دروس قرآنية ( 1 )

Qur'anic Studies ( 1 )

 

 

الإنجيل في القرآن

The Evangel In The Qur’an

يوسف درة الحداد

Professor Youssef Durrah al-Haddad

www.muhammadanism.org

March 31, 2004

Arabic

دُروسٌ قُرآنيّة

1

 

الإنجيل في القرآن

دُروسٌ قُرآنيّة

1

الإنجيل في القرآن

الأستاذ يوسف درّة الحداد

إهداء

إلى عشاق الحقيقة الخالصة

إلى ذوي الضمائر الحية المفتشة عن دين الله

إلى جميع الذين ينشدون الطريق و الحقيقة و الحياة

أقدم هذه الدروس النزيهة

فهرس

 

صفحة

تقديم عام

ط

مصادر

ك

مقدمة الكتاب الأول

س

القسم الأول : القرآن و الكتاب

نظرية القرآن في الأديان

3

التوحيد القرآني كتابي

15

هل نسخ القرآن الإنجيل و التوراة ؟

38

القرآن يشهد بالصحة للكتاب الموجود في زمانه

47

هل يقول القرآن الكريم بتحريف الكتاب المقدس

64

تذييل على استحالة تحريف الكتاب

88

قيمة الكتاب في القرآن

99

قيمة الإنجيل في القرآن

103

موقف القرآن من أهل الكتاب

القسم الثاني : مريم أم المسيح في القرآن

الجزء الأول : النصوص القرآنية

النص الأول : سورة مريم

144

ـ هـ ـ

صفحة

النص الثاني : أنبياء 91

151

النص الثالث : المؤمنون 151

153

النص الرابع : آل عمران 33 ـ 47

154

النص الخامس : النساء 157 و 170

164

النص السادس : تحريم 12

166

النص السابع : مائدة 76 ـ 80 و 113 ـ 119

168

الجزء الثاني : تحليل النصوص

أولاً : مريم العذراء آية للعالمين في اصطفائها

172

ثانياً : مريم العذراء آية للعالمين في ميلادها

173

ثالثاً : مريم العذراء آية للعالمين في طفولتها و حداثتها

174

رابعاً : مريم العذراء آية للعالمين بمعجزة حبلها البتولي بالمسيح

177

خامساً : مريم العذراء آية للعالمين في ولادتها المسيح

182

سادساً : مريم العذراء آية للعالمين مع ابنها في حداثته

184

سابعاً : مريم أم المسيح آية للعالمين في حياتها كلها و شخصيتها

185

خاتمة : موجز تعليم القرآن

187

القسم الثالث : المسيح في القرآن

توطئة

الجزء الأول : النصوص القرآنية في المسيح

النص الأول : سورة مريم 15 ـ 40

195

النص الثاني : سورة الزخرف 57 ـ 62 ؛ 63 ـ 65

203

النص الثالث : سورة الأنبياء 91 ـ 103

207

النص الرابع : سورة المؤمنون 51 ـ 57

209

ـ و ـ

صفحة

النص الخامس : سورة الأعراف 156 ـ 158

211

النص السادس : سورة الأنعام 83 ـ 90

213

النص السابع : سورة الشورى 13 ـ 16

215

النص الثامن : سورة البقرة 86 ، 136 ـ 138 ، 253

217

النص التاسع : فاتحة آل عمران

226

النص العاشر : سورة الأحزاب 7 ـ 8

250

النص الحادي عشر : القسم الثاني من سورة النساء

252

النص الثاني عشر : سورة الحديد 25 ـ 29

266

النص الثالث عشر : سورة التحريم 12

271

النص الرابع عشر : سورة الصف 6 ـ 14

272

النص الخامس عشر : سورة المائدة ( متفرقات )

275

النص السادس عشر : صدر سورة التوبة ( براءة ) 1 ـ 38

301

الجزء الثاني : تحليل النصوص القرآنية في المسيح

عيسى ابن مريم آية في مولده

3.9

عيسى ابن مريم آية في حداثته

315

عيسى ابن مريم آية في رسالته

317

عيسى بن مريم آية في آخرته :

تمهيد

324

أولاً : شهادة القرآن بموت المسيح

326

ثانياً : صعود المسيح إلى السماء

328

عيسى بن مريم آية في يوم الدين :

أولاً : عيسى بن مريم (( علَمٌ للساعة ))

340

ثانياً : عيسى ابن مريم وجيه و شفيع في يوم الدين

342

عيسى ابن مريم آية في قداسته و كماله

346

ـ ز ـ

 

صفحة

عيسى ابن مريم آية في شخصه

352

بحث أول : ألوهية المسيح في القرآن

353

بحث ثانٍ : التثليث في القرآن

361

بحث ثالث : ألقاب المسيح في القرآن :

أولاً : ألقاب المسيح النبوية في القرآن

379

ثانياً : ألقاب المسيح الإلهية في القرآن

383

( 1 ) عيسى ابن مريم هو مسيح الله

384

( 2 ) عيسى ابن مريم هو كلمة الله

388

( 3 ) عيسى ابن مريم هو روح الله

398

ملحق : هل من تثليث في القرآن

406

شخصية المسيح في القرآن

409

كلمة الختام

419

ـ ح ـ

دُروسٌ قُرآنيّة

تقديم عام

كانت هذه الدروس استجابة إلى الدعوة التي وجهها شيخ مشايخ الأزهر الشريف فضيلة الأستاذ مصطفى المراغي، ورئيس مجلس الشيوخ المصري السابق الدكتور حسين هيكل في تقديم ( حياة محمد ): (( ألا تراه يقول: وأًذهب أَبعد مما تقدم فأقول إن هذا البحث جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تلتمسها. وإذا كانت نصرانية الغرب تستكبر أن تجد النور الجديد في الإسلام ورسوله وتلتمس هذا النور في (( ثيوزوفية الهند )) وفي مختلف مذاهب الشرق الأقصى، فإن رجال هذا الشرق من المسلمين واليهود والنصارى خليقون بأن يقوموا بهذه البحوث الجليلة بالنزاهة والانصَاف اللذين يكفلان وحدهما الوصول إلى الحق )) .

استجبنا الدعوة ويقيننا إنَّا فعلنا بنزاهة و إخلاص.

بدأنا منذ زمن بعيد بمقالات، تطورت إلى كتاب، اتسع إلى هذه (( الدروس القرآنية )) . وهذا هو الكتاب الأول منها.

ـ ط ـ

لا نبغي فيه تبشيراً، ولا نقصد منه جدلاً عقيماً. بل كان رائدنا الدرس العملي النزيه أَملاً بالوصول إلى حق القرآن.

ونبتهل إلى الله تعالى مع فاتحة القرآن:

(( بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.

إياك نعبد وإياك نستعين: أَهدنا الصراط المستقيم ... ))

عسانا نسمع الجواب:

(( أُولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة ... ))

(( أُولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدِهْ ( أيها النبي ) )) .

( أنعام 89 و 90 )

ـ ي ـ

مصادر

القرآن الكريم

الكتاب المقدس

تفاسير الكتاب لأئمة التفسير، خاصة لاغرانج

تفاسير القرآن لأئمة التفسير خاصة الطبري والزمخشري والبيضاوي والجلالين والرازي

السيرة لابن هشام ـ تحقيق مصطفى السقا ورفاقه. مصر 1936

الفهرست لابن النديم ( فيه ترتيب لسور القرآن )

الرد الجميل لإهية عيسى بصريح الإنجيل. لحجة الإسلام، الغزّالي

نشر الأب شدياق

حجج القرآن لجميع أهل الملل والأديان ـ للإمام أبي الفضل أحمد الرازي

هداية الحيارى من اليهود والنصارى ـ لابن القيم الجوزية

رسالة عبد الله الهاشمي ( عن النصرانية )

رسالة عبد المسيح بن اسحاق الكندي ( يرد بها على عبد الله الهاشمي ـ وقد ذكرها البيروني)

الإسلام ـ رد على غبريال هانوتو ـ للإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية

الإسلام والنصرانية )) )) )) )) )) ))

الإسلام والرد على منتقديه )) )) )) مع فريد وجدي

الشفا بتعريف حقوق المصطفى ـ للقاضي عياض أبو الفضل بن موسى الأندلسي طبع سنة 1950

تفصيل آيات القرآن الحكيم ـ وضعه بالإفرنسية جول لابوم ـ ترجمة فؤاد عبد اليافي

ـ ك ـ

حياة محمد ـ لحسين هيكل ـ مصر 1354 هـ

عبقرية محمد ـ للعقاد

عبقرية المسيح ـ للعقاد

الحضارة العربية الأموية في دمشق ـ لعمر أبي النصر

الإسلام على مفترق الطرق ـ وضعه ليوبولد فايس ونقله عمر فروخ

مقالة في الإسلام ـ لجرجس سال الإنكليزي ـ مع الذيل المشهور لعبد الله مرّاش الحلبي؟

المسيحية في الإسلام ـ لإبراهيم لوقا ـ مصر 1938

المسيح في الإسلام ـ للأستاذ كولد ساك الإنكليزي وضعه ببنغال الهند

المسيح في القرآن ـ جرجس فرج صفير

بطل الأبطال أو أبرز صفات النبي ـ للأستاذ عبد الرحمن بك عزّام

الإسلام في نظر الغرب ـ نقله إلى العربية الدكتور إسحاق موسى الحسيني

التصوير الفني في القرآن ـ سيد قطب

المشرع ـ للقس بولس سباط

التبشير والاستعمار ـ للدكتورين مصطفى خالدي وعمر فروخ ـ بيروت 1953

قصة الاضطهاد الديني في المسيحية والإسلام ـ للدكتور توفيق الطويل 1947

التعصّب والتسامح بين المسيحية والإسلام ـ محمد الغزالي

البرهان الصريح في بشائر النبي والمسيح ـ أحمد ترجمان

كفاية الطالبين لرد شبهات المبشرين ـ محمد حفناوي 1912

الأجوبة السنية عن الشبهات النصرانية

دعوى اليسوعيين وفضل محمد على سائر النبيين ـ أبو نصر السلاوي

الطرفة الشهية في انتصار الإنجيل

مباحث المجتهدين في الخلاف بين النصارى والمسلمين ـ نقولا يعقوب غبريل 1922

المسلمون والنصارى ـ محاضرة للسيد عبد الله مخلص

ـ ل ـ

تاريخ العرب ـ فيليب حتي

العرب في التاريخ ـ برنارد لويس

لماذا أنا مسلم ـ لعبد الرحمن العيسوي

دراسات إسلامية ـ لعبد المتعال الصعيدي

أثر القرآن في تطور النقد العربي ـ لمحمد زغلول سلام

روح الدين الإسلامي ـ لعفيف عبد الفتاح طباره ـ بيروت 1955

L’Encyclopédie de L’Islam

Penseurs de l’Islam – Carra de Vaux

Dictionnaire de Théologie

Christus – ou Historie des Religions

Le Coran – Traduction selon un essai de reclassement des sourates

Par Regis Blachère 1947- 51

Le Problème de Mahomet Par Regis Blachère 1953

Mahomet – sa vie, sa doctrine Par Tor Andrac

Le Christ Dans les Évangiles selon Al Gazali – Louis Massignon

La Vision musulmane du mystère de Jésus – Charles Ledit

ـ م ـ

 

مقدمة الكتاب الأول

 

 

(( وقولوا: آمنا بالذي أُنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون )) ( العنكبوت 46 )

 

ما جاء في القرآن الكريم عن المسيح والإنجيل والنصارى، والكتاب عامة، مفخرة للمسلمين والنصارى، فيليق بكل مؤمن بالله واليوم الآخر أن يطلع عليه.

هذا ما أردنا أن نقوله في هذا الكتاب الأول من سلسلة دراستنا التي نقدمها لأبناء الشرق العربي.

كثيرون من المسلمين يجهلون الكتاب المقدس، وكثيرون من المسيحيين لا يعرفون القرآن الكريم؛ ولو أن الجميع تعارفوا لتقاربوا وتصافوا وتحابوا.

يعيش الإسلام والنصرانية في الشرق معاً: لذلك يجب عليهما أن يتفاهما؛ وآن لهما أن يفعلا. أقول هذا خاصة في هذا الزمن العصيب الذي نجاهد فيه لأجل تراثنا الروحي، وقوميتنا العربية لكي نحافظ على كياننا فلا تبتلعنا الكتل الأجنبية؛ وأرسله نداءً حارَّاً لكل الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر كي يتمسكوا بحجر الزاوية هذا. وما أحوجنا في عصر المادة الذي نجتاره ، تجاه

ـ س ـ

تيار الإِلحاد الجارف، أن نتذكر هذه الحقيقة الجوهرية، وبجعلها رابطة لنا دينية وقومية في هذا الشرق موطن الوحي ومهبط الروح.

وأملي أن نخرج من هذه الأبحاث1 كما ختم النبي العربي كرازته في مكة بهذا المبدإِ السَّمْح الموحّد: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم ـ وقولوا: آمنا بالذي أنزِل إلينا وأُنزِل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) .

(عنكبوت 46 )

ـــــــــــــــــــ

(1) تنبيه عام: لا نقصد بهذا الكتاب عرض الديانة المسيحية على المسلمين ولا عرض الإسلام على المسيحيين: فليعذرنا الجميع إذا وجدونا مقصِّرين. إننا ندرس فيما نعرض لـه وجهة نظر القرآن وحدها، كما فهمناه ، وليس وجهة نظر الإنجيل أو المسيحية ؛ فنرجو الانتباه لئلا نُتهم بِما نحن منه براء.

ـ ع ـ

القسم الأول

القرآن والكتاب

 

نظرية القرآن في الأديان

 

(( بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ))

( بقرة 213 )

(( لا نفرّق بين أحد من رسله )) ( بقرة 136 و 285 ؛ آل عمران 4

نساء 163 )

 

مَن يتصفّح الكتاب والقرآن يتحقق من بادرة لا ريب فيها ألا وهي اتفاقهما في الجوهر على التوحيد، أي (( الإيمان بالله واليوم الآخر )) . تلك هي حقيقة الحقائق وهما يردّدانها بكل لحن، وبلا ملل.

نشأ محمد في الحجاز ودعا إلى الله ( سجدة 72 ) في محيط مشبع بدعوة التوحيد1 الإسرائيلية والمسيحية والحنيفية وسط الشرْك الحاكم.

فكان لا بد للنبي العربي من أن يتعرَّض للكتاب والإنجيل. فما كان صدى تأثيراته؟

وكان لا بد أيضاً من أن يتصدّى للأديان السابقة، والكتب المنزلة، والأنبياء المتعاقبين: فما هي نظرية القرآن في الأديان؟

ـــــــــــــــــــ

(1) التوحيد هو الإيمان بالله واليوم الآخر. سترى ذلك من مجموع الآيات التي سننقلها في هذا الكتاب. نكتفي هنا بذكر آية من القرآن: (( ليس البِر أن تُولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البِرّ مَن آمن بالله واليوم الآخر ... )) ( بقرة 177 ) وآية من الإنجيل في رسالة القديس بولس إلى العبرانيين: (( وبدون إيمان يستحيل إرضاءُ الله إذ لا بُدّ لمن يدنو إلى الله أن يؤمن بأنه كائن وأنه يثيب الذين يبتغونه )) ( ف 11 ع 6 )

ـ 3 ـ

للقرآن نظرية خاصة، جامعة في الأديان المنزلة، ولا نقول غير المنزلة لأنه لا يعترف بها. فالقرآن يُعلّم بصراحة وحدة الكتاب المنزل على جميع الأنبياء، ووحدة الرسالة النبوية عند جميع المرسلين، ووحدة الدين الموحى به لجميعهم.

الكتاب المنزل واحد

يعلّم القرآن أن أَصل الكتب المنزلة واحد، عند الله ، ( مؤمنون 63 ) ويسميه (( أمّ الكتاب، ( زخرف 4 )، و (( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب1 )) ( رعد 41 ) ، ويدعوه أيضاَ (( اللوح المحفوظ )) ( البروج 21 و 22 )، (( والإمام المبين )) : (( وكل شيءٍ أحصيناه في إمام مبين )) ( يس 12 ).

وقد أنزل الله كتابه الواحد على جميع الأنبياء والمرسلين: (( كان الناس أمّةً واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)) ( بقرة 212 ). يقول (( الكتاب )) فهو معروف، وهو واحد.

ونزل كتاب الله على آجال: (( ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله: لكل أجل كتاب. يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب )) ( رعد 40 ـ41 ). من أجل إلى أجل قد يمحو الله ما يشاء مِمّا أنزل ويثبت غيره، محتفظاً بوحدة التنزيل لأن عنده أُم الكتاب في اللوح المحفوظ .

والكتب المنزلة عديدة بقي منها أربعة: توراة موسى، وزبور ( مزامير ) داود، وإنجيل عيسى، وقرآن محمد. وكلها نسخ طبق الأصل عن الكتاب الأزلي: (( نزّل عليك الكتاب بالحق مصدِّقاً لما بين يديه ( قبله ). وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، وأنزل الفرقان )) ( آل عمران 3 )2

ـــــــــــــــــــ

(1) (( وعنده أم الكتاب )) أصله الذي لا يتغيَّر منه شيء وهو ما كتبه في الأزل ( الجلالان ).

(2) (( وأنزل الفرقان )) ذكر ذلك بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها. وقد يراد به الزبور أو القرآن كرره مدحا (البيضاوي )

ـ 4 ـ

فبإنزاله القرآن والإنجيل والتوراة أوحى الله الفرقان كله أي (( جنس الكتب السماوية لأنها كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل )) ( الزمخشري ).

وهذه النسخ يصدّق بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض: (( وقفينا على أثرهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور. وأنزلينا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه ( قبله ) من الكتاب ومهيمناً عليه )) ( مائدة 46 ـ51 )1 .

وهكذا يكون القرآن نسخة عربية عن الكتاب: (( والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون )) ( زخرف 1 و 2 ).

لذلك يأمر القرآن أهله أن يؤمنوا إيماناً واحداً بالكتب المنزلة كلها: (( يا أيها الذين آمنوا، آمِنوا بالله ورسوله، والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزَل من قبلُ ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالاً بعيدا ً)) ( نساء 135 ).

وهذا الإيمان الواحد الذي يأمرهم به ـ بسبب وحدة التنزيل والكتاب ـ يجعله ركناً من أركان الإسلام: (( ليس البر أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين )) ( بقرة 177 ).

وبسبب وحدة الوحي و وحدة الكتاب المنزل مع الرسل جميعهم ينذر القرآن بعذاب واحد مَن كفر بأحد الكتب لأنها جميعها (( الكتاب )) : (( الذين كذّبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إِذِ الأغلالُ في أعناقهم والسـلاسل يُسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون )) ( غافر 72 ).

وهكذا يرى القرآن في الكتب المنزلة نُسخاً عن (( الكتاب )) الواحد.

ـــــــــــــــــــ

(1) (( مهيمناً عليه )) شاهداً لـه ( الجلالان ) رقيباً عليه ( البيضاوي )؛ (( والتوراة والإنجيل: اسمان أعجميان وتكلف اشتقاقهما الفرقان: جنس الكتب السماوية لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل أو للكتب التي ذكرها )) .

ـ 5 ـ

والرسالة النبوية واحدة عند جميع الأنبياء والمرسلين

إن تصريحات القرآن في هذا الصدد واضحة متكررة1 .

فهو يعلن وحدة الإيمان في وحدة الرسالة: (( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أُوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم. لا نفرّق بين أحدهم؛ ونحن لـه مسلمون2 )) ( بقرة 136 ) يعلن أن من الإسلام الإيمان بالأنبياء جميعهم على السواء، رادّاً بذلك على دعوة اليهود و النّصارى إلى ملتهم : (( و قالوا : كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ! قل: بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين )) ( بقرة 135 )، لأن الأصل التوحيد ولا خلاف بين المسلمين والكتابيين عليه: (( قل: أتحاجّونا في الله وهو ربنا وربكم و لنا أَعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون )) ( بقرة 139 ).

وتقوم وحدة النبوة و وحدة الرسالة على التوحيد، ويُسمّى هذا التوحيد إسلاماً3 : ((أَفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يُرجعون. قل آمنا بالله وبما أُنزل علينا وما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أُوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون )) ( آل عمران 83 ـ 85 ) فكل الأنبياء يريدون دين الله وقد دُعوا إليه.

ـــــــــــــــــــ

(1) في مكة يعتبر محمد نفسه واحداً من أهل الكتاب كما سترى في فصل (( التوحيد القرآني كتابي )) ، وفي المدينة يستقل عنهم في الملة ويبقى معهم في العقيدة كما ترى من النصوص المدنية التي نوردها.

(2) (( لا نفرّق بين أحد منهم )) فنؤمن ببعض ونكفر ببعض ( الجلالان ) كاليهود (( فنؤمن ببعض ونكفر ببعض، ونحن لله مذعنون مخلصون )) بيضاوي.

(3) نعتقد مع بعض العلماء أن لفظة (( إسلام )) كنايةٌ عن التوحيد وهي من صنع محمد أو بالحري من المحيط الحنيفي الذي مال إليه محمد في المدينة ؛ كما يستدل من قوله : (( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هـذا )) . ( الحج 78 ) .

ـ 6 ـ

ويصرح بأن وحدة الرسالة والنبوّة تأتي من وحدة الوحي: (( إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً ورسلاً قـد قصصناهم عليك من قبلُ ورسلاً لم نقصصهم عليك، وكلم الله موسى تكليماً، رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيما ً)) ( نساء 162 ـ 164 ).

وهكذا فلا تجوز التفرقة بين الأنبياء لأن الموحي إليهم واحد، والوحي واحد عند جميعهم فهم سلسلة واحدة متصلة الحلقات يحملون رسالة واحدة.

والدين واحد في جميع الكتب ومع جميع الأنبياء

ان كل رسول دعا إلى الله: (( ولقد بعثنا في كلِّ أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم مَن هدى الله، ومنهم مَن حقتْ عليه الضلالة )) (نحل 36) وغُمِرَ البشر بالرسل الداعين إلى التوحيد: (( جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله )) (السجدة 14 ) وكل ذِكْر نزل من الله أوحى أن لا إله إلا الله: (( أم اتخذوا من دونه آلهة! قل هاتوا برهانكم! هذا ذكرُ مَن معي وذكر مَن قبلي1 بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون: (( وما أرسلنا من قبلك من رستول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )) ( أنبياء 24 و 25) ؛ أوحى الله التوحيد لكل رسول أرسله وهذه كتب الله الموحاة كلها ليس في واحد منها أنَّ مع الله إلهاً مما قالوا ( الجلالان ).

ودعوة الأنبياء إلى الله هي التوحيد وهي الإسلام الذي يكرز به القرآن: (( أَفغير دين الله يبغون وله أسلم مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً.

ـــــــــــــــــــ

(1) (( هذا ذكر من معي )) أي أمّتي وهو القرآن (( وذكر مَن قبلي )) من الأمم وهو التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله ليس في واحد منها أن مع الله إلهاً مِمَّا قالوا ( الجلالان ) .

ـ 7 ـ

قل آمنا بالله وبما أنزل علينا وبما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أُوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن لـه مسلمون. ومَن يبتغِ غيرَ الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) ( آل عمران 83 و 84 و 85 ). نصٌّ خطير، جامـع مانع، يحدّد معنى الإسلام بالتوحيد، (( دين الله1 )) الذي يخضع له مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، وهو الذي أنزل على الأنبياء جميعهم كما نزل على محمد، ومن يبتغ غير إسلامِ التوحيد فهو من الخاسرين في الدنيا والآخرة.

بهذا الدين، وبهذا التوحيد شهد الأنبياء جميعهم، وأولو العلم، والملائكة والله نفسه: ((شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة و أولو العلم، قائماً بالقسط ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم أن الدين عند الله الإسلام2 )) ( آل عمران 18 و 19 )؛ فالسماء والأرض تشهدان أن (( لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام وهو التوحيد )) ( البيضاوي ). قرن منزلة (( أولي العلم )) بالملائكة والله! ( الرازي ).

وحسب نظرية القرآن، جميع الأنبياء ليس فقط كرزوا بالإسلام بل كانوا هم أنفسهم مسلمين. فابراهيم3 وابنه اسماعيل مسلمان (( ربنا، واجعلنا مسلمين لك )) ( بقرة 128 ) ووصّى إبراهيم بنيه من بعده بالإسلام: (( إذ قال لـه ربه: أَسلم. قال أسلمتُ لرب العالمين. ووصّى بها إبراهيم بنيِّه )) ( بقرة 131 ). فحفظوا الوصية وتناقلوها: (( ويعقوب: يا بنيَّ، إن الله اصطفى لكم الدين

ـــــــــــــــــــ

(1) راجع الزمخشري آل عمران 19 و 85 . والزمخشري يرجع لفظة الإسلام إلى قوله (( أسلم وجهه لله )) (مائدة 114) أي أخلص له العبادة .

(2) الإسلام من (( أسلم وجهه لله وحده )) أي دعا الله مُخلصاً لـه الدين بعيداً عن كل شرك ( المؤمن 14؛ الزمر 2 ،3 ،11 ،12 ،14، 15 ) (( إن الدين عند الله الإسلام )) أي الشرع المبعوث به المرسل المبني على التوحيد ( الجلالان ) وفي قراءة ( أن ) بدل من ( أنه ) ، بدل اشتمال ( الجلالان ) ؛ وفي قراءة إن جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام وهو التوحيد ( البيضاوي ).

(3) إبراهيم حنيف مسلم ( آل عمران 167 ) لا بل هـو أصل الإسلام وهو سمَّى الموحدين مسلمين (الحج 7 ) .

ـ 8 ـ

فلا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون )) ( بقرة 132 )؛ وقبل الأسباط هذه الوصية بالإسلام ( بقرة 133 ). وهكذا فملّة إبراهيم بفرعيها من إسماعيل وإسحاق مسلمة: (( ومن ذريتنا أمّةً مسلمةً لك )) ( بقرة 128 )، فقد قال الأسباط ليعقوب: (( نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون )) ( بقرة 133 ).

والنبيّون ما بين موسى وعيسى مسلمون: (( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا )) (مائدة 47) يعني أنبياء بني إسرائيل أو موسى ومَن بعده (البيضاوي). واليهود الذين يحفظون التوراة بهدي أنبيائهم مسلمون معهم: (( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون أيأمركم بالكفر بعد إذ أَنتم مسلمون )) ( آل عمران 80 )، فيشهد أن اليهود الذين يخاطبهم ويسفّه غلوّهم في إكرام الملائكة والنبين هم مسلمون: أنها حال قائمة (( بعد إذ أنتم مسلمون! )) .

والمسيح نفسه وأنصاره الحواريون مسلمون: (( ولما أحس عيسى منهم الكفر ( أي من اليهود ) قال: مَن أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون1 : نحن أنصار الله ! آمنّا بالله ! وأشهد بأنّا مسلمون )) ( آل عمران 52 و 53 ). وقد قبل الحواريون دعوة عيسى واعتنقوا (( الإسلام )) بعد معجزة المائدة التي أَنزلها عيسى عليهم من السماء: (( وإذ أوحيتُ إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ! قالوا: آمنا، وأشهد بأنّا مسلمون )) ( مائدة 115 ـ 119 ).

لذلك لما حاول محمد أن يجتذب أهل الكتاب إلى ملّته التي أنشأها في المدينة مستقلاً عن أهل الكتاب أجابوه بأنهم مسلمون من قبله: (( الذين آتيناهم الكتاب من قبله ( من قبل القرآن ) هم به مؤمنون؛ وإذا يُتلى عليهم

ـــــــــــــــــــ

(1) الحواريون: أعوان دينه، أو وهم أصفياء عيسى وأوّل من آمن به. وكانوا اثني عشر رجلاً من الحوَر: أي البياض. وقيل كانوا قصّارين يحوّرون الثياب أي يبيضونها. (الجلالان) وعندنا أن الكلمة أعجمية مأخوذة عن الأرامية أو الحبشية.

ـ 9 ـ

قالوا: آمنا به، انه الحق من ربنا، إنا كنا من قبله مسلمين ! أولئك يؤتون أجرهم مرتين !1 )) (قصص 52 ـ 54 ).

وهكذا بشهادة القرآن الصريحة، وبنص الـوحي القاطـع، اليهود والنصارى، المعاصرون محمداً، مسلمون قبل النبي العربي وأمته، وسوف يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا. (( وإيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ وإنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن )) ( البيضاوي ).

ومحمد اقتفى آثار من سبقه من أنبياء الكتاب (( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ إنما إلهكم واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً )) (الكهف 111 ). واقتدى بهداهم ( أنبياء 90 ) وتبع إسلامهم: (( اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لك الإسلام ديناً )) ( مائدة 3 ) وبذلك أمسى هو أول المسلمين: (( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك لـه وبذلك أُمِرتُ وأنا أول المسلمين)) ( أنعام 163 ) والمسلمون متبعو عيسى في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع )) (الزمخشري، آل عمران ).

فحسب تعليم القرآن الصريح إن أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل القرآن كلهم مسلمون أي موحدون يؤمنون إيماناً واحداً بالله واليوم الآخر. وقد

ـــــــــــــــــــ ـ

(1) (( إنا كنا من قبله مسلمين )) موحّدين. (( أولئك يؤتون أجرهم مرتين )) لإيمانهم بالكتابين ( الجلالان )، بالتوحيد الذي فيهما ـ نزلت في مؤمني أهل الكتاب. والضمير في (( من قبله )) للقرآن . (( انه الحق من ربنا)) استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به. (( إنا كنا من قبله مسلمين )) استئناف آخر للدلالة على أن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ وإنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن أو تلاوته عليهم )) ( البيضاوي ) .

ـ 10 ـ

أكد القرآن ذلك إلى آخر عهده: (( مِلّة أبيكم إبراهيم، هو1 سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا )) (الحج 78 ) فالله سمّى المؤمنين به مسلمين في القرآن وفي الكتب التي سبقته منذ إبراهيم: فالدين واحد.

 

وهذا الاتفاق الجوهري على العقيدة لا يضيره اختلاف ثانوي في الشريعة؛ ففي صفحة خالدة من أواخر حياة النبي العربي يقرّ القرآن في سورة المائدة هذا التفرّق ويجعله سبب تنافس وتسابق في الخيرات .

فهو يقرّ أمّة موسى على شريعتهم: (( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله... إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما اسْتُحْفِظُوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء )) ( مائدة 47 و 48 ).

ويقرّ أمة عيسى على شريعتهم: (( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدّقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين: ولْيَحْكم أهل الإنجيل بما أَنزل فيه؛ ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون )) ( 49 ـ51 ).

ويقرّ أمّة محمد على شريعتهم: (( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه. فاحكم بينهم بما أنزل الله )) (51).

ويختم بهذا المبدإِ الجامع المانع، الشامل الكامل، الأولي النهائي: (( لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ً! ولو شاء الله لجعلكم أمّةً واحدة2 . ولكن ليبلوكم

ـــــــــــــــــــ

(1) هو: الله من قبل: من قبل القرآن في الكتب المتقدمة، وفي هذا: في القرآن (البيضاوي).

(2) لكل جعلنا منكم أيها الأمم شريعة وطريقاً واضحاً في الدين تمشون عليه ولو شاء الله لجعلكم على شريعة واحدة ولكن فرقكم فرقاً ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة )) (الجلالان) (( لكل جعلنا منكم أيها الناس شريعة ( والشرعة هي الطريق إلى الماء شبه بها

ـ 11 ـ

في ما آتاكم: فاستبقوا الخيرات )) (51) لقد جمعكم على عقيدة واحدة، ولو شاء لجعلكم على شريعة واحدة ولكن فرقكم فرقاً ليختبركم فيما آتاكم حتى تتنافسوا وتتسابقوا في الخيرات (( كلٌّ حسب شِرْعته ومنهاجه )) .

 

تلك نظرية القرآن في الأديان والأنبياء والكتب المنزلة: الدين واحد، ورسالة الأنبياء التي تحمله واحدة، والكتاب الذي يحويه رغم تعدد نسخه واحد. لذلك يكرِّر تصريحاته بشجب التفرقة بين الأديان والرسل والكتب: (( إِن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرّقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم )) ( نساء 151 ) أجل (( لا نفرّق بين أحد من رسله ونحن لـه مسلمون )) ( بقرة 136 و 285، آل عمران 84، نساء 163 ) لأن الله (( بعث النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق )) ( بقرة 213 ).

ـــــــــــــــــــ

الدين لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبدية ) وطريقاً واضحاً في الدين، ولو شاء الله لجعلكم جماعة متفقة على دين واحد في جميع الاعصار. واستدل به على أنّا غير متقيدين بالشرائع المتقدمة )) (البيضاوي) ولا هم متقيدون بشريعة القرآن. (( ولكن أراد أن يبلوكم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة هل تعملون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات معترفين بأن الله لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة أم تبغون الشبه وتفرطون في العمل )) ( الزمخشري ).

ـ 12 ـ

تذييل لنظرية القرآن في وحدة الأديان المنزلة

نجد في كتاب الملل والنحل ص 202 للشهرستاني ( طبعة Cureton Leipzig 1923) خلاصة الرأي القديم عن وحدة الدين بين أهل الكتاب وأهل القرآن ننقلها لتمام الفائدة: (( والتقسيم الضابط أن نقول: من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول وهم السفسطائية. ومنهم من يقول بالمحسوس ولا يقول بالمعقول وهم الطبيعية، ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ولا يقول بحدود وأحكام وهم الفلاسفة الدهرية. ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام ولا يقول بالشريعة والإسلام وهم الصائبة: ومنهم من يقول بهذه كلها وبشريعة ما وإسلام ولا يقول بشريعة المصطفى ص. وهم اليهود والنصارى. ومنهم من يقول بهذه كلها، وهم المسلمون )) . إذاً خلاف أهل الكتاب وأهل القرآن ليس في العقيدة حسب زعمهم بل في الشريعة وحدها كما رأينا في القرآن.

ونجد في ( حياة محمد ) لحسين هيكل خلاصة الرأي الحديث: (( صحيح أن تعاليمهم (موسى وعيسى ) تنتهي في جوهرها إلى ما تنتهي إليه تعاليم محمد في جوهرها، مع خلاف في التفاصيل ليس هنا موضع إيضاحه )) ( ص 112 ). وقال آخر: (( أما المسلمون ففي دينهم قسم مشترك بين الديانات كلها؛ فهم يؤمنون بموسى ويوقرونه، ويعتبرون التهجم على مكانته كفراً بالإسلام. وهم كذلك يؤمنون بعيسى ويكرمون مولده وينزّهون نسبته ويرون الطعن في عفاف أمه أو شرف ابنها كفراً بالإسلام. وهم يضمون إلى إيمانهم بموسى وتوراته، وعيسى وإنجيله إيماناً جديداً بمحمد وقرآنه على أساس أن النبوة الأخيرة جاءت تصديقاً لما قبلها ومحواً للفوارق والخلافات التي مزقت شمل العالم. فالإسلام هو يهودية موسى ونصرانية عيسى معاً وهدايات من قبلهما من رسل الله الأكرمين جميعاً ( التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام ص 57 ) لمحمد الغزالي.

ـ 13 ـ

ومن أحدث ما قرأنا مقالاً في مجلة الهلال 1 يناير 1955 بقلم منصور رجب الأستاذ بكلية أصول الدين في الأزهر الشريف عن رسالة الأزهر: نصّ قرآني بيّن يقرّر في صراحة أن الأديان السماوية، كلها في الأصل شيء واحد، لا فرق بين يهودية أو مسيحية أو إسلام ولذلك يقول في سـورة الشورى: شرع لكم مـن الدين ما وصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن: أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه. والبخاري نفسه نقل تفسير هذه الآية بأن قال (( أوصيناك يا محمد وأنبياءه ديناً واحداً ... وكأني بواحد يُسائل نفسه : وما الفرق إذن بين هذه الأديان؟ ـ الفرق إنما هو في الشرائع أي في الفروع ولذلك يقول القرآن الكريم في سورة المائدة (( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً. مثلاً الصلاة أصل من أصول الدين إلا أنها تختلف في الكيفية في كل شريعة عنها في الأخرى. وهكذا يقال في كل ما يتصل بهذه الناحية (47 و 148).

ـ 14 ـ

التوحيد القرآني كتابي

 

(( هو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا ))

( الحج 78 )

 

القرآن الكريم دعوة جارفة إلى التوحيد. فهل كان مستقلاً في هذه الدعوة عن الكتاب الذي نزل من قبله أَي عن الإنجيل والتوراة؟

مَن يقرأ القرآن حسب ترتيب نزوله كما ورد في المصحف الأميري1 يلحظ تطوراً ظاهراً. لقد جاء التوحيد القرآني في مكة كتابياً محضاً. ثم استقلَّ بأحكامه في المدينة قوميّاً حنيفيّاً، ولكن ظل في عقيدته وفي دعوة التوحيد كتابيّاً2 .

 

يعلن القرآن منذ السور المكيّة الأولى عن مصادره3 .

ففي آخر سورة الأعلى يقول عن تعليمه فيها: (( إن هذا لفي الصحف الأولى

ـــــــــــــــــــ

(1) للمستشرقين ترتيب تزعمه الألماني نُلْدِكه ، وللمسلمين ترتيب قد يختلف عنه، ونقل لنا صاحب الفهرست ترتيباً مقبولاً وهو يقرب من ترتيب المصحف الأميري الذي اعتمدناه في دروسنا . وقد فضلناه لمزايا سنعرض لها في حينها وللفائدة العملية .

(2) نشير في هذا الفصل إلى وحدة العقيدة بين المسلمين والكتابيين كما يراها القرآن .

(3) قضية المصادر التي يأخذ عنها كتاب منزل لا تنفي عنه ضرورة صفة الوحي والتنزيل يدرس العلماء مصادر التوراة والإنجيل والقرآن بمعزل عن مسألة الوحي فيها ودون طعن فيها. وقد أورد إنجيل متى نفسه موافقة الإنجيل للتوراة والأنبياء .

ـ 15 ـ

صحف إبراهيم وموسى )) (18 و 19). قد أخذ القرآن كرازته عن توحيد الخالق الأعلى (1 و 2) وعن الآخرة التي هي خيرُ من الحياة الدنيا وأَبقى (16 و 17) وعن فلاح من تزكّى وذكر اسم ربه فصلى (15 و 16) عن صحف إبراهيم وموسى أي عن الكتاب المقدس. قال الشهرستاني1 : (( ثم قال عزّ من قائل إن هذا لفي الصحف الأولى: فبيّن أن الذي اشتملت عليه هذه الصحف هو ما اشتملت عليه هذه السورة )) .

يسند القرآن إلى الكتاب تعليمه العام، وتعاليمه الخاصة أيضاً. ففي سورة النجم يقول: (( أَولم يُنَبّأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفّى أَلا تزرُ وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى )) (37 ـ 40) يقول: لا تحمل نفس ذنب غيرها وليس لها من سعي غيرها للخير شيء ( الجلالان ). ويضيف (( أَنّ إلى ربك المنتهى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى، وأَن عليه النشأة الأخرى، وأًنه هو أغنى وأقنى وأنه هو رب الشِعْرى وأنه أهلك عاداً الأولى وثموداً فما أبقى... فبأي آلاء ربك تتمارى! هذا نذير من النذر الأولى )) (41 ـ 56) سياق الحديث يدلنا على أنه ينقل تعاليم السورة عن صحف إبراهيم وموسى وأَنه يعتبر نفسه نذيراً من جنس المنذرين الأولين2 وهذا يدلنا على وحدة الرسالة ووحدة التعليم.

وفي سورة البروج يعطي استشهاد نصارى نجران على يد ذي نواس ملك اليمن المتهوّد مثلاً على التوحيد وصحة الإيمان بالله: (( قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، وهم عليها قعود! وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )) ( 1 ـ 10 ) قد فهم العلماء منذ سيرة ابن هشام أن المقصود بأصحاب الأخدود نصارى نجران3 . أَلا يدل هذا الاستشهاد بهم على وحدة الدين والإيمان بينهم وبين النبي العربي؟

ـــــــــــــــــــ

(1) كتاب الملل والنحل 179

(2) ((هذا نذير من النذر الأولى )) أي إنذار من جنس الإنذارات المتقدمة أو هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين ( البيضاوي ) شبيهاً بهم بالرسالة والتعليم ( الجلالان ).

(3) قال ابن هشام: (( واستجمع أَهل نجران على دين عبد الله بن الثامر وكان على ما

ـ 16 ـ

وفي سورة القمر يذكّر قومه بعاقبة الكفار الغابرين مستخلصاً من سيرتهم عبرة لقومه: (( أكفّارهم خيرٌ من أولئكم؟ أم لكم براءة في الزبر؟ )) أي (( زبر الأولين )) كتبهم كالتوراة والإنجيل ( الجلالان: شعراء )؛ يقول (( أكفاركم يا معشر العرب خير من أولئك الكفار المعدودين قوة وعدة أو مكانة وديناً عند الله تعالى؟ أم أنزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم فهو في أمان من العذاب؟ )) ( البيضاوي ). أليس فيه دليل على أن من آمن بإيمان الكتاب المقدس معه براءة من العذاب؟ ثم أليس في هذا الانتماء إلى الكتاب إشارة جلية إلى مصدر تعليمه وإيمانه؟ ويعود أيضاً إلى مثلها في قوله: (( ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مذكّر؟ وكل شيء فعلوه في الزبر )) (51 ـ 52) فتعاليمه وقصصه مأخوذة عن الكتب المقدسة التي تقدمته. وما وظيفة القرآن سوى تذكير العرب بما جاء في الكتاب المقدس: (( وقد يَسّرْنا القرآن للذِكّر فهل من مذكّر؟ )) (17 و 23 و 32 و 40).

ويطلبون من النبي آية على صحة رسالته وصدق نبوءته فيجيبهم: آيته أنه يبيّن لهم ما في الصحف الأولى: (( وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه؟ أو لم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأولى1 فيكفيه برهاناً أنه بلّغهم تعليم الكتاب. ويضيف أنه اهتدى إلى الصراط السوي يإيمانه بما في الصحف الأولى: (( قل كلٌّ متربص ! فتربصوا ! فستعلمون مَن أصحاب الصراط السوي ومَن اهتدى )) ( طه 135 ) من الضلالة، أنَحن الذين آمنا بالصحف الأولى أم أنتم المنكرون لها !

ـــــــــــــــــــ

جاء به عيسى ابن مريم من الإنجيل وحكمه ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث... فسار إليهم ذو نواس بجنوده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين ذلك والقتل فاختاروا القتل فخدّ لهم الأخدود فحرق من حرق بالنار وقتل بالسيف ومثَّل بهم حتى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً. ففي ذي نواس وجنده أنزل الله تعالى على رسوله : قتل أصحاب الأخدود.. )) ج1 ص37.

(1) (( بيِّنة )) بيان ( الجلالان ) (( ما في الصحف الأولى )) من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية فإن اشتماله على زبدة ما فيها من العقائد والأحكام الكلية إعجاز بيّن )) ( البيضاوي ).

ـ 17 ـ

يعود في الشعراء إلى الجواب على طلبهم منه آية ليؤمنوا: (( وإنه لتنزيل رب العالمين على قلبك لنكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وانه لفي زبر الأولين )) (192 ـ196) أي (( إن ذكر القرآن المنزل على محمد لفي كتب الأولين كالتوراة والإنجيل )) (الجلالان ) فآية النبي العربي مطابقة قرآنه للكتاب. ويعطيهم آية أخرى تؤيد الأولى: (( أو لم يكن لهم آية ان يعلمه علماء بني إسرائيل )) ؟ (197) والبرهان على مطابقة القرآن للكتاب شهادة علماء بني إسرائيل بذلك. ستظل هذه الشهادة منهم لـه حجته الكبرى إلى آخر حياته: ((كفى بالله شهيداً ومن عنده علم الكتاب )) ( آخر الرعد )1 .

ومحمد يعتدّ ويتقوى ويطمئن بشهادة الذين أوتوا العِلْم من أهل الكتاب لـه على موافقة تعليمه تعليمَهم: (( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل. وما أرسلناك إلا مبشّراً ونذيراً. وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكثٍ ونزلناه تنزيلاً. قل آمنوا به أو لا تؤمنوا: إن الذين أوتوا العلم من قبله2 إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سُجّداً، ويقولون سبحان ربنا إن كان وعْدُ ربنا لمفعولا. ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً )) (105 ـ 109). لقد فرح أهل الكتاب وازدادوا خشوعاً لموافقة القرآن تعليمَهم، وهكذا قويت شوكتهم تجاه المشركين، واطمأن محمد إلى تلك الموافقة وأعطاها دليلاً على صحة رسالته وصدق نزول قرآنه.

وفي فاطر يبيّن لقومه اصطفاء الله لعباده الذين يتلون كتاب الله الذي أورثوه وجاء قرآنه مصدقاً لـه: (( إن الذين يتلون كتاب الله... يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله. ـ والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ـ ثم

ـــــــــــــــــــ

(1) لاحظ أن حجة القرآن على صحته وصدقه، من إعجازه، ظهرت في العهد الأخير بمكة، وبعد البقرة لا ذكر لها في المدينة؛ أما حجته بشهادة علماء الكتاب له فتظهر من أول القرآن إلى آخره في مكة والمدينة.

(2) (( من قبله )) من قبل نزول القرآن وهم مؤمنو أهل الكتاب ( الجلالان ).

ـ 18 ـ

أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير )) (29 و 31 و 32)1 . انه يثني على مؤمني الكتاب، ويستجلب الثناء لنفسه لأن قرآنه من الكتاب (( وحقيقته تستلزم موافقته إياه في العقائد وأصول الأحكام )) ( البيضاوي ) وفضل الله الكبير في اصطفاء أهل الكتاب وتوريثهم الكتاب. انه يشهد لأهل الكتاب ويستشهد بهم. ألا يخيّل إليك ان صاحب هذا الاعتقاد واحد منهم؟

 

القرآن يأخذ (( من الكتاب )) . لا بل يأمر نبيّه أن يهتدي بهدى الكتاب وأهله.

في صفحة رائعة من سورة الأنعام يحرّض القرآن محمداً على الاقتداء بهدى أنبياء الكتاب المقدس: يذكر سلسلة الأنبياء المحسنين الصالحين الذين فضلهم على العالمين (( ومن آبائهم وذريّاتهم وأخوانهم، واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم: ذلك هدى الله يهدي به مَن يشاء من عباده. ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ـ أولئك أتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة فإن يكفر بها هؤلاء ( مشركي مكة ) فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ( أهل الكتاب ) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدِه ْ)) (83 ـ 90 ). مَن هم المقصودون الذين

ـــــــــــــــــــ

(1) (( ان الذين يتلون كتاب الله )) القرآن أو جنس كتب الله فيكون ثناءً على المصدّقين من الأمم. (( والذي أوحينا إليك من الكتاب )) يعني القرآن و (( مِن )) للتبيين أو الجنس أو التبعيض. (( مصدقاً لما تقدمه من الكتب السماوية )) ، حال مؤكدة، لأن حقيقته تستلزم موافقته إياها في العقائد وأصول الأحكام. (( ثم أورثنا الكتاب )) منك أو من الأمم السالفة والعطف على (( إن الذين يتلون )) ـ (( والذي أوحينا إليك )) اعتراض ( البيضاوي ) ((ثم أورثنا الكتاب )) (32) آية زيدت فيما بعد لتحدّ من ثناء الآية 29على أهل الكتاب فتبين أنهم لا يستحقون كلهم هذا الثناء إذ منهم ظالم لنفسه بالتقصير، ومنهم مقتصد في عمل الخير، ومنهم سابق بالخيرات ؛ وهكذا بعطفه الآية 32 على 29 يكون الذين اصطفاهم الله من عباده هم أهل الكتاب الذين يستشهد محمد بهم.

ـ 19 ـ

يجب أن يقتدي النبي بهداهم ؟ (( هم الأنبياء المذكورون ومتابعوهم. والمراد بهداهم ما توافقوا عليه مـن التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها فإنها ليست هـدى مضافاً إلى الكل1 )) . إذن يحرّض القرآن النبي على الاقتداء بهدى وتوحيد ودين أنبياء الكتاب ومتابعيهم من اليهود والنصارى. وبعبارة أصرح يأمر القرآن محمداً أن يتّبع أهل الكتاب في هداهم وإيمانهم على آثار أنبيائهم. فهدى الكتاب المقدس هو وحده صراط القرآن المستقيم.

فهل بعد هذا التصريح من شك في أن محمداً كان يدعو إلى التوحيد الكتابي في مكة ويهتدي بأنوار الكتاب المقدس ؟ وانه يسترشد (( بمن عنده عِلْم الكتاب )) ( رعد 45 ) ؟

وفي سورة الأنعام أيضاً يجعل القرآن ذاته تفصيل الكتاب: (( أفغير الله ابتغي حَكَماً وهو الذي أَنزل إليكم الكتاب مفصّلاً؛ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، فلا تكوننَّ من الممترين )) (114) لاحظ من تعريف (( الكتاب )) في الموضعين أن المنزل على محمد والمنزل من قبل واحدٌ؛ والثاني تفصيل الأول.

ويدعو محمد قومه إلى (( دراسة )) الكتاب الذي نزل على طائفتين من قبلهم فقد كانوا إلى زمانه غافلين عن دراستهم: (( أن تقولوا إنما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنّا عن دراستهم لغافلين )) ( انعام 176 )2 ؛ فسبب نزول

ـــــــــــــــــــ

(1) البيضاوي بخلاف الجلالين اللذين يزعمان أن المقصودين هم (( المهاجرون والأنصار )) لا ذكر لهم في سياق الحديث بل الحديث كله عن أنبياء الكتاب. والآية (( أولئك الذين هدى الله )) بدل من (( أولئك الذين آتيناهم الكتاب )) . ويجب أن يهتدي المهاجرون والأنصار بهدى النبي لا العكس ! والآية مكية فلا وجود بعد للمهاجرين والأنصار.

(2) (( إنما أنزِل الكتاب على اليهود والنصارى وإنَّا كنا عن قراءتهم لغافلين )) (الجلالان) (( أن تقولوا: كراهة أن تقولوا علة لإنزاله ؛ أنزل على اليهود والنصارى، ولعل الاختصاص في (( إنما )) لأن الباقي المشهور حينئذٍ من الكتب السماوية لم يكن غير كتبهم؛ ودراستهم أي قراءتهم )) (البيضاوي).

ـ 20 ـ

القرآن (155) هو عدم قراءتهم للكتاب الذي نزل على اليهود والنصارى لجهلهم لغته، وهو ينقله لهم بلسان عربي مبين ليقرأوه. فيفهمون منه جليّاً أنه درس الكتاب الذي ينقله لهم ويدعوهم إلى دراسته: (( وليقولوا: درست1 )) أي (( ذاكرتَ أهل الكتاب أو درستَ كتب الماضين وجئتَ بهذا منها )) ( الجلالان ).

فهل من شهادة أوضح وأصرح على اتصال محمد بأهل الكتاب، ودرسه، ونقل القرآن عن الكتاب؟

ويرجع إلى الاستشهاد بأهل الكتاب في سورة سبأ: (( ويرى الذين أوتوا العلم2 الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق، أو يهدي إلى صراط العزيز الحميد )) (6) يستشهد دائماً بالذين أوتوا العلم المنزل؛ وهؤلاء يشهدون لـه بصحة تعليمه التوحيد وأحكامه، وشهادتهم لـه هي حجته الكبرى.

وفي سورة الأحقاف يصرّح نهائياً بما لا يقبل الشك أن إمام القرآن كتاب موسى: (( قل ما كنت بدْعاً من الرسل ! وما أدري ما يفعل بي ولا بكم، إنْ اتّبع إلا ما بوحي إليَّ ! وما أنا إلا نذير مبين. قلْ أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ـ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ـ ... وإذا لم يهتدوا به فسيقولون: هذا إفك قديم! ومن قبله كتاب موسى إِماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين )) ( 9 ـ 12 )3 . لقد شهد شاهد من بني إسرائيل على أن القرآن مثل التوراة، كيف

ـــــــــــــــــــ

(1) في قراءة: دارستَ أي ذاكرت أهل الكتاب. وفي قراءة درست من الدرس القراءة والتعليم. وجاز اضمار ( أهل الكتاب ) لشهرتهم بالدارسة ـ عن البيضاوي.

(2) (( الذين أوتوا العلم )) مؤمنو أهل الكتاب (الجلالان).

(3) (( ما كنتُ بِدْعاً من الرسل )) بديعاً منهم أدعوكم إلى ما لا يدعون إليه أو أقدر على مـا لم يقدروا عليه. (( ما أدري ما يفعل بي ولا بكم )) في الدارين على التفصيل. (( وشهد شاهد على مثله )) اعتراضية، والشاهد عبد الله بن سلام بقول الجميع وقيل هو موسى وشهادته ما في التوراة، على مثل القرآن، وهو ما في التوراة من المعاني المصدقة للقرآن

ـ 21 ـ

لا وإِمام القرآن كتاب موسى، وهو كتابٌ مصدقٌ التوراة لساناً عربَياً، لينذر المشركين وبشرى للمؤمنين بالكتاب والقرآن ـ لا فارق بين الكتابين ولا جديد سوى اللسان العربي.

كما أن الكتاب السماوي إمـام للكتاب المنزل ( يس 12 ) كذلك كتاب موسى إمام للقرآن ( أحقاف 12 ).

في سورة الأنبياء يوضح تضامنه مع أهل الكتاب في التوحيد، تجاه جميع المشركين: (( أم اتخذوا من دونه آلهة! قل هاتوا برهانكم ! هذا ذكرُ من معي وذكرُ من قبلي1 ! بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون. وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إِله إلا أنا فاعبدون )) (24 ـ25) رسالة الأنبياء جميعهم هي التوحيد، وهو تعليم القرآن والإنجيل والتوراة والمؤمنين بها. فبرهان النبي المتواصل على صحة دعوته هو ذكر مَن قبله من المؤمنين المطابق للقرآن. يكثر في هذه الفترة من الاستشهاد بأهل الكتاب ، على كل شيء: ((وما أرسلنا من قبلك إِلا رجـالاً نوحي إليهم : فسْـئلوا أهل الذكر إِن كنتم لا تعلمون)) ( أنبياء 7 ) (( أهل الذكر هم العلماء بالإنجيل والتوراة فإنهم يعلمونه وأنتم إلى تصديقهم أقرب من تصديق محمد، فاسألوهم. ( الجلالان ). ويختم أخبار الأنبياء في هذه السورة بقوله: (( إنّ هذه أمّتُـكم، أمّة2 واحدةٌ. وأنا ربكم فاعبدون )) (92) أمّة الأنبياء واحدة وهي

ـــــــــــــــــــ

المطابقة لها، (( فآمن )) بالقرآن لما رآه من جنس الوحي مطابقاً (( للحق )) (البيضاوي) (( لينذر الذين ظلموا المشركين )) (( وبشرى للمحسنين )) المؤمنين (الجلالان) (( إفك قديم )) افتراء على الله منذ الإنجيل والتوراة مثل قوله (( أساطير الأولين ))

(1) (( ذكر مَن معي وذكر من قبلي )) من الأمم وهو التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله فليس في واحد منها أن مع الله إلها مما قالوا )) الجلالان.

(2) (( إن هذه أمَّتُـكم )) وقرِئ (( أمتَكم )) بالنصب على البدل من هذه (( وأمَّته )) بالرفع على الخبر؛ وقرِئتا بالرفع على أنهما خبران والمراد أن ملَّة التوحيد أو الإسلام ملتُكم التي يجب أن تكونوا عليها فكونوا عليها أمة واحدة غير مختلفة بين الأنبياء ولا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع )) (البيضاوي).

ـ 22 ـ

أيضاً أمتهم، فاتبعوها. وفي آخر سورة الأنبياء ينقل آية بنصها الحرفي عن المزامير التي أخذتها عن التوراة: (( ولقد كتبْنا في الزبور من بعد الذكر ( التوراة ) أن الأرض يرثها عبادي الصالحون1 )) فالوحي حسب القرآن واحد من نوح إلى إبراهيم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد. كما نقل آية أخرى في سورة الحج (( وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون )) : من ينقل عن كتاب ألا يؤمن به، ألا يعرفه، ألا يتضامن معه؟ أيجوز أن يتنكر لـه، أو يتهمه بالتحريف، أو يدّعي نسخه ؟

 

حجة محمد الكبرى كما رأيت هي شهادة أهل الكتاب له. فهو يحيل سامعيه في سورة النحل إليهم ليستوثقوا منهم عن صحة ما يوحى إلى محمد: (( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم: فسْـئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزُّبر. وأَنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلّهم يتفكّرون )) ( نحل 43 و 44 )؛ إن كانوا يجهلون المعجزات المنزلة والكتب المقدسة فهو يعلمها وهي تقول بإرسال البشر للبشر لا الملائكة. وإن كنتم لا تعلمون ولا تصدقوني فاسألوا العلماء بالتوراة والإنجيل فإنهم يعلمونه وأنتم إلى تصديقهم أقرب ( الجلالان ). ألاحظ أن الوحي القديم والجديد كلاهما وردا بلفظ واحد معرّف بأل للدلالة على وحدة التعليم؛ وأن وظيفة التعليم الجديد هي تذكير الناس بما نُزِّل إليهم من قبل لعلهم يتفكرون. وأهل مكة يشهدون له أن قرآنه من خرافات الأولين: (( وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أساطير الأولين )) ( نحل 24 ) وهم بالذِكْرَين كافرون.

لا بل يأمر القرآن محمداً في يونس إذا ارتاب من نفسه ومن صحة ما يوحَى إليه أن يطمئن نفسه ويوطّد إيمانه عند أهل الكتاب الأول: (( فإن كنت

ـــــــــــــــــــ

(1) لقد فهم الجلالان هذه الآية فهماً خاطئاً . قال البيضاوي : (( الزبور كتاب داود، والذكر التوراة )) .

ـ 23 ـ

في شك مما أنزلنا إليك فاسْـئَلِ الذين يقرؤن الكتاب من قبلك1 : لقد جاءك الحق من ربك فلا تكوننَّ من الممترين ، ولا تكوننَّ من الذين كذَّبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين )) ( يونس 94 ) يقول: (( إن كنت يا محمد تشك فيما أَنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون التوراة من قبلك فإنه ثابت عندهم يخبروك بصدقه فلا تكونن من الشاكّين فيه )) ( الجلالان ) فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك فإنه محقق عندهم ثابت في كتبهم على نحو وما أَلقينا إليك: والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة وأنَّ القرآن مصدّق لما فيها؛ ثم وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزِل إليه ( البيضاوي ). وإذ كان يجب على النبي العربي أن يتثبّت من إيمانه وتعليمه لدى علماء اليهود والنصارى أفلا يكونون هم أساتذته في الدين والتوحيد؟

وفي سورة يونس أيضاً يصرّح بأن القرآن تفصيل الكتاب: (( وما كان هذا القرآن ليفتري من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه ( قبله ) وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين )) (37). لا ريب أن القرآن تصديق الكتاب الذي سبقه وتفصيل لـه: فكيف نشك بعد ذلك أنه ليس منه ولا يأخذ عنه ! ألا نفهم أنه يبلّغ العرب تعليم الكتاب بلسان عربي، وأنه يعتبر قرآنه نسخة عربية عن الكتاب؟

وفي سورة هود صدى لما ورد في الأحقاف: (( أفمن كان على بينة من ربّه ـ ويتلوه شاهد منه ـ ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً: أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده. فلا تكُ في مرية منه، إنـه الحقُّ من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون )) (17)2 فلا تشك يا محمد بالحق

ـــــــــــــــــــ

(1) أليس في هذا النص إشارة إلى أنه كانت تنتابُ محمداً سورات من الشك يتغلب عليها بإرشادات أهل الكتاب؟ وشك محمد من نفسه ومن صدق وحيه وإيمانه ( يونس 94 ) يأتي بعد التأكيد من أن القرآن تفصيل الكتاب من رب العالمين ( 37 ).

(2) قال البيضاوي: (( أفمن كان على برهان من الله يدل على الحق والصواب، والهمزة للإنكار أغنت عن الخبر ـ وقيل المراد به النبي أو مؤمنو أهل الكتاب. (( ويتلوه شاهد

ـ 24 ـ

الذي معك فإنه يشهد لـه من كان على بيّنة من ربه وهم أهل العلم من مؤمني الإنجيل والتوراة، فإنهم (( يؤمنون به )) ولو أنكره أهل مكة ومن تحزّب معهم. ألا يكفيه شهادةً أن إمامه كتاب موسى. فالقرآن ذاته ينوّع التصاريح على أن (( قاعدة )) القرآن في تعليمه هي الكتاب: والترديد المتواصل زيادة في التأكيد.

وفي سورة السجدة يعود إلى تأكيد علاقة النبي العربي بموسى والتوراة: (( ولقد آتينا موسى الكتاب، فلا تكن في مرية من لقائه1 ، وجعلناه هدى لبني إسرائيل، أو جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون )) (23 و 24)؛ أي لا تشك يا محمد في اتصالك بكتاب موسى بواسطة أئمة بني إسرائيل فإنهم يهدون بأمرنا إلى هدى الكتاب كما يفعلون معك.

وفي سورة الشورى يُعطي نظريته في طريقة الوحي والتنزيل، ومكانه منها: (( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم. وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا. ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتَهْدي ( لَتُهْدَى ) إلى صراط مستقيم،

ـــــــــــــــــــ

منه )) أي يتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل شاهد من الله يشهد بصحته وهو القرآن ( قال الجلالان : وهو جبريل ). ومن قبل القرآن كتاب موسى ( بالضم ) أي التوراة، إماماً أي كتاباً مؤتمّاً به في الدين. وقُرِئ ((كتاب موسى )) ( بالنصب ) عطفاً على الضمير في يتلوه أي يتلو القرآن شاهد مما كان على بينة دالة على أنه حق، كقوله (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) . (( أولئك يؤمنون به )) إشارة إلى من كان على بينة . (( من الأحزاب )) أهل مكة ومن تحزب معهم. (( فلا تك في مرية نفسه )) في شك من المولى أو من القرآن )) . ـ نقول ألا يستفاد من هذا النص أنه كان يتلو لمحمد القرآن والكتاب في هذه الفترة إسرائيلي !؟

(1) (( من لقائه )) من لقائك الكتاب أو موسى أو من لقاء موسى الكتاب. (( وجعلناه المنزل على موسى. وجعلنا منهم أئمة يهدون الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام )) البيضاوي. ـ هذا مديح رائع على صحة إيمانهم وتعليمهم الكتاب

ـ 25 ـ

صراط الله )) (51 و 52) وقال في مطلع السورة: (( كذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك اللهُ العزيز الحكيم )) (2) دالاً على مواصلة الوحي في موضوعه ونوعه1 لكن هذا الوحي كان على طرائق ثلاث: بالوحي أي بالمشافهة أو المناداة كما وقع للمسيح؛ أو من وراء حجاب كما حصل لموسى عند قبة الشهادة؛ أو بواسطة رسول منه إلى النبي. وهذه الطريقة الثالثة، في العدد والرتبة، كانت من نصيب محمد وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا. وكيف كانت واسطة الوحي هذه عند النبي العربي؟ كانت بواسطة الإيمان بالكتاب الذي نزل من قبله فقد جعله الله نوراً يَهْدي به من يشاء، وابن عبد الله اهتدى به إلى صراط الله المستقيم. فبواسطة الكتاب المقدس الذي آمن به اهتدى وهدى (( وقل آمنتُ بما أنزل الله من كتاب2 وأمرتُ لأعدِلَ بينكم )) ( شورى 15 ).

أخيراً في سورة العنكبوت يأتي التصريح النهائي بوحدة الإيمان والتعليم بين الكتاب والقرآن، بين محمد والنبيين قبله بين أهل القرآن وأهل الكتاب: (( اتلُ ما أوحيَ إليك من الكتاب ( فالقرآن من الكتاب ) ... ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم ـ وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزِل إليكم ( بالقرآن والكتاب على السواء )، وإلهنا و إلهكم واحد ( هذا هو وموضوع ديننا المشترك ) ونحن له مسلمون ( موحّدون، وهذا

ـــــــــــــــــــ

(1) أي يوحي مثل ما في هذه السورة من المعاني أو إيحاءً مثل إيحائها أوحى الله إليك وإلى المرسل من قبلك. وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحي وإن إيحاء مثله عادته ( الآية 2 ) (( وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحياً )) كلاماً خفياً يدرك بسرعة لأنّه تمثيل ليس في ذاته مركباً من حروف مقطعة يتوقف على تموجات متعاقبة وهو ما يعم المشافه به والمهتف به. (البيضاوي والجلالان) (( وحياً )) في المنام أو بإلهام (( من وراء حجاب )) بأن يسمعه ولا يراه (( أو يرسل رسولاً )) ملكاً كجبريل ((فيوحي )) الرسول إلى المرسل إليه أن يكلمه ما يشاء الله . (( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا )) يعني ما أوحي إليه وقيل جبريل أرسلناه إليك بالوحي. (( ولكن جعلناه )) الروح أو الكتاب أو الإيمان، والأفضل الكتاب حسب سياق المعنى. (( وإنك لَتَهْدِي)) وفي قراءة أخرى (( لَتُهْدى )) .

(2) (( من كتاب )) يعني جميع الكتب المنزلة قبله (البيضاوي).

ـ 26 ـ

موضوع إيمانا المشترك ). وكذلك (( أنزلنا إليك الكتاب ( فالقرآن هو الكتاب الذي نزل من قبل ) : فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به، ومن هؤلاء ( أهل مكة ) من يؤمن به، وما يجحد بآيتنا الا الكافرون ( مشركو العرب ) ... بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أُوتوا العلم (اليهود والنصارى ) وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون )) (45 ـ 50). في آخر عهده بمكة يتحقق محمد أن اليهود والنصارى وبعض العرب الذين انضموا إليه متفقون على وحدة الكتاب ووحدة الوحي ووحدة الإيمان ووحدة الدين، وما جحد بالقرآن إلا كفار مكة الظالمون. فكما أنزل الله الكتاب من قبل نوراً يهدي به أنزله اليوم وأوحى منه إلى محمد، وأهل العلم بالكتاب شهداء على ذلك.

 

وهكذا كانت الدعوة الإسلامية في مكة كتابية من كل نواحيها.

كانت كتابية في مصدرها.

فالقرآن يعتبر ذاته نسخة عن الكتاب بلسان عربي مبين: (( إن هذا ( القرآن ) لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى )) ( الأعلى 18 و 19، النجم 37، طه 133، شعراء 192 )؛ كل الآيات التي نقلناها تدل على أنه كان يهتدي بالكتاب المقدس ويهدي به ( شورى 52 ، عنكبوت 50 ) .

كانت كتابية في موضوعها.

فالقرآن يدعو إلى الإيمان بالله واليوم آخر، أولاً بنداءاته ثم بقصصه. يأمره وحيُه أن يقتدي بهدى الكتاب وأَهله ( أنعام 90 ). ويصرّح بما لا يقبل الشك أن إِمام القرآن كتابُ موسى ( أحقاف 12، هود 17) . ويعلن بأجلى بيان أن القرآن تصديق الكتاب وتفصيله (يونس 17، أَنعام 114 ).

ـ 27 ـ

كانت كتابية في طريقتها.

أي كانت دعوى دينية اجتماعية. مزج محمد الإصلاح الاجتماعي بالديني، لا بل كان الإصلاح الاجتماعي سبيلاً إلى الإصلاح الديني. كما كان يكرز قبله في سورية الأرامية يوحنا فم الذهب وأفرام السرياني أو السوري. بدأ محمد كرازته مثل الإنجيل. (( بدأ يسوع يطوف القرى كلها يبشّر قائلاً: توبوا فقد اقترب ملكوت الله )) كذلك القرآن: (( إنَّ إلى ربك الرجعى )) ( علق 8 ) (( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى )) ( أعلى 16 ). وكما بدأ الإنجيل شريعته على الجبل بتطويب المحرومين والدعاء بالويل على الأثرياء الفاسقين: (( طوبى لكم أيها المساكين ! طوبى لـكم أيها الجياع ! طوبى لكم أيها الباكون ! ولكن ويل لكم أيها الأغنياء ! ويل لكم أيها المشبعون ! ويل لكم أيها الضاحكون )) ( لوقا ف 8 ع 20 ـ 26 ) كذلك كانت كرازة محمد في مطلعها: (( ويل لكل هُمَزة لُمَزة الذي جمع مالاً وعدّده )) ( همزة 1 و 2 ) (( فأما اليتيم فلا تقهر ! وأما السائل فلا تنهر )) ( الضحى 9 و 10 ) (( أرأيت الذي يكذّب بالدين، فذلك الذي يَدُعُّ اليتيم ولا يحض على طعام المسكين )) ( ماعون 1 ـ 4 ) وما تنفع صلاة الغاشين الوزن والكيل (( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يُراؤون، ويمنعون الماعون1 )) ( 5 ـ 7 ) (( فويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهـم أو وزنوهم يُخْسِرون )) ( المطففين 1 ـ 2 ). ومن الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي ارتقى إلى الدعوة للإصلاح الديني، ومن الكرازة باليوم الآخر وعداً ووعيداً انتقل إلى تعليم التوحيد.

كانت الدعوة الإسلامية كتابية في قصَصِها.

والقصص القرآني طريقة خاصة بمحمد حاول بها الاقتداء بأمثال الإنجيل، ونقل أخبار الأنبياء الأولين وهي تملأ القسم الثاني من السور المكية: (( ولأخبار القرآن أمثلة تقابلها في التوراة خلا بعض الأنبياء الذين قصتهم عربية محضة، كذلك عاد وثمود ولقمان وأصحاب الفيل وخلا قصتين ترمزان إلى الاسكندر

ـــــــــــــــــــ

(1) كل آلة وزن وكيل.

ـ 28 ـ

وإلى أصحاب الكهف1 )) . وهكذا تعليمه وأخباره وأسلوبه كتابي بلسان عربي مبين.

 

وكانت الدعوة القرآنية كتابية في جدلها.

