المسيح يطهر الهيكل

المسيح يلعن التينة غير المثمرة

»وَفِي الْغَدِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ عَنْيَا جَاعَ، فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ مِنْ بَعِيدٍ عَلَيْهَا وَرَقٌ، وَجَاءَ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا شَيْئاً. فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ شَيْئاً إِلَّا وَرَقاً، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ التِّينِ. فَقَالَ يَسُوعُ لَهَا: »لَا يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْكِ ثَمَراً بَعْدُ إِلَى الْأَبَدِ«. وَكَانَ تَلَامِيذُهُ يَسْمَعُونَ.

‚وَفِي الصَّبَاحِ إِذْ كَانُوا مُجْتَازِينَ رَأَوُا التِّينَةَ قَدْ يَبِسَتْ مِنَ الْأُصُولِ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: »يَا سَيِّدِي انْظُرْ، اَلتِّينَةُ الَّتِي لَعَنْتَهَا قَدْ يَبِسَتْ!« فَأَجَابَ يَسُوعُ: »لِيَكُنْ لَكُمْ إِيمَانٌ بِاللّهِ. لِأَنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ قَالَ لِهذَا الْجَبَلِ، انْتَقِلْ وَانْطَرِحْ فِي الْبَحْرِ، وَلَا يَشُكُّ فِي قَلْبِهِ، بَلْ يُؤْمِنُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ يَكُونُ، فَمَهْمَا قَالَ يَكُونُ لَهُ. لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ، فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ، فَيَكُونَ لَكُمْ. وَمَتَى وَقَفْتُمْ تُصَلُّونَ فَاغْفِرُوا إِنْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ، لِكَيْ يَغْفِرَ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ زَلَّاتِكُمْ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا أَنْتُمْ لَا يَغْفِرْ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَيْضاً زَلَّاتِكُمْ« (مرقس 11:12-14، 20-26).

دخل المسيح إلى أورشليم، وكان ذلك اليوم يوم الأحد. وفي صباح الإثنين ترك بيت عنيا وعاد إلى أورشليم. ويظهر أنه لم يتناول طعاماً فجاع. وكان جوعه مهماً لأنه من البراهين القاطعة على ناسوته، وأدى إلى تعليم رمزي مهم جداً، ضد النفاق، رسخ في أذهان تلاميذه وذاكرتهم بشهادة العين، والأذن أيضاً. لم يعاقب أحداً من البشر المرائين الذين وبَّخهم لأنه »لم يأتِ ليدين العالم، بل ليخلُص به العالم«. لكنه فعل بالشجرة معجزة من باب الغضب - هي الوحيدة في بابها. إنها ليست بشراً، بل فقط شجرة تمثّل المرائين المتظاهرين بصلاح ليس في قلوبهم، فهي خضراء مورقة، لكنها لا تحمل ثمراً. وقد أيَّدت هذه المعجزة قول المعمدان في زمانه إن »قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لَا تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ« (متى 3:10).

رأى المسيح من بعيد شجرة تينٍ عليها علامات الإِثمار (وإنْ لم يكن وقت التين). لذلك استلفتت نظره، فقصدها لعله يجد فيها ثمراً. كانت بعض أشجار التين تحمل باكورة الثمر، وهي ثمار صغيرة الحجم، لكنها كثيرة الحلاوة. ولما كانت هذه الشجرة مورقة، فقد توقع المسيح منها باكورة التين، فلم يجد سوى الورق. فصارت تلك الشجرة مثال الخطية الإيجابية التي ارتكبوها وهي الرياء، والخطية السلبية وهي إهمال الصلاح، أي عدم الإِثمار، فلعنها بقوله: »لا يأكل أحد منك ثمراً بعد إلى الأبد«. قال ذلك بغاية سامية ليعلّم تلاميذه وليعلمنا ضرورة الإتيان بالثمر. ولم يلعن التينة عن حمقٍ أو طيش، لأن ذلك لا ينطبق على صفاته وتاريخه.

