المسيح يعلن أموراً آتية

»وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْهَيْكَلِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ: »يَا مُعَلِّمُ، انْظُرْ مَا هذِهِ الْحِجَارَةُ وَهذِهِ الْأَبْنِيَةُ؟« فَأَجَابَ يَسُوعُ: »أَتَنْظُرُ هذِهِ الْأَبْنِيَةَ الْعَظِيمَةَ؟ لَا يُتْرَكُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لَا يُنْقَضُ«. وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، تُجَاهَ الْهَيْكَلِ، سَأَلَهُ بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ عَلَى انْفِرَادٍ: »قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا، وَمَا هِيَ الْعَلَامَةُ عِنْدَمَا يَتِمُّ جَمِيعُ هذَا« (مرقس 13:1-4).

كان المسيح في طريقه إلى خارج الهيكل، حين لاحظ تلاميذه جمال البناء العظيم - وكان الملك هيرودس قد بنى هذا الهيكل وعمل فيه أبواباً مغطَّاة بالفضة والذهب، وكانت حجارته كبيرة جداً... فقد كان طول بعضها خمسة وأربعين ذراعاً، وعرضه ستة أذرع، وسُمْكه خمسة أذرع. لقد كان بناء الهيكل عظيماً.

ولفت التلاميذ نظر المسيح إلى الحجارة والأبنية، فنظر إليها وقال: »هذه الأبنية العظيمة.. لا يترك حجر على حجر لا يُنقَض«.

ومضى المسيح وتلاميذه إلى جبل الزيتون، وهناك سأله التلاميذ سؤالين: »قل لنا متى يكون هذا؟« »وما هي العلامة عندما يتم جميع هذا؟«.

كان التلاميذ يريدون أن يعرفوا الوقت، وكانوا يريدون أن يعرفوا بعض العلامات حتى يقدروا أن يميّزوا الوقت. وبدأ المسيح يخبر عن حوادث مقبلة. تكلم المسيح أولاً عن خراب أورشليم، ثم تكلم عن مجيئه الثاني.

علامات كاذبة على خراب أورشليم

»فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: »انْظُرُوا! لَا يُضِلُّكُمْ أَحَدٌ. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ. وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَبِأَخْبَارِ حُرُوبٍ فَلَا تَرْتَاعُوا، لِأَنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ، وَلكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ. لِأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ، وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ زَلَازِلُ فِي أَمَاكِنَ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَاضْطِرَابَاتٌ. هذِهِ مُبْتَدَأُ الْأَوْجَاعِ« (مرقس 13:5-8).

سأل التلاميذ عن الوقت الذي يتمُّ فيه خراب الهيكل، ثم سألوا عن علامة ذلك الخراب. وجاوب المسيح عن السؤال الثاني أولاً، فتكلم عن العلامات، وبدأ المسيح بالعلامات الكاذبة »انظروا.. لا يضلكم أحد« هذه هي العلامات الكاذبة:

(1) العلامة الأولى الكاذبة على خراب أورشليم هي مجيء مضلين كثيرين (آية 6) »كثيرون سيأتون ويقولون إنهم المسيح، ويُضلون كثيرين.. لا تصدِّقوهم«. وقد حدث فعلاً قبل خراب أورشليم أن ظهر مسحاء كذبة، وقالوا لليهود إنهم سيخلصونهم من عبودية الرومان، ولكنهم كانوا كاذبين (إقرأ أعمال 21:38).

(2) والعلامة الثانية الكاذبة على خراب أورشليم هي الحروب (آية 7). وقد حدثت فعلاً حروب كثيرة بين اليهود وبين الشعوب الأخرى قبل خراب أورشليم. حدثت حرب بين يهود الإسكندرية وبين المصريين سنة 38 بعد ولادة المسيح. وحرب في سلوكية مات فيها خمسون ألف يهودي.