حجة محمد على صحة رسالته وصدق نبوءته من إعجاز القرآن، موقوتة عابرة ظهرت في أواخر العهد بمكة ولم تتعدَّ سورة البقرة ( يونس 38، هود 13، إسراء 88، بقرة 23 ). أما استشهاد القرآن بأهل الكتاب وشهادتهم لـه على صحة تعليمه التوحيد فهي من أول سورة إلى آخر سورة. وكفى بما نقلناه في هذا البحث دليلاً. حتى أن محمداً نفسه يؤمَرُ أن يستطمن عن صحة تعليمه وإيمانه ووحيه لدى أهل الكتاب: (( فإن كنت في شك مما أوحينا إليك فسْئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك: لقد جاءك الحق من ربك فلا تكوننَّ من الممترين )) (يونس 94 ).

هكذا (( فمن البيّن أنه كان في ظل المؤثرات اليهودية والنصرانية. ويؤكد هذا فكرة التوحيد والوحي نفسها والعناصـر الكثيرة التي تعود إلى الكتاب المقدس عن طريق غير مباشر2 )) .

 

ثم كانت الهجرة إلى المدينة، ذلك الانقلاب الشامل الكامل:

انقلاب في الدعوة، قد دخلت السياسة الدين !

انقلاب في الداعية، الذي أصبح رجل دولة وحروب !

ـــــــــــــــــــ

(1) فيليب حتي: تاريخ العرب ج1 ص173 .

(2) برنار لويس: العرب في التاريخ ـ راجع في تاريخ العرب ج1 ص 173 موجزاً للمواضع التي أخذ فيها القرآن عن الكتاب مباشرة: (( العبارات التي تتوازى في الكتابين المقدسين ... والآيات حيث التشابه صريح... والأمثال السامية الواحدة. وأكثر الأمثلة على التوازي بين الكتابين هي بين إنجيل متى والسور المكية )) .

ـ 29 ـ

انقلاب في طريقة الدعوة، لقتال المشركين حتى يؤمنوا، والكتابيين حتى يخضعوا للجزية !

انقلاب في الأسلوب، كان (( بالحكمة والموعظة الحسنة )) فصار بالقتال والجهاد !

لقد دخلت السياسة الدعوة الإسلامية فغيّرت في موقفها من أهل الكتاب لقد أمل محمد أن يجد بهجرته إلى المدينة، نصرةً عند يهودها لوحدة التوحيد بينه وبينهم، فينتصر بهم على قريش فيدينوا بالإسلام عنوةً واقتداراً بعد أن رفضوه اختياراً. فشعر اليهود أن النبي يريد أن يستعلي عليهم، وخشوا خطره فرفضوا اتباعه والاعتراف به فوقعت الواقعة بينه وبين أنصار الأمس أصحاب الدعوة الواحدة.

لقد جمعهم الدين ففرقتهم السياسة. وأن السور المدنية لتصف لنا تطوّر الاستقلال الإسلامي الذاتي، فالانفصال (( الطائفي ))1 .

ـــــــــــــــــــ

(1) نجد في السور المكية بعض آيات مدنية زيدت عليها بقصد أو بدون قصد من زمن متأخر لِتُظهر أن استقلال محمد الديني عن أهل الكتاب كان منذ أول العهد في مكة. ليس الأمر كذلك. فما أوردناه سابقاً يؤكد بأن توحيد القرآن كان في مكة كتابيّاً محضاً، لا حنيفياً. وما تحوّل التوحيد الكتابي في القرآن حنيفياً إلا في المدينة بعد أن اصطدم محمد مع اليهود فاستقل عنهم بإنشاء (( ملة وسط )) على طريقة الحنفاء، وقد كان هؤلاء عَرَباً موحدين تأثروا بالتوحيد الكتابي فتركوا الوثنية والشرك واعتنقوه ولكن لم يعملوا بشرع التوراة أو الإنجيل بل ظلوا مواظبين على عادات بلادهم.

وتلك الآيات الزائدة على السور المكية في العهد المدني هي: 1 ـ (( وأمرتُ أن أكون من المؤمنين ( زادوا عليها ) وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكوننَّ من المشركين )) ( يونس 105 ) انها زائدة لمعارضتها الآية 94 التي تحيل النبي إلى أهل الكتاب ليطمئنوه على صحة وحيه. 2 ـ (( قل إني هداني ربي إلى صراط مستقيم ( زادوا عليها ) ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين )) ( انعام 162 ) فالزيادة ظاهرة من تغيير الإعراب ومن معارضة الآيات 154 ـ 157و 115و 90 حيث يؤمر بالاقتداء بهدى الكتاب وأهله. 3 ـ (( ثم أوحينا إليك أن أتَّبع ملَّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين )) ( نحل 132 ): كل النص المجاور من المدنية بروحه ومعناه. 4 ـ (( فأقم وجهك للدين حنيفاً فِطرت الله التي فطر الناس عليها، ذلك الدين القيم )) ( روم 30 ) إنها زائدة لأنها تقطع سياق الحديث مثل الآيات 38و 39.

ـ 30 ـ

لقد ظلوا متفقين في عقيدة التوحيد، وتميز محمد عنهم في الشريعة والمنهاج.

 

ففي سورة البقرة يظهر استقلال النبي العربي عن أهل الكتاب بإنشاء (( ملة وسط )) . ليست الملة شيئاً فالأصل التوحيد: (( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كانوا هوداً أو نصارى! ـ تلك أمانيّهم ! قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. بل من أسلم وجهه لله1 وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) (111 و 112). فالخلاص في التوحيد وليس في ملة بعينها؛ لذلك لـه الحق أن يستقل عنهم، لا بل يجب عليه ذلك: (( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملتهم ! ـ قل إن الهدى هدى الله، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءَك من العلم، ما لك من الله من ولي ولا نصير )) (120). والأفضل إذن أن يتبع ملة إبراهيم التي يتبعها حنفاء زمانه2 مسمّين إياها (( الحنيفية )) : (( وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ! ـ بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين )) (125). فإبراهيم والآباء والأسباط كانوا موحدين قبل نزول الإنجيل والتوراة (140) فيحق لمحمد وقومه كما يقول الحنفاء أن ينتسبوا هم أيضاً إلى إبراهيم مباشرة وأن يستقلوا عن أهل الكتاب. (( وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً3 لتكونوا شهداء على الناس

ـــــــــــــــــــــــ

(1) من هنا اشتقت لفظة (( الإسلام )) ويتبين لنا أن معناها الأصلي (( التوحيد )) . كما جاء أيضاً في الأنبياء : (( قل إنما يوحي إلي أنما إلهكم واحد فهل أنتم مسلمون )) ( 108 ) يقترن الإسلام بالتوحيد لفظاً ومعنى. ويوضحه في موضع آخر (( أخلص دينه لله )) ( نساء 145 ).

(2) (( وتشير الأخبار الإسلامية إلى قوم يسمون بالحنفاء: وهم مكيون وثنيون (في الأصل) لم يقنعوا بعبادة الأصنام السائدة بين قومهم وبحثوا عن صورة من الدين أطهر ولكنهم كانوا غير راغبين في اعتناق اليهودية أو النصرانية. وقد يكون مـن الصحيح أن نبحث بينهم عن أصول محمد الـروحية )) (العرب في التاريخ ص 50) .

(3) (( أمة وسط )) أي خياراً أو عدولا مزكّين بالعلم والعمل. وهو في الأصل اسم المكان الذي يستوي إليه المساحة من الجوانب، ثم أستُعير للخصال الحميدة لوقوعها بين طرفي

ـ 31 ـ

ويكون الرسول عليكم شهيداً )) (143) وتمّ الاستقلال باختيار يوم الجمعة للصلاة، وبتغيير القِبْـلة، شعار الدين والمِلّة: (( ولئن أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آيةٍ ما اتبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعضٍ ! ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين )) (145). فسبب الانشقاق (( الأهواء )) التي عصفت بالقوم ! مع ذلك فالاستقلال في الملة ليس انفصالاً في الدين وعقيدة التوحيد لأنه (( لكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها، فاسـتبقوا الخيرات )) (148)1 . ولأن الأصل الأساسي الجامع هو الإيمان بالله واليوم الآخر: (( ليس البِرّ أن تولوا وجوهكم قِبَلَ المشـرق والمغرب، ولكن البِرّ مَن آمن بالله واليوم الآخر )) ( 177). وهذا الأساس هو واحد عند الجميع.

 

في سورة آل عمران، بعد واقعة بدر وانتصار المسلمين، يتمكّن الاستقلال عن أهل الكتاب باعتناق الحنيفية القومية العربية. في هذه الفترة يسمّي التوحيد الحنيفي (( إسلاماً )) والموحّدين (( مسلمين )) ويصير إبراهيم، جدّ الموحدين، (( حنيفاً مسلماً )) .

ليس الدين مقصـوراً على اليهود والنصارى بل الدين القيّم هو الإسـلام لله بتوحيده: (( شهد الله أَنه لا إله إلا هو، والملائكة، وأولو العلم، قائماً بالقسط2

ـــــــــــــــــــ

افراط وتفريط. ثم أطلق على المتصف بها، مستويا فيه الجمع والواحد والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي وصف به )) ( البيضاوي ). (( وسطاً: خياراً وهي صفة (( بالاسم الذي هو وسط الشيء )) . وعندي أن تلك الأمة صارت وسطاً لتوسُّط دينها بين الكتابيين والمشركين العرب، فأخذ عن أهل الكتاب عقيدتهم في التوحيد، وعن العرب عوائدهم في الشرائع، كالحنفاء.

(1) (( ولكلّ وجهة )) قبلة أي لكل أمةٍ قبلة. وعادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة (عن البيضاوي).

(2) (( قائماً بالقسط )) : وانتصابه على الحال من الله أو من هو والعامـل فيها معنى الجملة، أو للمدح. و قُرأ (( القائم بالقسط )) على البدل من هو أو الخبر المحذوف )) (البيضاوي)

ـ 32 ـ

لا إله إلا هو العزيز الحكيم: إن الدين عند الله الإسلام ! وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بَغياً بينهم )) ( آل عمران 18 و و19 )1 . لم يختلفوا في العقيدة بل اختلفوا في التشريع والأحكام المفروضة بالتوحيد الكتابي فيقول: ((فإن حاجّوك فقل أَسلمت وجهي لله ومَنِ اتبعنِ )) (20). لا بل التوحيد يكفي: (( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ( الذين لا كتاب لهم كمشركي العرب ) أَأَسلمتم؟ فإن أَسلموا فقد اهتدوا؛ وإن تولّوا فإنما عليك البلاغ )) (20). كيف تخالفون يا أَهل الكتاب، وقد اتفق الأنبياء على إسلام التوحيد: (( فالمسيح كان مسلماً والحواريون تلاميذه كذلك )) ( 51 و 52 ) وإبراهيم أيضاً كان حنيفاً مسلماً: (( يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أَفلا تعقلون؟ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين )) ( 64 ـ67 ). ـ في السور المكية كان إبراهيم من المؤمنين فقط فصار في سورة البقرة حنيفاً (135) وأمسى في آل عمران مسلماً (67). ـ لذلك فمحمد والحنفاء

ـــــــــــــــــــ

وعندي أنه خبر لمحذوف ( مَن كان منهم قائماً بالقسط ) وهو بدل من (( أولو العلم )) أي أهل الكتاب الذين لا يقتلون الذين يأمرون بالقسط (آية 21 )، ولا يوصف الله أو الملائكة بالعدل لأنه من خصائصهم المفروضة.

(1) (( إن الدين عند الله الإسلام )) بدل من (( شهد الله أنه لا إله إلا هو )) وهكذا يكون الإسلام بشهادة التوحيد لا غير؛ هذا حسب النص القاطع. إلا أنهم يتوسعون فيها. قال البيضاوي (( إنّ الدين ... جملة مستأنفة مؤكدة للأولى ( شهد ) أي لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام وهو التوحيد والتذرع بالشرع المحمدي )) . وقرأ الكسائي بالفتح ( أنّ ) على أنه بدل من ( أَنه ): بدل الكل أن فسّر الإسلام بالإيمان أو ما يتضمنه، وبدل الاشتمال أن فسر بالشريعة. فائدة هذا التوكيد أن قوله لا إله إلا هو توحيد وقوله قائماً بالقسط تعديل فإذا أردفه: ان الدين ... فقد أذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد وهو الدين عند الله )) ( الزمخشري ). (( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب )) على مَ اختلفوا ؟ من سياق الآيات ( 18و 19 ) يظهر أنهم خالفوا النبي على أن الإسلام هو التوحيد لا غير: (( اختلف الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى أَو من أرباب الكتب المتقدمة في دين الإسلام فقال قوم إنه حق وقال قوم إنه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقاً )) (البيضاوي).

ـ 33 ـ

الذين يأتمون به مباشرة والمسلمون أولى بإبراهيم من اليهود والنصارى، (( إنَّ أولى الناس بإبراهيم الذين اتبعوه ( الحنفاء ) وهذا النبي ( محمد ) والذين آمنوا ( المسلمون ) والله وليُّ المؤمنين )) (68)1 . فالتوحيد وحده هو دين الله لا دين غيره: (( أفغير الله يبغون وله أسلم مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرْهاً و إليه يُرجعون )) ( 83 ) . هكذا آمن الأنبياء جميعهم و علموا ( 84 ) (( فمن يبتغ غير الإسلام ( التوحيد ) ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين2 )) (85)، (( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين (93) قل صدق الله فاتبعوا مِلّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين )) (95).

وهكذا استقر محمد على (( مِلّة إبراهيم )) أي الحنيفيّة، متخطياً عيسى وموسى ليتصل مباشرة بجَدّ الموحدين. وهكذا جـاء الإسلام (( ملة وسـطاً )) بين الذين أوتوا الكتاب والأميين ( آل عمران 20 ) فكان على مثال إبراهيم حنيفاً، وما كان يهودياً ولا نصرانياً في شرعه، وما كان من المشركين (67).

 

في سورة النساء وما يليها يتمُّ الانفصال عن أهل الكتاب ويظهر الرسول أفضلية الإسلام أي الحنيفية الإبراهيمية على سائر مِلل التوحيد. أجل كان موحّد صالح يخلص: وقد تفاخر المسلمون وأهل الكتاب في ضرورة ملّة كل منهم للخلاص فأجاب القرآن: (( ليس بأَمانيّكم ولا أماني أهل الكتاب ! مَن يعمل سوءاً يُجزَ به ولا يجد لـه من دون الله وليّاً ولا نصيراً؛ ومَن يعمل من الصالحات من ذكر أو أُنثى وهو مؤمِنٌ فأُولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيراً )) (122 و 123). ولكن أفضلُ الموحّدين مَن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً:

ـــــــــــــــــــ

(1) هكذا فهمنا الآية 68 من آل عمران بخلاف التفسير المتبع في الجلالين والبيضاوي وهو يتعارض مع الآية 67.

(2) (( ومن يبتغ غير الإسلام )) يعني التوحيد وإسلام الوجه لله تعالى ( الزمخشري ).

ـ 34 ـ

(( ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع مِلّة إبراهيم حنيفاً، واتخذ الله إبراهيم خليلاً )) (نساء 125).

فطلبوا منه البيّنة على هذه الأفضلية (( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة )) ( بينة 1 ) والبينة التي يطلبون (( رسول من الله يتلو صحفاً مطهّرة فيها كتُبٌ قيّمة )) ( 2 و 3 ) أي نبي يتلو الكتاب فيؤمن به ويعمل بموجبه. فيجيب، لقد جاءتهم بيّنة ما في الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى: (( وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة )) المطلوبة (4). وهي في كتابهم أن التوحيد وحده هو الدين القويم: (( وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين لـه الدين، حنفاء ، ويقيموا الصلوة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة )) (6).

 

كان الإسلام في مكة توحيداً كتابيّاً محضاً، فأمسى في المدينة توحيداً قومياً عربياً على طريقة الحنفاء1 . وهذا التوحيد الحنيفي في المدينة ظلّ كتابيّاً في جوهره كما كان في مكة، ولم يتغيّر فيه إلا التشريع2 . فبينما كان في مكة ينحو منحى الشريعة الكتابية أخذ في المدينة يُهمل أحكام الإنجيل والتوراة، ويتقرّب من شرائع قومه مع صبغها ودمجها بالتوحيد كما كان يفعل الحنفاء. في سورة النساء يبيّن في آيتين متتابعتين اقتفاء القرآن سُنَن الذين من قبلكم ... يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً )) ( 25 ـ 27 ). فالتخفيف عن

ـــــــــــــــــــ

(1) (( أخذ الإسلام نفسه يتطوّر. فقد بدأ محمد ينشر ديناً جديداً بصفته خاتم النبيين. وأصبح الدين الجديد عربياً بكل ما في الكلمة من معنى )) . (العرب في التاريخ ص 58).

(2) (( وقد زادت الأمة في العادات الاجتماعية التي كانت سائدة في بلاد العرب قبل الإسلام ولم تبطلها: احتفظت بنفس الأحكام السارية في مسائل الملكية والزواج والصلات بين أفراد القبيلة الواحدة )) (العرب في التاريخ ص 56).

ـ 35 ـ

قومه في الشرائع والأحكام الكتابية هو سبب الخلاف بين محمد وأهل الكتاب وليس الإيمان بالله واليوم الآخر1 .

فالقرآن في المدينة صريح كل الصراحة كما كان في مكة على وحدة التوحيد فيه وفي الكتاب من سورة البقرة (136) إلى آل عمران (84) إلى النساء (135) كما رأينا. وهو وإنْ لام أهل الكتاب على غلوّهم في الدين، بتعبّدهم للملائكة والنبيين أرباباً ! أَيأمركم بالكفر بعد إذ أَنتم مسلمون ؟! )) ( آل عمران 80 2 ) يشهد أَن أهل الكتاب، والربانيين منهم الذين يدرسون الكتاب ويعلمونه للناس ( آل عمران 79) في حال خطابه لهم، هم مسلمون. وعندما حاول محمد أن يدعوهم إلى الإسلام أَجابوه بأَنهم مسلمون من قبله: (( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يُتلى عليهم، قالوا: آمنا به، انه الحق من ربنا ! إِنّا كنّا من قبله مسلمين )) ( قصص 52و53 3 ) أي موحدين4 فذلك (( يدل على إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ بل هو أمر تقادم عهده لما رأَوا ذكره في الكتب المتقدمـة وكونهم على دين الإسـلام قبل نزول القرآن )) ( البيضاوي ).

ـــــــــــــــــــ

(1) كما سترى تفصيل ذلك فيما بعد.

(2) الخطاب في آل عمران 80 لأهل الكتاب كما يتضح من سياق الحديث كله، ومن النص السابق، (( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون )) 79، بخلاف ما زعم البيضاوي والزمخشري أنه خطاب للمسلمين، ليعطّل هذه الشهادة القيّمة عن إسلام أهل الكتاب.

(3) قصص 52و53 (( نزلت في مؤمني أهل الكتاب، والضمير في (من قبله) للقرآن. ( انه الحق من ربنا ) استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به. ( إنا كنا من قبله مسلمين ) استئناف آخر للدلالة على أن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ وإنما هو أمر تقادم عهده لمّا رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن أو تلاوته عليهم باعتقادهم صحته بالجملة )) ( البيضاوي ).

(4) (( مسلمين )) أي موحدين ( الجلالان ).

ـ 36 ـ

ويشهد القرآن في آخر عهده أن الإسـلام الذي يكرز به إنّما هو في الكتب المتقدمة : (( وجاهدوا في الله حق جهاده: هو اجتباكم، مِلّة أبيكم إبراهيم ! هو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا1 )) : من قبلُ في الكتاب المقدس، وفي هذا القرآن ( الحج 78 )؛ فمعنى (( الإسلام )) موجود في الكتاب قبل القرآن؛ لا بل اسمُ ((الإسلام )) ذاته حسب نص القرآن القاطع موجود في كتاب اليهود والنصارى قبل كتاب المسلمين: فالله مع إبراهيم الخليل سمّى الموحّدين مسلمين في التوراة والإنجيل قبل القرآن:

قل: (( هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا )) ( الحج 78 ).

ـــــــــــــــــــ

(1) هو سمّاكم المسلمين من قبل: من قبل القرآن في الكتب المتقدمة ( وفي هذا ) وفي القرآن والضمير لله ـ وقرئ: الله سماكم ـ أو لإبراهيم. وتسميتهم مسلمين في القرآن، وان لم يكن منه، كان يسبب قوله (( أمة مسلمة لكل )) ـ البيضاوي.

ـ 37 ـ

هل نسخ القرآن الإنجيل والتوراة ؟

 

(( ما ننسخْ من آية أو ننْسها نأتِ بخير منها أو مثلها ))

( بقرة 106 )

لقد شاع بين المسلمين رأي بأن القرآن نسخ الكتاب أي أبطله، كما نسخ الإنجيلُ التوراةَ من قبل. فهؤلاء القوم يقولون بنسخ كتاب بكتاب، ودين بدين، وشريعة بشريعة.

هذا الزعم لا أساس له في الإنجيل، ولا أساس له في القرآن.

 

في الإنجيل، يقول السيد المسيح صراحة في إعلان شريعته على الجبل: (( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء: ما جئت لأنقض بل لأكملّ ! الحق أقول لكم، إنه إلى أن تزول السماءُ والأرض لا يزول من الناموس ياءٌ ولا نقطة حرف حتى يتمّ الكل )) (متى 5 : 17 ).

وقد فسّر القديس بولس في رسالته إلى الرومانيين ( رو 2 : 14 ـ 16) وإلى العبرانيين ( عب 8 : 13 ) معنى هذا التكميل: فالعقيدة واحدة ، والشريعة الخالدة واحدة قد طبعها الله في طبيعتنا قبل أن يُنزلها على موسى في الألواح (( فإذا ما الأمم الذين ليس عندهم ناموس عملوا طبيعيّاً بما هو في الناموس، فهؤلاء الذين ليس عندهم ناموس هم ناموس لأنفسهم إذ يُظهرون أنّ ما يفرضه الناموس مكتوب في قلوبهم، وضميرهم يشهد )) ( رو 2 : 14 ). ولكن هناك بعض الأحكام الثانوية المرتبطة بزمان ومكان فهي عرضة للتحوّل

ـ 38 ـ

والتطوّر والتكميل ليس من قبَل المشترع الإلهي بل على ما يقضي رقي البشرية وحاجتها على مدى العصور: وليس هذا من النسخ في شيء.

 

والقرآن الكريم يجهل قضية نسخ دين بدين جهلاً تاماً. لا بل كلّه، روحاً ونصاً، ينفي تلك البدعة المسْنَدَة إليه.

ينكر أولاً نسْخ عقيدة التوراة والإنجيل.

فالقرآن يعلم أن عقيدة الكتاب والقرآن الجوهرية، أي التوحيد، هي واحدة فكيف ينسخها؟ كل أنبياء الله قد كرزوا بالتوحيد: (( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )) ( أنبياء 25 ) ولا يوحى إلى محمد إلا التوحيد: (( قل إنما يوحي إليّ أنما إلهكم واحد، فهل أنتم مسلمون )) ؟ ( أنبياء 108 ) فكيف يمكنه أن ينسخ هذا التعليم؟ والمسلمون يؤمنون بالكتاب كله ( آل عمران 119 ) بالذي أُنزل إليهم والذي أنزل إلى اليهود والنصارى ( عنكبوت 46 ) فكيف ينقض الوحي بعضه بعضاً ؟ ويعلن مراراً أنه لا يفرّق بين أحد من رسل الله، ونحن لـه مسلمون1 ( بقرة 136و 285، آل عمران 84، نساء 163 ) فكيف يُبْطِل نبيٌّ ويعطل دعوته ؟ والدين عند الله الإسلام، من نوح إلى محمد: (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )) ( شورى 13 ) فكيف يجسر أحد بعد هذا التصريح وغيره أن يقول بأنّ القرآن أو الإسلام نسخ ما قبله ؟ من أين تُراهم جاؤوا بهذه البدعة ؟

ـــــــــــــــــــــــ

(1) (( ونحن له مسلمون )) : موحدون، مخلصون أنفسنا لـه لا نجعل له شريكاً في عبادتها. (( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه )) ( آل عمران 19 ثم 85 ) يعني (( التوحيد وإسلام الوجه لله تعالى )) الزمخشري.

ـ 39 ـ

والقرآن يأمر بالإيمان بالكتاب فكيف ينسخه ُ؟ يطلب إيماناً واحداً بالكتابين (( يا أيها الذين آمَنُوا آمِنُوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبلُ ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالاً بعيداً )) ( نساء 135 ) فكيف يجوز أن ندّعي بأن القرآن قد أبطل الكتاب؟ ويعلن إيماناً واحداً بجميع الأنبياء ( آل عمران 84 ) فكيف ندعي أنهم يدحض بعضهم بعضاً؟ ويجعل الإيمان بالتوراة والإنجيل وأنبيائهما ركناً من أركان الإسلام: (( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب ولكن البِرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين )) ( بقرة 177 ) فكيف نقول إن الإسلام نسخ ما قبله ؟! وكيف يأمر القرآن بالإيمان بما ينسخه ويبطله ويلغيه ؟؟

والقرآن تصديق الكتاب فكيف ينسخُه ؟ (( لقد جاءَهم كتاب من الله مصدّق لما معهم )) ( بقرة 89 ) (( وهو الحق مصدق لما معهم )) ( 91 و 97 ) فكيف ينسخ ما جاء تصديقاً له ؟ (( الله الحيُّ القيوم نزّل عليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه ( قبله ) وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس )) ( آل عمران 3 ) فهل بطل هذا الهدى وقد جاء القرآن ليصدقه؟ ما هذه البدعة التي تفتري على القرآن نقيض ما يعلّم صراحة ؟ إن إمامه في الهدى كتاب موسى وهو تصديق له: (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين )) ( أحقاف 12 ) فكيف ينقض القرآن هدى إمامه وهو يصدّقه ؟! من خصائص الكتاب إِمَامَتُه للقرآن، ووظيفة القرآن تصديق الكتاب إنذاراً للعرب المشركين وبشرى للكتابيين المحسنين: فكيف تنقض النسخة الأصل؟ وفي سورة المائدة نظرية القرآن النهائية في علاقة الإنجيل بالتوراة وعلاقة القرآن بهما: يصدّق بعضها بعضاً ويشهد بعضها لبعض: (( وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدّقاً لما بين يديه ( قبله ) من التوراة ... وأنزلنا إليك ( يا محمد ) الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه ( قبله ) من الكتاب ومهيمناً عليه )) ( 50 ـ 52 ). فالقرآن

ـ 40 ـ

رقيب للكتاب، شاهد للتوراة والإنجيل، فكيف ينسخها؟ حقاً انها لَفِرْيَةٌ كبيرة تلك القولة المشؤومة !!

والقرآن تفصيل الكتاب فكيف ينسخه ؟ (( ما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله ، ولكن تصديقُ الذي بين يديه ( قبله ) وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين )) (يونس 37 ) (( جاء تصديقاً أي مطابقاً لما تقدمه من الكتب الإلهية المشهودة على صدقها، ولا يكون كَذِبا ً! كيف لا وهو لكونه معجزاً دونها، عيّار عليها، شاهد على صحتها. وتفصيلاً للكتاب أي تفصيل ما أثبت وحقق من العقائد والشرائع )) ( البيضاوي )؛ إن ربّ العالمين يفصّل في القرآن عقائد وشرائع الكتاب، فكيف نقول أنه ينقضها ؟ يقول القرآن عن نفسه انه تفصيل الكتاب للعرب: (( أفغير الله أبتغي حكَماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً )) ( أنعام 114 ) فكيف نفتري عليه ونقول إنه ينسخه ؟ إنها مقالة سوء يقصد بها باطلاً !

أصول الدين والتوحيد هدى أبداً لا تنسخ على الإطلاق1 .

 

ينكر القرآن ثانياً نسخ شريعة الإنجيل والتوراة.

قالوا لم ينسخ القرآن عقيدة الكتاب بل شريعته. كلا ! بل 0نقل للعرب حسب رأيه شريعة الكتاب: (( شرع لكم من الدين2 ما وصى به نوحاً ـ

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال الزمخشري: (( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدِهْ : المراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع فإنها مختلفة، وهي هدى ما لم تنسخ فإذا نسخت لم تبق هدى. بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبداً )) ( انعام 90 ).

(2) الدين بمعنى التوحيد ( الجلالان ) قد سبق الاستشهاد بها. والدين بمعنى الشرع هنا (( أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومَن بينهما من أرباب الشرع، وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله ( أن أقيموا الدين ) وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في احكام الله . ( ولا تتفرّقوا فيه ) ولا تختلفوا في هذا الأصل. أما فروع الشرع فتختلف كما قال:

ـ 41 ـ

والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه )) ( شورى 13 ) فكيف يُبطلها ؟ لقد شرع لجميع الأنبياء شريعة واحدة وأمرهم أن يقيموا ويعملوا بها، ولا يتفرّقوا فيها، فكيف نزعم أن القرآن ينقض شريعة مَن تقدمه ؟ يعلن القرآن عن نفسه أنه يهدي العرب إلى سُنَن أهل الكتاب (( يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنَن الذين من قبلكم )) ( نساء 25 )1 فكيف يهدي القرآن إلى شرائع الأنبياء وندّعي أنه ينسخها ؟

والقرآن يأمر أهل الكتاب بالعمل بما في أَحكام كتابهم، فكيف نقول إنه ينسخها ؟ يأمر أهل التوراة أن يحكموا بما أنزل الله فيها: (( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ... ومَن لم يحكم بما أنزل الله فيها فأولئك هم الكافرون )) ( مائدة 47 ) فهل ناقض الله نفسه ونسخ هذا الأمر ؟ وأين ؟ ثم يأمر أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه: (( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه )) ( مائدة 50 ) فهل سنها الله وأبطل أمره ؟ ويؤكد القرآن أَمره: (( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل2 وما أُنزل إليكم من ربكم )) ( مائدة 72). ويرغبهم في العمل بأحكام كتابهم: (( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم )) ( مائدة 69 ) ـ ألا تناقض نظرية النسخ تعاليم القرآن كلها ؟؟

 

ليس في تعليم القرآن نسخ شريعة بشريعة. بل كما فسّر الزمخشري والبيضاوي سورة الشورى ( آية 13 ) والمائدة ( آية 51 ) والأنعام (90): يُعلن وحدة الأصل في الدين والشريعة، مع الاستقلال والاختلاف في فروع

ـــــــــــــــــــ

(( لكل جعلنا شرعة ومنهاجاً )) ( البيضاوي ): يعلم وحدة الأصل في الشريعة بين جميع الكتب واختلاف الفروع.

(1) نساء 25 طرائق الأنبياء في التحليل والتحريم ( الجلالان ).

(2) إقامة التوراة والإنجيل هي العمل بما فيهما ( مائدة 69و72 ) كما فسره الجلالان.

ـ 42 ـ

الشرع1 . وهذا الاختلاف في الفروع الشرعية لا ينقض وحدة الأصول فيها وكم بالأحرى وحدة التوحيد.

يقول القرآن في أول العهد بالمدينة بعد تغيير القبلة في الصلاة، وهي عنوان تغيير المذهب والملّة: (( ولكل وجهة هو مولّيها: فاستبقوا الخيرات )) ( بقرة 148 )2 . لكل أمّة من الموحدين قبلة في صلاتهم ولاهم الله إياها ليتسابقوا في عمل الخير والصلاح: فلا تنسخ قبلةٌ قبلةً !

وفي منتصف العهد يصرّح: (( لكل أمّة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فإلهكم إله واحد فله أَسلموا )) ( الحج 34 )3 يقول: (( لكل جماعة مؤمنة سلفت قبلكم جعلنا ذبحاً وقرباناً ( أو مكان ذبح قربان ) ليذكروا اسم الله عند ذبحها، فإلهكم إله واحد فله أسلموا )) فتنوّع طرائق العبادة لا يعتبره القرآن اختلافاً في التوحيد ! فلا تنسخ ضحيةٌ ضحية !

ويقول أيضاً: (( لكل أمّة جعلنا منسكاً هم ناسكوه: فلا يُنازعنّك في الأمر )) ( حج 67) أي (( لكل أمة جعلنا شريعة هم عاملون بها فلا تنازِعَنّهم في الأمر، وادعُ إلى دين ربك إنك لعلى دين مستقيم )) ( الجلالان ) فاختلاف الشريعة لا يعني اختلاف التوحيد حتى ولا نسخ الشريعة السابقة.

وفي آخر العهد بالمدينة، يقر أهل التوراة على دينهم (مائدة 46 ) وأهل الإنجيل على حُكم كتابهم (50) وأهل القرآن على تشريعه (51) ويختم بقوله: (( لكلّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة. ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعاً )) (51) فسّره الجلالان:

ـــــــــــــــــــ

(1) راجع تفسيرهم للآية 13 من سورة الشورى كما سبق، والآية 90 من الأنعام، أو الآية 51 من المائدة.

(2) الجلالان: ولكل من الأمم قبلة هو مولّيها وجهه في صلاته، فبادروا إلى الطاعات وقبولها )) والبيضاوي: (( والمعنى: وكلّ وجهة الله موليها أهلها )) .

(3) راجع الجلالين. قال البيضاوي: (( لكل أهل دين جعلنا منسكاً متعبداً أو قرباناً )) .

ـ 43 ـ

(( لكلّ جعلنا منكم أيها الأمم شريعة وطريقاً واضحاً في الدين تمشون عليه ولو شاء الله لجعلكم على شريعة واحدة ولكن فرّقكم فِرَقاً ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة، لينظر المطيع منكم والعاصي، فسارعوا إلى الخيرات )) .

وهكذا فقد أقرّ القرآن كلّ أمة من أمم التوحيد على شرعها المختص بها وهذا الاختصاص بشرع مختلف لا ينقض وحدة الشريعة الأصلية، ولا وحدة العقيدة الدينية.

فالقول بأن القرآن نسخ شريعة الكتاب1 فِرية على الاثنين: روح القرآن ونصّه يقضيان عليها قضاءً مبرماً: فنظرية القرآن تؤكد وحدة الإيمان، ووحدة الشريعة الأساسية، مع اختصاص واختلاف في الأحكام الثانوية لكل من اليهود والنصارى والمسلمين؛ وقد صرّح ببقاء شريعة الإنجيل والتوراة ملزمةً لأهلها، كما أعلن أن أحكام القرآن لا تلزم سوى أهله2 .

 

والقائلون ببدعة النسخ لا سند لهم سوى آية النسخ هذه: (( ما ننسخ من آية أو نُنسِها نأتِ بخير منها أَو مثلها: أَلم تعلم أن الله على كل شيء قدير )) ( بقرة 106 )3 . في أسباب النزول: (( أخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: ربما نزل على النبي الوحي بالليل ونسيه بالنهار فأنزل الله الآية

ـــــــــــــــــــ

(1) وهناك قوم من المسلمين يقولون: (( شرع من قبلنا شرع لنا )) استناداً إلى الآية 47 من المائدة ـ راجع البيضاوي فيها. قال الزمخشري: (( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس: أي لقوم موسى وعيسى ومَن قال: نحن متعبدون بشرائع من قبلنا، فسره على العموم )) .

(2) وعن الزمخشري: (( قيل كان رسول الله ص. مخيراً إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم. وعن عطاء والنخعي والشعبي أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين فإن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا أعرضوا؛ وقيل هو منسوخ بقوله: (( واحكم بينهم بما أنزل الله )) ؛ وعند أبي حنيفة: إن احتكموا إلينا حُمِلوا على حكم الإسلام )) مائدة 46.

(3) للآية 106 قراءات مختلفة: اثبتنا التي أثبتها المصحف الأميري.

ـ 44 ـ

( ما ننسخ) . قال الجلالان: (( لما طعن الكفار في النسخ وقالوا: أن محمداً يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غداً نزلت: ومعناها ما نُنزل حكم آية، مع لفظها أولا، أو نمحُها من قلبك، نأتِ بأنفع منها للعباد في السهولة أَو كثرة الأجر )) . قال البيضاوي: (( نزلت لمّا قال المشركون أو اليهود: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه ... ونسْخ الآية بيان انتهاء القيد بقراءتها أو الحكم المستفاد منها أو بهما جميعاً )) . وهكذا نزلت الآية رداً على شكوك المشركين والكتابيين والمسلمين في تبديل آي القرآن، والآية صريحة على اقتصار النسخ على آيات القرآن، يقع فيها ومنها وعليها، لا يتعدّاه إلى سواها. وعليه قال السيوطي: (( إن النسخ مما اختص به الله هذه الأمة )) . فنقلوا فكرة النسخ المحصورة في القرآن إلى أمم أخرى وعمّموها على الكتب المتقدمة؛ بينما خصّها القرآن بآية فقط .

فلا أساس على الإطلاق في الآية وما حولها من معنى نسخ دين بدين وكتاب بكتاب وشريعة بشريعة. بل العكس يُلزِم القرآن كل أمة بالتقيّد بشريعتها ويفرض القرآن على النبي والمسلمين احترام شريعة الإنجيل والتوراة وأحكامها ( مائدة 49 ـ51 ).

 

وقد يقول قائل إن القرآن كمال النبوة ومحمد خاتم النبيين، وقد تضمن كتاب النبي الأمّي (( تفصيل الكتاب )) كله ( يونس 37 ) فلا حاجـة بعده إلى نبي أو كتاب سـابق أو لاحق1 : فهو يكفي وحده. ـ لقد نسي هؤلاء القوم أن القرآن يعتبر الكتاب المقدس إمامه (أحقاف 12) . ومحمد نفسه يعلن أنه كان يقتدي بأنبياء الكتب ويتبع هداهم ( أنعام 90 ) فكيف يقولون إنه ينقض نبوّتهم وينسخ رسالتهم ويستغني عن كتبهم ! ويصرّح القرآن بأن محمداً

ـــــــــــــــــــ

(1) (( الإيمان بالقرآن يتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل )) التفسير الكبير للرازي ج2 ص 383 .

ـ 45 ـ

كان يتبع الكتاب والقرآن على السواء: (( قالوا سحْران تظاهرا، وقالوا إنا بكل كافرون! ـ قل فأتوا بكتاب من عند الله أهدى منهما اتّبعْه إن كنتم صادقين )) ( قصص 49 ) ألا يليق بنا أن نقتفي آثار النبي العربي فنتبع الكتاب الذي كان إمامَه ونقتدي بهدى أنبيائه ؟

 

ونختم هذا البحث بدليل عام على استحالة نسخ القرآن للكتاب، والإسلام لدين الإنجيل والتوراة، من تصريحات القرآن بأنه (( لا مبدّل لكلمات الله )) ( أنعام 34 و 115 ) بنقضٍ أو خلفٍ ( الجلالان ). فلا تبديل لوحي الله : (( واتلُ ما أوحي إليك من كتاب ربك: لا مبدّل لكلماته )) ( كهف 27 ) ولا تبديل لمواعيد وحيه: (( الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا والآخرة: لا تبديل لكلمات الله، ذلك هو الفوز العظيم )) ( يونس 64 ) قال البيضاوي (( لا تغيير لأقواله ولا اخلاف لمواعيده )) . كيف يعلن القرآن أن كلام الله لا يبدل، والإنجيل (( إنه إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول من الناموس ياء ولا نقطة حرف حتى يتم الكلّ )) ونفتري نحن عليهما ببدعة النسخ .

فنسخ دين بدين، وكتاب بكتاب، وشريعة بشريعة، ونسخ الإسلام والقرآن للإنجيل والتوراة، إنما هي بدعة مغرضة وفرية مفضوحة لا أثر لها في القرآن الكريم. فالقرآن يهتدي بهدى الكتاب وقصصه وسننه ( أنعام 90، نساء 25 ) ويهدي بها وإليها، فلا ينسخها ولا ينقضها ولا يبطلها ولا يستغني عنها. والنسخ المذكور في القرآن ( بقرة 106 ) يقتصر على آي القرآن وحده لا يتعداه إلى سواه:

(( ما ننسخْ من آية أو نُنسِها نِأتِ بخير منها أو مثلها )) .

ـ 46 ـ

القرآن يشهد بالصحة للكتاب الموجود في زمانه

 

(( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته، أولئك يؤمنون به ))

( بقرة 121 )

أي (( يقرؤونه كما أُنزل )) ( الجلالان )

إنها تهمة شائعة بين الجهلة من المسلمين أن الكتاب الذي بين أيدي اليهود والنصارى محرّف: فلا يمكن أن نطمئن إلى صحته. أجل يشهد القرآن للكتاب ولكن لذلك الكتاب الذي نزل على موسى وعيسى، وليس للذي بين أيدي الناس اليوم، أو للذي كان في زمن محمد . فشهادته لا تصدق على التوراة والإنجيل في صورتهما الراهنة ...

أمّا العقلاء منهم والراسخون في العلم فيقولون معنا بأن القرآن يشهد للكتاب بصحّته، وللتوراة والإنجيل الموجودَين في زمانه بسلامتهما من التحريف1 .

 

نجد دليلاً عاماً حيث يقول إنه (( لا مبدِّل لكلمات الله2 )) .

ـــــــــــــــــــ

(1) راجع مقالة في الإسلام في الذيل المشهور. والمسيحية في الإسلام ص 16. والرازي مع غيره من المفسرين سجل تهمة التحريف ( إن كتب سائر الأنبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بما أنزله الله على محمد ص. فكان ما أنزل على محمد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء)) ( آل عمران 83 ).

(2) اتخذنا هذه الآيات شاهداً على استحالة النسخ، وهنا نستشهد بها على استحالة التحريف ليس فقط من قبل الله الذي يحفظ كلامه ( الحجر 9 ) بل من قبل المؤمنين القائمين على حفظ كتاب الله ، فالتحريف كفر محض، ولا يجتمع الإيمان والكفر على صعيد واحد.

ـ 47 ـ

فالقرآن يُردّد أنه (( لامبدّل لكلمات الله )) ( أنعام 34 و 115، كهف 27، يونس 64 ). وقد وردت في ( أنعام 34 ) بمعنى لا يخلف الله مواعيده لأنبيائه المرسلين بنصرهم على قومهم الكافرين: أليس حفظ الوحي من ضمن هذا النصر الموعود ؟ بتنزيل القرآن تمّت كلمة الرب التي لا مبدّل لها: (( أفغير الله أبتغي حَكَماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً ... وتمّت كلمت ربك صدقاً وعدْلاً، لا مبدّل لكلماته وهو السميع العليم )) ( أنعام 114 و 115 ) أي تمت كلمة الله بالأحكام والمواعيد، صدقاً وعدلاً، لا مبدّل لكلماته بنقض أو خلفٍ1 . فبلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده لا أحد يبدِّل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل2 . لاحظ أن القرآن (( كلمت من الرب )) وقد سبقت لـه (( كلمات )) ، وعدم التبديل بالنقض أو الخلف أو التحريف أو النسخ3 يشمل كل كلمات الرب: فكلام الله لا يتغير ولا يمكن أن يلحقه تحريف لا معنىً ولا مبنىً. فلا يليق بالله أن يغير وحيه، ولا المؤمن به الحافظ لـه يستطيع ذلك: (( واتلُ ما أوحي إليك من كتاب ربّك: لا مبدّل لكلماته )) ( كهف 37 )4 فالقرآن وحي من كتاب الله السابق لا يقدر النبي ذاته أن يبدّله، رداً على قولهم (( ائتِ بقرآن غير هذا أو بدّله )) . لأنه لا أحد يقدر على تغيير كلمات الله التي أنزلها. فكلام الله لا يلحقه التحريف في ألفاظه ولا في معانيه: (( الذين آمنوا وكانوا يتّقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة: لا تبديل لكلمات الله ! ذلك هو الفوز العظيم )) ( يونس 64 ) (( فلا تغيير لأقوال الله ولا إِخلاف لمواعيده5 )) .

ـــــــــــــــــــ

(1) الجلالان

(2) البيضاوي (( صدقاً وعدلا: نصبهما يحتمل التمييز والحال والمفعول له )) .

(3) الجلالان والبيضاوي.

(4) البيضاوي: (( واتل إليك من القرآن ولا تسمع لقولهم: ائتِ بقرآن غير هذا أو بدّله: لا مبدّل لكلماته لا أحد يقدر على تبديلها أو تغييرها )) .

(5) البيضاوي.

ـ 48 ـ

فالتوراة والزبور والإنجيل كلام الله فإذا كان كلام الله لا يُبدَّل على الإطلاق فكيف يمكن أن يتسرب التحريف والتبديل والتغيير إلى الكتاب المقدس1 . وإذا كان الكتاب في زمن محمد قد تطرّق إليه التحريف فكيف جـاز للقرآن أن يقول على الإطلاق (( لا مبدّل لكلمات الله )) وما للقرآن سوى (( كلمت )) منها، و (( وحي )) مأخوذ من كتاب الله ؟

 

ونجد دليلاً عاماً آخر في تسمية الكتاب المقدس الذي كان بين أيديهم في زمن النبي العربي: (( كتاب الله )) و (( كلام الله )) .

جاء في القرآن: (( ولما جاءَهم رسول من عند الله مصدّق لما معهم نبذ فريق من الذين أُوتوا الكتاب، كتاب الله ، وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون )) ( بقرة 101 )2 . فهو يسمّي التوراة الموجودة في أيامه (( كتاب الله )) الذي يصدّقه ويشهد لـه، ويستشهد به ضد اليهود فينبذونه وراء ظهورهم. وأيضاً: (( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض )) ( توبة 37 ). فكيف يجوز للقرآن أن يسمي التوراة أو الإنجيل كتاب الله إذا كان محرفا ً؟

ويسميه أيضاً: الكتاب المنير (( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزُّبر والكتاب المنير )) ( آل عمران 184 ). أي الواضح وهو التوراة والإنجيل (الجلالان).

ويحتكم النبي في خلافاته مع اليهود إلى كتاب الله الذي بين أيديهم في عصره (( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يُدعَون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ! ذلك بأنهم قالوا: لن تمسّنا النار إلا أَياماً

ـــــــــــــــــــ

(1) يُتخذ هذا البرهان دليلاً على عدم التحريف كما أخذناه أيضاً دليلاً على عدم النسخ.

(2) رسول: محمد. كتاب الله: التوراة، والخطاب عن اليهود . (البيضاوي والجلالان ) . (( كتاب الله )) في توبة 37 : الكتاب أو اللوح المحفوظ .

ـ 49 ـ

معدودات، وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون )) ( آل عمران 23و24)1 . يستشهد محمد بالتوراة ويحتكم إليها ويقبل حكمها: فكيف جاز له ذلك لو كان يعتقد أنها محرّفة ؟ وكيف يمكن أن يسمّيها (( كتاب الله )) ؟

ويجيء النص القاطع: (( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا، والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله، وكانوا عليه شهداء )) (مائدة 47): يسمّي التوراة التي بها حكم النبيون وبها يحكم الربانيون والأحبار (( كتاب الله )) : فلو أنَّ في التوراة أو الإنجيل تحريفاً لما جاز لـه أن يسمّيها كتاب الله على الإطلاق، دون أن يقيّد هذه التسمية.

التوراة هي كتاب الله وهي أيضاً كلام الله: (( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون )) ( بقرة 75 )2 أي كيف تريدون أيها المسلمون أن يؤمنوا بذكركم ولا يفسرونه على هواهم وقد كانوا يؤولون كلام الله المنزل إليهم حسب أهوائهم بعد أن فهموه تماماً، وخالفوه وهم يعلمون، فحاذروا مخادعتهم لكم. فالقرآن يسمّي (( كلام الله )) التوراة الموجودة في زمنه والتي نزلت على موسى، وفسّرها قوم موسى ويهود عصر النبي على هواهم؛ ورغم هذا التأويل فهي تظل (( كلام الله )) . ولا يمكن أن يسميها (( كلام الله )) لو كانت محرفة مُبدّلة مغيّرة !

ـــــــــــــــــــ

(1) الجلالان: (( الكتاب: التوراة ؛ ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون عن قبول حكمه: نزل في اليهود ؛ زنـى منهم اثنان فتحاكموا إلى النبي ص. فحكم عليهم بالرجـم فأبوا فجيء بالتوراة فوُجد فيها فرُجما، فغضبوا )) . والبيضاوي: (( نصيباً مـن الكتاب: التوراة أو جنس الكتب السماوية. يُدعون: الداعي محمد، وكتاب الله : القرآن أو التوراة لما روي أنه عليه الصلاة والسلام دخل مدارسهم فقال لـه نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت ؟ فقال على دين إبراهيم. فقالا لـه: إن إبراهيم كان يهودياً. فقال: هلموا إلى التوراة أنها بيننا وبينكم. فأبيا فنزلت. وقيل نزلت في الرجم. (( ذلك بأنهم قالوا )) : إشارة إلى التولّي والإعراض. ـ وهذه الإشارة مع النص الكامل تجزم بأن (( كتاب الله )) هنا هو التوراة لا القرآن كما يدعي البيضاوي وكما يخالفه الجلالان.

(2) (( فريق منهم: طائفة من أسلاف اليهود؛ يسمعون كلام الله يعني التوراة ثم يحرّمونه بتأويله فيفسّرونه بما يشتهون ... )) .

ـ 50 ـ

ويسمّي الكتاب (( آيات الله )) بقوله: (( يا أهل الكتاب لِمَ تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون )) ( آل عمران ) قال الزمخشري: (( آيات الله التوراة والإنجيل؛ وكفرهم بها أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوة رسول الله )) ويسفّههم على مخالفتها. وأيضاً: (( فبما نقضِهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حقّ )) ( نساء 154 ). وأيضاً: (( ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً )) ( مائدة 47 ).

 

ويشهد القرآن بأن النصارى واليهود في زمانه يتلون كتاب الله حق تلاوته كما أُنزل.

جاء في سورة البقرة: (( الذين آتيناهم الكتاب ـ يتلونه حقَّ تلاوته ـ أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون )) (121)1 ـ هل بعد هذه الشهادة الصريحة من صراحة: الكتاب الذي نزل على موسى وعيسى وسائر النبيين، يتلوه المؤمنون به في زمن النبي (( حق تلاوته )) أي يقرأونه كما أنزل ( الجلالان ). أجل يتلون الكتاب الذي يؤمنون بـه (( حقّ تلاوته )) بمراعاة اللفظ عن التحريف والتدبّر في معناه والعمل بمقتضاه ( البيضاوي ). وأهل الكتاب على حقّ في إيمانهم بكتابهم لأن مَن يكفر بهذا الكتاب المقدس فهو من الخاسرين. فالنص واضح والتفسير صريح وكلاهما شهادة قاطعة بصحة الكتاب الموجود في زمن النبي، وصحة تلاوته. والقرآن يكفّر من ينكر ذلك ويتوعده.

ـــــــــــــــــــ

(1) قال الجلالان: (( يتلونه حق تلاوته أي يقرؤونه كما أنزل، والجملة حال، وحق نصب على الحال. ومن يكفر به أي بالكتاب المؤتى، بأن يحرّفه )) . وقال البيضاوي: (( الذين آتيناهم الكتاب: يريد به مؤمني أهل الكتاب ( يتلونه حق تلاوته ) بمراعاة اللفظ عن التحريف، والتدبر في معناه والعمل بمقتضاه، وهو حال مقدرة، والخبر ما بعده، أو خبر ( الذين ) على أن المراد بالموصول مؤمنو أهل الكتاب. ( أولئك يؤمنون به) بكتابهم دون المحرفين ( ومَن يكفر به) بالتحريف أو بالكفر بما يصدقه ( فأولئك هم الخاسرون ) حيث اشتروا الكفر بالإيمان )) .

ـ 51 ـ

فهذا النص القاطع يكفي وحده لتأثيم تهمة التحريف اللفظي أو المعنوي: فاليهود والنصارى (( يتلون كتابهم حق تلاوته )) .

ويختصم اليهود والنصارى، ويكفّر بعضهم بعضاً فيعجب محمد لذلك لأن الطائفتين تتلوان الكتاب: (( وقالت اليهود ليست النصارى شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء. وهم يتلون الكتاب ! )) ( بقرة 113 )1 يوبّخ القرآن الفريقين على تكفير بعضهم بعضاً وإنكار نبي الفريق الآخر وكتابه، وهم يتلون الكتاب: الواو للحال، والفعل مضارع يدل على دوام الحال. يستغرب القرآن وينكر هذه المناظرة وهذه المقاولة، فالفريقان (( يتلون الكتاب المنزل عليهم وفي كتاب اليهود تصديق عيسى وفي كتاب النصارى تصديق موسى )) ! (الجلالان ). فلو كان القرآن لا يعتقد بصحة التوراة والإنجيل الموجودين في زمانه، وصحة فَهْمِهِما، لما بقي مجال لدهشته.

والنبي الأمّي يوبّخ أهل الكتاب على إهمال العمل بموجبه وهم يتلون الكتاب، فهم لذلك ألزم من غيرهم بإقامته: (( أتأمرون ( يا بني إسرائيل ) الناس بالبِرّ وتنسون أنفسكم، وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ! ( بقرة 44 )2 . يتعجب كيف يأمرون الناس بالإيمان (41) والصدقة (43) وينسون

ـــــــــــــــــــ

(1) قال البيضاوي: (( نزلت لما قدم وفد نجران على رسول الله وأتاهم أحبار اليهود فتناظروا وتقاولوا بذلك ـ ( وهم يتلون الكتاب ) الواو للحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وهم من أهل العلم والكتاب ! وبّخهم على المكابرة والتشبه بالجهال )) . وقال الجلالان: (( وهم أي الفريقان يتلون الكتاب المنزل عليهم، وفي كتاب اليهود تصديق عيسى وفي كتاب النصارى تصديق موسى )) .

(2) قال الجلالان: (( وأنتم تتلون الكتاب أي التوراة وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل )) . وقال البيضاوي: (( أتأمرون الناس بالـبِرّ )) تقرير مع توبيخ وتعجيب ؛ والبر التوسيع في الخير من الـبَرّ وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير. وعن ابن عباس أنها نزلت في أحبار المدينة كانوا يأمرون سراً من نصحوه باتباع محمد ص. ولا يتبعونه وقيل كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون ـ وعندي أنه يقصد المعنيين حسب الآية 41 و 43 ـ ( وأنتم تتلون الكتاب ) تبكيت لهم أي تتلون التوراة وفيها الوعيد على العناد وترك البر ومخالفة القول العمل )) .

ـ 52 ـ

أنفسهم وهم ألزم الناس بذلك لأنهم يعلمون من تلاوة التوراة وعيد الله على مخالفة القول العمل. فأي بِرّ في التلاوة والأمر لو كان الكتاب محرّفاً ؟ وأي مبرّر للتبكيت لو كان كتاب الله الذي يتلون مبدّلاً ؟ وأي معنى للآية كلها لو كان الكتاب الذي يتلونه غير ما أنزل الله ؟؟

ويمدح القرآن رهبان عيسى على تلاوة آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ويثني على صلاحهم وتقواهم: (( ليسوا سواء ً! من أهل الكتاب أمّة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر. ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ويسارعون في الخيرات. وأولئك من الصالحين وما يعملوه من خير فلن يُكفروه والله عليم بالمتقين )) ( آل عمران 113 )1 . تجد هذه الآية تفسيرها في سورة المائدة (85). ليس الخطاب للمسلمين فقد انتهى منه (100ـ 110)؛ وليس لليهود (110 ـ 113 )، فهو يستثني منهم هذه الأمة التقية، أمّة عيسى ورهبانه فهم أكثر مودة للذين آمنوا ولا يستكبر القسيسون منهم والرهبان عن احترام النبي الأمي ( مائدة 85 ). فهذه الأمة الصالحة يتلون كتاب الله (( كما أنزل )) معنىً ومبنىً : معنى من حيث

ـــــــــــــــــــ

(1) مَن تُراها تكون هذه الأمة التقية المواظبة طيلة الليل على الصلاة وتلاوة آيات الله ؟ ـ جاء في أسباب النزول عن ابن عباس أنها تقصد عبد الله بن سلام اليهودي الذي أسلم وأصحابه، وعن ابن مسعود أنها تعني المسلمين في صلاة العشاء. قال البيضاوي: (( ليسوا سواءً : في المساوئ، والضمير لأهل الكتاب؛ ( من أهل الكتاب أمة ) استئناف لبيان نفي التساوي، وهم الذين أسلموا منهم )) . ـ وعندي إن سياق الحديث يعني أمّة عيسى، وخاصة رهبانهم : ليس الخطاب للمسلمين فقد انتهى منه ( 100 ـ 110 ) ودعا أمة منهم إلى مثل هذه الآية 113، وختم إنهم خير أمة أخرجت للناس ( 110 ) ؛ وليس الخطاب لليهود الذين يذكرهم من 110ـ113 والذين منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ( 110 ) ، وقد ضربت عليهم الذلة ( 112 ) ، وكانوا يقتلون أنبياء الله ( 112 ) من هؤلاء يستثني الأمة التقية؛ وهذه ليست عصبة عبد الله بن سلام فقد دخلت فيمن أسلم من أهل الكتاب ( 110 ) (( منهم المؤمنون )) . لم يبق إذن سوى أمَّة عيسى التي لم تقاوم النبي. والنص صريح : ليس (( أهل الكتاب )) سواءً في المساوئ : أشدهم عداوة اليهود وأكثرهم مودّة النصارى وذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً ( مائدة 85 ) وهي تفسير لآل عمران 113.

ـ 53 ـ

إنهم (( يؤمنون بالله واليوم الآخر )) ، ومبنى من حيث (( يتلون آيات الله )) . يؤمنون ويعملون بموجب إيمانهم لأنهم (( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) . وهم من الصالحين الذين لا يضيع أجرهم. فهو يشهد بأنهم (( يتلون آيات الله )) ، وهذه الشهادة تنطق بصحة كتابهم وصحة تلاوته. وإلا فكيف ينسب إليهم الصلاح إذا جاز أنهم حرّفوا الكتاب، أو قبلوا كتاباً محرّفاً، أو سمحوا بتحريفه ؟ ومهما كانت الأمة المقصودة، فالأصل هو الكتاب المتلوّ، أي الكتاب المقدس (( آيات الله )) . فكيف يمكنه أن يسـمّي كتابهم (( آيات الله )) إذا لم يكن بعدُ إلى زمنه (( آيات الله )) ؟

 

فيأمر محمد قومه أن يؤمنوا بالكتاب: (( يا أيها الذين آمَنُوا آمِنُوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزَّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبلُ )) ( نساء 135 ) فكيف يأمرهم أن يؤمنوا بكتاب قد تحرَّف وضاعت صورته الأصلية ؟ فهل يجوز أن يأمرهم بالإيمان بكتاب كأنه من الله وهو ليس بعد من الله ؟ إن أمراً كهذا لا يفهم مع إمكان التحريف ! بل هو مشاركة في التحريف وموافقة عليه !

يقولون إنه يأمر بالإيمان بالكتاب السماوي، أو بالذي أنزل على عيسى وموسى، وليس بالكتاب الموجود في زمن النبي مع اليهود أو النصارى. ـ إن هذا القول لمرود لأن التصاريح تؤكد أنه يخاطب ويقصد أهل الكتاب في زمانه، وكتابهم الذي يتلونه: (( وقل آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم )) ( عنكبوت 46 ). أيؤمنون بشيء لا وجود لـه ؟! أَيأمرهم بالمحال ؟ فلو تغيّرت التوراة والإنجيل قبل زمن محمد، كيف كان يسمح أو يأمر قومه العائشين معه بالإيمان بها ؟

والإيمان بالكتاب كله، من التوراة إلى الزَّبور إلى الإنجيل إلى القرآن، من أركان الإسلام حسب الآية الشهيرة: (( ليس البِرّ أن تولوا وجوهكم قِبَـل

ـ 54 ـ

المشرق والمغرب . ولكن البر مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين )) ( بقرة 177 ): أيكون الكتاب المزوّر موضوع إيمان، وباب خلاص ؟ أليس من العبث تحريضهم على الإيمان بكتاب زالت صحته وضاعت صورته، وبدّلت نبوّته ؟ وكيف يجوز الإيمان بالكتاب كأساس في الدين مع إمكان الشك في صحته ؟ وكيف يعلن إيمانه وإيمان المسلمين بالكتاب كله: (( ها أنتم أولاءِ تحبونهم ولا يحبونكـم، وتؤمنون بالكتاب كله )) ( آل عمران 119) (( والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم تحبونهم )) (الزمخشري ) ؟

فالقرآن يعدّد الشهادات والتحريضات والأوامر على الإيمان بكتاب منزل موجود لا بكتاب غير موجود، و إلا فهي مناقضات لا معنى لها.

 

ويشهد القرآن لنفسه إنه يصدق الكتاب الذي مع اليهود والنصارى في زمانه: فهل يصدّق التحريف والتزوير ؟؟ قال: (( أنزل إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه )) ( قبله ) ، وقد جاء ذلك في مواضع شتى في أعراف، يونس، يوسف، أنعام، فاطر. إنه يصدق الكتاب الذي مع بني إسرائيل الذين يخاطبهم: (( يا بني إسرائيل آمنوا بما أنزلتُ مصدّقاً لما معكم )) (شورى )1 ؛ ويحرض أهل الكتاب على الإيمان بالقرآن لأنه يصدّق (( لما معهم )) ( بقرة 41 و 89 و 91 )، وأيضاً: (( يا أيها الـذين أوتـوا الكتاب آمنوا بما أنزلتُ مصدقاً لما معكم )) (نساء ). وأيضاً: (( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدّقاً لما معهم )) ( بقرة 89 ). والرسول أيضاً يصدّق لما معهم: (( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم، نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب، كتاب الله ، وراء

ـــــــــــــــــــ

(1) الجلالان: (( آمنوا بما أنزلتُ من القرآن مصدقاً لما معكم من التوراة بموافقته له في التوحيد والنبوة )) .

ـ 55 ـ

ظهورهم كأنهم لا يعلمون )) ( بقرة 101 )1 .

فهل يمكن أن يصدّق القرآن كتاباً قد حُرّف وضاع كلام الله فيه ؟

فكيف يجسرون على القول بأن القرآن لا يقصد بتصديقه الكتاب المقدس الموجود في زمانه مع اليهود والنصارى، وهو يعني بكل صراحة الكتاب (( الذي معهم )) !

إنهم يفترون على القرآن مالا يعلمون !

 

ويأمر القرآن أهل الكتاب أن يعملوا بما فيه. فهل يفهم أمر كهذا أو أن فكرة التحريف موجودة في ضمير النبي العربي؟ (( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل، وما أنزِل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم )) ( مائدة 69 )2 فهل يقصد معاصري موسى أو عيسى، أم يخاطب معاصري زمانه ؟ إنه يأمر يهود ومسيحي زمانه أن يعملوا باستقامة حسب كتابهم لأن ما فيه (( أنزل إليهم من ربهم )) . والعمل بموجب التوراة والإنجيل سبب سعادة لهم، لو فطنوا، ينالون من ورائهما خيرات الدنيا كلها.

وهو يحرّض على تتميم أحكام الكتاب تحريضاً بليغاً متواصلاً: (( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم )) ( مائدة 71 ) ـ قل بربك هل يقصد كتاباً مضى ، وقوماً مضوا ؟ ألا يخاطب

ـــــــــــــــــــ

(1) الجلالان : (( رسول من عند الله : محمد؛ نبذ فريق كتاب الله : التوراة؛ وراء ظهورهم: أي لم يعملوا بما فيها من الإيمان بالرسول وغيره كأنهم لا يعلمون ما فيها من أنه نبي حق أو أنها كتاب الله ! )) .

(2) الجلالان : ( أقاموا ) بالعمل بما فيها ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) بأن يوسع عليهم الرزق ويفيض من كل جهة ـ ألا يعني الشجر والزرع ؟

ـ 56 ـ

كتابيي وقته ويقصد التوراة والإنجيل الموجودَين معهم ؟ فهل يجوز أن يبالغ القرآن في التحريض على إتمام شرائع الكتاب إذا فرضنا التحريف والتزوير في كلام الله وإرادته وأحكامه ؟ أم هل تنسجم فكرة التحريف الكليّ أو الجزئي اللفظي أو المعنوي، مع هذه الأوامر المتواصلة ؟

بتهمة التحريف يفرضون المتناقضات على القرآن، ويحملونا على قبولها ! ألا ساء ما يفترون !

 

والقرآن يأمر أهل الكتاب أن يحكموا بما فيه لأنه حكم الله. فالكتاب الذي يشهد القرآن على صحة ما فيه من أحكام الله ، ويطلب تنفيذها، لا يجوز ولا يقبل على الإطلاق أن يكون محرّفاً !

فالإنجيل فيه حكم الله ويجب أن يحكم أهل الإنجيل بما فيه من أحكام: (( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه1 . ومن لم يحكم بما أنزل الله فيه فأولئك هم الفاسقون )) ( مائدة 50)؛ فحكم الإنجيل منزل من الله ، والقرآن يأمر أهل الإنجيل في زمانه أن ينزلوا عند أحكام الله التي في كتابهم، وفاسق مَن لا يحكم بما أنزل الله فيه. فهل حُرفت أحكام الله ؟ وكيف يقيّدنا بأحكام محرفة ؟

والتوراة كذلك، تلك التي في عصر محمد، فيها أيضاً حكم الله: (( إنا أَنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا، والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) ( مائدة 47 )2 إنه يكفّر من لا يحكم بأحكام

ـــــــــــــــــــ

(1) البيضاوي: (( والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على كل الأحكام )) .

(2) الجلالان: (( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى من الضلالة وبيان للأحكام يحكم بها النبيون من بني إسرائيل للذين هادوا ، والربانيون أي العلماء منهم ، والأحبار أي الفقهاء ، بسبب

ـ 57 ـ

التوراة لأنها هدى ونور، وهي كتاب الله ، أنزله الله ، بها حَكَم الأنبياء قديماً ، وبها يحكم اليوم الربانيون والأحبار، كهنة اليهود وعلماؤهم، لأنهم لم يزالوا شهداء على كتاب الله وأحكامه يحفظونها وينفذونها. فكيف نجترئ على القول بأنها ليست كتاب الله وأحكامه ؟ وكيف نكذّب القرآن الذي يشهد أن علماء اليهود في زمانه شهداءُ على صحة الكتاب وحقيقته ؟

بل يوبخ القرآن النبيَّ الجديد فيما لو فكّر أن يعدل بهم عن كتابهم: (( وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الل ه! )) ( مائدة 46 )1 : الخطاب لمحمد عن يهود زمانه يحذّره من الحكم بينهم بغير ما أنزل الله في التوراة من أحكام، كأن القرآن يردُّهم إلى أحكام كتابهم التي هي من الله. فأي معنى لهذا التحذير للنبي، ولإرجاع أهل الكتاب إلى كتابهم لو أَن لتهمة التحريف ظلاً في ضمير محمد ؟

فكل كلمة من هذه الآيات تنفي شبهة التحريف في الإنجيل أو في التوراة: فأمْر القرآن بالحكم في الحاضر والمستقبل بما أنزل الله في الكتاب المقدس، والتكفير لمن يرفض أحكام الإنجيل والتوراة المنزلة من الله ، وهذا التوبيخ للنبي الأمّي فيما إذا حاول أن يفرض نفسه حَكَماً على أهل الكتاب لا تفهم مطلقاً مع فكرة التحريف .

 

محمد يحتكم إلى الكتاب إذا اختلف مع أهل الكتاب أو غيرهم. فلو شك

ـــــــــــــــــــ

الذي استُودِعوه أي استحفظهم الله إياه من كتاب الله أن يبدلوه وكانوا عليه شهداء أنه حق )) . وقال البيضاوي: (( يحكم بها النبيون الذين أسلموا )) يعني أنبياء بني إسرائيل ، أو موسى ومن بعده إن قلنا (( شرعُ مَن قبلنا شرع لنا )) ما لم يُنسخ ، وبهذه الآية تمسَّك القائل به )) .

(1) يتعجب مـن تحكيم اليهود محمداً والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الـذي هو عندهم . (البيضاوي ).

ـ 58 ـ

النبي في صحة الكتاب أو في سلامته من التحريف هل كان اتخذه شاهداً وحكماً في صحة رسالته وصدق قرآنه ؟

قال: (( ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يُدْعَون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون )) ( آل عمران 23 ): يرفض اليهود النبيَّ الجديد فيحتكم إلى التوراة (( كتاب الله )) الذي بين أيديهم فيعرضون. ومع ذلك يشهد بأنهم يعرفون صحة تعليمه من كتابهم: (( وإن الذين أوتوا الكتاب ليَعْلمون أنه الحق من ربهم )) ( بقرة 144 )؛ إنهم يعرفون صدق كرازة القرآن ولو كتموا الحق: (( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ( محمداً أو القرآن ) كما يعرفون أبناءَهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون، الحقُّ من ربكم فلا تكوننَّ من الممترين )) ( بقرة 146و 147 )1 . يعتدُّ بشهادة الكتاب، ويسمّيها (( الحق )) ، ((الحق من ربك )) ! فكيف تبقى حقاً وقد حرَّفت ؟ وكيف يستشهد بما ليس حقاً ؟ وكيف يعاتبهم على كتمان شهادة مزوّرة، وحقّ مكذوب ؟

اختلف محمد مع اليهود لقولهم: (( لن تمسّـنا النار إلا أياماً معدودات )) ( أل عمران 24 ) فدعاهم إلى (( كتاب الله )) فأعرضوا ( 23 ). حاججهم في قوله: (( إن الدين عند الله الإسلام )) أي التوحيد، فأنكروا وقد علموا ذلك من كتابهم (( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب )) ( آل عمران 19 )، كفروا بآيات الله التي يعلمونها من كتابهم. ونزل لمّا قال اليهود إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم وكان لا يأكل لحوم الإبل وألبانه، فخاصمهم قائلاً: (( كلُّ الطعام

ـــــــــــــــــــ

(1) (( الحقّ من ربك )) أي الحق الذي يكتمونه، وهو إمَّا مبتدأ خبره (( من ربك )) ، وإما خبر مبتدإ محذوف أي هو الحق ومن ربك حال ، أو خبر بعد خبر. وقرئ بالنصب على أنه بدل من (( الحق )) الأول أو مفعول يعلمون . فلا تكن من الشاكّين في أنه من ربك أو في كتمانهم الحق عالمين به ( البيضاوي ).

