عصمة الكتاب المقدس
الله الذي بدونه لا يسقط عصفور إلى الأرض، والذي تظهر حكمته في أصغر أعماله، هو قادر بكل يقين أن يحافظ على أقواله من العبث. ليس معنى ذلك أن كتاب الوحي لم يتعرض للكثير من المتاعب عبر القرون، كما حدث من قبله مع المسيح؛ الكلمة المتجسد. وسنرى في هذا الفصل جانباً من المشكلات التي تعرض لها الكتاب، وكيف أخرج الله من الآكل أكلاً، ومن الجافي حلاوة.
ضياع النسخ الأصلية
أشرنا في الفصل الأول أن الكتاب المقدس هو صاحب أكبر عدد للمخطوطات القديمة. وقد يندهـش البعض إذا عرفوا أن هذه المخطوطات جميعها لا تشتمل على النسخ الأصلية والمكتوبة بخط كتبة الوحي أو بخط من تولوا كتابتها عنهم. فهذه النسخ الأصلية جميعها فقدت ولا يعرف أحد مصيرها.
على أن الدارس الفاهم لا يستغرب لهذا قط، لأنه لا توجد الآن أيضاً أية مخطوطات يرجع تاريخهـا لهذا الماضي البعيد. ومن المسلم به أن الكتاب المقدس هو من أقدم الكتب المكتوبة في العالم، فقد كتبت أسفاره الأولي قبل نحو 3500 سنة.
ونحن نعتقد أن السر من وراء سماح الله بفقد جميع النسخ الأصلية للوحـي هو أن القلب البشري يميل بطبعه إلي تقديس وعبادة المخلفات المقدسـة؛ فماذا كان سيفعل أولئك الذين يقدسون مخلفات القديسين لو أن هذه النسخ كانت موجودة اليوم بين أيدينا؟ أية عبادة لا تليق إلا بالله كانت ستقدَّم لتلك المخطوطات التي كتبها أواني الوحي بأنفسهم؟ ألا نتذكر ماذا فعل بنو إسرائيل قديمـاً بالحية النحاسية التي كانت واسطة إنقاذهم من الموت، وكيف عبدوهـا؟ فماذا فعـل حزقيا الملك التقى بها؟ لقد سحق هذه الحية النحاسية تماماً (عد21: 4-9، 2مل18: 1-6)، والرب صادق علي هذا العمل.
لكن هب أن هذه المخطوطات الأصلية كانت موجودة الآن، فهل كان هذا سيلاشى الصعوبة أمام عدم الإيمان؟ كلا البتة، فعدم الإيمان جاهز دائماً باعتراضاته، وكان بكل يقين سينشئ اعتراضات من نوع آخر. كان مثلاُ سيعترض قائلاً: من أدراني أن هذه هى النسخة الأصلية؟ أو من أدراني أنها جديرة بالثقة باعتبار أن كاتبها تلقى وحياً من الله، وأنه لم يكتبها من تلقاء ذاته.
ألم يكن المسيح بنفسه موجوداً بين البشر في وقت من الأوقات بكل براهين لاهوته، وكان هو بنفسه « كلمة الله »؟ فهل آمن الناس به (يو12: 37)؟!
إذاً فلقد سمح الرب بفقد جميع هذه النسخ لئلا يعبدها البشر، لكنه لم يسمح طبعاً بفقد الكلمة ذاتهـا، ذلك لأن الأسفار المقدسة كان يعاد نسخها بعد كتابة النسخة الأصلية مرة ومرات (تث17: 18) كما سنوضح بعد قليل.
قال أحد العلماء لتوضيح هذا الأمـر: إن الوثيقة التي وقعها الرئيس الأمريكي لينكلن في أول يناير عام 1863، والتي كانت مكتوبة في أربع ورقات فولسكاب، وبمقتضاها تم تحرير 4 مليون عبد في أمريكا؛ هذه الوثيقة التهمتها النيران في الحـريق الكبير الذي حدث في شيكاجو عام 1871. فلنفرض أن واحداً من مالكي العبيد ألقى القبض على عبيده المحرَّرين ليستعبدهم من جديد بحجة أن الوثيقة الأصلية الموقعة من الرئيس الأمريكي دُمرت، ورفض ذلك الرجل إطلاق سراح العبيد ما لم تظهر الوثيقة الأصلية، فهل يكون لتصرف هذا الإنسان أي سند من منطق؟ أيكون لاعتراضٍ مثل هذا أي وزن؟ كـلا البتة. فمع أنه فعلاً لا توجد الوثيقة الأصلية لأنها دُمرت في الحريق، لكن ما أسهل استخراج النص الأصلي؛ لأن هذا النص كُتِب بعد توقيع الرئيس الأمريكي في الجرائد والمجلات والكتب، وتُرجـم إلى الفرنسية والألمانية والأسبانية، وهو نفس ما حدث مع الكتاب المقدس كما سيتضح لنا من هذا الفصل.