المسيح يطهر هيكله

»وَجَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ الْهَيْكَلَ ابْتَدَأَ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَّبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ. وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَجْتَازُ الْهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ. وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلاً لَهُمْ: »أَلَيْسَ مَكْتُوباً: بَيْتِي بَيْتَ صَلَاةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الْأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ«. وَسَمِعَ الْكَتَبَةُ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ فَطَلَبُوا كَيْفَ يُهْلِكُونَهُ، لِأَنَّهُمْ خَافُوهُ، إِذْ بُهِتَ الْجَمْعُ كُلُّهُ مِنْ تَعْلِيمِهِ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ خَرَجَ إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ« (مرقس 11:15-19).

في صباح يوم الإثنين عاد المسيح وتلاميذه إلى الهيكل، ليباشر العمل الإصلاحي الذي رأى الحاجة ماسةً إليه، لأن تأثير تطهيره الهيكل منذ ثلاث سنين كان قد اضمحل، وعادت العادات الذميمة إلى مجراها القديم، واستخدم اليهود دار الأمم للمرور العادي في الأشغال من جهة إلى جهة بين شوارع المدينة، ونصبوا فيها حوانيت التجارة.

كان هذا الهيكل يرمز إلى المسيح كوسيطٍ بين اللّه والناس، لأن به يتقدم الجميع إلى اللّه. وقد قال المسيح: »أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الْآبِ إِلَّا بِي« (يوحنا 14:6) فكان يجب أن يطهر الهيكل مرة أخرى. ولما كان سيسلِّم ذاته بإرادته في هذا الأسبوع لسلطان أعدائه، فقد جدد برهان سلطانه الذي سيتنازل عنه لإتمام عمل الفداء - برهنه من جديد عندما طرد الباعة من الهيكل وأوقف التجارة فيه.

وفي التطهير الثاني للهيكل لم يدَع المسيحُ أحداً يجتاز فيه بمتاع. واستعمل كلاماً أقوى مما قاله في التطهير الأول للهيكل. في التطهير الأول قال: »لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة«. أما في هذه المرة فقال: »بيتي بيت صلاة يُدعى. وأنتم جعلتموه مغارة لصوص«. لأنه رأى نفاق التجار في فسحاته. ورأى معظم الأمة، بما فيها الرؤساء، يسلبون حقوق اللّه.

وصفت النبوة المسيح بأنه عادل ومنصور (زكريا 9:9) ففي طرده الباعة أظهر عدله، وفي عجز الرؤساء عن منعه ظهر منصوراً. بعد تطهيره الأول للهيكل طلب منه اليهود آية، أما في التطهير الثاني فسألوه: »بأي سلطانٍ تفعل هذا؟« وطلبوا أن يهلكوه. لكنه بقي في المدينة وجوارها ثلاثة أيام.

طهَّر الهيكل وهو ربه ليستعمل بيته في خدمته المزدوجة. ابتدأ حسب عادته بآيات الشفاء وأردفها بآيات التعليم. فعلَّم العالم أن أعمال الرحمة تُعدُّ من خدمة الله وتليق ببيته كما بيومه أيضاً. فبانتصاره على الرؤساء، ثم على الأمراض، ثم على الجهل، زاد تعلُّق الشعب به، وعدد المؤمنين ايضاً. فقيل إن »الشعب كله كان متعلقاً به يسمع منه«.

ولما صار المساء خرج المسيح إلى خارج المدينة كعادته، ثم عاد صباح الثلاثاء ليودع الهيكل الذي قد تحوَّل من بيت الله إلى مغارة لصوص، لأن تطهيره الثاني للهيكل لم يكن إلا مؤقتاً كالأول. وهو لا يرجع إليه بعد هذا اليوم. فلما وصلوا في طريقهم إلى حيث كانت التينة التي لعنها بالأمس، نبَّه بطرس سيده أنها يبست من الأصول. فرأى المسيح احتياجهم إلى درس جديد في الإيمان، وفي النتائج العظيمة العجيبة التي تتبع كل صلاة تُقدَّم بإيمان تام، فأعاد لهم الشرط الأساسي لاستجابة كل صلاة، وهو أن يغفر المصلي من كل قلبه لمن اساء إليه.

