المسيح يبحث عن الضال

تذمر الفريسيون والكتبة في أحد الأيام على المسيح وقالوا عنه: »هذا يقبل خطاة ويأكل معهم«. فقدَّم لهم ثلاثة أمثال تبيّن أن شر الأشرار لا يمنع المحبة الإلهية الأبوية عنهم، لأنه عند وقوع البنين في أشراك إبليس يشتعل الحبُّ الأبوي مضاعفاً أسفاً على تعاستهم، ورغبة في تخليصهم منها. وهذا ما نراه في الأب الذي له ولد قاصر أو مريض أو معتوه أو شارد. فتوبة الشرير عزيزة جداً عند الله، وعند جميع البشر الصالحين.

مثل الخروف الضال

»وَكَانَ جَمِيعُ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. فَتَذَمَّرَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: »هذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ«. فَكَلَّمَهُمْ بِهذَا الْمَثَلِ: »أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا، أَلَا يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَيَذْهَبَ لِأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟ وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً، وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو الْأَصْدِقَاءَ وَالْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: افْرَحُوا مَعِي، لِأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ. أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَة« (لوقا 15:1-7).

صاغ المسيح أول الأمثال الثلاثة في قالب الاستفهام، عندما سأل سامعيه: من منكم له مئة خروف وأضاع واحداً منها؟«. فكأنه في هذا السؤال يبكّتهم كرعاة الشعب على أنهم أهملوا الضالين، واكتفوا بالتسعة والتسعين التي يعتبرونها غير ضالة، وحسبوا أن الضال يستحق ما هو فيه من العذاب والخطر والهلاك.

يقدم المسيح نفسه كالراعي الصالح الأمين المحب، الذي يبذل كل جهد في تفتيشه عن كل نفس ضالة بمفردها، بل يرثي لضعفها ويحنّ لشفائها ويحملها على كتفيه فرحاً، ويأتي بها إلى بيته، وبهذا يميّزها عن التي لم تضل، ثم يدعو للاشتراك معه في فرحه الملائكة والقديسين في السماء، الذين يفرحون بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة.

فمَنْ يتجاسر أن يصف حوادث السماء، وكيفية أفراح أهلها؟ لا حقَّ لأحد في ذلك إلا المسيح الذي كان منذ الأزل في حضن الآب، وقد نزل من السماء. ومن هُم الذين يصفهم بالتسعة والتسعين باراً الذين لا يحتاجون إلى توبة؟ ليسوا ملائكة. لأنه يقول إن الملائكة لا تفرح بهم كفرحها بالضال التائب. وليسوا بشراً صالحين، لأن الرسول بولس يقول: »لَيْسَ بَارٌّ وَلَا وَاحِدٌ. الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً« (رومية 3:10 ، 12). إذاً هم الذين يتوهّمون ويدَّعون خطأً أنهم أبرار. وهذا ما كان يفعله سامعو المسيح من الفريسيين، ويفعله خلفاؤهم في كل جيل.

لكن على فرض أن هؤلاء كانوا أبراراً ولم يضلُّوا، واعتُبرت قيمتهم مئة ضعف العشارين والخطاة والضالين، فإن الراعي السماوي لا يكتفي بهم ويترك المحتقرين والمرفوضين منهم، بل إنه يُسَرُّ بتوبة خاطئ واحد أكثر من الفرائض المقدسة التي يمارسها الرؤساء في الهيكل في صلوات وأصوام وتقدمات، لأنه جاء من السماء ليخلِّص الخطاة. ثم أنه لا ينتظر الخطاة ليأتوا إليه أولاً، بل هو يقصدهم ويجدهم ويحثُّهم على الرجوع إلى الله وإلى بيت أبيهم الأصلي الحقيقي. فلو كان الفريسيون مثل أهل السماء لفرحوا بما فرح له أهل السماء. والخاطئ الذي يعرف أن توبته تجعل أجراس السماء تقرع فرحاً، يجد دافعاً قوياً وشريفاً يسرع به إلى المخلِّص.