الأخطاء في أثناء عملية النسخ
لكن ليس فقط أن النسخ الأصلية فُقِدَت، بل إن عملية النسخ لم تخلُ من الأخطاء. فلم تكن عملية النسخ هذه وقتئذ سهلة، بل إن النُسّاخ كـانوا يلقون الكثير من المشقة بالإضافة إلي تعرضهم للخطأ في النسخ. وهذا الخطأ كان عرضة للتضاعف عند تكرار النسخ، وهكذا دواليك. ومع أن كتبة اليهود بذلوا جهداً خارقاً للمحافظة بكل دقة على أقوال الله، كما رأينـا في الفصل السابق، فليس معنى ذلك أن عملية النسخ كانت معصومة من الخطأ.
وأنواع الأخطاء المحتمل حدوثها في أثناء عملية النسخ كثيرة مثل:
1- حذف حرف أو كلمة أو أحياناً سطر بأكمله حيث تقع العين سهواً على السطر التالي.
2- تكرار كلمة أو سطر عن طريق السهو، وهو عكس الخطأ السابق.
3- أخطاء هجائية لإحدى الكلمات.
4- أخطاء سماعية: عندما يُملي واحد المخطوط على كاتب، فإذا أخطأ الكاتب في سماع الكلمة، فإنه يكتبها كما سمعها. وهو ما حدث فعلا في بعض المخطوطات القديمة أثناء نقل الآية الواردة في متى 19: 24 "دخول جمل من ثقب إبرة" فكتبت في بعض النسخ دخول حبل من ثقب إبرة، لأن كلمة حبل اليونانية قريبة الشبه جدا من كلمة جمل، ولأن الفكرة غير مستبعدة!
5- أخطاء الذاكرة: أي أن يعتمد الكاتب على الذاكرة في كتابة جـزء من الآية، وهو على ما يبدو السبب في أن أحد النساخ كتب الآية الواردة في أفسس5: 9 "ثمر الروح" مع أن الأصل هو ثمر النور. وذلك اعتماداً منه على ذاكرته في حفظ الآية الواردة في غلاطـية 5: 22، وكذلك "يوم الله" في 2بطرس3: 12 كُتب في بعض النسخ "يوم الرب" وذلك لشيوع هذا التعبير في العديد من الأماكن في كلا العهدين القـديم والجديد، بل قد ورد في نفس الأصحاح في ع10.
6- إضافة الحواشي المكتوبة كتعليق على جانب الصفحة كأنها من ضمن المتن: وهو على ما يبدو سبب في إضافة بعض الأجزاء التي لم ترد في أقدم النسخ وأدقها مثل عبارة "السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح" في رومية 8: 1، وأيضاً عبارة "الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة..." الواردة في 1يوحنا 5: 7.