(3) العلامة الثالثة الكاذبة على خراب أورشليم هي حدوث زلازل ومجاعات واضطرابات (آية 7). وقد حدثت فعلاً زلازل في كريت وروما وأورشليم. كما حدثت مجاعات، منها التي تنبأ عنها أغابوس (أعمال 11:28) كما حدثت اضطرابات بين اليهود والسامريين، وبين اليهود واليونانيين، مات فيها عشرون ألف يهودي. كل هذا حدث قبل خراب أورشليم. وكل هذا كان علامات كاذبة. وهي مبتدأ الأوجاع.

علامات صحيحة على خراب أورشليم

»فَانْظُرُوا إِلَى نُفُوسِكُمْ. لِأَنَّهُمْ سَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَتُجْلَدُونَ فِي مَجَامِعَ، وَتُوقَفُونَ أَمَامَ وُلَاةٍ وَمُلُوكٍ، مِنْ أَجْلِي، شَهَادَةً لَهُمْ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالْإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ. فَمَتَى سَاقُوكُمْ لِيُسَلِّمُوكُمْ، فَلَا تَعْتَنُوا مِنْ قَبْلُ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ وَلَا تَهْتَمُّوا، بَلْ مَهْمَا أُعْطِيتُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَبِذلِكَ تَكَلَّمُوا، لِأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلِ الرُّوحُ الْقُدُسُ. وَسَيُسْلِمُ الْأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ الْأَوْلَادُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ. وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَلكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ. فَمَتَى نَظَرْتُمْ »رِجْسَةَ الْخَرَابِ« الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ النَّبِيُّ، قَائِمَةً حَيْثُ لَا يَنْبَغِي - لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ - فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ، وَالَّذِي عَلَى السَّطْحِ فَلَا يَنْزِلْ إِلَى الْبَيْتِ وَلَا يَدْخُلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئاً، وَالَّذِي فِي الْحَقْلِ فَلَا يَرْجِعْ إِلَى الْوَرَاءِ لِيَأْخُذَ ثَوْبَهُ. وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ. وَصَلُّوا لِكَيْ لَا يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ. لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْخَلِيقَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللّهُ إِلَى الْآنَ، وَلَنْ يَكُونَ. وَلَوْ لَمْ يُقَصِّرِ الرَّبُّ تِلْكَ الْأَيَّامَ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلكِنْ لِأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ قَصَّرَ الْأَيَّامَ. حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا الْمَسِيحُ هُنَا أَوْ هُوَذَا هُنَاكَ فَلَا تُصَدِّقُوا. لِأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ، وَيُعْطُونَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ، لِكَيْ يُضِلُّوا - لَوْ أَمْكَنَ - الْمُخْتَارِينَ أَيْضاً. فَانْظُرُوا أَنْتُمْ. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ« (مرقس 13:9-23).

(1) العلامة الأولى على خراب أورشليم هي »اضطهاد وتبشير« (آيات 9-13). يقول المسيح لتلاميذه: »انظروا إلى نفوسكم«. فهو يفتح عيونهم على الآلام التي ستأتي عليهم، وعلى الأمجاد التي بعدها. أولها اضطهادات من الخارج، من مجالس اليهود ومجامعه، حيث يجلدونهم ويوقفونهم أمام ولاة وملوك، من أجل شهادة المسيح (آية 9).

ويشجع المسيح تلاميذه حتى لا يقلقوا ويجهزوا الدفاع عن أنفسهم، لأن الروح سوف يتكلم فيهم، ويعطيهم الرد الصحيح (آية 11).

ثم هناك اضطهادات من الداخل - من الإخوة والآباء (آية 12) - ويقول متى البشير: »حينئذٍ يعثر كثيرون، ويسلمون بعضهم بعضاً، ويبغضون بعضهم بعضاً« (متى 24:10). فإن بعض المسيحيين سوف يضعفون في الإيمان، ويسلمون إخوتهم المسيحيين للاضطهاد والعذاب. ثم يقول المسيح لتلاميذه: »وتكونون مبغَضين من الجميع من أجل اسمي« (آية 13).