مَثَل الدرهم المفقود

»أَوْ أَيَّةُ امْرَأَةٍ لَهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ، إِنْ أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً، أَلَا تُوقِدُ سِرَاجاً وَتَكْنِسُ الْبَيْتَ وَتُفَتِّشُ بِاجْتِهَادٍ حَتَّى تَجِدَهُ؟ وَإِذَا وَجَدَتْهُ تَدْعُو الصَّدِيقَاتِ وَالْجَارَاتِ قَائِلَةً: افْرَحْنَ مَعِي لِأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ. هكَذَا أَقُولُ لَكُمْ يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلَائِكَةِ اللّهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ« (لوقا 15:8-10).

في المثَل الثاني يصوِّر المسيح للنساء بين سامعيه عملاً بيتياً، ويجعل النسبة بين الضالين وغير الضالين كواحد إلى عشرة، فيعظِّم نسبة قيمة الخاطئ. ويوضح خسارة المالك السماوي الذي له الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها (مزمور 24:1). في المثل أضاعت المرأة درهماً من عشرة، وبعد التفتيش بواسطة تكنيس البيت على ضوء السراج، نجحت، ففرحت جداً بالعثور على الدرهم كما فرح صاحب الخروف، وأشركت الآخرين معها أيضاً في الأفراح.

يجوز القول إن المرأة تمثل الكنيسة، كما مثَّل الراعي المسيح رأس الكنيسة. فكنيسة المسيح الحقيقية تسير على خُطَّته، لأنه يقودها بروحه، ولذلك تفتِّش بكل اجتهاد على التائهين في قفار الخطية. والسراج الموقد بيدها هو كتاب الوحي الذي قال فيه داود: »سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلَامُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي« (مزمور 119:105). والكنيسة تَصْدُقُ في اعترافها: »الدرهم الذي أضعْتُه« لأن كثيراً من دم الهالكين يُطلب من الفاترين في الكنيسة، ومن الكنيسة إجمالاً بسبب تقصيرها. والراعي محقٌ في قوله »خروفي« أما المرأة فلا تقول »درهمي« لأن الملك ليس للكنيسة بل للمسيح رئيسها.

علّم المسيح في هذين المثلين أن مصدر الخلاص هو ما يعمله الله في طلب الخاطئ، لا عمل الخاطئ في طلب الخلاص، لأن طلب الخاطئ للخلاص هو نتيجة لعمل الله في قلبه. فليس في الدِّين قولٌ جوهري أكثر من القول إن الأصل في الدين ليس ما يعمله الإنسان لأجل الله، بل ما يعمله الله لأجل الإنسان.

مَثَل الابن الضال

»وَقَالَ: »إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ابْنَانِ. فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لِأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الِابْنُ الْأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ، حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ، فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ. فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لِأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ الِابْنُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. فَقَالَ الْأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الْأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَاجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ، وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، لِأَنَّ ابْنِي هذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ« (لوقا 15:11-24).

أما المثل الثالث فإنه الدُرَّة الفريدة بين أمثال المسيح كافة، وفيه تشبيهٌ لعمل الأولاد في العائلة، تنبيهاً للأولاد بين سامعيه. ويوضح ما لم يُعلَن في المثلين السابقين من عظمة مسئولية الذين يضلون عن الله وشرائعه. ونلاحظ أن هذا المثل يمتاز على المثلين الآخرين في القيمة التي يعطيها للضالين، لأن نسبتهم كواحد إلى واحد، ويمثلّهم بالابن العزيز الأصغر، لا بمعدن أو حيوان، كما أنه يوضح ضرورة العمل الإلهي الاساسي في الرجوع إلى الله بالتوبة والإرادة الحرَّة، الأمر الذي هو ثمر العمل الإلهي الاساسي في التفتيش عن الضالين وفتح الباب لخلاصهم. فضَمَّ المسيح هذه الأمثال الثلاثة إلى عقد واحد، ليشرح لنا أمر الخلاص شرحاً وافياً.