أما لماذا سمح الله بالخطأ في النَسخ، فلقد رد على هذا السؤال الهام أحد الشراح فقال: دعنا نعترف أولاً أننا محدودون في المعرفـة والإدراك، ولا يمكننا في كل الأحوال أن نفهم فكر الله ولا سيما عندما لا يشاء - لحكمة عنده - أن يعلنه لنا، فأفكاره ليست أفكارنا، ولا طرقنا طرقه. إن كل ما عمله الله هو كامل، ومع ذلك ففي حكمته سمح بالفساد أن يدخل إلى خليقة يديه. لقد خلق الله آدم كاملا على شبه الله، لكن آدم أخطأ. والله عندما خلـق الشجرة يقيناً كانت أثمار الشجرة خالية تماماً من أي عيب، لكن أثمار الأشجار وبذورها اليوم ليست خالية من العيوب. والزهرة في جمالها البديع وعطرها الفواح تعلن عن كمال صنع الله، لكن هناك زهور بهـا عيوب. بل حتى ابن الله الكريم سمح الله بأن يُجلد من البشر ويُضرب فصار منظره مُفسَداً أكثر من الرجل وصورته أكثر من بنى آدم. وبالنسبة للكتاب المقدس فلقد سُّـر الله أن تكون الأصول المكتوبة بواسطة كتبة الوحي بلا أدنى خطأ، لكنه أيضاً سمـح أن تحدث بعض الأخطاء أثناء النسخ بسبب عدم كمال الإنسان الذي يقوم بالنسخ. طبعاً كل تلك الأخطاء القليلة نسبياً لا تمس تعليماً كتابياً أساسياً، ومعظمها في الأعداد أو في الهجاء. إن وجود أخطاء في الأصول المكتوبة يطعن في كمال الله، وحاشا أن يكون الأمر كذلك؛ فالله منزه عن الخطأ. أما الأخطاء في عملية النسخ فإنما تشير فقط إلى عدم عصمة البشر، الأمر الذي يتفق تماماً مع تعليم الكتاب المقدس نفسه.
إننا نعتقد أن الله قصد أننا نبذل الجهد لنعرف ماذا كانت الكلمـة الأصلية. وفي هذا يقول سليمان الحكيم « إن طلبتها كالفضة وبحثت عنها كالكنوز » (أم2: 4). ونحن نعرف أن الأرض تعطي الغلـة بمجهود بسيط وخبرة محدودة، أما الكنوز فتحتاج إلى مجهود وخبرة كبيرين. وكلمة الله مشبهة بالحنطة وأيضاً بالكنوز. ولكيما تحصل على الطعام والشبع يكفى أن تقرأها وتطيعها، أما أن تكتشف كنوزها فينبغي أن تكرس نفسك لذلك، وأن تنقب عميقاً وتبذل الجهد والتعب. ثم إن من يُطعَم ويشبع بخبز الحياة لا ينزعج إذا وجد حبة رمل هنا أو هناك نتيجة حجر الرحى الذي طحن الحنطة، ولو أن المشتغل بالجواهر يحرص تماماً على تنظيف جواهره من أية شائبة!
علم الببليوجرافي (صحة المخطوطات)
في حالة فقدان النسخ الأصلية لأي كتاب فإنه يستعاض عن ذلك بالمخطوطات القديمة المتوفرة. وكمبدأ معروف عند النقاد أن عشر نسخ منقولة عن النص الأصلي يستعاض بها عن هذا النص. وهناك عدة عوامل تؤدى إلى الثقة بتلك المخطوطات مثل وفرتها، وتقارب زمان نسخها إلى زمان كتابة النسخة الأصلية، وكذلك تطابق المخطوطات الموجودة بعضها مع بعض. ومن هذا المنطلق دعنا نفحص الكتاب المقدس لنرى مدى إمكانية الثقة بنصوصه المعروفة لدينا
1- عدد المخطوطات: إن المخطوطات القديمة المكتشفة للكتاب المقدس تعد بالمئات وبالآلاف، وهو كما ذكرنا فيما سبق الكتاب الأول من حيث عدد مخطوطاته القديمة، ويليه مباشرة إلياذة الشاعر الإغريقي هوميروس الذي عدد مخطوطاته 643 فقط، أما الكتـاب المقدس فعدد مخطوطاته القديمة هو أكثر من 24600 أربعة وعشرين ألفاً وستمائة مخطوط!
2- الفترة المفقودة: معروف عند الدارسين أنه كلما قلَّ الفاصل الزمني بين كتابة النسخـة الأصلية وبين المخطوط المكتشف فهذا يجعل المخطوط أكثر مدعاة للثقة به. ومما يميز المخطوطات التي للعهد الجديد بصفة خاصة، عن مخطوطات أي كتاب آخر من الأعمـال الأدبية الأخرى، هو أن الفاصل الزمني بين كتابة النسخة الأصلية وبين المخطوطات التي وصلتنا منها قصير نسبيا.