ولكن في وسط الاضطهاد هناك تشجيع، هو أنه »ينبغي أن يُكرز أولاً بالإنجيل في جميع الأمم« (آية 10) فإن الاضطهاد سوف يوّصل رسالة الإنجيل إلى جميع الأمم، وذلك قبل خراب أورشليم، ويقول بولس الرسول في كولوسي 1:6 »الإنجيل الذي قد حضر إليكم كما في كل العالم أيضاً«. ويقول في نفس الأصحاح في آية 23 »الإنجيل الذي سمعتموه، المكروز به في كل الخليقة التي تحت السماء«.

إذاً فليتشجع التلاميذ، لأن اضطهادهم يوصِّل رسالة المسيح للجميع.

وهنا تشجيع آخر، هو أن »الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص« (آية 13) فالذي يصبر وسط هذه جميعها يخلص.

(2) العلامة الثانية الصحيحة على خراب أورشليم هي »رجسة الخراب« (آيات 14-23) أي الرجسة التي هي سبب الخراب.. وقد تكلم عنها دانيال النبي في سفره (دانيال 9:27 ، 11:31 ، 12:11).

وقد قصد دانيال في نبوته أنتيوخس أبيفانيس الذي أبطل الذبيحة في الهيكل وأقام بدلها عبادة الأصنام، وذلك قبل ولادة المسيح بوقت طويل. والمسيح يقول إن شيئاً كهذا سيحدث مرة أخرى.

وقد قصد المسيح من القول »رجسة الخراب« أن عساكر الجيش الروماني سوف يدخلون أورشليم وهم يحملون تماثيل النسور، وتماثيل ملوكهم، وهم يعبدونها. وهكذا فإن تلك التماثيل والأصنام سوف تكون »حيث لا ينبغي« (آية 14).

ويقول لوقا البشير »أورشليم محاطة بجيوش« (لوقا 21:20). فتكون رجسة الخراب هي جيش الرومان وتماثيلهم، حيث لا ينبغي أن تكون، أي في الهيكل المقدس والمدينة المقدسة.

هذه هي العلامة الصحيحة: أورشليم وحولها جيش الرومان الذي يريد أن يخربها، والمسيح يحذر تلاميذه من تلك الأيام، فالذي في اليهودية يجب أن يهرب بعيداً إلى الجبال، والذي على السطح يجب أن يهرب ولا ينزل إلى البيت ليأخذ حاجاته، والذي في الحقل يجب أن يهرب ولا يرجع إلى البيت ليأخذ ثوبه. أما الحبالى والمرضعات فسوف تكون ظروفهنَّ قاسية صعبة، لأنهن يحملن حمل أنفسهن وحمل أطفالهن.

ويطلب المسيح من تلاميذه أن يصلُّوا حتى لا يكون ذلك كله في شتاء، ذلك لأن الضيق الذي سيأتي على أورشليم سيكون أعظم ضيق رأته المدينة.

وفي وسط هذه الصورة الحزينة يقدم المسيح تشجيعاً (آية 20) هو أن تلك الأيام ستكون قصيرة، وقد جعلها اللّه قصيرة من أجل المختارين. على أن الضيق العظيم سيجعل الناس مستعدين أن يتعلَّقوا بأي قشة من أمل، فعندما يأتي الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة ويقولون إن عندهم الخلاص، يثق الناس بهم، فيُضِلُّون كثيرين، ولو أمكن المختارون أيضاً.

وقد حدث كل الكلام الذي تنبأ المسيح به في خراب أورشليم.

فقد حاصر غالوس الروماني أورشليم سنة 66 بعد ولادة المسيح، ثم حاصرها فسبسيانوس الروماني سنة 68. وعند هذا الحصار الثاني هرب المسيحيون الذين عرفوا كلام المسيح، ولم يهلك منهم أحد. لقد فهم القارئ المسيحي نبوَّة المسيح، وهرب، فلم يصبه سوء، كما قال مرقس »ليفهم القارئ« (آية 14).

