المسيح يرسم فريضة العشاء الرباني

عاد المسيح إلى بيت عنيا في المساء يرافقه تلاميذه، ويهوذا معهم. وقضى يومي الأربعاء والخميس هناك، فلم يتيسَّر للخائن أن يوفي بوعده للرؤساء سريعاً. ولعلهم تصوّروا أنه خابرهم امتحاناً، وأنه لا ينوي أن يوفي بوعده. أما هو فاستسلم أكثر للطمع والرياء في وظيفته الجديدة كجاسوس على سيده ووليّ نعمته، وأخذ يراقب فرصةً مناسبة ليسلّمه. وهكذا انقضى يوم الثلاثاء. أما يوم الأربعاء فلم يذكر الكتاب عمّا جرى فيه شيئاً. لكن يُرجَّح أن المسيح وتلاميذه قضوه في هدوء في بيت عنيا.

ولما أشرقت الشمس صباح الخميس كان قد بقي للمسيح ليل واحد قبل صَلْبه، قضاه في العشاء الفصحي ثم الرباني، والصلاة في البستان. ثم تسليم يهوذا له، ومحاكمته محاكمة غير قانونية في دار رئيس الكهنة. ثم أعقب ذلك الليل ليلان وجسده الكريم في القبر، وبعد ذلك جسد القيامة الممجَّد الذي لا يحتاج إلى نوم.

»وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ تَقَدَّمَ التَّلَامِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ: »أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟« فَقَالَ: »اذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَى فُلَانٍ وَقُولُوا لَهُ: الْمُعَلِّمُ يَقُولُ إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تَلَامِيذِي«. فَفَعَلَ التَّلَامِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ« (متى 26:17-19).

لم يُظهِر المسيحُ صباح هذا الخميس استعداداً للذهاب إلى أورشليم. وربما استُنتج أنه يريد أن يأكل الفصح في بيت عنيا. وكان هذا الخميس الواقعُ في اليوم الرابع عشر من الشهر القمري - اليومَ الأول في عيد الفطير، وفيه كانوا يجهِّزون كل ما يلزم لعشاء الفصح في مسائه. لكن كانت تهيئة الخروف والأعشاب المُرَّة والخمر وآنية الاغتسال وسائر تفاصيل العشاء، تستغرق وقتاً ليس بقليل، لذلك لم يصبر التلاميذ، بل تقدموا للمسيح وسألوه: أين يُعِدّون العشاء. وكان جوابه أن أرسل التلميذين بطرس ويوحنا بتعليمات غامضة تحجب عن الإسخريوطي معرفة المكان. وتنبأ المسيح للتلميذين أنهما سيصادفان في المدينة منظراً غير عادي، رجلاً يحمل جرة ماء في الطريق. وأفهمهما أن يقولا لصاحب البيت الذي يدخله هذا الرجل: »يقول لك المعلم إن وقتي قريب. عندك أصنع الفصح مع تلاميذي«. فمضيا ووجدا فِعلاً كما قال لهما. فأخذهما هذا الرجل الكريم إلى علية كبيرة مفروشة جاهزة، لأن يهود أورشليم كانوا يجهّزون كل ما يمكنهم في منازلهم، للمسافرين الغرباء ليلة عشاء الفصح. فهناك أعدَّا كل شيء حسب شريعة موسى.

المسيح يغسل أرجل تلاميذه

»أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ إِلَى الْآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى. فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ، وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الْإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ، يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الْآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللّهِ يَمْضِي، قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلَامِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا. فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: »يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!« أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: »لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الْآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ«. قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: »لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!« أَجَابَهُ يَسُوعُ: »إِنْ كُنْتُ لَا أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ«. قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: »يَا سَيِّدُ، لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي«. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: »الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَّا إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ«. لِأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذلِكَ قَالَ: »لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ« (يوحنا 13:1-11).