ـ 59 ـ

كان حِلاًّ لبني إسرائيل ـ إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؛ قل فاتوا بها فاتلوها إن كنتم صادقين )) ( آل عمران 93 ).

فهل كان احتكم محمد إلى التوراة التي في زمانه بين أيديهم، وطلب إليهم أن يتلوها أمامه لو لم تكن هي هي نفسها (( كتاب الله )) و (( الحق )) الذين أنزله، وفيها (( آيات الله )) إلى زمانه وإلى أبـد الدهر ؟ أمـن الممكن أن يحتكم القرآن إلى كتاب محرّف أو مزوّر أو مغشوش ؟!

 

محمد يستشهد على صحة تعليمه من صحة الكتاب الذي بيد اليهود والنصارى. إذا شك أحد في صحة ما يوحي إلى محمد فعليه أن يعرضه على الكتاب السابق، فإنه إمامه في الهدى ( أحقاف 12 ) بل هو منه (( تنزيل رب العالمين، بلسان عربي مبين، وإنه لفي زُبُر الأولين )) ( شعراء 197 ) أي في كتبهم كالتوراة والإنجيل ( الجلالان ). فمَن شك في صحة الوحي الجديد، ونبيه، وطريقته فليسأل أَهل الوحي القديم: (( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر1 إنْ كنتم لا تعلمون بالبينات و الزُّبر)) ( نحل 43 ) . لاحظ أنه يستشهد مباشرة بأهل الذكر و ليس بكتابهم فقط مما يدل على صحة فهمهم له. ويتخذ شهادتهم آية له: (( أَولم يكن لهم آية أن يعلمه علماءُ بني إسرائيل ؟ )) ( شعراء 197). فحجة محمد إنما هي مطابقة تعليمه لتعليم أهل الكتاب، ومطابقة قرآنه للذكر الحكيم وزُبُر الأولين.

فهل يجوز أو يُعقل أن يستشهد القرآن لنفسه بكتاب محرَّف وبعلماء محرِّفين ؟

 

ـــــــــــــــــــ

(1) (( أهل الـذكر : العلماء بالتوراة والإنجيل ؛ إن كنتم لا تعلمون ذلك فإنهم يعلمونه وأنتم إلى تصديقهم أقرب )) ( الجلالان ).

ـ 60 ـ

القرآن يعاتب أهل الكتاب على اختلافهم فيه، وعلى كتمانه. لقد جاء في القرآن قوله: (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ وما اختلف فيه إلا الذين أُوتوه من بعد ما جاءَتهم البيّنات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه، من الحق )) ( بقرة 213 )، فالذين آمنوا على عهد محمد اهتدوا إلى ما اختلفوا فيه من حق الكتاب الذي نزل بالحق على النبيين: يشهد إذن بصحة نزول الكتاب، وبصحة بقاء الحق المنزل إلى يومه.

ومن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه يعدُه القرآن وعيداً شديداً؛ (( أَفتئمنون ببعض الكتب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خِزْيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردوه إلى أشدّ العذاب ))1 : أَيتوعّد أهل الكتاب بالهلاك لكفرهم ببعض الكتاب لو كان لا يؤمن بصحته كله !

ويهدّدهم بالنار الأبدية إذا كتموا الكتاب الذي أنزله الله بالحق أو اختلفوا فيه: (( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم ... ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد )) ( بقرة 174 و 176 ).

هل من معنى لهذه التهديدات الشديدة لو لم تبق حقيقة الكتاب ثابتة كاملة كما أُنزلت بالحق، إلى يوم محمد ؟

 

ـــــــــــــــــــ

(1) (( كانت قريظة قد حالفوا الأوس والنضير الخزرج فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ويخرب ديارهم ويخرجهم وإذا أسِروا فدوهم. وكانوا إذا سئلوا لِمَ تقاتلونهم وتفدونهم قالوا أمرنا بالفداء. فيُقال لِمَ تنادونهم؟ فيقولون حياءَ أن تستذِلّ حلفاؤنا، فنزلت )) ( الجلالان ).

ـ 61 ـ

القرآن يحيل محمداً إلى أهل الكتاب ليطمئن في حالات الشك من نفسه ومن وحيه. إلى من يجهل أمور الوحي وطرائقه يقول دائماً: (( فاسألوا الذكر إن كنتم لا تعلمون )) . فإذا كان هؤلاء لا يؤتَمنون على كتابهم، فكيف جاز له يُحيل الناس إليهم ليطمئنوا في إيمانهم ؟

وإذا ارتاب محمد من نفسه، ومن حقيقة ما يوحى إليه، فعليه أن يُطَمئِنَ نفسه ويوطد إيمانه عند أهل الكتاب الأول: (( فإن كنت في شك مما أَنزلنا إليك، فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك )) ( يونس 94 ) فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه1 ، فهو يصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزِل إليهم وأنزِل إلى محمد2 . لاحظ أن القرآن يحيل محمداً إلى أهل الكتاب، لا إلى الكتاب مباشرة، وهذه شهادة لهم على صدق أمانتهم في حفظ الكتاب، كما أنها شهادة على صحة الكتاب ذاته.

فهل يجوز أن يحيل القرآن محمداً إلى وحي مـزوَّر، محرّف ، ضاعت صورته الأولى ؟ أيجتمع الوحي الصادق مع وحي كاذب ؟!

وهل يمكن أن يَطمَئِن رسولُ الله عند محرِّفين لكتاب الله ؟ ما معنى هذه المواقف المتناقضة ؟

 

ونختم بتصريح عام من القرآن على استحالة التحريف: ذلك إن الله يحفظ وحيه وكفى به حفيظاً !

جاء في القرآن: (( إنا نحن نزّلنا الذكر، وإِنا له لحافظون )) ( حجر 9 ) قالوا

ـــــــــــــــــــ

(1) راجع الجلالين . وما تقدم صفحة 23 حيث استشهدنا بهذه الآية على اتصال محمد بالكتاب وعلمائه وأخذه عنهم . هنا نتخذ الآية دليلاً على اعتقاد القرآن بصحة الكتاب وبصحة فهم أهله إياه في زمان محمد .

(2) راجع البيضاوي.

ـ 62 ـ

إن المقصود بالذكر هنا هو القرآن1 بناء على قوله: (( وقالوا يا أَيها الذي نزّل عليه الذكر إنك لمجنون )) ( حجر 6 ). وفاتهم أن لفظة ذكر معناها الوحي، وقد وردت صفةً ونعتاً واسماً للتوراة والإنجيل والقرآن على السواء: (( ولقد كتبنا في الزَّبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )) ( أنبياء 105 ) (( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً وذكراً للمتقين. وهذا ذكر مبارك أنزلناه )) ( أنبياء 48 و 50 ). فالقرآن كما سنرى يطلق أسماء ((الذكر والفرقان والكتاب )) على التوراة والإنجيل والقرآن على السواء: لقد وحّدها في التعليم، ألا يوحّدها في التسمية ! وهكذا فالله يحفظ وحيه (( من التبديل والتحريف والزيادة والنقص )) كما قال الجلالان. وحفْظ الذكر من عوادي الزمن يشمل كل وحي أنزله الله ، وإلا أَضاع الله الفائدة من وحيه. الله مكلّف بحفظ وحيه كي لا تضيع فائدته الخلاصية على الأجيال المتعاقبة ، وكفى به حفيظا ً!

فكل هذه الشهادات وكثير غيرها تدل دلالة جامعة مانعة على أنه لا تحريف في الكتاب منذ نزوله إلى زمن محمد، وأنه يستحيل ذلك. فشهادة القرآن قاطعة نهائية على صحة الكتاب في زمن النبي فإنهم (( يتلونه حق تلاوته )) كما أنزل2 .

ـــــــــــــــــــ

(1) الجلالان والبيضاوي.

(2) الجلالان: في بقرة 121.

ـ 63 ـ

هل يقول القرآن الكريـم

بتحريف الكتاب المقدس ؟

 

(( يحرفـون الكَلِم عن مواضعه ))

( نساء 45 مائدة 14 و 44 )

يقول بعض الجهلة من المسلمين: (( يختلف الإسلام اختلافاً جوهرياً في عقائده وتشاريعه ونظمه عن كلتا الديانتين الإسرائيلية والمسيحية في صورتيهما المعروفتين الآن بل في صورتيهما اللتين كانتا في عهد محمد عليه الصلاة والسلام. صحيح أن القرآن قد ذكر في أكثر من موضع أنه فيما يقرِّره من عقائد قد جاء مصدِّقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل. ولكن القرآن يقصد التوراة والإنجيل في صورتهما الأولى قبل أن يدخلهما التحريف ويقرّر أنَّ هذه الصورة قد بُدّلت وغُيّرت وحُرّفت عن مواضعها وطُمست جميع معالمها فيما يُسمّى الآن بالديانتين اليهودية والمسيحية ))1 .

ـ فهل من تحريف في الكتاب المقدس ؟

ـ وهل شهد القرآن بهذا التحريف ؟2

إن التهمة لخطيرة؛ وهي ترِد في كل مناسبة؛ بل هي سلاحهم الأخير كلما قام جدل. لذلك سنوفيها حقها من التمحيص، فنذكر الآيات التي جاء فيها معنى التحريف تلميحاً أو تصريحاً ثم نرى ما يقصد بها القرآن أتغيير النص أم تأويل المعنى.

ـــــــــــــــــــ

(1) من كتاب ( الإسلام في نظر الغرب ) بيروت 1953 حاشية ص 18.

(2) رأينا في الفصل السابق شهود النفي على تهمة التحريف، وندرس الآن شهادات الإثبات، حسب التعبير القضائي .

ـ 64 ـ

أولاً : النصوص التي تحمل تهمة التحريف

سورة البقرة 1) (( يا بني إسرائيل ... آمِنوا بما أنزلتُ مصدّقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به. ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً، وإياي فاتّقون. ولا تُلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون. أتأمرون الناس بالبِرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون ؟ )) (41 ـ 44).

2) (( أَفتطمعون أَن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا ! وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ؟ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ! فويل لهم مما كتبتْ أيديهم ! وويل لهم مما يكسبون! )) (75 ـ 79 ).

3) (( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ )) (80).

ــــــــــــــــ

بقرة 41 (( وآمنوا بما أنزلتُ من القرآن ( مصدق لما معكم ) من التوراة بموافقته له في التوحيد والنبوة. ( ولا تشتروا ) تستبدلوا ( بآياتي ) التي في كتابكم من نعتِ محمد ( ثمناً قليلاً ) عوضاً يسيراً من الدنيا. أي لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم.

بقرة 42 (( ولا تلبسوا تخلطوا ( الحق ) الذي أنزلتُ عليكم ( بالباطل ) الذي تفترونه ( ولا تكتموا الحق ) نعت محمد في التوراة ( وأنتم تعلمون ) أنه الحق )) .

بقرة 44 ( أتأمرون الناس بالبر ) الإيمان بمحمد ( وتنسون أنفسكم ) تتركونها فلا تأمرون به ، (وأنتم تتلون الكتاب ) التوراة وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل . ـ لاحظ أن الآية 44 تفسّر معنى إلباسهم الحق بالباطل في الآية 42: يتعجب من الباسهم الحق بالباطل ونسيانهم أنفسهم

ـ 65 ـ

4) (( ولما جاءَهم كتاب من عند الله مصدِّق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءَهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين. بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أَنزل الله ، بغياً أن ينزّل الله من فضله على مَن يشاء من عباده. فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين. وإذا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله ، قالوا: نؤمن بما أنزل علينا، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم )) (89 ـ 91 ).

5) (( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدِّق لما معهم نبذ فريق من الذين أُوتوا الكتاب، كتاب الله ، وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين )) (101).

6) (( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملتهم ... (120) الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به. ومَن يكفر به فأولئك هم الخاسرون )) (121).

ــــــــــــــــ

عن البر الذي يأمرون الناس به وهم يتلون الكتاب: هذا إشعار بأن الكتاب لم يزل كما نزل وهم يتلونه كما نزل ولو ألبسوا حقه بباطلهم. والباء هنا للاستعانة كما قال الزمخشري .د

بقرة 75 ـ 79 جاء في الجلالين : ( أفتطمعون ) أيها المؤمنون ( أن يؤمنوا لكم ) أي اليهود ( وقد كان فريق منهم ) طائفة من أحبارهم ( يسمعون كلام الله ) التوراة ( ثم يحرّفونه ) يغيّرونه ( من بعدما عقلوه) فهموه ( وهم يعلمون ) أنهم مغترون . والهمزة للإنكار، أي لا تطمعوا فلهم سـابقة بالكفر . ( وإذا لقوا ) أي منافقو اليهود ( الذين آمنوا قالوا: آمنا ) بأن محمداً ص. نبيّ وهو المبشّر به في كتابنا . ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض ) أي رجع رؤساؤهم الذين لم ينافقوا لمن نافق ( أتحدّثونهم ) أي المؤمنين ( بما فتح الله عليكم ) أي عرفكم في التوراة من نعت محمد ( ليحاجوكم به عند ربكم ) ليخاصموكم في الآخرة ويقيموا عليكم الحجة في ترك أتباعه مع علمكم بصدقه ( أفلا تعقلون ) فتنبهوا.

ـ 66 ـ

7) (( وإن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه الحق من ربهم. وما الله بغافل عما يعملون )) (124).

8) (( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أَبناءَهم. وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون )) (146).

9) (( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ... ذلك بأن الله نزَّل الكتاب بالحق. وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد )) ( 174 و 176 ).

ــــــــــــــــ

وفسره البيضاوي: ( أفتطمعون ) الخطاب للنبي والمؤمنين ، أن يصدقوكم لأجل دعوتكم. يعني اليهود. وقد كان طائفة من أسلافهم يسمعون التوراة ( ثم يحرفونه ) كنعت محمد ص. وآية الرجم. أو تأويله : فيفسرونه بما يشتهون. وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور ثم قالوا : سمعنا الله يقول في آخره إن استطعم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا، فلا بأس. كذلك الزمخشري.

ومفاد تفسير الثلاثة أنَّ الحديث عن اليهود وحدهم وعن التوراة وحدها. وأن التحريف المذكور هو كتمان نعت محمد وآية الرجم أو تأويلهما على ما يشتهون؛ وفي ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان.

بقرة 85 أفتؤمنون بالفداء المذكور في الآية 85 وتكفرون ببعض وهو ترك القتل والإخراج والمظاهرة لقومهم على حلفائهم.

بقرة 89 (فلما جاءهم ما عرفوا من الحق) وهو بعثه محمد كفروا به حسداً وخوفاً على الرئاسة.

بقرة 101 ( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب، كتاب الله، وراء ظهورهم) نبذ اليهود التوراة أي لم يعملوا بما فيها من الإيمان بالرسول وغيره ( كأنهم لا يعلمون ) ما فيها من أنه نبي حق أو أنها كتاب الله.

ـ 67 ـ

10) (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وما اختلف فيه إلا الذين أأُتوه من بعد ما جاءهم البينات بغياً بينهم. فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه )) (213).

 

سورة الأنعام، وهي مكية؛ فيها آية مدنية في المعنى نفسه:

(( وما قد روا الله حقَّ قدره إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء ! قل: مَن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس

ــــــــــــــــ

بقرة 121 (( يتلونه حق تلاوته أي يقرؤونه كما أُنزل )) الجلالان . (( يريد بالذين آتيناهم الكتاب مؤمني أهل الكتاب ؛ يتلونه حق تلاوته بمراعاة اللفظ عن التحريف، والتدبر في معناه، والعمل بمقتضاه . وهو حال مقدّرة أو خبر. ( أولئك يؤمنون به ) بكتابهم دون المحرّفين )) . البيضاوي. (( هم مؤمنو أهل الكتاب لا يحرّفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله. أولئك يؤمنون بكتابهم دون المحرّفين )) الزمخشري. ـ هذه الآية وحدها تكفي لتفسير التحريف بالتأويل المُغْرِض.

بقرة 146 يعرفونه أي محمداً من نعته في كتبهم. يكتمون الحق أي ذلك النعت.

بقرة 174 ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ) المشتمل على نعت محمد. وهم اليهود يتاجرون ببيع نُسخ التوراة.

أنعام 91 سورة الأنعام متبعضة أي بعضها مكي وبعضها مدني. وهذه الآية مدنية لأنه كما يقول الزمخشري، لم يكن في مكة جدال مع أهل الكتاب. ( ما قدروا الله حق قدره ) ما عظموه حق عظمته، أو ما عرفوه حق معرفته إذ قالوا للنبي وقد خاصموه في القرآن: ما أنزل الله على بشر من شيء.

ـ 68 ـ

تُبدونها وتخفون كثيراً وعُلّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ؟ قل: الله ! ثم ذرهم في خوضهم يلعبون )) (91).

(( أفغير الله أبتغي حَكَماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً. والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزَّل من ربك بالحق فلا تكوننَّ من الممترين )) . (114).

 

سورة آل عمران :

1) (( ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يُدعَون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون )) ( 23 ).

2) (( ودَّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلّونكم. وما يضلّون إلا أنفسهم

ــــــــــــــــ

( تجعلونه قراطيس ) أي تكتبونه في دفاتر مقطعة، ( تبدونها ) أي ما تحبون إبداءَه منها، (وتخفون كثيراً مما فيها ) كنعت محمد، ( وعلمتم ) أيها اليهود، في القرآن ( ما لم تعلموا ) من التوراة، ببيان ما التبس عليكم.

أنعام 114 آية مدنية. ( والذين آتيناهم الكتاب ) التوراة ( يعلمون أنه ) أي القرآن منزل من ربك.

آل عمران 23 نزلت في اليهود: زنى منهم شريفان فتحاكموا إلى النبي فحكم عليهما بالرجم كما في التوراة فأبوا. فجيء بالتوراة فوُجد فيها الرجم فرُجِما فغضبوا. ( يدعون إلى كتاب الله ) التوراة.

آل عمران 72 ( لِمَ تكفرون بآيات الله ) القرآن ( تكتمون الحق ) نعت محمد في التوراة.

آل عمران 73 تصف إحدى مؤامرات اليهود: التظاهر بالإيمان بمحمد ثم الكفر به ليحملوا الناس على التشبّه بهم إذ يقولون: ما رجع هؤلاء عنه بعد دخولهم فيه وهم أولو علم إلا لعلمهم ببطلانه.

ـ 69 ـ

وما يشعرون. يا أهل الكتاب لِمَ تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ! يا أهل الكتاب لِمَ تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون !

وقالت طائفة من أهل الكتاب: (( آمنوا بالذي أُنزِل على الذين آمنوا وجهَ النهار وكفروا آخره لعلهم يرجعون. ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم )) (69 ـ 73 ).

3) (( وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب. ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون )) (78).

4) (( قل: يا أَهل الكتاب لِمَ تكفرون بآيات الله، والله شهيد على ما

ــــــــــــــــ

آل عمران 78 (( يلوون ألسنتهم بالكتاب )) قال البيضاوي: المحرفون ككعب ومالك وحيي بن أخطب يفتلون ألسنتهم بقراءة الكتاب فيميلونها عن المنزل إلى المحرّف، أو يعطفونها بشُبَه الكتاب )) . قال الجلالان: يعطفونها بقراءَته عن المنزل إلى ما حرفوه من نعت النبي. ( لتحسبوه ) أيها المسلمون، والضمير للمحرّف. قال الزمخشري: (( هم كعب بن الأشرف ومالك ابن الصيف وحيي بن أخطب وغيرهم يفتلون ألسنتهم بقراءة الكتاب عن الصحيح إلى المحرّف. والضمير في ( لتحسبوه ) يرجع إلى ما دَل عليه يلوون ألسنتهم بالكتاب وهو المحرّف. ويجوز أن يراد يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب. وقرئ ليحسبوه. وعن ابن عباس هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيّروا التوراة وكتبوا كتاباً بدّلوا فيه صفة رسول الله ص. ثم أخذت قريظة ما كتبوه وخلطوه بالكتاب الذي عندهم )) .

ـ فيظهر إنها حيلة فريق منهم فيما يخص صفة النبي الذي تذكره التوراة: اخفوا النص الحقيقي وأظهروا غيره وليس هذا بتحريف النص.

ـ 70 ـ

تعملون ! قل: يا أهل الكتاب لِمَ تصدّون عن سبيل الله مَن آمن، تبغونها عوجاً وأنتم شهداء، وما الله بغافل عمّا تعملون. يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين )) (98).

5) (( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم. وتؤمنون بالكتاب كله. وإذا لقوكم قالوا آمنا. وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ )) (119).

6) (( وإذ أَخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب: لَتُبيِنُنّهُ للناس ! ولا تكتمونه ! فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً ! فبئس ما يشترون )) (178).

7) (( وإن من أهل الكتاب لَمَن يؤمن بالله وما أُنزل إليكم وما أُنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً. أولئك لهم أجرهم عند ربهم )) (199).

 

ــــــــــــــــ

آل عمران 98 المقصود بأهل الكتاب اليهود يكفرون بالقرآن ويصرفون عن دين الله مَن آمن به بتكذيبهم النبي وكتم نعته وهم شهداء عالمون بأن الدين المرضي القيّم دين الإسلام كما في كتابكم ( الجلالان والبيضاوي ).

آل عمران 119 (( وتؤمنون بالكتاب كله )) أي بالكتب المنزلة كلها ولا يؤمنون بكتابكم ( الجلالان )؛ والحال إنكم تؤمنون بكتابهم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم ولا يؤمنون بشيء من كتابكم ( الزمخشري ). ـ كيف يؤمن المسلمون بكتاب محرّف ؟؟ وفي حال حملات النبي على تحريفه ؟

آل عمران 178 عُهد في الكتاب إلى أهل الكتاب أن يبيّنوا الكتاب للناس ولا يكتمونه عنهم فطرحوا العهد وراء ظهورهم ولم يعملوا به بكتمان الكتاب عن النبي والمسلمين (عن الجلالان). (( أكّد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه )) ( الزمخشري ) وهذا يدل أن التهمة كلها فيما يظن كتمان صفة النبي المذكورة في التوراة ، لا تغيير تلك الصورة.

ـ 71 ـ

سورة النساء :

(( ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلّوا السبيل ... من الذين هادوا يحرّفون الكَلِم عن مواضعه ويقولون: سمعنا وعصينا! واسمعْ غيرَ مُسْمَعٍ وراعنا: ليّاً بألسنتهم وطعنا في الدين ))

(( ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعْنا، واسمعْ وانظرْنا لكان خيراً وأقوم. ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً )) .

ــــــــــــــــ

نساء 44 (( يحرفون الكلم عن مواضعه )) . جاء في الجلالين: (( قوم من اليهود يغيّرون الكَلِم الذي أنزل الله في التوراة من نعت محمد عن مواضعه التي وضع عليها. يقولون للنبي إذا أمر بشيءٍ: سمعنا قولك وعصينا أمرك ! واسمَع غير مُسمَعٍ: حال بمعنى الدعاء أي لا سمعت ! ويقولون له: راعِنا ! وهي كلمة سب في لغتهم. ليّاً بألسنتهم أي تحريفاً وقدْحاً في الإسلام )) . ـ وعندنا إن سياق الحديث يعني كلام محمد لا كلام التوراة: يلوون ألسنتهم عند النطق به هزءاً وسخريةً، ويسبون محمداً بخطابه: راعِنا !

قال البيضاوي: (( من الذين هادوا قوم ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها. أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه. ( واسمعْ غيرَ مُسْمَعٍ ) أي مدعواً عليك بلا سمعتَ ! أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ! أو غير مسمع كلاماً ترضاه )) .

ـ ألا يظهر أن الكلام المحرّف عن معانيه لا عن ألفاظه هو كلام محمد بدليل هزئهم به ؟

قال الزمخشري (( يحرفون الكَلِم ( أو الكِلْم ) عن مواضعه )) يميلونه عنها ويزيلونه لأنهم إذا بدلون ووضعوا كلماً غيره فقد أمالوه عن مواضعه التي وضعه

ـ 72 ـ

(( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمِنوا بما نزَّلنا مصدّقاً لما معكم من قبل أن نطمِسَ وجوهاً فنردّها على أدبارها، أو نلعَنهم كما لعنّا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً )) (44 ـ 47).

(( ... لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك )) (262) .

 

سورة المائدة :

(( ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل ... فيما نقضِهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية. سيحرّفون الكَلِم عن مواضعه. ونسوا حظّاً مما ذُكّروا به. ولا تزال تطّلعُ على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعفُ عنهم واصفح أن الله يحب المحسنين )) (14).

ــــــــــــــــ

الله فيها وأزالوه عنها وذلك نحو تحريفهم (( أسمر ربعة )) عن موضعه في التوراة بوضعهم (( آدم طوال )) مكانه ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله. فإِن قلتَ كيف قيل ههنا (( عن مواضعه )) وفي المائدة (( عن بعد مواضعه )) قلتُ إما عن مواضعه فعلى ما فسرناه من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها. وإما عن بعد موضعه فالمعنى إنه كانت له مواضع هو قمنٌ بأن يكون فيها فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقره. والمعنيان متقاربان.

مائدة 14 (( يحرفون الكَلِم عن مواضعه )) . جاءَ في الجلالين: (( يحرفون الكَلِم الذي في التوراة من نعت محمد وغيره ( عن مواضعه ) التي وضعه الله عليها أي يبدّلونه. وتركوا نصيباً مما أمروا به في التوراة من أتباع محمد )) .

قال البيضاوي: (( استئناف لبيان قساوة قلوبهم فإنه لا قساوة أشد من تغيير كلام الله والافتراء عليه. ويجوز أن يكون حالاً من مفعول لعناهم

ـ 73 ـ

(( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظّاً مما ذُكّروا به. فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون )) (15).

(( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين )) (16).

(( يا أَيها الرسول لا يحزُنك الذين يُسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم. ومن الذين هادوا سمّاعون للكذب، سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك ـ يحرّفون الكلم من بعد مواضعه: يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا )) (44).

(( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين

ــــــــــــــــ

لا من القلوب إذ لا ضمير له فيه. والمعنى إنهم حرّفوا التوراة وتركوا حظهم مما أنزل عليهم فلم ينالوه. وقيل معناه إنهم حرّفوها فزلّت بشؤمه أشياء منها عن حفظهم )) .

قال الزمخشري: لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير وحيه. وتركوا نصيباً جزيلاً وقسطاً وافياً مما ذكروا به من التوراة: يعني إن تركهم وأعراضهم عن التوراة اغفال حظ عظيم. وقيل تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد وبيان نعته.

مائدة 15 لاحظ أنه لا ينسب تحريفاً ما إلى النصارى بل يذكر البغض بينهم وبين اليهود، أو بين فرق النصارى ( البيضاوي ).

مائدة 16 (( يا أهل الكتاب … مما كنتم تخفون )) المقصود بأهل الكتاب اليهود وحدهم هنا لا اليهود والنصارى لأن تهمة كتمان الكتاب لم ينسبها القرآن مطلقاً إلى النصارى (15) كما نسبها إلى اليهود (14). (( مما كنتم

ـ 74 ـ

أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار، أولياء ... وإذا ناديتم إلى الصلوة اتخَذوها هزؤاً ولعباً )) ( 57 و 58 ).

(( لتجدنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أُنزِل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع بما عرفوا من الحق )) ( 85 ـ 88).

ثانياً : معنى التحريف المذكور

تلك هي مجموعة النصوص القرآنية التي وردت فيها تهمة التحريف والكتمان والاخفاء واللّي والكذب والهزء وإلباس الحق بالباطل. فما معنى هذه التهمة الخطيرة ؟ وما قصد القرآن بإسناده إليهم التحريف ؟

ملاحظات عامة هامة :

1) لاحظ أَنها تهمة واحدة من الأول إلى الآخر ولو تنوّع التعبير عنها.

ــــــــــــــــ

تخفون من نحو صفة الرسول ومن نحو الرجم )) (الزمخشري والجلالان).

ـ نقول أليس في هذا الاخفاء معنى تحريف الكلم المذكور قبله 14 وبعده 17 .

مائدة 44 قال الزمخشري: السماعون للكذب بنو قريظة والآخرون يهود خيبر (يحرفون الكلم ) يميلونه ويزيلونه ( عن بعد مواضعه ) التي وضعه الله تعالى فيها فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا مواضع. ( إن أوتيتم ) هذا المحرّف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق واعملوا به وإِن أفتاكم محمد بخلافه أي بالجلد دون الرجم لمن زنى، فإياكم وإياه فهو الباطل. قال البيضاوي: يميلونه عن مواضعه إما لفظاً بإهماله أو تغيير وضعه وإما معنىً بحمله على غير المراد .

ـ 75 ـ

لذلك لا يجوز تفسير تلك الآيات مجزّأة بل يجب أن يفسّر بعضها بعضاً وإلا مسخ المعنى.

2) لقد أوردنا الآيات بحسب ترتيب نزولها فيبدو من ذلك أن تهمة التحريف ما وردت إلا في السّور المدنيّة فقط، ولا ذكر لها مطلقاً في السور المكيّة. وإذا وجدت بعض آيات في السور المكية كما في سورة الأنعام مثلاً فالمصاحف تدل على أن هذه الآيات مدنيّات أقحمت في السور المكية لغاية نجهلها. ومن ثم فلو كانت تهمة التحريف قديمة لوجدنا لها أثراً في حياة النبي المكية حيث نرى محمداً يستشهد بالكتاب وبمن عنده علم الكتاب على صحة قرآنه: أيجوز أن يستشهد بمحرّفين وبكتاب محرَّف ؟ ( شعراء 197 ).

3) لا شكّ إنك لاحظت أيضاً أن النزاع قائم منذ البداية حتى النهاية ( مائدة 85 ) بين محمد واليهود: فلا ذكر هناك مطلقاً لنزاع بين النصارى ومحمد ـ وإن قال مرة واحدة إنهم غير راضين عن تغيير القبلة وافتراقه عنهم ( بقرة 121 )؛ ولا هو يتهمهم بالكفر والتحريف ( مائدة 15 ): فتهمة التحريف إذن ـ مهما كان معناها ـ لا يلصقها القرآن بالنصارى ولا بإنجيلهم، إنما يوجّه التهمة دائماً إلى اليهود وحدهم، بل إلى فريق منهم: (( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه )) ( بقرة 75 )، و (( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم )) ( بقرة 101 )، (( وان فريقاً منهم ليكتمون الحق )) ( بقرة 146 ) ، ((تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً )) (أنعام 91)؛ فتهمة التحريف والكتمان إذن تقع على التوراة من قوم موسى. وكل أهل الكتاب المقصودين بالتحريف ومقاومة النبي في آل عمران هم اليهود وحدهم ( 23 و 69 ـ 73 و 78 و98 ) بدليل إنه يستثني منهم رهبان عيسى وملته (113). وكذلك في سورة النساء: (( الذين أوتوا نصيباً من الكتاب هم الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه )) (44). والتمييز في سورة المائدة بين اليهود والنصارى، في شأن هذه التهمة، أصرح: (( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ... يحرفون الكلم عن مواضعه )) ( مائدة 13 ـ 14 )، (( ومن الذين

ـ 76 ـ

هادوا يحرفون الكلم من بعد مواضعه )) ( مائدة 44 ). فالتهمة تعني صراحة قوماً من اليهود لا جميعهم، وهم الذين كانوا يقاومونه ويتآمرون عليه بأقوالهم وأعمالهم.

فلا أَثر إذن البتة لهذه التهمة بحق النصارى وإنجيلهم. إنه يذكر النصارى مرتين بقولـه: (( لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى1 حتى تتبع ملتهم )) ( بقرة 121 ) وقولـه : (( ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظّاً مما ذكّروا به )) ( مائدة 15 )، وهذا القول لا يمتّ من قريب أو بعيد إلى تهمة التحريف التي يذكرها قبله ( 14 ) وبعده ( 44 ) بحق فريق من اليهود. ولئن هو أضاف في المائدة، بعد ذكر اليهود والنصارى ( 14 و15 )، تهمة الاخفاء من الكتاب ( 16 ) فلا يقصد إلا قوماً من اليهود فقط لأنه لا يخصّ النصارى بمثل هذه التهم على الإطلاق، ثم لأن سياق الحديث لا يزال عن تغيير الرجم بالجلد ( 14 ) وإخفاء نص الرجم عن الناس ( 16 ) كما ذكرت أسباب نزول هذه الآية.

ويستثني القرآن النصارى وبخاصة رهبانهم من مقاومة النبي الجديد من أول القرآن إلى آخره في سورة التوبة. ويصرّح بهذا الاستثناء حيث يذكر تهم المقاومة والتحريف والكتمان والعداوة في سورة آل عمران ( 113) والمائدة ( 85 ).

4) إن تهمة التحريف بحق فريق من اليهود تقتصر على آية أو آيتين لا غير: 1ً في حدّ الزنى بحسب التوراة هل هو الرجم أم الجلد؛ ومدار الجدال وتغيير الكلم عن مواضعه في سورة المائدة ( 14 و 44 ) هو عليه. قال الزمخشري: (( روي أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان، وحدّهما الرجم في التوراة، فكرهوا رجمهما لشرفهما. فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله (ص) عن ذلك وقالوا: إن أمركم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا. وأرسلوا الزانيين معهم فأمرهم بالرجم.

ـــــــــــــــــــ

(1) يظهر أن لفظة (( ولا النصارى )) مدسوسة على الآية إذ لا شيء في سياق الحديث يقتضيها، فخلافه، إلى سورة التوبة، في القرآن كله مع اليهود وحدهم.

ـ 77 ـ

فأبوا أن يأخذوا به. فجعل بينه وبينهم حكماً ابن صوريا من فدك. فشهد بالرجم وشهد للنبي: إنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشّر به المرسلون )) ! وعليه المحدثون، والمفسّرون بالاجماع في تفسيرهم ( مائدة 14 و 44 )، وعليه أسباب النزول كلها ( السيوطي في الجلالين ).

2ً في صفة ونعت (( النبي )) الذي يذكره موسى في توراته: كان أهل مكة والمدينة يسمعون هذا الوصف قبل مبعث محمد. فلما بٌعث ظنوا أن الوصف يعنيه. وقام بينهم وبين اليهود جَدَل كبير حول ذلك. وكان محمد يؤكد أنه هو هو (( النبي الآتي )) ويطالب اليهود بإظهار نصّ التوراة في وصف النبي المذكور فيحاولون كتمانه وإخفاءَه، وإذا اضطُرّوا لَوَوا ألسنتهم في التلاوة ليميلوا الألفاظ إلى غير معنى.

ولا تجد في القرآن والأحاديث والتفاسير غير هاتين الآيتين يقصدهما القرآن عندما يتكلم على تحريف أو كتمان يجريه بعض اليهود على بعض ما في التوراة.

النصوص الصريحة :

لقد حدّدنا الفاعل والمفعول في تهمة التحريف التي يذكرها القرآن عند أهل الكتاب.

الآن فما معنى تلك التهمة ؟ لنراجع النصوص الواردة فالصريح منها أربعة :

النص الأول من سورة البقرة: (( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم. وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه )) ( بقرة 75 ) يذكر المفسّرون، ومنهم الزمخشري والبيضاوي، أن السامعين كلام لله والمحرفين (( طائفة من أسلافهم ( أسلاف اليهود )؛ وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور ثم قالوا سمعنا الله يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا. والمعنى أن

ـ 78 ـ

أحبار هؤلاء ومقدِّميهم كانوا على هذه الحالة فما بالك بسفلتهم وجهالهم اليوم )) !

فالنص يعني بعض معاصري موسى. ويعني إنهم يتأوَّلون كلام الله على هواهم لا التغيير في النص النازل على موسى والذي سجله في التوراة. وما كان لهم أن يفعلوا ذلك بحضوره، وما كان لهم إليه سبيل مع وجوده.

والقرآن صريح: أنَّ هؤلاء القوم (( يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه )) أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة. وهذا لا يعني تغييراً في النص بل التأويل المغرض، ولا يُقصد به اليهود والتوراة في زمان محمد بل التوراة واليهود في أيام موسى.

وهب إنه يقصد به توراة زمانه فالآية التالية ( 75 و 76 ) تفسّر التحريف بالكتمان: (( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ )) يحاول فريق منهم أن يكتم على المسلمين (( نعت النبي )) في التوراة، فيحدثهم به الفريق الثاني الموالي للمسلمين؛ فيختصم الفريقان اليهوديان حول البوح بسرّ الكتاب إلى قوم محمد. وهذا دليل قاطع على أن لفظة (( يحرّفونـه )) لا تدل على تغيير النص بل على (( تفسيره بما يشتهون )) كما ارتأى البيضاوي. ومما يزيد الدليل وضوحاً وقوة الخصام الناشب بين الطرفين. ولا يمكن مع الخصام التواطؤ على تغيير النص لأنه لو اعتزم على التغيير فريق لتصدّى الفريق الآخر الموالي للمسلمين وأطلع هؤلاء على النص الحقيقي ومعناه الراهن. فالنص إذن لم يُمَسّ.

والنصوص الأخرى من سورة البقرة تبيّن أن التحريف المذكور هو الكتمان، أي كتمان نصّ التوراة أو كتمان معناه. إنهم يكتمون الحق (42) أي نعت النبي في التوراة؛ ويؤمنون ببعض ويكفرون ببعض (85) أي لا يعملون به؛ ويؤمنون بما أنزل عليهم ويكفرون بما وراءه (90) أي بالقرآن ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم لمَّا عرفوا أنه يشهد لمحمد (101). فكل محاولاتهم إذن تعني كتمان حقيقة الكتاب على المسلمين: (( وإن فريقاً منهم

ـ 79 ـ

ليكتمون الحق وهم يعلمون )) (146)، (( يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً )) (175). ومع ذلك فإن هناك فريقاً آخر، هم الراسخون في العلم منهم (( يتلون الكتاب حقّ تلاوته )) (121) ويظهرونه للمسلمين ويؤمنون بالقرآن.

وهكذا لا يوجد أيّ أثر في سورة البقرة للقول بتغيير وتبديل في نص التوراة، بل هناك شهادة صريحة بأن الراسخين في العلم منهم (( يتلون الكتاب حقّ تلاوته )) أي (( يقرؤونه كما أُنزِل )) ( الجلالان ).

 

النص الثاني من سورة النساء: (( من الذين هادوا يحرّفون الكَلِم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا. واسمعْ غير مُسمَعٍ ! وراعِنا ! ليّاً بألسنتهم وطعناً في الدين ! )) (45).

إن أوّل ما يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: ما المحرّف في هذه الآية أكلام التوراة أم كلام القرآن ومحمد ؟

وإنّا لنجزم في يقين أن التحريف يقع على كلام القرآن أو النبي لا على كلام التوراة بدليل قوله قبل الآية (( يريدون أن تضلوا السبيل )) ( 43 و 44 )؛ وفيها: (( لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً منهم )) (45)؛ فلا يعقل أن يكفر اليهود بتوراتهم، بل قد يجوز أنهم فسّروها على هواهم، ولا سيما وإنه قد وصف حال تحريفهم الكَلِم عن مواضعه بقوله: ((ويقولون: سمعنا وعصينا ! واسمعْ غير مسمَع ! وراعِنا ! ليّاً بألسنتهم وطعناً في الدين ! )) (45) وهي صفات أربع تشفّ عن تهكّم لاذع وطعن في الدين: ولا يعقل أن تكون من اليهود بحق كتابهم ودينهم ! بل إنها في كتاب لا يدينون به، وفي نبي لا يؤمنون برسالته، لهذا السبب يلعنهم لكفرهم وقلة إيمانهم (45). وقد يكون المقصود كلام محمد لا كلام القرآن نفسه.

ـ 80 ـ

وهب أن (( التحريف )) المقصود يُسند إلى التوراة، فهو لا يعني ضرورةً تغيير النص بل يفيد أيضاً تفسير المعنى بوحي الهوى: إنه يقول (( يحرّفون الكلم عن مواضعه )) التي وضعه الله فيها، أي عن معانيه، لا عن ألفاظه. وقد جمع البيضاوي مجمل التفاسير لهذه الآية بقوله: (( أي من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها؛ أو يؤولونه على ما يشتهون فيُميلونه عما أنزل الله فيه )) فالتحريف على رأيهم يتناول التغيير في اللفظ أو التغيير في المعنى؛ إذن ليس هناك ما يقول حتماً بتغيير اللفظ. ونستغرب منهم موقفهم المغرض إذ يقولون بتغيير اللفظ مع أن الآية صريحة في وصفها التحريف بأربع صفات لا يمكن إرجاعها إلى اللفظ بل إلى المعنى ((ويقولون: سمعنا وعصينا ! واسمعْ غير مسمَع! وراعِنا ! ليّاً بألسنتهم وطعناً في الدين )) . وهب أيضاً أن قوماً من الذين هادوا قد فسقوا وكفروا حتى (( يلوون ألسنتهم )) في توراتهم ((ويطعنون في دينهم )) ذاته، فكيف يسكت عنهم الراسخون في العلم منهم الذين (( يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزِل من قبلك )) ؟! (162).

فالآية إذن لا يُقصد بها التوراة، ولا يقصد بها تغيير لفظي في النص المذكور.

 

النص الثالث من سورة المائدة: (( ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل ... فبما نقضِهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية: يحرّفون الكِلم عن مواضعه. ونسوا حظّاً مما ذكّروا به و لا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا )) (14).

هذا النص يقع في مقطع واحد لا يتجزأ ( 13 ـ 21 )، وهو حملة على اليهود بني إسرائيل (13) لنقضهم الميثاق الذي عاهدهم الله فيه على الإيمان برسله وتعزيزهم ( 17 )؛ ولا يَذكر النصارى فيه إلا عرضاً (15) ليذكّرهم بميثاقهم، ولا ينسب إليهم فيه تحريفاً ولا مؤامرة على النبي.

وأما أسباب نزول هذه الآية (14) والتي بعدها (44) فهي تعديل

ـ 81 ـ

اليهود حد الزنى من الرجم إلى التحميم والجلد، كما ذكر السيوطي والزمخشري. فتحريف الكَلم عن مواضعه يعني إذن هذا التأويل لا غير.

وإذا أمعنا النظر في دقائق النص نرى أن الله لعن اليهود بسبب نقضهم ميثاقهم الذي عهد الله فيه إليهم بالإيمان بالرسل ومناصرتهم (13)، ومنهم محمد، فقست قلوبهم وباتت لا تلين لقبول الإيمان، بل مضت تحاول تأويل الميثاق والمَيْل به عن معناه بحسب أهوائهم؛ وقد نسوا حظّاً ممّا ذُكّروا به على لسان الأنبياء بوجوب الإيمان بالنبي الآتي؛ فجاء محمد على فترة من الرسل يبيّن لهم ما نسوه (21) ويبين لهم كثيراً مما كانوا يخفون من الكتاب (16). فتحريف الكلم من ثم مقصور على نقض الميثاق وتناسي ذكر الأنبياء، وإخفاء أشياء من الكتاب على الناس.

فالتعبير (( يحرفونه الكَلم عن مواضعه )) يفسّره ما قبله وما بعده من هذا المقطع كله (13ـ 21 ): لقد أَخذ الله على اليهود العهد بأن يؤمنوا برسله (13)، فنقضوا العهد ولم يؤمنوا بيحيى ولا بعيسى ولا بمحمد؛ ووجدوا في أنبيائهم نعت (( النبي الآتي )) فلما ظهر محمد كتموه وفسروه بمعنى آخر فغيّروا الكَلِم عن مواضعه أي عن معانيه. فهم لم يغيّروا النص الأصلي بل (( نقضوا ميثاقهم )) وأهملوا العمل بما جاء في (( ذكرهم )) من نعت (( النبي)) وضرورة قبول نبوّته؛ ودسائسهم على النبي العربي لا تنتهي (( فلا تزال تطّلع على خائنة منهم )) . بيد أن جميع محاولاتهم هذه قد باءت بالفشل لأن الرسول (( يبين لهم كثيراً مما كانوا يخفون من الكتاب )) (16). وهذه الآية 16 الناطقة بالاخفاء والكتمان تفسّر الآية 14 عن التحريف. فالتحريف المذكور إذن لا يُقصد به سوى كتمان النص أو كتمان معناه على الناس، لا غير.

 

النص الرابع من سورة المائدة أيضاً: (( يا أيها الرسول لا يحزُنْك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم. ومن

ـ 82 ـ

الذين هادوا سمّاعون للكذب، سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك: يحرّفون الكَلِم من بعد مواضعه: يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذَروا. ومن يرُدّ الله فتنتَه فلن تملك له من الله شيئاً. أولئك الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم)) (45).

يعزّي الله الرسول عن كفر المنافقين من المشركين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهؤلاء المنافقون من اليهود؛ ونفاق اليهود يقوم على (( تحريف الكَلِم من بعد مواضعه)) في حادثة معيّنة يذكر من ظروفها: سماع قوم منهم لكذب قومٍ آخرين، وتحريضهم لهم: (( إن الحادثة المذكورة ترجع إلى تفسير اليهود لآية الرجم في التوراة بالجلد. فالتحريف المنصوص عنه ههنا في القرآن يُقصد به آية واحدة بعينها. وهذا التحريف يفسّره النص ذاته بتغيير المعنى لا بتغيير اللفظ حيث يقول: (( يحرّفون الكَلِم من بعد مواضعه: يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتَوه فاحذروا )) فالتحريف إذن انحراف في المعنى لا تبديل في اللفظ .

وممّا يدعم قولنا إن (( تحريف الكَلِم من بعد مواضعه )) يراد به تأويل آية الرجم بالجلد لا تغيير لفظها، هو ما نُعت به اليهود في قوله: (( سمّاعون للكذب، سمّاعون لقوم آخرين )) فالكذب على الكتاب هو تبديل معنى لا تغيير لفظ وتحريف مبنى.

وإذا اقتصرنا على التعبير بحد ذاته (( يحرّفون الكَلِم من بعد مواضعه )) فصيغة التعبير نفسها (( من بعد مواضعه )) تعني تحريف المعنى لا تغيير الألفاظ. وقد لخص البيضاوي مجمل التفاسير السابقة بقوله: (( يحرّفون الكَلِم من بعد مواضعه، أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها إما لفظاً بإهماله أو تغيير وضعه، وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده )) . وكلاهما لا يعني تبديل أَلفاظ في النص بأَلفاظ غيرها، فيقع التحريف بالمعنى الحصري.

ـ 83 ـ

والمقطع كله (( سمّاعون للكذب ... يحرّفون الكلم من بعد مواضعه ... يقولون: إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تُؤتوه فاحذروا )) قبل ذكره التحريف ومعه وبعده لا يُقصد به سوى حمل الكلم، المقصود بسؤالهم، على غير المراد منه وإجرائه في غير مورده فليس هناك دليل على تبديل ألفاظ بألفاظ غيرها.

وقد لاحظت، ولا شك، إن محاولة التحريف المعنوي المذكور قام بها قوم (( من الذين هادوا )) ، ( (( من )) التبعيضية ) ، لا جميع اليهود معاً. والتحريف من جانب أفراد لمعنى آية يستحيل أن يتواطأ عليه الجميع ولا سيما إذا كانوا على اختلاف كما هم عليه هنا إذ نراهم يختصمون إلى النبي ويستفتونه فينتصر للتفسير الحق. فليس من هذا القبيل أيضاً خوف على تحريف وتغيير في لفظ التوراة.

ويختم هذا المقطع بذكر عداوة اليهود ومودة النصارى للمسلمين (85)؛ وفيه حصر آخر لفاعل التحريف ومعناه ومرماه. فيكون مما تقدُم ان تهمة التحريف تنحصر في تغيير نفر من اليهود لمعنى آية واحدة لا غير.

فقل، بربك، أَلا ترى تلك التهمة الخطيرة المدوية أنها مجرّد قرقعة ! وهل يستحق تغيير نفر من اليهود لمعنى آية الرجم بالجلد كلَّ هذه الضجة الصاخبة، واتهامهم اليهود كلهم تعسفاً وافتـراءً بتحريف الكتاب إجمالاً ؟! (( وإن أوهن البيوت لَبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون )) ! (41).

تهم غير صريحة

وهناك تُهَم غير صريحة تفسّر بمجموعها معنى التحريف المذكور في القرآن.

إنه يتهم اليهود بالكفر بالوحي الجديد مع أنه مصدق لما معهم ( بقرة 41 و 89 آل عمران 69 ).

ويتهمهم غنهم يُلبسون حقيقة معنى الكتاب بباطل تفسيرهم: (( ولا تلبسوا الحق بالباطل)) ( بقرة 41 آل عمران 61 ).

ـ 84 ـ

ويتهمهم أكثر الأوقات بكتمان معنى الكتاب عن الناس (( لا تلبسوا الحق بالباطل، وتكتموا الحق وأنتم تعلمون )) ( بقرة 41 )، أو كتمان نص بعض الآيات: (( يكتمون ما أنزل الله من الكتاب )) إذ (( تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً )) ( أنعام 91 ) بيد أنه (( يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب )) ( مائدة 16 ).

يتهمهم بلَيّ ألسنتهم في تلاوة الكتاب (( لتحسبوه من الكتاب )) ( آل عمران 78 ) وفي قراءة القرآن (( ليّاً بألسنتهم وطعناً في الدين )) ( نساء 45 ).

يتهمهم بالإعراض عن التوراة عند تحكيمها: فإذا استشهد محمد بالتوراة (( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون )) ( بقرة 101 ) و (( يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون )) ( آل عمران 23 ).

يتهمهم بإخفاء الكتاب عن الناس لمآربهم وقد أمرهم الله أن يبيّنوه لهم (( لتَـْبينُـنّه للناس ! ولا تكتمونه ! فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً )) ( آل عمران 187 ).

يتهمهم بنقض الميثاق الذي عقده الله معهم باتباع رسله والإيمان بالرسول الأعظم الذي يختمهم فنقضوا العهد ( المائدة 13 ).

يتهمهم بالتظاهر بالإيمان مع إضمار الكفر وهذا هو النفاق: (( وإذا لقوكم قالوا آمنا. وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ )) ( آل عمران 119 )، وينافقون دائماً: (( آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره لعلهم يرجعون )) ( آل عمران 72 ).

فكل هذه التهم ترجع في جوهرها إلى موقف واحد: كتمان بعض اليهود لبعض آيات التوراة، كتمان نص الآية أو كتمان معناها الحقيقي كي لا يستشهد بها محمد وقومه: ((أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ؟ )) ( بقرة 76 )؛ كانوا يخفون معنى بعض الآيات بشتى محاولات التأويل

ـ 85 ـ

الباطل والتفسير العاطل، وهذا كله ليس من التحريف الحقيقي في شيء لأن التحريف بمعناه الحصري هو تغيير النص بنص غيره.

وهكذا التحريف اللفظي كان مستحيلاً بشهادة القرآن نفسه إذ عنى تلميحاً وتصريحاً، كما رأينا، التحريف المعنوي لا اللفظي لبعض الآيات. وقد أظهر النبي (( كثيراً مما كانوا يخفون من الكتاب )) ( مائدة 16 ) خاصة آية الرجم ( مائدة 44 )، وآية نعت محمد ( مائدة 14 ). فلا مجال بعده للخوف من خطر التحريف؛ فضلاً عن أن القرآن قد جاء مصدقاً للكتاب ومهيمناً عليه فلا يمكن أن يشهد للتحريف؛ ويشهد أيضاً إن المحاولة بإِفساد بعض معاني الكتاب كانت من فريق من اليهود لم يُقرَّهم عليها الفريق الآخر؛ وإنها كانت محاولة فاشلة فضحها الموالون للنبي والمسلمين: (( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أُنزِل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً )) ( آل عمران 169 )، ولا سيما وإن من هذا الفريق الكتابي رجالاً راسخين في العلم: (( والراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزِل إليك وما أنزِل من قبلك )) ( نساء 162 )، وكانوا يتلون الكتاب حقّ تلاوته: (( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته، أولئك يؤمنون به )) بالكتاب والقرآن ( بقرة 121 ). فكيف يمكن أن يسمح ذلك النفر الصالح من الراسخين في العلم، يؤيدهم محمد بقوته وقوة المسلمين، أن يمسّ خصومهم نص التوراة عابثين محرّفين ؟! إن محاولة الخصوم كانت فاشلة من كل الوجوه !

 

لقد ثبت من مراجعة القرآن كله، على نحو ما تقدَّم، إن تهمة التحريف متأخرة فهي من المدينة وليست من مكة. وهذه التهمة ملصَقَة باليهود وتوراتهم ولا يُقصد بها إطلاقاً النصارى وإنجيلهم. وهي تُنسب إلى نفر من اليهود فقط لا إلى جميعهم؛ وهي مقصورة على آية أو آيتين من التوراة لا غير: آية الرجم في حد الزنى، وآية نعت النبي الآتي؛ واعتزام هؤلاء النفر على تحريف

ـ 86 ـ

تينك الآيتين كانت محاولة فاشلة، فضحها النبي كما فضحها الراسخون في العلم من أهل الكتاب. ومع ذلك فما كانت تعني تحريفاً لفظياً بل انحرافاً معنوياً ينحصر في كتمان معنى الآيتين المذكورتين.

لقد عنى القرآن التحريف المعنوي ـ المحدود الفاعل والمفعول ـ لا التحريف اللفظي. وإذا فسّره بعض المسلمين بتغيير نص الكتاب فقد جاروا هواهم لا علمهم، ولا نصوص القرآن الكريم. فالـرازي الرصين بعد أن يعرض تفسيرهم ذاك يعقّب عليه بقولـه: (( إن المراد بالتحريف إلقاء الشّبَه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية كما يفعله أهل البدع في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذهبهم. وهذا هو الأصح )) . وفي موضع آخر: (( التحريف يحتمل التأويل الباطل ويحتمل تغيير اللفظ وقد بيّنا فيما تقدّم أَنَّ الأول أولى لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتَّى فيه تغيير اللفظ )) . وهذا هو القول الفصل يدعمه البحث النزيه والعلم البعيد عن الهوى.

 

وهكذا فقد شهد القرآن بصحة الكتاب المقدس أي التوراة والإنجيل وسائر الأسفار وسلامتها من التحريف.

وفصل الخطاب في هذا الأمر هو شهادته الصريحة: (( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقَّ تلاوته )) ( بقرة 121 ) أَي (( يقرؤونه كما أُنزِل )) على حدّ تفسير الجلالين.

ـ 87 ـ

تذييل على استحالة تحريف الكتاب

لقد ثبتت لنا استحالة التحريف كتابياً، موضوعيّاً من شهادة القرآن نفسه. وإذا ارتقينا إلى جوّ أوسع وأعم اتضحت لنا استحالة التحريف من كل الوجوه.

يستحيل التحريف تاريخياً :

إن تهمة التحريف لا تُسند أبداً عندهم إلى فاعل أو مفعول بعينه، إلى زمان ومكان معيّن. فإذا سألت: من المحرِّف: اليهود أم النصارى أم الاثنان معاً ؟ الأقدمون منهم أم المحدثون ؟ العرب منهم أم الأجانب ؟ ما أحاروا جواباً ! .. وإذا استوضحت عما هو محرَّف: الكتاب كله، أم جلّه، أم بعضه ؟ ما نبسوا قط ببنت شفة ! ... يظنون أن التحريف واقع في الآيات التي تنبّأت عن محمد؛ ولكن ما هي ؟ ومن يعرفها ؟ وهل كان ذلك قبل المسيح أم كان بعده ؟ قبل محمد أم في زمانه ؟ لا تعلم ! ... ومهما يكن من أمر فإن إثبات تهمة التحريف تاريخياً تقتضي إظهار النص الأصلي والنص المحرّف، ثم مقابلتهما الواحد بالآخر: فأين الأول وأين الآخر ؟.

يستحيل التحريف فلسفياً :

من المسلّمات البديهية إنه لا يجتمع الإيمان بشيء والكفر به على صعيد واحد وفي آن واحد؛ فلا يمكن من ثم أن يؤمن اليهود بكتابهم ويحرّفونه ! لا يمكن أن يؤمن النصارى بإنجيلهم ويغيّرونه ! لا يمكن أن يؤمن المسلمون بقرآنهم ويبدّلونه ! وهب أن نفراً فاسقاً قصد ذلك فلا يعقل أن يكفر جميع المؤمنين معاً حتى يفعلوا بكتابهم ما يفعلون. وإذا ما قلة فاسدة حاولت التحريف تصدّت لها الكثرة الصالحة وأبطلت محاولته.

يستحيل التحريف اجتماعياً :

من اليقين الثابت إن الإنجيل والتوراة كانا قد انتشرا قبل مجيء محمد في كل زمان ومكان انتشاراً عظيماً جداً حتى أُسميا (( الكتاب )) وسُمّي اليهود

ـ 88 ـ

والنصارى (( أهل الكتاب )) فهو عَلَـمٌ مُعلم على جميع الكتب المبثوثة في العالم، وأصحابه معروفون به، كما يظهر ذلك من القرآن نفسه الأمر الذي يجعل محاولة التحريف شيئاً مستحيلاً إذ لا يمكن أن يتواطأ جميع الناس من كل الأمم وكل الألسنة والأجناس على جمع كل النسخ، وكل النشرات وكل الترجمات ويحرّفوا كلام الله وما يكون من بقية باقية تنتصر للوحي الكريم وتبعث صرخة الاعتراض مدويّة. وإذا ضيّقنا رقعة الزمان والمكان لنصل إلى زمن نزول التوراة أو الإنجيل نرى أنهما نزلا على مسمع ومشهد من أُمة بكاملها، ونُقلا بالسماع قبل أن ينقلا بالكتابة. وقد لخص الرازي الرأي العام الصحيح بقوله: (( إن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير اللفظ )) .

يستحيل التحريف منطقياً :

لقد اختلف اليهود شيعاً متضاربة واختلف النصارى فرقاً متحاربة، واختلف المسلمون بدعاً متباغضة. وقد قال في ذلك حديث شريف: (( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة )) ! ومع ذلك فالكتاب واحد بنصه عند الجميع كل يقرّ هذا النصّ بلفظه، وكلّ يؤيد بما يشتقّ من هذا النص ومن آية ! فهل يمكن التحريف والكل عين على خصمه ؟!

يستحيل التحريف أثرياً :

قبل محمد بمآت السنين كان كتّاب اليهود وبخاصة كتّاب النصارى قد فسروا في كتاباتهم آيات الكتاب بأجمعها حتى لو ضاع لجمعوه من تلك النصوص المبثوثة. ونقدر اليوم أن نتحقق كل ذلك ونقارن بين الأصل والاقتباسات. أفمن المعقول أن تُلاشى من الوجود كل هذه الكتب والمنشورات والنّسَخ في جميع الأمم والبلدان حتى يمكن التحريف ؟ إن القول بمثل ذلك لا يأخذ به عاقل.

ـ 89 ـ

وأخيراُ توجد اليوم في كبريات المكتبات ودور الكتب نسخ عن الإنجيل والتوراة مع ترجمات متعددة، من كل العصور، قبل المسيح وبعده، خاصة من القرن الأول الميلادي إلى القرن السادس أي إلى ظهور محمد: وهناك نسخة ملكية من القرن الرابع، من عهد قسطنطين الملك النصراني الأول، بل بالحري أربع نسخ متجانسة ترتقي إلى ما قبل محمد بمئتي سنة ونيف، وتعرف باسم مصدرها أو مقرّها الأثري بالفاتيكانية والسينائية والاسكندرية والافرامية في مكتبات رومة ولندن وباريس يمكن مقابلتها بالنص المتداول اليوم وكل يوم: فلا تحريف ولا تباين يذكر ! وعن هذه النسخ العريقة ينقل علماء المؤمنين وغير المؤمنين النص الكريم ولا أحد يقدر أن يقول بتحريف.

إن الكتاب يحمل كلمة الخلاص إلى كل زمان وكل مكان، فلئن ضاعت هذه الكلمة أو فسدت أو حرّفت ضاع على الله سبحانه قصدُه الخلاصي ! فهو مسؤول عن حفظ كتابه: (( إنا نحن أنزلنا الذكر وانّا له لحافظون )) ، ونعمَ المسؤول ونعم الوكيل ونعم الحفيظ !

ـ 90 ـ

قيمة الكتاب في القرآن

 

(( لهم الجنة وعداً حقاً في التوراة

والإنجيل والقرآن )) ( توبة 111 )

للقرآن نظرية طريفة في قيمة الكتاب عامة والقرآن.

إنه يعتبر للكتاب كله وللقرآن قيمة واحدة ودرجة واحدة ومنزلة واحدة؛ وآي الذكر الحكيم في مكة والمدينة تشهد بذلك. أَولم يُخْتم القرآن كله بهذه الآية من سورة التوبة: (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتَلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن. ومَن أَوفى بعهده من الله ؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به. وذلك هو الفوز العظيم ! )) ( توبة 111 ).

آية ملأى بالمعاني: للكتب الثلاثة درجة واحدة في التعبير وسياق الكلام؛ ومنزلة واحدة في المَرْمى والغرض: إله واحد يعد في الثلاثة ويشتري؛ ومؤمنون متماثلون يقبلون عهد الله في الثلاثة؛ وجهاد واحد مفروض على الجميع؛ وغاية واحدة في الثلاثة للجميع: لهم الجنة ! وهذا الوعد وهذا البيع وهذا الفوز العظيم واحد في التوراة والإنجيل والقرآن؛ فللثلاثة إذن، على حسب شهادة القرآن الأخيرة، منزلة واحدة ودرجة واحدة وقيمة واحدة !

ويعدّد القرآن نواحي هذه الوحدة في المنزلة والقيمة.

 

الموحي في الثلاثة واحد، هو الله

هو أوحى الثلاثة على السواء: (( الله لا إله إلا هو، الحيُّ القيوم نزَّل عليك

ـ 91 ـ

الكتاب بالحق، مصدّقاً لما بين يديه. وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس. وأنزل الفرقان )) ( آل عمران 2و3 ).

وهو أوحى للجميع على السواء: (( إنا أوحينا إليك، كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده. وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان. وآتينا داود زَبوراً ... وكلّم الله موسى تكليماً: رسلاً مبشرين ومنذرين لئلاَّ يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) ( نساء 163 ).

إله واحد، ووَحي واحد، وغاية واحدة: فلِلكتاب والقرآن قيمة واحدة .

 

الكتاب السماوي، أصل الكتب المنزلة، هو واحد

يعلّم القرآن إن للكتب المنزلة جميعاً أصلاً واحداً في السماء عند الله.

يسميه (( اللوح المحفوظ )) ( بروج 22 ) (( وأم الكتاب )) : (( و إنـه في أم الكتاب لدينا )) ( زخرف 4 ) (( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب )) ( رعد 41 )؛ أَو ((الكتاب)) : (( ولدينا كتاب ينطبق بالحق )) ( مؤمنون 63 )؛ أو (( الكتاب المبين )) الذي به يستهلّ أقسام السور ( زخرف 1 ) أو (( الإمام المبين )) : (( وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)) ( يس 12 ).

فبما أن للكتب المنزلة أصل سماوي واحد فهي واحدة في قيمتها من جميع الوجوه.

 

والكتاب المنزل على جميع الأنبياء واحد

أنزل الله كتابه على كل واحد من الأنبياء المرسلين: (( كان الناس أمة واحدة؛ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحـق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه )) ( بقرة 213 ).

ـ 92 ـ

وعلى أساس هذا الكتاب المنزل الواحد يحاسب الله جميع الناس: (( الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رُسُلنا فسوف يعلمون إذ الأغلالُ في أعناقهم والسلاسل، يُسحبون في الحميم ثم في النار يُسْجَرون )) ( غافر 70 ).

ولو تعدّدت النسـخ مع موسى وداود وعيسى ومحمد، فلا يزال الكتاب المنزل واحداً: (( وقفينا على أثرهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور. وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه ( قبله ) من الكتاب ومهيمناً عليه )) (مائدة 46 ـ51 ).

فبما أن الكتاب المنزل واحد في التوراة والزَّبور والإنجيل والقرآن فللجميع إذن منزلة واحدة.

 

رسالة الأنبياء في الكتاب والقرآن واحدة

واحدة عند الله: (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق )) ( بقرة 213 ).

واحدة بين الناس: (( آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله: لا نفرّق بين أحد من رسُله )) ( بقرة 285 ).

إن وحدة الرسالة لعقيدة راسخة في القرآن ( بقرة 136، نساء 136 و163 ، آل عمران 84 ).

فبما أن الرسالة واحدة في الكتاب والقرآن فلهما درجة واحدة.

 

التعليم واحد في الكتابين بشهادة القرآن

الإيمان (( بالله واليوم الآخر )) هو خلاصة تعليم الأنبياء في جميع الكتب

ـ 93 ـ

المنزلة. بهذا التعليم يُفتح القرآن، ويُطوى، ويُختم: (( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين1 : مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) ( بقرة 62 )؛ وكذلك أيضاً الحج 17 و 67 والمائدة 69.

وكثيرة هي السور التي تروي قصة بعثتهم في سلسلة متماسكة الحلقات، يأتي فيها كل نبي يقول كلمته ويمشي: (( الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم )) .

ويتعاون الكتاب والقرآن في الدعوة إلى الهدى، ويعضد بعضهما بعضاً: (( قل فأتوا بكتاب من عند الله أهدى منهما اتّبعْهُ إن كنتم صادقين )) ( قصص 49 ).

والقرآن يتخذ الكتاب إِمَامَه في الهدى: (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا، وبشرى للمحسنين )) ( أحقاف 12 )؛ وبناء على هذه الشهادة فالقرآن لا يختلف عن الكتاب إلا باللسان العربي.

لذلك فالقرآن والكتاب لهما اعتبار واحد .

 

والدين في الكتاب والقرآن واحد: وهو إِسلام التوحيد

جميع الأنبياء في الكتابين كرزوا بالتوحيد أي بالإسلام الذي هو دين الله: (( أفغير الله يبتغون وله أسلمَ من في السماوات والأرض طوعاً وكرْهاً وإليه يرجعون. قل آمنّا بالله وما أنزِِل علينا وما أنزِل على إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى من ربهم: لا نفرّق بين

ـــــــــــــــــــ

(1) الصائبون : يهود منتصرون على هامش اليهودية والنصرانية ، وربما من تلاميذ يوحنا المعمدان . وليسوا بالمجوس كما زعموا.

ـ 94 ـ

أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغِ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين )) ( آل عمران 43 ـ45 ).

ويشهد القرآن في غير موضع أن اليهود والنصارى والمحمّديين مسلمون: (( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً: أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )) ! ( آل عمران 80 )؛ الخطاب لأهل الكتاب على ما يتّضح من سياق الحديث؛ وفيه موعظة للمسلمين.

ويشهد بخاصّة على لسان أهل الكتاب أَنهم مسلمون قبل نزول القرآن: (( الذين آتيناهم الكتاب من قبله ( القرآن ) هم به يؤمنون. وإذا يُتلى عليهم قالوا: آمنا به، إنه الحق من ربنا: إنّا كنا من قبله مسلمين )) ( قصص 53 ) ؛ ذلك (( يدل على أن إيمانهم به ليس ممّا أحدثوه حينئذٍ وإنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن أو تلاوته عليهم )) ( البيضاوي ).

وخلاصة القرآن والكتاب تنحصر في تعليم توحيد الإسلام أو إسلام التوحيد: (( هذا ذِكر مَن معي وذكر من قبلي: وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحي إليه أَنه لا إله إلا أنا فاعبدون )) ( أنبياء 24 و 25)1

فدين الكتاب والقرآن هو (( الإسلام )) . واسم الموحّدين في القرآن والكتاب هو ((المسلمون )) . هكذا ورد اسمهم في الكتب المتقدمة وفي الكتاب الأخير: (( وجاهدوا في الله حق جهاده: هو اجتباكم، ملّة إبراهيم أبيكم؛ هو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا2 . ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونا شهداء على الناس )) ( الحج 78 ).

فبما أن الدين واحد في الكتابين فلهما حُرمة واحدة.

ـــــــــــــــــــ

(1) (( ذكر من معي: أَي أمتي وهو القرآن؛ وذِكر مَن قبلي: أي من الأمم وهو التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله. ليس في واحد منها أنّ مع الله إلهاً ممّا قالوا )) (الجلالان).

(2) من قبل: في الكتاب. وفي هذا: في القرآن ( الزمخشري والبيضاوي والجلالان ) .

ـ 95 ـ

والإيمان بالكتابيين واحد

يأمر محمد قومه بأن يؤمنوا إيماناً واحداً بالوحي الجديد والقديم: (( يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل )) ( نساء 136 ).

وبجعل هذا الإيمان من أَركان الإسلام: (( ليس البرُّ أن تولّوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب ولكن البِرَّ مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين )) . ( بقرة 177 ).

ويشجب التفرقة في الإيمان بالكتب المنزلة والرسل والدعوات: (( آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه، والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله: لا نفرّق بين أحد من رسله )) ( بقرة 285 ).

ويشدّد في توحيد الإيمان بما في الكتاب والقرآن: (( إن الذين يكفرون بالله ورسله، ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، أولئك هم الكافرون؛ واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرّقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم )) ( نساء 151 ).

لذلك يجب أن يكون للناس ثقة واحدة بالكتاب والقرآن.

 

القرآن نسخة عربية عن الكتاب

جاء محمد ليعلم قومه الكتاب الذي كانوا يجهلونه: (( كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون )) ( بقرة 151 ).

غفلوا عن دراسة الكتاب الذي نزل على طائفتين من قبلهم فجاء القرآن يملأ هذا الفراغ: (( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ... إن تقولوا إنما أُنزل

ـ 96 ـ

الكتاب على طائفتين من قبلنا وان كنّا عن دراستهم لغافلين )) ( أنعام 156 )؛ فسبب نزول القرآن إذن هو عدم قراءة العرب للكتاب الذي نزل على اليهود والنصارى، لجهلهم لغته: فهو ينقله لهم بلسان عربي مبين ليقرأوه.

فالكتاب هو القرآن معرّباً: (( وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وانه لفي زُبر الأولين )) ( شعراء 193 ).

والقرآن هو الكتاب بلسان عربي مبين: (( والكتاب المبين، إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون )) ( زخرف 2 و 3 ).

