,
ولنفرض كيفما كانت الحال أن القرآن أفصح كتاب عربي على وجه الأرض هل يلزم عن ذلك أنه كتب بالوحي أو هبط على محمد من سماء السموات لا يلزم ذلك أبداً لأنه في كل لغة راقية كتب عديمة المثال في لغتها الانكليزية لا يوجد أشعار كأشعار شكسبير وفي لغة الألمان تفردت قصيدة شيلر وغوث عن النظير وفي لغة الفرس فاق حافظ الكل في نوع من القصائد وفاق مولانا الرومي في نوع آخر وفي لغة السكريتية الهندية تجلت عن المثيل قصائد ريج فيدا ولم يدع كتبتها بالإعجاز لفصاحتها وبلاغتها ولا قالوا أنها وحي هبط عليهم من السماء,
وعليه ففصاحة الكتاب ليست دليلاً على كونه منزلاً من السماء لأنه على الأرض فصحاء كثيرون والفصاحة من الصناعات البشرية إنما الدليل سمو تعليمه لا تنسيق ألفاظه كما شرحنا في المقدمة وإلا لكان الهنود محقين في دعواهم عن كتابهم مع أنه قد ذكر فيه نحو ثلاثة وثلاثين إلهاً, ويكون الكتاب موحى به من الله باعتبار ما يتضمن من التعاليم الحقة والأفكار الصالحة والمبادئ الروحانية السامية ولا حاجة إلى الألفاظ إلا ما دعت إليه ضرورة البيان, وتسري هذه القاعدة على الكتب المؤلفة أيضاً فإن قيمتها الحقيقية تقاس بصلاح تعليمها وجوده مبادئها لا بزخارف ألفاظها وطلاوة عباراتها, فإن كان لا يزال يدعي المسلم بأن القرآن أفصح كتاب في الوجود وفصاحته معجزة تدل على أن محمداً رسول الله فنقول هذه دعوى لا يمكن إقامة الدليل عليها إلا إذا توفرت لدينا شروط هي من وراء مقدرة البشر لانه لا يتأتى لأحد أن يحكم بأسبقية القرآن على سائر الكتب في كل اللغات في الفصاحة والبلاغة ما لم يطلع على كافة الكتب واللغات ويقارن بينها وبين القرآن وهذا ما لا سبيل إليه ولا يتعرض أحد به مسكة من العقل لمشروع محال وعليه فليس من المعقول أن يتمسك المسلم بأهداب هذه الحجة الواهية مؤكداً أن ديانته نور وهدى لكل الناس وأن نبيه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين إلى غير ذلك من الدعاوى الطويلة العريضة وليس لديه من البراهين إلا فصاحة القرآن المزعومة التي لا يتهيأ لمخلوق أن يسلم بها لأنها تقتضي كما قلنا فحصاً لا يستطاع لو يكلف الأعمى أن يميز جميع الألوان التي في قوس قزح كان ذلك أيسر من أن يكلق البصير بفحص جميع الكتب التي في العالم في كل اللغات ليعلم عن بينة أي كتاب أفصح الكل وعليه فكل الدعاوي الإسلامية قائمة على هذا الأساس الباطل والبرهان الساقط,
ومع أننا لم نستطع أن نقرأ الكتب جميعها ونعلم كل اللغات للتمييز بينها وبين القرآن فقد قرأنا الكتاب المقدس ولله الحمد وأننا نقول بملء فينا أن كثيراً من أسفاره في لغتها الأصلية أفصح من أي قسم من القرآن ومن بين تلك الأسفار سفر النبي إشعياء والتثنية والمزامير وقد لا ينكر أحد هذه الحقيقة من علماء اللغات إلا إخواننا المسلمون ولو فتح الله عليهم ودرسوا اللغة العبرانية التي كتبت بها هذه الأسفار لاعترفوا هم أيضاً بهذه الحقيقة,
ونذكر هنا طريقة سهلة مستطاعة كل قارئ يقابل بها بين الكتاب المقدس والقرآن إذا كان يجهل اللغات الاصلية التي كتب بها الكتاب المقدس فليقرأ سفر النبي إشعياء أو غيره من الأسفار التي ذكرناها في أي لغة كاللغة التركية أو الفارسية أو الانكليزية أو الفرنساوية إلى غير ذلك ثم يقرأ أي سورة من القرآن في تلك اللغة فلا يلبث طويلاً حتى يتنازل عن دعواه وهو صاغر,
ولكن لنفرض بعد هذا كله أن القرآن يرجح على سائر الكتب في الفصاحة والبلاغة فلا يصح أن نتخذ رجحانه من هذه الحيثية دليلاً على كونه موحى به من الله لأنه لا مناسبة بين الفصاحة والوحي كما أنه لا يستدل بجمال المرأة على فضيلتها ولا بقوة الرجل على حكمته وإنما يعلم الوحي من غيره بما اشتمل عليه من صلاح العليم وملاءمة مبادئه لطبيعة الله القدوسة وكفائته لجبر نقائص البشر وشفاء أشواقهم الروحية كما شرحنا ذلك في موضعه,
قيل عن ماني الذي ادعى النبوة زاعماً أنه هو الروح القدس الذي بشر به المسيح أنه يأتي بعده أنه جاء بكتاب صور جميلة يدعي أرتنج وقال أن الله أعطاه الكتاب ليكون معجزة وبينة على أنه رسوله الأمين ونبيه الصادق وحجته على صحة دعواه أن لا أحد من البشر يقدر أن يرسم صورة مثل هذه الصور فهل لأنه لا أحد عمل كتاباً مثل كتابنه تقوم صحته ونؤمن به نبياً ورسولاً كلا بل غاية ما في الأمر نعترف له بإتقان صناعة الرسم والتصوير وعلى هذا القياس أن سلمنا بأنه لا كتاب في الدنيا يضاهي القرآن فصاحة فحسبنا أن نعترف لصاحبه بإتقان الفصاحة كما اعترفنا لماني بإتقان التصوير فالاعتماد إذاً لا على زخارف القرآن اللفظية بل على مشتملاته وهذا ما قصدنا أن نبحث فيه في الفصول الآتية,