ولما صار المساء نزل المسيح وتلاميذه العشرة إلى علية الفصح وانضموا إلى بطرس ويوحنا. وكان عليهم قَبْل أن يتكئوا حول المائدة أن يغسلوا أرجلهم من غبار السفر، لأن النعال التي كانوا يلبسونها لا تغطي إلا إخمص القدم. وكان الخدم عادة يؤدون هذه الخدمة، وحيث لا يُوجد خدم كان التلاميذ يغسلون بعضهم أرجل بعض. لكن بما أن هذا العشاء رسمي، كما أنه عظيم، أخذ كل واحد منهم يستصعب القيام بهذه الخدمة لرفقائه، كأنهم أرفع منه مقاماً، لذلك تشاجروا في من هو أعظم بينهم، ليعرفوا من يجب أن يخدمهم.

يُرجَّح أن البادئ والمحرك الأعظم في هذه المشاجرة كان الإسخريوطي، الذي يطلب لنفسه الرِفعة بحجَّة أنه من اليهودية، وبيده أمانة الصندوق، فإن هذه المشاجرة بدأت »حين ألقى الشيطان في قلب يهوذا الإسخريوطي أن يسلِّمه«.

اهتم البشير يوحنا أن يذكر قبل هذا الخبر أن المسيح كان في تلك الساعة يعلم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يده، وأنه من عند اللّه خرج وإلى اللّه يمضي. فهذه المعرفة الحقيقية بمقامه العظيم، تزيد قيمة مثال التواضع الذي يقدمه لنا. أهمل الإثنا عشر غَسْل الأرجل، فنهض المسيح من مكانه بعد أن اتكأوا حول مائدة العشاء، وخلع الرداء الذي يميّزه كمعلِّم، واتَّزر بمنشفة كالعبيد، وأتى بالمغسل والماء، وأخذ يغسل أرجل التلاميذ الذين أبوا أن يغسل الواحد للآخر. لكن لئلا يُؤخذ فعله في هذه الساعة كأنه عن حِدة غضب، ذكر البشير أن المسيح أحبَّ خاصته الذين في العالم حتى المنتهى، أي أن عاطفة الحب العظيم الثابت، وليس انفعال الغضب الوقتي هي التي حرّكته ليغسل أرجلهم، ليعطيهم من نفسه مثالاً. وقد بقي هذا الحب إلى منتهى وجوده معهم في الجسد، بالرغم مما أظهروه من التقصير والسقوط. وإثباتاً لهذه الحقائق، غسل أيضاً رجلي يهوذا الخائن المتربص ليسلِّمه للقتل. ألم يكن هذا العمل من الوسائل التي استعملها هذا المخلِّص العظيم مع يهوذا الشرير ليليِّن قلبه القاسي ويجذبه إلى التوبة والصلاح؟

يقول القديس يوحنا فم الذهب إن المسيح ابتدأ بيهوذا في غسل الأرجل، لأنه الأقرب إليه في المتكأ عن شماله، ويُرجَّح أن بطرس كان قدام يوحنا وعن يمين المسيح، فيكون المسيح قد غسل أرجل الجميع ما عدا يوحنا قبل وصوله إلى بطرس. فلما جاء دور بطرس اعترض بصورة المستفهِم المستغرِب، ولم يقتنع لما أجابه المسيح بأنه سيفهم فيما بعد ما لا يفهمه الآن، فاعترض من جديد بقوة وقال: »لن تغسل رجليّ أبداً«. فهو يخطِّئ سيده، ويقبِّح في نفس الوقت عمل رفقائه الذين قد سلَّموا له بهذا العمل، كأنهم أقل منه في الإدراك واللياقة. فنال جزاءه في كلام المسيح القوي: »إنْ كنتُ لا أغسلك فليس لك معي نصيب« - وهنا تهوَّر بطرس وطالب المسيح بأكثر مما قصد المسيح أن يفعله، لأنه قال: »ليس رجليَّ فقط بل أيضاً يديَّ ورأسي«. سلَّم بطرس، لكن ليس تسليم التواضع، بل كان تواضعه من باب ما يُعرف بكبرياء التواضع، لأن التواضع الحقيقي يجعل صاحبه يهمل ذاته، ويفكر في غيره. وقد أصلح المسيح خطأ بطرس وبيَّن له أن لا حاجة لغسل يديه ورأسه.