حَصَر المسيح الشعب اليهودي الذي خصَّه بخدمته في صنفين، يمثّلهما ابنان لأب واحد. فالابن الأكبر (الذي له شرعاً نصيبٌ مضاعف في الإرث) يمثّل الذين يحافظون على صورة الدِّين، وهم في أعين الناس، وأعين أنفسهم، أهل الدين والأمانة لله، لأنهم يحفظون بتدقيق فرائض الدين الخارجية، ولا يتيهون علانية في برية الآثام والمعاصي.

ويمثّل الابن الأصغر سائر أبناء الأمة، الذين يتبعون الأهواء المنكرة ولا يتقيدون بفروض الدين فينكرون المراحم الإلهية ويستخدمون عطايا الرب لهم في العصيان عليه، ويرفضون حرية البنوَّة الشريفة، إذ يبتعدون عن الله عمداً وظاهراً. لذلك يضلون دون خجل ودون تردد عن كتاب الله وعن عبادته وعن شعبه، فيبتعدون بذلك عن القداسة والسلامة والسعادة، وبالتالي عن صالحهم وصالح من هم حولهم في الدنيا والآخِرة.

ضلَّ هذا الابن الأصغر عن بيت أبيه، وعن أخيه الوحيد، وعن العناية الأبويَّة، وعن خيرات وطنه، وعن المعشر الصالح، وعن العمل لزيادة الثروة التي تأتيه بالإرث من أبيه. ملَّ ونفر من القيود البيتية الشريفة، والسلطة الأبويَّة المكرَّمة، واشتهى أن يحكم نفسه بنفسه، وأن يضلّ في الملذات الفاسدة بين الأشرار، فشقَّ عصا الطاعة البنويّة وعزم على الابتعاد عن أبيه، ليتصرف كما يشاء. فطلب من أبيه - وهو لا يزال حياً - نصيبه من الميراث.

ترك روح البنوَّة الذي يقول: »أبانا الذي في السموات. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم«. وطلب دفعة واحدة كل نصيبه من أبيه، ليستقلَّ عنه تماماً. وهذا حال الخاطئ الذي يعيش لنفسه، دون نظر إلى إرادة الله، ويتباهى باستقلاله عن الرب مفتخراً بما يعيبه. ولما كانت الطاعة الإجبارية لا تحلو لأبٍ محب، وافق أبوه على طلبه، وأعطاه نصيبه من الميراث، كما نرى ذلك في معاملة الله للأشرار الذين يعطيهم من عنايته الفياضة خيراتٍ أرضية جزيلة حسب ما يرغبون. ولكن هذه العطايا ليست علامة الرضى الأبوي. ومع أن هذا الجاهل انفصل قلبياً عن أبيه، فإنه لم ينصرف حالاً من بيت أبيه، بل قضى في بيت أبيه أياماً سافر بعدها. هكذا الخاطئ أيضاً لا يبدأ حالاً بالانفصال الكلي عن الله، بل يصل إلى ذلك تدريجياً.

في البلدة البعيدة التي سافر إليها هذا الشاب، أطلق العنان للأهواء الفاسدة، حيث ليس من يردعه أو يُخجِله أو يذكّره بماضيه الصالح وأصله الشريف، وفيها بذَّر ماله بإسراف، حتى افتقر تماماً. واتفق عند فراغ جيبه حدوث مجاعة هناك، مما قسَّى قلوب أصحابه عليه، وقطع عنه القوت الضروري.

نتصوَّره في غربته يراعي بعض تقاليد شعبه في الأمور الخارجية، لكن لما عضَّه الجوع، لجأ إلى الخدمة عند صاحب خنازير، أرسله ليرعى خنازيره، فضحَّى بدينه في سبيل جوعه، ورضي بالنجاسة ليشبع، ولما كان يعود بالخنازير مساءً إلى مأواها كان صاحبها يعطيها عشاءها من الخرنوب، ليسدَّ به ما نقصها في المرعى بسبب القحط. وكان هذا المسكين يشتهي من شدة جوعه أن يتساوى مع هذه الحيوانات النجسة ويملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، ولم يعطه أحد.