ثم حاصر تيطس الروماني أورشليم سنة 70 حتى سقطت في يده، وقتل من اليهود مليون ونصف مليون يهودي تقريباً، وصلب منهم كثيرين حتى لم يكن مكان لصلبان أكثر. وهكذا تم كلام المسيح: »ضيق لم يكن مثله منذ ابتداء الخليقة« (آية 19).

وهُدم الهيكل وأشعل أحد العساكر فيه النار، فلم يَبْقَ فيه حجر على حجر لم يُنقض. وقد كانت مدة حصار أورشليم قصيرة. قصيرة بالنسبة للوقت الذي كانوا يحاصرون فيه المدن في ذلك الزمان. وقصيرة بالنسبة لمدينة أورشليم ومناعتها الطبيعية، لأنها كانت مبنية على جبل.

وقال تيطس الروماني الذي فتحها: »اللّه أعطانا النجاح في حصار هذه المدينة« ورفض أن يأخذ مكافأة على نجاحه في حصار أورشليم وفتحها.

وقد كان ذلك النجاح والانتصار لتيطس من اللّه بسبب خطية اليهود. وفي ختام كلام المسيح عن خراب أورشليم قال: »انظروا أنتم، ها أنا قد سبقت وأخبرتكم بكل شيء« (آية 23).

لقد أخبر المسيح تلاميذه بالحوادث المقبلة، وقد فهموا ونجوا من الضيق العظيم الذي جاء على أورشليم.

مجيء المسيح ثانية

»وَأَمَّا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ بَعْدَ ذلِكَ الضِّيقِ، فَالشَّمْسُ تُظْلِمُ، وَالْقَمَرُ لَا يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَنُجُومُ السَّمَاءِ تَتَسَاقَطُ، وَالْقُوَّاتُ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الْإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ، فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلَائِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ الْأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ الْأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ السَّمَاءِ« (مرقس 13:24-27).

بعد أن تكلم المسيح عن خراب أورشليم، بدأ يتكلم عن مجيئه ثانية. قال: »في تلك الأيام، بعد ذلك الضيق..« وهو يقصد خراب أورشليم، فإن ألف سنة عند الرب مثل يوم واحد. »الشمس تظلم، والقمر لا يعطي ضوءه، ونجوم السماء تتساقط، والقوات التي في السموات تتزعزع« (آيتا 24 ، 25) والمقصود بذلك أن عظماء سيسقطون، وملوكاً يتزعزعون.

كما أن المقصود أن السماوات تزول بضجيج محترقة ملتهبة، وأن العناصر تنحل وتذوب، وأن الأرض والمصنوعات التي فيها تحترق (إقرأ بطرس الثانية 3:8-13).

حينئذٍ يأتي ابن الإنسان في السحاب، بقوة كثيرة فيقيم الأموات ويدين العالم. ويأتي بمجد وعظمة، ويرسل الملائكة ليجمعوا مختاريه من كل أطراف الأرض ومن كل مكان يوجدون فيه.

زمن خراب أورشليم

»فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقاً، تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً، مَتَى رَأَيْتُمْ هذِهِ الْأَشْيَاءَ صَائِرَةً، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الْأَبْوَابِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَا يَمْضِي هذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هذَا كُلُّهُ. اَلسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ تَزُولَانِ، وَلكِنَّ كَلَامِي لَا يَزُولُ. وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلَا يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا الِابْنُ، إِلَّا الْآبُ. اُنْظُرُوا! اِسْهَرُوا وَصَلُّوا، لِأَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ الْوَقْتُ« (مرقس 13:28-33).

عندما ذكر المسيح خراب هيكل أورشليم، سأله تلاميذه: »متى يكون هذا؟« ثم سألوه: »وما هي العلامة التي عندها يتم جميع هذا؟«.