ويذكر مرتين بصراحة جاهرة أن إمامه الكتاب: (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربيّاً )) ( أحقاف 12 ). كذلك ( هود 17 ).

ومن ثم، فإذا ما كان القرآن نسخة عربية عن الكتاب، فيجب لهما احترام واحد، وبهما إيمان واحد.

 

القرآن تصديق الكتاب

يصرّح بذلك مراراً: (( يا بني إسرائيل آمنوا بما أنزلتُ مصدّقاً لما معكم )) ( بقرة 41 ، 89 ، 91 ، 101 ). والرسول ذاته لا ينسب إلى نفسه رسالة سوى تصديق الكتاب: (( ولما جاءَهم رسول من عند الله مصدّق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب، كتاب الله ، وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون )) ( بقرة 101 ).

يستغرب النبي العربي عدم إيمان اليهود به وبكتابه (( وهو الحق مصدّق لما معهم )) .

وهذا التصديق يمعن حتى يبلغ درجة الهيمنة: (( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه )) ( مائدة 51 ) أَي شاهداً

ـ 97 ـ

للكتاب ( الجلالان )، ورقيباً على سائر الكتب يشهد لها بالصحة و الثبات ( البيضاوي ).

فإذا كانت غاية القرآن والنبي العربي تصديق الكتاب فيجب للكتاب والقرآن كليهما محبة واحدة من الجميع.

 

وأخيراً، لا آخراً، القرآن تفصيل الكتاب

يردّد هذه الحقيقة مراراً: (( ما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين )) ( يونس 37 )؛ إنه مطابق لما تقدمه من الكتب الإلهية، المشهود بصدقها، وهو شاهد على صحتها ( البيضاوي ).

وأَهل الكتاب شهود على ذاك التفصيل الوارد في القرآن: (( أفغير الله أبتغي حَكَماً. وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً؛ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق فلا تكوننَّ من الممترين )) ( أنعام 114 ). أتلاحظ من تعريف الكتاب في الموضعين أنه يعتبر المنزل على محمد والمنزل من قبل واحداً، وأن الثاني تفصيل الأول.

فالقرآن من الكتاب: (( اتلُ ما أوحي إليك من الكتاب ... وكذلك أنزلنا إليك الكتاب. فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به )) ( عنكبوت 45 ـ50 ).

فبما أن القرآن من الكتاب وتفصيل له، فقيمتُه من قيمة الكتاب.

 

كل هذه الاعتبارات وغيرها يجعل، بشهادة القرآن نفسه، للكتاب والقرآن رتبة واحدة وقيمة واحدة ودرجة واحدة ومنزلة واحدة؛ وقد جمعها على صعيد واحد في آخر ما نزل منه: (( فقد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ... وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن )) ( توبة 111 ).

ـ 98 ـ

قيمة الإنجيل في القرآن

 

(( وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور )) ( مائدة 46 )

للإنجيل والقرآن بنوع خاص قيمة واحدة في نظر النبي العربي، بسبب النعوت والصفات الواحدة التي يطلقها سواءً بسواء على القرآن والإنجيل.

انفرد المسيح بين الأنبياء والمرسلين جميعهم بتأييد الروح القدس: (( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينـا من بعده بالرسل. وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) (87). وكان هذا التأييد نعمة خاصة من الله يذكّر الله بها المسيح: (( إذ قال الله: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس )) ( مائدة 113 ). بفضل هذا التأييد خرج عن نواميس الطبيعة بحياته الفريدة، واختصه الله بين الأنبياء بالإنجيل ( مائدة 113 )؛ وبفضل هذا التأييد صار المسيح مفضّلاً على المرسلين: (( تلك الرسل فضّلنا بعضه على بعض. منهم من كلم الله. ورفع بعضهم درجات. وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ( بقرة 253 ).

الإنجيل وحيٌ مباشر: اختص الله المسيح بوحي الإنجيل: (( ثم قفينا على آثارهم برسلنا. وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل )) ( حديد 27 ). وأَوحاه إليه مباشرة بدون واسطة كما فعل مع سائر الأنبياء: (( ويعلّمه ( اللهُ المسيحَ ) الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)) ، ( آل عمران 48 )؛ وتعلّم المسيح كذلك مباشرة من الله الكتب المنزلة كلها: (( وإذ علمتُك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل )) ( مائدة 113، آل عمران 48 ).

والإنجيل هو الكتاب نزل على المسيح: (( قال ( المسيح في مهده ) إِني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )) (مريم 30 ). والإنجيل، بالإضافة إلى

ـ 99 ـ

الوحي الجديد النازل فيه، يحوي الوحي القديم كله: (( وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً بين يديه من التوراة )) ( مائدة 46 ).

الإنجيل علّم التوحيد قبل القرآن: (( وجئتُـكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون: إن الله ربي وربكم فاعبدوه: هذا صراط مستقيم )) ( آل عمران 50 ـ 51 )، ومنع الشرك بالله حتى في المسيح نفسه: (( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم: وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يُشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار )) (مائدة 75 ).

الإنجيل كالقرآن: كلاهما تنزيل الحي القيوم: (( الله، لا إله إلا هو، الحيّ القيوم، نزَّل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس )) . ( آل عمران 3 ). كذلك ( غافر 2 ).

وكلاهما يحتويان وحْيَ الله: (( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى ... عيسى )) ( نساء 163 ).

وكلاهما يُدعيان الكتاب على السواء. أنزل الله الكتاب مع جميع الأنبياء: (( بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق )) ( بقرة 213 ): فالقرآن هو الكتاب ((تلك آيات الكتاب المبين ( قصص 2 )، تلك آيات الكتاب وقرآن مبين )) في مطلع عدة سور (شعراء كهف السجدة ). والإنجيل هو الكتاب أيضاً: (( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً )) ( مريم 30 ).

وكلاهما الذكر الحكيم: (( وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) ( أنبياء 7 )، (( وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم )) ( نحل 44 ). وقد أطلق لفظة الذكر على الاثنين في آية واحدة: (( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزُّبر. وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم )) ( نحل 43 و 44 ). كذلك في قوله: (( هذا ذكر مَن معي وذكر مَن قبلي )) ( أنبياء 23). فالذكر مرادف للكتاب، وكلاهما يطلقان على الكتابين.

ـ 100 ـ

وكلاهما فرقان، قال: (( تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده )) ( فرقان 1 ). وقال عن الإنجيل والتوراة: (( نزّل عليك الكتاب ... وأنزل التورية والإنجيل ... وأنزل الفرقان )) ( آل عمران 3 و 4 ).

ترد الألقاب (( كتاب، ذكر، فرقان )) مترادفة في الإنجيل والقرآن.

وكلاهما يحتويان الحق على السواء: (( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله ! قالوا نؤمن بما أنزِل إلينا ويكفرون بما وراءَه وهو الحق مصدقاً لما معهم )) ( بقرة 91 ) كذلك (( إن الله نزّل الكتاب بالحق )) (بقرة 176، يونس 94 ).

وكلاهما نور وهدى: إذا كان القرآن هدى (( فإنه نزّله على قلبك بإذن الله هدى وبشرى للمؤمنين )) ( بقرة 97 ) فالإنجيل هدى ونور: (( وقفينا على أثرهم بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور )) ( مائدة 64 ).

وكلاهما رحمة للعالمين بل الإنجيل قبل القرآن: جاء القرآن هدى ورحمة: (( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )) ( نحل 64 ) كما جاء الإنجيل والمسيح آية ورحمة: (( قال ربك: هو عليّ هيّن: ولنجعله آية للناس ورحمة منّا ! وكان أمراً مقضياً )) ( مريم 21 ).

وفيهما كليهما على السواء وعد الله العظيم لمختاريه بالجنة (( وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن )) ( توبة 111 )، (( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرّنكم الحياة الدنيا )) ( فاطر 5 ).

والإنجيل يحوي أحكام الله مثل القرآن: (( وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله )) ( مائدة 43 ) كذلك (( وليَحْـكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه: ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون )) ( مائدة 47 ـ 50 ).

بل القرآن يهدي إلى سنن ما قبله: (( يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم )) ( نساء 25 ) كما يقتدي بهدى الكتاب وأهله: (( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدِ )) ( أنبياء 90 ).

ـ 101 ـ

وحكم الإنجيل باقٍ إلى زمن القرآن ومعه وبعده. ذلك إن الإنجيل يحوي شرعة نهائية ملزمة لأهلها مثل القرآن: (( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة )) ( مائدة 48 ).

ويهدد القرآن أهل الإنجيل والتوراة إن لم يعملوا بما فيهما: (( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم )) ( مائدة 68 ).

وهكذا ترى أن النبي العربي يجعل للقرآن والإنجيل قيمة واحدة، من الألقاب التي يضفيها على الكتابين، ومن الصفات والنعوت التي تترادف بين الاثنين، ومن المواضيع الواحدة الواردة في الذِكْرَين. وقد جمعها في قوله:

(( لهم الجنة ... وعْداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن )) (توبة 111).

حقاً لقد كان الإنجيل وما يزال (( هدى ونوراً )) .

ـ 102 ـ

موقف القرآن من أهل الكتاب

 

(( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم

بأن لهم الجنة ... وعداً عليه حقـاً في التوراة

والإنجيل والقرآن )) ( توبة 112 ).

يسود المسلمين والنصارى آراء غريبة في علاقاتهم بعضهم ببعض. فكثيرون من أهل الإنجيل يفتكرون بإخوانهم ما لا يليق مع أَن المسيح أوصاهم بمحبة جميع الناس، حتى أعداءَهم أنفسهم. وكثيرون من أهل القرآن يعتقدون بأهل الكتاب غيرَ الذي جاء به محمد ونزل به القرآن، فيعتبرون النصارى واليهود مشركين أو كافرين! مع أنه لا وجود لآية واحدة تصرّح بمثل ذلك.

وبكلمة واحدة جريئة يعتبر بعض المسلمين أهل الكتاب أعداءَ دين!

فما هو موقف القرآن من أهل الكتاب ؟

 

لقد رأينا، فيما سبق، الموقف الديني1 : كان الإسلام في مكة كتابيّاً محضاً فأمسى في المدينة توحيداً قوميّاً عربيّاَ على طريقة الحنفاء. وهذا التوحيد الكتابي ظل في المدينة كتابيّاً في العقيدة كما كان في مكة، ولم يتطوّر فيه إلا التشريع، وفي فروعه لا في أُصوله. ففيما كان في مكة ينحو منحى الشريعة الكتابية، أخذ في المدينة يُهمل أحكام الإنجيل والتوراة ويتقرَّب من شرائع قومه مع صبغها ودمجها بالتوحيد كما كان يفعل الحنفاء قبله ( نساء 25 ـ27 ).

لقد ظلَّ الاتفاق في العقيدة التوحيدية قائماً في مكة والمدينة حتى النهاية.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) راجع فصل (( التوحيد القرآني كتابي )) وفصل (( هل نسخ القرآن الإنجيل )) .

ـ 103 ـ

والاختلاف في التشريع أو بالحري في فروع الشريعة، أي الأحكام الثانوية، لا يضير وحدة الدين والإيمان في شيء.

 

والآن ندرس الموقف السياسي.

فالقرآن لا يعتبر أهل الكتاب أعداء دين: وكل ما رأيناه حتى الآن يعارض هذه التهمة، بل يعتبرهم ـ إذا هم لم يخضعوا للدولة الإسلامية ـ خطراً اجتماعياً عليها وخصوماً سياسيين لها.

كان الإسلام ديناً في مكة فأمسى دولة في المدينة؛ وحَّدَ الدينُ في مكة بين أهل الكتاب وأهل القرآن، ففرّقتهم السياسة في المدينة.

الموقف العام

بهذا المبدإِ العام الجامع المانع، الآتي في أول سورة من القرآن بحسب ترتيبه الحالي وأوّل سورة نزلت في المدينة ـ نريد سورة البقرة التي هي أعظم سور القرآن على الإطلاق، بدأ محمد كرازته: (( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين: مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) ( بقرة 62 )؛ وبهذا المبدإِ ذاته ختم محمد حياته وكرازته، على ما جاء في سورة المائدة التي هي من أواخر حياة النبي العربي ولم يعقبها إلا التوبة لا غير: (( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون، والنصارى: مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) (مائدة 69 ) : لقد ختم كما بدأ1 .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ادّعى بعضهم أن الآية 62 من البقرة نُسخت بالآية 19 و 85 من آل عمران: (( إن الدين عند الله الإسلام ... ومن يبتغِ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) . ـ لقد رأينا أن العقيدة المنزلة حقيقة خالدة لا تُنْسخ ولا أثر لهذا الزعم في القرآن كله . وفاتهم أيضاً أن الآية 19 و 85 من آل عمران إذا نسخت ما قبلها من سورة البقرة لا تنسخ ما بعدها من سورة الحج ( 78 ) والمائدة ( 69 ) ؛ وكيف تنسخها ومعنى

ـ 104 ـ

يسرّنا أن نقول إن هذا المبدأ وهو روح كرازة جميع الأنبياء في كل زمان ومكان. قال بولس الرسول: (( بغير إيمان لا يستطيع أحد أن يرضي الله لأن الذي يدنو إلى الله يجب عليه أن يؤمن بأنه كائن وأنه يثيب الذين يبتغونه )) ( عبر 6:11 ). هذا هو جوهر الدين كله: الإيمان بالله واليوم الآخر. ولا يكفي الإيمان وحده بل يجب (( عمل الصلاح )) بحسب هذا الإيمان، كما قال يعقوب الرسول، أحد الحواريين أيضاً: (( الإيمان بغير الأعمال ميت )) (21:2 ). وهذا ما يقره العقل السليم.

يقرن القرآن ذاك المبدأ العام بعادة عامة توضح موقفه: إنه يسمّي النصارى واليهود ((أهل الكتاب )) و (( أولي العلم )) أي العلم بكتاب الله ودينه. قال الرازي: (( يسميهم أهل الكتاب وهذا الاسم من أحسن الأسماء وأكمل الألقاب حيث جعلهم أهلاً لكتاب الله ( آل عمران 64 ) ويسميهم، أولي العلم أو الذين يعلمون ـ بخلاف مشركي العرب الذين لا يعلمون ما أنزل الله ـ فقرن ذكرهم بذكر الله والملائكة في قوله: شهد الله أن لا إله إلا هو، والملائكة وأُولو العلم)) ( آل عمران 18 ).

فموقف القرآن العام موقف سَمْحٌ من حيث المبدأ. فلنبحث الآن التفاصيل.

 

كانت الدعوة الإسلامية في مكة كتابية من كل الوجوه: في مصدرها وفي موضوعها وفي طريقتها وفي قصصها وفي جدلها، كما رأينا.

بشّر محمد في مكة (( بالحكمة والموعظة الحسنة )) مدة اثنتي عشرة سنة (610 ـ 622). وكان موضوع كرازته الوحيد: الإيمان بالله واليوم الآخر.

ـــــــــــــــــــــــ

الآيتين ( بقرة 62 وآل عمران 19 ) واحد ، فالإسلام هو الإيمان بالله واليوم الآخر لا غير. ونسوا أخيراً أن الآية 85 من آل عمران هي ختام ونتيجة الآية 84 السابقة حيث يظهر الإسلام دين الله الذي أنزل على جميع الأنبياء على السواء: (( لا نفرق بين أحد ونحن له مسلمون )) . ـ كفانا الله شر هذا النسخ الذي هو المسخ بعينه !

ـ 105 ـ

فهو لا يعرف غير هذا التعليم، وهو يردّده بكل لحن. ونراه دائماً في جدال وخصام، وحرب باردة أحياناً ومحتدمة أخرى، مع المشركين من آل قريش والعرب. ولا أثر لخلاف ديني أو قومي أو سياسي، من أيّ نوع كان، مع أهل الكتاب، في السور الست والثمانين المكية كلها.

بل نجد فيها ثلاث شهادات قرآنية على وحدة الإيمان والحياة بين أهل القرآن وأهل الكتاب. إنه يصرّح بأن مصدر القرآن وإمامَه هو الكتاب ( الأعلى 18 و 19، النجم 56، القمر 52، طه 135، شعراء 196، أحقاف 12، أنبياء 24 ـ 25، هود 17، السجدة 23، شورى 15 ) (( وقل آمنتُ بما أنزل الله من كتاب )) ( شورى 15 )؛ وجاء القرآن تصديقَ الكتاب وتفصيل لا ريب فيه من رب العالمين ( يونس 37 )؛ وكانت حجة محمد الكبرى، طيلة حياته في مكة، شهادة أهل الكتاب له: فهو يستشهد بهم على صحة تعليمه وصحة رسالته: (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزُّبور )) ( نحل 43 ). كذلك أنبياء 7، وشعراء 105 – 109، وأنعام 89 ـ 90 ، 156، وسبأ 6 (( قل كفى بالله شهيداً بين وبينكم ومَن عنده علم الكتاب )) ( رعد 45 )1 . أخيراً يأمر القرآن محمداً، إذا ارتاب من نفسه ومن صحة إيمانه، أن يُطَمْئِنَ نفسه عند أهل الكتاب: (( فإن كنت في شك مما أوحينا إليك، فَسْئَلِ الذين يقرؤون الكتاب من قبلك )) ( يونس 94 ).

فهل أَدَلُّ من ذلك على وحدة العقيدة والشريعة والسياسة ؟ وفي هذه المدة طيلة اثنتي عشرة سنة لا نقف على خلاف بين محمد وأهل الكتاب بل نراه كأنه واحد منهم.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) استشهد محمد على صحة قرآنه بإعجازه في أربع مواضع ( إسراء 88 ، يونس 38 ، هود 13 ، البقرة 23 ـ 24 ومن أسمائها نشعر أنها في فترة محدودة في حياته أَي من أواخر العهد بمكة وفي سورة البقرة ثم ترك الاستشهاد بالإعجاز تحت ضغط أهل الكتاب. أَما الاستشهاد بمن (( عنده علم الكتاب )) من اليهود والنصارى ظل يرافقه طيلة حياته في مكة وفي المدينة من أول سورة إلى آخر سورة. وهكذا ترى أن الاستشهاد بالكتاب وأهله هي حجة القرآن الكبرى على صحة تعليم النبي العربي.

ـ 106 ـ

في آخر العهد بمكة ظهر أَثر خلاف بين قوم محمد والكتابيين فشجبه النبي بشدة، مصرّحاً تصريحاً قاطعاً بوحدة الإله الموحي، ووحدة الوحي، ووحدة الإيمان والدين: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ إِلا الذين ظلموا منهم ـ وقولوا: آمنا بما أُنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون )) ( عنكبوت 46 ). يقول: لا تجادلوهم أبدا لأن كتابهم نزل إليكم، وأنتم متفقون معهم على إيمان واحد. والمجادلة بالتي هي أحسن هي الإقرار معهم بالإيمان الواحد ( البيضاوي ).

فلا قتال ! ولا جدال ! هذا هو الداعية الديني السامي.

ثم كانت الهجرة من مكة إلى المدينة 622 بعد المعاهدة العسكرية في العقبة الثانية، ذاك الانقلاب الهائل في الدعوة والداعي1 : (( أحارب مَن حاربتم وأسالم مَن سالمتم2 )) .

كان محمد في مكة يدعو إلى توحيد الآلهة: (( أجعل الآلهة إلهاً واحداً، إن هذا لشيء عجاباً )) ! فصار في المدينة يدعو إلى توحيد الأديان، حتى المنزلة منها، (( قل يا أَهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله )) ( آل عمران 64 ).

كانت الدعوة موجهة إلى المشركين في مكة، فصارت في المدينة تلاحق المشركين والكتابيين: (( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم: منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون )) ( آل عمران 109 ) (( وقد جاءكم من الله رسول وكتاب مبين )) . ويخاطب اليهود (( ولا تكونوا أول كافر به )) !

كان محمد يدعو في مكة إلى سبيل الله (( بالحكمة والموعظة الحسنة )) فصار

ـــــــــــــــــــــــ

(1) (( وهذا الدور من حياة الرسول لم يسبقه إليه نبي أو رسول... فأمّا محمد فقد أراد الله أن يتم نشر الإسلام وانتصار كلمة الحق على يديه، وأن يكون الرسول والسياسي والمجاهد والفاتح )) . ( حياة محمد لحسين هيكل ص 190 ) .

(2) السيرة لابن هشام ( ج 2 ص 85 ).

ـ 107 ـ

في المدينة يدعو (( بالحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس )) ( حديد 25 ) .

يقوم محمد في المدينة بإِنشاء (( أمة وسط )) : (( وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )) ( بقرة 143 ) . أمة وسط بين العرب المشركين وبين الكتابيين : تأخذ عن هؤلاء عقيدتهم، وترضى لأولئك بعوائدهم أو بعضٍ من عوائدهم؛ أمة وسط أيضاً بين اليهود والنصارى، ولكنها ليست اليهودية، وليست النصرانية، بل هي منهما، وهي (( وسط )) بينهما: تقبل بعيسى ورسالة عيسى وتجعلها امتداداً لنبوَّة موسى وبعثة النبيين من بعده، ولا تقول بألوهية عيسى كما يقول المسيحيون (( المغالون )) وينكر اليهود المنكرون، ولا تبطل نبوة عيسى كما يدعي اليهود والمدّعون؛ ورأى في هذه الطريقة توحيد الأديان على توحيد الله.

كان الإسلام في مكة ديناً، فأصبح في المدينة دولة ومن مقوّمات الأمة الدين والدولة. والأمة الوسط التي أُخرجت للناس في المدينة هي الدولة الإسلامية الناشئة. والآن ندرس مراحل هذا التطور.

إنشاء ملة جديدة

في أول العهد بالمدينة، في سورة البقرة 1 ، بدأ يتميز عن أهل الكتاب بتأسيس (( ملة وسط )) .

كان اليهود كثرة في المدينة والنصارى قلة؛ والطائفتان أكثر في المدينة منهما بمكة. فكان لا بد للنبي الجديد أن يحدّد موقفه منهم منذ بدء عهده، كما نصت عليه معاهدة العقبة2 . وقد حفظت لنا سورة البقرة العلاقات الأولى بين

ـــــــــــــــــــــــ

(1) نتبع في دروسنا الترتيب التاريخي المنصوص عنه في المصحف الأميري، لا ترتيب السور الحالي. وقد وجدناه أفضل من غيره مِمَّا وضعه المسلمون أو المستشرقون.

(2) السيرة لابن هشام ج 2 ص 85 (( فقال أبو الهيثم بن التيهان: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت أن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ )) .

ـ 108 ـ

محمد ويهود المدينة. فلاحظ أن الجدل يقوم دائماً بين محمد واليهود من أهل الكتاب، ولا علاقة له بالنصارى إلا عَرَضَاً وفيما ندر وحيث يصرّح بذلك.

يظهر إن يهود المدينة وقفوا منذ البدء من محمد موقف الحذر. فحاول أن يدعوهم إلى قبول دعوته كما قبلها يهود مكة: (( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمتُ عليكم ... وآمنوا بما أنزلت مصدّقاً لما معكم ... ولا تكونوا أوّل كافرٍ به )) (41) .

وهو إذ يحسُّ منهم ذاك الحذر يحذّر قومه من محاولاتهم: (( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون )) (75) . بما أن الدين واحد والكتاب واحد كما كان شائعاً فكّر بعض المهاجرين والأنصار أن يستميلوا حلفاءهم من اليهود لتقوى بهم حركتهم. فاعتصم اليهود في عزلتهم وأخذوا ينتقدون التعليم الجديد.

فابتدأ الاحتكاك، وبرزت الآراء المختلفة سافرة ؛ فأخذ النبي يجادلهم في آرائهم: ((وقالوا: لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودات ! ـ قل اتخذتم عند الله عهداً ؟ فلن يخلف الله عهده. أم تقولون على الله ما لا تعلمون )) (80)؛ النار ليست من نصيب أهل الكتاب، والجنة ميراث لهم: (( قل إن كانت الدار الآخرة خالصة لكم من دون الناس، فتمنّوا الموتَ إن كنتم صادقين )) (94) ، ويمعنون في تأكيدهم: (( لن يدخل الجنة إلا من كانوا هوداً ـ أو نصارى )) ! فيجيب: (( تلك أمانيهم ! قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ! بلى ، مَن أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) ( 111 و 112 ) . إنك لتشعر تحسّسَهم بتفوقهم على غيرهم واجتهاد النبي بمساواة قومه بهم على أساس أسمى من الملّة: الإيمان بالله وعمل الصلاح بموجبه هو سبب الخلاص وبلوغ الجنة، وهذا ليس وقفاً على ملة ؛ تلك عقيدة راسخة مكرّرة في القرآن.

ويستغرب مناظرة اليهود مع النصارى وهم أهل الكتاب الواحد: (( وقالت

ـ 109 ـ

اليهود: ليست النصارى على شيء ! وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء ! وهم يتلون الكتاب )) (113) فكيف يكفر بعضهم بعضا ً!

ولكنه رغم هذا الاحتكاك يعترف القرآن دائماً بوحدة الدين بين المسلمين والكتابيين: ((ولما جاءَهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم ... كفروا به )) ! ( 89 ) فكيف يكفرون به وهو يصدّق كتابهم: (( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله ، قالوا نؤمن بما أنزِل إلينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدّق لما معهم )) (91) إنهم يفعلون ذلك عن عناد عُرفوا به منذ القديم: ((ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم، نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم )) (101) نبذوا توراتهم لأنها تذكر (( النبي الآتي )) .

وقد يجرّب اليهود أن يستميلوا المهاجرين والأنصار إليهم لِما أنسوا عندهم من الإيمان المشترك: (( ودّ كثير من أهل الكتاب لو ويردّونكم من بعد إيمانكم حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق )) (109). لقد فهموا وحدة الدين بينهم فأحبوا أن يكسبوهم إلى ملّتهم كي لا يتقوى حزب محمد وملته.

ويتوددون إلى محمد نفسه كي يستميلوه إلى ملتهم: (( ولن ترضى عنك اليهود ـ ولا النصارى ـ حتى تتبع ملتهم )) (119)؛ إذن الخلاف الناشب هو على الملّة، أي في القومية، أو ـ كما نقول اليوم ـ في الطائفية، وليس في الدين الواحد والإيمان المشترك. فجاء الجواب الحاسم: (( وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ! بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)) (135) .

إن محمداً يفضّل أن يُنشِئ ملة مستقلة عن اليهود والنصارى، ملَّة عربية تتصل مباشرة بإبراهيم، جدّ المؤمنين جميعاً من الملل الثلاث الكتابية. وهذه الأمة الجديدة التي يسعى لتأليفها ستكون (( وسطاً ))1 بعقائدها بين اليهودية

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الوسط هو في الأصل اسم المكان الذي يستوي إليه المساحة من الجوانب. ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي افراط وتفريط ( البيضاوي ) واستعيرت في الآية لما أوردناه في النص.

ـ 110 ـ

والنصرانية، وبعوائدها بين القومية العربية المشركة والكتابية: (( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس )) (143).

فيعيبون عليه عمله ويحاجونه في الله الذي لا يرضى عن ذلك: (( قـل، أتحاجونا في الله ؟ وهو ربنا وربكم. ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم. ونحن له مخلصون )) (139). فتأسيس هذه الملة الجديدة لا يُقصد منه إلى تفريق في الدين عن أهل الكتاب لأن الرب واحد، وإن تعددت طريقة عبادته. ويعلن محمد أنه مخلص لله في عمله ذاك: فلا تحاجونا، فالاختلاف في الملة ليس اختلافاً في الدين.

ويميّزُ ملته الجديدة بقِبلة جديدة في الصلاة. كان المسلمون يولّون وجوههم مثل اليهود شطر بيت المقدس، ويعلن القرآن لمن يعيبهم من العرب: (( لله المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمَّ وجه الله أن الله واسع عليم )) (115): كيفما اتجه الإنسان يقدر أن يصلّي لله الموجود في كل مكان. لكن لا بد من قبلة جديدة لهذه الملة الجديدة تكون علامة فارقة لها: (( قد نرى تقلّب وجهك في السماء. فلنولينّك قبلة ترضاها. فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام ! وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره )) (144). إنها لَضربة معلّم ماهر: لقد تميّز بذلك عن أهل الكتاب، وإن وافقهم في موضوع الدين، وأرضى المهاجرين والأنصار الذين يقدسون شعائر قوميتهم، واستمال العرب قاطبة في اتباع قبلتهم وإن خالفهم في شِركهم. وقد يسمع الاعتراضات تترى على عمله فيجيب: (( سيقول السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ ـ قل لله المشرق والمغرب يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم )) (142) ففي تغيير قبلة الصلاة مغزى كبير: (( وما جعلنا القبلة التي كنتَ عليها إلا لنعلم مَن يتبع الرسول مِمَّن ينقلب على عقبيه )) (143). وسوف يستحكم الخلاف على القبلة في الصلاة بين الملل الثلاث لأن القبلة مظهر استقلالها: (( ولئن أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم. وما بعضهم بتابع قبلة بعض )) (145).

لكن هذا الخلاف على القبلة ثانوي؛ فالملة الجديدة تدين بدين من سبقها من

ـ 111 ـ

أهل الكتاب الأول، وأركان الدين عند الجميع واحدة: (( ليس البِـرّ أن تولّوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب؛ ولكنَّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين. وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلوة وآتى الزكوة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء )) (177).

ويطلق القرآن على هذا الدين الإيمان المتسلسل من إبراهيم إلى محمد اسماً جديداً، أو بالحري اسماً عربياً: (( الإسلام )) من قوله (( أسلم وجهه لله )) أي عرفه واعترف به وسوف نرى أنه يرجع بهذا الاسم لفظاً ومعنى إلى إبراهيم ( الحج 78 ).

ويجعل إبراهيم واسماعيل ابنه مشيّديَن للبيت العتيق، كعبة بكّة: (( وإن أول بيت وضع للناس لَلّذي ببكة )) ( آل عمران 96 ). ويضع على لسان إبراهيم صلاة إلى الله يطلب فيها رسولاً إلى العرب منهم: (( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ـ واسماعيل ـ ربنا تقبّل منا إنك السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلِمَين لك، ومن ذريّتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا وتُتْ علينا إنك أنت التوّاب الرحيم؛ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم. إنك أنت العزيز الحكيم )) (127 ـ 129). بل أَمر قومه به: ((واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى )) (125) ويختم بقوله: (( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا مَن سفّه نفسه ؟! )) (130).

ويحاجونه في إبراهيم، جدّ الدين الحنيف. ويحتج عليه اليهود والنصارى ديناً وعنصراً: إنه أبوهم وحدهم في الإيمان والدم ولا علاقة له بمحمد ودينه، ولا بالكعبة والحجّ إليها: (( أم تقولون إن إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى ! قل أأنتم أَعلم أم الله ؟ ومن أظلم مِمّن كتم شهادة عنده من الله ! وما الله بغافل عمّا تعملون )) (140). راجعوا كتابكم فابراهيم قبل عيسى وقبل موسى، وقبل الإنجيل وقبل التوراة، وقبل النصارى وقبل اليهود !

ـ 112 ـ

كما أن اختلاف القبلة في الصلاة لا يضير وحدة الدين، كذلك الانتساب مباشرة إلى إبراهيم من فوق الإنجيل والتوراة لا يقسّم وحدة التوحيد في الإيمان: (( وقالوا: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا! – بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين. قولوا آمنّا بالله وما أنزِل إلينا وما أنزِل إلى إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم: لا نفرّق بين أحد ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم فقد اهتدوا، وان تولّوا فإنما هم في شقاق )) (135 ـ 137) لاحظ دقته في التعبير عن وجه الخلاف الذي يستحكم بينهم: أنه شقاق في الدين الواحد؛ لا كفر !

(( مؤتمر الأديان الثلاثة الكتابية )) ( في آل عمران )

لقد توطدت الجماعة الإسلامية في المدينة وتعززت بنصر بدر في أواخر السنة الثانية للهجرة، وظهر الإسلام ملة توحيدية متميّزة عن سابقتيها. فجاء نصارى نجران إلى النبي يفاوضونه، وانضم إليهم اليهود، فكان من ذلك ما يسميه حسين هيكل (( مؤتمر الأديان الثلاثة )) ويصف القسم الأول من آل عمران ما جرى في هذا المؤتمر وحوله من مباحثات وجدال. ولكن المفاوضات أدّت إلى الفشل: اكتفى النصارى من محمد بقبوله نبوّة عيسى وإن خالفهم في بُنُوَّتِه ووقفوا حتى النهاية من محمد ومن حركته موقف المسالمة و (( المودّة )) ، وخالف اليهود محمداً في دعوته الدينية والدنيوية أي في انتشار الدولة الإسلامية التي كانوا يشعرون أنّ امتدادها سيقضي عليهم، ووقفوا من النبي العربي موقف الخصام والمقاومة المستترة حيناً والسافرة أحياناً إلى درجة العداوة )) .

تقف سورة آل عمران على مفترق الطرق بين الطرائق الثلاثة.

فترتيب السورة الحالي يقحم ذكر آل عمران يحيى ومريم وعيسى (23 ـ 64) في غمرة الجدل القائم بين محمد واليهود (18 – 120): يذكر يحيى الذي سبق مصدّقاً بكلمة الله (39) ومريم التي تحبل بمعجزة إلهية وتلد كلمة الله:

ـ 113 ـ

(( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم: وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقرّبين، ويكلم الناس في المهد وكهلاً، ومن الصالحين )) (45 ـ 47) ـ أربعة ألقاب فريدة تسمّيه، وأربع صفات وحيدة تعنيه ـ ثم يأتي على ذكر خوارق حياة المسيح ورسالته ويختم بقوله (( ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم )) (58). ويليه مقطع تفسيري متأخر في شخصية المسيح (59 ـ 64) جواباً لمن حاجّه في بنوّة عيسى من مريم و من الله ( 61 ) : (( إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله )) (62).

كان الجدل عنيفاً مستمرّاً بين محمد واليهود: يذكر القرآن في آل عمران تسعة مواضيع من ذلك الخلاف القائم.

الجدل الأول حول اسم التوحيد الجديد الذي أطلقه القرآن على لسان محمد: أي الإسلام (( شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلا هو العزيز الحكيم: إن الدين عند الله الإسلام ! وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم )) (18 – 19). خالفوه في الاسم وليس في موضوع التوحيد. ويقرّر هو أن الاسلام هو التوحيد الحق المطلوب: (( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومَن اتبعني. وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءَأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ)) (20)، يود أن يرغمهم على الاعتراف بأن إيمانهم وإيمانه هو الإسلام لفظاً ومعنى.

الجدل الثاني في مدة العذاب: (( قالوا: لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودات! )) . وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون. ويحتكم إلى الكتاب على فساد قولهم فيعرضون )) (( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون )) (23).

الجدل الثالث في إبراهيم وانتساب الأمم الثلاثة إليه وأيهم أحق بهذا الانتساب وأولى: قد يُفهم احتجاجهم في أمر موسى وعيسى، ولكن لا يقبل قولهم في نسبتهم إلى إبراهيم: (( يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون في إبراهيم وما

ـ 114 ـ

أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ؟ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم. فلِمَ تحاجّون فيما ليس لكم به علم. والله يعلم ( في الكتاب ) وأنتم لا تعلمون ... لِمَ تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون )) ( 66 و 71 )، ومن ثمَّ (( فإن أولى الناس بإبراهيم لَلذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله وليّ المؤمنين ))1 .

الجدل الرابع في زعمهم وخطتهم: (( ولا تؤمنوا إلا لمن اتبع دينكم )) ! ـ (( قل إن الهدى هدى الله ... يختص برحمته من يشاء )) ( 73 و 74 ).

الجدل الخامس في أكلهم حقوق الناس وقولهم: (( ليس علينا في الأميين سبيل ! يقولون على الله الكذب وهم يعلمون. بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين الذين يوفون الناس حقهم ولا يشترون بعهد الله وايمانهم ثمناً قليلاً )) ( 75 – 77 ).

الجدل السادس في اتخاذهم الملائكة والنبيين أرباباً من دون الله : ليس هذا من الأنبياء في شيء: (( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون )) (79) وليس ذاك من الله في شيء: (( أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )) (80) وهذه شهادة عارضة ثمينة على أن أهل الكتاب مسلمون، وإن غالوا في إكرام الملائكة والنبيين: إنهم مسلمون!

الجدل السابع على نقضهم ميثاق النبيين بالإيمان بالنبي الأعظم: (( إن جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنّهُ )) ! هذا هو النبي الذي يدعو إلى دين الله الذي كرز به الأنبياء جميعاً، وهو الإسلام الذي تدين به السماوات والأرض: (( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً )) (81 ـ 85).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قرابة الدم مع إبراهيم ليست شيئاً تجاه قرابة الروح والدين والإيمان. فمحمد الموحّد له الحق أن ينتمي مثل أهل الكتاب إلى إبراهيم مباشرة دون أن يمر بالإنجيل أو بالتوراة ـ بمثل هذا حاجج الرسول بولس اليهود: إن أولى الناس بإبراهيم ليست سلالته الجسدية بل سلالته الروحية إنه جُعل أبا لأمم كثيرة ( انظر رومية الفصل 4 ).

ـ 115 ـ

الجدل الثامن على الطعام الحلال والحرام. قال لهم: (( كل الطعام كان حلاًّ لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة ! قل فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ... فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً )) ( 93 ـ 95 ).

الجدل التاسع على أول بيت عبادة وضع للناس أهو الذي بالقدس أم بمكة. فكان يقول: (( إن أول بيت وضع للناس لَلذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين. فيه آيات بيّنات: مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً )) ( 96 و 97 ).

 

يتخلّل هذا الجدل طائفة من الآيات التي تفضح مؤامرات اليهود وتحذر المسلمين منها:

اختلفوا عن اتباع الإسلام، من بعد ما جاءهم العلم بصحته، بغياً بينهم (19) والله يؤتي الملك مَن يشاء وينزع الملك ممن يشاء (26) إن الهدى هدى الله فلِمَ لا يؤتى أحدٌ مثل ما أُوتيتم ؟ (73).

ويسعون في إضلال المسلمين: (( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلّونكم )) (69) بكفرهم بآيات التوراة والقرآن المشتملة على نعت محمد (70) أو يلبسون حقّها بباطل تفسيرهم، ويكتمون الحق وهم يعلمون (71) فمن أساليبهم التزوير على كلام الله، والمخادعة: (( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمِنوا بالذي أنزِل على الذين آمنوا وجهَ النهار وكفروا آخره لعلهم يرجعون )) (72) إذ يقولون ما رجع هؤلاء عنه بعد دخولهم فيه وهم أولو علم إلا لعلمهم ببطلانه ! ثم التعصب الذميم (( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم )) (73) فيحذّر قومه من محاولاتهم: (( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين )) (100) ويحرّض قومه على التمسّك بملتهم الجديدة: (( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله ، وفيكم رسوله )) ! (101).

ـ 116 ـ

ويتوصل تطاولهم على آيات الله إلى حدّ الكذب على الله: (( وإن لفريقاً منهم يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ! ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون )) (78).

ويصدون عن الإسلام يبغونه عِوَجاً مثل ملتهمِ التي انحرفوا بها عن قصد منهم: (( قل يا أهل الكتاب لِمَ تصدون عن سبيل الله مَن آمن، تبغونها عِوَجاً ! وأنتم شهداء، وما الله بغافل عما تعملون )) (100).

ويشعر باستعدادهم لقتال المسلمين فيقوّي قومه عليهم: (( لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يُوَلّوكم الأدبار ثم لا يُنْصَرون )) (111).

ويحذرهم من اتخاذ اليهود أولياء (143) أو بطانة لأنه قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر (118) ثم (( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم، وتؤمنون بالكتاب كله )) ولا يؤمنون بما أنزل عليكم من الكتاب (( وإذا لقوكم قالوا آمنا. وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ )) (119). أخيراً (( إن تمسَسْكم حسنة تسؤْهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وأن تصبروا وتتقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً )) (120).

في غمرة هذا الجدال المتواصل، والتحذيرات المتتابعة من اليهود، يستثني منهم أمةً تقية لا شك إنها أمّة عيسى أو بالأحرى رهبان عيسى: (( ليسوا سواءً. من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر. ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين. ما يفعلوا من خير فلن يُكفروه والله عليم بالمتقين )) ( 113 ـ 115 )1 . كفاهم بهذه الشهادة فخراً على مدى الأجيال: إنه يشهد بصحة دينهم وإيمانهم، وبصحة كتابهم الذي بين أيديهم في زمانه،

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سترى شرحها في تعليقنا على آل عمران. ان المقصودين بالآية هم النصارى أو رهبانهم.

ـ 117 ـ

وبنزاهة سيرتهم وتقواهم، وبنزاهة علمهم وتعليمهم، ويشهد أخيراً بأن لهم الجنة. هذه أجمل شهادة قيلت في رهبان عيسى، ولا يُنقصها شيئاً شذوذ بعضهم عن هذا المثال الرائع كما ذكر في سورة التوبة (( وان كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله )) (74).

ترى أن الجدال قائم دائماً بين محمد واليهود ولا دخل للنصارى فيه على الإطلاق بل هو بجلّهم ويدافع عنهم. وفي آخر سورة آل عمران ننتقل من الجدال إلى الخصام: بعد هزيمة (( أحُد )) ووصف وطأتها: (( لقد سمع الله قول الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء! ـ سنكتب ما قالوا وقَتْلهم الأنبياء بغير حق ونقول: ذوقوا عذاب الحريق )) (182).

وفي آخر الأمر يكشف اليهود للنبي العربي عن حقيقة موقفهم منه: (( إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار! )) فيجيب: (( قل قد جاءَكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلِمَ قتلتموهم إن كنتم صادقين ؟ )) (183) ليس موقفكم انتصاراً للحق بل هو عناد وخصام فقد فعلتم بأنبيائكم أكثر مني: (( فإن كذبوك فقد كُذّب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والكتاب المنير )) (184) لقد انقسم الفريقان ولا بد أن تقع الواقعة بينهما: (( لتبلوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولَتَسْمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن المشركين أذى كثيراً )) (186).

إنه انقسام قومي، طائفي، سياسي، وليس دينياً؛ وتلك حالة فريق منهم وليست بحالة الجميع؛ فهو يختم سورة آل عمران بهذا التصريح: (( وإن من أهل الكتاب لمَن يؤمن بالله وما أنزِل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله. أولئك لهم أجرهم عند ربهم، إنه سريع الحساب )) (199).

 

ـ 118 ـ

3ً اشتداد النزاع بين محمد واليهود ( في سورة النساء )

يطلب النبي إلى أخصامه من اليهود أن يكفوا عن مقاومته، محذراً المؤمنين من محاولاتهم: (( ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم )) (43). (( فهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل (36) ويكتمون ما آتاهم الله من فضله )) (36)، يحرّفون كَلِم القرآن عن مواضعه، ويسخرون بأقوال النبيّ، يموّهون ويغالطون ليّاً بألسنتهم وطعناً في الدين (45) لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً منهم (45). وها إن النبي يأخذ في تهديدهم: (( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزَّلنا مصدّقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها ونلعنهم كما لعنا أصحاب السبت1 وكان أمر الله مفعولاً )) (47).

يهددهم ثم يهاجمهم: (( يزكون أنفسهم )) بقولهم نحن أبناء الله وأحباؤُه ! (48) انظر كيف يفترون على الله الكذب ! وكفى به اثماً مبيناً ! (49). وإنهم يؤمنون بالجِبْتِ والطاغوت، صنمين لقريش، بما يقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ! (50) لقد توصلوا إلى أن يفضلوا مشركي العرب على المسلمين المؤمنين ! فيا ويلهم، لعنهم الله ! (51). لهم نصيب مـن المُلْك فلا يريدون أن يشاركهم فيه أحد (52). (( أم يحسـدون الناس ( أي النبي ) على ما آتاهم الله من فضله )) من نبوّة وملك مملوءٍ بكثرة النساء، تعييراً للنبي! فيجيب (( فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة، وآتيناهم ملكاً عظيماً )) (53) فلا تطعن كثرة نسائه في نبوّته!

وهنا يلمح القرآن إلى حادثة ذات مغزى بعيد: تفاخر المسلمون وأهل الكتاب فيمن له الجنة منهم، وفيمن ملته أفضل فكان جواب القرآن على الأول: (( ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب: من يعمل سوءاً يُجْزَ به،

ـــــــــــــــــــــــ

(1) أصحاب السبت قوم من اليهود لم يحافظوا على شريعة السبت فمسخهم الله قردة أو خنازير حسب الروايات.

ـ 119 ـ

ولا يجدْ له من دون الله وليّاً ولا نصيراً )) (122)، ليس الخلاص بالملة بل بالعمل الصالح! فليس للخلاص سوى شرطين : الإيمان بالله وعمل الخير بموجبه (( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن1 فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيراً )) (124)، تعليم مكرّر (بقرة 62 و 177): (( مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً )) . ـ وكان جوابه على الثاني، إذا كان لا بد من المفاضلة، فالحنيفية دين إبراهيم أفضل (( ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن، واتبع مِلّة إبراهيم حنيفاً، واتخذ الله إبراهيم خليلاً )) (124). ـ قد تكون هذه الآية مدسوسة هنا من زمن آخر تقويماً لسابقتها2 .

فينتج من هذا الموقف وهذا التعليم إن الإيمان وشروط الخلاص واحدة بين المسلمين وأهل الكتاب، والعبرة بهما لا بالملة المختلفة. وإذا كان لا بد من مفاضلة فالحنيفية أفضل أديان الكتاب لأنها دين جدّ الأنبياء وخاتمتهم. ويظهر من هذا النص أن محمداً أنهى استقلاله عن أهل الكتاب، واستقرّ على ملة جديدة هي الحنيفية دين إبراهيم.

وتؤكد سورة النساء إن هذا الاستقلال في الملة ليس استقلالاً في الدين: فقد وصّى الله الجميع بالتقوى (( ولله ما في السماوات والأرض ولقد وصّينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتّقوا الله )) (130)؛ ويأمـر القرآن قومه أن يؤمنوا بالكتاب الأول إيمانهم بالقرآن: (( يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا

ـــــــــــــــــــــــ

(1) هذان الشرطان الوحيدان اللذان يقرّهما القرآن للخلاص ( هنا 124 وفي البقرة 62 ) (( مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً )) كذلك في 177 وفي غير موضع، هما الشرطان الوحيدان اللذان أقرّهما الإنجيل من قبله : (( بدون إيمان يستحيل إرضاءُ الله إذ لا بد لمن يدنو إلى الله أن يؤمن بأنه كائن وأنه يثيب الذين يبتغونه )) ( عب 11 ) فلا بد للخلاص من الإيمان بأن الله موجود وبأنه عناية تجزي الخير وتعاقب الشر. وفي أول اتصال للرسل الحواريين مع الأميين فتح بطرس فاه وقال : (( في الحقيقة قد علمت أن الله لا يُحابي الوجوه بل إن من اتقاه في كل أمة وعمل البِـر يكون مقبولاً عنده )) ( أعمال 10 : 34 ) .

(2) فالجواب الثاني ( 124 ) قد يتعارض مع الجواب الأول ( 123 ) إنهم يتفاضلون فينفي التفاضل ثم يفاضل. وقد تكون لتتمة الجواب.

ـ 120 ـ

بالله ورسوله والكتاب الذي نُزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبلُ، ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً )) (135)؛ ويؤيده تكفيره للذين يفرّقون بين الرسل، أو بين الله ورسله (( والذين آمنوا بالله ورسله، ولم يفرّقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهـم )) ( 149 ـ 152 )، ويؤيده أيضاً إعلانه لوحـدة الوحي عند جميع الأنبياء (( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده )) (162 ـ 164).

ويختم بحملة على اليهود عنيفة لأنهم سألوه أن ينزّل عليهم كتابً من السماء: (( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا: أرِنا الله جهرة ! فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً. ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ... فبما نقضِهم ميثاقهم وكفْرهم بآيات الله ، وقتْلهم الأنبياء بغير حق ... وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً. وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم ... فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أُحلّت لهم، وبصدّهم عن سبيل الله كثيراً، وأخذِهم الرّبا وقد نُهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، واعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً )) ( 152 ـ 160 ) إنه يعدد مظالمهم التي تعودوها مع جميع الأنبياء من موسى إلى النبيين الذين قتلوهم بغير حق إلى مريم إلى عيسى الذي ادعوا القضاء عليه لما قتلوه ولكن لم يقضوا عليه بل رفعه الله إليه، إلى محمد الذي يطلبون منه أن ينزّل عليهم كتاباً من السماء عَلَناً. ـ لاحظ أن القرآن يدافع عن شرف المسيح وأمة ضد اتهامات اليهود ويكفّرهم على عدم إيمانهم بهما، ويستثني الفئة الواعية منهم الراسخين في العلم منهم (161).

وكما يهاجم القرآن اليهود على تفريطهم بحق عيسى وأمه، يهاجم النصارى على إفراطهم وغلوهم في إكرام المسيح وأمّه: (( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله

ـ 121 ـ

وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا (( ثلاثة )) ! انتهوا، خيراً لكم ! إنما الله إله واحد، سبحانه أن يكون له ولد ! له ما في السماوات وما في الأرض، وكفى الله وكيلاً )) (171)؛ ولا تنسبوا غلوّكم إلى المسيح: (( لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ـ ولا للملائكة المقرّبون ـ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، فسيحشرهم إليه جميعاً )) (171).

لاحظ أن الوفاق تام بين محمد والنصارى رغم ازدياد النزاع بينه وبين اليهود. والقرآن ينتصر لهم ويدافع عن عقائدهم ضدّ كفر اليهود بها. ولكن هذا التفاهم والوفاق لا يمنعه أن يحذّرهم من غلوّهم في تأليه المسيح، والاعتقاد بالتثليث: إنه لا يكفّر النصارى بسبب هذا الاعتقاد بل يحسبه غلوّاً منهم وينصحهم أن ينتهوا عنه. فالحديث معهم نصح وعتاب، لا جدال أو خصام أو هجوم كما هو الأمر مع اليهود.

4ً تهديد صريح لليهود ( في سورة الحديد )

السور المدنية كلها، وهذه خاصة، تشرح لنا معنى النزاع القائم بين محمد واليهود: إنه نزاع قومي، طائفي، سياسي، لا نزاع ديني.

لقد حرّض النبي كثيراً على الجهاد حتى الآن. فبعد الهجرة أذن الله للمهاجرين بقتال مشركي قريش: أذن لِلذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وأن الله على نصرهم لقدير. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربُنا الله )) ( أول آية نزلت في مشروعية القتال، تجدها في سورة الحج ). يُساقون إلى القتال في (( بدر )) كأنما يساقون إلى الموت: (( يجادلونك في الحق ( القتال ) بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت، وهم ينظرون )) ( أنفال 6 )؛ (( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال (65) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ))

ـ 122 ـ

(29)؛ هذا هو السبب الذي أباح قتال المشركين (( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله )) (13). ثم نزلت شريعة القتال (( كُتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) ( بقرة 216 ). فقالوا: (( ربنا لِمَ كتبت علينا القتال ؟ لولا أجّلْتنا إلى أجل قريب ! )) ( نساء 76 ) فكان الجواب النهائي من الله في انتصارات محمد المتتابعة تصديقاً لقوله في سورة الحديد: (( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليَعلمَ الله من ينصُره ورسله بالغيب إن الله قويّ عزيز )) (25) في هذه السورة يجعل القرآن من القوّة الدعامة الكبرى والحجة العظمى لنشر الوحي: لقد قرن بين الحديد والدين. فالقوة والحديد والسيف منزلة من الله مع الكتاب لنصرة الله ورسوله.

هذا مع الكفار المشركين أما مع اليهود من أهل الكتاب فقد بدأ بالتحذير منهم في سورتي البقرة وآل عمران، ثم انتقل إلى التهديد في أنفال ونساء والحديد: (( وإما تخافنّ من قوم خيانةً فانبذْ إليهم على سواءٍ ، إن الله لا يحب الخائنين )) ( أنفال 59 )، (( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها على أدبارها ونلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً )) ( نساء 47 ). وهنا يدعو النصارى إلى التحالف مع المسـلمين لأبطال مؤامرات اليهود وتحزّبهم مع المشركين على رسول الله : (( يا أيها الذين آمنوا ( بعيسى: الجلالان ) اتقوا الله وآمنوا برسوله ( محمد ) يؤتِكم كِفْلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ( اليهود) ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل ( النبوّة ) بيد الله يؤتيه من يشاء )) ( 28 و29 ) للمسلم نصيب مـن رحمة الله وللنصراني المؤمـن بالقرآن نصيبان (( بِكفلين من رحمته )) !

ـ 123 ـ

بل ينذر قومه أنفسهم بقوة الحديد الذي نزل مع الكتاب الجديد: (( أَلم يَأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما أنزل من الحق ؟ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون )) ! (16) إنه يوبخ المسلمين على التشبه بفسق البعض من أهل الكتاب؛ هؤلاء لهم من طول الأمد وبعد زمن الوحي عذر على قساوة قلوبهم وفسق أخلاقهم، أما أنتم فالنبي لم يزل بينكم. فهو لا يطعن في دين أهل الكتاب بل في سلوك بعضهم، ومثلهم السيىء الذي يضر بالمسلمين. (( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب: فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون )) (26). تصل الأخبار إلى محمد كل يوم بأن بعض القبائل من يهود المدينة وغيرها ينضمون إلى الأحزاب المعارضة، بل يتآمرون على الرسول مع قريش والمشركين، فيندّد بفسقهم ولكن لا يطعن في دينهم.

ويلاحظ أن هذا الفسق قد لحق ببعض النصارى، وربما ببعض الرهبان فيحذرهم ويستميلهم: (( وقفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل. وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ـ ابتدعوها ـ ما كتبناها عليهم إلا ابتغاءَ رضوان الله ، فما رعوها حقَّ رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون )) ( 27 ). ألا ترى كيف يجمع المدح إلى القدح، والذم إلى التقدير، والتحذير إلى الاسترضاء. لقد لحق الفسق بعضهم، والتهاون بعض رهبانهم، ولكن لم تقسُ قلوبهم كاليهود ولا كبعض قومه أنفسهم (16و26) لذلك يمدّ يده لهم ليحالفهم على اليهود، واعداً إياهم بأفضل ما للمسلمين (( بكفلين من رحمته )) تعالى.

5ً تحزب اليهود مع المشركين على محمد ( في سورة البينة )1

سورة البيّنة تظهر لنا تحزّب اليهود مع المشركين في عداوة النبي، ومودة

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة البينة قيل مكية. وقيل مدنية ( الجلالان ) وقيل مختلف فيها ( البيضاوي ). ونحن على رأي المصحف الأميري بأنها مدنية ومن الزمن الذي نحن بصدده .

ـ 124 ـ

النصارى له ولقومه. إنهم لا ينفكون عن مقاومته حتى تأتيهم منه البيّنة (( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ( اليهود ) والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة )) (1)، والبيّنة التي يطلبون رسولٌ يتبع توراتهم (( رسول من الله يتلو صحفاً مطهّرة فيها كتبٌ قيّمة )) ( 2 و 3 ).

يا ويحهم ! (( ما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة )) (4). أليس دين القَيّمة في الأخلاص لعبادة الله ؟ (( وما أمروا إِلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلوة ويؤتوا الزكوة، وذلك دين القيّمة )) ! ( 5 و 5 ).

ثم يصف كل فريق من أهل الكتاب بصفتهم: اليهود الذين والوا المشركين هم شر البرية (( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها: أولئك هم شر البريّة )) (6) والنصارى الذين يودّون المسلمين هم خير البريّة: (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات1 أولئك هم خير البرية )) (7).

6ً وقوع الواقعة بين محمد واليهود فيأمر بجلائهم عن بلاده ( في سورتي الحشر والأحزاب)

كان اليهود في المدينة خطراً على وحدتها الدينية والقومية؛ وكانت دسائسهم ومؤامراتهم لا تنتهي. وكان بنو قينقاع منهم وبنو النضير حلفاء للأوس، وبنو قريظة حلفاء للخزرج. فخشي محمد من هذا التحالف المريب، ومن تلك الدسائس المقلقة، فذكّرهم بعهد الموادعة الذي بينه وبينهم فأجابوه (( لا يغرنّك يا محمد أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبتَ منهم فرصة: إنا والله لئن حاربناك لتعلمنَّ أنا نحن الناس )) متكلين على حليفهم عبد الله بن أُبي،

ـــــــــــــــــــــــ

(1) إن الذين آمنوا ( من أهل الكتاب ) ، وسياق الحديث والنسق والمنطق يطلب هذا المعنى.

ـ 125 ـ

زعيم المدينة. فحاصر المسلمون بني قينقاع في دورهم خمسة عشر يوماً متتابعة لا يخرج منهم أَحد ولا يدخل عليهم بطعام أَحد حتى لم يبق لهم إلا النزول على حكم محمد. فلما سلّموا قرّر محمد بعد مشاورة كبار المسلمين قتلهم جميعاً. فشفع فيهم حليفهم عبد الله بن أُبي بن سلول، فنزلوا على حكم الجلاء1 .

لم يتعظ بنو النضير، وعلى رأسهم حُيي بن أخطب بما جرى لأخوتهم. فبعث محمد إليهم محمد بن مَسْلمة يقول: (( إن رسول الله أرسلني إليكم أن أخرجوا من بلادي. لقد نقضتم العهد الذي جعلتُ لكم بما هممتم به من الغدر بي )) . فلم يسمعوا ولم يخرجوا. فسار إليهم المسلمون وقاتلوهم عشرين ليلة كانوا أثناءها إذا ظهروا على الدرب أو الدار تأخر اليهود إلى الدار التي من بعدها، بعد تخريبهم إياها. ثم أَمر محمد أصحابه أن يقطعوا نخل اليهود كي ييأسوا من معيشتهم فيستسلموا. وجزع اليهود ونادوا: (( يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبُه على مَن صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها )) ! فأجاب (( بإذن الله )) . فلما ملأ اليأس قلوبهم رعباً سألوا محمداً أن يؤمّنهم على أموالهم ودمائهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة. فصالحهم محمد على أن يخرجوا منها2. وفي منازلة بني النضير وجلائهم نزلت سورة الحشر:

(( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ... هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم. لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله. فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب. يُخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ... ما قطعتم من لِينة ( نخلة ) أَو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله، وليخزي الفاسقين ... ولولا أن كتب عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله. ومَن يُشاقّ

ـــــــــــــــــــــــ

(1) حياة محمد لحسين هيكل ص246

(2) حياة محمد لحسين هيكل ص277

ـ 126 ـ

الله فالله شديد العقاب )) . الشقاق هو سبب المحاصرة والقتال والجلاء. ففي غمرة الحرب وفي نشوة الظفر لا يطعن في دينهم بل يصرح بفسقهم (( ليخزي الفاسقين )) : فليسوا إذن أعداءَ دين بل أعداء دولة: شاقوا الله ورسوله !

وبقي في المدينة بنو قريظة حلفاء الخزرج، وساح حيي بن أخطب مع زعماء النضير واليهود يؤلّب الأحزاب من قريش وغطفان وقبائلهم على محمد. فساروا إلى المدينة في نحو عشرة آلاف رجل أو نحوها. ففزع المسلمون أشد الفزع (( هنالك ابتُلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً. إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنون )) . فأشار سلمان الفارسي على محمد بحفر خندق حول المدينة يقيها شر الهجوم. ونقض بنو قريظة عهدهم مع المسلمين متآمرين مع الأحزاب. فلما كان الليل أرسل الله جنوده من الطبيعة: الريح والمطر والرعد والبرق واشتدت العاصفة واقتلعت خيام الأحزاب وكفأت قدروهم وأدخلت الرعب إلى نفوسهم وخشوا مكر قريظة بهم، فارتحلوا (( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً )) ( أحزاب 25 ). فلما ارتحلت الأحزاب حاصر المسلمون على الفور بني قريظة وأسروهم ((وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صَياصيهم ( حصونهم ) وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً )) (26). ثم خرج محمد إلى سوق المدينة فأمر فحفرت بها خنادق ثم جيء باليهود أرسالا فضُربت أعناقهم، وفي هذه الخنادق دفنوا1 (( وأَورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديراً )) (27). وهكذا تطهرت المدينة من اليهود وسَلِمت للمسلمين يأمنون فيها على دينهم ودولتهم.

هذا الاضطهاد كانوا هم سببه بتحالفهم مع مشركي العرب، وتدخّلهم في

ـــــــــــــــــــــــ

(1) حياة محمد لحسين هيكل 308.

ـ 127 ـ

الحرب الأهلية بين محمد وبني قومه. ولكن هذا كله لم يكن للدين القديم والجديد دخل فيه.

7ً الموقف النهائي من أهل الكتاب دينياً وقومياً ( في سورة المائدة )

تقع سورة المائدة في السنة الثامنة للهجرة (630) بعد أن فتح محمد مدن اليهود الشمالية، وبين غزوة مؤتة الفاشلة ضد نصارى العرب في مشارف الشام وبين فتح مكة الأعظم. فهي من أواخر حياة النبي العربي وليس بعدها سوى سورة التوبة. لذلك لها قيمة كبرى في شرح العلاقات الأخيرة بين المسلمين وأهل الكتاب.

لقد أكمل للمسلمين دينهم ويئس الذين كفروا من دينهم: (( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم: فلا تخشوهم واخشون ! اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً )) (4). فإذ قد تم فتح عاصمة الشرك وكملت شريعة الإسلام كان في هذا الكمال الموقف النهائي من أهل الكتاب دينيّاً وقوميّاً.

يميز القرآن في العلاقات الاجتماعية بين أهل الكتاب والمشركين من العرب وغيرهم. فطعام أهل الكتاب حِلٌّ للمسلمين، والطعام في أخلاق العرب عربون الصداقة وشركة الحياة الأولى: (( اليومَ أحِلَّ لكم الطيّبات. وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم )) (6). وزواج المسلمين بالكتابيات حلّ أيضاً سواءً بالمسلمات، مع أنه منذ أول العهد بالمدينة حرّم الزواج من المشركات (( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمِنّ )) ( بقرة 221 ) أَما مع أَهل الكتاب الواحد فيجب أن تدوم العلاقات الاجتماعية الحسنة: (( والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان )) (6). ترى كيف يفرق القرآن في المعاملة بين المشركين وبين أهل الكتاب. فلو لم يكن على دين واحد مع النصارى واليهود لما سمح بالطعام المشترك والزواج المشترك.

مع ذلك نجد اليهود كما عهدناهم على عداوتهم للنبي والمسلمين: لقد نقضوا

ـ 128 ـ

عهد الله بالإيمان برسله ونصرتهم (( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ... فبما نَقضِهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية. يحرّفون الكَلِم عن مواضعه. ونسوا حظاً مِمّا ذكروا به. ولا تزال تطلّع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم، فاعفُ عنهم واصفحْ )) (14). يدعوهم لآخر مرة إلى قبول رسالته: (( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مِما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير. قد جاءَكم من الله نور وكتاب مبين )) ( 16 و 17 ). فلا تعتبوا بعد اليوم على الله قائلين لم يأتنا من نبي أو رسول: (( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم ـ على فترة من الرسل ـ أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير! فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير )) (21). ولا تسرفوا في الأرض كما أسرف آباؤكم: (( ولقد جاءَتهم رسلنا بالبينات. ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون )) (35). ثم يجيء الإنذار النهائي: (( إنما جزاءُ الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتلوا أو يُصلبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلُهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض: ذلك لهم في الدنيا خِزْيٌ ولهم في الآخرة عذاب عظيم ))1 ( 36 ).

ويطرأ حادث يستفتون به النبي، فتأتي الفتوى وما يتبعها من أحكام فَصْلَ الخطاب في موقف القرآن من أهل الكتاب. فإنه في صفحة خالدة من سورة المائدة يقرّ نهائياً الشرائع الثلاث، ويلزم بها أهلها دون سواهم: يقرُّ اليهود على توراتهم ويقرّ النصارى على إنجيلهم ويقرّ المسلمين على قرآنهم.

زنى شريف بشريفة من أهل فدك، وهما محصنان، فكرهوا رجمهما إلى حدّ التوراة وأوّلوا الرجم بالجلد. ثم أرسلوا إلى يهود المدينة أن استفتوا النبي في ذلك فإن أفتاكم بالجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. فاستحلف النبي عالمهم ابن صوريا عن حد الزنى في التوراة فقال هو الرجم فأقامه النبي

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سياق الحديث يقتضي نزول هذه الآيات في اليهود الذين يواصل الحملة عليهم. وقيل أنها آية مستقلة نزلت في العرنيين الذين أنعم عليهم الرسول فقتلوا راعيه وسبوا ابله.

ـ 129 ـ

عليهما فثارت ثائرتهم. فوصف القرآن الحادث بقوله: (( ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرّفون الكلم من بعد مواضعه، يقولون: إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تأتوه فاحذروا. ومن يرد الله فتنتَه فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذاب عظيم )) (44).

ويعلق القرآن على الحادث وعلى استفتاء النبي فيه :

التوراة كتاب الله الذي أنزله وفيها أحكامه فليحكم أهل التوراة بما أنزل الله فيها: ((وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ... إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا، والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) (46 ـ 47).

والإنجيل هو أيضاً كتاب الله الذي أنزله وفيه كذلك أحكام الله فليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه: (( وقفينا على أثرهم بعيسى أن ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه. ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون )) 1 (49 – 50).

والقرآن هو الكتاب حقاً فليحكم النبي بما أنزل الله فيه: (( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءَهم عمّا جاءك من الحق )) (51). لقد خـيّر القرآن النبي في الحكم بين المتقاضين إليه من أهل الكتاب (( فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرضْ عنهم. فإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط )) (45) وهذا

ـــــــــــــــــــــــ

(1) عيسى يصدق ما قبله من أنبياء الكتاب، والإنجيل يصدّق ما قبله من أحكام الكتاب. لاحظ الفرق الذي يجعله القرآن بين المخالفين من اليهود (( أولئك هم الكافرون )) ( 47 ) والمخالفين من النصارى (( أولئك هم الفاسقون )) ( 50 ).

ـ 130 ـ

القسط هو ما أنزل الله في كتابهم (( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءَهم )) في تفسير الكتاب على هواهم (51) وهذا القسط ما أنزل الله أيضاً في القرآن (( وأَنِ احكمِ بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءَهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )) (52).

ويختم القرآن بهذا الحكم النهائي: (( لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون )) (51). في هذا النص الحكم الجامع المانع، والقول الفاصل القاطع على اتحاد اليهود والنصارى والمسلمين في أصل الدين واستقلال كل منهم بشريعة كتابهم التي تلزم تابعيها دون سواهم. قال الرازي: (( الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد عليهم السلام بدليل أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم في قوله (( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور)) (47) ثم قال (( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم )) (49) ثم قال (( وأنزلنا إليك الكتاب )) (51) ثم قال (( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً )) : يعني شرائع مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة ... وقوله يدل على أنه يجب أن يكون كل رسول مستقلاً بشريعة خاصة، وذلك ينفي كون أمة أحد الرسل مكلّفة بشريعة الرسول الآخر )) وعليه إجماع المفسرين. فالله هو الذي أرد تمييز هذه الأمم الثلاث الموحدة للتنافس في الخيرات لا للتسابق في الخصومات والحروب: (( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة: فاستبقوا الخيرات )) .

فهل أجلى بياناً من هذا المواقف وهذا التعليم ؟ إنه لموقف الحق والمسالمة. إنه لموقف الصراحة والموافقة. وكم هو بعيد عن موقف كثيرين من المسلمين تجاه أَهل الكتاب. وكم يشجع على التفاهم والتقارب، ويقرّب بين أمم الكتاب بعد طول الأمد.

 

ـ 131 ـ

كما وجدنا اليهود على عداوتهم القومية للمسلمين نجد النصارى على مودتهم لهم فقد كانوا عرباً تنصّروا، ولم يكونوا دخلاء استوطنوا واستعربوا.

يذكرهم بما تناسوه من كتابهم: (( ومن الذين قالوا إنا نصارى، أخذنا ميثاقهم فنسوا حظّاً مما ذكروا به. فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة )) 1 (14).

ويشدد القرآن في تحذيرهم من الغلو في إكرام المسيح: (( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ! ـ قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أَن يُهلك المسيح ابن مريم وأمه ومَن في الأرض جميعاً )) (17)، بل يعود فيهدّد النصارى ليتركوا هذا الغلو في الدين: (( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم. وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم )) (75) (( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا واحد ! وإن لم ينتهوا عمّا قالوا ليمَسّنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم )) (76). ليس المسيح وأمه بإلهين فقد كانا يأكلان الطعام، وهذا دليل على الاغراق في البشرية وحاجاتها: (( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة: كانا يأكلان الطعام )) (78) فيا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم: (( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل )) (80). حكى القرآن في هذه الآيات مقالة بدعتين من نصارى العرب البعيدين عن مراكز النصرانية الحنيفة: مقالة المثـلِّثين، ومقالة المريميين. ونص على أنهما مقالة فئة من النصارى لا مقالة الجميع بقوله (( ليمسّن الذين كفروا منهم عذاب أليم )) (76) وعلى كل حال لا يسمّي هذا الشطط إلا غلواً في الدين (80).

وبعد أن أقرّهم على دينهم وكتابهم وشريعتهم يحرضهم على العمل بموجبها: (( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل

ـــــــــــــــــــــــ

(1) بينهم أي بين فرق النصارى، والأفضل بين النصارى واليهود المذكورين آنفاً ( 13 ) .

ـ 132 ـ

إليكم من ربكم )) (71)، ويأسف لتقاعسهم عنها: (( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساءَ ما يعملون )) (69).