سؤال عن سلطان المسيح

»وَجَاءُوا أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي فِي الْهَيْكَلِ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ، وَقَالُوا لَهُ: »بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هذَا، وَمَنْ أَعْطَاكَ هذَا السُّلْطَانَ حَتَّى تَفْعَلَ هذَا؟« فَأَجَابَ يَسُوعُ: »وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً. أَجِيبُونِي، فَأَقُولَ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هذَا: مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا: مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟ أَجِيبُونِي«. فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: »إِنْ قُلْنَا مِنَ السَّمَاءِ، يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَإِنْ قُلْنَا مِنَ النَّاسِ«. فَخَافُوا الشَّعْبَ. لِأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ نَبِيٌّ. فَأَجَابُوا: »لَا نَعْلَمُ«. فَقَالَ يَسُوعُ: »وَلَا أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هذَا« (مرقس 11:27-33).

بعد أن طهر المسيح الهيكل، اجتمع رؤساء اليهود ليقرروا الخطة التي يتخذونها لتنفيذ غايتهم في صلب المسيح. ولم يروا وسيلة لإسقاطه إلا فصل قلوب الشعب عنه أولاً بواسطة أسئلة يجعلونها أشراكاً يصيدونه بها. وهم يرجون أن يجيب عنها بما يجعل الشعب ينفر منه، حتى إذا حاولوا أن يقبضوا عليه لا يعارضهم الشعب.

فبينما كان المسيح يتمشَّى في الهيكل، سألوه عن مصدر سلطانه الذي استعمله في تطهير الهيكل، لأنهم هم وكلاؤه ورؤساؤه، وقد تسلموا سلطانهم على الهيكل قانونياً من أسلافهم بالمَسْح والرسامة مع تصديق الحكومة. أما هو فمِن أين سلطانه؟ قد نسوا السلطة النبوية في تاريخهم. لأنه منذ مئات السنين لم يظهر نبي إلا المعمدان، الذي لم يؤمن به الرؤساء - والسلطة النبوية في كل الأزمان، تأتي رأساً من الله الذي يُقيم الأنبياء دون استشارة أو استئذان، ودون تقيُّد بالتسلسل.

ذكَّر المسيح الذين سألوه بسلطان المعمدان، آخر الأنبياء وأعظمهم، وبشهادة المعمدان له أنه ابن الله، وطلب منهم أن يقرروا أولاً مصدر سلطان المعمدان. فإن اعترفوا أنه أخذه من مصدر سماوي يدينون نفوسهم لأنهم لم يقبلوا رسالة المعمدان. وإن أنكروا يخشون أن يرجمهم الشعب الذي كان يعتبر المعمدان نبياً حقيقياً، فلجأوا في حيرتهم إلى الكذب وقالوا: »لا نعلم« فأنزل جوابهم الكاذب على رؤوسهم احتقار الشعب لهم. ورفض المسيح أن يقول لهم بأي سلطان يتصرف، لأنه عرف خفايا قلوبهم الرافضة.

مثل الابنين

»مَاذَا تَظُنُّونَ؟ كَانَ لِإِنْسَانٍ ابْنَانِ، فَجَاءَ إِلَى الْأَوَّلِ وَقَالَ: يَا ابْنِي، اذْهَبِ الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي. فَأَجَابَ: مَا أُرِيدُ. وَلكِنَّهُ نَدِمَ أَخِيراً وَمَضَى. وَجَاءَ إِلَى الثَّانِي وَقَالَ كَذلِكَ. فَأَجَابَ: هَا أَنَا يَا سَيِّدُ. وَلَمْ يَمْضِ. فَأَيُّ الِاثْنَيْنِ عَمِلَ إِرَادَةَ الْأَبِ؟« قَالُوا لَهُ: »الْأَوَّلُ«. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: »الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالّزَوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللّهِ، لِأَنَّ يُوحَنَّا جَاءَكُمْ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَمَّا الْعَشَّارُونَ وَالزَّوَانِي فَآمَنُوا بِهِ. وَأَنْتُمْ إِذْ رَأَيْتُمْ لَمْ تَنْدَمُوا أَخِيراً لِتُؤْمِنُوا بِهِ« (متى 21:28-32).