وجاوب المسيح على السؤال الثاني، فأخبرهم عن العلامات، ثم أجاب على السؤال الأول عن الوقت. قال المسيح: »حين تُخرِج شجرة التين أوراقها، تعلمون أن الصيف قريب، وهكذا عندما ترون العلامات التي ذكرتُها، تعلمون أن الوقت قريب على الأبواب. »لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله«. وقد رأى كثيرون من المسيحيين خراب أورشليم في حياتهم. وأراد المسيح أن يؤكد الأمر لتلاميذه فقال: »السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول«.

هنا يتكلم المسيح عن وقت خراب أورشليم بالتقريب. أما اليوم والساعة فإن أحداً لا يعرفهما إلا الآب السماوي. لا الملائكة في السماء، ولا ابن الإنسان.

ولا بد أن تسأل: كيف لا يعرف المسيح؟

والإجابة: إن المسيح هو اللّه الذي ظهر في الجسد (1 تيموثاوس 3:16) فهو إله كامل وإنسان كامل.. والمسيح ابن الإنسان قد أخلى نفسه وأخذ صورة عبد وصار في شبه الناس. وإذ أخلى نفسه لم يعرف اليوم ولا الساعة التي يكون فيها خراب أورشليم. المسيح الإله يعرف كل شيء، لكن المسيح الإنسان لا يعرف اليوم ولا الساعة.

ونحن أمام شخص المسيح نقف باحترام كامل، لأننا لا نعرف كيف يكون هذا، لكننا نؤمن به، لأنه هو بنفسه الذي قال هذا. »وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: »يَسُوعُ رَبٌّ« إِلَّا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ« (1 كورنثوس 12:3).

وختم المسيح كلامه للتلاميذ بقوله: »انظروا! اسهروا وصلّوا لأنكم لا تعلمون متى يكون الوقت«.

اسهروا

»كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ تَرَكَ بَيْتَهُ، وَأَعْطَى عَبِيدَهُ السُّلْطَانَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ، وَأَوْصَى الْبَوَّابَ أَنْ يَسْهَرَ. اِسْهَرُوا إِذاً لِأَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ الْبَيْتِ، أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ اللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ الدِّيكِ، أَمْ صَبَاحاً. لِئَلَّا يَأْتِيَ بَغْتَةً فَيَجِدَكُمْ نِيَاماً! وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ: اسْهَرُوا« (مرقس 13:34-37).

تكلم المسيح عن خراب أورشليم، ثم تكلم عن مجيئه ثانية. وفي وقت لا يعرفه أحد يتم ما تكلم عنه السيد المسيح. ولذلك فإن ما أقوله لكم أقوله للجميع: اسهروا.

ثم ضرب المسيح مثلاً: قال فيه: إن رجلاً مسافراً ترك بيته وأعطى عبيده أعمالاً، وأوصى البواب أن يسهر. والعبيد لا يعلمون متى يعود رب البيت.

كان الليل مقسوماً إلى أربعة أقسام، كل قسم منها ثلاث ساعات. القسم الأول هو المساء، والثاني هو نصف الليل، والثالث هو صياح الديك، والرابع هو الصباح. ولا يعلم العبيد في أي قسم من أقسام الليل يأتي سيدهم.

عزيزي القارئ، ما هو العمل الذي كلفك اللّه به؟ كيف تتصرف كزوج وكأب في البيت؟ ما هو سلوكك وسط زملائك في العمل؟ لا تنْسَ أن »لكل واحد عمله« - ما هو العمل المطلوب منك، هل تعمله بأمانة؟ نحن اليوم نعلم أن المسيح آت، ولكننا لا نعلم اليوم ولا الساعة، ويقول لنا المسيح: »اسهروا« لأن العدو يحيط بكم من داخلكم ومن خارجكم. اسهروا لأن عليكم مسئولية في خدمة اللّه. إسهروا لأنه بعد سهر قصير يأتي ربكم ويكافئكم. أرجو أنه عندما يجيء المسيح يجدنا ساهرين.