 

ويعود إلى فضح مؤامرات اليهود والتحذير منهم. إنه يدعو أخيراً إلى نقض الأحلاف بين المسلمين وأهل الكتاب لأنهم خطر على الدين الجديد والدولة الجديدة: (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزءاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار، أولياء: واتقوا الله إن كنتم مؤمنين )) (60) يهزؤون خصوصاً بصلاتكم (( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزءاً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون )) (61) ويخادعونكم في دينكم (( وإذا جاؤوكم قالوا آمنا. وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به. والله أعلم بما كانوا يكتمون )) (64)؛ ويسارعون في الإثم والعدوان (( وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان، وأكلهم السحت (الحرام) لبِئْس ما كانوا يعملون )) (65)؛ ويتطاولون على الله بقولهم (( يدُ الله مغلولة! ـ غُلتْ أيديهم ولُعِنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء )) (67)؛ ويسعون في الأرض فساداً ويوقدون نار الحرب على رسول الله: (( وليزيدَنَّ كثيراً منهم ما أُنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً؛ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة؛ كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ! ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين )) (67)؛ ويختم بلعنة اليهود، أو بالحري منافقي اليهود الذين يفضلون محالفة المشركين على المسلمين: (( لُعِن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون. ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا: لبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم، أَن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء. ولكن كثيراً منهم فاسقون )) ( 81 ـ 84 )؛ ويعلل القرآن عداوة اليهود بقوله: (( قل يا أهل

ـ 133 ـ

الكتاب هل تنقمون منا ؟ إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبلُ وان أكثركم فاسقون)) (62).

 

وتلخّص سورة المائدة الموقف الديني بقوله: (( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) (72) ويعلن القرآن وحدة الإيمان بالوحي الواحد الجديد والقديم (( آمنا بالله وما أنزِل إلينا وما أنزِل من قبلُ )) (62).

وتلخّص الموقف القومي السياسي من أهل الكتاب: (( ولتجدَنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا. ولتجدنَّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى: ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع لما عرفوا من الحق. يقولون: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين )) ( 85 و 86 ). وهكذا تراهم على اتحاد في الدين وخلافٍ على السياسة وعلى الدولة.

فلا نزال إلى اليوم من أواخر حياة النبي نراه يندّد بعداوة اليهود للمسلمين عداوة تفوق عداوة المشركين. ويشيد بمودة النصارى لهم. ويعزو دوام هذه المودة إلى رؤساء دينهم القسيسين والرهبان. وهكذا يستمر الدليل على المودة القائمة بين النصارى والمسلمين طيلة عهد حياة النبي في الحياة الاجتماعية والسياسية فضلاً عن وحدة الحياة الدينية. هذه هي شهادة القرآن الدائمة.

8ً وصية محمد الأخيرة لأمته ( في سورة التوبة أو براءة )

روى البخاري عن البراء أنها آخر سورة نزلت ( الجلالان ). بعد عزوة مؤتة الفاشلة، وفتح مكة الأعظم، واحتلال الجنوب، خضعت الجزيرة كلها ديناً ودولة للنبي العربي. فقصد المدينة ليستريح فيها ويجهّز حملة خارج حدود الجزيرة إلى بلاد الشام. فكان (( جيش العسرة )) وغزوة تبوك أَدّى فيها

ـ 134 ـ

الجزية للمسلمين بعض أمراء العرب النصارى. ولكن تهيّبوا دخول بلاد الشام فأشار عمر بن الخطاب على محمد بالرجوع فرجعوا عامهم هذا. وفي أحداث هذه الغزوة الفاشلة الثانية ضد بني الأصفر ( الروم ) نزلت سورة التوبة.

وفي حجة الوداع، يوم حج أبو بكر بالناس الحج الأكبر، نزلت وصية محمد الأخيرة فأوفد الرسول عليّاً يتلوها على الناس. ووضعوها فيما بعد في صدر سورة التوبة. فيها يقسم غير المسلمين إلى صفين متباينين: المشركين وأهل الكتاب. وبكل فئة يشرع خطة نهائية :

1 موقف الإسلام النهائي من المشركين : قتالهم بلا هوادة حتى يدينوا بالإسلام.

المسلمون براء من كل عهد مع مشركي العرب: (( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ... وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولُه ... إلا الذين عاهدتم من المشركين ثمّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً : فأتموا لهم عهدهم إلى مدته )) (1 ـ 4)؛ فلا عهد للمشركين عند الله ورسوله (7 ـ 12).

بعد انقضاء مدة العهد، وانسلاخ الأشهر الحُرم، يفرض على المسلمين قتال المشركين الدائم حتى يدينوا بالإسلام (( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم )) (6): فلا مناص للمشرك العربي: فإما الإسلام وإما الموت!

المشركون المقصودون بهذه الفريضة هم أولاً العرب، وآل قريش خصيصاً: (( ألا تقاتلوا قوماً نكثوا أَيمانهم وهموا بإخراج الرسول. وهم بدؤوكم أول مرة. أَتخشَونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين )) (13).

ـ 135 ـ

فالإسلام حد قاطع بين المؤمنين والمشركين: (( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ... إنما يعمُرُ مساجد الله مَن آمن بالله واليوم الآخر، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله )) (17و18).

الإسلام يفرّق بين المسلمين والمشركين حتى من إخوانهم وآبائهم: (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءَكم وإخوانكم أولياء ان استحبوا الكفر على الإيمان )) (23).

ويختم برفض المشركين وبمقاطعتهم على الإطلاق لأنهم نجس: (( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. وإن خفتم عَيْلةً فسوف يغنيكم الله من فضله )) (29).

فوصية محمد الأخيرة وفريضة القرآن النهائية بحق المشركين هي اقصاؤهم عن الكعبة لأنهم نجس، وقتالهم الدائم حتى يدينوا بالإسلام.

2 موقف الإسلام النهائي من أهل الكتاب: إخضاعهم للدولة الإسلامية لا للدين الإسلامي.

(( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون )) (30).

مَن هم أهل الكتاب المقصود قتالهم في هذه الآية وإخضاعهم للجزية ؟ قد يكونون اليهود وحدهم، وليس من إشكال حينئذٍ في الآية، ولها كثير من أمثالها في كل السُور المدنية. وقد يكونون اليهود والنصارى بدليل ما تبعها من الآيات التفسيرية التي تبرّر قتال أهل الكتاب عموماً (31 ـ 35). وإقحام النصارى مع اليهود في جهادهم تطوّر مفاجئ لا ينسجم مع ما سبق

ـ 136 ـ

من آي القرآن كله1 . فهذه هي المرة الوحيدة في القرآن من أوله إلى آخره يدعو فيها إلى قتال النصارى كما دعا إلى قتال اليهود. فقد ظل طيلة حياته يشيد بحسن إيمانهم وجميل مودتهم ويدافع عن دينهم ضد افتراءات اليهود. ولكن قد نجد مبرّراً لهذا التطور الأخير: إن ظروف الدولة الدينية الجديدة تقضي بأن يخضغ جميع الرعايا لهذه الدولة حرصاً على الوحدة الدينية، والوحدة القومية والوحدة الاجتماعية والوحدة السياسية. يفرض قتال أهل الكتاب عموماً إذا اقتضت الضرورة السياسية، لا من باب الضرورة الدينية.

ويشعر بأن فريضته بقتال أهل الكتاب خطيرة، صعبة الاستساغة، فيبرّرها بهذه الأسباب الأربعة: قولهم بأفواههم (( عزيز ابن الله ! المسيح ابن الله ! (31) (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله2 ـ والمسيح ابن مريم ـ وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو ! سبحانه عما

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال حسين هيكل: (( يذهب بعض المستشرقين إلى القول بأن هذه الآيات تضع أهل الكتاب والمشركين بما يشبه المساواة . وأن محمداً وقد ظفر بالوثنية في شبه الجزيرة بعد أن استعان عليها باليهودية والمسيحية معلنا خلال أعوام رسالته الأولى أنه إنما جاء مبشراً بدين عيسى وموسى وإبراهيم والرسل الذين خلوا من قبل ؛ قد جعل وجهته إلى اليهود الذين بدؤوه العداوة فظل بهم حتى أجلاهم عن شبه الجزيرة. وأثناء ذلك كان يتودد إلى النصارى وتنزل عليه الآيات تشيد بحسن إيمانهم وجميل مودتهم ... وها هو ذا الآن يجعل وجهته إلى النصرانية يريد بها ما أراد باليهودية من قبل فيجعل شأن النصارى من اتبعه من المسلمين حين ذهبوا إلى الحبشة يستظلون بعدل نجاشيها وبعد أن كتب محمد لأهل نجران وغيرهم من النصارى يقرّهم على دينهم وعلى القيام بطقوس عبادتهم . ويذهب أولئك المستشرقون إلى أن هذا التناقض في خطة محمد هو الذي أدّى إلى استحكام العداوة بين المسلمين والنصارى من بعد ، وأنه هو الذي جعل التقريب بين أتباع محمد غير ميسور ان لم يكن في حكم المستحيل )) ( حياة محمد ص. 454 ).

(2) قال البيضاوي: اتخذوهم أرباباً بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل لله وتحليل ما حـرّم الله . أو بالسجود لهم )).

ـ 137 ـ

يشركون )) (32). لقد أفسدوا في دينهم. وأفسدوا في عملهم مع الله (( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتمَّ نوره ولو كره الكافرون )) (33) ومع الناس (( يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله )) (35) فضرورة الدين والدولة تقتضي قتالهم وإخضاعهم للجزية أي للدولة الإسلامية لا للدين الإسلامي.

والفرق عظيم والبون شاسع بين موقف القرآن من أهل الكتاب وموقفه من المشركين.

يُعلن أن المشركين نجس ويصدهم عن المسجد الحرام. ولا يعلن أو يلمح إلى شيء من ذلك بحق أهل الكتاب: فليسوا بنجس، ولا يصدّهم عن الكعبة.

يذكر غلوهم في الدين بتأليه المسيح، وتربيب الملائكة والنبيين، والأولياء من الأحبار والرهبان، ويذكر فسق بعضهم، ولكن لا يطعن أبداً في أصل دينهم. وإن قال قائل من المسيحيين أو المسلمين أو غيرهم بأن القرآن في آخر أمره جمع بين الوثنية وأهل الكتاب على صعيد واحد من الشرك والكفر وأمر بقتالهم على السواء، نجيبُه بأن هذا التأويل مناقض لنص الآية الصريح ولتعليم القرآن كله. فالحرب مع الوثنية والشرك حرب دينية بلا شرط ولا هوادة حتى يذعنوا للإسلام. أما الحرب مع أهل الكتاب فهي قومية مشروطة بالقسم الضال منهم ((الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر )) ومشروطة بإخضاعهم للدولة (( حتى يعطوا الجزية على يدٍ وهم صاغرون )) لا بإرغامهم على اعتناق الإسلام. ومتى ارتفع المشروط بطل المفروض.

وهكذا يشرط لقتال الكتابيين زيفهم عن دين الحق (( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر من الذين أوتوا الكتاب )) (30) وهو لا يفرض قتال أهل الكتاب كافة، بل الكفار منهم، كما يفرض قتال المشركين كافة (( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلوكم كافة )) (36).

ـ 138 ـ

ويشرط لقتالهم أيضاً غاية هي إخضاعُهم للدولة الإسلامية: فبينما يشرع قتال المشركين حتى يدينوا بالإسلام، يفرض بعامل المصلحة الدينية والمدنية قتال أهل الكتاب ((حتى يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون )) أي يخضعوا للدولة الإسلامية لا للدين الإسلامي: فالموقفان على طرفي نقيض.

وهكذا فالحرب مع المشركين حرب دينية حتى يُسلموا فيَسْـلَموا. أما الحرب مع أهل الكتاب فهي قومية حتى يدفعوا الجزية ويخضعوا للدولة الإسلامية فيَسلَموا.

أخيراً تشريع سورة التوبة محدود في الزمان والمكان: يحصر قتالهم في الجزيرة وفي عصر النبي لتبقى للجزيرة وحدتها الدينية والمدنية؛ لذلك كان يقول على فراش الموت: لا يبقَ في جزيرة العرب دينان !

 

النتيجة

ما هي نتيجة هذا البحث الطويل ؟ انّا نوجزها بكلمتين :

الأولى: إن القرآن الكريم يعلن أن الله واحد، والوحي من آدم إلى نوح إلى إبراهيم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد واحد، والكتاب الذي أنزله مع النبيين واحد وإن تنوعت وتعددت النسخ، والرسالة واحدة، والإيمان المشترك بين الجميع واحد، والدين، أي الإسلام وهو الإيمان بالله واليوم الآخر، واحد. ويجعل مساواة تامة بين قيمة القرآن والكتاب إذ يعتبر الكتب كلها نسخاً متساوية للكتاب الأزلي الواحد. فهو يبشر بوحدة الدين المنزل وإن اختلفت الشرائع وطرق العبادة من كتاب إلى كتاب (( لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة )) على شريعة واحدة. ولكن فرقناكم أُمماً، ليس للتفرقة الدينية، بل للتنافس في الخير والفضيلة والصلاح.

الثانية: إن القرآن الكريم خلافاً لما يظنه بعض الجهلة من المسيحيين

ـ 139 ـ

والمسلمين لا يعتبر أهل الكتاب أعداء دين على الإطلاق وما أمر قط بقتالهم كأعداء دين. بل توسم محمد في الفاسقين منهم خطراً سياسيّاً أو اجتماعيّاً على الدولة الإسلامية فطلب من أمته وفرض عليها في وصيته الأخيرة إخضاع أهل الكتاب للدولة الإسلامية لا للدين الإسلامي كالمشركين، حرصاً على وحدة الدولة الناشئة. فلا يعتبر القرآن أهل الكتاب مشركين أو كافرين أو أعداء دين بل مسلمين موحدين كما أجاب وفد نجران النبي (( إنّا كنا من قبله مسلمين )) ( قصص 54 ). وكما صرّح القرآن نفسه (( هو سمّاكم المسلمين من قبلُ ( في الكتاب ) وفي هذا )) أي في القرآن ( الحج 78 ).

وهكذا فالمبدأ العام الشامل الكامل الجامع المانع الذي به ابتدأ محمد رسالته وبه ختمها: (( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) ( بقرة 62 مائدة 28 ).

ويُختتم القرآن كله بآخر آية من آخر سورة بهذا الإعلان النهائي: (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتـُلون و يقتـَلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن. ومن أوفى بعهده من الله ؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به. وذلك هو الفوز العظيم ! )) ( توبة 112 ).

 

القسم الثاني

مَريَم أمّ المسيح في القرآن

 

توطئة

 

(( يا مريم إن الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك

على نساء العالمين )) ( آل عمران 41 )

إن موقف القرآن من مريم العذراء أم المسيح، موقف كريم ينقل لنا بأمانة تعليم النصرانية الأولى عن (( فتاة الله )) (( المصطفاة على نساء العالمين )) ويكفّر ما تكفّره من تقصير المقصّرين ومن غلوّ المغالين.

ونقدر أن نوجز تعليمه المريمي بهذه الآية الكريمة: (( يا مريم إن الله اصطفاك وطهّرك واصطفاكِ على نساء العالمين )) .

سنقرأ النصوص القرآنية حسب ترتيبها التاريخي1 ونتفهمها على ضوء شروح الأئمة المعروفين، المتداولة بين الناس.

ثم نحاول، في جزء ثانٍ؛ أن نعلّق عليها بما تيسّر.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ترتيب سور القرآن حسب تاريخ تدوينها مشكلة عويصة. فاخترنا الترتيب والتزمين المنصوص عليه في مطلع بعض المصاحف ( المصحف الأميري ).

ـ 142 ـ

 

الجزء الأول : النصوص القرآنية

 

النص الأول

( مريم 15 ـ 33 )

النص الثاني

( أنبياء 91 )

النص الثالث

( المؤمنون 51 )

النص الرابع

( آل عمران 33 ـ 47 )

النص الخامس

( النساء 157 و 170 )

النص السادس

( تحريم 12 )

النص السابع

( مائدة 76 ـ 80 و 113 ـ 119 )

 

النص الأول : سورة مريم 15 ـ 33

يرينا بتولية مريم في أمومتها الصحيحة، ويعدّد المعجزات التي تثبتُ الأمومة والبتولية معاً. فنلمح من وراء ذلك ردَّه على افتراءات اليهود بهذا الصدد.

15 واذكرْ في الكتاب مريم إذ انتَبذتْ من أهلها مكاناً شرقياً.

16 فاتخذتْ من دونهم حجاباً. فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سوياً.

ــــــــــــــــ

آية 15 ـ (( الكتاب )) القرآن، على معنى الحاضر والمستقبل، كما يقول الجلالان والبيضاوي. وعلى معنى الماضي، هو الكتاب المقدس. (( مريم )) خبر مريم أو قصة مريم. (( مكاناً شرقياً)) حين اعتزلت في مكان نحو الشرق من الدار ( الجلالان )، شرقي في بيت المقدس أو شرقي دارها ( البيضاوي ). والأفضل قول الجلالين بسبب (( من أهلها )) .

آية 16 ـ (( اتخذت حجابً )) أرسلت ستراً تستتر به ( الجلالان ). (( فأرسلنا إليها روحنا )) جبريل؛ وأمّا أين وقعت هذه الزيارة فلا يظهر بوضوح من النص إذ لا يعلم أين كان أهلها: أتاها جبريل بصورة شاب أمرد (( سوياً )) تام الخلق ( الجلالان ) وسماه الله روحه على المجاز ( الزمخشري ) إنها نسبة الملكية وتختلف عن قوله في المسيح (( روح منه )) .

ـ 144 ـ

17 قالت : إني أعوذُ بالرحمن منك ! إن كنتُ تقياً ...

18 قال : إنما أنا رسولُ ربكِ لأهبَ لكِ غلاماً زكياً .

19 قالت : أَنَّى يكون لي غلام، ولم يمسسني بشر، ولم أكُ بغياً ؟

20 قال : (( كذلك ! قال ربُّكِ : هو عليَّ هَيّنٌ. ولِنجعلهُ آيةً للناس، ورحمة منا، وكان أمراً مقضياً )) .

ــــــــــــــــ

آية 17 ـ (( إني أعوذ بالرحمن منك )) قالت من غاية عفافها ( البيضاوي ). (( إن كنت تقياً )) جواب الشرط المحذوف دل عليه ما قبله (( فتنتهي عني بتعويذي )) ( الجلالان ). قال الزمخشري: ودل على عفافها وورعها إنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة. والانتباذ: الاعتزال والانفراد للعبادة ـ ويسف المفسرون ايّما اسفاف في تفسير الغاية من تلك العزلة. ( راجع الزمخشري والبيضاوي ).

آية 18 ـ أي إني أتقي الله وإنما أنا رسول ربك الذي استعذت به (( لأهب )) وقرأ أبو عمر عن نافع ويعقوب بالياء (( ليهب )) . والمعنى: لأكون سبباً في هبته. ويجوز أن يكون حكاية لقوله سبحانه ( البيضاوي ). (( زكياً )) طاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير أي مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح ( البيضاوي ). لاحظ أن مولودها طاهر من الذنوب منذ الحبل به.

آية 19 ـ (( ولم يمسسني بشر )) جعل المس كناية عن النكاح الحلال ( الزمخشري ) ولم يباشرني رجل بالحلال فإن هذه الكنايات إنما تطلق فيه ( البيضاوي ). (( بغيّاً )) زانية، الفاجرة التي تبغي الرجال ( الزمخشري ) ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة أو للنسبة كقوله طالق.

آية 20 ـ (( كذلك )) أي الأمر كذلك: من خلْق غلام منك من غير أب

ـ 145 ـ

21 فحملتْهُ. فانتذتْ به مكاناً قَصِياً .

ــــــــــــــــ

( الجلالان ). (( ولنجعله )) تعليل معلله محذوف أو معطوف على تعليل مضمر وقيل عطف على (( لأهب )) ( الزمخشري ). (( آية للناس )) علامة لهم وبرهاناً على كمال قدرتنا. ((ورحمة منا )) على العباد يهتدون بإرشاده ( البيضاوي ). (( وكان أمراً مقتضياً )) به في علمي (الجلالان ) تعلق به قضاء الله في الأزل أو كان أمراً حقيقياً بأن يقضي ويفعل لكونه آية ورحمة ( البيضاوي ). ـ وعندي المعنى: وكان أمرا مفعولاً أي وصار كذلك. قال الزمخشري (( أمراً حقيقياً )) .

آية 21 ـ (( فحملته )) . ـ كيف كان الحمل ؟ النص ساكت ويحتمل معنى الخلق مباشرة. أما المفسرون فيجعلون الحمل بنفخة من جبريل في جيب درع مريم. سترى في آل عمران أن الحمل صار مباشرة بمعجزة إلهية دون واسطة مخلوقة. (( إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون )) . (( فحملته فانتبذب به مكاناً قصياً )) تنحّت به بعيداً عن أهلها (الجلالان) فاعتزلت وهو في بطنها وراء الجبل وقيل أقصى الدار ( البيضاوي والزمخشري ). كم كانت مدة الحمل ؟ لا يذكرها القرآن ونقدر أن نفترضها معه طبيعية. ولكن المفسرين قد اختلفوا. قال الجلالان: والحمل والتصوير والولادة في ساعة. وقال البيضاوي: (( وكانت مدة حملها سبعة أشهر وقيل ستة وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره. وقيل ساعة )) . وفي الزمخشري أيضاً: (( وقيل ثلاث ساعات؛ وقيل حملته في ساعة وصُور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها )) . وعن ابن عباس كانت مدة الحمل ساعة واحدة: و (( كما حملته نبذته )) . يتفننون في تكثير المعجزات حول أم المسيح ! وكم كان سن العذراء ؟ القرآن صامت. قال البيضاوي والزمخشري (( وسنها ثلاث عشرة سنة وقيل عشر سنين ... )) وهكذا يعرف المفسرون دائماً أكثر من الكتاب ! فلا يحترمون صمته. (( قيل كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف فلما قيل حملت من الزنا خاف عليها قتل

ـ 146 ـ

22 فأَجاءَها المخاضُ إلى جـذْع النخلة. قالت: يا ليتني مُتُّ قبل هذا وكنتُ نَسْياً منسياً !

23 فناداها من تحتها : ألا تحزَني، قد جعلَ ربُّك تحتكِ سرياً .

ــــــــــــــــ

الملك فهرب بها فلما كان ببعض الطريق حدثته نفسه بأن يقتلها فأتاه جبريل فقال إنه من روح القدس فلا تقتلها فتركها )) .

آية 22 ـ (( فاجاءها المخاض )) جاء بها، ألجأها المخاض ( بالفتح والكسر ) وهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك في بطنها للخروج ( البيضاوي ). ومن ثم فلا يتحمل اللفظ في الأصل معنى (( وجع الولادة )) كما يقول الجلالان ... (( إلى جذع النخلة )) لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة. وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة فيها: وكان الوقت شتاء. والتعريف إما للجنس وإما للعهد إذ لم يكن ثمت غيرها. ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يسكن روعتها ويطعمها ( البيضاوي ). قالت (( يا )) للتنبيه. (( مت قبل هذا )) قالت استحياء من الناس ومخافة لومهم. (( وكنت نسياً منسياً )) شـيئاً متروكاً لا يُعرف ولا يذكـر ( الجلالان )، من حقه أن ينسى. قالت هذا لما رأت نفسها قد حملت وولدت بمعجزة لن يصدقها الناس، وهي كما حملته نبذته ( البيضاوي ).

آية 23 ـ (( فناداها من تحتها )) هنا يوجد غموض الضمائر. قال البيضاوي: فناداها عيسى وقيل جبريل. من أسفل مكانها، وقيل الضمير من تحتها للنخلة. (( قد جعل رب تحتك سرياً )) جدولاً وقيل سيداً من السرو، والأفضل أن نختار مع الجلالين: ناداها جبريل من دونها: أن لا تحزني، قد جعل ربك تحتك جدول ماء، بدليل قوله بعد ذلك: فكلي واشربي. قال الزمخشري: لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة.

ـ 147 ـ

24 وهزَي إليك بجذْعِ النَّخلةِ تُساقطْ عليكِ رُطَباً جَنِيَّـا .

25 فكُلي واشربي وَقَرّي عيناً. فإمَّا تَرَينَّ من الناس أحداً

26 فقولي : إني نذرت للرحمنِ صوماً فلن أكلِّمَ اليوم إنسِياً .

ــــــــــــــــ

آية 24 ـ (( تساقط )) فيه عدة قراءات. تساقط أدغمت التاء الثانية في السين. وحذفها حمزة (( تساقط )) . وقرأ يعقوب بالياء (( يساقط )) . وحفص (( تساقط )) من ساقطت بمعنى أسقطت. وقرئ يتساقط ويسقط وتسقط فالتاء للنخلة والياء للجذع: سبع قراءات مقبولة. والزمخشري: فيه تسع قراءات! (( رطباً جنياً )) تمييز أو مفعول. روي كانت يابسة وكان الوقت شتاء فهزتها فجعل الله تعالى لها رأساً وخوصاً ورطباً. وتسليتها بذلك لما فيه من المعجزات الدالة على براءة ساحتها فإن مثلها لا يتصور لمن يرتكب الفواحش والمنبهة لمن رآها عليه على أن من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير رجل (البيضاوي ).

آية 25 ـ فكلي من الرطب واشربي من السري وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنك. (( وقري عيناً )) وقرئ: قري بالكسر وهو لغة نجد، واشتقاقه من القرار أو القر. ((فاما ترين )) فيه إدغام نون أن الشرطية في ما الزائدة. (( تريِنَّ )) حذفت منه لام الفعل وعينه وألقيت حركتها على الراء وكسرت ياء الضمير لالتقاء الساكنين. (( من البشر أحداً )) يسألك عن ولدك ( الجلالان ).

آية 26 ـ وفي مصحف عبد الله: (( صمتاً )) ؛ (( صوماً )) إمساكاً عن الكلام (الجلالان ) وكانوا لا يتكلمون في صيامهم ( البيضاوي ). يعلمها جبريل أن تدعي الصيام عن الكلام في شأن ولدها حتى يظهر الله أمره بمعجزة باهرة. وقد نهى محمد عن صوم الصمت لأنه نسخ في أمته.

ـ 148 ـ

27 فأَتتْ به قومها تحمِلُهُ. قالوا: يا مريم لقد جئتِ شيئاً فرياً !

28 يا أخت هارون ما كان أبوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وما كانت أمُّك بِغياً .

29 فأشارتْ إليه. قالوا : كيف تكلّم مَن كان في المهدِ صبياً ؟

30 قال : إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً .

ــــــــــــــــ

آية 37 ـ (( لقد جئت شيئاً فريا )) بديعاً مُنكراً ( البيضاوي ).

آية 28 ـ (( يا أخت هارون )) ما كان أبوك زانياً وما كانت أمك زانية فمن أين لك هذا الولد ؟ ( الجلالان ) قال البيضاوي: يعنون هارون النبي وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة. وقيل كانت من نسله. وكان بينهما ألف سنة (1300 أو 1500). وقيل هو رجل صالح أو طالح كان في زمانهم شبهوها به تهكماً. وعندي إنها كناية عن عفته وضرب المثل بها. (( وإنما قيل يا أخت هارون كما يقال: يا أَخا همدان أي يا واحداً منهم، ولم ترد أخوة النسب )) ( الزمخشري ).

آية 29 ـ (( فأشارت إليه )) إلى عيسى أن كلموه ليجيبكم.

آية 30 ـ (( قال )) انطقه الله تعالى به. وقيل أكمل الله تعالى عقله واستنبأه طفلاً. مثل قوله: (( تكلم الناس في المهد )) . (( آتاني الكتاب وجعلني )) التعبير بلفظ الماضي إما باعتبار ما سبق قضائه أو بجعل المحقق وقوعه كالواقع. (( عبد الله )) مرادف لما جاء في أعمال الرسل (( فتاك القدوس يسوع )) ( ف 4 ع 27 و 30 ).

ـ 149 ـ

31 وجعلني مباركاً أَين ما كنت وأوصاني بالصلوة والزكوة ما دمتُ حياً .

32 وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقياً !

33 والسلام عليّ يومَ وُلدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعث حياً )) .

في هذا النص الأول نلاحظ تعدّد المعجزات التي تظهر براءة مريم وبتوليتها في أمومتها. وتلك المعجزات ثلاثة أنواع: معجزة الحبل، والحمل السريع، والولادة الغريبة ((نبذته كما حملته )) . ومعجزة الأكل من نخلة يابسة والشرب من جدول ناشف. ومعجزة نطق الطفل من مهده. هذه المعجزات سلّت مريم وبرأتها أمام الناس. وفيها إفحام لأعداء مريم الذين يتهمونها بالزنى وهم يهود زمانها.

ــــــــــــــــ

آية 31 ـ (( وجعلني مباركاً )) نفاعاً معلماً للخير. (( وأوصاني بالصلوة والزكوة )) زكاة المال أو تطهير النفس على الرذائل. (( ما دمت حيّاً )) تعبير يقيد حتماً أنه سيموت لأن الوصية بالصلاة والزكاة لا لزوم لها بعد الموت.

آية 32 ـ (( براً بوالدتي )) عطف على مباركاً. وقرئ (( بر )) بالكسر حملاً على الصلوة. (( ولم يجعلني جباراً شقياً )) متعاظماً عاصياً لربه.

آية 33 ـ (( والسلام علي )) التعريف للعهد والأظهر أنه للجنس. والتعريض باللعن على أعدائه. قال الزمخشري: والمعنى، ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إليّ ... سلّم الله عليه في هذه الأحوال لأنها أوحش المواطن )) . وفي هذا السلام نبوّة عن موت عيسى وبعثه، ويؤيد تلك النبوّة المستقبلةَ معجزةُ من المهد وهي حاضرة.

ـ 150 ـ

النص الثاني: سورة الأنبياء 91

يذكر الأنبياء جميعاً من موسى إلى يوحنا بن زكريا. ويختم ذكر تلك الأمة المؤمنة من الأنبياء والصالحين بمسك الختام :

91 والتي أحصنت فرْجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين.

القرآن متمسك تمسكاً شديداً بطهارة مريم وعفافها وبتوليتها. ويرى في أمومتها مقرونة بالبتولية (( إذ وَلدتْه من غير زوج )) معجزة لا مثيل لها تدهش

ــــــــــــــــ

أنبياء 91 ـ قال الجلالان: (( والتي أحصنت فرجها )) حفظته من أن يُنال (( فنفخنا فيها من روحنا )) أي جبريل حيث نفخ في جيب درعها فحملت بعيسى. (( آية للعالمين )) الإنس والجن والملائكة حيث ولدته من غير زوج.

قال البيضاوي: (( والتي أحصنت فرجها )) من الحلال والحرام، يعني مريم. (( فنفخنا فيها )) عيسى أي أَحييناه في جوفها. وقيل فعلنا النفخ فيها. (( من روحنا )) : من الروح الذي هو بأمرنا وحده أو من جهة روحنا جبريل. (( وجعلناها وابنها )) أي قصتهما أو حالهما ولذلك وحّد قوله (( آية للعالمين )) فإن من تأمل حالهما تحقق كمال قدرة الصانع تعالى.

بين البيضاوي والجلالين اختلاف على كيفية الحمل. فبينما يجعلها الجلالان بنفخة من الملاك جبريل، يفضل أن يراها البيضاوي خلقاً مباشراً بنفخ الله عيسى في مريم، روحاً منه: (( أحييناه في جوفها )) .

ـ 151 ـ

العالمين (( من الانس والجن والملائكة )) . قال الرازي (( ولولا أنه ظهر عليها من الخوارق، ألم يصح ذلك الوصف )) .

في سورة مريم لا يذكر كيف حملت بمعجزة، أما هنا فيروي لنا كيفية هذه المعجزة: ((فنفخنا فيها من روحنا )) أَي نفخ جبريل في جيب درعها فحملت بعيسى؛ فالواسطة المعجزة كانت نفخة الملاك. غير أن البيضاوي مع الزمخشري يفضلان الخلق مباشرة (( أحييناه في جوفها )). وتفسيرهما ينسجم أكثر مع آل عمران حيث الحبل يجري بخلق مباشر دون واسطة، ومع آية النساء حيث نقرأ أن (( كلمة الله وروح الله )) يُلقى مباشرة إلى مريم (170).1

وإلى ذلك فإن القرآن يربط بين طهارة مريم وأمومتها المعجزة، كأن الأمومة مع البتولية مكافأة لها على حصانتها وطهارتها وعفافها.

 

ـــــــــــــــــــ

(1) وعندي إن التعبير (( من روحنا )) يحتمل معنى الفاعل والمفعول: النافخ والمنفوخ. إذا أخذناه بمعنى الفاعل يكون الروح هو النافخ في مريم لتحمل بمعجزة. وإذا أخذناه بمعنى المفعول يكون الروح هو المفعول أي المنفوخ في مريم . وهذا هو الأفضل لأنه ينسجم مع تعليم سورة مريم وآل عمران على خلق المسيح في مريم دون واسطة معجزة، ولأن آية الأنبياء تعبير آخر لآية النساء : (( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) فالملقى إلى مريم كلمة الله وروح الله . قال أحدهم: (( نزل نفخ الروح في عيسى لكونه في جوف مريم فنزلت نفخ الروح في مريم، فعبّر بما يفهم ظاهر هذا )) .

ـ 152 ـ

النص الثالث: سورة المؤمنون 51

يختم بها ذكر الأنبياء من نوح إلى ابن مريم على السياق نفسه:

51 وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى رَبْوةٍ ذات قرارٍ ومعين.

يرى القرآن في ابن مريم وأمه آية واحدة لا تنفصل. فكلما أتى على ذكرها تبدّت له معجزتهما الباهرة التي لا تدانيها حال أحد من الناس حتى الأنبياء. فإن هذه الآية تأتي دائماً مسك الختام في سيرة الأنبياء السالفين الصالحين. ويزيدنا بياناً عن حياة مريم وابنها، بعد ميلاد المسيح، كون الله قد آواهما إلى جنة على رابية فيها زروع وثمار ومياه يستريح الإنسان في السكنى فيها ولكن لا نعلم أين كانت تلك الربوة.

ــــــــــــــــ

آية 51 ـ قال الجلالان: (( وجعلنا عيسى وأمه آية )) ؛ لم يقل آيتين لأن الآية فيهما واحدة: ولادته من غير زوج. (( وآويناهما إلى ربوة )) مكان مرتفع وهو البيت المقدس أو دمشق أو فلسطين: أقوال ! (( ذات قرار )) أي مستوية يستقر عليها ساكنوها. (( ومعين )) ماءٌ جارٍ ظاهرٌ تراه العيون.

قال البيضاوي: (( وجعلنا ابن مريم وأمه آية )) بولادتها إياه من غير مسيس فالآية أمر واحد مضاف إليهما أو جعلنا ابن مريم آية بأن يتكلم في المهد وظهر منه معجزات أُخر، وأمه آية بأن ولدت من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. (( ربوة )) أرض بيت المقدس فإنها مرتفعة أو دمشق أو رملة فلسطين أو مصر فإن قراها على الربى. (( ذات قرار )) . أي مستقَر من أرض منبسطة. وقيل ذات ثمار وزروع فإن ساكنيها يستقرون فيها لاجلها. ((ومعين)) ماء معين ظاهر جار. فالربوة جنة من ثمار وزروع ومياه.

ـ 153 ـ

النص الرابع آل عمران: 33 – 47

في هذا النص الخبر المفصل عن سيرة مريم: عن ميلادها، وعيشتها في الهيكل، وولادتها يسوع.

33 إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين.

34 ذريةً بعضها من بعض والله سميع عليم.

1ً الحبل بلا دنس:

35 إذ قال امرأة عمران : ربِّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم.

ــــــــــــــــ

آية 33 ـ (( إن الله اصفطى ... )) اختارهم بجعل الأنبياء منهم. فمريم بنت عمران وأم المسيح من الذرية المصطفاة على العالمين. وهذا يظهر شرف نسبها وحسبها الذي لا مثيل له في العالمين، وعظمة ابنها.

قال البيضاوي: (( إن الله اصطفاهم بالرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية، وبيّن أنها الجالبة لمحبة الله . وبه استدل على فضلهم على الملائكة. آل عمران: موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر بن قاهن بن لاوي بن يعقوب. وعيسى وأمه مريم بنت عمران بن ماثان ... وكان بين العمرانين ألف وثمانماية سنة. والحديث في السورة عن آل عمران أبي مريم لا أبي موسى )) .

آية 35 ـ قال الثعلبي في قصص الأنبياء: (( قال المفسرون هي حنة بنت فاقوز جدة عيسى عليه السلام. وعمران كما قال ابن عباس هو وعمران بن ماثان

ـ 154 ـ

36 فلما وضعتها قالت : ربّ إني وضعتها أنثى، والله عليم بما وضعتْ، وليس الذكر كالأنثى. وإني سميتها مريم. وإني أُعيذُها بك وذريَّتها من الشيطان الرجيم.

ــــــــــــــــ

وليس بعمران أبي موسى إذ بينهما ألف وثمانماية سنة. وكانت القصة في ذلك أن زكريا يوحنا وعمران بن ماثان كانا متزوجين بأختين إحداهما عند زكريا وهي إيشاع ( اليصابات ) بنت فاقوز أم يحيى وكانت الأخرى عند عمران وهي حنة بنت فاقوز أم مريم )) .

والبيضاوي يسميها حنة بنت فاقوذا. ويقول: (( وكانت لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهارون فظن أنه المراد )) .

وينقل البيضاوي لنا عن ( إنجيل الطفولة ) أنها كانت عاقراً عجوزاً فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يطعم فرخه فحنت إلى الولد وتمنته وقالت: اللهم إن لك علي نذراً أن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من خدمه، فحملت بمريم. (( وهلك عمران وهي حامل )) (الجلالان) كذلك الزمخشري.

(( إني نذرت كل ما في بطني محرراً )) عتيقاً خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس (الجلالان) أو مخلصاً لعبادة (البيضاوي). والمحرر المنذور لخدمة الهيكل، يبقى فيه حتى يبلغ الحلم، فإذا بلغ خُيّر بين أن يقيم وبين أن يذهب حيث يشاء، وهذه هي سدانة الهيكل.

آية 36 ـ (( قالت رب إني وضعتها أنثى )) قالته تحسراً وتحزناً إلى ربها لأنها كانت ترجو أن تلد ذكراً ولذلك نذرت تحريره (البيضاوي). (( والله أعلم بما وضعت )) . وفي قراءة: وضعتُ، بالضم على لسانها، تسلية لنفسها أي: ولعل

ـ 155 ـ

37 فتقبَّلها ربّها بقبول حسن. وأََنبتها نباتاً حَسناً. وكفَّلها زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً ،

ــــــــــــــــ

لله فيه سراً، أو الأنثى كان خيراً. (( وليس الذكر (الذي طلبت) كالأنثى )) (التي وُهبت) في صلاحها لخدمة البيت المقدس وهي لا تصلح لها لضعفها (الجلالان) واللام للعهد أي إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب (الزمخشري).

(( وإني سميتها مريم )) إنما ذكرت ذلك لربها تقرباً إليه وطلباً لأن يعصمها ويصلحها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها فإن مريم في لغتهم بمعنى العابدة (البيضاوي والرازي).

(( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم )) أجيرها بحفظك وأمنعها وأصونها. وقد رأى الحديث في هذه الآية عصمة مريم من الخطيئة في ولادتها. قال البيضاوي: (( وعن النبي: ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مسه إلا مريم وابنها )) . ومعناه أن الشيطان يطمع في أغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله تعالى عصمهما ببركة الاستعاذة (البيضاوي والزمخشري). وجاء في (الجلالين): (( في الحديث: ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها. رواه الشيخان )). كذلك الزمخشري والرازي. أَليس في الآية والحديث صدى لعقيدة النصارى بعصمة مريم من الخطيئة الأصلية ؟

آية 37 ـ (( فتقبلها ربها )) فرضي بها في النذر مكان الذكر (البيضاوي)

(( بقبول حسن )) بوجه حسن يقبل به النذائر. أو تسلمها عقيب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسدانة فيكون تقبل بمعنى استقبل. روي أن حنة لما ولدتها لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم (البيضاوي) والزمخشري: (( فأخذها في أول أمرها حين ولدت بقبول حسن )) .

ـ 156 ـ

قال: يا مريم أنَّى لكِ هذا قالت هو من عند الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب .

ــــــــــــــــ

وقال الرازي: ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن وجوهاً (الأول) أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مسّ الشيطان. (الثاني) تقبلها في الهيكل بمعجزة الأقلام. (الثالث) تقبلها في الحياة بالمعجزات؛ وعن الحسن: إن مريم تكلمت في صباها كما تكلم المسيح، ولم تلتقم ثدياً قط، وإن رزقها كان يأتيها من الجنة. (الرابع) قبلها وهي أنثى لا تصلح للخدمة في الهيكل.

(( وأنبتها نباتاً حسناً )) أي سوّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان. وهذا هو كمال الأخلاق (الثعلبي)؛ مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها (البيضاوي والزمخشري)؛ وعن الجلالين: أنشأها بخلق حسن؛ فكانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام. وقال الرازي: (( منهم مَن صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا. ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين. أما الأول فقالوا المعنى إنها كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام. وأما في الدين فلأنها نبتت في الصلاح والسداد والعفة والطاعة ... وعن الحسن: إنها كانت عاقلة في حال الصغر فإن ذلك كان من كراماتها )) .

(( وكفلها زكريا )) زوج خالتها اليشاع. سلمه إياها ليقوم بأمرها ويعولها (الثعلبي). قال زكريا للأحبار أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقالوا: لا حتى نقترع. فانطلقوا وهم تسعة وعشرون إلى نهر الأردن وأَلقوا أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها، فثبت قلم زكريا. فأخذها وبنى لها غرفة في المسجد بسلم لا يصعد إليها غيره وفيه قراءات: زكريا بالقصر وزكرياء بالمد. وكفّلها بالتشديد وكفِلها بالتخفيف (الرازي). ثم اختلفوا متى كانت هذه الكفالة هل حالاً بعد ذلك النبات الحسن أو بعد سن الإرضاع والطفولية (الرازي).

ـ 157 ـ

2ً عزلة مريم في الهيكل :

42 وإذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله اصطفاكِ وطهَّـرَك واصطفاكِ على نساء العالمين.

ــــــــــــــــ

(( كلما دخل عليها المحراب )) الغرفة، وهي أشرف المجالس (الجلالان) ومقدّمها سمي به لأنه محل محاربة الشيطان كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس. روي أنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب (البيضاوي). والمحراب من مكراب الحبشية أي الهيكل.

(( وجد عندها رزقاً )) أي ليس منه بل (( خارقاً للعادة)) . وقيل أيضاً وجد عندها فاكهة في غير أوانها. قال الجلالان: (( يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف )) . وقال محسن: يجد عندها رزقها وكان يأتيها مـن الجنة. (( قال يا مريم أني لك هذا )) الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك ؟ جعل ذلك معجزة لزكريا.

(( قالت هو من عند الله )) قيل تكلمت صغيرة كعيسى عليه السلام ولم ترضع ثدياً قط وكان رزقها ينزل عليها من الجنة (البيضاوي والجلالان والثعلبي ومحسن والزمخشري).

(( إن الله يرزق من يشاء بغير حساب )) يحتمل أن يكون من كلامها وأن يكون من كلام الله. بغير حساب بغير تقدير لكثرته أو بغير استحاق تفضلاً به (البيضاوي) رزقاً واسعاً بلا تبعة (الجلالان).

آية 42 ـ (( يا مريم )) : روي أن الملائكة كلموها شفاهاً (الزمخشري) كلموها شفاهاً كرامة لها (البيضاوي) ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها (الرازي). (( إن الله طهَّرك )) اختاركِ وطهّرك من مسيس الرجال (الجلالان) وعمّا يُستقذَر من النساء (البيضاوي) ومما يستقذر من الأفعال ومما قرفك به اليهود (الزمخشري) وأضاف الرازي: طهرها عن الكفر والمعصية ومن الأفعال الذميمة والعادات

ـ 158 ـ

43 يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين

ــــــــــــــــ

القبيحة. (( إن الله اصطفاكِ )) قال الرازي: الاصطفاء الأول ما حصل لها من الأمور الحسنة في أول عمرها، والاصطفاء الثاني ما حصل لها في آخر عمرها. (( اصطفاك أولاً حين تقبلك من أمك وربّاك واختصك بالكرامة السنيّة )) (الزمخشري) (( الاصطفاء الأول تقبّلها من أمها ولم تقبل قبلها أنثى، وتفريغها للعبادة، واغناؤها برزق الجنة عن الكسب )) (البيضاوي)؛ أما ((النوع الأول من الاصطفاء فهو أمور: 1ً إنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى من الإناث؛ 2ً قال الحسن : إن أمها لما وضعتـْها ما غذَّتها طرفة عين بل ألقتـْها إلى زكريا وكان رزقها يأتيها من الجنة؛ 3ً إنه تعالى فرغها لعبادته وخصَّها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة؛ 4ً إنه كفاها أمر معيشتها فكان يأتيها رزقها من عند الله ؛ 5ً إنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاهاً ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها.

(( واصطفاك على نساء العالمين )) أي أهل زمانها (الجلالان). واصطفاكِ آخراً على نساء العالمين بأن وهب لكِ عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء (الزمخشري). والاصطفاء الثاني 1) هدايتُها، 2) إرسال الملائكة إليها، 3) تخصيصها بالكرامات السنية كالولد من غير أب 4) تبرئتها مما قذفته اليهود بإنطاق الطفل، 5) جعلها وابنها آية للعالمين (البيضاوي). وأضاف الرازي: (( رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (( حسبك من نساء العالمين أربع مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة عليهن السلام. هذا الحديث دَلَّ على أن هؤلاء الأربع أَفضل من سائر النساء . و هذه الآية دلّت على أن مريم عليها السلام أفضل من الكل. وقول مَن قال: المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها فهذا ترك الظاهر )) !

آية 43 ـ (( يا مريم اقنتي )) القنوت إدامة الطاعة، (( واسجدي )) السجود الصلاة؛ ((واركعي )) الركوع الخشوع.

ـ 159 ـ

44 ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنتَ لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنتَ لديهم إذ يختصمون.

3ً البشارة :

45 إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشركِ بكلمة منه

ــــــــــــــــ

آية 44 ـ (( إذ يلقون أقلامهم )) كيفية كفالة زكريا لمريم لم تنزل في الإنجيل وجاءت في القرآن فسماها وحياً جديداً. أقلامهم أقداحهم (سهامهم) للاقتراع وقيل اقترعوا بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة تبركاً. جاءت الآية تفسيراً لقوله (( وكفلها زكريا )) لما سئل عنه، وتفسيراً للحادث كله لما سئل عنه أيضاً، فقال إنه من أنباء الغيب يوحى إليه. ونعلم نحن أن القرآن والتفاسير نقلت عن (( إنجيل الحداثة )) المنحول الذي كان شائعاً في زمان محمد بين العرب.

آية 45 ـ تعدّد ألقاب المسيح وصفتين. وتضيف الآية 46 صفتين أخريين :

1 ـ (( بكلمة منه )) لِمَ ذُكّر ضمير الكلمة ؟ ـ لأن المسمّى بها مذكّر (الزمخشري). أي بعيسى سمي بذلك لأنه وجد يأمره تعالى دون أَب فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر (البيضاوي)، أي بعيسى إنه روح الله وسمي كلمة لأنه خلق بكلمة (( كن )) (آية 47) (الجلالان). وعندنا إن اسم (( كلمة )) يحتمل معنى إلهياً لأن (( هذا الكلمة )) اسم شخص هو المسيح لا اسم أمر، وهذا الشخص صادر (( منه )) تعالى أزليّاً غير مخلوق، وهو (( روح الله )) كما يقول الجلالان مع القرآن؛ وروح الله لا يكون مجرد أمر. وثلاثة أسماء لشخص المسيح، عيسى، ابن مريم )) تُبدل من (( كلمة الله )) وأسماء الأشخاص لا تُبدل من أمر معنوي. ولكن بما أن المسلمين لا يؤمنون بألوهية عيسى فيضطرون

ـ 160 ـ

اسمُه المسيحُ عيسى ابنُ مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين.

ــــــــــــــــ

أن يفسّروا ذلك اللقب الكبير باشتقاقه من الأمر (( كن )) ... ومما يدل على أن (( الكلمة )) اسم شخص لا اسم أمر كما يريدون ( أولاً ) ألقابه ( ثانياً ) توابعه: منه، اسمه، وجيهاً ومن المقربين وكلها تعود إلى مفرد مذكر (تفسير العلامة أبي العود).

2 ـ (( اسمه المسيح )) قال البيضاوي: المسيح لقبه وهو من الألقاب المشرّفة كالصدّيق. وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك. سمّي كذلك لأنه مسح بالبركة ـ أو بما طهره من الذنوب ـ أو مسح الأرض ولم يقم في موضع ـ أو مسحه جبريل. ـ وعيسى معرب إيشوع. واشتقاقهما من المسح والعيس تكلّف لا طائل تحته: والزمخشري: (( ومشتقّهما من المسح والعيس كالراقم في الماء )) .

قال الرازي: (( المسيح هل هو اسم مشتق أو موضوع ؟ أصله بالعبرانية مشيحا فعربته العرب وغيروا لفظه. وعيسى أصله ايشوع وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق. والأكثرون أنه مشتق موضوع ـ 1) قال ابن عباس إنما سمي مسيحاً لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة إلا بَرِئ من مرضه ـ 2) قال أحمد بن يحيى: لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة ـ 3 ) لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله تعالى ـ 4) لأنه مسح من الأوزار والآثام ـ 5) لأنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يُمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم ـ 6) لأنه مسحه جبريل وقت ولادته ليكون له ذلك صونا عن مس الشيطان ـ 7) لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن )) . وقدم اللقب على الاسم ليفيد علو درجته. وذكّر الضمير في قوله (( اسمه )) عائداً إلى الكلمة وهي مؤنثة لأن المسمى بها مذكر.

ـ 161 ـ

46 ويُكلمُ الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين .

ــــــــــــــــ

3 ـ (( واسمه عيسى )) معرّب ايشوع.

4 ـ (( ابن مريم )) صفة تميّزت بتميّز الأسماء ونظمت في سلكها. وإنما قيل: (( ابن مريم )) والخطاب لها، تنبيهاً على أنه يولد من غير أب إذ لا تنسب الأولاد إلى الأم إلا إذا فُقد الأب (بالإجماع) . ويحتمل أن يراد: ان الذي يعرف به ويتميّز عن غيره هذه الثلاثة، فإن الاسم علامة المسمّى والمميّز له ممّن سواه. ـ (( وجيهاً في الدنيا والآخرة )) أول صفة، حال مقدّرة من كلمة؛ وتذكيرها (( وجيهاً )) للمعنى؛ والوجيه ذو جاه. والوجاهة في الدنيا النبوّة، وفي الآخرة الشفاعة (البيضاوي، الجلالان)؛ الوجاهة في الدنيا النبوّة والتقدم على الناس، وفي الآخرة الشفاعة وعلوّ الدرجة في الجنة (الزمخشري)؛ وعن الرازي: الوجاهة في الدنيا هي النبوّة أو استجابة دعائه أو براءته من العيوب، وفي الآخرة بالشفاعة أو علوّ درجته ومنزلته أو كثرة ثوابه. ـ (( ومن المقرّبين )) من الله : صفة ثانية، وقيل إشارة إلى علو درجته وزاد الرازي: جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم.

آية 46 ـ (( ويكلم الناس في المهد وكهلاً )) صفة ثالثة، أي يكلمهم حال كونه طفلاً كما يكلمهم كهلاً، كلامَ الأنبياء من غير تفاوت. وهذا لم يحدث لنبيّ غيره فكان صفة مميّزة له. وقال أبو مسلم: (( معناه أنه يكلم حال كونه في المهد وحال كونه كهلاً على حدّ واحد وصفة واحدة، وكذلك لا شك إنه غاية في المعجزة )) (عن الرازي) ـ (( ومن الصالحين )) صفة رابعة، (( ولا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً، ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين، فلما ذكر بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات )) (الرازي)، فتمت ألقاب المبشّر به، مولود مريم، الأربعة، وصفاته الأربع المميّزة له.

ـ 162 ـ

47 قالت : ربّ أَنَّى يكون لي ولد ولم يمسني بشر؟

قال : كذلك ! الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن، فيكون!

( ومن بعد يأخذ القرآن في ذكر نبوة المسيح ورسالته ومعجزاته 48 – 56 ).

 

ــــــــــــــــ

آية 47 ـ (( أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر )) تعجّب أو استبعاد عادي، أو استفهام عن أنه يكون بتزوج أو غيره. أنّى أي كيف يكون أو من أين يكون. (( ولم يمسسنى بشر )) جملة حالية منافية للولادة أي والحال أني على حال تتنافى مع الولادة.

(( قال: كذلك )) دون أن يمسسك بشر. وكيف ؟ (( والله يخلق ما يشاء )) . وكيف يخلقه؟ (( إذا قضى أمراً إنما يقول له كن فيكون )) إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجاً بأسباب ومواد يقدر أن يخلقها دفعةً من غير ذلك (البيضاوي وأبو العود).

الآية 47 من آل عمران تنقض تفسيرهم آية (( الأنبياء )) و (( المؤمنون )) عن خلق عيسى بنفخة من جبريل.

ـ 163 ـ

النص الخامس: سورة النساء 157 و 170

في المقطع الأول يحمل القرآن على اليهود حملة شعواء يعدّد فيها مظالمهم لأنهم أنكروا رسالته وسألوه كتاباً من السماء: (( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء ! ـ 1ً فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا: أرنا الله جهرة ! فأخذتهم الصاعقة بظلمهم. 2ً ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البيّنات، فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً. 3ً ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم: أدخلوا الباب سجّداً، وقلنا لهم: لا تعْدُوا في السبت، وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً ! فبما نقضِهم1 ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم: ((قلوبنا غلْفٌ )) ! بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً.

تلك أنواع ثلاثة من كفرهم، وأما النوع الرابع الأخير والعظيم فهو (( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً ! وقولهم: إن قتلنا المسيح )) ( نساء 157 ).

ذلك الكفر والقول والبهتان العظيم هو نسبتها إلى الزنى ( البيضاوي والجلالان ).

وفي المقطع الثاني، بعد حملته على اليهود يلتفت إلى النصارى ليحذرهم من الغلو في إكرام المسيح. أجل إنه (( كلمة الله )) و (( روح منه )) ولكنه ليس (( ثالث ثلاثة )) :

ـــــــــــــــــــــــ

(1) أي فبنقضهم ، وما مزيدة للتوكيد ( الزمخشري ) : والباء سببية .

ـ 164 ـ

170 (( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق، إنما المسيح عيسى ابن مريم، رسولُ الله وكلمتهُ ـ ألقاها إلى مريم ـ وروح منه. فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا : ثلاثة ! ))

إنه يصرّح بمن تحمل مريم، بشخصية مولودها: هو مسيح الله ، وكلمة الله ، وروح الله . تحمل به مباشرةً من قِبَل الله ، دون واسطة ولو مُعْجِزة : ألقى الله كلمته إلى مريم مباشرةً.

في هذه الآية يحمل القرآن أيضاً، لا على التثليث المسيحي كما يُظَنّ، بل على بدعة نصرانية ظهرت قبل القرآن في الأجيال الأولى باسم المرقيونية، وفي القرنين الخامس والسادس باسم (( المثلِّثة أو المثلّثين )) الذين جعلوا التثليث المسيحي المبنى على وحدة الجوهر الإلهي، ثلاثة آلهة، فعددوا الجوهر الإلهي الفرد. فهل ظن القرآن أن في تلك البدعة الضالة يجتمع تعليم المسيحية الرسمي1 ؟

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) راجع تاريخ مختصر الدول لابن العبري، صفحة 122، بيروت، 1890 ـ وتعليقنا على سورة المائدة.

ـ 165 ـ

النص السادس: سورة التحريم 12

في آخر سورة التحريم يضرب القرآن لنساء النبي والمسلمين مثَل النساء الفاسقات ليهربن منه، ومثل النساء المؤمنات ليقتدين به. ويقدّم لهنَّ في الختام وفي مريم خيرَ مثال:

12 (( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرَجها فنفخنا فيه من روحنا. وصدّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ))

وهناك قراءة أخرى أبلغ:

(( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرَجها فنفخنا فيها من روحنا. وصدَّقتْ بكلمة ربها وكتابه وكانت من القانتين ))

قال البيضاوي: (( التي أحصنتْ فرَجها ( من الرجال ) فنفخنا فيه ( في فرجها ) وقُرِئ (( فيها )) أي في مريم. (( من روحنا )) من روح خلقناهُ بلا توسّط أصل. (( بكلمات ربها وكتبه )) وقُرِئ (( بكلمة الله وكتابه )) أي بعيسى والإنجيل.

قال الجلالان: نفخ جبريل في جيب درعها بخلق الله فعله الواصل إلى فرجها فحملت بعيسى.

(( من روحنا )) تتحمل معنى الفاعل كما ارتأى الجلالان أي كان جبريل الواسطة الإلهية المعجزة في حمل المسيح. وتتحمل معنى المفعول كما فهم البيضاوي: أَي

ـ 166 ـ

حملت مريم بروح الله مباشرة. ورأي البيضاوي ينسجم أكثر مع تعليم السور المدنية على الحبل المباشر المعجز دون وساطة نفخة جبريل.

وهكذا نجد تطوراً ملموساً في تعليم القرآن عن كيفية حبل مريم بالمسيح بين السور المكية حيث يظهر جبريل وكأنه الواسطة المعجزة للحَمْل بنفخته الخلاَّقة ( مريم 18، مؤمنون 51، أنبياء 91 ) وبين السور المدنية حيث تمت المعجزة مباشرة، دون واسطة على الإطلاق: (( الله يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن، فيكون )) ( آلِ عمران 47 ) ، (( إنما المسيح عيسى ابن مريم، رسولُ الله وكلمتُه ـ ألقاها إلى مريم ـ وروح منه )) ( نساء 170 ) فالمُلقى إلى مريم مباشرة من الله هو كلمةُ الله وروح الله: (( روح منه )) ( نساء 170 ) ((فنفخنا فيها من روحنا )) ( تحريم 12 ) .

 

ـ 167 ـ

النص السابع : سورة المائدة 76 ـ 80 و 113 ـ 119

في هذه السورة يرد القرآن على بدعة مؤلهي مريم وكانوا يُدْعون (( مريميين )) . ويسميهم ابيفانس في ( كتاب الهرطقات ) (( كَلـّيرِيّين )) لأنهم كانوا يقدمون للعذراء قرابينَ أقراصاً من الرقاق اسمُها (( كلـّيرس )) . فيظهر أن تلك الهرطقة قد وصلت إلى الحجاز وأخذ بها بعض نساء العرب الجاهلات فانبرى القرآن لدحضها.

75 لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم1

76 لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ...

78 ما المسيح ابن مريم إلا رسولٌ قد خلتْ من قبله الرسل. وأمه صدّيقة2 . كانا يأكلان الطعام. انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفَكون !

79 قل : أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضُرّاً ولا نفعاً والله هو السميع العليم.

80 قل : يا أَهل الكتاب، لا تغلوا في دينكم غير الحق

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مائدة 75 و 76 فيهما مقالة فئتين من النصارى لا مقالة فئة واحدة فمنهم من قال : الله هو المسيح؛ ومنهم من قال : الله ثالث ثلاثة !

(2) مائدة 78 (( وأمه صديقة )) لأنه صدقت بكلمات الله وابنها أَو لأنها صدقت بكلمة جبريل في البشارة أو لأنها بلغت الكمال في العبادة (عن الرازي).

ـ 168 ـ

ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل1 .

ينكر القرآن تأليه عيسى وتأليه مريم بحجة أنهما ظهرا بمظهر البشر، وما أدلَّ على بشرية شخص مثل أكل الطعام ! فساقه دليلاً على ضلالة تأليههما. كما أعطاه المسيح في الإنجيل برهاناً على صحة قيامته من القبر. ويقر بأن ضلال تأليه مريم ليس من صلب النصرانية بل هو من أَهواء قوم قد ضلوا من قبلُ عن سواء السبيل: فليس الله ثالث ثلاثة، وليس المسيح إلهاً مع الله، وليست مريم إلاهة من (( الثلاثة )) . فهذا التكفير لمن قال من النصارى (( الله هو المسيح )) (75) (( الله ثالث ثلاثة )) (76) لا يشمل النصارى كلهم بل ((الذين كفروا منهم )) (76) لأنه بعد أن يلعن اليهود (81) يبارك النصارى ويمدحهم على صداقتهم (85) وإيمانهم (86) ويعدهم بالجنة (88).

ومن سورة المائدة مشهد لمحاسبة الرسل يومَ القيامة:

112 يوم يجمع الله الرسل

113 إذ قال الله : يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أَيّدتك بروح القدس ...

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال البيضاوي: بين أولاً أقصى ما لهما من الكمال ودل على أنه لا يوجب لهما ألوهية لأن كثيراً من الناس يشاركهما من مثله. ثم نبه على نقصهما وذكر ما ينافي الربوبية ويقتضي أن يكونا من عداد المركبات الكائنة الفاسدة. ثم عجب ممن يدعي لهما الربوبية مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة.

وأي شيء أدل على البشرية من أكل الطعام وما ينشأ عنه ! وهكذا ترى أنهم لا يفقهون من معنى التجسد شيئاً : فالتجسد يترك الله المتجسد إلهاً كاملاً وإنساناً كاملاً. قال الإنجيل: (( والكلمة صار جسداً وحل فينا )) . وقال القرآن: (( كلمته ألقاها إلى مريم )) . ـ والنسبة إلى إله يسميها البيضاوي (( ألوهية )) والزمخشري (( لاهوتية )) والرازي والغزالي (( إلهية )) .

ـ 169 ـ

ويعدّد مفاعيل هذا التأييد: أنواع المعجزات

119 وإذ قال الله : يا عيسى ابن مريم أَأَنت قلتَ للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟! ـ قال : سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق ...

120 ما قلتُ لهم إلا ما أمرتني به أَن اعبدوا الله ربي وربكم ... قال الله : هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم.

في هذا المقطع يعدد الله للمسيح أنواع الميزات والمعجزات التي أسبغها عليه وعلى والدته، والخوارق التي أجراها بواسطة تأييد الروح القدس له. فيستدرجه بذلك إلى السؤال العظيم عن البدعة الكبرى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ فينكر المسيح ذلك أشد الإنكار ويوافق الله على صدق اعترافه.

فيؤخذ من هذين المقطعين من سورة المائدة إن القرآن يجعل الثالوث المسيحي مؤلفاً من الله وعيسى ومريم! .. فهل جعل مسيحيو العرب الجهال البعيدون من مراكز النصرانية الرسمية الثالوث الأقدس مركباً من الله والمسيح ومريم حتى ثارت ثائرة القرآن عليهم فكذبهم على لسان عيسى نفسه بشهادته للتوحيد في يوم الدين ؟ أَم هل ظن أن تلك البدعة هي تعليمُ النصرانية الجامعة فنسبه إلى أهل الكتاب كلهم ؟ .. أهذا اختلاق أم بدعة مسيحية مفرطة دحضها بشدَّة ؟ .. يظهر من قوله (( لَيَمَسّنَ الذين كفروا منهم عذاب أليم )) (76) إنها مقالة بعضهم، وإنها بدعة مسيحية1 غالى فيها نصارى العرب البدائيون، فأنكر عليهم جعل المسيح إلهاً آخر مع الله، ومريم إلاهة أخرى مع الله : يكفيها إنها (( الصدّيقة المصطفاة )) .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) أي ليمسَّن الذين بقوا على الكفر منهم لأن كثيراً منهم تابوا ( الزمخشري ).

ـ 170 ـ

 

 

 

الجزء الثاني: تحليل النصوص

مريم العذراء آية للعالمين في اصطفائها

مريم العذراء آية للعالمين في ميلادها

مريم العذراء آية للعالمين في حداثتها

مريم العذراء آية للعالمين بمعجزة حبَلها البتولي بالمسيح

مريم العذراء آية للعالمين في ولادتها المسيح

مريم العذراء آية للعالمين مع ابنها في حداثته

مريم العذراء آية للعالمين في حياتها كلها وشخصيتها

أولاً: مريم العذراء آية للعالمين في اصطفائها

 

(( وجعلناها وابنها آيةً للعالمين ))

( أنبياء 91، مريم 21، آل عمران 47، مؤمنون 51)

 

إن القرآن يرى في مريم أم المسيح آية في اصطفائها، آية في ميلادها، آية في اختلائها في الهيكل، آية في ولادتها المسيح، آية في طهارتها وقداستها، آيةَ في شخصيتها.

إن اصطفاء مريم للمعجزة الكبرى، ولادة المسيح، يمتزج في اصطفاء المسيح لرسالته العظمى. فهي مع ابنها (( آية واحدة للعالمين )) ( أنبياء 91 ).

وقد فكر الله في هذا الاختيار منذ أول الخليقة: فاصطفى آباءَ وأجداد مريم والمسيح، من آدم إلى عمران، على العالمين: (( إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل عمران على العالمين )) (آل عمران 33 ) أي على الإنس والجن والملائكة ( البيضاوي ) . وعمران هذا هو زوج حنة أم مريم ، لا أبو موسى و هارون ومريم أختهما. وهذا يدل على شرف حسبها ونسبها وعلى عظمة ابنها الفريدة إذ وُلد من الذرية المصطفاة (( بالنبوة والرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية )) .

وكأن الله اصطفاهم جميعاً بسببها وسبب ابنها فجاءت هذه المقدمة لميلاد مريم (( إذ قالت امرأة عمران .. )) (35).

اصطفى الله مريم خاصة على نساء العالمين: (( وإذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله اصطفاك وطهّرك واصطفاكِ على نساء العالمين )) ( 42 آل عمران ). فما من امرأة بين الملائكة والبشر أشرف منها على ما نصّ به القرآن جازماً،

ـ 172 ـ

فلا أم موسى ولا أم غيره من الأنبياء والمرسلين إلا كنّ دونها كرامة ومنزلة. ذلك إنها بأمومتها للمسيح سـمت عليهن جميعاً فكانت مع ابنها آية الخلق: (( وجعلناها وابنها آية للعالمين )) .

ثانياً: مريم العذراء آية للعالمين في ميلادها

لقد حملتْ بها أمها حنة العجوز العاقر بمعجزة. قال البيضاوي في تفسيره: فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يُطعم فرخه فحنّت إلى الولد وتمنّتْه فقالت: اللهم إنّ لك عليّ نذراً أن رزقتـَني ولداً أن أتصدّق به على بيت المقدس فيكون من خدمه، فحملتْ بمريم: (( إذ قالت امرأة عمران: ربّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّراً: فتقَبـّلْ مني إنك أنت السميع العليم )) ( آل عمران 35 ).

لقد حُبِل بها أيضاً في طهارة كاملة تواكب اصطفاءَها (( إن الله اصطفاك وطهّركِ )) فالاصطفاء الفريد يلزمه ويلازمه طهارة فريدة.

ولكن، هل وصلت هذه الطهارة إلى عصمة مريم من كل خطيئة ؟

إنّ أمها حنة تستعيذ في حَمْلها وولادتها من الشيطان الرجيم: (( إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم )) ( آل عمران 36 ). ويقبل الله استعاذتها، فتحمل بها وتلدها بدون أن يكون للشيطان من سبيل إليها، فخُلِقت بدون خطيئة.

لا شك أن في هذا التعليم صدى لعقيدة النصارى بعصمة مريم العذراء من الخطيئة الأصلية ؟ بل رأى المفسرون فيه أكثر من صدى، رأوا تعليماً صريحاً. إذ ما عملُ الشيطان المستعاذ منه وتأثيره على المولود سوى مسّه بالخطيئة ؟ وأية خطيئة تولد مع المولود غير التي يسمّيها النصارى (( الخطيئة الأصلية )) الموروثة عن أصلنا آدم ؟

ـ 173 ـ

جاء في صحيح البخاري عن هذه الآية: (( حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أنّ النبي قال: (( ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها )) . فهو أوضح من هذه الشهادة وأصرح من هذا التفسير في ذكر خطيئة آدم المنقولة إلى ذريته وعلاقتها بالآدميين جميعاً باستثناء العذراء مريم وابنها يسوع المسيح ؟ ومعنى الآية الكامل إن الله عصم مريم ثم ابنها من بعدها من إرث خطيئة الجدّين الأوَّلين. ويشرح صحيح البخاري أيضاً عصمة مريم وابنها من الخطيئة بنقله عن قتادة: (( كل آدمي يطعن الشيطانُ بجنبه حين يولد إلا عيسى وأمه عليهما السلام: جُعل بينهما حجاب ولم ينفذ إليهما شيء منه )). يعبّر هنا عن الخطيئة الآدمية بطعنة الشيطان للمولود بجنبه وقد حال حجابٌ دون طعنة الشيطان لمريم وابنها.

ويرى الحديث والتفسير أن الولد يُخلق صارخاً من مسّ الشيطان له وطعنته في جنبه. قال البيضاوي: (( ومعناه أن الشيطان يطمع في أغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله تعالى عصمهما ببركة الاستعاذة )) .

وهكذا، فبينما يولد جميع الناس، حتى الأنبياء وأمهاتهم، في حالة تلك الخطيئة الأصلية المتحدّرة إلينا من أبينا الأول بمسّ الشيطان وطعنته

، يشهد القرآن والحديث والتفسير الصريح أنَّ الله تعالى عصم منها مريم العذراء وابنها يسوع المسيح.

فطهارة مريم في خَلْـقها كاملة أصلية طبيعية هي العصمة من كل أذى شيطاني، وهذا هو المعنى الكامل البليغ لهذه الآية: (( إن الله اصطفاكِ وطهّرك )) ! حقّاً إنه اصطفاء عجيب وطهر عجيب، صارت بهما مريم (( آية للعالمين )) .

ثالثاً: مريم العذراء آية للعالمين في طفولتها وحداثتها

(( وإني سمّيتُها مريم )) . يرى البيضاوي أن معناه في لغتهم العابدة. وتذكر

ـ 174 ـ

أمها حنة اسم ابنتها لله في صلاتها تقرّباً إليه تعالى وطلباً لأن يعصمها ويصلحَها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها.