كثيراً ما يستخدم اللّه الشدائد ليُرجع الناس إليه، لكن كثيرين تزيدهم الشدائد بعداً عنه. فما يقصده الله بركة للخلاص يحوّلونه لعنة للهلاك، والذي تردُّه الشدائد إلى بيت أبيه يبرهن بنويَّته الحقيقية. ولقد وجد الابن الضال في وسط محنته باب الخلاص، لأن الدخول إلى الخلاص، يكون أحياناً من باب اليأس.

لا يزال الابن الضال ابناً، وأبوه لا يزال أباً. وكما أن الطاعة لم تصيِّره ابناً، هكذا عصيانه لا يقطع هذه العلاقة التي هي وضع إلهي، لا يلاشيها إلا الموت. ولا يخفى أن في صدر كل خاطئ من بني البشر ومضة من البنوَّة لله. فمهما هبط شر الناس في حمأة الإثم، ومهما علت جبال خطاياهم، فهذه الومضة المباركة لا تنطفئ ما داموا على قيد الحياة، ما لم يميتوها عمداً بتجديفهم على الروح القدس، الذي وحده يوقظها ويحييها، ليلجأ صاحبها إلى المخلص الوحيد وينال الخلاص.

رجع هذا الشاب إلى نفسه لأن الفقر الشديد أعاد إليه الرشد، فكان رجوعه إلى نفسه مقدمةً لرجوعه إلى بيت أبيه. فلما عقد النية على هذا الرجوع كان تائباً متواضعاً واثقاً من رحمة أبيه.

ظهرت توبته في الكلام الذي أعدَّه ليقوله لأبيه عند المقابلة: »يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك«. شعر أن خطيته ليست ضد أبيه فقط، بل بالأكثر ضد الله. ولا يُسمَّى عملٌ ما خطيئة بالنسبة إلى حقوق الناس فقط، بل النسبة إلى حقوق الله أيضاً.

وظهر صدق تواضعه في شعوره أنه أضاع كل حقوقه الأصلية، فطلب أن يعتبره أبوه أجيراً، ويكون قبول أبيه له كأجير فضلاً من أبيه عليه.

وظهر صدق إيمانه في رأفة أبيه في أنه قام وذهب غير خائف أن يطرده أبوه، مع أنه لا يستحق إلا الطرد.. وهذا الإيمان شرط لازم للتوبة، فالتوبة دون إيمان تكون فارغة، وتبقى ندامة فقط. والندامة لا تؤدي إلى الخلاص بدون التوبة الحقيقية. فالابن لم يعزم فقط على الرجوع، بل رجع. فأي نفع في أحسن عزم إنْ لم يخرج إلى حيز الفعل؟

وفيما هو يقترب من بيت أبيه كان قلب هذا الوالد ملتهباً بالحب الشديد لهذا الشارد، وعيناه تراقبان الطريق التي ذهب فيها، متوقّعاً عودته تائباً، لأنه عانى من أجل ابنه الضال كثيراً. وكان ثمر مراقبته الدائمة أنه رأى ابنه، إذْ كان لم يزل بعيداً، فلم ينتظر وصوله، ولم يفكر في أن يذله أو يعيِّره، ولم يذكر سيئاته لأنه يعلم أن الاستعباد لإبليس هو أعظم المصائب التي تدعو للشفقة. فهل يزيد عذاب ابنه بتأنيبه على ما مضى؟ إن القصد من التأنيب هو تحريك الضال للتوبة، فمتى ظهرت التوبة لا تعود للتأنيب حاجة.

ظهر الجمال الأبوي بكل معناه في هذا الأب، في القول إنه تحنن لما رأى ابنه. وهكذا لا ينتج خلاص الخاطئ عن مجرد الإشفاق الإلهي، بل عن محبة الآب لابنه الشارد في قفر الهلاك الروحي، والمقيَّد بسلاسل عدوه إبليس. هذا الابن هو من صُلب أبيه مهما شرد وأضاع المشابهة له. وهو يحمل اسم أبيه مهما لطخ شرف هذا الاسم، وهو وارث بيت أبيه مهما بذر من إرثه في المعاصي.