لقد كُتبت أسفار العهد الجديد في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، ووصلتنا نسخ كاملة منها من القرن الرابـع الميلادي. هذه الفترة ليست شيئاً بالنسبة للقرون الطويلة التي تفصل ما بين النسخ الأصلية لمؤلفات الإغـريق العظام وبين النسخ الموجودة الآن:
فلقد مرت 1500 سنة بعد هيرودتس حتى تاريخ المخطوطة الوحيدة التي وصلتنا لأعماله. كما مرت 1200 سنة بعد موت أفلاطونوالمخطوطة الوحيدة المكتشفة له. ثم إن النسخ الموجودة لدينا من روايـات سوفوكليس السبع ترجع إلى 1400 عاماً بعد موت الشاعر! وكتابات قيصر في حروب الغال التي كتبت ما بين عام 58-50 ق.م. توجد لها عدة مخطوطات، تسع أو عشر منها صالحة، وأقدمها بعد عهد قيصر بتسعمائة عام! ومن أصل 142 كتاباً كتبها ليفي عن التاريخ الروماني (59 ق.م -17 م) لا نجـد اليوم سوى 35 مخطوطة، لا يزيد عدد ما يمكن أن يعتمد عليه عن عشرين مخطوطة ، واحدة منها (تحوى 3-6 كتاباً) ترجع إلى القرن الرابع الميلادي.
ومن أصـل 14 كتاباً للمؤرخ تاسيتوس 100م لم يبق منها اليوم إلا أربعة كتب ونصف. ومن أصل 16 كتاباً من حولياته التاريخية لا نجد اليوم إلا عشراً منها كاملة واثنتين في أجزاء. وكل هـذا التاريـخ لتاسيتوس يعتمد على مخطوطتين؛ واحدة ترجع للقرن التاسع الميلادي والأخرى للقرن الحادي عشر!!
وطبعاً لا يوجد دارس اليوم يشكك في صحة أو صلاحية هذه الأعمال رغم ندرة المخطوطات وبعدها زمنياً عن زمان كتـابة المخطوطة الأصلية. وإذا رجعنا إلى إلياذة هوميروس التي كتبت عام 900 ق.م.، وعدد مخطوطاتها هي كما ذكرنا 643، فإن أقدم نسخة لها تعود إلى عام 400ق. م. (الفترة المفقودة 500 سنة)، أما العهد الجديد وعدد مخطوطاته تزيد عن 24000 فقد كتب في الفترة من عام 40 إلى عام100، وأقدم نسخة مكتشفـة له عام 125 أي أن الفترة المفقودة هي 25 عاماً فقط!!
3- الاختلافات بين المخطوطات: فالإلياذة تتكون من 15600 سطراً، بينما العهـد الجديد يتكون من 200ألف سطراً. في الإلياذة 764 سطراً فيه خلاف، بينما العهد الجديد 40 سطراً فقط فيه خـلاف. أي أن نسبة القراءات المُختلَف عليها في مخطوطات الكتـاب المقدس تمثل عُشر القراءات المختلفة في الإلياذة. وسوف نوضـح بعد قليل ما الذي نقصده بالقراءة التي عليها خلاف.
بل إن أعمال شكسبير التي صدرت من أقل من 250 سنة فقط وبعد اختراع الطباعة (التي قللت جداً من احتمال حدوث الخطأ عن كتابة كل مخطوط باليد منفصلاً عن سابقه)، بها الكثير من القراءات المشكوك فيها. ففي رواياته السبع والثلاثين توجد نحو مائة قراءة مختلف عليها، يؤثر الكثير منها على المعنى المقصود.
وإنه لمن دواعي السرور أن نذكر أن أحد علماء المخطوطات قام بمراجعة أعداد كبيرة من النسخ القديمة للعهد الجديد المكتَشفة في أزمنة وأماكن متباعدة فكانت النتيجة المدهشة أنه من بين حوالي 150 ألف كلمة في العهد الجديد فإن هناك نحو 400 كلمة فقط فيهـا اختلافات ذات دلالة أياً كانت. ومن بين هذه الاختلافات الأربعمائة لا يوجد سوى خمسين اختلافاً له أهمية حقيقية، وأنه ولا واحد من بين هذه الاختلافات الخمسين يمس حقيقة تعليمية أو لاهوتية على الإطـلاق. وأنه حتى لو لم نحصل علي أصل هذه الكلمات القليلة فلن يؤثر هذا ولا علي تعليم واحد، ولو أنه أمكن استنتاج الكلمات الصحيحة بسهولة.