في هذا الجواب تعليم في التطهير من الخطية، فمن يحصل مرة على الغفران عندما يتوب ويؤمن، لا يحتاج إلى إعادته فيما بعد، لأن اسمه كُتب في سفر الحياة، وقد تبنَّاه الروحُ الإِلهي، وصار من أولاد اللّه. لكن بما أنه لا يخلو تماماً من السقوط في بعض الزلات، عجزاً أو سهواً، يحتاج إلى غفرانٍ يختلف عن الأول، كما يختلف غفران خطية الابن عن غفران خطية العدو. ويشبّه بغسل الأقدام بالنسبة إلى غسل الجسد كله. فلأن التلاميذ كلهم متجددون إلا الإسخريوطي، تتنوَّع خطاياهم عن خطاياه. لذلك قال المسيح: »أنتم طاهرون ولكن ليس كلكم«. وقال البشير: »لأنه عرف مسلِّمه«. والذي يتوب مرة توبة حقيقية لا يعود إلى حالته القديمة، بل يُصِرُّ على التخلُّص من الخطية، فغفرانه ثابت وخلاصه مقرَّر، لأنهما لا يتوقفان على أعماله وطاعته، بل على مواعيد اللّه ورحمته المجانية. فإنْ عاد إلى القديم تكون توبته غير حقيقية، فقد قال الرسول يوحنا عن مثل هؤلاء: »مِنَّا خَرَجُوا، لكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا« (1 يوحنا 2:19).

»فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضاً، قَالَ لَهُمْ: »أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً، وَحَسَناً تَقُولُونَ، لِأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لِأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلَا رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ. لَسْتُ أَقُولُ عَنْ جَمِيعِكُمْ. أَنَا أَعْلَمُ الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ. لكِنْ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ: اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ. أَقُولُ لَكُمُ الْآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمُ: الَّذِي يَقْبَلُ مَنْ أُرْسِلُهُ يَقْبَلُنِي، وَالَّذِي يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي« (يوحنا 13:12-20).

لما أكمل المسيح غسل أرجل الجميع، نزع المنشفة عن حقويه ولبس رداءه واتكأ في مكانه على رأس المائدة، وقال إن العظمة الحقيقية التي يسعى لأجلها العاقل التقيّ لا تنتج عن الأموال أو المقام أو الذكاء أو المعارف، بل عن الخدمة ونفع الآخرين، ومقدار هذا النفع هو قياس هذه العظمة. ثم جدد المسيح إشارة محزنة إلى خيانة يهوذا، وقال إنها تثبت صحة كلام الوحي، وتتفق مع المشورة الإلهية، لئلا يظن أحد أن عمل يهوذا يعارض القضاء الإلهي أو يفسده. لا شك أن الإسخريوطي كان قد تعمد بمعمودية يوحنا كغيره من التلاميذ، والآن غسل المسيح رجليه رمزاً للتطهير من الخطية. فصار شاهداً ناطقاً على أن أفضل الوسائط الخارجية الدينية - كأسرار الكنيسة وأنظمة العبادة - لا تُنتج خلاص الذين ينالونها، ما لم يرافقها شعور داخلي يناسبها.

المسيح يأكل الفصح

»وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ اتَّكَأَ مَعَ الِاثْنَيْ عَشَرَ. وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ قَالَ: »الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي«. فَحَزِنُوا جِدّاً، وَابْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ: »هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟« فَأَجَابَ وَقَالَ: »الَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي. إِنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الْإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ«. فَسَأَلَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ: »هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟« قَالَ لَهُ: »أَنْتَ قُلْتَ« (متى 26:20-25).

رأينا المسيح يتسلط على هيكل أورشليم فيطهره، وعلى السبت اليهودي فيحرره، وعلى الكتاب الإلهي فيفسره، والآن نراه يتسلط على الفصح العبراني ويغيّره. قضت الفريضة في التوراة أن تمارس كل عائلة عشاء الفصح معاً، ولكن المسيح فضَّل العلاقات الروحية على العلاقات الجسدية، فجعل تلاميذه أهل عائلته وفقاً لقوله: »من هي أمي ومن هم إخوتي؟ من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي«. لقد كانت أمه وقت الفصح في أورشليم ومعها إخوته. فيكونون قد مارسوا الفصح في مكان آخر منفصلين عن قريبهم الأعظم. وهذا يُظهر لنا المقام الممتاز الذي وهبه المسيح للتلاميذ وليس لغيرهم.