يتأنى الخالق سبحانه في كل شيء إلا في ملاقاة الخاطئ التائب، فالإشارة الوحيدة في الكتاب للاستعجال الإلهي وردت في هذا المثل، لأن المسيح قال عن هذا الأب إنه »تحنن وركض« ليلاقي ابنه، وقابله مقابلة محبٍّ حنون. نسي كل تاريخه المعيب إذ وقع على عنقه وقبّله، بالرغم من حالته القذرة. وعوَّض له عن خسارته وشقائه في الماضي باهتمام يفوق اهتمامه بابنه الذي لم يضل. ولم ينتظر الأب حتى يبرهن ابنه عن صدق توبته بسلوك حسن لمدة طويلة، ولكنه صالحه فوراً، لتكون طاعته المتواصلة بعد المصالحة والمغفرة والإكرام برهاناً أفضل لصحة توبته من الطاعة التي يقدمها للحصول على الإنعامات الأبوية. كما أن المغفرة التي تُعطى للخاطئ قبل الطاعة التامة، تكون نعمة إلهية، وكرماً، أكثر من التي تُعطى جزاءً بعد الطاعة.

ما أجمل هذه المقابلة الحبية الحارة التي فاق سرور الآب الصالح فيها على سرور ابنه التائب. لقد تجدد عزم الابن على التوبة لما وجد عواطف والده القوية وغفرانه المجاني. هكذا الخاطئ التائب يتأثر من الغفران الإلهي المجاني الحالي الكامل، وتزيد توبته الصادقة وتتقوى. ومن المستحيل أن يولِّد فيه هذا الغفران طمعاً في الحِلْم الإلهي ليؤجل إصلاح سيرته ويتساهل مع ميوله الشريرة، لأن هذا الغفران يكوِّن روابط جديدة بينه وبين إلهه، تجعله يبتعد عن كل ما لا يُرضي الله.

عند هذا اللقاء بدأ الابن الضال بالقول الذي رتبه لما رجع إلى نفسه، وهو بين الخنازير. لكن الآب اكتفى بالمقدمة وقاطعه في الكلام قبل وصوله إلى الطلب أن يكون أجيراً عنده، وأسرع يأمر عبيده أن يخدموه كالابن الأصغر الأعزّ. فأُعيدت إليه حقوقه في البيت مضاعفة. فبدلاً من الخِرق القذرة الرثّة التي أتى فيها أتوه بالحُلة الأولى، وبأفخر الموجود، إشارةً إلى صفاته الجديدة. هكذا يفعل الله مع الخاطئ التائب، إذ يمنحه ثوب البر ورداء الخلاص ليستره، فيظهر أمام الله مبرَّراً مطهَّراً يمجد مخلّصه (إشعياء 61:10). ثم أمر الآب بإعطاء ابنه الخاتم، علامة السلطان البنوي الذي يخوّله حق الختم عن أبيه في المعاملات الرسمية. وفي هذا إشارة إلى السلطان الروحي الذي يهبه الروح القدس بحلوله في التائبين. وأمر له بحذاء ليتمكن من السعي الجدي في أعمال بيت أبيه، وفي هذا إشارة إلى الوقاية الروحية التي يحصل عليها  كل تائب حقيقي. ثم أكمل الآب احتفاءه بتوبة ابنه بأن جهز وليمة يأكل فيها ابنه أفخر مأكولات البيت، تعويضاً عن آلام الجوع في ما مضى.

وشرح الأب لعبيده سبب كل ذلك بقوله: »لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجد«. اعتبر الآب توغُّل ابنه في الشرور موتاً أدبياً وروحياً، كما أن غيابه أشبه بالموت الجسدي. فكان رجوعه كمن يقوم من قبره. فالخطية وليس موت الجسد هي الموت الحقيقي.

الابن الأكبر

»وَكَانَ ابْنُهُ الْأَكْبَرُ فِي الْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ الْبَيْتِ، سَمِعَ صَوْتَ آلَاتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً، فَدَعَا وَاحِداً مِنَ الْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذَا؟ فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ، لِأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِماً. فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. فَقَالَ لِأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ، وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لِأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ. فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ. وَلكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لِأَنَّ أَخَاكَ هذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ« (لوقا 15:25-32).