مصادر الحصول على النص الأصلي للوحي
هناك ثلاثة مصادر رئيسية اعتمد عليها رجال النقد الأدنى للحصول على النص الأصلي والتأكد منه
1- المخطوطات القديمة: وهى كثيرة جداً وتدعو للثقة الكاملة في نصوصها كما مر بنا
2- الترجمات القديمة: حيث تُرجِم الكتاب المقدس من بداية المسيحية إلى العديد من اللغات - كما سنرى في الفصل القادم. تعتبر هذه الترجمات مصدراً ثانياً وثانوياً للحصول على النص الأصلي للآية.
3- أقوال الآباء: بالإضافة إلي ما سبق فإنه لدينا ما اقتبسه الآباء في كتاباتهم من الكتاب المقدس. هناك قصة مثيرة تُحكى بالارتباط بهذه الحقيقة عن مجموعة من الأصدقاء اجتمعوا في منزل أحدهم، فأثار واحد منهم هذا السؤال: لنفترض أن كل كتب العهد الجديد في العالم كانت قد دُمِرت على نهاية القرن الثالث الميلادي بسبب الاضطهاد العنيف الذي حدث على المسيحيين فى العالم، فهل كانت محتويات العهد الجديد ممكن استخراجها ثانية من كتابات الآباء في القرون الثلاثة الأولى؟ هذا السؤال أثار اللورد هيليس، ولما رجع إلى البيت جمع كل كتابات القرون الثلاثة الأولى، وبدأ يجمع آيات العهد الجديد الواردة فيها، وبعد بحث لمدة شهرين متواصلين خرج بهذه النتيجة؛ أن كل العهد الجديد يمكن استخراجه ثانية من تلك الكتابات باستثناء 11 آية فقط.
هل مابين أيدينا هو فعلاً كلام الله الأصلى؟
النقد الأدنى
ومن أهم كتابات الآباء التي رجع إليها الباحث وجد ما يلي:
أن كتابات إيريناوس تحتوى على 1819 اقتباساً.
وكتابات اكليمندس السكندرى 2406 اقتباساً
وكتابات أوريجانوس 17922 اقتباساً
وكتابات تورتوليانوس 7258 اقتباساً
وكتابات إيسابيوس وآخرين 5176 اقتباساً.
وبناء على ما تقدم فإن السير فردريك كينيون مدير المتحف البريطاني، وهو حجة في نقد مخطوطات العهد الجديد، قال: "إن مخطوطات العهد الجديد، مع الترجمات العديدة لها من بداية المسيحية، والاقتباسات المأخوذة منها في كتابات المعلمين الأوائل في المسيحية هي كبيرة جداً، حتى أنه مؤكد عملياً أن القراءة الصحيحة لأية آية يمكن معرفتها بكل دقة، إذ قد حُفِظَت لنا بطريقـة أو بأخرى في هذه المخطوطات القديمة. وهو ما لا ينطبق على أي كتاب قديم آخر"!
أهم مخطوطات الكتاب المقدس
أما عن المخطوطات اليونانية القديمة للكتاب المقدس بعهديه (أو لأجزاء منها) فهي كثيرة جداً* ومحفوظة الآن في المتاحف والأديرة والكنائس القديمة بأنحاء العالم نذكر منها ثلاث نسخ تعتبر أهمها جميعاً.
1- المخطوط السكندري:(02) A - Alexandrinus
وهو يعتبر أكمل النسخ ويقع في أربع مجلدات ضخمة من الرقائق الجلدية. وهو يحتوى تقريباً على كل الكتاب، وقد كُتب أصلاً على 822 ورقة، بقى منها الآن 773 ورقة، وفقد 10 أوراق من العهد القديـم، 25 من إنجيل متى، واثنان من إنجيل يوحنا، وثـلاثة من رسالة كورنثوس. وقد عُثِر عليه في الإسكندرية عام 1624 م. ويرجع تاريخه إلي أوائل القرن الخامس الميلادي. وقد ظل في حوزة بطاركة مصر حتى أهداه البطريرك كيرلس لوكر، بطريرك القسطنطينية سنة 1628 إلى الملك تشارلس الأول ملك إنجلترا، وساهم فى إعداد الترجمة الإنجليزية المعتمدة (KJV) ونُقل عام 1853 إلي المتحف البريطاني حيث لازال موجوداً إلي اليوم.