سكت رؤساء اليهود، لكن المسيح لم يسكت، بل ضرب لهم مثلاً بابنين أمرهما أبوهما ليعملا في كرمه، فرفض الابن الأول أمر أبيه، ثم ندم وأطاع. أما الابن الثاني فوعد بالقيام بالعمل لكنه لم ينفِّذ. أخطأ الابن الأول في قوله وأصاب في فعله. أما الابن الثاني فخطيته كانت التقصير بالفعل، الذي هو أعظم كثيراً من التقصير بالقول. وقصد المسيح بذلك أن الرؤساء المعترضين عليه يعلّمون الشريعة، فأقوالهم حسنة. لكنهم يخالفونها فلا يعملون مشيئة الله. بينما غيرهم لا يتظاهرون بالتديُّن كثيراً، لكنهم يحفظون الشريعة الإلهية أكثر من الرؤساء. ثم لما سألهم: »أي الابنين عمل إرادة أبيه؟« أجابوه: الأول. فأوضح لهم أن قصة المعمدان قد برهنت أن العشارين والزواني يشبهون الابن الأول، لأنهم تابوا عن شرورهم لما سمعوا وعظ المعمدان واعتمدوا منه. بينما الفريسيون يشبهون الابن الثاني المذموم، لأنهم يدَّعون التقوى بأقوالهم ويخالفونها بأفعالهم، فجوابهم يثبت أفضلية العشارين والزواني عليهم.

مَثَل الكرامين الأردياء

»اِسْمَعُوا مَثَلاً آخَرَ: كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْماً، وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً، وَبَنَى بُرْجاً، وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. وَلَمَّا قَرُبَ وَقْتُ الْأَثْمَارِ أَرْسَلَ عَبِيدَهُ إِلَى الْكَرَّامِينَ لِيَأْخُذَ أَثْمَارَهُ. فَأَخَذَ الْكَرَّامُونَ عَبِيدَهُ وَجَلَدُوا بَعْضاً وَقَتَلُوا بَعْضاً وَرَجَمُوا بَعْضاً. ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِينَ، فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذلِكَ. فَأَخِيراً أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ قَائِلاً: يَهَابُونَ ابْنِي! وَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوْا الِابْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ! فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُ الْكَرْمِ، مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟« قَالُوا لَهُ: »أُولئِكَ الْأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلَاكاً رَدِيّاً، وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الْأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا«. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: »أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا؟ لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللّهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لِأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ. وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هذَا الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ«. وَلَمَّا سَمِعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ أَمْثَالَهُ عَرَفُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ خَافُوا مِنَ الْجُمُوعِ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ« (متى 21:33-46).

ثم قدم المسيح مثلاً يسمَّى »الكرامين الأردياء« كشف فيه عن خطية رؤساء الشعب في ما ينوونه عليه وما سيتمّمونه في هذا الأسبوع. هؤلاء الكرامون بعدما أهانوا وقتلوا الرسل الذين أرسلهم المالك ليأخذوا حقَّه من الأثمار، قتلوا أخيراً ابنه الوحيد ليثبتوا استبدادهم في الكرم. ولما سألهم المسيح: »ماذا يفعل صاحب الكرم بهؤلاء الأشرار؟« أجابه البسطاء منهم: »أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً، ويسلّم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها«. أما الذين أدركوا حقيقة المثل فأجابوا: »حاشا«. فصدَّق المسيح على جوابهم بقوله: »إن ملكوت الله يُنزع منكم، ويُعطى لأمةٍ تعمل أثماره«. وذكرهم بقول نبيهم داود أن»الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ« (مزمور 118:22). فالذين يقاومونه يترضضون، أما الذين يقاومهم هو فيُسحَقون. فحفظ الرسول بطرس هذا القول وأعاده لما اضطهده هؤلاء الرؤساء بعد صعود المسيح، وسجله بعد ذلك في رسالته الأولى (أعمال 4:11 ، 1 بطرس 2:7).