في هذا العشاء امتزاج الابتهاج والكآبة في قلب المسيح. وقد ظهر ابتهاجه من قوله: »شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم«. ابتهج وهو يشترك مع تلاميذه في عيد الفصح الغني بالمعني، والذي يشير في رسمه وتفاصيله وممارسته إلى عمله الخلاصي، الذي سيتمّمه سريعاً، لأن ساعة انتصاره على قوات الجحيم ورئيسها قد اقتربت - وقتها يسحق رأس الحية التي سمح لها أن تسحق عقبه. وقد ابتهج المسيح أيضاً لقرب رجوعه إلى حضن أبيه - وهذا يبهجه ويبهج تلاميذه أيضاً، لأنه يثبتهم ويجعلهم يقومون بأعمالهم العظيمة وينجحون نجاحاً باهراً في المستقبل القريب، ولهذا قال لهم: »أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً« (لوقا 22:28 و29).

ومع كل ابتهاج المسيح نراه يكتئب، لأن سعيه كل هذه المدة لإصلاح يهوذا الخائن ذهب أدراج الرياح. ومرارة هذه الخيانة أصعب من مرارة مقاومة الرؤساء. يكتئب المسيح لأنه يعلم أن تلاميذه جميعاً يشكُّون في تلك الليلة وتتحقق نبوة التوراة »اِضْرِبِ الرَّاعِيَ فَتَتَشَتَّتَ الْغَنَمُ« (زكريا 13:7). وأن عميدهم الصخرة، سمعان بطرس، سيفوق الجميع في الارتداد الوقتي. يكتئب المسيح لأن هذه الساعة هي ساعة فراق مؤلم، ولا سيما لتلاميذه الأحباء الضعفاء والمتكلين على قيادته الشخصية. وهو يكتئب كابن الإنسان لما ينتظره من العذابات الجسدية والنفسية الأصعب منها.

ثم قال المسيح لتلاميذه إن واحداً منهم سيسلّمه ليد أعدائه شيوخ اليهود. ولما سأله الإسخريوطي: »هل أنا يا سيد؟« قال له: »أنت قلت«. ثم غمس لقمة في الأعشاب المُرَّة وناولها له.

انتهى عشاء الفصح اليهودي، ويهوذا يرفض أن ينقاد إلى المحبة التي قدَّمها له المسيح، فمع اللقمة المغموسة »دخله الشيطان« أي قوَّى سلطته فيه، فقال له المسيح: »ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة«. أما رفقاؤه فبعد كل ما قيل في مسامعهم وحدث أمام عيونهم، لم يفهموا هذا القول، ولا تصوَّروا أن المسيح يشير إلى خيانة يهوذا، بل إلى أعمال خيرية هي مسئوليته لأنه أمين الصندوق. فلما أخذ يهوذا اللقمة خرج للوقت وكان ليلاً. وأيُّ ليلٍ هذا الذي ليس بعده ليالٍ أظلم منه بما لا يقاس في الدينونة الأبدية. وعن مقام عال شريف بين تلاميذ المسيح هوى منه يهوذا الآن بنفسه إلى أعماق الخيانة والقساوة، ثم اليأس والعذاب والعقاب في النار الأبدية.

سقط يهوذا من ذلك النعيم إلى هذا الجحيم تدريجياً كغيره. سقط لأنه لم يسهر ويصلِّ ليسلَم من الطمع والرياء، فوصل إلى ما وصل إليه. وزادت قساوة قلبه لرفعة مقامه السابق، ولأنه رفض الوسائط الحسنة التي قدَّمها المسيح له. سار مع ميوله الفاسدة، وكان لم يزل سهلاً عليه أن يقهرها ويميتها، فقويت عليه وأهلكته.

خرج الإسخريوطي من بين التلاميذ ليفتش عن شركائه الجدد، ويخبرهم أن المسيح في المدينة، ويمكّنهم أن يلقوا القبض عليه بسهولة. وارتفع عن قلب المسيح ثِقلٌ، فقال: »الآن تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيه. وأن الله سيمجده في ذاته سريعاً«.