2- النسخة الفاتيكانية: (03) B Vaticanus
وهى من أقدم المخطوطات المكتشفة. كُتبت في مصر في أوائـل القرن الرابع لكنها نُقِلت في زمن غير معروف إلي الفاتيكان بروما، وذُكِرت ضمن محتويات مكتبتها سنة 1475 م. وهى تحتوى على نحو 700 ورقة، تشمل كل الكتاب، ولو أنه فُقِـدت منها الأجزاء من تكوين 1-46، مزمور 105- 137، وكل الأصحاحات التالية لعبرانيين 9: 14. وقد نقلـت إلي باريس بعد غزو نابليون لإيطاليا ليقوم العلماء بدراستها. وهي موجودة الآن في الفاتيكان.
3- النسخة السينائية : (01) S Siniaticus
اكتشفت صدفة عـام 1844 بدير سانت كاترين في جبل سيناء بواسطة العلامة تشندروف من ليبزج بألمانيا، الذي كرس عمره لاكتشاف مخطوطات الكتاب المقدس القديمة ودراستها. فلقد قـادت العناية الإلهية الكونت تشندروف إلي دير سانت كاترين ليبحث في مكتبتها عن مخطوطات قديمة للكتاب المقدس. وبعد عدة أسابيع من البحث دون جدوى، وجد في سلة للمهملات بعض الرقوق المعدة للحـريق، وكانت مغطاة بمخطوط أنيق ومضبوط أكثر من أي مخطوط آخر رآه من قبل. فأخذ منها 43 قطعة، كما تمكن من نقل سفري إشعياء إرميا. ولما عاد إلي أوربا قام بطبع ما حصل عليه بنفس هيئة أحرفه الأصلية. ثم زار الدير مرة ثانية سنة 1853 فوجد أجزاء لم يكن قد رآها من قبل، وهي جزء من سفر التكوين. وأخيراً عاد مرة ثالثة سنة 1859 مزوداً بأمـر من إمبراطور روسيا الأرثوذكسي مما سهل مأموريته هذه المرة، فعثر علي القسـم المتبقي من هذه النسخ، وهي عبارة عن 346 صفحة مخبأة في قبـو، وكان يشمل معظم أجزاء العهد القديم، والعهد الجديد كله. ولقد طبعت نسخة العهد الجديد التي اكتشفت في روسيا عام 1862. ثم بعد الثورة الشيوعية بيعت هذه الرقوق بما يعادل مبلغ 510,000 دولار أمريكي (أكثر من نصف مليون دولار!) إلي المتحف البريطاني في 24 ديسمبر 1933، وكان هذا يمثل أكبر مبلغ دفع فى كتـاب على الإطـلاق لغاية هذا التاريخ. ولازالت تلك المخطوطة موجودة في المتحف البريطاني إلي يومنا الحاضر.
ويُعتقَد اليوم أن كلاً من المخطوطة الفاتيكانية والمخطوطـة السينائـية كُتِبتا بناء على أمر الإمبراطور قسطنطين ضمن الخمسين نسخة التي أمـر بكتابتها على نفقة الإمبراطورية (انظر الفصل التاسع).
هذا بالإضافة إلى المخطوطة الإفـرايمية (C. Ephraemi) التي تحتوى على كل العهـد الجديد ما عدا مرقس 16: 9-20، ويوحنا 7: 53- 8: 11 كما تحتوى على أكثر من نصف العهد القديم، وهي موجودة في المكتبة القومية بباريس. وكذلك المخطوطة البيزية codex (05) D Bezae وهى أقدم مخطوطة تشمل نصوصاً من الكتاب المقدس بأكثر من لغة (هما اللغتان اليونانية واللاتينية) وتعود إلى أواخر القرن الخامس. وغيرهما الكثير جداً.
أما بالنسبة للنسخ العبرية المكتشفة والتي يرجع تاريخها إلي القرن الثامن* الميلادي فصاعداً فتعد بالمئات. هذه النسخ اكتُشِفت في أماكن متفرقة في العالم واكتشفت علي فترات زمنية متباعدة، ويرجع تاريخها إلي أزمنة مختلفة ومع ذلك فإنه عند مقابلتها معاً وجد تطابقها. لقد قام بعض العلماء بفحص ما يزيد عن خمسمائة من هذه النسخ، فوجدت في تمام المطابقة رغم تباعد البلـدان التي اكتُشِفت فيها وتباعد الأزمنة التي ترجع إليها؛ مما يثبت صحتها جميعاً.