مثل العذارى العشر

»يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ. وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلَاتٍ. أَمَّا الْجَاهِلَاتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتاً، وَأَمَّا الْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتاً فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. فَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولئِكَ الْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. فَقَالَتِ الْجَاهِلَاتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. فَأَجَابَتِ الْحَكِيمَاتُ: لَعَلَّهُ لَا يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ. وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ. أَخِيراً جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضاً قَائِلَاتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، افْتَحْ لَنَا. فَأَجَابَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ. فَاسْهَرُوا إِذاً لِأَنَّكُمْ لَا تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلَا السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الْإِنْسَانِ« (متى 25:1-13).

ثم روى المسيح مَثَليْن، أولهما مَثَل العشر عذارى المكرَّر فيه تشبيهه بعريس لم يأتِ عرسُه بعد، وينقسم المشتركون في عرسه قسمان: قسم مستعد وقسم غير مستعد. ظن غير المستعدين أنهم يقدرون أن يستعينوا عند مجيء العريس بالمستعدِّين، أو أنهم يستعدون بعد مجيئه. لكن لما حضر العريس وابتدأ العُرس، عرفوا خطأهم في الفكرتين. ولما طلبوا الرحمة أجابهم السيد بالكلام المخيف المحزن أن العريس لا يعرفهم ولهذا لا يفتح لهم.

ويقصد المسيح بهذا المثل ضرورة الاستعداد لمجيئه الثاني ويوم الحساب، وبطلان زعم الذين يتصورون أن صلاح القديسين يفيض فيساعد غيرهم على نَيْل الغفران والدخول إلى السماء. كما أن المثل يقطع رجاء الذين يتصورون أن الرحمة الإلهية نحو الخطاة تمتدُّ إلى ما وراء القبر.

مثل الوزنات

»وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ، فَأَعْطَى وَاحِداً خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً - كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ. فَمَضَى الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا، فَرَبِحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ. وَهكَذَا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ، رَبِحَ أَيْضاً وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي الْأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ. وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَتَى سَيِّدُ أُولئِكَ الْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ. فَجَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا. فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالْأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. ثُمَّ جَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا. قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الْأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. ثُمَّ جَاءَ أَيْضاً الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ الْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الْأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ. فَأَجَابَ سَيِّدُهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ وَالْكَسْلَانُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِباً. فَخُذُوا مِنْهُ الْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ الْعَشْرُ وَزَنَاتٍ. لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. وَالْعَبْدُ الْبَطَّالُ اطْرَحُوهُ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ، هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الْأَسْنَانِ« (متى 25:14-30).

أما المثل الثاني فيُسمَّى مثل الوزنات، وهو يوضح أن مواهب اللّه للناس متفاوتة. لكن عندما يتساوى أصحابها في اجتهادهم وأمانتهم في استعمالها، يكون جزاؤهم متساوياً. فالذي أكسب سيده وزنتين مدحه سيده بذات الكلام الذي مدح به الذي أكسبه خمس وزنات. أما من يهمل ما وُهب له فيكون كأن لا شيء له. إنه لم يختلس ولم يفعل شراً ولكنه أهمل، فكان نصيبه قول الديان: »والعبد البطال اطرحوه إلى الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان«. لا ريب أن أعظم ما يهبُه اللّه للإنسان هو الخلاص الأبدي، فالدينونة العظمى، وأشد البكاء وصرير الأسنان، تكون لمن يهمل هذه الهبة الفائقة التي اشتراها المسيح بموته على الصليب.

يوم الدينونة العظيم

»وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الْإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لِأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الْأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقُولُ لَهُمُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلَاءِ الْأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ.