هنا تأكد التلاميذ أن سيدهم يُسلَّم إلى مبغضيه ويقتلونه صلباً. لكنهم لم يدركوا معنى ذلك، فأوضح لهم ذلك المعنى بواسطة فريضة جديدة حسيّة، هي العشاء الرباني الجديد، الذي ربطه بعشاء الفصح القديم، ليسهّل عليهم قبوله وفهم تعليمه.

»وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلَامِيذَ وَقَالَ: »خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي«. وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: »اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، لِأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ الْآنَ لَا أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هذَا إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ أَبِي«. ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ« (متى 26:26-30).

أخذ المسيح قطعة من خبز الفطير الذي يشير إلى الخلوّ من الخمير العتيق والفساد، وشكر وكسر وبارك وأعطى التلاميذ، وقال: »خذوا كلوا. هذا هو جسدي المكسور لأجلكم الذي يُبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري«.

في الشكر ذكّر المسيح تلاميذه أنه عند تناول خيرات الأرض نشكر رب السماء، مصدر كل عطية صالحة وكل موهبة تامة. وفي التكسير نذكر أنه كما أن الخبز لا يحيي الأجساد إلا بعد كسره، كذلك لا يحيي المسيح موتى الذنوب والخطايا إلا بعد أن يتألم ويُصلب أولاً. وفي المباركة ذكّرهم المسيح أنه صاحب السلطان المعطى له من الآب. هو الذي بركته »تُغْنِي، وَلَا يَزِيدُ الرَّبُّ مَعَهَا تَعَباً« (أمثال 10:22). وفي إعطاء الخبز من يده ليدهم تذكَّروا أنه هو الطريق والحق والحياة، وليس أحد يأتي إلى الآب إلا به. وفي قوله: »خذوا كلوا« ذكّرهم أن كل ما يعمله لأجل خلاصهم وحياتهم الروحية يذهب سُدى ما لم يأخذوه روحياً، ويخصّصوا شخصه وعمله لنفوسهم فرداً فرداً بالإيمان، بفعل روحي يشابه الأكل الجسدي.

في قوله: »هذا هو جسدي المكسور لأجلكم« أوضح لهم أنه قد عيَّن الخبز المكسور في هذا العشاء الجديد، رمزاً لجسده المكسور لأجل حياة العالم. سبق له من مدة سنة أن قال كلاماً قوياً لليهود في مجمع كفر ناحوم في موضوع أكل جسده وشرب دمه، بمعنى روحي. ولو أن كلامه أعثر السواد الأعظم من تابعيه (يوحنا 6) فليس جديدٌ في تعليمه أن جسده، خبز الحياة، يؤكل روحياً في ممارسة العشاء الرباني. ويكفي ذلك الكلام القديم تفسيراً لهذا الكلام الجديد، ونفياً للتفسير الحرفي الذي حذرهم منه وقتئذ.

يقصد المسيح بقوله: »هذا هو جسدي« قصداً روحياً لا حرفياً. وما ينفي التفسير الحرفي لذلك قول المسيح: »اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فَلَا يُفِيدُ شَيْئاً. اَلْكَلَامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ« (يوحنا 6:63). وينفيه أيضاً أن جسده لم يكن مكسوراً عندما قال: »هذا هو جسدي المكسور«. بل كان سالماً، وكان الخبز موضوعاً على حدة، فلا يكونان شيئاً واحداً. ولم يتكلم في صيغة المستقبل ليؤخذ كلامه عن أمر سيحدث بعدما تكلم. وينفيه كلام الرسول بولس الذي يقول: »كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هذَا الْخُبْزَ« بعد قوله: » هذَا هُوَ جَسَدِي« (1 كورنثوس 11:24 ، 26) وتنفيه شهادة الحواس التي هي وضع إلهي، والوسيلة الوحيدة لتحقيق المعجزات، لأنه لا توجد معجزة واحدة بين كل ما ذُكر في الكتاب إلا ظهر برهانها للحواس. فمعجزة تحويل الخبز إلى جسد لا تصدّقها حاسة واحدة، بل تخالف تماماً شهادة الحواس الأربع، أي البصر واللمس والشم والذوق. صحيح أن الأمور الروحية خارجة عن شهادة الحواس وفوقها، لكن تحويل الخبز إلى جسد، أمر مادي تدركه الحواس.