الاكتشاف العظيم أو اكتشافات قمران
لأن جيلنا غير المؤمن والملتوي لازال يثير الشكوك حول صحة نصوص الكتاب المقدس وسلامـة وصوله إلينا دون تحريف، فقد رتبت العناية الإلهية مؤخراً اكتشافاً مباركاً عُرِف باكتشاف قمران.
وقمران هذه بقعة تقع بالطرف الشمال الغربي للبحر الميت. وحدث في ربيع عام 1947 أن غلاماً أعرابياً يرعى غنمه في المراعي القريبة من قمران هذه، فضْلّت واحدة من غنيماته. ولما قذف بحجر وهو يبحث عن خروفه الضال سقط الحجر علي شيء بداخل كهف محدثاً دوياً عالياً. ودفع الفضول ذلك الراعي لكي يعرف مصدر هذا الصوت، ظاناً أنه قد يكونهناك كنز في داخل المغارة، ولم يكن يعرف أن أعظم الكنوز قاطبة كان ينتظره هناك. فعندما دخل الكهف وجد إناءين من الفخار بهما مخطوطـات قديمة لم يستطع قراءتها. وكانت المخطوطات مصنوعة من جلد رقيق موصول معاً وعددها 11 مخطوطاً.
وبعد محاولات كثيرة لبيع تلك المخطوطات اشتراها أحد التجار في القدس نظير جنيهات قليلة. ثم قام التاجر ببيع ستة منها لأستاذ في الجامعة العبرية، والخمسة الباقية لرئيس أساقفة دير القديس مرقس السرياني الأرثوذكسي الذي أرسل تلك المخطوطات إلي المعهد الأمريكي للدراسات الشرقية بالقـدس؛ فتبين أنها نسخة كاملة من سفر إشعياء وأن الحروف التي كتبت بها المخطوطـات ترجع إلي ما قبل سنة 100 ق.م. أما الكتان الذي كان يغلف المخطوطات فلقد أُرسِل إلي معهد الدراسات النووية بشيكـاجو بأمريكـا وباستخدام مقياس جيجر وُجِد أنه يرجع إلي زمان ما بين 167ق.م إلي 233م.
كان لهذه النتيجة دوى عظيم في كل العالـم الديني، فتوجهت بعثـة للتنقيب في خرائب هذه المنطقة فتوالت اكتشافات المزيد من الكهوف. وفي عام 1957 اكتشف 11 كهفاً آخر في نفس المنطقة تحوي نحو 400 مخطوطاً. وفي الكهف الرابع وحده وجد أكثر من عشرة آلاف قصاصة متعددة غطت أجـزاء لأسفار العهد القديم كله، عدا سفر واحد هو سفر أستير.
واتضح بالبحث أن كهوف هذه المنطقة كانت ملجأ لجماعة الأسينين اليهود نحو عام 125ق.م (إذ عثر علي عملات من هذا التاريخ في الكهوف المكتشفة)، وهم أولئك الذين أشارت إليهم الرسالة إلي العبرانيين « تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض » (عب11: 38). ويبدو أنه لما هجم الجيش الروماني علي تلك البقعة، تركوا كل شيء وهربوا لكي ينجوا بأنفسهم.
لكن ترى لماذا كانوا محتفظين بالأسفار المقدسة بهذا الأسلوب غير المألوف والذي جنّب تلك المخطوطات من التلف خلال القرون الطويلة؟ لا نجد إجابة سوي في تداخل العناية الإلهية، لكيما تقدم لنا دليلاً قوياً جديداً على حقيقة صحة المخطوطات المقدسـة؛ فعندما قورنت المخطوطات المكتشفة والكاملة لسفر إشعياء مع السفر الذي بين أيدينا كلمة بكلمة وجد إنه لا اختلاف فيها على الإطلاق، باستثناء أخطاء هجائية طفيفة يمكن اكتشافها بسهولة.
« إلى الأبد يا رب كلمتك مثبتة في السماوات، إلى دور فدور أمانتك » (مز119: 89، 90)