»ثُمَّ يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلَاعِينُ إِلَى النَّارِ الْأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِهِ، لِأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَاناً فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضاً وَمَحْبُوساً فَلَمْ تَزُورُونِي. حِينَئِذٍ يُجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضاً قَائِلِينَ: يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً أَوْ عَطْشَاناً أَوْ غَرِيباً أَوْ عُرْيَاناً أَوْ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ فَيُجِيبُهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هؤُلَاءِ الْأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا. فَيَمْضِي هؤُلَاءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالْأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ« (متى 25:31-46).

كانت خاتمة هذا الخطاب للتلاميذ على جبل الزيتون مؤثرة ومفيدة للغاية، إذْ صوَّر المسيح فيها اجتماع البشر في يوم الدين، عندما يتَّخذ المخلص الرؤوف صفته كالديَّان، ويجيء في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، ويجلس على كرسي مجده. حينئذٍ يجتمع أمامه جميع الشعوب، وكالراعي الصالح الذي يعرف خاصته، يفرز الخراف فيضعها عن يمينه في مقام الرضى والإِكرام، ويضع الجداء (الذين ليسوا خرافه) عن يساره في مقام الرفض والإبعاد، ولا يجد الذين على اليسار لنفوسهم عذراً، عندما يرون المسيح الذي يرثي لضعفات البشر، لأنه جُرِّب مثلهم، والذي في حبه المتناهي مات عنهم فدية، لأنهم لم يلتجئوا إليه للخلاص.

ثم يعلن هذا الديَّان النصيب الصالح الذي للخراف، وهو الميراث المُعدّ لهم منذ تأسيس العالم، لأنهم مباركو أبيه الذين أعده لهم. ويعلن نصيب الجداء الذي لم يعدَّه لهم، وهو النار الأبدية التي أعدها لإبليس وملائكته. لقد اختاروا الانقياد إلى إبليس وملائكته رغم إرادة اللّه والوسائط التي أعدَّها لهم لأجل الخلاص، فلا عذر لهم إنْ أرسلهم اللّه إلى محل إبليس، الرئيس الذي تبعوه في حياتهم الأرضية، وفضَّلوا طاعته على طاعة المخلِّص الجالس على كرسي الدينونة. أما السبب الأصلي للدينونة فهو عدم إيمانهم به. ولأنهم لم يؤمنوا ولم يعملوا ما يطلبه من تابعيه، وقد أهملوا العمل الخصوصي الذي يذكّرهم به، وهو معاملة البؤساء ولا سيما أتباعه منهم، الذين دعاهم »إخوتي هؤلاء الأصاغر«.

في هذا المثل يوضّح المسيح أن إطعام الجائعين وكساء العراة وافتقاد المسجونين وإضافة الغرباء وزيارة المرضى، وأمثال ذلك من الإحسان الذي يفعله الإنسان حباً للمسيح، يكون كأنه لذات شخص المسيح، فيُثاب الفاعل، ليس على ما فعل فقط، بل على قصده في فعله. وأما الذي لعدم حبه للمسيح لا يفعل هذا الإِحسان، فكأنه منعه ليس عن المساكين بل عن المسيح ذاته. وفيه أيضاً يبيّن المسيح أن الخير الذي يهمله الإنسان، وليس فقط الشر الذي يعمله، يوقعه في الهلاك. وهذه من أصعب الدروس، وقليلون جداً هم الذين يحفظونها.