ثم ناول المسيح تلاميذه كأس الخمر بعد أن شكر، وقال: »هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا«.

كان للدم أعظم أهمية في كل التعليم الإلهي لشعب العهد القديم، منذ أيام هابيل الذي قبِلَ الله تقدمته الدموية، بعد أن رفض تقدمة أخيه غير الدموية. وكان سفك الدم أساس النظام الموسوي كله، لكن لا معنى ولا فائدة لدم التيوس والعجول والحملان في الدين، إلا كرمز لدم المسيح حمل الله الذي يُسفك لأجل رفع خطية العالم. لأنه كما أنقذ الدم الموضوع على القوائم والأعتاب في بيوت العبرانيين في مصر الأبكار من الملاك المُهلك (خروج 12:13)، ينقذ دم حمل الله الخاطئ من الهلاك الأبدي. لذلك لا تشبه كأس العهد الجديد الكأس التي شربوها بحضور الإسخريوطي والمباحة لجميع أفراد نسل إبراهيم، بصرف النظر عن صفاتهم، بل هي رمز للدم الذي بعد بضع ساعات سيُهرق على الصليب، وتُخصَّص فائدته للمؤمنين الحقيقيين.

ضرورة العشاء الرباني

في قول المسيح: »اصنعوا هذا لذكري« أوجب على كل تابعيه الأمناء - من ذلك الحين إلى أن يجيء ثانية - أن يطيعوا أمره ويمارسوا هذا السر المقدس، فتمتلئ أفكارهم بذكر موته الكفاري لأجل البشر، وذكر عشاء العرس المُعدّ لجميع المؤمنين. وهو عشاء تفيض فيه كأس ابتهاجهم إذ يتمتعون بالقداسة التامة والسعادة الكاملة إلى أبد الآبدين.

وهذا العشاء الرباني دليل الاشتراك الحبي بين المؤمنين وعربونه أيضاً. لذلك قال المسيح في وليمة الحب هذه: »يا أولادي، وصية جديدة أنا أعطيكم، أن تحبوا بعضكم بعضاً. كما أحببتُكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إنْ كان لكم حبٌ بعضاً لبعض«. هذا هو الحب الأخوي المتبادل بين المؤمنين الحقيقيين الذي يجعل الأخ في الإيمان أقرب من الأخ الطبيعي الخارج عن الإِيمان.

»حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: »كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ. وَلكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ«. فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: »وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لَا أَشُكُّ أَبَداً«. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: »الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ«. قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: »وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لَا أُنْكِرُكَ!« هكَذَا قَالَ أَيْضاً جَمِيعُ التَّلَامِيذِ« (متى 26:31-35).

لما قال المسيح لتلاميذه إنه سيفارقهم عن قريب إلى حيث لا يستطيعون أن يأتوا تحمس بطرس واعترض كعادته، وكان كلامه جميلاً ناتجاً عن نيَّة صادقة وحب قلبي، لكنه لم يعرف ضعفه. فاضطر المسيحُ أن يفهمَه أنه قبل أن يصيح الديك في الصبح القادم ينكر سيده ثلاث مرات. ولئلا يفتخر التلاميذ أو يشمتوا في بطرس قال أيضاً: »كلكم تشكون فيّ (أي تتركونني) في هذه الليلة«. فتصحُّ النبوة »اِضْرِبِ الرَّاعِيَ فَتَتَشَتَّتَ الْغَنَمُ« (زكريا 13:7). كان المسيح قد أوصاهم أن يحبوا بعضهم بعضاً كما أحبهم هو، وهي وصية تقضي على كلٍ منهم أن يدافع عن إخوته، وينفي عنهم احتمال الارتداد، فخالف بطرس حالاً روح هذه الوصية في دفاعه عن نفسه وعدم دفاعه عن إخوته. لا بل سلّم ضِمناً بإمكانية سقوط إخوته واستحالة سقوطه هو، فلم يتَّعظ بتحذير سليمان الحكيم في قوله: »قَبْلَ الْكَسْرِ الْكِبْرِيَاءُ، وَقَبْلَ السُّقُوطِ تَشَامُخُ الرُّوحِ« (أمثال 16:18).