(( وأنبتَها نباتاً حَسَناً )) بهذه الكلمة يوجز القرآن حياة مريم وفضائلها الخَلْقية والخُلْقية. قال الثعلبي: (( أي سوّى خلُقها من غير زيادة ولا نقصان )) وهذا هو الكمال بعينه. وقال البيضاوي: (( هذه الكلمة مجاز عن تربيتها بما يُصْلحها في جميع أحوالها )) .

ويذكرون أن من جملة طهارتها، تطهيرها عمّا يُستقذر من النساء ( البيضاوي ) ومن مسيس الرجال ( الجلالان ).

ونقلوا إن حنة لما ولدتها، وكان أبوها قد مات، لفّتها في خرقة وحملتها إلى الهيكل ووضعتها عند الأحبار وقالت: (( دونكم هذه النذيرة ! )) فتنافسوا فيها لأنها كانت ابنة إمامهم وصاحب قربانهم1 ( البيضاوي ).

(( فتقبّلَها ربها بقبول حسن )) ، استقبلها بوجه حسن. وكان لا يُقبل في الهيكل إلا الذكور، فرضي الله بها بَدَل الذكر لوفاء النذر.

وكَفِلَها زكريا على أثر معجزة الأقلام. وينقلون لنا قصة كفالته لها عن (( إنجيل الحداثة )) المنحول: قال زكريا للأحبار أنا أحق بها لأن خالتها اليشاع عندي. فقالوا: لا حتى نقترع. فانطلقوا وهم تسعة وعشرون إلى نهر الأردن وألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة على أن من ثبت قلمُه في الماء وصعد فهو أولى بها. فثبت قلم زكريا. فأخذها وبنى لها غرفة في المسجد، وجعل بابها في وسطها من فوق لا يصعد إليها غيره، وبسلّم، وسمّى الغرفة المحراب لأنه محل محاربة الشيطان كأنها وُضعت إليها غيره، وبسلّم، وسمّى الغرفة المحراب لأنه محل محاربة الشيطان كأنها وُضعت في أشرف موضع من الهيكل. وروي أيضاً أنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب ( عن البيضاوي ).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) لم يكن يواكيم من سبط لاوي !

ـ 175 ـ

أما حياة مريم في الهيكل فكانت ملأى بالمعجزات: (( كَفّلها زكريا )) بمعجزة حتى يسهر على إعالتها وحياتها؛ وغذَّاها الله بمعجزة أيضاً: (( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً ! قال يا مريم أنّى لكِ هذا ؟ قالت هو من عند الله يرزق من يشاء بغير حساب )) . ونقل الثعلبي عن محسن: يجد عندها قوتها وكان رزقها يأتيها من الجنة. وقيل وجد عندها فاكهة في غير أوانها. قال الجلالان: يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ! فيستغرب الأمر ويسألها: يا مريم أني لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك ؟ فتجيب ببساطة (( هو من عند الله )) ( آل عمران 37 ) .

وقد وجدوا في جوابها هذا معجزة أخرى إذ نطقت به قبل أوان النطق: (( تكلمت صغيرة كعيسى عليه السلام، ولم ترضع ثَدْياً قط وكان رزقها ينزل عليها من الجنة )) (البيضاوي ).

فمن هي هذه المخلوقة العجيبة التي تعيش منعزلة في غرفة في هيكل الرب حتى أن الله يهتمّ بقوتها فيرسله من السماء أو يخلقه لها بنوع غريب ؟ إنها أمُّ المسيح التي يستعد الملائكة لبشارتها به.

فتقضي حداثتها في هيكل الرب لا تفكّر إلا بعبادته تعالى قانتة له، ساجدةً كل يوم، راكعة مع الراكعين: (( يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين )) (47). إنها لحياة أقرب إلى عيشة السماء منها إلى عيشة الأرض.

فإنها كما عُصِمَتْ من الخطيئة في خَلقها، عُصِمَتْ منها في حياتها: (( تقبّلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً )) هذا كمال النفس وكمال الجسد. ونقل الثعلبي أيضاً: (( وذكروا لنا أيضاً أنهما ( مريم وابنها ) كانا لا يُصيبانِ من الذنوب كما يُصيب سائر بني آدم )) . فهذا الحديث الذي يفسّر الآية يعني أن الله عصمها من الخطيئة الفعلية كما عصمها من الخطيئة الأصلية. فنحن إذن نعبّر بكلام مسيحي عما يقولونه في أحاديثهم وتفاسيرهم.

ومن ثم فإن حياة العذراء مريم في كنف العصمة من الخطيئة على أنواعها

ـ 176 ـ

بل من كل غبار الشر، وفي كنف بيت الله تطوى على الصلاة والسجود وتعال من عند الله ، لحياة أقرب إلى حياة السماء منها إلى حياة الأرض؛ وبها ارتفعت مريم مع ابنها فوق سائر المخلوقات فكانا آية الدنيا: (( فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين )) .

رابعاً: مريم العذراء آية للعالمين في حبلها البتولي بالمسيح

يذكر لنا القرآن في موضعين وبإسهاب قصة بشارة الملاك لمريم العذراء بالمسيح: في سورة مريم وفي سورة آل عمران. والنصّان يكمّل بعضهما بعضاً. وفي أربعة مواضع أخرى يوجز الخبر بآيات ( أنبياء، مؤمنون، نساء، تحريم ).

يرينا مريم في عزلة عن الناس وعن أهلها، في مكان شرقيّ بيت المقدس والهيكل حيث تتربّى. ولم تكن تبارح الهيكل إلا عن ضرورة: (( واذكرْ في الكتاب مريم )) ـ أي في الإنجيل إذا كان هذا الأمر يعني الماضي، وأما إذا كان يحمل معنى الحاضر والمستقبل، فهو القرآن ـ أي اجعلْ واكتب في القرآن ذِكر مريم وخبرَها (( إذِ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. فاتخذت من دونهم حجاباً )). فالقرآن يشدّد كثيراً على عزلة العذراء في كل أطوار حياتها وفي كل مواطن سكناها.

وبينا هي في عزلتها يأتيها روح الله ، أي ملاكه، بهيئة بشر كامل الخَلْق: (( فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً )) .

ذُعرت مريم ورابها أمر هذا الشاب فاستعاذت بالرحمن منه، وإن تكن قد علمت أنه من الملائكة الصالحين، إذ إنها لم تكن تعهد غيرهم يظهرون لها ويأتونها بطعامها من الجنة. (( قالت: إني أعوذ بالرحمن منك ! إن كنت تقيا ... )) . قال: إنما أنا رسول ربك لِيَهَبَ أو لأهِبَ لك غلاماً زكياً ! والزكي هو الطاهر من الذنوب، النامي على الخير، المترّقي في سن إلى سن على

ـ 177 ـ

الصلاح. وتلاحظ أن مولود مريم طاهر قدوس بريء من الذنوب من قبل أن يُحبل به ! استعاذت بالله من الرؤيا فأجابها: لا تجزعي إنما أنا رسول ربك الذي استعذتِ به. أرسلني لأكون واسطة في هبته لكِ غلاماً. وقد عنَّ لبعض الجهال أن الملاك قام مقام الرجل في حَمْلها! ولكن نصوص القرآن جميعها تبعد هذه الفكرة السمجة، وهذا الكفر الشنيع ( نساء 157).

ثم سألتْ مريم الملاك: (( أنّى يكون لي غلام، ولم يمسني بشر؛ ولم أكُ بغيّا ؟ )) أي كيف يكون لي غلام ولم يقربني بشر، بالحلال أو بالحرام ؟ يؤكد القرآن، هنا وفي كل موضع جاء فيه ذكر ميلاد المسيح، بتولية مريم في حملها. هذه عقيدة راسخة ثابتة واضحة في القرآن: يعلنها في سورة مريم، والأنبياء، والمؤمنون، وآل عمران، والنساء.

فطمأن الملاكُ العذراء بشأن حَبلِها البتولي (( قال: كذلك ! أي الأمر كذلك بخَلْقِ غلام منكِ من غير أبٍ ( الجلالان ).

وخَلْق غلام منك من غير أب أمر هيّنٌ على الله: (( قال ربك: هو عليَّ هيّن ! )) لأن هذا الحبل البتولي سيكون آية للناس به يعرفون عظمة الابنِ وأمه، ويؤمنون برسالته؛ فهذا المولود رحمةٌ من الله: (( ولنجعله آية للناس، ورحمة منّا. وكان أمراً مقضيّاً: فحملته ! )) .

وفي سورة آل عمران يبيّنُ لنا مَن هو هذا المولود العظيم، وكيفيّة الحبل به.

يظهر هنا مع روح الله ملائكة آخرون، لأن الأمر الإلهي والرسالة الإلهية ذات شأن: (( إذ قالت الملائـكة: يا مريم إن الله يبشّـرُكِ بكلمة منه ـ اسمه المسيح ـ عيسى ـ ابن مريم ـ وجيهاً في الدنيا والآخرة ـ ومن المقرّبين ـ ويكلِّمُ الناس في المهدِ وكهلاً ـ ومن الصالحين )) . هذا هو الولد الموعود به: أربعة ألقاب تسمّيه، وأربعة أوصاف تعنيه. ابنك يا مريم هو كلمة من الله ! في معنى هذا اللقب يضطرب المفسرون المسلمون أيّما

ـ 178 ـ

اضطراب، ولا يجدون له مخرجاً مستساغاً لأنهم يريدون تجريده من المعنى الذي نزل به في الإنجيل وردّده القرآن. قال البيضاوي: سُمّي كذلك لأنه وُجد بأمره تعالى دون أبٍ فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر. وقال الجلالان: سُمي كلمة لأنه خُلق بكلمة (( كنْ )) . ولكن الملائكة والأنبياء والأولياء خلقوا جميعاً، وآدم وموسى ومحمد، خلقوا بأمر الله وبكلمة كُنْ، ومع ذلك لا يلقّب القرآن أحداً منهم بلقب (( كلمة الله )) وسياق الآية 45 من آل عمران يظهر لنا أن كلمة الله اسم شخص مرسل معروف قائم بذات خاصة (( اسمه المسيح )) فليس هو اسم شيء أو معنى أمر. والآية 170 من سورة النساء ترينا أنّ المُلقى والمتجسد والمحبول به في مريم والمولود منها هو الكلمة. فهل يكون هذا الكلمة مجرّد أمر؟ (( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه )) . فهل حملت العذراء وولدت أمراً معنوياً لا غير ؟ لا، بل بُشّرت بشخص وحملت شخصاً: اسمه كلمةُ الله وروح الله ومسيح الله ورسول الله كما في سورة النساء، واسمه المسيح، عيسى، ابن مريم كما في سورة آل عمران.

لاحظ أن لقب (( كلمة )) يُبدَل منه في آل عمران بثلاثة ألقاب أخرى: (( يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح، عيسى، ابن مريم )) . ولاحظ كذلك أن هذه الألقاب تُبدَل في النساء بدورها من لقب كلمة: (( إنما المسيح، عيسى، ابن مريم، رسول الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه)) . فلا تُبْدَل أسماء شخص من أمر معنوي ! ولكن بما أن المسلمين لا يؤمنون بألوهية المسيح يضطرون أن يفسروا ذلك اللقب الكبير، ذا المعنى العميق، باشتقاقه من الأمر (( كن! )) ومهما يكن من هذه التفاسير المضطربة القاصرة فإن تسمية المسيح بـ (( كلمة )) قد تفرّد بها يسوع في القرآن دون سائر الأنبياء والمرسلين، ولا تنتقص من أهميتها ومعناها شيئاً تفاسير المفسرين القسرية الظالمة .

بشّرها الملاك بكلمة من الله (( اسمه المسيح )) ؛ وقد أوضحت تلك التفاسير بعض الشيء من هذا اللقب؛ قال البيضاوي: (( المسيح لقبه وهو من الألقاب المشرفة وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك. واشتقاقه من المسح لأنه مُسح

ـ 179 ـ

بالبركة أو بما طهره من الذنوب أو مسح الأرض ولم يقم في موضع، أو مسحه جبريل )) . وقال الإمام فخر الدين الرازي: (( المسيح: في ذلك مذاهب شتى: منها إنه مُسح من الأوزار والآثام، ومنها ‘نه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء. ومنها إنه مسحه جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له من مسّ الشيطان. ومنها أنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن )) . فمولود مريم عظيم في مسحته: مُسح من الخطيئة الآدمية: مسحه جبريل بجناحه صوناً له من مس الشيطان في الحبل به وولادته. مُسح من الخطايا الفعلية طيلة حياته (( مسح من الآثام والأوزار )) . وُلِد نبيّاً بينما غيره صار نبيّاً على كبر. خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن، وكان ممسوحاً بدهن طاهر يُمسح به الأنبياء. وعظمته أنه مَسَح الأرض ولم يقم في موضع. فهذه المسحات تجعل مولود مريم أكثر من نبي: ‘نه (( مسيح الله ، أي كلمته وروح منه )) .

بشر الملاك مريم بكلمة من الله اسمه المسيح، واسمه أيضاً عيسى، وابن مريم. وعندي إن عيسى نحت عربي لكلمة 'Ihsou ( ايسو ) اليونانية في صيغة المنادى وليس معرباً عن (( ايشوع )) العبرانية كما يقول البيضاوي وغيره. و (( ابنُ مريم )) صفة تميزت تميز الأسماء ونُظمت في سلكها وإنما أسنده الملاك إليها في خطابها تنبيهاً لأمه على أنه يولد من غير أب إذ العادة نسبة الابن إلى الأب ولا يُنسب إلى الأم إلا إذا فقد الأب. ويسمّي القرآن دائماً المسيح ابن مريم اعترافاً منه بأمومتها البتولية.

عَدّد الملاك للعذراء ألقاب ابنها العظيمة. ووصفه لها بأوصاف تليق بتلك الألقاب: إنه (( وجيه في الدنيا والآخرة )) . قالوا بالإجماع: الوجاهة في الدنيا النبوة، وفي الآخرة الشفاعة والدرجات العلى. وهو (( من المقربين )) ، إشارة إلى علو درجته في الجنة ودنوه من الله تعالى. (( ويكلم الناس في المهد وكهلاً )) أي يكلمهم حال كونه طفلاً كما يكلمهم كهلاً كلام الأنبياء من غير تفاوت، وهذا لم يحدث لنبي غيره فكان صفة مميزة له. وهو (( من الصالحين)) الذين يخلد ذكرهم.

ـ 180 ـ

بعد ذلك الوصف الرائع للمولود السماوي تستفسر البتول عن كيفية الحبل والولادة. ففي السور المكية يظهر أن الملاك كان وساطة المعجزة الإلهية في حَملها دون أن يمسها بشر. ففي سورة مريم: (( قال إنما أنا رسول ربك لأهب لكِ غلاماً زكياً. قالت اني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغيّا؟ قال: ( هو ) كذلك ! قال ربك: هو عليّ هيّنّ ! )) (18 ـ 20) وعلى هذا النحو يجوز أن تفهم معهم سورة الأنبياء 91، بمعنى أن المعجزة حصلت بنفخة جبريل.

ولكن سورة آل عمران (47) توضح الأمر فيصير الحبَل بخَلْق إلهي مباشر دون أدنى واسطة للمعجزة، ويقتصر دور جبريل على نقل الخبر إلى الوالدة المصطفاة. (( قالت: ربِّ أنى يكون لي ولد ولم يمسَسني بشر؟ قال: كذلك ! ( أي هو كذلك بدون مسيس بشر ). الله يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن ! فيكون )) مباشرةً وبدون واسطة: فلا أوضح ولا أصرح. قال البيضاوي: (( فأحييناه في جوفها ... إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجاً بأسباب ومواد، يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك )) . وتأتي سورة النساء فتوضح كيفية ذلك الأمر: ألقى الله إلى مريم مباشرةً كلمته وروحه فحملت: (( إنما المسيح عيسى ابن مريم، رسولُ الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) (170) قال الزمخشري: (( وإنما قيل إن عيسى كلمة الله فخُص بها الاسم لأنه لم يكن لكونه سبب غير الكلمة، ولم يكن من نطفة تمنى )) ( أعراف 157 ) بل هو روح من الله ألقي إلى مريم (مؤمنون 51 ).

بعد سورتي آل عمران والنساء لا يجوز أن يفهم معنى سورة التحريم وسورة الأنبياء (( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه ( أو فيها ) من روحنا )) بمعنى أن هذا الروح هو جبريل النافخ بل المسيح المنفوخ في مريم بنفخة الله الخلاقة مباشرة: (( من روحنا )) مستمدة من معنى قوله: (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) .

ـ 181 ـ

خامساً: مريم العذراء آية للعالمين في ولادتها المسيح

لما حملت العذراء بالمسيح اعتزلت بسرّها بعيداً عن الناس (( فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً )) .

ولكن كم كانت مدة الحمل ؟ إن النصارى مع الإنجيل يقولون هي المدة الطبيعية؛ أما القرآن فصامت، ولم يرق المفسرين صمته. وإذ جعلوا من أم المسيح مجموعة عجائب ومعجزات، فقد رأوا في مدة الحمل معجزة أخرى. قال البيضاوي: (( وكانت مدة حملها سبعة أشهر وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية، غيره. وقيل ساعة )). والجلالان على الرأي الأخير: (( الحمل والتصوير والولادة في ساعة )) . فيا ليتهم يحترمون صمت الكتاب !

وكم كان سن العذراء يوم ولادتها المسيح ؟ القرآن صامت. قال البيضاوي: (( وسنها ثلاث عشرة سنة. وقيل عشر سنين ... )) وهكذا يعرف المفسرون دائماً أكثر من الكتاب فلا يحترمون صمته.

وكيف ولدت المسيح ؟ يذكر القرآن ذلك بهذه الكلمة: (( فأجاءَها المخاض إلى جذع النخلة. قالت: يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً مَنْسِيّا ! )) .

قال البيضاوي: (( المَخاض والمِخاض هما مصدر مخَضَتِ المرأة إذا تحرّك الولد في بطنها للخروج )) . ومن ثم فلا يحتمل التعبير ضرورةً معنى (( وجع الولادة )) كما يريد الجلالان.

فلما حان وقت ولادتها لجأت إلى جذع النخلة ـ والتعريف هنا للعهد أي النخلة المعروفة أو للجنس أي النخلة الوحيدة من جنسها في المكان ـ فلجأت إلى هذه الشجرة لتستتر بها وتعتمد عليها ـ ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يُسكّنُ روعَها، ويطعمها منها ( البيضاوي ).

كيف كانت الولادة ؟ لا أحد من المفسرين يراها كعادة النساء. والقرآن صامت. فلفظة المَخَاض لا تعني أنها توجعت عندما ولدت المسيح. ونقدر أن

ـ 182 ـ

نستنتج دون أن نخون النصوص بأنها كما حملته بمعجزة ولدته بمعجزة، وكما حبلت به وهي بتول ولدته وظلتْ بتولاً. قال البيضاوي (( كما حملتْه نبذَتْه )) : أي حملته بمعجزة ونبذته بمعجزة !

وكيف لا تكون الولادة بمعجزة، وفي حال البتولية، عند الذين يرون أن الحمل والتصوير والولادة كانت في ساعة ؟ ( الجلالان ).

ولما ولدت العذراءُ المسيح قالت: (( يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً! )) قالت هذا لما رأت نفسها قد حملت وولدت بمعجزة قد لا يصدّقها الناس، فقالت، ما قالت استحياءً من الناس ومخافةَ لومهم.

وهنا تَدخّل الله الساهر عليها وأرسل ملاكه ليسكّن روعها بمعجزتين جديدتين: ((فناداها من تحتها: ألا تحزني، قد جعل ربّك تحتك سريّاً ( جدول ماء ) وهزّي إليك بجذع النخلة تُساقطْ عليك رُطَبَاً جنيّاً. فكلي من جنى النخلة واشربي من النهر السري وقرّي عيناً )) . قالوا: كان الوقت شتاء والنخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة فيها والوادي تحتها ناشفاً لا ماء فيه. فخلق الله لها ماءً وفاكهة ! وبذلك سَكّن روعها، وأطعمها بأعجوبة. ومَن يتولى إعالتها هكذا، يتولى تبرِئتها أمام الناس من كل تهمة.

وأوعز الله إلى الملاك أن يوحي إليها بالإمساك عن الكلام فلا تكلم أحداً من الناس لأن الله أعدّ معجزة كبرى لتبرئة ساحتها: سينطق طفلها فيتنبأ عن براءة أمه ويؤكد أمومتها البتولية: (( فإما ترين من الناس أحداً فقولي إني أنذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم أنسيّاً )) .

فأتت به قومها تحمله. قالوا: (( يا مريم لقد جئت شيئاً فريّا. يا أخت هارون ما كان أبوك أمرأ سَوْءٍ وما كانت أمك بغيّا ! فأشارت إليه ( لأنها صائمة عن الكلام ) ! قالوا: كيف نكلم من كان في المهد صبيّا )) ؟

فانطق الله الطفل الوليد بمعجزة خارقة (( قال: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً. وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمتُ

ـ 183 ـ

حيّاً وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيّاً. والسلام عليًّ يوم ولدتُ ويوم أموت ويوم أُبعَثُ حيّاً)) . فلمّا نطق الوليد وعرّف الناس بذاته الشريفة، ورسالته السامية أفحمهم عن الكلام وبرّأ والدته تبرِئةً كاملة.

وبهذه الولادة الغريبة الفريدة التي تحف بها المعجزات منكل جانب صارت مريم (( آية للعالمين )) .

سادساً: مريم العذراء آية للعالمين مع ابنها في حداثته

يوجز القرآن حداثة يسوع، وحياة العذراء مع وليدها بهذه الآية: (( وجعلنا ابن مريم وأمّه آية، وآويناهما إلى رَبوة ذاتِ قرار ومعين )) ( مؤمنون 51 ). لم يقل آيتين لأن الآية فيهما واحدة: ولادة المسيح من مريم بلا أب ( الجلالان والبيضاوي ) .

يظهر أن المسيح وأمه قضيا أوقاتهما بعد الميلاد في جنّة غنّاء على رابية يستقر الإنسان عند أشجارها ومياهِها قرير العين.

ويلاحق القرآن دائماً أم المسيح بالعزلة والانفراد حتى لا تكون ولا تفكر ولا تعمل إلا لله وابنها.

والله يكفل مباشرة إعالة مريم في الهيكل، وفي مدة حملها، وفي ولادتها، وفي حداثة يسوع فيطعمهما بمعجزة ويسقيهما بمعجزة.

ألا تذكرنا هذه العيشة الخيالية في الانفراد على رابية بنشيد إشعيا النبي: (( إني أُنشد لحبيبي نشيد محبوبي في كرمه: كان لحبيبي كرم في رابية ذات خصب )) ( ف 5 عدد 1 ).

وينقل لنا القرآن عن إنجيل حداثة يسوع، تسلية المسيح في صغره بخلق الطيور. وكان هذا من آيات رسالته: (( ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله )) ( آل عمران 49 ).

ـ 184 ـ

ويذكر القرآن عيشة يسوع مع أمه في التقوى والفضيلة والكمال (( وجعلني مباركاً أينما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً. وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً )) .

ويذكر طاعة مريم لله، طاعة الإسلام والاستسلام بالخضوع والقنوت وإيمانها العظيم بمواعيده وكتبه. (( وصدّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين )) ( تحريم ). وحسب قراءة أخرى (( وصدّقت بكلمة الله وكتابه )) أي كانت أولى المؤمنين بالمسيح وإنجيله، والتابعين له.

وهكذا كيفما تأمّل القرآن حياة الولد العجيب والوالدة المصطفاة وجدها آيةً واحدة للعالمين: (( وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين )) .

سابعاً: مريم أم المسيح آية للعالمين في حياتها كلها وشخصيتها

ظلت أم المسيح عائشة على تلك الربوة السعيدة إلى أن اصطفاها الله إلى جواره ليتمّ فيها آياته.

لا يذكر لنا القرآن شيئاً عن آخرة مريم كما ذكر عن آخرة المسيح أنه ارتفع حيّاً إلى الله ( آل عمران 55 ) (( رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً )) ( نساء 159 ). وهل تكون آخرة الأم إلا شبيهة بآخرة الابن كما كانت في كل حياتها آية واحدة معه ؟

وقد أوجز القرآن حياة مريم وقداستها وشخصيتها بهذه الكلمة الكتابية التقليدية: (( وأمه صدّيقة )) . فهذا التعبير يعني مجموع الفضائل، وكامل القداسة. هكذا وصف الإنجيل من قبل قداسة يوسف خطيبها: (( وكان رجلها صدّيقاً )) . (( فإنه تعالى فرغها لعبادته وخصها بأنواع اللطف والهداية والعصمة )) ( الرازي آل عمران 42 ) .

ـ 185 ـ

ويختم القرآن ذكر مريم وخبرها برد افتراءات المفترين من اليهود، ونقض غلوّ المغالين من النصارى:

إنه يكفّر اليهود على قولهم (( على مريم زوراً وبهتاناً عظيماً! )) كانوا يتهمون العذراء بالزنى ويجعلون ابنها مولود زنى !! فينتقض القرآن لهذه التهمة السمجة ويصفها حقَّ وصفها: (( إنها زور وبهتان عظيم ! )) وإن القول بها كفر ! والقرآن لا يأخذ كلمة كفر إلا في حق الله سبحانه. وقد شاركت تلك المقالة كفر الكافرين به عز وجل.

ويحذّر النصارى من الغلو في تكريمهم لأم المسيح بجعلها إلاهة. إنها (( الصدّيقة المطهرة )) المصطفاة على نساء العالمين. فليست (( ثالثة ثلاثة )) : (( وما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. وأمه صدّيقة. كانا يأكلان الطعام )) ! (78) ومن يأكل الطعام كالبشر لا يكون إلهاً على حدّ قوله: (( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواءَ قوم قد ضلّوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا سواء السبيل )) ( مائدة 80 ). فهل تصوّر أولئك العربُ الجهّال البدائيون البعيدون عن مراكز النصرانية، أن الثالوث المسيحي مؤلف من الله والمسيح ومريم حتى ثارت ثائرة القرآن عليهم فكذَّبهم على لسان عيسى نفسه في استجوابه يوم الدين يوم يجمع الله الرسل: (( يا عيسى ابن مريم أَأَنتَ قلتَ للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ ـ قال: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق )) . إن ضلال فرقة هزيلة من النصارى لا يجوز أن يعمّم ويطلق على جميع النصارى.

ومن ثم فليست مريم إلاهة بل أفضل مخلوقة، طهّرها الله واصطفاها على نساء العالمين، وجعلها بمعجزة لا مثيل لها في تاريخ البشرية، أمّ مسيح الله وكلمة الله وروح الله.

ـ 186 ـ

خاتمة: موجز تعليم القرآن

هكذا يعلم القرآن عن مريم بحسب ظروف زمانه ومكانه، تعليماً قيّماً يستحق كل اعتبار. ونقدر أن نرى فيه صدى لتعليم الكنيسة المقدسة في قرونها الأولى كما وصل إلى قلب الجزيرة.

مجد مريم وعظمتها :

يرى القرآن عظمة مريم ومجدها الفريد في كونها مِسْك الختام للذرية النبوية المصطفاة: (( إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين )) ( آل عمران 33 )، وفي كونها أم المسيح كلمة الله ، البتول: (( وجعلنا ابن مريم وأمه آية للعالمين )) (مؤمنون 51 ).

اصطفاء مريم :

ويصرح باصطفائها على نساء العالمين: (( يا مريم إن الله اصطفاكِ و طهّرِكِ و اصطفاكِ على نساء العالمين )) من الملائكة والإنس والجن ( آل عمران 43 ). ويرى دائماً هذا الاصطفاء في صلة مع طهارتها وأمومتها: (( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا، وجعلناها وابنها آية للعالمين )) ( أنبياء 91 ). فصارت ببتوليتها الدائمة وأمومتها ((الصدّيقة المصطفاة على العالمين )) ، (( وآية للعالمين )) .

عصمة مريم من الخطيئة :

يلمح القرآن تلميحاً واضحاً إلى عصمة مريم من الخطيئة الأصلية إذ تصلي أمها في وحي من الله: (( إني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم )) . فيقبل

ـ 187 ـ

الله استعذدة الأم ويخلق الابنة معصومة من مس الشيطان الذي لا ينجو منه أحد. ويأتي الحديث فيصرح بذلك تصريحاً: (( ما من مولود يولد إلا ويطعنه الشيطان حين يولد في جنبه فيستهل صارخاً من مس الشيطان له إلا مريم وابنها فذهب ليطعن فطعن في الحجاب )) الموضوع بينه وبين مريم وابنها. ويضيف الحديث إلى عصمتها الأولى العصمة من الخطيئة طيلة حياتها: (( وذكروا لنا أنهما كانا لا يصيبان من الذنوب كما يصيب سائر بني آدم )) ( نقله الثعلبي ).

البتولية مع الأمومة :

هذه هي الميزة الأولى والكبرى التي يراها القرآن في مريم أم المسيح، ويدهش لها دائماً ويقدمها آية للعالمين. ففي سورة مريم: (( أنى يكون ذلك ولم يمسسني بشر ؟ قال الملاك ( هو ) كذلك )) . وفي الأنبياء والمؤمنون والتحريم: (( فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ! )) ومن ينكر هذه العقيدة يكفر مثل اليهود: (( وبكفرهم وقولهم على مريم زوراً وبهتاناً عظيماً )) .

قداستها الفائقة :

منذ صغرها اصطفاها وطهرها: (( إذ قالت الملائـكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك ! )) فتقضي حياتها في المحراب منعزلة مواظبة على القنوت والركوع والسجود: (( يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين )) . ولما بشرتها الملائكة بميلاد كلمة الله وروحه منها بمعجزة لم تستسلم للأمر الرباني حتى أمّنت على بتوليتها. (( الله يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون )) . وبعد ميلاد المسيح تعيش مع وليدها منفردة على رابية غنّاء.

عناية الله الخاصة بها :

ويجتهد القرآن في إظهار عناية الله الخاصة بها: تولد بمعجزة من أم عاقر عجوز؛ تعتزل طفلة في الهيكل حيث يعولها الله بمعجزة فيرسل لها رزقها من

ـ 188 ـ

الجنة؛ وتلد المسيح وهي بتول بمعجزة لا مثيل لها في تاريخ البشرية؛ ويغذي الله الوالدة والوليد من نخلة يابسة ويسقيهما من جدول ناشف ويحتفظ بهما في جنة بعيداً عن أعين الناس. من هي تلك المخلوقة المصطفاة التي اختصها الله بكل هذه الخوارق ؟ هي أم المسيح أم كلمة وروح الله: (( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) (نساء 170 ).

مريم آية للعالمين :

وهكذا يرى القرآن في مريم آية للعالمين في اصطفائها وميلادها وحداثتها وبشارة الملاك لها وولادتها المسيح وحياتها مع ابنها وكل أطوار حياتها: (( فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ! )) .

ـ 189 ـ

 

القسم الثالث

المسيح في القرآن

 

 

توطئة

 

(( ولنجعله آيةً للناس ورحمة منّا ))

( مريم 21 )

إن أجمل صورة رُسمت للمسيح، في ما عدا الإنجيل، هي تلك التي خطّها القرآن الكريم. نراها تسمو رويداً رويداً على ما لسائر الأنبياء والمرسلين. فالصفات والألقاب التي يصف القرآن بها شخصية المسيح ويصوّر حياته كلها ترفعه إلى ما فوق البشرية جمعاء. وقد لخّصها بكلمة واحدة: (( ولنجعله آية للناس ورحمة من )) ( مريم 21 ).

فالقرآن الكريم يعتبر يسوع المسيح، عيسى ابن مريم آية في مولده، آية في حداثته، آية في رسالته، آية في آخرته، آية في ارتفاعه حيّاً إلى السماء، آية في يوم الدين، آية في حياته كلها وشخصيته الفذَّة.

وها نحن ندرس أولاً النصوص القرآنية المكية ثم المدنية، ثم نحلّل تلك النصوص الكريمة.

 

الجزء الأول : النصوص القرآنية في المسيح

أولاً: المكية

 

رقم التنزيل

رقم المصحف

النص الأول:

مريم 15 ـ 33 ، 34 ـ 40

44

19

النص الثاني:

زخرف 57 ـ 62 ، 63 ـ 65

63

43

النص الثالث:

الأنبياء 91 ـ 103

73

21

النص الرابع:

المؤمنون 51 ـ 57

74

23

 

ثانياً: المتبعضة ( أي بعضها مكّي وبعضها مدني )

النص الخامس:

أعراف 156 ـ 158

39

7

النص السادس:

أنعام 83 ـ 90

55

6

النص السابع:

الشورى 13 ـ 16

62

42

 

ثالثاً: المدنيّة

النص الثامن:

البقرة 86 ، 136 ـ 138، 253

1

2

النص التاسع:

آل عمران 18 ـ 21، 33 ـ 37، 38 ـ 41، 42 ـ 44، 45 ـ 51، 52 ـ 58، 59 ـ 64، 79 ـ 85 ، 110 ـ 120، 182

3

3

ـ 193 ـ

 

رقم التنزيل

رقم المصحف

النص العاشر:

الأحزاب 7 ـ 8

4

33

النص الحادي عشر:

النساء 149 ـ 161، 162 ـ 169، 170 ـ 173

6

4

النص الثاني عشر:

الحديد 25 ـ 29

8

57

النص الثالث عشر:

التحريم 12

21

66

النص الرابع عشر:

الصف 2 ـ 6 ، 10 ـ 14

23

61

النص الخامس عشر:

المائدة 13 ـ 30، 44 ـ 54، 62 ـ 73، 75 ـ 80، 81 ـ 90، 112 ـ 123

26

5

النص السادس عشر:

التوبة 1 ـ 36

28

9

ـ 194 ـ

النص الأول: سورة مريم 15 – 40

إن الدعوة الإسلامية، في السور المكيّة كلها، دعوة عامة إلى التوحيد ( أي الإيمان بالله واليوم الآخر ): سورة مريم وحدَها خصوصية، يكثر فيها اسم الرحمن1 ، ويقرن تنزيلها بهجرة المسلمين إلى الحبشة، سنة خمس للبعثة أي نحو 615 – 616 فقد حمّلهم إياها الرسول العربي لتشفع فيهم عند النجاشي وتكون دليلاً على وحدة الإيمان بين العرب المسلمين والأحباش المسيحيين2 .

وبعد الهجرة إلى الحبشة خرج النبي العربي من التأثير المسيحي إلى التأثير الإسرائيلي: يدلنا على ذلك التحوّل من الكرازة باليوم الآخر إلى الدعوة إلى الله والتوحيد، مع قصص أنبياء الكتاب الذي يملأ القسم الثاني من السور المكيّة؛ وفي هذه المدة أو بعدها أضاف إلى خبر المسيح (15 ـ 33) مقطعاً آخر يختلف في لهجته ويحدُّ من إطراء المسيح السابق (34 ـ 40):

ـــــــــــــــــــــــ

(1) (( الرحمن )) اسم الجلالة في اليمن والحبشة، مِمَّا يدل على أصله المسيحي.

(2) إن الهجرة إلى الحبشة وسورة مريم حيث يكثر استعمال (( الرحمن )) دليل على أن محمداً في الفترة الأولى من عهده بمكة كان تحت التأثير المسيحي. وفي هذه الفترة كان موضوع كرازة النبي أيضاً اليوم الآخر، والتوبة، لا التوحيد؛ كما ابتدأ المسيح تبشيره، وكما كان يعظ المبشرون السوريون في ما قبل عهد محمد بقليل، كالقديس أفرام والقديس يوحنا الذهبي الفم. فلولا وحدة الإيمان بين محمد والنجاشي لما أودعه المؤمنين به. فلما زال هذا التأثير المسيحي وعقبه، في الفترة الثانية من مكة، التأثير الإسرائيلي، مع قصص أنبياء الكتاب الذي يملأ القسم الثاني من السور المكية، واضطر محمد إلى الهرب بنفسه، لجأ إلى الطائف ثم إلى المدينة حيث يكثر اليهود العرب. وقضية المؤثرات أو الاقتباسات لا تطعن ضرورة في صحة الوحي.

ـ 195 ـ

النص الأصلي 14 – 33؛ وهو أول وصف للمسيح وأمه جاء في القرآن.

14 وسلام عليه1 يوم ولد ويوم يموت ويوم يُبعث حياّ ...

15 واذكرْ في الكتاب مريم2 إذ انتبذَتْ من أهلها مكاناً شرقياً.

16 فاتخذتْ من دونهم حجاباً. فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سوياً.

17 قالتْ: إني أعوذُ بالرحمن منك إن كنت تقيّاً !

18 قال: إنما أَنا رسول ربك لأهب لكِ غلاماً زكيّاً !

ــــــــــــــــ

آية 18 ـ تعدّدت القراءات: فالمصحف الأميري: (( لأهب لكِ )) أي لأكون سبباً في هبته بالنفخ في درعك؛ ويجوز أن يكون حكاية لقوله سبحانه، ويؤيده قراءة أبي عمرو وابن كثيّر عن نافع ويعقوب بالياء (( ليهبَ )) (البيضاوي). وفي بعض المصاحف: (( إنما أنا رسول ربك، أمرني أن أهب لكِ )) (الزمخشري) وإذن فإمّا (( لأِهب )) فيكون الملاك وساطة المعجزة؛ وإمّا (( ليهب )) فتكون المعجزة من الله مباشرة. (( زكيّاً )) : مزكّى بالنبوّة (الجلالان). طاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير أي مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح (البيضاوي). لاحظ أن مولود مريم العذراء طاهر من الذنوب منذ البشارة بالحبل به.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الكلام عن يحيى بن زكريا أوردناه لترى أنه يختم قصة يحيى كما يختم قصة عيسى. (( سلـَّم الله عليه في هذه الأحوال، على قول ابن عيينة، لأنها أوحش المواطن )) (الزمخشري).

(2) لا نعلق على ما يرد في شأن مريم أم المسيح، فقد سبق ذلك، بل نكتفي بتفسير تعليم القرآن عن المسيح.

ـ 196 ـ

19 قالت: أنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغيَّاً.

20 قال: ( هو ) كذلك ! قال ربكِ: هو عليَّ هيّن ! ولنجعله آية للناس ورحمة منا ! وكان أمراً مقضيّاً.

21 فحملته. فانتبذتْ به مكاناً قصيّاً.

22 فأجاءَها المخاض إلى جذع النخلة. قالت: يا ليتني مُتُّ قبل هذا وكنتُ نَسْياً مَنسِيّاً !

23 فناداها من تحتها: ألا تحزني ! قد جعل ربك تحتكِ سريّاً !

ــــــــــــــــ

آية 20 ـ (( آية للناس )) علامة لهم وبرهاناً على كمال قدرتنا (البيضاوي)؛ ميلاده الفريد آية شخصه ورسالته. أي هو آية الله للناس ليؤمنوا (رومة 1 : 16 ـ 17). (( ورحمة منا )) للعباد يهتدون بإرشاده (البيضاوي) أي في المسيح تتبدّى رحمة الله (قابل تيطس 3 : 4 ـ 6).

آية 23 (( فناداها من تحتها )) : يوجد غموض في الضمائر: مَن نادى ؟ قيل عيسى وقيل جبريل، والأفضل الروح الذي يبشرها؛ والضمير في (( تحتها )) يعود إلى مريم أو إلى النخلة. انتقل الملاك مع مريم من محل البشارة إلى موضع الولادة قرب النخلة؛ وظل الحديث بينه وبينها. (( من تحتها )) من مكان أسفل مكانها. (( قد جعل ربك تحتك سريّاً )) جدولاً، وقيل سيداً من السرو، والمراد عيسى؛ وعن الحسن: كان والله عبداً سرياً (البيضاوي والزمخشري). والأفضل جدولاً بسبب قوله (( فكلي واشربي )) . قال الجلالان: ناداها جبريل وكان أسفل منها: لا تحزني قد جعل ربك تحتك نهر ماءٍ كان قد انقطع.

ـ 197 ـ

24 وهُزّي إليك بجذع النخلة تُساقِطْ عليكِ رُطباً جنيّاً.

25 فكلي واشربي وقَرّي عيناً. فإما ترَيَنَّ من الناس أحداً فقولي: إني نذرت للرحمن صوماً فلن أُكلّم اليومَ إنسيّاً ...

26 فأتتْ به قومَها تحمِلهُ. قالوا: يا مريم لقد جئتِ شيئاً فَرِيّاً !

27 يا أخت هرون ما كان أبوك أمرأَ سَوْءٍ وما كانت أمك بغيّاً!

28 فأشارتْ إليه ... قالوا: كيف يكلِّم من كان في المهد صبيّاً ؟!

29 قال: إني عبدُ الله، آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً.

ــــــــــــــــ

آية 24 (( تُساقِط )) فيه تسع قراءات (الزمخشري)؛ والبيضاوي يعدّد سبعاً.

آية 29(( قال إني عبد الله )) قيل أكمل الله عقله واستنبأه طفلاً (الزمخشري والبيضاوي) يدعمه قوله: (( تكلـِّمُ الناس في المهد )) (آل عمران والمائدة): يذكر هنا معجزة نطق الطفل يسوع حال ميلاده لتبرئة أمه. ويُسمّيه (( عبد الله )) . وهذا لقب الأنبياء والأولياء في الكتاب؛ قابل أعمال الرسل (( فتاك القدوس يسوع )) (4 : 27، 30)؛ انطقه الله به لأنه أول المقامات (البيضاوي) لا للرد على مَن يزعم ربوبيته إذ ليس في النص ما يحملنا إليه. (( آتاني الكتاب )) الذي نزل قبله، ومن نزل عليه الكتاب صار (( نبيّاً )) :

ـ 198 ـ

30 وجعلني مباركاً أينَ ما كنتُ، وأوصاني بالصلوة والزكوة مادمتُ حياً.

31 وبَرّاً بوالدتي، ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً !

32 والسلام عليّ يومَ ولدتُ، ويوم أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً !

فهذا الوصف الرائع مبنى ومعنى هو أول ذكر ورد في القرآن عن المسيح. يورد فيه المعجزات التي تمت في مريم أم المسيح، ومعجزة المسيح الكبرى بميلاده من أم بتول بلا أب وقد انفرد بها دون سائر البشر والأنبياء، وبها صار آيةً من الله؛ ثم معجزة نطقه من المهد تبرِئةً لوالدته و شهادةً لرسالته ؛ و معجزة نبوّته من المهد عن موته وانبعاثه. ويَذكر فيه أيضاً صفات المسيح الأولى: إنه عبد الله ونبيّه؛ إنه المبارك الطاهر، رجل الصلاة والزكاة مدى الحياة، الجاعل قرة عينه في مناجاة الله؛ إنه ذو الرحمة والبِرّ والتواضع.

وإن هذا النص لبعيد عن المجادلات اللاهوتية، يعبّر عن الإيمان البسيط، الوطيد بالمسيح نبي الله وعبده، الذي جاء آيةً ورحمةً للناس.

ــــــــــــــــ

واللقبان (( عبد الله والنبي )) مترادفان. (( وجعلني مباركاً )) عن رسول الله ص: (( نفّاعاً )) وقيل (( معلماً للخير )) (الزمخشري). (( وأوصاني بالصلوة والزكاة )) زكاة المال أن ملكته، أو تطهير النفس عن الرذائل (البيضاوي). (( وبرّاً )) عطف على مباركاً. وقرِئ بالكسر والجر عطفاً على الصلاة؛ وعن أبي نهيك: جعل ذاته براً لفرط بره. (( ولم يجعلني جباراً شقيّا )) متعاظماً عاصياً لربه (الجلالان)، شقيّاً عند الله من فرط تكبره. (( والسلام عليّ )) كما هو على يحيى؛ والتعريف للعهد، والأظهر إنه للجنس، والتعريض باللعن على أعدائه؛ والمعنى: ذلك السلام الموجه ليحيى في المواطن الثلاثة موجّه إلي (الزمخشري).

وهكذا انتهت قصة عيسى كما انتهت قصة يحيى بنفس الأسلوب وذات العبارة.

ـ 199 ـ

النص التفسيري المزيد على سورة مريم 34 ـ 40

34 ذلك عيسى ابن مريم قولُ الحق الذي فيه يمترون.

ــــــــــــــــ

آية 34 ـ هذا نص تفسيري مزيد على سورة مريم، ودليلنا اختلاف المعنى واختلاف الروي: في الأول إيمان ليس في الثاني، وفي الثاني جدال ليس في الأول. ثم في الآية 33 يقف الروي على الياء (( حيّا )) يقطعه روي مختلف على النون أو بديلها الميم ثم يعود إلى روي السورة كلها في 41 (( نبيّاً )) .

(( قول الحق )) لقب عظيم ذو معنى فخيم انفرد به المسيح في القرآن. تعددت فيه القراءات والحركات: فعن ابن مسعود (( قال الحق )) و (( قال الله )) ! وعن الحسن (( قـُوْل )) بضم القاف ـ وكذلك في الأنعام قوله الحق ـ والقَوْل والقال والقُول بمعنى واحد. وقـرأ علي بن أبي طالب (( الذي فيه تمترون )) على الخطاب. وعن أُبي بن كعب (( قول الحق الذي كان الناس فيه يمترون )) . وقرئ قول بالنصب على المدح إن فُسّر (( بكلمة الله )) ، وإنه مصدر مؤكد لمضمون لمضمون الجملة إن أريد (( قول الثبات والصدق )) : وإنما قيل لعيسى (( كلمة الله وقول الحق )) لأنه لم يولد إلا بكلمة الله وحدها وهي قوله: كن من غير واسطة أب. ويحتمل، إذا أريد بقول الحق عيسى، أن يكون (( الحق )) اسم الله عز وجل، وأن يكون بمعنى الثبات والصدق، ويعضده قوله (( الذي فيه يمترون )) أي أمره حق يقين (الزمخشري). وقرِئ (( قول الحق )) بالرفع، خبراً لمحذوف أي (( هو قولُ الحق )) الذي لا ريب فيه، والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة؛ وقيل صفة عيسى أو بدله، أو خبر ثانٍ ومعناه (( كلمة الله )) . (( سيمترون )) يمترون يشكون أم يتنازعون فقالت اليهود ساحر وقالت النصارى ابن الله (البيضاوي). وهكذا لقب القرآن المسيح (( قول الحق )) كما لقبه ((كلمة الله )) .

ـ 200 ـ

35 ما كان لله أن يتخذ من ولدٍ سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن ! فيكون !

36 وإن الله ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم.

37 فاختلف الأحزاب من بينهم، فويلٌ للذين كفروا من مشهد يوم عظيم !

ــــــــــــــــ

آية 35 ـ (( كن فيكون )) بالرفع بتقدير هو، وبالنصب بتقدير أَن (( ومن ذلك خلق عيسى من غير أب )) (الجلالان)، و (( بالنصب على الجواب)) (البيضاوي). (( كذّب النصارى وبكّتهم بالدلالة على انتفاء الولد عنه إذ من المحال أن تكون ذاته كذات من ينشأ منه الولد أي الحيوان الوالد )) (الزمخشري)؛ (( تبكيت لهم بأن مَن إذا أراد شيئا أوجده (( بكن )) كان منزّهاً عن شبه الخلق والحاجة في اتخاذ الولد بإحبال الإناث )) ! (البيضاوي).

آية 36 ـ قرأ المدنيون بفتح (( أن )) ومعناه (( ولأنه ربي وربكم فاعبدوه )) . وقرأ الأستار وأبو عبيد بالكسر (( إن )) على الابتداء. وفي حرف أُبَي (( إنَّ )) بالكسر وبغير واو (الزمخشري)، هنا يستشهد القرآن على عدم بنوّة عيسى وإلهيته من قول المسيح نفسه عن الله أنه (( ربي وربكم )) ( يوحنا 20 : 17 ) وذلك ما كان يردّده الآريوسيون والنساطرة ضد ألوهية المسيح.

آية 37 ـ (( فاختلف الأحزاب )) : اليهود والنصارى (عن الكلبي). وقيل النصارى لتحزبهم ثلاث فرق نسطورية ويعقوبية وملكانية. وعن الحسن: (( الذين تحزّبوا على الأنبياء لمّا قص عليهم قصة عيسى، اختلفوا فيه من بين الناس )) (الزمخشري). (( اليهود والنصارى، أو فرق النصارى: نسطورية قالوا انه إبن الله، ويعقوبية قالوا هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء، وملكانية قالوا هو ثالث ثلاثة، وموحّدون قالوا هو عبد الله ونبيّه )) (البيضاوي).

ـ 201 ـ

38 أسمعْ بهم وأبصرْ يومَ يأتوننا ! لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين.

39 وأنذرهم يوم الحسرة إذْ قُضي الأمر، وهم في غفلة، وهم لا يؤمنون.

40 إنّا نحن نرث الأرض ومَن عليها، وإلينا يُرجعون.

إن هذا النص الإضافي يفسّر إيمان القرآن بالمسيح وموقفه من أحزاب النصارى واليهود: فعقيدته أن المسيح هو (( قول الحق )) أي كلمة الله ( مريم 34 ) كما هو (( عبد الله ونبيّه )) (30) ولكن هذه الميزة لا تجعل المسيح (( إلهاً )) أو (( ابن الله )) كما يقول النصارى. فهو يرد هذا الزعم بالعقل: الخالق يخلق بأمره ولا يقدر أن يستولد بطريقة الجسد ( مريم 35)، وبالنقل عن عيسى: فقد شهد (( أن الله ربي وربكم فاعبدوه )) (36).

ويكفّر أحزاب اليهود الذين كفروا بالمسيح وأمه، فويل لهم من مشهد يوم عظيم ! لا يريدون أن يبصروا ويسمعوا حتى يؤمنوا بالمسيح فالظالمون اليوم في ضلال مبين، ولكن سوف يبصرون ويسمعون يوم الحسرة والجزاءِ ( 37 ـ 40 ) حيث يشاهدون مجد المسيح ويشهدون له.

وهكذا ترى وجه الشبه بين هذا الموقف وآل عمران: فلا يُستبعد إذن أن يكون النصّان من وقت واحد؛ وعلى كل حال فإن النص التفسيري ليس من مكة بل من المدينة لأنه ليس في مكة جدل مع أهل الكتاب.

بقي أن القرآن في سورة مريم يسمّي المسيح (( عبد الله ونبيّه )) كسائر الأنبياء.

ويُفرد له لقباً اختص به دون سواه من الملائكة والبشر، والأنبياء والمرسلين: إنه ((قول الحق )) !

ــــــــــــــــ

آية 38 ـ صيغة تعجب بمعنى: ما أسمعهم وأبصرهم يوم يأتون في الآخرة (الجلالان)؛ وقد كفروا بعيسى وأمه (الزمخشري).

ـ 202 ـ

النص الثاني: سورة الزخرف 57 ـ 62؛ 63 ـ 65

سورة الزخرف من السور المكية التي يكثر فيها القصص القرآني. والتأثير الكتابي ظاهر في السورة التي تدعو إلى ذكر الرحمن (36) وتوحيده حسب تعليم الأنبياء الأولين: ((وَسْئلْ مَن أرسلنا من قبلك من رسُلنا: أَجَعلنا من دون الرحمن آلهة يُعبَدون ؟ )) (45) وحسب الكتاب الأول: (( أم آتيناهم كتابا من قبله ( القرآن ) فهم به مستمسكون )) (21).

نجد ههنا نصّاً يردّ على قومه القرشيين (57) الذين اتخذوا من عبادة عيسى، وهو من أنبياء الكتاب، ذريعة لتمسكهم بعبادة آلهتهم. قال لهم: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ! ـ أجابوا: رضينا أن تكون آلهتنا مع عيسى لأنه عُبِدَ من دون الله. فقال (( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل )) (59).

ويضيف إليه نصّاً متأخراً يجيب به على أحزاب اليهود والنصارى كما رأينا في سورة مريم، وهذا الجدل مع الكتابيين ليس من العهد المكّي بل من زمن متأخر في المدينة.

 

النص الأصلي (57 ـ 62 ) جواب للقرشيين عن عبادة عيسى.

57 ولمَّا ضُرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدّون.

ــــــــــــــــ

آية 57 ـ قالت قريش: النصارى أهل الكتاب وهم يعبدون عيسى ويزعمون أنه ابن الله، والملائكة التي نعبدها (15 و 19) أولى بذلك. و (( المثل )) هو الوعظة أو القصة العجيبة تسير مسير الأمثال. (( إذا قومك )) قريش.

ـ 203 ـ

58 وقالوا: أآلهتنا خيرٌ أم هو؟ ـ ما ضربوه لك إلاّ جدلاً ! بل هم قوم خَصِمون !

59 إنْ هو إلاَّ عبدٌ أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل.

60 ولو نشاءُ لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلُقون.

61 وإنه لَعلم للساعة، فلا تَمتُرنَّ بها واتبعونِ، هذا صراط مستقيم.

ــــــــــــــــ

(( يُصِدّون )) بالكسر أي يضجون فرحاً؛ أو بالضم من الصدود أي يُعرضون عن الحق؛ وقيل هما لغتان (البيضاوي).

آية 58 ـ قالت قريش: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميّاً ونحن نعبد الملائكة، تفضيلاً لآلهتهم على عيسى. (( أآلهتنا )) بتثبيت الهمزة أو إمالتها. (( أم هو )) في حرف ابن مسعود (( أَم هذا )) أي محمد، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم السخرية به والاستهزاء (الزمخشري) .

آية 59 جواب على اعتراضهم في الآية 58: المسيح عبد، والملائكة أيضاً عبيد يقدر الله أن يخلقهم منكم كما خلق عيسى خلقاً عجيباً من أم بلا أب؛ وما عيسى (( إلا عبد )) كسائر العبيد (( أنعمنا عليه )) حيث جعلناه آية بأن خلقناه من غير سبب كما خلقنا آدم وشرّفناه بالنبوّة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبني إسرائيل (الزمخشري).

آية 60 (( والمعنى أن حال عيسى عليه السلام وإن كانت عجيبة فالله تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك. وأن الملائكة مثلكم من حيث أنها ذواتٌ ممكنة، يُحتمل خلقها توليداً كما جاز خلقُها إبداعاً فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله )) (البيضاوي).

آية 61 (( وإنه لَعلم للساعة )) وأن عيسى عليه السلام لـَعِلمٌ للساعة أي

ـ 204 ـ

62 ولا يَصُدَّنَّـكم الشيطان، إنه لكم عدوٌّ مبين.

يقولون له: المسيح الذي تذكره وتؤمن به عَبْدٌ عُبدَ فآلهتنا الملائكة خيرٌ منه وأحق أن تعبد. فأجاب: المسيح لا يُعْبد لأنه عبدٌ أنعمنا عليه بالنبوّة وجعلناه نبيّاً؛ وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل بخلقه العجيب الفريد الذي يثبّت نبوّته ويشهد الله له بهذه المعجزة.

ويضيف في وصف دور المسيح: (( إنه لـَعِلـْم للساعة )) أي تُعْلم بنزوله. وهو ((عَلـَمٌ )) لها أي علامة تدل على دنوّها. وهذه أيضاً ميزة أخرى في القرآن للمسيح اختص بها دون سواه من الأنبياء والمرسلين.

فكما كان مجيئه الأول (( مثلاً )) لبني إسرائيل يهديهم، يكون مجيئه الثاني قبل يوم الدين (( علما )) للساعة يهدي العالم أجمع.

وكما دعا القرآن المسيح وحده بين الأنبياء (( آية )) بخلقه وشخصه، جعله كذلك وحده بين الأنبياء (( مثلاً )) .

 

النص الإضافي 63 ـ 65

63 ولمَّا جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبيّنَ لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعونِ.

ــــــــــــــــ

شرط من أشراطها تُعلم به فسمي الشرط عِلـْماً لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس (( لـَعَلـَمٌ)) وهو العلامة. وقُرِئ (( لِلـْعِلم )) . وقرأ أُبَي (( وانه لذكرٌ للساعة )) على تسمية ما يذكر به ذكراً كما سُمّيَ ما يُعْلم به علماً. وعن الحسن: (( إن الضمير للقرآن لأن فيه الإعلام بالساعة )) (الزمخشري) ـ والقول الأخير بعيد الاحتمال لأنه لا ذكر للقرآن في المقطع المذكور.

آية 63 ـ (( بالبينات )) بالمعجزات أو بآيات الإنجيل أو بالشرائع الواضحات. (( قال قد جئتكم بالحكمة )) بالإنجيل َو بالشريعة. (( ولأِبين لكم بعض الذي تختلفون فيه )) من أمر الدين (البيضاوي والزمخشري).

ـ 205 ـ

64 إنّ الله هو ربي وربكم فاعبدوه: هذا صراط مستقيم.

65 فاختلف الأحزاب من بينهم. فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم !

يذكر القرآن في هذا النص الإضافي اليهود وحدهم أولئك الذين تحزبوا على المسيح فلم يتقوا الله ولم يطيعوا المسيح رسوله. وقد جاء بالبيّنات، والمعجزات الباهرة، وعلمهم آيات الله التي فيها الحكمة؛ وموضوعها التوحيد: فتعليمه صراط مستقيم.

فخالفه قوم منهم تحزبوا عليه كما تحزبوا على محمد، فسمّاهم (( الأحزاب )) . فنستخلص من هذا النص أن المسيح علّم التوحيد لا غير، وفي هذا التوحيد (( الحكمة )) ، وأيّد ذلك بالمعجزات.

وهذه الجملة على أهل الكتاب تشير إلى أن النص مدني لا مَكّي لأنه في مكة لا جدال مع الكتابيين بل مع المشركين لا غير.

ــــــــــــــــ

آية 64 ـ (( بيان لما أَمـرهم عيسى بالطاعة فيه وهـو اعتقاد التوحيد والتعبّد بالشرائع )) . (( هذا صراط مستقيم )) إشارة إلى مجموع الأمرين؛ وهو تتمة كلام عيسى صلّى الله عليه وسلّم، أو استئناف من الله يدل على ما هو المقتضى للطاعة في ذلك (البيضاوي) .

آية 65 ـ (( فاختلف الأحزاب من بينهم )) الفرق المتحزّبة من بين النصارى، أو اليهود والنصارى من بين قوم المبعوث هو إليهم (البيضاوي). (( الأحزاب )) الفرق المتحزبة بعد عيسى، وقيل اليهود والنصارى. والضمير في (( من بينهم )) يرجع إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله: (( قد جئتـُكم بالحكمة )) وهم قومه المبعوث إليهم (الزمخشري). ونقول (( من بينهم )) تعود إلى اليهود الذين كان المسيح يخاطبهم (( فلا يتقون الله ولا يطيعون المسيح )) : لذلك (( فالأحزاب الذين ظلموا )) بكفرهم بالمسيح هم اليهود لا النصارى.

ـ 206 ـ

النص الثالث: سورة الأنبياء 91 ـ 103

يذكر القرآن الأنبياء الصالحين الذين أحسن الله إليهم بالنبوة، ويختم ذكر تلك الأمة المؤمنة بمسك الختام:

91 والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آيةً للعالمين.

92 إن هذه أمتكم أمّةً واحدةً، وأنا ربكم فاعبدون.

ــــــــــــــــ

آية 91 ـ أحصنت فرجها، أي مريم، إحصاناً كليّاً من الحلال والحرام جميعاً كما قالت: (( ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّا )) . (( فنفخنا فيها من روحنا )) معناه نفخنا الروح في عيسى وهو فيها أي أحييناه في جوفها (الزمخشري) وقيل فعلنا النفخ فيها من روحنا (البيضاوي) ـ راجع ما قلناه سابقاً في تفسير هذه الآية حيث يحتمل أن يكون الروح فاعل النفخ أو مفعول النفخ وهو الأصح كما يتضح من سورة النساء (( كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه )) فالملقى والمنفوخ هو روح الله أي روح عيسى.

(( آية للعالمين )) الإنس والجن والملائكة حيث ولدته من غير زوج (الجلالان) ولم يقل آيتين لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي الولادة مع البتولية.

آية 92 ـ فيها ثلاث قراءات: إن هذه أمتـُكم أمةً (حال)؛ وقُرئ أمتـَكم بالنصب على البدل من هذه وأمةٌ بالرفع على الخبر؛ وقرِئتا بالرفع على أنهما خبران. ومعناه أن ملة التوحيد أو الإسلام ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها غير مختلفة فيما بين الأنبياء ولا مشاركة لغيرها. (( أمة واحدة )) متحدة في العقائد وأصول الشرائع متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة (البيضاوي).

ـ 207 ـ

93 وتقطَّعوا أمرهم بينهم، كلٌّ إلينا راجعون.

94 فمن يعملْ من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وانّا له كاتبون ...

98 إنكم وما تعبدون من دون الله حَصَبُ جهنم أنتم لها واردون.

101 إن الذين سبقتْ لهم منا الحسنى، أولئك عنها مُبعَدون.

إنه لتعليم قيّم رائع عن شخصية المسيح: فهو روح الله نفخَهُ في مريم فصار مع أمه بهذا الحمْل والميلاد العجيب الفريد آيةً واحدةً للعالمين من الإنس والجنّ والملائكة. ولم يقل القرآن مثل هذا في أحد من الأنبياء والمرسلين من البشر أجمعين.

والمسيح وأمه من الأمّة المؤمنة المصطفاة بالنبوّة على العالمين، وختام الذرية النبوية المصطفاة بالتوحيد والإسلام: لقد سبقت لهم من الله الحسنى، وهم مبعدون عن جهنم التي يرِدُها ما يُعبد من دون الله؛ ولهم الحسنى في الآخرة أيضاً حيث لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة (103).

ــــــــــــــــ

آية 93 ـ نظن هذه الآية مدسوسة هنا إذ لا شيء في السورة يستدعيها، وتذكر جدلاً مع الكتابيين لا وجود له في مكة.

آية 98 ـ حصب جهنم أو حطب أو حضب جهنم ثلاث قراءآت أو ثلاث لغات (الزمخشري).

آية 101 ـ (( الحسنى )) السعادة أَو التوفيق للطاعة أو البشرى بالجنة (البيضاوي) ((إن الذين سبقت لهم الحسنى )) مَن ذُكر في السورة من الأنبياء (الجلالان).

ـ 208 ـ

النص الرابع: سورة المؤمنون 51 – 57

يختم بها ذكر الأنبياء من نوح إلى ابن مريم على السياق نفسه الذي في سورة الأنبياء.

51 وجعلنا ابن مريم وأمّه آية، وآويناهما على ربوة ذاتِ قرارٍ ومعين.

52 يا أيها الرُسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً، إني بما تعملون عليم.

53 وإن هذه أمتُكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقونِ.

ــــــــــــــــ

آية 51 يستعير هذه الكناية (( ابن مريم )) اسم علم له، إِشارة إلى أنه لا أبا له. (( ابن مريم وأمه آية )) يرى القرآن في المسيح وأمه آية واحدة لا تنفصل. (( لو قيل آيتين كان له وجه لأن مريم ولدت من غير مسيس، وعيسى روح من الله ألقي إليها وقد تكلم في المهد وكان يحيى الموتى مع معجزات أُخر فكان آية من غير وجه، واللفظ محتمل للتثنية )) (الزمخشري).

آية 52 (( يا أيها الرسل )) : نداء وخطاب لجميع الأنبياء على معنى أن كلاًّ منهم خوطب به في زمانه فيدخل تحته عيسى دخولاً أولياً فيكون ابتداء كلام ذكر تنبيهاً إلى أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة، وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم ! أو حكايةً لما ذكر لعيسى وأمّه عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا. وقيل النداء له ولفظ الجمع للتعظيم.

ـ 209 ـ

 

54 فقطَّعوا أمرهم بينهم زُبُراً، كل حزب بما لديهم فرحون...

يعتبر القرآن الكريم المسيح النبي الوحيد الذي جعله الله بين الأنبياء (( آية )) منه للناس، بل للعالمين جميعاً، كما جعله وحده بين كافة المرسلين (( مثلاً )) لبني إسرائيل والعالمين. ويعود فيعلنه مع أمه ختام الأمّة الموحِّدة المصطفاة. ويذكر لنا حداثة يسوع العجيبة في جنّة غناء على رابية فريدة. ويدعوه صريحاً أو تلميحاً إلى التنعّم بالطيبات، والملذات المباحة. والكلام في صيغة الخطاب إشارة إلى جعله مثلاً في ذلك.

ونظن هنا أيضاً أن الآية 54 مدسوسة لأنه لا جدال ولا وَصْف لجدالٍ مع الكتابيين الذين فرّقوا دينهم كُتُباً مختلفة؛ بل السورة كفها ذكر لقوم محمد وهم عن ذكرهم معرضون (71).

فالمسيح إذن بمولده وشخصه آية من الله ، ومعجزة للعالمين بحداثته.

ــــــــــــــــ

آية 54 ـ قطعوا أمر دينهم وجعلوه أدياناً مختلفة. (( زُبُراً )) قطعاً أي فرقاً، وقيل كتباً فيكون مفعولاً ثانياً ( البيضاوي ) أي صار لهم أديان مختلفة وكتب متفرقة. وهذه الآية مدسوسة على السورة لترفع عن أهل الكتاب المديح الذي يعود عليهم من أنبيائهم: فحديث السورة كله للقرشيين ذِكراً لهم (71).

ـ 210 ـ

النص الخامس: سورة الأعراف 156 – 158

الأعراف سورة مُتَبعّضة أي بعضها نزل بمكة وبعضها نزل في المدينة. ومما جاء في المدينة النصّ في (( النبي الأمّي )) المكتوب عنه في التوراة والإنجيل. وهذا المقطع يظهر عليه أنه مدسوس لأنه يقطع سياق الحديث في ذكر موسى ( 102 ـ 162 ) بحديث لا يمت إليه بصلة عن النبي الأمي (156 ـ 158) لا بل ينقضه: موسى يصلّي إلى الرب ويسأله أن يكتب له ولأمته هذه الحسنة أنهم (( هادوا )) إليه أي آمنوا به، فيجيبهُ الله: بلى سأكتبها للمؤمنين المتقين ! ثم أضافوا إلى جواب الله على دعاء موسى الدعوة إلى الإيمان بالنبي الأمي1 .

156 الذين يتبعون الرسول، النبي الأمّي؛ الذي يجدونه

ــــــــــــــــ

آية 156 ـ (( والنبي الأمي )) محمد (الجلالان) الذي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته (البيضاوي) ـ هذا هو تفسير اللقب لغة ً؛ أما اصطلاحاً عندهم فهو الذي لا يكتب ولا يقرأ الكتاب أي لا يؤمن به، إذن ليس من أهل الكتاب بل من (( الأمم )) الذين ليسوا في

ـــــــــــــــــــــــ

(1) أسباب عديدة تدعو إلى الاعتقاد بأن مقطع النبي الأمي مدسوس على النص : 1) إنه يقطع حديث موسى (102 ـ 162) بحديث غريب عنه عن النبي الأمي (156 ـ 158)؛ 2) في جواب الله على دعاء موسى تفاوت واختلاف: بلى سيكتب الله الحسنة للمؤمنين المتقين أمثال موسى، ثم يعقب بقوله : أولئك هم الذين يتبعون الرسول وينصرونه، فيكون موسى بعيداً عنهم جداً ! فهل يعقل أن يجيب الله على دعاء موسى بضرورة الإيمان بمحمد وهو وبعده بأكثر من ألفي سنة !! ثم أي حسنة تبقى لموسى ؟؟ 3) والزيادة ظاهرة من إضافة (( الإنجيل )) في جواب الله على دعاء موسى، فليس في دعائه ما يؤخذ منه أنه يَشْعر بمحمد أو الإنجيل. 4) والزيادة ملموسة في الأسلوب المختلف عن أسلوب السورة. 5) وأخيراً ما محل دعوة الناس إلى الإيمان بمحمد في قصة موسى ؟ (157).

ـ 211 ـ

مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحلُّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم أصرهم والأغلال ...

157 قل: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعاً ... فآمنوا بالله ورسوله، النبي الأمي، الذي يؤمن بالله وكلماته ( أو كلمته ) واتبعوه لعلكم تهتدون.

يقول ليست الحسنة في اتباع موسى بل في اتباع محمد، وليس الهدى في التهويد (هُدّنا إليك ) بل في نـُصْرة النبي الأمّي؛ أي في الإسلام. وقد سبقت النبوة عن النبي العربي في التوراة والإنجيل: فهذا دليل لهم ليؤمنوا به. ولهم دليل آخر على صحة رسالته وصدق نبوته هو إيمان النبي الأمي بكلمات الله ، وأخصها الإنجيل والتوراة، والأصح هو إيمانه (( بالله وكلمتِهِ )) عيسى ابن مريم؛ وبناءً على هذا الإيمان بالله والكتاب والمسيح يدعوهم إلى الاعتراف به وبرسالته.

ــــــــــــــــ

المحيط الحجازي سوى العرب المشركين: فأمّي هنا معناها عربي غير كتابيُ.

آية 157 ـ (( بالله وكلماته )) : ما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه. وقرئ ( وكلمته ) على الافراد، وهي القرآن أو أراد جنس ما كُلم به. وعن مجاهد: أراد (( عيسى ابن مريم )) ( الزمخشري والبيضاوي ) وهذا هو الأصح لأنه لا معنى لإيمان محمد بقرآنه !! فهذا بديهي !

ـ 212 ـ

النص السادس: سورة الأنعام 83 ـ 90

يفرد القرآن في هذه السورة ذكراً لإبراهيم (74) يختمه بتسمية الأنبياء المحسنين الصالحين من ذريته؛ ومن جملتهم عيسى. ويأمر القرآن محمداً أن يقتدي بهدى هؤلاء الأنبياء:

83 وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء، إن ربك حكيم عليم.

84 ووهبنا له إسحق ويعقوب: كلاّ هدينا ـ ونوحاً هدينا من قبل ـ ومن ذريته داود وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين.

85 وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين.

86 واسماعيل واليَسَع ويونس ولوطاً وكلاّ فضلنا على العالمين.

87 ومن آبائهم وذرياتهم وأخوانهم، واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم.

88 ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده. ـ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون.

ــــــــــــــــ

آية 84 ـ (( ونوحاً هدينا من قبل )) : نظنها مزيدة لأن الكلام على ذرية إبراهيم لا على أجداده.

آية 85 ـ هل أيوب من ذرية سليمان وداود وإبراهيم ؟

ـ 213 ـ

89 أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ـ فإن يكفر بها هؤلاء ( قريش ) فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين –

90 أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده. قل لا أسألكم عليه أجراً إنْ هو إلا ذكرى للعالمين.