استسلم يهوذا الإسخريوطي تماماً لقيادة إبليس الذي لم يفلته ولو قليلاً إلى أن أوصله إلى النار المُعدَّة لإبليس وجنوده. ظهر انفصال يهوذا القلبي عن المسيح قبل هذا الوقت بثلاثة أيام لما اعترض على مريم إذْ دهنت قدميّ المسيح بالطيب في بيت عنيا، ولم ينتبه لذلك باقي التلاميذ لسلامة قلوبهم. ويُرجَّح أنه بينما كان المسيح يكلم التلاميذ على جبل الزيتون، دبَّر يهوذا حُجّة معقولة ليتركهم ويعود إلى المدينة ليسعى بما وسوس إليه إبليس الشرير. نتصوَّر أن ضميره حاربه جداً وهو يفتكر كيف يستخدم مقاصد اليهود ضد المسيح وسيلة ليربح أولاً مالاً، وثانياً صداقتهم للحصول على معيشته، عندما تتوقّف إعالته من إيراد الصندوق الذي كان يختلس منه. ألم ينتبه إلى تصريحات المسيح بأن ملكوته ليس زمنياً؟ وبأن نصيب تابعيه هو الخسائر والمقاومات والإهانات والاضطهادات المهينة؟ أوَلَمْ ينتبه أيضاً إلى تكرار المسيح عبارات تدلُّ على معرفته أسراره؟ فما دام لا مَيْل له للتوبة والتقوى، لا بد أن هذه العوامل تزيد انفصاله عن المسيح. حينئذٍ دخل الشيطان فيه، وترأس على قلبه.

شيوخ اليهود يتآمرون

»وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا قَالَ لِتَلَامِيذِهِ:»تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ الْفِصْحُ، وَابْنُ الْإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ«. حِينَئِذٍ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَشُيُوخُ الشَّعْبِ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ الَّذِي يُدْعَى قَيَافَا، وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يُمْسِكُوا يَسُوعَ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُوهُ. وَلكِنَّهُمْ قَالُوا: »لَيْسَ فِي الْعِيدِ لِئَلَّا يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ«.

‚حِينَئِذٍ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا الْإِسْخَرْيُوطِيَّ، إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقَالَ: »مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟« فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ. وَمِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ كَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ« (متى 26:1-5 ، 14-16).

ترأس الشيطان اجتماعاً في ذلك اليوم في دار قيافا رئيس الكهنة حضره رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب ليقرروا بعد البحث كيف يقبضون على المسيح ليقتلوه، لأنهم لم يقدروا أن يحتملوا منه أكثر، وأرادوا أن يقبضوا عليه قبل العيد إن أمكن. لكن العقلاء بينهم أدركوا أن الشعب أقوى منهم ولا يجاريهم في قصدهم. فأقنعوا الآخرين أن يصبروا إلى أن يمضي العيد وتنصرف الجماهير ولا سيما مواطنيه الجليليين. هذا ما قرره مجلس السنهدريم. وأما مجلس السماء فقرر منذ الأزل أن يُذبح حملُ اللّه في عيد الفصح الذي رُسم إشارةً لهذه الضحية، فيكون قرار مجلس السنهدريم المخالف باطلاً.

وعد يهوذا الرؤساء أن يسهّل عليهم القبض على المسيح سراً قبل العيد، لقاء مبلغ معين. ولا شك أن الرؤساء عاملوه أولاً بتحفظ، لأنهم استبعدوا أن يسلِّمه أحد تلاميذه، فطلبوا من يهوذا براهين كافية تؤكد إخلاصه لهم. فلما طلب منهم مالاً أظهر كمال خيانته للمسيح. ولربما استبشر شيوخ اليهود بمجيء يهوذا أنهم قريباً ينجحون في أن يحذو رفقاءُ يهوذا حذوه ويتركوا المسيح. وفرحوا جداً بوعد يهوذا أنه يمكّنهم من القبض عليه سراً، فيسرعون بتسليمه للحكومة الرومانية. ولا خوف بعدئذ من انتصار الشعب له.

ولا نتعجب إن كانت الأجرة التي اتفقوا عليها مع يهوذا زهيدة، لأن الرؤساء لم يكونوا محتاجين لمساعدة يهوذا لهم بعد العيد، فيكون أنهم دفعوا ليهوذا أجرة الإِسراع فقط في القبض على المسيح. وكان على يهوذا أن يراقب وقتاً يكون فيه المسيح منفرداً لكي يمسكوه بسهولة. وقد قبل يهوذا هذا المبلغ الضئيل لأنه ظنَّ أن لا تأثير لعمله، وقد استفاق على غلطه استفاقةً مريعةً كما سنرى.