وبينما كانت الأفراح قائمة في البيت عاد الابن الأكبر في آخر النهار من الحقل. وتعجب إذ سمع أصوات الطرب وما يتعلق بها دون داعٍ يعلمه لذلك، فظهر على حقيقته السيئة، إذ لم يدخل ببساطة قلب فرحاً لما سيجده في بيته، بل دعا أحد الخدم بسوء ظن وخبث، وسأله عن الموضوع. وعند ذلك هاج حُمقاً وحسداً ورفض أن يدخل ليشترك في سرور أبيه وأخيه.

حقاً إنه لا يوجد في هذه الدنيا أفراح إلا وترافقها أكدار، كثيراً ما يسبّبها الأقربون. صوَّر المسيح في الابن الأصغر العشارين والخطاة الذين فتح لهم الله باب التوبة للخلاص فدخلوا. وصوَّر في الابن الأكبر أصحاب التديُّن الفارغ الذين بدلاً من الفرح لاهتداء الضالين يتذمرون لأجل رجوعهم. لم يرَ الابن الأكبر في أخيه إلا العيوب، حتى أنه لم يرضَ أن يسميه أخاه، بل قال لأبيه: »ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني«.

قد يكون كلامه صدقاً، لكن ليس الصدق كله، لأنه سلب أخاه فضيلة التوبة، وفي كبريائه لم يرَ في ذاته إلا الفضائل، إذ قال لأبيه: »ها أنا أخدمك سنين هذا عددها، وقط لم أتجاوز وصيتك«. فلو فرضنا أنه صادق في هذا القول فإنه ليس الصدق كله، لأن أفكاره في خدمته لأبيه ظهرت في قوله: »وجَدْياً لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي«. استاء من فرح أبيه، وسيطرت الأنانية على روحه وتصرفاته، فوضعت بينه وبين أبيه هوَّة وابتعاداً أكثر مما وضعه الابن الأصغر في ذهابه إلى كورة بعيدة وشروره هناك. لكن أباه لم يعامله حسب استحقاقه، بل خرج إليه، وتنازل بدلاً من أن يوبخه أو يتركه. حتى بعد أن أهانه بتوبيخ مرّ، وبشيء من الاحتقار، أجابه بمحبة: »يا بنيَّ أنت معي في كل حين. وكل ما لي فهو لك«. فالدليل من هذا أن الله لا يمنع الحب الإلهي والرحمة حتى عن المتكبرين القساة، بل يمتّعهم بكل وسائل التوبة والإيمان كما يفعل مع الخطاة وأكثر. ما عليهم إلا أن يتوبوا ويتركوا شرورهم كما فعل العشارون والخطاة قبلهم.

وتنتهي رواية هذا المثل دون أن نجد ذكراً لتوبة الابن الأكبر. لكننا نعلم أن الذين مثَّلهم (وهم الرؤساء والفريسيون) لم يتوبوا، بل استمروا مُصرِّين على خطئهم، وعلى الحسد الذي جعلهم يسلِّمون المسيح إلى بيلاطس للصلب، وعلى البُغض الذي ظهر في محاكمته أمام رؤسائهم، ومعاملتهم القاسية له.

نتعلم من قصة الابن الأكبر أن المتكبر الذي يتكل على صلاحه ليتبرر أمام الله هو أبعد عن الله وعن السماء من الشرير الذي شرُّه ظاهر ولا يدَّعي الصلاح، لأن الأمل في إصلاح الشرير أقوى، فإن الرياء والكبرياء من أكبر الموانع في سبيل الخلاص. وبسببها امتنع الفريسيون عن الإيمان والخلاص بالمسيح. وبسببها يعثر الكثيرون الآن. وفي مَثَل الابن الضال نرى التعليم الإلهي أن الله يعتبر إصرار الضال على ضلاله خسارة عليه كما أن رجوعه عن ضلاله ربحٌ وسرور لله. فما أعجب هذا الحب والتنازل الإلهي! وما أعظم هذا الباعث للامتناع عن الخطية!