مَثَل عرس ابن الملك

»يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً صَنَعَ عُرْساً لِابْنِهِ، وَأَرْسَلَ عَبِيدَهُ لِيَدْعُوا الْمَدْعُوِّينَ إِلَى الْعُرْسِ، فَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَأْتُوا. فَأَرْسَلَ أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ قَائِلاً: قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هُوَذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ، وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى الْعُرْسِ! وَلكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا، وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ، وَالْبَاقُونَ أَمْسَكُوا عَبِيدَهُ وَشَتَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ غَضِبَ، وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولئِكَ الْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ. ثُمَّ قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَمَّا الْعُرْسُ فَمُسْتَعَدٌّ، وَأَمَّا الْمَدْعُوُّونَ فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ. فَاذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ الطُّرُقِ، وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَادْعُوهُ إِلَى الْعُرْسِ. فَخَرَجَ أُولئِكَ الْعَبِيدُ إِلَى الطُّرُقِ، وَجَمَعُوا كُلَّ الَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَاراً وَصَالِحِينَ. فَامْتَلَأَ الْعُرْسُ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ. فَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ لِيَنْظُرَ الْمُتَّكِئِينَ، رَأَى هُنَاكَ إِنْسَاناً لَمْ يَكُنْ لَابِساً لِبَاسَ الْعُرْسِ. فَقَالَ لَهُ: يَا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ. حِينَئِذٍ قَالَ الْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ارْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَخُذُوهُ وَاطْرَحُوهُ فِي الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الْأَسْنَانِ. لِأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ« (متى 22:2-14).

أغاظ مثل الكرامين الأردياء الرؤساء، لأن المسيح قاله لدينونتهم، فجددوا السعي لإلقاء القبض عليه. ولكن خوفهم من الشعب قيَّد أيديهم، فتركوه ومضوا. لكن المسيح لم يمض، لأنه لم يكن قد أكمل بعد تعليمه الوداعي في الهيكل، فزاد مثلاً ثالثاً يسمَّى مثل عرس ابن الملك. قال إن الملك صنع عرساً لابنه، وأعطى كل واحد من المدعوين حُلة ملكية. ولما دخل الملك ليرحب بالمتّكئين الذين امتلأ العرس منهم، رأى إنساناً لم يكن لابساً لباس العرس، بل اكتفى بثوبه الذي أتى به، لأنه كان يعجبه أكثر من الثوب الذي أهداه الملك لجميع المدعوين. كان يفتخر بثوبه هو. ورفض أن يماثل الآخرين. كما لم يرد أن يكون تحت فضل الملك في أمر كسوته. ولما سأله الملك عن سبب مخالفته نظام العرس، سكت. وكان سكوته برهاناً كافياً لذنبه، فنال جزاءه. لأن نظام الملوك إعدام كل من يخالف أوامرهم. فقال الملك لرجاله: »اربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان«. ولم يكن طرده من حضرة الملك لشرٍّ فعله، بل لخير أهمله. فمهما كان الإنسان صالحاً في عيني نفسه وأعين الآخرين، فإن الله يعاقبه على اكتفائه ببره، وإهماله ارتداء ثوب البر الذي يقدّمه له الله.

في هذه الأمثال الثلاثة المتوالية: »مثل الابنين، ومَثَل الكرّامين الأردياء، ومثل عرس ابن الملك« صرَّح المسيح بأن رفض الرؤساء له يقابله قبول العشارين له. وأن رفض الأمة له يقابله قبول الأمم الأخرى له في ما بعد. أما قول المسيح في آخر المثل إن »كثيرين يُدعون وقليلين يُنتخَبون« فلا نرى أنه يشمل الأزمنة كافة، بل أنه يشير خصوصاً إلى زمانه، ولا سيما إلى الأمة اليهودية.