في سورة الأعراف رأينا أن محمداً يدعو الناس جميعاً إلى الإيمان برسالته لأنه هو ونفسه يؤمن بالله والكتاب وعيسى كلمة الله. وهنا في الأنعام نرى القرآن يأمر النبي العربي أن يقتدي بهدى الأنبياء من ذرية إبراهيم الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة. وقد تحقق هدى الكتاب والحكم والنبوّة خاصة في التوراة والإنجيل على يد موسى وعيسى.

فدعوة القرآن، والإسلام الحق هما الاقتداء بهدى أنبياء الكتاب (90).

ــــــــــــــــ

آية 89 ـ (( أولئك الذي آتيناهم الكتاب )) يريد به الجنس و (( الحكم )) الحكمة أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق (( والنبوة، فإن يكفر بها ـ أي بهذه الثلاثة ـ هؤلاء )) يعني قريشاً (( فقد وكلنا بها ـ أي بمراعاتها ـ قوماً ليسوا بها بكافرين، هم الأنبياء المذكورون ومتابعوهم أو قيل هم الأنصار وأصحاب النبي أو كل من آمن به أو الفرس وقيل الملائكة )) (البيضاوي )؛ (( هؤلاء: أهل مكة ... قوماً ليسوا بها بكافرين هم المهاجرون والأنصار )) ! (الجلالان ). ونقول كلا ثم كلا إنما هم أنبياء أهل الكتاب الذين يذكرهم؛ فهل يُطلب من النبي أن يقتدي بهدى الانصار والمهاجرين ؟!! قال الزمخشري: هؤلاء يعني أهل مكة، (( قوما )) هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله (( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده أو بدليل وصل قوله )) فإن يكفر بها هؤلاء (( مما قبله )) . وجملة (( فإن يكفر ... )) اعتراضية.

آية 90 ـ (( أولئك )) الثانية بدل من الأولى. فاختص هداهم بالاقتداء ولا تقتد إلا بهم والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده )) ( الزمخشري ).

ـ 214 ـ

النص السابع: سورة الشورى 13 – 16

تقصد هذه السورة إلى تبيان مواصلة الوحي من نوح إلى محمد كما ورد في مطلعها: (( حم عِسَق، كذلك يوحي إليك، وإلى الذين من قبلك، الله العزيز الحكيم )) . استعظم المشركون دعوة القرآن إلى التوحيد مع أنه هو الدين الذي وصّى به الله الأنبياء جميعاً:

13 شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه ! كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ! الله يجتبي إليه مَن يشاء ويهدي إليه مَن ينيب.

14 وما تفرَّقوا إلا من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم! ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمَّى لقضي بينهم؛ وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب.

ــــــــــــــــ

آية 13 ـ (( والذي أوحينا إليك )) اعتراضية وربما مزيدة. (( كبر على المشركين ما تدعوهم إليه )) من التوحيد (البيضاوي).

آية 14 ـ يرى الزمخشري أن هذه الآية تقصد أهل الكتاب: فالذين (( تفرقوا )) هم أهل الكتاب بعد أنبيائِهم، (( وان الذين أُورثوا الكتاب من بعدهم )) هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول ص. )) والبيضاوي يرى ذلك

ـ 215 ـ

15 فلذلك فادعُ واستقم كما أُمرتَ، ولا تتبع أهواءَهم، وقلْ آمنتُ بما أنزل الله من كتاب ! وأُمرتُ لأَعدل بينكم. الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير )) .

الخطاب موجه إلى المشركين (( كبُر على المشركين ما تدعوهم إليه )) من التوحيد، الذي شرعه الله وكرز به جميع الأنبياء من نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد: شرع الله التوحيد وشرع اتفاق الكلمة فيه.

تفرَّق المشركون، وشك الكتابيون. فأجاب المشركين: (( فلذلك ( التوحيد ) فادعُ واستقم كما أُمرت ولا تتّبع أهواءَهم )) ؛ وأجاب الكتابيين: (( وقل آمنتُ بما أنزل الله من كتاب )) فلا تشكوا فيَّ وفي تعليمي.

فالمسيح في هذا المقطع حلقة من سلسلة أنبياء التوحيد، يؤمن به محمد وبكتابه كما يؤمن بموسى وتوراته وإبراهيم وصحفه. وهكذا ترى في هذه السور الثلاث الأعراف والأنعام والشورى أن منزلة المسيح الفريدة كما شاهدناها في مريم والأنبياء والمؤمنين تتدنّى إلى رتبة باقي الأنبياء والمرسلين، لتعود فتسمو مع السور المدنية الأولى.

ــــــــــــــــ

ويرى أنها تعني أولاً (( الأمم السالفة أو قيل أهل الكتاب، وأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم يعني أهل الكتاب في عهد الرسول، أَو المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب )) . ـ لذلك إذا قُصِد بهذه الآية أهل الكتاب (( وما تفرَّقوا )) فنحن نراها مزيدة هنا لتجمّع الكتابيين إلى المشركين في رفض توحيد القرآن. والأفضل أن نرى أن الضمير في (( تفرقوا )) يعود إلى المشركين الذين يخاطبهم في 13 فيكون المعنى: إن المشركين تفرقوا عن محمد وتعليمه والكتابيين شكوا.

آية 15 ـ جواب للمشركين على كفرهم ثم للكتابيين على شكهم به.

ـ 216 ـ

النص الثامن: سورة البقرة 86، 136 ـ 138، 253

لم يقم في مكة جدال بين محمد وأهل الكتاب، بل يظهر النبي العربي في ذلك العهد كأنه واحد منهم، حتى أنه لما نشب خلاف في آخر تلك المدة شجبه بشدّة: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أنزِل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون. وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ( بالقرآن ) ومن هؤلاء ( أهل مكة ) مَن يؤمن به، وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون ( مشركو مكة ) ... بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ( أهل الكتاب ) وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ( المشركون ) )) ( عنكبوت 46 ـ 49 ). ـ لا جدال بينهم فالله واحد والإيمان بالكتاب والقرآن واحد، ودين التوحيد واحد.

في المدينة ظهر الخلاف شيئاً فشيئاً، وهو خلاف لا على الدين والتوحيد بل على الرئاسة1 والمِلّة، أو الطائفية كما نقول في عصرنا؛ فاختلف اليوم سياسياً أصحاب الأمس: ((ولن ترضى عنك اليهود ـ ولا النصارى ـ حتى تتّبع ملتهم )) ( بقرة 120 ). وكان الخلاف طيلة العهد المدني بين محمد واليهود، ولم يشمل النصارى إلا في آخره، في سورة التوبة، بعد غزوات النبي إلى شمال الجزيرة حيث كانت أكثرُ مواطن العرب النصارى. ومن ثمّ نرى في سورة البقرة:

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ينسب هذا الخلاف إلى (( بغي )) المختلفين ( آل عمران ) حسداً بينهم وطلباً منهم للرئاسة وحظوظ الدنيا واستتباع كل فريق ناساً يطئون أعقابهم لا شبهةً في الإسلام (الزمخشري).

ـ 217 ـ

أولا: حملة القرآن الأولى على اليهود: (( وآمنوا بما أنزلتُ مصدّقاً لما معكم ولا تكونوا أوّل كافر به )) ( بقرة 41 ). ويعدّد لهم مظالمهم. ومنها تكذيب الرسل وقتلهم.

87 (( ولقد آتينا موسى الكتاب، وقفينا من بعده بالرسل،

ــــــــــــــــ

آية 87 ـ قال الجلالان: (( البينات: المعجزات كإِحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ( وأيدناه ) قويناه ( بروح القدس ) من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الروح المقدسة جبريل، لطهارته يسير معه حيث سار )) . وقال البيضاوي: (( و ( عيسى ) بالعبريـة (( إيسوع )) ( ؟ ) ومريم بمعنى الخادم ( ؟ ). ( البينات ) المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والاخبار بالمغيبات، أو الإنجيل. ( وأيدناه أو آيدناه ) قويناه ( بروح القدس ) وقرأ ابن كثيّر (( بروح القدْس )) بالإسكان في جميع القرآن، أي بالروح المقدسة، أراد به جبريل، أو روح عيسى ـ ووصفها به لطهارته من مس الشيطان أو لكرامته على الله تعالى ولذلك أضافها إلى نفسه تعالى أو لأنه لم تضمّه الأصلاب ولا الأرحام الطوامث ـ أو الإنجيل، أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى ! (( ففريقاً كذبتم )) كموسى وعيسى، والفاء للسببية أو التفصيل (( وفريقاً تقتلون )) كزكريا ويحيى. وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية اسـتحضاراً لها في النفوس أو للدلالة على استمرارها ومراعاة للفواصل )) .

قال الزمخشري: (( وقيل ( عيسى ) بالسريانية أيشوع و ( مريم ) بمعنى الخادم. (البينات ) المعجزات الواضحات والحجج كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والإخبار بالمغيّبات. ( بروح القدس ) أي بالروح المقدسة ـ ووصفها بالقدس كما قال، (( وروح منه )) فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة، وقيل لأنه لم تضمّه الأصلاب ولا أرحام الطوامث ـ وقيل بالإنجيل كما قال في القرآن (( وروحاً من أمرنا )) ؛ وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يُحيي الموتى بذكره )) .

ـ 218 ـ

وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيّدناهُ بروح القدْس: أفكلما جاءَكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ؟! ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون ! )) .

ــــــــــــــــ

قال الرازي: (( ابن مريم )) إن مريم في لغتهم العابدة؛ (( وأيدناه بروح القدس )) : فيه مسألتان ( المسألة الأولى ) (( القدس )) تثقّله أهل الحجاز وتخففه تميم، ( المسألة الثانية ) في تفسيره أقوال: الأول قال الحسن: القدس هو الله تعالى، وروحه جبريل عليه السلام: والذي يدل على أن روح القدس جبريل عليه السلام قوله تعالى: (( قال نزَّله روح القدس )) والرازي على هذا الرأي؛ والقول الثاني وهو المنقول عن ابن عباس: إن روح القدس هو الاسم الذي كان يُحيي به عيسى عليه السلام الموتى؛ والقول الثالث وهو قول أبي مسلم: إن روح القدس الذي أيده به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وأبانه بها عن غيره ممن خَلَق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى )) ( راجع تفسيره للآية 253 الآتية ) وفي غير موضع: وكان جبريل عليه السلام لا يفارقه ساعة وهو معنى قوله: (( وأيدناه بروح القدس )) (54).

ـ ونقول: قال بعضهم ذهب محمد ولمّا يدْرِ ما الروح؛ وكذلك مفسّرو القرآن: فليس روح القدس روح عيسى التي نفخها الله تعالى فيه كما قال أبو مسلم: فالتأييد للمسيح بالروح القدس حاصل له بعد وجوده، فالروح القدس إذن غير روح عيسى؛ وهب أن ما زعم حقّ فلن يبقى في الآية نكتة من اختصاص عيسى بميزة فضّله الله بها على غيره (87)، وهو يذكرها أيضاً حيث يذكر فضائل الأنبياء بأفضال الله عليهم (253)؛ وليس هو جبريل ـ وقد سموه كذلك على المشاكلة تشبيهاً له بحال محمد مع الموحي إليه ـ ولو ورد اسم جبريل موصوفاً بروح القدس في قوله (( قل نزَّله روح القدس )) فهي هنا صفة ظاهرة لجبريل الموحي إليه، وأما عن المسيح فهي اسم ذات غيرهما. والمعلوم

ـ 219 ـ

يذكر هذا المقطع الأول من سورة البقرة للسيد المسيح ميزتين اختص بهما: إتيان الله إياه البيّنات أي المعجزات الواضحات التي لا مثيل لها، وتأييد الله له بالروح القدس ممّا لم يفعله مع غيره من الأنبياء. ويظهر ذلك جليّاً في الآية 253 من سورة البقرة ذاتها حيث يؤكّد هذه الميزات والخصائص للمسيح في باب مفاضلة الأنبياء1 .

ــــــــــــــــ

من التوراة والإنجيل والقرآن إن الملائكة كانت واسطة الوحي بين الله والأنبياء، فتخصيص المسيح بتأييد جبريل لا يفيد معنى التخصيص المطلوب وتفوت النكتة المقصودة؛ وليس هو الإنجيل، فهو غير وارد، أو غير معقول إذ يصير روح القدس فاعلاً ومفعولاً معاً، والإنجيل مؤيِّداً ومؤيّداً. ـ فروح القدس إذن الذي به أيّد الله المسيح هو ذاتٌ قائمة بنفسها غير ما ذُكر: وهي (( روح الله )) كما قال الحسن، (( والذي كان يُحيي به عيسى الموتى )) كما قال ابن عباس. فالروح القدس هو (( الاسم الأعظم الذي كان يحيي به عيسى الموتى )) ويصنع المعجزات.

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال الزمخشري ( بقرة 253 ) : (( وما قوله : وآتينا عيسى ابن مريم البينات )) فإنما اختار لفظ المخاطبة لأن الضمير في قوله (وآتينا) ضمير التعظيم، وتعظيم المؤتي يدل على عظمة الإيتاء ـ لِمَ خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما ؟ والجواب سبب التخصيص إن معجزاتهما أبهر وأقوى من غيرهما ـ وتخصيص عيسى ابن مريم بإيتاء البينات يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره ، أو خصّهما بالذكر لأن تلك البيّنات أقوى عنده من غيره )) . على هذا يورد الزمخشري قول مَن قال : إن بينات موسى أقوى من بينات عيسى فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة ! ـ وهل في معجزات موسى ما يداني إحياء الموتى والمقدرة على الخلق وهما من خصائص الخالق ؟ لذلك خص القرآن المسيح وميزه على سائر الأنبياء (( بالبينات وتأييد الروح القدس )) .

ـ 220 ـ

ثانياً: يورد القرآن في نص جوهري أسباب الخلاف بين محمد واليهود:

135 وقالوا: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ! ـ بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.

136 قولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزِل إلى إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم: لا نفرق بين أحد منهم ! ونحن له مسلمون.

137 فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيهم الله وهو السميع العليم.

ــــــــــــــــ

آية 135 ـ كان إبراهيم في السورة المكية مؤمناً، فصار في البقرة حنيفاً، وفي آل عمران يكون مسلماً (67): فالخلاف على الملّة وأيهم أحق بالانتساب إلى إبراهيم.

آية 136 ـ الخلاف أيضاً على نبوّة إسماعيل وعيسى: فالقرآن يؤمن ليس فقط بالأنبياء الذين يقبلهم اليهود بل أيضاً بالذين لا يقبلونهم مثل عيسى نبي النصارى واسماعيل نبي العرب الأقدمين: لا يفرّق بين أحد منهم فكلهم في توحيد الإسلام سواء.

آية 137 ـ (( بمثل ما آمنتم به )) : المعنى إن تَحرّوا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم فقد اهتدوا فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدّد الطرق و (( المثل )) مقحم كما في قوله (( وشهد شاهد من بين إسرائيل على مثله )) أَي عليه؛ ويشهد له قراءة (( بما آمنتم به أو الذي آمنتم به )) ( البيضاوي ).

(( فإنما هم في شقاق )) في خلاف ( الجلالان ) أي في مناوأَة ومعاندة لا غير

ـ 221 ـ

138 صبغة الله ! ومن أحسن من الله صبغة ؟ ونحن له عابدون.

ــــــــــــــــ

( الزمخشري ) لاحظ أنه لا يقول في كفر. والآية 139 تبين أن الخلاف في طريق العبادة ليس خلافاً في الدين والتوحيد.

آية 138 ـ (( صبغة الله )) مصدر مؤكد منتصب عن قوله (( آمنا بالله )) وهي فعلة من ( صَبَغ ) كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ. والمعنى تطهير الله بالإيمان لأن الإيمان يطهّر النفوس. والأصل فيه أن النصارى يغمسُون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم، وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال: الآن صار نصرانياً حقاً ! فأمر المسلمين أن يقولوا لهم: آمنا بالله وصبغنا الله بالإيمان صبغةً وطهرنا به تطهيراً. وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة ( ومَن أحسن من الله صبغةً ) يعني أنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهّرُهم به من أوضار الكفر فلا صبغة أحسن من صبغتِهِ ( الزمخشري ).

وقال البيضاوي: (( أي صبغنا الله صبغته أو هدانا هدايته أو طهّر قلوبنا بالإيمان تطهيره. وسماه ( صبغة ) لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغِ الثوبَ. أو للمشاركة فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهر لهم وبه تتحقق نصرانيتهم. ونصبها على أنها مصدر مؤكد لقوله آمنا، وقيل على الإغراء وقيل على البدل من ملة إبراهيم )) .

ويظهر لي أن هذه الآية مزيدة هنا من وقت آخر لأن اقحامها فيه سبب تفكيك للنظم وسوء الترتيب وإخراج الكلام عن التئامه وانتساقه ( راجع الزمخشري )، فإن الحديث كله (136 ـ 141 ) جواب لليهود، وليس فيه جواب للنصارى، فاقحمتْ جواباً لهم: صبغةُ الله بالإيمان أفضل من صبغة العبد بالماء !

ـ 222 ـ

139 قل: أتحاجونا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون.

140 أم تقولون: إن إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى ؟ قل أنتم أعلم أم الله ؟ ومَن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عمّا تعملون.

141 تلك أُمّةٌ قد خلت لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم ولا تُسْئَلون عمَّا كانوا يعملون.

تعود أسباب الخلاف بين محمد واليهود إلى أربعة ( وفي آل عمران تتسع إلى

ــــــــــــــــ

آية 139 ـ تورد سبباً ثالثاً وهو على عبادة الله: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. يقول: الله واحد، وهو ربنا وربكم، وإن اختلفت طرق العبادة، (( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم )) إذ ليس من الضروري لصحة الدين والإيمان والتوحيد توحيد طرق العبادة. وقد يكون الخلاف على ادعاء ضرورة اليهودية أو النصرانية على الأنبياء فلا يكون نبياً من غيرهم: الكل عنده سواء فهو يصطفي من يشاء.

آية 140 ـ تورد سبباً رابعاً للخلاف: صحة انتساب كل ملة من الثلاث إلى إبراهيم، فليس انتساب النصارى واليهود إلى الآباء بأصح من انتساب المسلمين لأنهم كما يقول كانوا قبل الإنجيل والتوراة، وعيسى وموسى.

آية 141 ـ ختام الجدال: على كل حال ليس الانتساب في صحة النسب بل في صحة الإيمان والعمل: لهم ما كسبوا ولنا ما نكسب فلا تزر وازرة وزر أخرى.

ـ 223 ـ

تسع اختلفوا على صحة انتساب كل ملة منهم إلى إبراهيم (135 و 140) ومَن أولى بهذا الانتساب. واختلفوا في قبول نبوة عيسى نبي النصارى، ونبوّة اسماعيل نبي العرب الأقدمين، فالقرآن يقبل جميع الأنبياء على السواء (( لا نفرق بين أحد منهم )) . واختلفوا في طريقة عبادة الله، بأي شرع يجب أن يُعْبد؛ قالوا بشريعة موسى أو عيسى، فقال ليس من الضروري لصحة التوحيد توحيد طرق العبادة فالله ربنا و ربكم و لنا أعمالنا و لكم أعمالكم فليس الاختلاف في طريقة العبادة شيئاً. وانكروا على محمد نبوّته قائلين: الأنبياء كلهم منا فلو كنتَ نبياً لكنتَ منا، فأجاب لا اختصاص لله بقوم دون قوم يصيب برحمته من يشاء.

وهكذا يؤيد القرآن صحة رسالة المسيح ضد اليهود.

 

ثالثاً: ويختم بمفاضلة القرآن بين الأنبياء وفضل عيسى على غيره (253)

253 تلك الرسل، فضَّلنا بعضهم على بعض: منهم مَن كلَّم اللهُ، ورفع بعضهم درجات، وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس. ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات.

ــــــــــــــــ

آية 253 ـ (( فضلنا بعضهم على بعض )) تقرير مبدإِ التفضيل (( بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره )) ( الجلالان والبيضاوي ) (( منهم مَن كلم الله )) وقرئ مَن كلّمَ الله أو كالَمَ الله ، وهو موسى، وقيل موسى ومحمد، ولكن كيف رأوا فيه محمداً وكيف رأوه أيضاً في الثانية ((ورُفـْع بعضهم درجات )) ؟ فمن هو هذا المرفوع درجات على غيره؟ قيل هو محمد وقيل إبراهيم خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب، وقيل ادريس عليه السلام لقوله (( ورفعناه مكانا عليّاً )) وقيل أولو العزم من الرسل؛ وفي حديث عن ابن عباس أنه يحيى. وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) خصه بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى

ـ 224 ـ

يقر هنا مبدأ المفاضلة بين الأنبياء، فيخصّ كلاً منهم بمنقبة ليست لغيره ( البيضاوي والجلالان ): خصَّ موسى بتكليمه ومشافهته؛ وخصّ غيره ( مَنْ ؟ ) برفعه على سواه درجات؛ وخص المسيح بالبينات (( وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره )) ( البيضاوي ) وإن عمّتِ البيّنات جميع الأنبياء (( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءَتهم البينات )) وخصّه أيضاً بتأييد الروح القدس، ولم يذكر القرآن هذا التأييد السماوي الخاص لغير المسيح.

فقد أبان القرآن وجه تفضيل موسى، بالتكليم، ووجه تفضيل عيسى بالبينات وتأييد الروح القدس. وجعل تأييدَ الروح القدس للمسيح سبب المعجزات العظيمة التي لم يستجمعها غيره ( البيضاوي ) وهذا دليل بيّن على أنَّ مَن زيد تفضيلاً بينهم بالآيات فقد فضل على غيره ( الزمخشري )؛ ومَن زيد تفضيلاً بالآيات مثل المسيح ؟

ــــــــــــــــ

في تحقيره وتعظيمه، وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره )) ( البيضاوي ). وهذا التفسير ينقض زعم من قال مع الزمخشري: ((تخصيص عيسى ابن مريم بإيتاء البينات يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره، ومعلوم أن ذلك غير جائز. فإن قلتم إنما خصهما بالذكر لأن تلك البينات أقوى ! فنقول إن بينات موسى عليه السلام أقوى من بينات عيسى عليه السلام فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة )) ( آية 253 ) ـ فنجيب أن تخصيص عيسى بالبينات مع تعميمها على سائر الأنبياء يوحي بأن بيناته أقوى حتى اختص بها كما قال البيضاوي.

وقال الرازي (( إن الضمير في قوله (( آتينا )) ضمير العظيم وتعظيم المؤتي يدل على عظمة الإيتاء وقد خص عيسى وموسى بالذكر مما يدل على أنهما أفضل من غيرهما )) . وقال الزمخشري: (( خصص عيسى وموسى من بين الأنبياء بالذكر لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ولقد بيّن وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهذا دليل بيّن أن مَن زيد تفضيلاً بينهم بالآيات فقد فُضل على غيره )) .

ـ 225 ـ

النص التاسع: فاتحة آل عمران

قال ابن اسحاق: لمّا قدم أهل نجران على رسول الله ص. يسألونه عن عيسى بن مريم نزلت فيهم فاتحة آل عمران إلى الثمانين منها. وحضر اليهود المناظرة واشتركوا فيها. فكان ما يسميه حسين هيكل (( مؤتمر الأديان الثلاثة في المدينة )) .

أولاً: يذكر خلاف محمد واليهود على (( أن الدين عند الله الإسلام ))

18 شهد الله أنه لا إله إلاَّ هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

19 إِن الدين عند الله الإسلام. وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاَّ من بعد ما جاءهم العِلمُ بغياً بينهم: ومَن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب.

ــــــــــــــــ

آية 18 ـ (( أولو العلم )) هم أهل الكتاب لمعرفتهم الوحي، كما أنه يسمّي المشركين ((الذين لا يعلمون )) لأنهم لا يعرفون الكتاب.

آية 19 ـ (( الذين أوتوا الكتاب )) من اليهود والنصارى ( الجلالان والبيضاوي والزمخشري ) . وعندي إنه يقصد هنا اليهود وحدهم إذ خصهم بقتل الأنبياء (21). (( إن الدين عند الله الإسلام )) : الشرع المبعوث به الرسل المبني على التوحيد ( الجلالان ). (( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب )) في دين الإسلام فقال قوم إنه حق وقال قوم إنه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقاً. أو في التوحيد )) ( البيضاوي ). وأضاف الزمخشري (( هو اختلافهم في

ـ 226 ـ

20 فإن حاجّوك فقل: أسلمتُ وجهي لله ومَنِ اتّبعنِ. وقل للذين أوتوا الكتاب والأميّين: ءَأَسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولّوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد.

21 إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم.

إن أهل الكتاب الذين يختلف محمد معهم (19) هم اليهود وحدهم بدليل قوله إنهم ((يقتلون النبيين بغير حق )) (21) ولم يكن ليفعله النصارى إذ لا نبي عندهم بين المسيح وأحمد الذي يتكلم. والخلاف ليس على التوحيد، فإنهم، وهم (( أولو العلم )) شهدوا به مع الله والملائكة (18) بل على الإسلام أي الشرع المبعوث به محمد مبْنيّاً على التوحيد (19) أي على طريقة عبادة الله.

ويجيبهم على محاججتهم: ليس الشرع بضروري للتوحيد، بل الأصل في الإيمان والدين هو التوحيد (( فإن حاجوك فقل أسلمتُ وجهي لله ومَنِ اتبعنِ )) يعني (( إن ديني دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي وما جئتُ بشيء بديع حتى تجادلوني فيه )) ( الزمخشري ).

ــــــــــــــــ

نبوة محمد وقيل هو اختلافهم في الإيمان بالأنبياء )) . وعندي إن موضوع الخلاف ظاهر: هو وعلى الإسلام (19) لا على التوحيد (18) إذن هو على طريقة عبادة الله الأحد أي على شرع أو دين الإسلام لا على عقيدة الإسلام أو توحيده.

آية 20 ـ (( الأميين )) الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب ( الزمخشري ) ومنه النبي الأمي.

ـ 227 ـ

ثانياً: بشارة امرأة عمران بمريم (33 ـ 37)

33 إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين.

34 ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.

35 إذ قالت امرأة عمران: ربِّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم.

36 فلما وضعتها قالت: ربّ إني وضعتها أنثى، والله عليم بما وضعتْ، وليس الذكر كالأنثى. وإني سميتها مريم. وإني أُعيذها بك وذريَّتها من الشيطان الرجيم.

37 فتقبَّلها ربّها بقبول حسن. وأَنبتها نباتاً حسناً. وكفَّلها زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً، قال: يا مريم أنَّى لكِ هذا قالت هو من عند الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب.

ثالثاُ بشارة زكريا بيحيى: آل عمران (39 – 41)

39 فنادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب: إن الله

ــــــــــــــــ

آية 39 ـ آل عمران (( مصدقاً بكلمة من الله )) أي بعيسى سمّي بذلك لأنه وُجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر. أو بكتاب الله ( البيضاوي ). (( يحيى اسم عجمي، وهو الظاهر، مُنع صرفه

ـ 228 ـ

يبشرك بيحيى، مصدِّقاً بكلمة من الله ، وسيداً، وحصوراً، ونبيّاً، من الصالحين.

ــــــــــــــــ

للتعريف والعجمة. ( مصدقاً بكلمة من الله ) مصدّقاً بعيسى مؤمناً به، قيل هو أوّل من آمن به، وسمّي عيسى كلمة لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها وهي قوله: (( كن ! )) من غير سبب آخر. وقيل مؤمناً بكتاب منه تعالى )) ( الزمخشري ).

وقال الرازي (( كلمة من الله: أي كتاب من الله وهو قول أبي عبيدة، واختيار الجمهور أنَّ المراد بكلمة من الله هو عيسى. وقال ابن عباس إن يحيى كان أكبر سناً من عيسى بستة أشهر وكان يحيى أول من آمن وصدّق بأنه كلمة الله وروحه ثم قُتل يحيى قبل رفع عيسى. وسمي عيسى كلمة الله من وجوه: 1) إنه خلق بكلمة الله وهو قوله كن من غير واسطة الأب كما يسمّى المخلوق خلقاً وهو باب مشهور في اللغة؛ 2) إنه تكلّم في الطفولية وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية فكان في كونه متكلماً بالغاً مبلغاً عظيماً فسمّي كلمة أي كاملاً في الكلام؛ 3) إن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية كما سمي القرآن روحاً؛ 4) لأنه حقق كلمة بشارة الأنبياء به كما قال وحقق كلمة ربك؛ 5) إن الإنسان يسمّى (( فضل الله ولطف الله )) فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العَلَم (( كلمة الله )) و (( روح الله )) . واعلم أن كلمة الله هي كلامه؛ وكلامه على قول أهل السنة (( صفة قديمة قائمة بذاته )) . والرازي يرفض المعنى الأخير لأنه يستحيل أن يقال إن كلمة الله القائمة بذاتها هي ذات عيسى؛ ولا نعلم لماذا يستحيل ذلك و الله هو الموحي به ! وأضاف في آل عمران 45: سمّي كلمة الله كأنه صار عين كلمة الله الخالقة له بوجوده المعجز، أو لأنه أبان كلمة الله أفضل بيان.

ـ 229 ـ

في هذه الآية ينعت القرآنُ يحيى بخمس صفات، أوّلها إنه آمن (( بكلمة الله )) وهو عَلَم للمسيح. فهنالك في المحراب (37) أي في الهيكل، لما رأى زكريا ذلك ( أي المعجزة في شأن مريم )، وعلم أن القادر على الإتيان بالشيء في غير وقته قادر على الاتيان بالولد على الكبر، دعا ربّه، (( فنادته الملائكة ان الله يبشرك بيحيى مصدّقاً بكلمة كائنة من الله ، أي بعيسى أنه روح الله ـ وسمّي كلمة لأنه خُلق بكلمة: كن ! )) ( الجلالان ). ـ ونقول: إن

ــــــــــــــــ

(( سيّداً )) . قال القاضي: هو المتقدّم المرجوع إليه في الدين فيدخل فيه جميع الصفات؛ وقال الزمخشري: السيد هو الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف وكان يحيى فائقاً لقومه و فائقاً للناس كلهم في أنه لم يركب سيّئة قط. (( حصوراً )) لا بمعنى المفعول بل بمعنى الفاعل وهو اختيار المحققين، وهو الذي لا يأتي النساء للعفة والزهد لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها. (( احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل وذلك لأنه تعالى مدحه بترك النكاح )) ( الرازي )؛ 45 ـ 47 سبق تفسيرها: إن الملاك يصف لمريم شخصية مولودها الفريدة: أربعة ألقاب تعنيه: كلمة منه تعالى ـ اسمه المسيح ـ عيسى ـ ابن مريم؛ وأربع صفات تظهره: وجيهاً في الدنيا بالنبوة وفي الآخرة بالشفاعة ـ ومن المقربين في السماء بالجلسة ومشافهة الحق ـ ويكلّم الناس في المهد كلام النبوة كما يكلمهم كهلاً ـ ومن الصالحين الكاملين الخالدي الذكر. قال الزمخشري: (( لِمَ قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وهذه ثلاثة أشياء الاسم منها عيسى، وأما المسيح والابن فلقب وصفة ؟ ـ الاسم للمسمّى علامة يعرف بها ويتميّز بها من غيره فكأنه قيل الذي يُعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة )) كذلك الرازي والبيضاوي. ـ نقول حلّت هذه الألقاب والنعوت محل الاسم لشهرتها ومعرفته بها .

لاحظ في النص تعبيره (( بكلمة منه )) : فقوله منه يدل على المصدر الذي

ـ 230 ـ

قولهم (( بأن عيسى روح الله وكلمة الله الكائنة من الله ( الجلالان ) الصادرة من الله بدون توسط أصل ( البيضاوي )، وأنه خُلق بأمر الله : كن ! )) قولٌ فيه تناقض إذ كيف يمكن لروح الله وكلمة الله، أن يُخلق خلقاً !؟ .. إنه لا يخلق خلقاً بل يصدر صدوراً. إذ إن (( كلمة الله ـ كما تقول السنّة ـ صفة قديمة قائمة بذات الله )) ( الرازي )؛ (( وعيسى عليه السلام كان اسمه العلم ( كلمة الله ) و ( روح الله ) )) ( الرازي ). ويشهد القرآن أن أول من آمن بالمسيح أنه كلمة الله وبشر بذلك هو يحيى بن زكريا (( الذي لم يعمل خطيئة ولم يهم بها )) .

رابعاً: عزلة مريم في الهيكل (42 ـ 44)

42 وإذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله اصطفاكِ وطهَّركِ واصطفاك على نساء العالمين.

 

43 يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين

44 ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنتَ لديهم إذ يلقون أقلامهم أَيهم يكفل مريم وما كنتَ لديهم إذ يختصمون.

خامساً: بشارة مريم بالمسيح ( يوردها القرآن في آل عمران بعد أن قصّها في سورة مريم ).

ــــــــــــــــ

صدر منه الكلمة لا على التبعيض كما يُظن ودحضه الرازي؛ وليس فقط كما يقول هو لابتداء الغاية فكل أرواح المخلوقين يصح فيها (( من )) الابتدائية، والمسيح اختص دونهم بهذا الصدور. ولو كان هذا التعبير (( كلمة منه )) تعني خلق المسيح بأمر الله ، لصح أن يطلق هذا الاسم على جميع المخلوقين لأنهم كلهم خلقوا بأمر الله. ولكن انفرد المسيح بهذا اللقب، وسمّاه القرآن بهذا الاسم بسبب ميزة الصدور الوحيدة التي بها صدر (( من )) الله كروحه وكلمته.

ـ 231 ـ

45 إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ـ وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقربين.

46 ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين.

47 قالت أنّى يكون لي ولد ولم يمسَسْني بشر؟ قال: كذلك! الله يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن! فيكون.

48 ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.

49 ورسولاً إلى بني إسرائيل: أني قد جئتُكم بآية من ربكم، أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله. وابرِئ الأكمه والأبرص.

ــــــــــــــــ

آية 48 ـ فيها قراءَتان: يُعلمه أو نُعلمه. (( والكتاب، الكتبة أو جنس الكتب المنزلة، وخص الكتابان لفضلهما )) ( البيضاوي )؛ والرازي على التفسير الأول وهو بعيد الاحتمال. وإنما عنى أولا جنس الكتاب المنزل والحكمة المنزلة ثم خص الكتابان.

آية 49 ـ (( ورسولاً )) على مَ تُحمل؟ (( هو من المضائق )) ( الزمخشري )، ((منصوب بمضمر أو بالعطف على الأحوال المتقدمة )) ( البيضاوي ).

(( إلى بني إسرائيل )) وتخصيصهم لخصوص بعثته إليهم. (( قد جئتكم بآية )) المراد الجنس لا الفرد.

ـ 232 ـ

وأحيي الموتى بإذن الله. وأنبئُكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم: أن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.

50 ومصدّقاً لما بين يدي من التوراة، ولأُحلّ لكم بعض الذي حُرِّم عليكم. وجئتكم بآية من ربكم ـ فاتقوا الله وأطيعون ـ :

ــــــــــــــــ

(( أخلق لكم )) جميع المفسرين يخففون من قوة اللفظ في تفسيرهم فيقولون (( أقدّر لكم شيئاً مثل صورة الطير )) والخلق هو التصوير والتقدير وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقاً بالتقدير )) ( الرازي و الزمخشري والبيضاوي ) . ـ نقول يجب حمل اللفظ على معناه الأصلي البديهي لا أن نتحامل عليه ونتمحّل له ما نريد؛ ومقدرته على (( إحياء الموتى )) تؤيد حمل الخلق على إطلاقه.

(( إنه حكى ههنا خمسة أنواع من معجزات عيسى. وروي أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى مَن أطاق منهم أتاه ومَن لم يطق أتاه عيسى، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده )) ( البيضاوي )؛ فأبرأ في يومٍ خمسين ألفاً بالدعاء، بشرط الإيمان )) ( الجلالان ). والمفسرون يمرون مرور الكرام على (( إحياء الموتى )) ومدلولها العجيب.

50 ـ (( وجئتكم بآية من ربكم )) شاهدة على صحة رسالتي وهي (( إن الله ربي وربكم )) لأن جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه. وقرِئَ على الفتح ( أن ) على البدل من آية. وقوله (( فاتقوا الله وأطيعون )) اعتراض ...

ـ 233 ـ

51 إن الله ربي وربكم فاعبدوه: هذا صراط مستقيم.

في هذا النص الرئيسي من المسيح يذكر القرآن ولادته المعجزة من مريم بخلق مباشر فيها دون واسطة أب، ودون واسطة معجزة كعمل الملاك؛ ويقرّر في ألقاب أربعة وأوصاف أربعة شخصية مولود مريم الفريدة، ولم يخص القرآن أحداً قط من الأنبياء بمجموع هذه النعوت ولا بمثل سموّها؛

ويدل على عظمة وحيه إنه تعلّم مباشرة من الله ، الوحي كلّه، ما سبقه وما نزل عليه: فكأنه جمع الوحي فيه.

وذكر خمسة أنواع من معجزات عيسى منها ما اشترك به مع غيره من الأنبياء مثل الإبراء والإنباء بالغيب؛ ومنها ما انفرد به على جميع المرسلين كالمقدرة على الخلق وإحياء الموتى وهما من خصائص الخالق.

ويختم بذكر موضوع رسالته: تصديق التوراة تخفيف بعض أحكامها ثم التبشير بالتوحيد من جديد.

ــــــــــــــــ

ومصدّقاً لما بين يديّ من التوراة )) : يجب على كل نبي أن يكون مصدقاً لجميع الأنبياء عليهم السلام، لأن الطريق إلى ثبوت نبوّتهم هو المعجز، فكل من حصل له المعجز وجب الاعتراف بنبوته فلهذا قلنا بأن عيسى عليه السلام يجب أن يكون مصدقاً لموسى بالتوراة؛ ولعلّ من جملة الأغراض في بعثة عيسى إليهم تقرير التوراة وإزلة شبهات المنكرين وتحريفات الجاهلين ( الرازي ).

ولكن هـل في قوله ذاك تعارض مع قولـه هذا: و (( لأحلّ لكم بعض الذي حُرّم عليكم )) ؟ ـ إن الناسخ والمنسوخ في الأحكام العملية كلاهما حق وصدق، والتصديق للتوراة لا معنى له إلا الاعتقاد بأن كل ما فيها حق وصواب.

ـ 234 ـ

سادساً: آخرة المسيح: آل عمران 52 ـ 58 وقد ذكرها في مريم على غير تفصيل.

52 فلمَّا أحسَّ عيسى منهم الكفر قال: مَن أنصاري إلى الله ؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله ! آمنا بالله؛ وأشهد بأنّا مسلمون.

ــــــــــــــــ

آية 52 ـ يذكر القرآن إيمان الحواريين بالمسيح وكُفْر باقي اليهود به بل مؤامرتهم لاغتياله (54).

وينقل لنا الرازي روايات متعددة عن آخرة المسيح وما كان أحراه بنَقْل رواية الإنجيل كما ينقل منه معجزة صيد السمك في أسباب إيمان التلاميذ به. ومن أسباب كفرهم به أنه دعاهم إلى دين الله فتمردوا، أو عرفوا فيه المسيح الذي يبطل من شرائعهم فتآمروا عليه.

(( من أنصاري إلى الله )) قيل (( إلى )) بمعنى مع أو في أو اللام ( البيضاوي )، وهذا القول كان في أول أمره أو حين اختفائه عنهم أو في آخر أمره. ونصرة الله محال فالمراد إذن نصرة دينه وأنبيائه ( الرازي )؛ والباعث على طلب النصرة أقدامهم على دفع الشرّ عنه. ((قال الحواريون )) وهؤلاء الحواريون مَن كانوا ؟ ينقل الرازي الآراء المختلفة: كانوا من الملوك أومن صيادي السمك أو من القصّارين أو من الغسالين أو من هؤلاء جميعاً )) . هم أعوان دينه، واصفياؤه وأول مَن آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً؛ والاسم مشتق من الحَوَر وهو البياض ( وكذا جميع المفسرين في أصل اللفظ، ويحمل معه دلالته على الأصل الآرامي )، وقيل كانوا قصّارين يحوّرون الثياب أي يبيضونها )) ( الجلالان )، و (( سمّي به أصحاب عيسى لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم؛ وقيل كانوا ملوكاً يلبسون ( الثياب ) البيض استنصر بهم عيسى )) ( البيضاوي )؛ (( وحواريّ الرجل صفوته وخالصته وفي وزنه الحواليّ وهو الكثير الحيلة )) ( الزمخشري ).

ـ 235 ـ

53 ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول ( المسيح ) فاكتُبْنا مع الشاهدين.

54 ومكروا ( الذين كفروا )، ومكر الله ، والله خير الماكرين.

55 إذ قال الله : يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا. وجاعل الذين اتبعوك فوق

ــــــــــــــــ

(( آمنا بالله )) يجري مجرى ذكر العلة في نصرتهم له. (( وأشهد بأنّا مسلمون )) فيه قولان: أشهدْ بأنّا منقادون لما تريد ولأمر الله ، أو إِن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء. واعلم أنهم لمّا أشهدوا عيسى على إيمانهم وعلى إسلامهم تضرّعوا إلى الله (الآية 53) مؤمنين بالله ، وكُتب الله ، ورسول الله ؛ وعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب ((فاكـْتُبنا مع الشاهدين )) لك بالتوحيد ولأنبيائك بالنبوّة؛ وعن ابن عباس: في زمرة الأنبياء. أو ممن يكون في شهود جلالك مستعدّاً للشهادة بالدم ( عن الرازي ).

آية 54 ـ (( ومكروا )) همّوا بقتله (( ومكر الله )) من باب حمل المعنى على لفظ ما قبله، ومكر الله بأن رفع عيسى إلى السماء فلم ينالوه. ولفظ المكر في حقه تعالى من المتشابهات، ولكن ليس كذلك حسب المعنى لأنه عبارة عن التدبير المحكم ثم اختص في العرف بإيصال الشر. ( عن الرازي ).

آية 55 ـ (( يا عيسى إني متوفيك )) ونظيره قوله (( فلما توفيتني )) ( المائدة 117 ).

(( اختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين ( أحدهما ) إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم ولا تأخير فيها، ( والثاني ) فرض التقديم والتأخير. اما الطريق الأول فبيانه من وجوه: 1ً إني متمّم عمرك إلى أجلك؛ 2ً متوفيك أي مميتُك وهو مروي عن ابن عباس ومحمد بن اسحاق،

ـ 236 ـ

الذين كفروا إلى يوم القيامة. ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون.

ــــــــــــــــ

قالوا مع وهب: توفّي ثلاث ساعات ثم رفع، ومع محمد ابن اسحاق: توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه؛ 3ً قال الربيع ابن أنس: إنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء؛ 4ً تحمل الألفاظ على ظاهرها من موت ورفع، ولكن كيف يفعل ؟ ومتى ؟ فلا يذكره؛ 5ً متوفيك عن شهواتك؛ 6ً التوفي هو أخذ الشيء وافياً أي كاملاً بجسده وروحه؛ 7ً متوفيك: أي أجعلك كالمتوفى في نظرهم برفعك؛ 8ً التوفي هو القبض يقال توفى واستوفى وهو رفعه؛ 9ً أن يُقدَّر حذف المضاف أي متوفي عملك. ـ والطريق الثاني: لا بد من تقديـم وتأخير في الآية (فالواو ) لا تفيد الترتيب، يقدَّم الرفع وتؤخر الوفاة وتحمل على ظاهرها بالموت. واعلم أن الوجوه التي قدمنا تغني عن التزام مخالفة الظاهر )) ( الرازي ). ـ فهكذا نرى الرازي وأفضل المفسرين يحملون الوفاة على المعنى الوضعي الحقيقي لا المجازي.

وقال الجلالان: (( إني متوفيك )) إني قابضك أي رافعك؛ والبيضاوي: (( مستوفي أجلك ومؤخرك إلى أجلك المسمّى، أو قابضُك من الأرض؛ أو متوفيك نائماً، إذ روي أنه رفع نائماً؛ أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت. وقيل أماته الله سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى )) ؛ والزمخشري: مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك.

وهكذا فالأكثرية من المفسرين تقول إن الآية تشهد بموت المسيح وإحيائه ورفعه. ((وجاعل الذين اتبعوك )) : من هم؟ قال الزمخشري: ومتابعوه هم المسلمون لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه أو كذبوا عليه من اليهود والنصارى )) ـ تفسير مغرض ! وقال البيضاوي: ومتبعوه من آمن بنبوته من المسلمين والنصارى. وكذلك الجلالان. ـ ونقول لا محل لذكر المسلمين.

ـ 237 ـ

56 فأمَّا الذين كفروا ( بالمسيح ) فأُعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين.

57 وأمَّا الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين.

58 ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم.

يذكر القرآن نتائج رسـالة المسيح بين بني إسرائيل: كَفَر الأكثرون به، وآمن الحواريون وكانوا أنصار عيسى في سبيل الله.

ويشهد القرآن على إقرارهم بأن دينهم هو الإسلام (( واشهدْ بأنا مسلمون )) قائلاً إنهم آمنوا بالله ، وكتب الله ، ورسول الله أي المسيح، واتبعوه ونصروه مستعدين للشهادة والاستشهاد في سبيله وسبيل دينه ( عن الرازي ).

ويشهد القرآن أيضاً شهادة صريحة بموت المسيح وإحيائه بعد ذلك بمدة وجيزة ورفعه إلى السماء؛ وبإحيائه ورفعه إلى عالم الملكوت كان الله أشد مكراً من المتآمرين على المسيح لقتله.

(( واعترفوا بأن الله تعالى شرّف عيسى في هذه الآية (57) بصفات:

ــــــــــــــــ

آية 56 ـ57 ـ تفصيل الحكم على المؤمنين بعيسى والكافرين به ( الزمخشري و البيضاوي ).

آية 58 ـ (( الذكر الحكيم )) فيه قولان: ( الأول ) المراد منه القرآن، و ( الثاني ) غير القرآن. وهو اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع الكتب المنزلة على الأنبياء؛ أخبر أنه تعالى أنزل هذا القصص عما كتب هنالك. والله أعلم بالصواب؛ كذلك البيضاوي. والجلالان والزمخشري على الأول. وعندنا إنه الكتاب المقدس.

ـ 238 ـ

( الأولى ) الوفاة المعجزة، و ( الثانية ) الرفع إلى ملكوت الله ، إلى محل كرامته تعالى، وجعل ذلك (( رفعاً )) إليه للتفخيم والتعظيم، و ( الثالثة ) تطهيرهُ من الذين كفروا، وكما عظّم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى تخليصه منهم بلفظ التطهير، و ( الرابعة ) تفوّق المؤمنين بالمسيح على الكافرين به، بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة، وبالحجة والدليل والبرهان؛ والفوقيّة بالرفعة والدرجة. إنه تعالى بشر عيسى عليه السلام بأنه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة والدرجات الرفعية العالية؛ وإما في القيامة فإنه يحكم بين المؤمنين به وبين الجاحدين برسالته فالحكم في يوم الدين يكون على الإيمان بالمسيح وعدمه )) (الرازي) وهذا القصص ينقله عن الذكر الحكيم الذي نزل من قبل للذكر النازل الآن في القرآن.

سابعاً: شخصية المسيح: آل عمران 59 ـ 64

إنه لتفسير متأخّرٌ إضافي:

59 إنَّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلَقه من تراب ثم قال له: كن ! فيكون.

ــــــــــــــــ

آية 59 ـ إن شأن عيسى الغريب عند الله كشأن آدم في خلقه من غير أم ولا أب وهو من تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأوقع في النفس ( الجلالان ). صفة عيسى كصفة آدم ونظيره.

(( خلق آدم )) : هنا من تراب. وفي غيرها من الماء (( هو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً )) وفي غيرها من الطين (( وبدأ خلق الإنسان من طين )) . وفي غيرها ((من سلالة من طين )) أَي مسلولة من ألطف أجزاء الطين وفي غيرها (( من طين لازب )) . وفي غيرها من (( صلصل، من حمإٍ مسنون )) والصلصال اليابس الذي له صوت، والحمأ الذي استقر في الماء مدة وتغير لونه ورائحته. ـ

ـ 239 ـ

60 الحق من ربّك فلا تكن من الممترين.

61 فمن حاجّك فيه من بعدِ ما جاءَك من العلم فقل: تعالوا ندعُ أبناءَنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعلْ لعنت الله على الكاذبين.

62 إن هذا لهو القصص الحق. وما من إله ألا الله. وإن الله لهو العزيز الحكيم.

63 فإن تولّوا فإن الله عليم بالمفسدين.

ــــــــــــــــ

ولهم اجتهادات في توفيق الآيات الواردة. (( ثم قال له كن فيكون )) قال الرازي: (( في الآية إشكال وهو أنه كان ينبغي أن يقال: كن فكان. والجواب تأويل الكلام )) .

آية 60 ـ (( الحق )) خبر مبتدإ محذوف أَي أَمر عيسى، قصته، خبره. والحق المذكور هو ما ورد في الآية السابقة من خلق عيسى كخلق آدم في المعجز، وفي الخلق ذاته يفسرها في الآية 62: عيسى مخلوق لا إله.

آية 61 ـ إذا امتنعوا عن الإقرار بخلق عيسى، يدعوهم إلى المباهلة أي إلى لعن الكاذب، والبَهلـَة اللعنة.

آية 62 ـ إن خلق عيسى لهو القصص الحق فما من إله إلا الله لا أحد يساويه في القدرة التامة والحكمة البالغة ليشاركه في الإلوهية ( البيضاوي ). وهو جواب لهم: فقدرة عيسى محدودة وكلمة عيسى محدودة بخلاف الله.

آية 63 ـ (( إن الله عليم بالمفسدين )) وضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن التولّي عن الحجج والإعراض عن التوحيد فساد للدين والاعتقاد.

ـ 240 ـ

64 قل: يا أهل الكتاب، تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله، ولا نشرِكْ به شيئاً، ولا يتّخذْ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله. فإن تولّوا فقولوا: اشهدوا بأنّا مسلمون !

تترك النصوص السابقة في نفس القارئ فكرة عظيمة عن سمو المسيح حتى لقد تخرج به عن طبقة البشر، وتترك الباب مفتوحاً لاعتقاد النصارى بتأليه عيسى. فجاء هذا النص الإضافي من زمن متأخر يقوّم ذلك الشعور ويعلّل القضية على هذا النحو: ألا يظن أن معجزة ميلاد المسيح بلا أب قد أظهرته أسمى من البشرية ورفعته إلى رتبة الألوهية ؟ ـ كلاَّ ، إنما عيسى مخلوق، وهناك أغرب من طريقة خلقه: إنه وُلِدَ بلا أبٍ، وآدم وُجد بلا أبوين1 بأمرٍ من الله: كن ! فكان2 .

ــــــــــــــــ

آية 64 ـ (( قـل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ )) ( وقرأ الحسن سواءً بالنصب ) : دعوة لأهل الكتاب إلى الاتفاق على التوحيد الخالص. وقد تكون دعوة خاصة بالنصارى للجدل السابق بحق عيسى. وقد تكون عامة لليهود والنصارى، بانقطاع الحديث السابق واستئناف غيره. وقد تكون خاصة بأهل نجران أو يهود المدينة ـ في الآيتين 61 و 62 الخطاب وإن كان مع محمد فالمراد به الكل.

(( إلى كلمة سواء )) المعنى هلموا إلى كلمة فيها انصاف من بعضنا لبعض لا.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ليس مثل آدم كمثل المسيح من حيث المعجزة وخرق العادة الطبيعية: آدم خلق بدون معجزة أوجده الله بدون أسباب مقرّرة؛ أما وجود عيسى ضمن قانون التسلسل البشري وفوق العادة المقرّرة فهي المعجزة الدالة على كرامة خاصة له عند الله لم ينلها نبي سواه.

(2) احتجاج المفسرين لتسمية المسيح (( الكلمة )) أنه مأخوذ من قوله (( كن ، فيكون )) غير وارد لأن قولـه : (( خلقه من تراب ثم قال له : كن فيكون )) هو مفسر لخلق آدم بدليل قوله (( من تراب )) لا لوجود المسيح.

ـ 241 ـ

وتلاحظ أن القرآن يسمّي مقالتهم كذباً وفساداً في الدين؛ ولكنها ليست كفراً؛ إنه لا يصمهم أبداً بالكفر لأنه يعتدّهم حتى النهاية موحدين مثله (( واشهدْ بأنّا مسلمون )) ( آل عمران 52 و 80 ).

وبعد فشل الحجج في الإقناع والاقتناع دعي النبي وفد نجران النصراني إلى الملاعنة على الكاذب على المسيح، في قصصه الحق: فأبوا. وامتناعهم عن المباهلة ( الملاعنة ) لا يعني إنكارهم لألوهية عيسى أو إقرارهم بنبوة محمد (61) لأنهم (( تولّوا )) تاركين محمداً وشأنه (62). وقد دعا كفارُ مكة محمداً إلى المباهلة وطلبوا من الله إمطارهم بالحجارة إن كان ما يقوله محمد هو الحـق، ثم إنه لم ينزل العذاب بهم البتة: ليس في الملاعنة من إفحام للخصم !

وفي ختام (( مؤتمر الأديان الثلاثة )) في المدينة يدعو القرآن أهل الكتاب إلى كلمة انصاف وحق وعدل في الله: ألا وهي توحيده الخالص، قبلوا بها أم لم يقبلوا: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة مستوية بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والإنجيل والتوراة.

دعا المشركين في مكة إلى توحيد الآلهة؛ ويدعو الكتابيين في المدينة إلى توحيد الأديان.

 

ــــــــــــــــ

ميل فيه لأحد على صاحبه. والسواء هو العدل والانصاف وذلك لأن حقيقة الانصاف إعطاء النصف مساوياً بين نفسه وبين غيره: جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل ( الرازي ).

(( واشهدوا بأنّا مسلمون )) يعني أظهروا أنكم على هذا الدين ولا تكونوا في قيد أن تحملوا غيركم عليه ( الرازي ).

ـ 242 ـ

ثامناً: الإسلام هو تعليم أنبياء الكتاب: آل عمران 79 ـ 80 ، 83 ـ 85

79 ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحُكم والنبوّة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون.

80 ولا يأْمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ! أَيأمركم بالكفر بعدَ إِذ أَنتم مسلمون؟

ــــــــــــــــ

آية 79 ـ (( ما كان لبشر )) المقصود منه النفي لا النهي إنما أراد تكذيب النصارى في ادعائهم أن عيسى قال لهم اتخذوني إلهاً ( الرازي ). (( الكتاب والحكم والنبوة )) : الوحي وفهمه وتبليغَه ( الرازي ) يختلفون كثيراً في فهم معنى (( الحكمة )) أو (( الحكم )) وقد ورد اللفظان. ـ نقول إنها أسماء أسفار من الكتاب حسب تسمية اليهود.

(( الربّأني )) نسبة إلى الرب بزيادة ألف ونون ( الزمخشري ) وهو الذي يَعْلـَم ويعلِّم كتاب الرب. (( تعلمون )) فيه قراءَتان، تعْلمُون بالتخفيف من العلم، وتعلِّمون من التعليم بالتشديد: وكلاهما صواب ( الرازي ).

آية 80 ـ (( ولا يأمركم )) قالوا يأمرُكم بالرفع على الاستئناف، وقالوا بالنصب عطفاً على (( يؤتيكم )) . قالوا ( لا ) زائدة، وقالوا ثابتة، وقرأوا: ولن يأمركم. من هو فاعل يأمر؟ الله ؟ أم محمد أم عيسى أم الأنبياء ؟ ( عن الرازي ) . نقول هو البشر المُرْسل في الآية 79 كما يقول البيضاوي ـ ولمن الخطاب في الآية 80 ؟ الذين يعبدون الملائكة، قيل هم الصابئة ( الجلالان )؛ أم قريش، يسمون إلاهاتهم بنات الله ويقولون إنهنَّ ملائكة ( الزمخشري ). وعندنا إن الخطاب كله في 79 و 80 لأهل الكتاب عن موقفهم من عبادة أو تكريم

ـ 243 ـ

83 أفغير دين الله يبغون وله أسلم مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يُرجعون.

84 قل: آمنّا بالله وما أُنزل علينا وما أُنزل على إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب. والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيّون من ربهم: لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

ــــــــــــــــ

الملائكة والأنبياء، وقوله (( ربانيين تعلمون الكتاب )) تكفي شاهداً ودليلاً، فالربانيون هم علماء الناموس أي التوراة.

(( أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )) : زعم الزمخشري والرازي والبيضاوي أن الخطاب للمسلمين وهم المُسْتَأذنون لأن يسجدوا لمحمد ؟! لا نستغرب ذلك منهم يحوّلون هذه الشهادة الصريحة بإسلام أهل الكتاب إلى أمتهم: إنه لا يجوز لسامع القرآن أن يستأذن محمداً بعبادته، فالكلام كله إذن عن أهل الكتاب، وجدالهم في إكرام عيسى والأنبياء والملائكة. والمقصود نفي عبادة عيسى (79) وإكرام الملائكة والأنبياء إكراماً ربانياً (( وهو أدنى من العبادة )) والنهي عنه ( عن البيضاوي ).

آية 83 ـالإسلام مفروض طوعاً وكرهاً على السماوات والأرض: كل ما فيهما يشهد بتوحيد الله فكيفي يبغون غير هذا الدين!

آية 84 ـ (( لا نفرق بين أحد منهم )) التفريق بتفضيل البعض على البعض أو الإيمان ببعض دون بعض كما فرقت النصارى واليهود؛ أو كما قال أبو مسلم: لا نفرق ما أجمعوا عليه وهو كقوله: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا (( ونحن له مسلمون )) مثلهم أجمعين.

ـ 244 ـ

85 ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

في النص السابق دحض القرآن ألوهية عيسى المستندة إلى الأدلة النقلية. وهنا يذكر الأدلة العقليّة: يستحيل أن يطلب نبي العبادة لنفسه من دون الله ؛ فهذا خيانة لنبوته ! ويستحيل أن يأمر نبي اتباعه باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً: (( أيأمر بالكفر قوماً مسلمين )) ؟! وهذه شهادة صريحة لصحة إسلام أهل الكتاب (80) كالتي سبقتها (( وأشهد بأنّا مسلمون )) (52): فدين الله هو عبادته وحده لا شريك له من الملائكة أو النبيين أو أحبار أو رهبان: أفغير دين الله يبغون ؟! وقد وحّدته السماوات والأرضون !

التوحيد الصحيح هو الإسلام ومن يتبع غيره ديناً فلن يُقبل منه ! وهذا التوحيد هو إيمان الكتاب والقرآن وتعليم جميع الأنبياء: لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

تاسعاً: أمة عيسى في عصر محمد: آل عمران 110 ـ 120

أخيراً يذكر القرآن نتائج (( مؤتمر الأديان الثلاثة )) لأول العهد بالمدينة واصفاً أُمم الكتاب الثلاث:

110 كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله. ولو آمن أهل

ــــــــــــــــ

آية 85 ـ الإسلام في هذه الآية يعني عقيدة الإسلام أي دين الله (83) الذي آمن به جميع الأنبياء (84) ـ فيما في الآية 19 كان يعني شريعة الإسلام.

آية 110 ـ (( تأمرون بالمعروف )) بيان لقوله كنتم خير أمّة ( الزمخشري ).

ـ 245 ـ

الكتاب ( اليهود ) لكان خيراً لهم: منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.

111 ـ112 ضُربت عليهم الذلَّة والمسكنة: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حقّ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.

113 ليسوا سواءً ! من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون.

114 يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون

ــــــــــــــــ

آية 113 ـ من هي الأمة الصالحة المصلحة المذكورة في الآيات 113 ـ 115 ؟ من أَهل الكتاب أمة مستقيمة ثابتة على الحق كعبد الله بن سلام وأصحابه ( الجلالان ) ؛ (ليسوا سواءً ) الضمير لأهل الكتاب، ( من أَهل الكتاب أمة قائمة ) استئناف لبيان نفي الاستواء؛ والقائمة: المستقيمة العادلة وهم الذين أسلموا منهم ( البيضاوي )؛ وقيل عن صلاة العشاء التي يصلّيها المسلمون ولا يصلّيها أهل الكتاب ( الزمخشري ) ـ نقول ليست صلاة العشاء هي المقصودة لأنه يتكلم عن إحياء الليل كله بالصلاة والتلاوة وهذا لا يفعله سوى رهبان عيسى. روى الرازي حديثاً: ألا إني نهيتُ أن أقرأ راكعاً أو ساجداً. وقوله (( وهم يسجدون )) حال من يتلون آيات الله ، فلا تكون حال محمد ولا حال أمته. بقيت إنها حال من يمدح من أهل الكتاب لا من يذمهم. وقال الرازي (( في المراد بأهل الكتاب قولان: ( الأول ) وعليه الجمهور المراد منه الذين آمنوا بموسى وعيسى، و ( الثاني ) المراد بأهل الكتاب كل مَن أوتي الكتاب من أهل الأديان وعلى هذا القول يكون المسلمون من جملتهم.

ـ 246 ـ

عن المنكر. ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين.

115 وما يفعلوا من خير فلن يُكفَروه. والله عليم بالمتقين.

116 ـ 120 يعود إلى ذكر الذين كفروا بنبوته من أهل الكتاب ( أي اليهود ).

هذه الفقرة تصف أمم الكتاب الثلاث عقب المؤتمر. كان وفد من نصارى نجران قد حضر وباحث النبي في دعوته وفي عيسى، وحضر المجادلة بعض اليهود: فوادعه النصارى وانصرفوا وزاد اليهود كفراً به.

فالآية 110 تصف أمة المسلمين: يؤمنون بالله ، ويأمرون بالمعروف لذلك صاروا خير أمّة.

والآيتان 111 ـ 112 تصفان اليهود: منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون. هؤلاء الفاسقون ضُربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق. هذا الوصف من قتل الأنبياء يوضح صراحةً أن المعنيين هن اليهود.

والآيات 113 ـ 115 تستثني من أهل الكتاب أمة مؤمنة تقية صالحة مصلحة؛ لا شك إنها تقصد النصارى ورهبانهم لأنه يستثنيهم من أهل الكتاب الفاسقين، قتلة الأنبياء، فضلاً عن أن إحياء الليل في السجود وتلاوة آيات الله فيه كانت عادة الرهبان النصارى لا عادة اليهود، ولا عادة المسلمين الذين لم يتكوَّنوا بعد.

و (( اعلم أنه تعالى مدح الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية: 1ـ قائمة أي مستقيمة عادلة 2ـ يتلون آيات الله : وصفهم بالتهجد بالليل 3 ـ الصلاة (( وهم يسجدون )) 4 ـ يؤمنون بالله واليوم الآخر، بالمبدإِ والمعاد 5 ـ يأمرون بالمعروف 6 ـ وينهون عن المنكر 7 ـ ويسارعون في الخيرات 8 ـ وأولئك

ـ 247 ـ

من الصالحين؛ والوصف بهذا غاية المدح )) ( الرازي ): يشهد إذن بتقواهم العظيمة ( يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون )، وصحة دينهم وإيمانهم وإسلامهم ( يؤمنون بالله واليوم الآخر )، وغيرتهم على الإصلاح ( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )، وعلى صلاحهم وكمالهم ( يسارعون في الخيرات وأولئك هم الصالحين )، ويعدهم الجنة ( وما يفعلوا من خير فلن يُكفـَروه ).

عاشراً: القربان علامة النبي الآتي: آل عمران 182

بعد أن حرّض على بذل النفس والمال في سبيل الله ، وكان اليهود يصدّون عن ذلك لقولهم بعدم نبوّة محمد، شرع في حكاية شبهات القوم في الطعن بنبوّته:

181 الشبهة الأولى: لقد سمع الله قول الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء ! ...

182 الشبهة الثانية: الذين قالوا: إنَّ الله عهد إلينا ألاَّ نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربانٍ تأكله النار ! ـ قل:

ــــــــــــــــ

آية 181 ـ قالت اليهود ـ والآية تعنيهم وحدهم لقوله (( وقتْلهم الأنبياء )) ـ مَن يطلب المال من غيره كان فقيراً محتاجاً! ونحن نرى إله محمد يستقرض منا فنحن أغنياء وهو فقير ؟ وينهانا عن الربا ثم يعطينا الربا ! لقوله من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة )) فهذا محال، ومحمد يفتري على الله. وليس في الآية جواب ظاهر على الشبهة.

آية 182 ـ هي الشبهة الثانية في الطعن في نبوة محمد وتقريرها، إنهم قالوا: إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار وأنت يا محمد ما فعلتَ ذلك، فلست من الأنبياء ولا النبي الذي ننتظره ( عن الرازي ) وللعلماء فيما ادعاه اليهود قولان: إن هذا الشرط جاء في التوراة، أو إِن ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة ـ نقول: هذا الشرط غير وارد نصاً ولكن معنى

ـ 248 ـ

قد جاءكم رُسُـلٌ من قبلي بالبيّنات، وبالذي قلتم، فلِمَ قتلتموهم إن كنتم صادقين ؟!

183 فإن كذبوك فقد كُذِّب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزُبر والكتاب المنير.

جاء وجهاء اليهود وعلماؤهم إلى محمد وقالوا له: إن الله عهد إلينا في التوراة ألا نصدّق نبياً يأتينا بقربان تأكله النار، وهذا شرط خاص لنا عليه، فلا نؤمن لك حتى تأتينا به. أجابهم: القربان من جملة المعجزات فهو وهي سواء؛ لقد جاءكم الرسل بالمعجزات، وبالقربان الذي قلتم فلِمَ قتلتموهم إن كنتم صادقين في طلبكم ؟

مَن هو الرسول الذي جاء بعد موسى بالقربان المطلوب وقتله اليهود ؟ ـ ليس من جواب في آل عمران إنما نجده في سورة المائدة: الرسول المذكور الذي أعطى القربان معجزة له ليصدّقوه هو عيسى الذي أنزل عليهم المائدة من السماء؛ ولم تذكر التوراة والإنجيل والقرآن نبياً فعل ذلك بعد سكوت الوحي خمس مئة سنة إلى المسيح ثم ست مئة سنة إلى محمد، سوى المسيح عيسى ابن مريم كلمة الله وروح الله.

ــــــــــــــــ

أي يكون النبي على شريعة موسى التي تأمر بتقديم قربان لله تأكله النار. والقربان مصدر من قرّب كالكفران وهو ما يُتقرب به إلى الله . والجواب على الشبهة: (( قل قد جاءَكم )) يقصد منه أنه يقتضي توقيف الصدق على ظهور مطلق المعجزة المعينة وحدها (( وبالذي قلتم )) فلو كان الموجب للتصديق هو الإتيان به وكان توقفهم وامتناعهم من الإيمان لأجله فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به ؟ وبمعجزات أخر ؟ واجترؤوا على قتله )) ( عن الرازي والبيضاوي ) ـ قالوا: إن الذين جاؤوا بالقربان تأكله النار وقتلوهم هم زكريا ويحيى، وليس هذا وارد في الكتاب المقدس عنهما. بل جاء عن إيليا وحده وظنوا أن إيليا سيعود بذاته ويجدّد معجزته.

ـ 249 ـ

النص العاشر: سورة الأحزاب 7 ـ 8

في مقطع قد لا يمت إلى السورة بصلة يذكر الميثاق الذي أخذه الله على الأنبياء حين بعثهم1 . ومن جملتهم عيسى:

7 وإذْ أخذْنا مِنَ النبيين ميثاقَهم، ومنكَ ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم. وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً.

ــــــــــــــــ

آية 7 ـ (( ميثاقهم )) عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القويم ( الزمخشري والبيضاوي ). وللجلالين عن الوقت الذي أخذ فيه هذا الميثاق نظرية غريبة: أخذ من النبيين ميثاقهم حين أُخرِجوا من صلب آدم كالذَرّ ! (( ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى )) خصّهم بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع. وقدم نبيّنا تعظيماً له )) ( البيضاوي ) ـ لاحظ أنه هنا قدم محمداً على جميعهم، وفي موضع آخر قدم نوحاً عليه (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك )) ، ولهم في ذلك أقوال.

(( وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً: عظيم الشأن. أو مؤكداً باليمين. والتكرار لبيان هذا الوصف )) ( البيضاوي والزمخشري )؛ وقال الرازي: هو العهد المؤكد غاية التأكيد.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) هذا النص لا يمت إلى السورة بصلة لأنه متباين مع ما قبله ومع ما بعده . ويجوز أن يكون له صلة بعيدة بالآيتين الأولى والثانية : اتبع ما يوحى إليك ولا تطع المنافقين في جعلهم أدعياءَهم أبناءَهم ، فهذا ميثاق عليك وعلى الرسل. وفكرة الميثاق والعهد فكرة كتابية محضة. والعهد واحد بين الله وشعبه كما نرى في التوراة. فجعل القرآن فكرة العهد مجدّدة مع كل نبي، وخاصة مع مشاهير أرباب الشرائع الذين يخصهم بالذكر.

ـ 250 ـ

8 ليسأَلَ الصادقين عن صدقهم. وأعدَّ للكافرين عذاباً أليماً.

يورد في هذا النص ذكر عيسى بين مشاهير أرباب الشرائع، وهم في عرفه خمسة. ويذكر أنه أخذ عليهم جملةً وافراداً عهداً، مغلّظاً بالأيمان، أن (( أقيموا الدين ولا تفرّقوا فيه )) كما قال في موضع آخر. وسيسألهم الله عن هذا العهد يوم الدين، كما سيسأل تابعيهم.

وهكذا نرى في القرآن موقفين من عيسى: أحدهما إنه يدرجه في جملة الأنبياء (أحزاب 7، شورى 12، نساء 162، آل عمران 83، بقرة 136 )؛ والآخر إنه يخصه بالكرامات التي يمتاز بها عن سواه ( نساء 170، آل عمران 45، مريم 30 و 31 ).