تشجيع لبطرس

»وَقَالَ الرَّبُّ: »سِمْعَانُ سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! ‚وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لَا يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ«. فَقَالَ لَهُ: »يَا رَبُّ، إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ«. فَقَالَ: »أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ، لَا يَصِيحُ الدِّيكُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي«.

ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: »حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلَا كِيسٍ وَلَا مِزْوَدٍ وَلَا أَحْذِيَةٍ، هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟« فَقَالُوا: »لَا«. فَقَالَ لَهُمْ: »لكِنِ الْآنَ، مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً. لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضاً هذَا الْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لِأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ انْقِضَاءٌ«. فَقَالُوا: »يَا رَبُّ، هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ«. فَقَالَ لَهُمْ: »يَكْفِي« (لوقا 22:31-38).

عرف المسيح أن بطرس سيسقط سقوطاً سريعاً ومخيفاً. وأراد أن يشجعه لينهض بعد السقوط، ويحذّره لئلا يفتخر بعد نهوضه، فقال له: »سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكني قد طلبتُ من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت فثبِّت إخوتك«.

من قول المسيح: »الشيطان طلبكم« نتعلم أن الشيطان يخطّط أموراً كهذه، وأن اللّه يسمح بها أحياناً لمقاصد خيريّة بحتة. ميَّز المسيح بطرس في شفاعته لأن سقوط بطرس سيكون أشرَّ من سقوط رفقائه، وذلك على رغم افتخاره عليهم. لم يطلب المسيح لأجله أن لا يتزعزع إيمانه، لأن بطرس يحتاج إلى درس قوي يعلّمه التواضع والتوكل - درس يتعلمه من تزعزع إيمانه، ومن نتيجة ذلك في إنكاره الفظيع. بل طلب المسيح أن لا يفنى إيمان بطرس كما فني إيمان يهوذا، فشنق نفسه، وقد استُجيب هذا الطلب.

علّم المسيح بطرس ما عليه من الاهتمام بإخوته المعرَّضين للسقوط، لأنه يقدر أن يجعل اختباره في السقوط ثم في النهوض نافعاً لهم أيضاً. لكن بطرس أصرَّ على ثقته بنفسه أنه لا يسقط، وكرر تأكيده أنه يمضي مع سيده إلى السجن وحتى إلى الموت، فاضطر المسيح أن يؤكد له بعبارة أقوى من الأولى أنه سيسقط، لكنه مع كل ذلك كرر ثالثة اختلافه مع إعلان المسيح، وهو لا يدرك أنه بتكراره هذا يجعل المسيح كاذباً. فارتقاء المؤمن في النجاح الديني لا يرجع إلى قوته، بل يقول مع الرسول بولس: »مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لَا يَسْقُطَ« (1كورنثوس 10:12).

ثم ذكَّر المسيح تلاميذه بعنايته السابقة بهم، فإنه عندما أرسلهم للكرازة لم يحتاجوا إلى شيء، لكن الأحوال تغيَّرت الآن. فعندما أرسلهم للكرازة الأولى كان ذلك لزمن قصير، وفي بلادهم (لوقا 9:3). أما الآن فسيسافرون طويلاً ليكرزوا وسط الغرباء، فيلزم أن يتغير الأمر، فليأخذوا معهم نقوداً. ومن ليس له نقود فليبع ثوبه ليشتري سيفاً للدفاع عن النفس ضد اللصوص. والمسيح يقصد أن يستخدم المؤمن حكمته في الدفاع عن نفسه، عندما يقف العالم ضده.

وواضح أن المسيح لم يكن يتكلم عن دفاع تلاميذه عنه بالسيف المعدني، لأنه يقول إن ما تنبأت به التوراة عن موته لا بد أن يحدث. ولما قالوا له: »يا رب هوذا هنا سيفان« قال لهم: »يكفي« وهي كلمة كان علماء الدين يستخدمونها ليُسكِتُوا بها جهالة بعض تلاميذهم عندما لا يفهمون المعاني العميقة لتعاليمهم. وعندما لم يفهم التلاميذ قصد المسيح، قال لهم: »الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ« (متى 26:52) فلم يكن المسيح يطالب تلاميذه باستخدام العنف للدفاع عنه.