 

ــــــــــــــــ

آية 8 ـ (( ليسأل الصادقين عن صدقهم )) ـ في الضمائر غموض. (( ليسأل الله يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهدهم عما قالوه لقومهم؛ أو تصديق قومهم إياهم تبكيتاً لهم؛ أو المصدقين لهم عن تصديقهم؛ أو ليسأل الله المؤمنين عن صدقهم عهد الأنبياء )) ( البيضاوي).

ـ 251 ـ

النص الحادي عشر: القسم الثاني من سورة النساء

في القسم الثاني من سورة النساء يحدّد القرآن موقفه صراحةً من اليهود (149 ـ161) ومن (( الناس )) العرب المشركين (162 ـ 169) ومن النصارى (170 ـ 172).

أولاً: حملة القرآن على اليهود لكفرهم بالمسيح وأمه: النساء 149 ـ161

النوع الأول من أَباطيلهم :إيمانهم ببعض الأنبياء دون البعض: آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل ( الرازي ).

149 إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً:

150 أولئك هم الكافرون حقاً. واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً.

151 والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرّقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً.

ــــــــــــــــ

الآيات 149 ـ 150 (( الكافرون حقـَّا هم الذين يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض ( المسيح ) كاليهود؛ أو يؤمنون بالله ويكفرون بالرسل كالمشركين ( عن الزمخشري ).

ـ 252 ـ

النوع الثاني من أباطيلهم وجهالاتهم:

152 قالوا: أرنا الله جهرةً ... ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات.

153 ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم.

154 فبما نقضِهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم: قلوبنا غلف )) ـ بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلاَّ قليلاً.

155 وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً.

156 وقولهم: إنَّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم.

ــــــــــــــــ

الآيات 152 ـ 153 يذكر لهم ثلاث جنايات فاضحات بعد بيّنات من المعجزات واضحات.

الآيات 154 ـ 156 يذكر فيها خمسة أسباب لظلمهم (158) أو خمساً من مظالمهم ومنها قولهم على مريم بهتاناً عظيماً بنسبتهم إياها إلى الزنى. وإنما صار هذا الطعن بهتاناً عظيماً لأنه ظهر عند ميلاد عيسى عليه السلام من الكرامات والمعجزات ما دلَّ على براءَتها من كل عيب ( الرازي ) ومنها قولهم إنَّا قتلنا المسيح !

آية 156 ـ فيها أقوال: 1) اليهود أعداء المسيح فكيف يعترفون بألقابه ورسالته (( إنا قتلنا المسيح ـ عيسى ابن مريم رسول الله )) ! (( قالوه استهزاءً؛ ويتحمل أن يكون استئنافاً من الله بمدحه أو وصفاً للذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح )) ( البيضاوي والرازي ) ـ لاحظ أن قولهم (( إنا قتلنا المسيح ))

ـ 253 ـ

وما قتلوه ! وما صلبوه ! ولكن شبِّهَ لهم.

ــــــــــــــــ

هي مقالة شعب برمّته يؤكد ذلك بالتواتر منذ ست مئة سنة. ولا يجوز الطعن في المتواتر و إلا لما بقي للأخبار التاريخية من مستَنَد.

2) (( وما قتِلوه ! وما صلبوه ولكن شُبَّه لهم )) : ما معنى قوله شبّه لهم ؟

(( شبه )) مسند إلى ماذا ؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح فالمسيح مشبّهٌ به وليس بمشبّه، وإن أسندته إلى المقتول ( زعموا أن اليهود قتلوا آخر شبيهاً بعيسى ) فالمقتول لم يجرِ له ذكر! قلتُ هو مسند إلى الجار والمجرور (( لهم )) كقولك خُيّلَ إِليهم كأنه قيل وقَع لهم التشبيه؛ ويجوز أن يُسند إلى ضمير المقتول ( الزمخشري و الرازي ).

وهناك خلاف بين المفسرين: أقتـُل أحدٌ بدل المسيح أم لم يقتل ؟ (( ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى والمقتول، أو في الأمر على قول من قال (( لم يُقتل أحد )) ولكن أُرجف بقتله فشاع بين الناس ( البيضاوي ).

أما الذين قالوا إنّ ثمَّ قتيلاً فيبرّرون تواتر مقالة اليهود بخَلْقِ شبه للمسيح يُقْتل عوضه؛ قال الرازي: (( اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضوع وذكروا طرقاً: الأول، قال كثير من المتكلمين إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامّهم فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس أنه المسيح. الثاني إنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر، ثم فيه وجوه: 1ً دخل طيطاوس اليهودي بيتاً كان المسيح فيه فلم يجده وألقى الله عليه شبهه فلما خرج ظُنّ أنه عيسى فأُخذ وصُلِب؛ 2ً وكلوا بعيسى رجلاً يحرسه فرفع عيسى إلى السماء وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست بعيسى؛ 3ً تطوع أحد أصحابه فألقى الله شبه عيسى عليه فأُخرج وقتل، ورفع عيسى؛ 4ً نافق أحد تابعيه ودلهم على عيسى ليقتلوه فلما دخل مع اليهود لأخذه ألقى الله تعالى شبهه

ـ 254 ـ

وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم إلاّ اتباع الظن.

ــــــــــــــــ

عليه فقُتل وصلب. ـ وهذه الوجوه متعارضة متدافعة والله أعلم بحقائق الأمور )) .

وقال أيضاً ( في آل عمران ): (( فكيفما كان ففي إلقاءِ شبهه على الغير إشكالات (الإشكال الأول ) إنه إن جاز أن يقال إن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة وأيضاً يفضي إلى القَدْح في التواتر: ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره ابطال النبوءات بالكلية؛ ( والإشكال الثاني ) إن الله أيده بروح القدس جبريل فهل عجز هنا عن تأييده؛ وهو كان قادراً على إحياء الموتى فهل عجز عن حماية نفسه؛ ( والإشكال الثالث ) إنه تعالى كان قادراً على تخليصه برفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؛ ( والإشكال الرابع ) بإِلقاء الشبه على غيره اعتقدوا ( اليهود ) أن هذا الغير هو عيسى مع أنه ما كان عيسى فهذا كان إلقاءً لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله؛ ( والإشكال الخامس ) إن النصارى ( واليهود ) على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوّة محمد وعيسى وسائر الأنبياء؛ ( والاشكال السادس ) ألا يقدر المشبوه به أن يدافع عن نفسه أنه ليس بعيسى، والمتواتر أنه فعل. ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى. فلما لم يوجد شيء من ذلك علمنا أن الأمر ليس على ما ذكرتم )) . ويحاول أن يذكر الجواب على تلك الإشكالات ويختم بقوله (( وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرّق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه )) ـ لذلك يجب رفض خرافة الشبه الشائعة بين المسلمين. ورفضها لا يغيّر من موقف القرآن ومقالته شيئاً. وبقي قول

ـ 255 ـ

157 وما قتلوه يقيناً ! بل رفعه الله إليه. وكان الله عزيزاً حكيماً.

ــــــــــــــــ

مَن قال: لم يُقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس، وإليه يميل الرازي والبيضاوي. وعليه نجيب كيف يمكن نقض مقالة اليهود والنصارى العامة المتواترة مدة ست مئة سنة قبل سورة النساء!

فقوله (( شبه لهم )) لا يمكن أن يُسند نصّاً إلى المسيح أو إلى المقتول المزعوم كما يشهد الرازي والزمخشري. بقي إن معناه (( خيّل إليهم الأمر )) أو (( وقع لهم التشبيه في الأمر)) أي اشتبه عليهم الأمر ويفسّره ما يرد بعده، كما يفسّره الزمخشري والرازي.

3) (( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه )) لفي تردّد، وكما أن الشك يطلق على مالا يُرجّح أَحدُ طرفيه يُطلق أيضاً على مطلق التردد وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكّده بقوله (( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن )) . ثم من هو فاعل (( اختلفوا )) ؟ قالوا إنهم النصارى اتفقوا على أن اليهود قتلوا المسيح، واختلفت النسطورية والملكانية واليعقوبية في كيفية وقوع القتل على الناسوت دون اللاهوت؛ وقالوا أيضاً إن المراد بالذين اختلفوا هم اليهود )) ( الرازي ) ـ ونقول ليس من محل لذكر النصارى في النص كله. بل الكلام كله في الآية والمقطع عن اليهود.

آية 157 ـ 4) (( وما قتلوه يقيناً )) قتلاً يقيناً أو متيقّنين ( الزمخشري والبيضاوي ) أو يجعل يقيناً تأكيداً لقوله وما قتلوه ( الزمخشري ).

5) (( بل رفعه الله إليه )) : ردّ وإنكار لقتله وإِثبات لرفعه ( البيضاوي ) (( ورفـْع عيسى عليه السلام إلى السماء ثابت بهذه الآية. ونظير هذه الآية قوله في آل عمران: إني متوفيك ورافعك إليَّ )) . ودلّ ذلك على أن رفعه إليه أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية. وهذه الآية

ـ 256 ـ

158 وإنْ من أهـل الكتاب إلاّ ليؤمِننَّ به قبل موته. ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً )) .

في هذا المقطع يحمل القرآن حملة شعواء على كفر اليهود بالمسيح وأمه. فيعدّد لهم صنفين من مظالمهم: أولاً بطلان إيمانهم ببعض الأنبياء دون بعض؛ ثانياً كفرانهم بمعجزات الله بطلبهم رؤية الله جهرة واتخاذهم العجل إلهاً يوم العهد برفع الطور فوقهم.

ثم يعدّد خمساً من جرائمهم: نقض العهد، وكفرهم بآيات الله ومعجزاته، وقتلهم الأنبياء وقولهم (( قلوبنا غُلـْف )) ليست بحاجة إلى وحي، وقولهم على

ــــــــــــــــ

تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية )) ( الرازي ). وقد أجمل الجلالان الآية: قال تعالى تكذيباً لهم في قتله ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) فظنوه إياه. ( وإن الذين اختلفوا ) في عيسى أن المقتول هو نفسه ما لهم بقتله من علم إلا إتباع الظن. (( وما قتلوه يقيناً)) حال مؤكدة لنفي القتل.

آية 158 ـ (( وإنْ من أهل الكتاب إلا ليؤمِنَنَّ به قبل موته )) ـ على معنى المفرد، وقُرئ (( ليؤمِنُنَّ قبل موتهم )) وهذه القراءة ترفع غموض الضمائر الأولى. فلِمَن إذن الضمائر في (( به، موته )) ؟ إن فيه لقولين: ( الأول ) الضمير في (( موته )) للكتابي وفي (( به )) لعيسى والمعنى: ما من اليهود والنصارى ( لا ذكر للنصارى في النص )! أَحدٌ إلا ليؤمِنَنَّ بأن عيسى عبد الله ورسوله قبل أن يموت ولو حين أن تزهق روحه؛ ( الثاني ) قيل الضميران لعيسى والمعنى إنه إذا نزل من السماء آمن به أهل الملل جميعاً )) ( البيضاوي ). ولكن (( ما فائدة الاجبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ ـ فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة وإن ذلك لا ينفعهم، بعثاً لهم وتنبيهاً على معالجة الإيمان به في أوان الانتفاع به )) ( الزمخشري والرازي ).

ـ 257 ـ

مريم بهتاناً عظيماً، وقولهم: إنّا قتلنا المسيح. ويردّ على مقالتهم بقتل المسيح أن محاولتهم فشلت بمعجزة من الله: ألا وهي رفع المسيح إلى السماء.

وظاهر الآية 156 ينفي قتل المسيح وصلبه. فهل هذا صحيح ؟ وهل يتفق مع أقواله عن موت عيسى في سورة مريم وعن وفاته في آل عمران وفي المائدة ؟ سنرى ذلك في غير موضع.

ويختم بالوعيد لليهود إنهم لا بد لهم من الإيمان بالمسيح: (( وما من اليهود أحد إلا ليؤمِنَنَّ قبل موته بعيسى )) ( الزمخشري ).

 

ثانياً: موقف القرآن (( من الناس )) المشككين بنبوته: النساء 162 ـ 169

جاء في أسباب النزول للسيوطي: روى ابن اسحاق عن ابن عباس قال: قال عدي بن زيد: ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء؛ فنزلت:

162 إنَّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وأوحينا إلى إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً.

ــــــــــــــــ

آية 162 ـ الخطاب لمن ؟ إنه جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله كتاباً من السماء، واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا ( الزمخشري والبيضاوي ) ـ قيل نزلت جواباً لاقتراحهم عليه أن ينزل عليهم القرآن من السماء كتاباً واحداً كما نزلت التوراة لا نجوماً. فأجاب هذه حال جميع الأنبياء سوى موسى. واختصاص موسى بالتكليم لا يطعن في نبوّة سائر الأنبياء.

ـ 258 ـ

163 ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك. وكلّم الله موسى تكليماً.

164 رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وكان الله عزيزاً حكيماً.

165 لكن الله يشهد بما أنزل إليك ـ أنزله بعلمه ـ والملائكة يشهدون. وكفى بالله شهيداً.

169 يا أيها الناس قد جاءَكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم. وان تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض، وكان الله عليماً حكيماً )) .

نرجح أن الخطاب للناس عامة (169) جواباً عن المشككين بنبوّة محمد: عن كيفية الوحي إليه (162 ـ 164)، وعن صحة هذا الوحي (165) مع دعوة عامة لقبوله (169).

هنا يظهر عيسى حلقة من سلسلة أنبياء الوحي: يعدّد القرآن منهم اثني عشر سوى موسى؛ وتسميتهم كما تلاحظ لا تتبع التاريخ المتسلسل. ويظهر

ــــــــــــــــ

آية 165 ـ نزل لما سُئِلَ اليهود عن نبوته فأنكروه ( الجلالان )، و (( لكن )) استدراك لما في موقفهم من الشك بالوحي إليه أو بنزول القرآن من السماء ( عن الرازي ) .

آية 269 ـ (( اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة اليهود بنزول القرآن نجوماً ذكر خطاباً عاماً يعمهم ويعم غيرهم في الدعوة إلى دين محمد فقال يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم )) ( عن الرازي ).

ـ 259 ـ

إن هذا النص ما وضع هنا إلا ليخفّفَ من سموّ ما اختص به عيسى من الكرامات في رفعه (156) كما ورد في المقطع السابق، وفي أَلقابه كما يصرّح في المقطع التالي (170).

ثالثاً: تحذير النصارى من الغلو في إكرام المسيح وأمه: النساء 170 ـ 173

(( اعلم أنه لما أجاب عن شبهات اليهود تكلم بعد ذلك عن النصارى في هذه الآية. والتقدير يا أهل الكتاب من النصارى لا تغلوا في دينكم أي لا تُفْرطوا في تعظيم المسيح: وذلك لأنه لما حكى عن اليهود أنهم يبالغون في الطعن في المسيح، وهؤلاء النصارى يبالغون في تعظيمه، وكلا طرفي قصْدهم ذميم، فلهذا قال للنصارى لا تغلوا في دينكم )) ( الرازي ).

170 يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ! ولا تقولوا على الله إلا الحق !

ــــــــــــــــ

آية 170 ـ نساء: (( لا تغلوا في دينكم )) : لا تتجاوزوا الحد. لاحظ أن القرآن يسمّي طعن اليهود في المسيح كفراً وهذا الكلام لا يؤخذ إلا في حق شؤون الله. ويُسمّي إفراط النصارى في إكرام المسيح غلواً لا غير. (( ولا تقولوا على الله إلا الحق )) : تلاحظ أيضاً أنه لا جدال بين محمد والنصارى في الله بل في غلوهم في تعظيم المسيح ـ (( يعني تنزيهه عن الصاحبة والولد )) ( البيضاوي ) (( عن الشريك والولد )) ( الجلالان ).

(( كلمتُه ألقاها إلى مريم )) أوصلها إليها وحصلها فيها )) ( الزمخشري والبيضاوي ).

(( إنما المسيح ... )) هذا أكمل تعريف للمسيح ورد في القرآن: إن عيسى

ـ 260 ـ

إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ـ ألقاها إلى مريم ـ وروح منه.

ــــــــــــــــ

ابن مريم هو رسول الله ، ومسيح الله ، وروح الله . وقد سبق تفسير هذه الألقاب.

(( روح منه )) أضيف إليه تعالى تشريفا له ( الجلالان )؛ وقال الزمخشري: (( قيل له روح الله وروح منه تعالى لأنه ذو روح وُجد من غير جزءٍ من ذي روح كالنطفة المنفصلة من الأب الحي، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته الخالصة )) ؛ والبيضاوي: (( وروح منه: ذو روح صدر منه تعالى، لا يتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له. وقيل سمّي روحاً لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب )) والرازي: (( وكلمته )) : المعنى أنه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة. وأما قوله: (( روح منه ففيه وجوه: ( الأول ) إنه جرت عادة الناس إنهم إذا وصفوا شيئاً بغاية الطهارة والنظافة قالوا إنه روح فلما كان عيسى لم يتكوَّن من نطفة الأب وإنما تكوّن من نفخة جبريل عليه السلام ( تناقض: إنه وجد من غير واسطة، وهنا جبريل واسطة ) لا جرم وصف بأنه روح. والمراد من قوله (( منه )) التشريف والتفضيل.

( الثاني ) إنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم ومن كان كذلك وصف بأنه روح.

( الثالث ) روح منه أَي رحمة منه: فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحاً منه.

( الرابع ) إن الروح هو النفخ في كلام العرب، فإن الروح والريح متقاربان فالروح عبارة عن نفخة جبريل. وقوله منه يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه. وهذا كقوله: فنفخنا فيها من روحنا.

ـ 261 ـ

فآمنوا بالله ورسله. ولا تقولوا: (( ثلاثة )) !

انتهوا ! خيراً لكم: إنما الله إله واحد. سبحانه أن يكون له ولد !

ــــــــــــــــ

( الخامس ) قوله روح، أدخل التنكير في لفظ روح ولذلك يفيد التعظيم. فكان المعنى: روح من الأرواح الشريفة القدسية العالية. وقوله (( منه )) إضافة لذلك الروح إلى نفسه تعالى لأجل التشريف والتعظيم )) .

(( فآمنوا بالله ورسله )) أي إن عيسى من رسل الله فآمنوا به كإيمانكم وبسائر الرسل ولا تجعلوه إلهاً ( الرازي ).

ولا تقولوا: (( ثلاثة )) .

(( أي الآلهة ثلاثة: الله وعيسى وأمه )) ( الجلالان ).

(( أي الآلهة ثلاثة الله والمسيح ومريم ويشهد عليه قوله: أَأَنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهَيْن من دون الله. أَو (( الله ثلاثة )) إن صحَّ إنهم يقولون: (( الله ثلاثة أَقانيم )) الآب والابن وروح القدس ويريدون بالآب الذات، وبالابن العلم، وبروح القدس الحياة )) (البيضاوي). ـ أجل لقد صح أن النصارى (( الله ثلاثة )) الذات والعلم والحياة، فهل في إثبات صفات العلم والحياة لله إنكار للتوحيد الإلهي ؟

قال الزمخشري: (( إن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون هو جوهر واحد، ثلاثة أقانيم، اقنوم الآب واقنوم الابن واقنوم روح القدس، وأنهم يريدون باقنوم الآب الذات وباقنوم الابن العلم، وباقنوم روح القدس الحياة: فتقديره (( الله ثلاثة )) . وإِلا فتقديره (( الآلهة ثلاثة )) والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيحَ ومريم ثلاثة آلهة، وأن المسيحَ وَلَدُ اللهِ من مريم: ألا ترى إلى قوله: أَأَنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ وحكاية

ـ 262 ـ

له ما في السماوات وما في الأرض ! وكفى بالله وكيلاً !

ــــــــــــــــ

الله أوثق من حكاية غيره )) ! ـ نقول للزمخشري إن المقالة الأولى (( الله ثلاثة ))هي حقّاً مقالة النصارى، أما المقالة الثانية (( الآلهة ثلاثة: الله والمسيح ومريم )) فليست مقالتهم بل بدعة من بعض نصارى الحجاز الجهال لا يعرفها أحد غيرهم. وقد كافحها القرآن. ولا تصح نسبتها إلى جميع النصارى. فلا محل لقوله: (( وحكاية الله أوثق من حكاية غيره )) !

ويقول الرازي: (( قوله ثلاثة خير مبتدإٍ محذوف. ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدإ على وجوه: ( الأول) ما ذكرناه أَي ولا تقولوا (( الأقانيم ثلاثة )) المعنى ولا تقولوا (( إن الله سبحانه واحد بالجوهر ثلاثة بالاقانيم )) . واعلم أن مذهب النصارى مجهول جداً والذي يتحصل منه أنهم أَثبتوا ذاتاً موصوفة بصفات ثلاثة. الا إنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها: فلهذا المعنى قال: (( ولا تقولوا ثلاثة انتهوا )) . فأمّا إن حملنا الثلاثة على أنهم يثبتون صفات ثلاثة فهذا لا يمكن إنكاره وكيف لا نقول ذلك وإنَّا نقول: هو الله الملك القدوس السلام العالِم الحي القادر المريد. ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر. ولا معنى لتعدد الصفات إلا ذلك. فلو كان القول بتعدد الصفات كفر لزم رد جميع القرآن ولزم رد العقل من حيث انّا نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من كونه حيّاً )) ـ نقول هذا هو مذهب النصارى في التثليث بتثبيت صفات العلم والحياة في الله وتمييزهما، فكيف يناقض الرازي ذاته ويقول: إنه محض كفر وبالجملة فلا نرى مذهباً في الدنيا أشد ركاكة وبعداً عن العقل من مذهب النصارى )) ! ـ يأتي توهّمه وشبهات غيره من قول بعض جهال الحجاز (( إلهين من دون الله )) كما في سورة المائدة، وهذا القول ما كان قط ليكون قول النصارى.

ـ 263 ـ

171 لن يستنكف المسيح أَن يكون عبداً لله ـ ولا الملائكة المقربون ـ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، فسَيَحْشُرُهُم إليه جميعاً.

172 فأمَّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله. وأمَّا الذين استنكفوا واستكبروا

ــــــــــــــــ

( الثاني ) آلهتنا ثلاثة كما قال الزجاج مستشهداً بآية المائدة.

( الثالث ) قال الفرّاء: (( هم ثلاثة )) كقوله سيقولون ثلاثة وذلك لأن ذكر عيسى ومريم مع الله بهذه العبارة يوهم كونهما إِلهين )) .

(7) (( له ما في السماوات وما في الأرض )) خلقاً وملكاً وعبيداً: والملكية تنافي الألوهية ( الجلالان ) لا يماثله شيء من ذلك فيتخذه ولداً ( البيضاوي ). (( إنما الله إله واحد )) أي واحد بالذات لا تعدّد فيه بوجه ما ( البيضاوي ).

آية 171 ـ (( لن يستنكف المسيح )) لن يتكبر ويأنف ( بالإجماع )؛ قيل: قال النصارى لمحمد لِمَ تعيبُ صاحبنا فتقول إنه عبد الله ؟ قال إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله ؛ قالوا بلى ! فنزلت. (( ولا الملائكة المقرّبون )) استطراد وهذا من أحسن الاستطراد ذُكِر للرد على من زعم أنها آلهة أَو بينات الله )) ( الجلالان )؛ وقال الزمخشري (( أي ولا مَن هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً وهم الملائكة الكروبيون ... وذلك أن الناس إنما سبق لرد مذهب النصارى )) . أجابوا ينتج من هذا القول إن الملائكة أفضل من المسيح ومحمد ! قال البيضاوي (( لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقاً والنزاع فيه )) ونقول إنه عطف الملائكة على المسيح بالواو وهي لا تقتضي ترتيباً. والاستشهاد على أن الثاني يكون أبداً أعلى رتبة من الأول فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك.

ـ 264 ـ

فيعذبهم عذاباً أليماً. ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً.

في هذا النص الجوهري يحذّر القرآن النصارى من (( الغلو )) في تعظيم المسيح وتكريمه ـ مستطرداً إلى تعظيم الملائكة المقربين ـ ولكن لا يسمّي هذا الغلو شركاً أو كفراً.

ويعطي عن عيسى ابن مريم هذا التعريف الجميل: إنه مسيح الله ! ورسول الله ! وكلمة الله ! وروح الله ! وهذه الألقاب لا يصف بها أحداً من الأنبياء وسائر المخلوقين.

ويقول هنا إنه كلمة الله وفي آل عمران (( كلمته منه )) تعالى. ويقول هنا أيضاً (( روح منه )) تعالى. فالمسيح كلمة الله وكلمة من الله. وروح الله وروح منه تعالى. والتعبير (( من )) يعني المصدر الذي صدر منه المسيح بدون واسطة مخلوقة أيّا كانت كما يقول البيضاوي. وفي ترادف اللقبين (( كلمة وروح )) تفسير لهما وتعريف بهما.

ولكن هذه النعوت السامية لا تجعل المسيح (( ولداً )) لله فإنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد بل كل ما في السماوات والأرض ملك له وعبيد. وكفى بالله وكيلاً في تدبير خلقه شاهداً على توحيده فلا تقولوا: (( إنهم ثلاثة )) أي الله والمسيح ومريم متوهِّمين ومُوهِمين (( أن المسيح ومريم إِلهان من دون الله )) . لا يُستنتج من هذا النص أنه يعني حَتـْماً تثليث الله أو تثليث الآلهة: وسيأتي ذلك في سورة المائدة.

لاحظ أن الخطاب في القرآن لأهل الكتاب من يهود الحجاز ونصارى الحجاز لا يتعداهم إلى سواهم. فإن أَتهمهم القرآن بتفريط أو بإفراط فهذا لا يعني سواهم من يهود العالم ونصارى العالم. فلا يجوز منا التعميم حيث قصد القرآن التخصيص.

ـ 265 ـ

النص الثاني عشر: سورة الحديد 25 ـ 29

في القسم الأخير من سورة الحديد1 موجز لرسالة الأنبياء وموقف محمد من اليهود (26) والنصارى (27) ويوجه الدعوة إلى النصارى خصيصاً للإيمان بمحمد (28 و 29).

أولاً: عيسى خاتمة المرسلين، فقد اختص أتباعه بالرأفة والرحمة والرهبانية (25 ـ27).

25 لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد

ــــــــــــــــ

آية 25 ـ (( لقد أرسلنا رسلنا )) أي الملائكة إلى الأنبياء أو الأنبياء إلى الأمم ـ وهذا أفضل ـ بالبينات بالحجج والمعجزات. (( وأنزلنا معهم الكتاب والميزان )) ليستوي به الحقوق ويقام به العدل كما قال ليقومَ الناس بالقسط ( البيضاوي ) الميزان: العدل ( الجلالان ) وعن الزمخشري: آلة الوزن. (( وأنزلنا الحديد )) خلقناه. ( بالغيب ) غائباً عنهم. وعن ابن عباس ينصرونه ولا يبصرونه. (( وليعلم الله )) باستعمال أسلحة الحديد من ينصره ورسله (البيضاوي).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الحديد مختلفة عليها هل هي مكية أم مدنية ؛ قال الجلالان : مدنية والزمخشري : مكية. والبيضاوي : مدنية وقيل مكية. ونحن نجزم بأنها مدنية لأنه يوجه الدعوة صريحاً إلى أهل الكتاب ليؤمنوا به وهذا لم يفعله في مكة فقد كان واحداً معهم ـ ويهاجم المنافقين ولم يكن في مكة منافقون.

ـ 266 ـ

ومنافع للناس، ولِيعلمَ الله مَن ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز.

26 ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوّة والكتاب: فمنهم مهتدٍ وكثير منهم فاسقون.

27 ثم قفّينا على آثارهم برسلنا، وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل.

ــــــــــــــــ

آية 26 ـ (( وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب )) يعني الكتب الأربعة التوراة والإنجيل والزبور والفرقان فإنها في ذرية إبراهيم ( الجلالان )، (( بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب. وقيل المراد بالكتاب الخط )) ( ابن عباس والبيضاوي ). (( الكتاب )) الوحي وهكذا فقد حصر في هذه الآية النبوة في ذرية إبراهيم.

آية 27 ـ (( ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم )) أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى )) ( البيضاوي ) (( ورُهْبَانيةً )) الفعلة المنسوبة إلى الرَهْبان وهو الخائف، فعْلان من رهب، كخَشْيان من خشي. وقُرِئ رُهبانية بالضم كأنها نسبة إلى الرُهبان وهو جمع راهب كراكب وركبان. وانتصابها بفعل مضمر يفسر الظاهر تقديره وابتدعوا ويجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها وابتدعوها صفة )) ( الزمخشري والبيضاوي). ومعناها (( ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة)) ( الزمخشري )؛ هي رفض النساء واتخاذ الصوامع ( الجلالان )؛ وهي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس ( البيضاوي ).

(( ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ... )) فيه تناقض ظاهري: ما كان مكتوباً لو يكون مبتدعاً من عند أنفسهم ( الجلالان ) وقال البيضاوي:

ـ 267 ـ

وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، ورهبانيةً ابتدعوها، ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها.

فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون.

في هذا المقطع لمحة خاطفة عن تاريخ الوحي وعن النتائج التي وصل إليها عند أهل الكتاب في زمانه: لقد أرسل الله الأنبياء من ذرية نوح وإبراهيم، حصراً. وأيّدهم بالبيّنات، بالحجج والمعجزات. وأنزل معهم الوحي والعدل أي الحقيقة والعدالة. ونصرهم بأسلحة الحديد ليعلم بها من أنصاره. وهذه السلسلة النبوية من الذرية المصطفاة تبدأ من نوح وإبراهيم وتنتهي بعيسى: (( أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى )) ( البيضاوي ): فعيسى خاتمة المرسلين.

وامتازت رسالة عيسى، ليس فقط بأنها الخاتمة، بل في طابعها الإنساني الرحماني: ((وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة )) . ومن خصائص أتباع عيسى: الرهبانية. قد تكون مكتوبة عليهم من عيسى وقد تكون مبتدعة من عند أنفسهم، لا يجزم القرآن بذلك. ويلاحظ الفتور المخيّم في زمانه وبلاده في تلك المؤسسة النصرانية: (( فما رعوها حقّ رعايتها )) . ثم يخرج بنتيجة مُرَّة عن أهل الكتاب من اليهود (26) والنصارى (27): فمنهم مهتد، عامل بإيمانه، مثاب عليه، وكثير منهم فاسقون. والفسق ليس الضلال في الدين بل في الطلاح في العمل. لذلك يوجه الدعوة إلى أهل الكتاب ليجددوا به إيمانهم.

ــــــــــــــــ

(( إلا ابتغاءَ )) استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. وقيل متصل بمعنى ما تعبدناهم بها الا وهو يخالف قوله ابتدعوها، إلا أن يقال ابتدعوها ثم نُدبوا إليها)) .

ـ 268 ـ

ثانياً: دعوة خاصة بالنصارى ليؤمنوا بمحمد ويتعاونوا معه (28 و 29)

28 يا أيها الذين آمنوا: اتقوا الله وآمنوا برسوله يُؤتِكم كَفْلـَيْن من رحمته، ويجعل لكم نوراً تمشون به، ويغفر لكم. والله غفور رحيم.

29 لئلاَّ يعلم أهل الكتاب ألاَّ يقدرون على شيء من فضل الله.

وإن الفضل بيد الله يؤتيه مَن يشاء. والله ذو الفضل العظيم.

هذه السورة من منتصف العهد بالمدينة، وقد وقعت الواقعة النهائية، بعد واقعة الخلاف وتحزّب اليهود مع مشركي العرب على محمد، بين محمد واليهود؛ فيلتفت النبي إلى النصارى ليستميلهم إليه. ويعدهم بنصيبَين من رحمته لإيمانهم

ــــــــــــــــ

آية 28 ـ الخطاب لمن ؟ ـ إنه للذين آمنوا بعيسى ( الجلالان ) أو بالرسل المتقدمة. وقيل الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره ( البيضاوي ) ولا يُبعد أن يثابوا على دينهم السابق وإن كان منسوخاً ببركة الإسلام )) ( البيضاوي ). وروى الزمخشري أنه لما سمعَ من لم يؤمن بمحمد من أهل الكتاب قوله للمسلمين منهم (( يؤتون أجرهم مرتين )) فخروا على المسلمين وقالوا أمّا من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين وأما من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم فما فضلكم علينا )) .

آية 29 ـ لئلا يعلم: لا زائدة أَي ليعلم يؤيده قراءة ليعلم ولكي يعلم ولأن يعلم. وقيل لا غير مزيدة أي لئلا يعتقد ( البيضاوي ).

ـ 269 ـ

بالإنجيل ثم بالقرآن إذا قبلوه؛ وبالنور، والمغفرة على ما سبق لهم من فسق. يدعوهم إلى الإيمان برسول الله الجديد لتحطيم اليهود المتآمرين عليه فيعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله . ويعلموا أنَّ النبوّة والملك بيد الله يؤتيهما مَن يشاء1 ...

 

ـــــــــــــــــــــــ

(1) يظهر من الآية 28 أن للكتابي ( خاصة المسيحي ) أجراً كأجر المسلم في الثواب، وأن للكتابي المسلم أجرين عند الله وكفلين من رحمته إذ (( يؤتون أجرهم مرتين )) .

ـ 270 ـ

النص الثالث عشر: سورة التحريم 12

قد مرّ بنا تفسيره فنكتفي بذكره. في آخر سورة التحريم التي نزلت في نساء النبي، يضرب القرآن لهن مثل النساء الفاسقات امرأَة نوح وامرأَة لوط، ليهربن منه؛ ومثل النساء التقيات ليقتدين به كامرأة فرعون، ومريم بنت عمران:

12 ومريم ابنت عمران التي أحصنتْ فرجَها فنفخنا فيه ( أَو فيها ) من روحنا وصدّقت بكلماتِ ربها وكتبه وكانت من القانتين.

والمعنى أن مريم صدقت بمواعيد الله وكتبه المقدسة التي تحويها. وهناك قراءة أخرى:

12 ومريم ابنت عمران التي أحصننت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وصدقت بكلمة الله وكتابه.

قرأ ابن مسعود (( فيها )) كما قُرِئ في سورة الأنبياء، أي في (( مريم )) . والمعنى أن مريم صدّقت برسالة عيسى وإنجيله ( بالإجماع ).

ـ 271 ـ

النص الرابع عشر: سورة الصف 6 ـ 14

جاء في أسباب نزول سورة الصف1 عن مقاتل أَنها نزلت في توليهم يوم أُحُد (السيوطي والبيضاوي ). قالوا: لو كنا نعلم أي الاعمال أحب إلى الله وأفضل، فنزلت (( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة )) (10) فكرهوا الجهاد فنزلت لِمَ تقولون مالا تفعلون )) (2) وهكذا يكون القسم الثاني (10 ـ 14) متقدماً في النزول على القسم الأول (1 ـ 4). والقسم الوسط (5 ـ 7) مزيداً على السورة من زمن آخر، ولو كان في مثَل موسى وعيسى من التأسي لمحمد ما فيه.

الأول: التجارة الرابحة هي نصرة الله كما نصره الحواريون (10 ـ 14)

10 يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ؟ ..

14 يا أَيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريون: مَن أنصاري إلى الله ؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله ! فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة. فأيدنا الذين آمنوا ( بالله وعيسى ) على عدوهم فأصبحوا ظاهرين.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الصف: جعلها الزمخشري مكيّة، والجلالان مدنية، والبيضاوي مدنية ما وقيل مكيَّة. ـ وعندنا أنها مدنية لأنها تحرّض على الجهاد، وشريعة الجهاد لم تنزل إلا في المدينة وكانت كرازته في مكة (( بالحكمة والموعظة الحسنة )) ونعجب كيف فاتهم ذلك .

ـ 272 ـ

سألوا النبي: أي الأعمال أحب إلى الله وأفضل ؟ قال الإيمان والجهاد، تلك هي التجارة الرابحة. ويعطيهم قدوة على نصرة الله الرابحة مثَل الحواريين الذين لبّوا دعوة المسيح في الحال فنصرهم الله على عدوهم.

ويشهد القرآن بفوز النصارى على اليهود في أيامه؛ ويعطي السبب في ذلك النصر: ((لقد أيّد الله الذين آمنوا بالله وعيسى على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين )). يلتقي هنا القرآن بالإنجيل في جعل خراب اليهود ناتجاً عن كفرهم بالمسيح.

ثانياً: تسلية النبي بمثل موسى وعيسى

2 يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون مالا تفعلون؟

5 وإذ قال موسى: يا قومِ لِمَ تؤذوني وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم ...

6 وإذ قال عيسى ابن مريم: يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم، مصدّقاً لما بين يديَّ من التوراة ـ ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ـ فلما جاءهم بالبينات، قالوا: هذا سحر مبين ( أو ساحر مبين ).

في هذا النص أمران: تسلية محمد عن واقعة فاشلة ( أُحد أو غيرها ) وعن

ــــــــــــــــ

آية 6 ـ (( يا بني إسرائيل )) ولعله لم يقل (( يا قوم )) مثل موسى لأنه لا نسب له فيهم)) ( البيضاوي ) لا نسب من حيث الأب. ويعني قوله (( ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر )) ( الزمخشري ). (( فلما جاءَهم )) الفاعل أحمد أو عيسى ؟ (( اسمه أحمد )) يعني محمداً ( البيضاوي ).

ـ 273 ـ

تخاذل قومه، وعن نخواتهم الفارغة، بمثل موسى إذ خذله قومُه بعد ما جاءَهم بالبينات في أقواله وأعماله؛ وبمثل عيسى الذي صدَّق التوراة التي حكم بها الأنبياء الأولون، وأظهر من البينات ما فاق أسلافه فقالوا ساحر يأتي بالسحر !

وهنا ينسب القرآن إلى المسيح نبوّة (( برسول يأتي من بعده اسمه أحمد )) . هذه النبوّة صورة ثانية لنبوّة التوراة والإنجيل عن (( النبي الأمّي )) ( أعراف 157 ) يقولون إن القرآن قصد بالنبي الأمي (( النبي )) الذي تكلم عنه موسى في توراته، و (( بأحمد )) روح القدس الفارقليطس الذي ذكره إنجيل يوحنا.

نلاحظ أنه وإن كان أحمد ومحمد من أصل واحد، فالصيغة ليست واحدة وليس الاسم واحداً وهذا النص هو الموضع الوحيد في القرآن الذي يرد فيه اسم النبي العربي بهذه الصبغة. وتظهر الزيادة على الآية في هذا المقطع فلو حُذف لما اختل المبنى والمعنى، ولانسجمت الآية أكثر فأكثر.

ويليه حملة على الظالمين (7) الكافرين (8) من المشركين (9) الذين يرفضون دعوة الإسلام.

ـ 274 ـ

النص الخامس عشر: سورة المائدة ( متفرقات )

نظن مع المصحف الأميري أن سورة المائدة في مجملها من آخر عهد النبي العربي في المدينة ـ ولو كان فيها آيات من أَوقات سابقة ـ وسورة المائدة مع آل عمران تجمعان موقف القرآن من المسيح.

أولاً: لقد نسي أَهل الكتاب ميثاقهم (17 ـ 30)

يفتتح السورة بحملة على اليهود (13) والنصارى (15) لأنهم نقضوا الميثاق الذي عقده الله معهم بالإيمان بالنبي الآتي. فليسوا بعد أبناء الله وأحباءَه كما يدّعون (20). ويعرض نفسه عليهم (16) ويخصهم أيضاً برسالته (21) (( يا أَهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أَن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير: فقد جاءكم بشير ونذير )) . ومدة الفترة 569 سنة ( الجلالان ).

في هذا المقطع آية مستقلة، عن المسيح (19) نظنها مزيدة، كررت هنا، وموضعها في (75).

19 لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم! ـ قل: فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يُهلك المسيح ابن مريم وأمّه ومن في الأرض جميعاً. ولله مُلك السماوات والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء؛ والله على كل شيء قدير.

قال الجلالان: لقد كفروا وقد جعلوه إِلهاً، وهم اليعاقبة فرقة من النصارى.

ـ 275 ـ

وقال البيضاوي: هم الذين قالوا بالاتحاد منهم. وقيل: لم يصرّح به أحد منهم ! ولكن لمّا زعموا أن فيه لاهوتاً، وقالوا لا إله إلا واحد، لزمهم أن يكون هو المسيح، فنَسَب إليهم لازم قولهم. وقال الزمخشري: معناه بَتّ القول على أن حقيقة الله هو المسيح لا غير. قيل كان في النصارى قوم يقولون ذلك وقيل ما صرحوا به ولكن مذهبهم يؤدّي إليه حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبّر أمر العالم. وكذلك الرازي.

ثانياً: لكلٍ جعلنا منكم شِرْعةً ومنهاجاً (44 ـ 54): الاستقلال في الشريعة.

جاء في أسباب نزول هذه الآيات أنه زنى من أهل خيبر محصنان فكرهوا رجمهما، على حد التوراة، مفسّرين الرجم بالجلد، فبعثوا إلى بني قريظة من يهود المدينة أن يسألوا محمداً في ذلك. فأفتاهم بالرجم، وأنهم يحرّفون كَلِم التوراة عن معانيه التي وُضع فيها. وخُيّرَ النبي في التحكيم بينهم (( فاحكم بينهم أو أعرض عنهم )) (45) لأن عند اليهود التوراة فيها حكم الله (46) فتكفيهم، وعند النصارى الإنجيل فيه حكم الله (50) وهو يكفيهم، ولأن الله جعل لكل أمة من أمم الكتاب الثلاث شرعة ومنهاجاً خاصاً بها1.

45... فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فلن

ــــــــــــــــ

آية 45 ـ (( فاحكم بينهم أو اعرض عنهم )) قال البيضاوي: (( تخيير لرسول الله إذا تحاكموا لديه بين الحكم والإعراض. ولهذا قيل لو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم وهو قول للشافعي. والأصح وجوبه

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال الجلالان: هذا التخيير في الحكم بينهم (45) منسوخ بقوله: (( وأن أحكم بينهم )) (52) ـ فتأمَّل ! ونقول إن الآية 52 لا تنسخ (45) لأنها مكررة عن (5) التي تأمر بالحكم أي بما فيه كتابهم لأنه بعدها يعلن بأنه لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً.

ـ 276 ـ

يضرُّوك شيئاً، وإن حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط ، إن الله يحب المقسطين.

46 وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ! ثم يقولون من بعد ذلك، وما أُُولئك بالمؤمنين.

47 إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا، والربانيون والأحبار بما استُحْفِظوا من

ــــــــــــــــ

إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميّاً لأنّا التزامنا الذبَّ عنهم ودفع الظلم عنهم، والآية ليست في هل الذمة. وعند أبي حنيفة يجب مطلقاً )) .

وقال الزمخشري: (( قيل كان رسول الله ( ص ) مخيّراً إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بين أن يحكم وبين أن لا يحكم. وعن عطاء والنخعي والشعبي أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين: فإن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا أعرضوا. وقيل هو منسوخ بقوله (( وأن احكمْ بينهم بما أنزل الله)) . وعند أبي حنيفة إِن احتكموا إلينا حُملوا على حكم الإسلام. وإِن زنى رجل منهم بمسلمة أو سرق من مسلم شيئاً أُقيم عليه الحد. وأما أهل الحجاز فإنهم لا يرون إقامة الحدود عليهم يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود )) .

آية 46 ـ (( وكيف يحكمونك )) تعجيب من تحكيمهم النبي الذي لا يؤمنون به وبكتابه مع أن الحكم منصوص في كتابهم. (( فيها حكم الله )) جملة مبيّنة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم. ( الزمخشري والبيضاوي ).

آية 47 ـ (( النبيون الذين أسلموا )) يُستدل منها أن ملة الإسلام هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث ( الزمخشري )؛ يعني أنبياء بني إسرائيل أو

ـ 277 ـ

كتاب الله وكانوا عليه شهداء، ـ فلا تخشوا الناس واخشونِ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ـ ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.

48 ... ومن لم يحكم بما أنزل الله في ( التوراة ) فأولئك هم الكافرون.

49 وقفينا على آثارهم ( الأنبياء الذين أسلموا ) بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه ( قبله ) من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور؛ ومصدّقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين.

ــــــــــــــــ

موسى ومَن بعده إِن قلنا: شرع من قبلنا شرْع لنا ما لم يُنسَخ، وبهذه الآية تمسّك القائل به (البيضاوي ).

(( بما استحفظوا من كتاب الله )) بسبب أَمر الله زهادهم وعلماءَهم بأن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف )) البيضاوي والرازي على هذا الرأي فيما يتعلق بأصول الدين والأحكام الشرعية لأن الآية نزلت في مسألة الرجم.

(( وكانوا عليه شهداء )) أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن ما في التوراة حق وصدق ومن عند الله فلا جرم أنهم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها عن التحريف والتغيير ( الرازي ) ـ فكيف يجوز بعد ذلك اتهامهم بالتحريف!!

ـ 278 ـ

50 وليَحكم أَهل الإنجيل بما أنزل الله فيه. ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.

51 وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه. فاحكُم بينهم بما أنزل الله، ولا تتَّبع أهواءهم عمَّا جاءك من الحق. لكلٍّ جعلنا منكم

ــــــــــــــــ

آية 50 ـ (( ولْيَحْكم أهل الإنجيل )) بلفظ الأمر. وقرِئ (( ولِيحْكم )) وقرِئ (( وأنْ لِيَحْكمْ )) بزيادة أن مع الأمر ـ (( قيل إن عيسى كان متعبداً بما في التوراة من الأحكام لأن الإنجيل مواعظ وزواجر والأحكام فيه قليلة. وظاهر قوله (( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه )) يرد ذلك، وكذلك قوله (( لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً )) ( الزمخشري ). (( والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام ... وان عيسى كان مستقلاً بالشرع )) ( البيضاوي ). و (( كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن ؟ فالجواب عنه من وجوه 1ً إن يؤمروا بالحكم بالدلائل الدالة على نبوة محمد؛ 2ً بما أنزل الله فيه مِما لم يصر منسوخاً بالقرآن؛ 3ً المراد زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره )) ( الرازي ) ـ ونقول ليس في الثلاثة من جواب. بل الجواب الوحيد هو أنه جاز ووجب أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن لأن القرآن أقر كل أمة من أهل الكتاب على شريعتها.

آية 51 ـ (( ومهيمناً عليه )) شاهداً له (الجلالان ) رقيباً على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات ( البيضاوي والزمخشري )؛ وقرئ (( مهيمناً عليه )) بفتح الميم أي مؤَمَّن عليه، فقد مُنّ عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل ( الزمخشري )؛ أي رقيباً عليه شاهداً له حافظاً أميناً عليه ( الرازي ).

(( لكل جعلنا منكم )) أيها الناس، أيها الأمم الثلاث ( بالإجماع ) (( شِرعة

ـ 279 ـ

شِرعة ومنهاجاً: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة. ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.

52 ـ53 وأن احكُمْ بينهم بما أنزل الله ... أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون.

في هذا النص الأساسي النهائي القولُ القاطع على اتحاد اليهود والنصارى والمسلمين على التوحيد في الدين، واستقلال كل ملة منهم بشريعة كتابها، وأن شريعة كل كتاب من الثلاثة مُلزِمة لأهلها دون سواهم: (( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً )) . قال الرازي: ((الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد عليهم السلام بدليل أن ذكر هؤلاء الثلاثة في تقديم في قوله: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور (47)، ثم قال: وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم (49)؛ وقال: وأنزلنا إليك الكتاب (51)؛ ثم قال: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، يعني شرائع مختلفة: للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة )) . واختلاف الشرائع الثلاث واستقلالها من إرادة الله للتنافس في الخيرات: (( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة )) متفقة على شريعة واحدة ودين واحد لا اختلاف فيه.

ــــــــــــــــ

ومنهاجاً )) بفتح الشين وكسرها أي شريعة: فالشريعة أول والطريقة آخرة؛ قال المبرد: الشريعة ابتداء الطريقة والطريقة المنهاج المستمر. واحتج أكثر العلماء بهذه الآية على أن شرعاً من قبلنا لا يلزم المسلمين لأن قوله (( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً )) يدل على أنه يجب أن يكون كل رسول مستقلاً بشريعة خاصة وذلك ينفي كون أمة أحد الرسل مكلّفة بشريعة الرسول الأخر )) ( الرازي بالإجماع ).

ـ 280 ـ

من هذا المبدإِ يتفرع أمرُ القرآن إلى أهل التوراة أن يحكموا بما أنزل الله فيها لأن فيها حكم الله (47)، وأمرُه إلى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه (50)، وذلك زمن النبي وبعد نزول القرآن: فنزول القرآن إذن لا يغيّر شيئاً من حقيقة الإنجيل والتوراة ولا من شريعتهما.

لذلك يجب على أهل القرآن أن يحترموا شريعة أهل الكتاب، واستقلالها، ولا يُخْضِعُوهم لأحكام القرآن والإسلام كما زعم الفقهاء أيام الاستبداد والطغيان، منحرفين عن النهج القويم الذي استنّه القرآن لمحمد وأمته. فالنبي كان مخيّراً في الحكم والتحكيم ما بين أهل الكتاب، لا مجبراً عليه (45) وإذا حكم بينهم فلْيَحكم بما أنزل الله في كتابهم (51 و 52) كم يدل منطق تسلسل الآيات واستقلال الشرائع الثلاث. وقول بعضهم بأن ذلك التخيير نُسخَ في الحال بقوله (( فاحكم بينهم بما أنزل الله )) (51) غير وارد لأن هذا الأمر يتبعه كما قلنا مبدأ استقلال الشرائع.

وقال الرازي: (( وإنه وصف الإنجيل بصفات خمس فقال: فيه هدى للحق، ونور للأحكام، وتصديق للتوراة، وهدى وموعظة للمتقين: فلْيحكمْ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه)) . فهدى الإنجيل ونوره وحكمه وموعظته باقية مع القرآن وبعده.

وقال الرازي أيضاً: (( وإذا كان القرآن مهيمناً على الكتاب كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور حق وصدق باقية أبداً. فكانت حقيقة هذه الكتب معلومة أبداً )) (الرازي ).

ثالثاً: القرآن يدعو أهل الكتاب إلى (( إقامة )) التوراة والإنجيل (62 ـ 73 )

إنه لَفِسْقٌ من أَهل الكتاب مقاومة المسلمين وهم مثلهم في الإيمان بالله . فلو أقاموا التوراة والإنجيل وعملوا بأحكامهما لأَكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. لأن الأصل في الأديان كلها الإيمان بالله واليوم الآخر:

ـ 281 ـ

62 قل يا أََهل الكتاب هل تنقمون منا إِلا إن آمنّا بالله وما أٌنزِل إلينا وما أُنزل من قبلُ. وإن أكثركم فاسقون ...

69 ولو أَنهم أقاموا التوراة والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحتِ أرجلهم. منهم أمة مقتصدة ! وكثير منهم ساءَ ما يعملون ...

71 قل يا أهل الكتاب: لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وما أنزِل إليكم من ربكم. ولَيَزيدَنَّ كثيراً منهم ما أُنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً: فلا تأْسُ على القوم الكافرين.

72 إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون والنصارى:

ــــــــــــــــ

آية 69 ـ أَمّا (( التوراة )) عملوا بما فيها ( الجلالان ) بإِذاعة ما فيهما من نعت محمد، والقيام بأحكامهما ( البيضاوي ).

آية 71 ـ (( لستم على شيء حتى تقيموا للتوراة والإنجيل )) : المراد إقامة أصولها وما لم يُنسخ من فروعها ( البيضاوي )؛ لستم على شيء من الدين معتدّ به حتى تعملوا بما في التوراة والإنجيل ( الجلالان ) ـ نقول: المعنى إنه لا فائدة من الإيمان بلا عمل.

آية 72 ـ (( والصائبون )) رُفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عمّا في حيّز إن كما قال الخليل وسيبويه ... وفي قراءة أبي وابن مسعود وابن كثير (( والصابئين )) بالنصب. وقرِئ الصابون والصابيون )) ( الزمخشري والرازي ). وللنحويين في علة القراءة المشهورة وجوه.

ـ 282 ـ

من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) .

يدعو القرآن أهل الكتاب إلى العمل بما في التوراة والإنجيل ومنه حسب رأيه الإيمان بالنبي العربي. وفي هذه الدعوة اعتراف منه بصحة الكتابَين اللذين في زمانه، وإقرار على دوام إِلزامهما لأهلهما. وإن العمل بما في التوراة والإنجيل لَباب سعادة على الأرض، يوسع الله عليهم الرزق ويفيض من كل جهة، ويعطيهم بركات السماء والأرض، وباب سعادة في جنّات النعيم: فلهم خير الدارين.

ويختم بقوله: إن المسلمين واليهود والصابئين ( فئة من اليهود المتنصّرين ) والنصارى سواءٌ في الإيمان الواحد بالله واليوم الآخر ( مائدة 72 ) كما أكّد ذلك من قبل في سورة البقرة (62).

رابعاً: مهاجمة بعض نصارى الحجاز على كفرهم (75 ـ80)

75 لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم ! وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم !

ــــــــــــــــ

آية 75 ـ (( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم )) تكرّرت في الآية 19: (( هم اليعقوبية، فرقة من النصارى )) ( الجلالان ). (( شرع ههنا في الكلام مع النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وهذا هو قول اليعقوبية لأنهم يقولون: إن الله تعالى حلّ في ذاتِ عيسى واتحد بذات عيسى. ثم حكى عن المسيح أنه قال ((يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي ربكم )) وهذا تنبيه على ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى لأنه لم يفرق بين

ـ 283 ـ

إنه مَن يُشرِك بالله، فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار. وما للظالمين من أنصار!

76 لقد كفر الذين قالوا: إنّ الله ثالث ثلاثة ! وما من إله إلاَّ إِله واحد.

وإن لم ينتهوا عمَّا يقولون لَيَمسَّنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم.

ــــــــــــــــ

نفسه وبين غيره في أن دلائل الحدوث ظاهرة عليه )) ( الرازي )؛ (( وهم الذين قالوا بالاتحاد منهم. وقيل لم يصرّح به أحد منهم بل حكى لسان حالهم )) ( البيضاوي ).

وعندنا أنها مقالة اليعقوبية لأنه يدحضها بمقالة النسطورية التي كانت شائعة في كنائسهم، نقلاً عن المسيح: (( الله ربي وربكم )) ( مائدة 75 ) (( إني صاعد إلى أبي وأبيكم إلى إلهي وإلهكم )) ( يوحنا 20 : 17 ). ولكن هذه المقالة لا يفهم منها ما فهمه المفسّرون (( إن الله تعالى حلَّ في ذات عيسى واتحد بذات عيسى )) بل ليس لعيسى ذات غير ذاتِ كلمةِ الله: فليس هناك ذاتان بل ذات واحدة تجسدت أي تدرّعت بجسد؛ وهذا القول بعيد كل البعد عن مذهب الحلول والحلولية، ومذهب الاتحاد بين ذاتٍ خالقة وذات مخلوقة.

آية 76 ـ (( لقد كفر الذين قالوا: (( إن الله ثالث ثلاثة )) . وهذا على زعمنا تكفير أيضاً لمقالة الملكانية كما كان يُتهمهم بها النسطورية: ليس الله ثالث ثلاثة: الآب والابن والروح القدس، فالابن والروح ليسا بإلهين من دون الله حتى يكون الله ثالثهما. وحكى القرآن صورة أخرى عن تهمة الثلاثة أنهم الله والمسيح ومريم ( مائدة 78 و 119 ) وهذه إما كانت تهمة من نساطرة العرب ضد خصومهم، وإمّا مقالة من بعض نصارى العرب الجهال حكاها القرآن عليهم.

ـ 284 ـ

77 أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه ؟ والله غفور رحيم.

78 ما المسيح ابن مريم إلاَّ رسول قد خلت من قبله الرسل

ــــــــــــــــ

قال الرازي: (( في تفسير قول النصارى (( ثالث ثلاثة )) طريقان: 1ً قول بعض المفسرين وهو إنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى (( آلهة ثلاثة )) و الذي يؤكد ذلك قوله : (( أأنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله )) ( 119 )، فقوله ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثة آلهة أو واحد من ثلاثة آلهة، والدليل أن المراد قوله في الرد عليهم (( وما من إله إلا واحد )) 2ً إٍن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم أب وابن وروح القدس، وهذه الثلاثة إله واحد كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة؛ وعنوا بالآب الذات وبالابن الكلمة وبالروح الحياة وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا: إن الكلمة ـ التي هي كلام الله ، ( كلاّ ! ) اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر واختلاط الماء باللبن ( الاتحاد لا يعني الاختلاط المستحيل ! ) وقالوا إن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد )) . ويعقب عليه بقوله: (( إن هذا معلوم البطلان ببديهية العقل فإن الثلاثة لا تكون واحداً والواحد لا يكون ثلاثة !! ـ ونقول من حيث الجوهر، بلى ! ومن حيث الخواص والصفات، كلاّ ! يوحّدون جوهر الله ويثلّثون خواصّه الذاتية وهذا ليس جعل الثلاثة واحداً ((حتى لا يُرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى )) !!

آية 78 ـ تقويم للاعتقاد اللازم بالمسيح وأمه. وبعد أن أورد برهان النقل في (75) أورد هنا العقل على استحالة إلهية المسيح وأمه (( كانا يأكلان الطعام )) : المقصود من ذلك الاستدلال على فساد قول النصارى من وجوه 1ً إن كل من كان له أم فقد حَدَثَ بعد أن لم يكن وكل من كان مخلوقاً لا إلهاً؛ 2ً إنهما كانا محتاجَيْن، لأنهما كانا محتاجين إلى

ـ 285 ـ

وأمّه صديقة. كانا يأكلان الطعام. انظر كيف نبيّن لهم الآيات ثم أُنظرْ أنّى يؤفكون !

79 قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً، والله هو السميع العليم.

80 قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبلُ وأَضلّوا كثيراً، وضلّوا عن سواء السبيل )) .

في هذا المقطع من سورة المائدة يظهر لنا أن القرآن بإيمانه بعيسى وأمه اختار مقالة النسطورية، وليدة الأريوسية، التي تسربت إلى المدينة من الحيرة بطريق (( العبّاد )) : المسيح إله وابن الله، بالمجاز1 لِسُموّ منزلته التي لا يدانيه

ــــــــــــــــ

الطعام أشد الحاجة والإله هو الذي يكون غنياً عن جميع الأشياء فكيف يعقل أن يكون إلهاً )) (الرازي )؛ (( أمه صدّيقة )) صدّقت بآيات ربها وبكل ما أخبر عنه ولدها ( تحريم 12 ) أو صدّقت بكلام جبريل فسمّيت الصديقة أو لغاية بعدها عن المعاصي وشدة جدها في العبادة فإن الكامل في هذه الصفة يسمى صديقاً ( الرازي ).

آية 79 ـ هذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء )) ( الرازي )

آية 80 ـ الخطاب لليهود والنصارى ( الرازي ) وقيل الخطاب للنصارى خاصة (البيضاوي ) .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الرد الجميل للغزالي.

ـ 286 ـ

فيها مخلوق؛ ولكن ليس الله المسيحَ كما تقول اليعقوبية، وليس الله ثالث ثلاثة: الآب والابن والروح القدس كما تقول الملكانية. ـ وإن فهم بالثلاثة بعضُ جُهال العرب النصارى: الله والمسيح ومريم كما يحكي القرآن عنهم في هذا النص (77) ـ أو كما كان يتهمهم بذلك النساطرةُ فنقل القرآن تهمتهم ـ فقد وافق القرآن مقالة العبّاد في المسيح أنه كلمة الله وروح الله ، ونبذ التعبير (( إله، وابن الله )) لما فيه من شبهة على خالص التوحيد، وأكّد أنه (( رسول قد خلت من قبل الرسل. وأمه صدّيقة )) (78) مثل الصديقين والصحابين.

ونقل القرآن براهين النساطرة ضد إلهية المسيح: من النقل على لسان المسيح (( الله ربي وربكم )) ( مائدة 75 ويوحنا 20 : 17 ) في خطابه إلى مريم المجدلية. ومن العقل: (( كانا يأكلان الطعام )) (78) كتابة عن حدوثه وعبارة عن حاجته إلى غيره، والإله منزه عن كليهما.

ويختم بدعوة النصارى إلى نبذ (( غلوّهم )) في إكرام المسيح وأمه: فالكفر الذي حكاه (75 و 76 ) ليس إلا غلوّاً في الدين. وحسْبُ المسيح وأمه ما فضلهما به الله من المميزات والكرامات.

خامساً: لعنة اليهود، ومودة النصارى (81 ـ90)

81 لُعنَ الذين كفروا من بين إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون !

ــــــــــــــــ

آية 81 ـ (( قيل إن أهل ايلة لما اعتدوا في السبت لعنهم داود فمسخهم الله قردة. وأصحاب المائدة لمّا كفروا دعا عليهم عيسى فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف )) (البيضاوي ).

ـ 287 ـ

85 لتجدَنَّ أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا.

ولَتجدنَّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنَّ منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون.

86 وإذا سمعوا ما أُنزِل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ممّا عرفوا من الحق. يقولون: ربنا آمنَّا فاكتبنا مع الشاهدين.

87 وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع إن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين.

ــــــــــــــــ

آية 85 ـ (( أقربهم مودّة )) : للين جانبهم ورقة قلوبهم وقلة حرصهم على الدنيا وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل )) ( البيضاوي ) (( علل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمسلمين بأن منهم علماء وعباداً، وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبَر فيهم، واليهود على خلاف ذلك (85) ووصفهم برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن (86). وإن عداوة اليهود التي اختصت المؤمنين أشد العداوات و أظهرها . وإن مودة النصارى التي اختصت المؤمنين أقرب المودات وأدناها وجوداً وأسهلها حصولاً ( الزمخشري ). ـ روي أنها نزلت في وفد النجاشي القادمين على محمد من الحبشة ( الجلالان ) أو في النجاشي وأصحابه مما هاجر المسلمون إليهم ( البيضاوي ) فنقول: ليس الأمر كذلك لأن الكلام عام ولأنه يذكر النصارى الباقين على دينهم لا الذين أسلموا فالنصارى الذين أسلموا لم يبقَ منهم قسيسون ورهبان كما يذكر.

آية 87 ـ (( ونطمعُ )) عطف على نؤمن ( الجلالان ) ومعناه هل يمنع ما جاءنا من الحق في الإنجيل أن نشارك القوم الصالحين في إيمانهم ( هذا مما يقوله الزمخشري )

ـ 288 ـ

88 فأثابهم الله بما قالوا جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين.

89 والذين كفروا ( الآية 81 ) وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم.

التكفير السابق لا يشمل النصارى كلهم بل (( الذين كفروا منهم )) (76) فقالوا (( إن الله هو المسيح )) (75) بالإحالة والتحوّل، أو (( إن الله ثالث ثلاثة )) الله والمسيح ومريم أمه (76) بجعل مريم إلاهة والثلاثة ثلاثة آلهة. النصارى لم يقولوا ولا يقولون ذلك على الإطلاق؛ فقد يكون ذلك قد صدر عن بعض جهال نصارى الحجاز البعيدين عن مراكز النصرانية الحنيفة؛ ذلك لأن القرآن بعد أن يجدّد لعنة داود وعيسى ابن مريم على اليهود (81) يشيدُ بمودّة النصارى للمسلمين ويمدحهم على صداقتهم لهم، ناسباً ذلك إلى رؤسائهم القسيسين والرهبان (85). ثم يذكر حسن إيمانهم (( ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين )) (86) وصِدْق تقواهم في سماع كلام التوحيد في القرآن (( ترى أعينهم تفيض من الدمع ممّا عرفوا من الحق )) ـ ويختم بوعدهم بالجنة (( فأثابهم الله بما قالوا جناتٍ تجري من تحتها الأنهار )) (88). ـ قال بعضهم هذا الثناء كان للنصارى الذين أسلموا وليس للذين بقوا على دينهم! ونقول إن نص الآية 85 يميّز بين المسلمين (( والذين قالوا إنّا نصارى )) ممّا يدل على أنهم بقوا على نصرانيتهم، ويمدحهم وهم على هذه الحال (( لأنهم لا يستكبرون )) (85) بينما يلعن اليهود بما عصوا وكانوا يعتدون (81) ويعدهم بالجحيم (89).

سادساً: استجواب عيسى عن ألوهيته في يوم الدين 112 ـ 123

يوم يجمع الله الرسل (112) لمحاسبتهم، وبعد أن يذكّر عيسى بنعمة الله عليه وعلى والدته (113) وبمعجزة المائدة التي بسببها آمن الحواريون

ـ 289 ـ

به (114 ـ 118)، يسأله السؤال الكبير عن ألوهيته: هل هو الذي علّمها ؟ فينفيها ويؤكد شهادته للتوحيد (119 ـ120).

1 المقدمة الأولى لاستجواب المسيح في يوم الدين (112 و 113)

112 يوم يجمع الله الرسل فيقول: ماذا أُجِبْتم؟ قالوا: لا علم لنا إِنك أنت علاَّم الغيوب.

113 إذ قال الله يا عيسى ابنَ مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك:

إذ أيّدتُك بروح القدس تكلِّم الناس في المهد وكهلاً ! وإذ علمتُك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل !

ــــــــــــــــ

آية 112 ـ مائدة (( يوم يجمع الله الرسل في القيامة )) ( بالإجماع )؛ (( ماذا أُجبتم ؟ هذا السؤال لتوبيخ قومهم )) ( البيضاوي )؛ (( لا علم لنا )) : تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه واتكالاً عليه وإظهاراً للشكاية وتعظيماً لما حل بهم منهم. وقيل من هول ذلك اليوم يذهلون عن الجواب )) ( الزمخشري )، رأوا أن الأدب في السكوت وفي تفويض الأمر إلى علم الله وعدل الحي القيوم ( الرازي )؛ وهذه الآية مطلع لمحاسبة المسيح ( الزمخشري ).

آية 113 ـ قال الرازي: (( بقوله نعمتي أراد الجمع لأنه مضاف يصلح للجنس. واعلم أن الله فسر نعمته عليه بأمور:

( أولها ) قوله (( إذ أيدتك بروح القدس )) أي جبريل، فالروح هو جبريل، والقدس هو الله أضافه إلى نفسه تعظيماً له، أو روح عيسى فالله خصّه بالروح الطاهرة النورانية المشرقة العلوية الخيّرة.

ـ 290 ـ

وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرِئ الأكمه والأبرص بأذني ! وإذ تُخرج الموتى بإذني !

وإذ كففتُ بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين.

ــــــــــــــــ

( وثانيها ) قوله (( تكلّم الناس في المهد وكهلاً )) من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين. وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده.

( وثالثهما ) قوله (( وإذ علمتك الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل )) : الكتاب أي الكتابة وهي الخط أو جنس الكتب، وأما الحكمة فهي عبارة عن العلوم النظرية والعلوم العملية؛ وخص التوراة والانجيل بالذكر على سبيل التشريف أو إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء . ـ وعندنا إنها أسماء أسفار من الكتاب كما يسميها اليهود والنصارى وعليه الزمخشري (( خُصّا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة لأن المراد بهما جنس الكتاب والحكمة )) .

( ورابعها) قوله (( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير... )) قرأ نافع (( طائر )) وطير جمع طائر. إنه ذكر هنا (( فتنفخ فيها وفي آل عمران (( انفخ فيه )) : فيها في الهيئة بحسب المعنى، وفيه في الطير بحسب الظاهر. وإنما أََعاد قوله (( بإذني )) تأكيداً لكون ذلك واقعاً بقدرة الله وتخليقه لا بقدرة عيسى وإيجاده.

( وخامسها ) قوله (( وتبرِئ الأكمه والأبرص بإذني )) قال الخليل الأكمه مَن ولد أعمى والأعمى من ولد بصيراً ثم عمي.

( وسادسها ) قوله (( وإذ تخرج الموتى بإذني، من قبورهم أحياءً. بإذني أي

ـ 291 ـ

وإذ أوحيتُ إلى الحواريين: أن آمنوا بي وبرسولي ! قالوا: آمنا واشهد بأننا مسلمون !

في هذه الآية الفريدة ( مائدة 113 ) يعدّد القرآن نِعم الله على عيسى والميزات التي اختصه بها دون سواه، والخواص التي رفعته فوق المخلوقين إلى مقام يُشعر بألوهيته؛ ويبدأ كل صنف منها بلفظة (( إذ )) دلالة الابتداء.

إن أساس انعاماته كلها التأييد، الذي خُصّ به دون سواه، بالروح القدس وهو غير جبريل كما ظنوا لأن جبريل موحي القرآن أيضاً فلا محل لذكره كنعمة خاصة بالمسيح. وليس هو أيضاً (( روحه المختص به )) كما يقول الرازي وغيره لأنه قوة خارجية بها عمل المسيح معجزاته المذكورة ههنا. بقي إنه روح الله ، فالقدس هو الله ، وهذا الروح قادر وأَقدرَ عيسى على الإحياء والإبراء والنبوة والمعجزات جميعها.

فالنعمة الأولى التي امتاز بها المسيح عن سواه أنّه استنبأه طفلاً وكهلاً ( الجلالان )؛ والمعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل

ــــــــــــــــ

بفعلي وذكر الإذن في هذه الأفاعيل إنما هو على معنى إضافة حقيقة الفعل إلى الله.

( وسابعها ) قوله (( وإذ كففت ... إذ جئتهم بالبينات )) اللام في البينات للعهد وهي ما ذكر من معجزات، أَو للجنس.

( وثامنها ) قوله (( وإذ أوحيتُ إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي )) : من قال إنهم كانوا أنبياء قال ذلك الوحي هو الوحي الذي يوحي إلى الأنبياء. ومن قال إنهم ما كانوا أنبياء قال المراد بذلك الوحي الإلهام والالقاء. وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام لأن الإيمان صفة القلب والإسلام عبارة عن الخضوع في الظاهر )) . وعن الزمخشري: (( قالوا آمنا واشهد بأنا مسلمون )) . مخلصون من أسلم وجهه لله .

ـ 292 ـ

والتكلم ( البيضاوي )، وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده ( الرازي ).

والنعمة الثانية هي معرفته العلم كُلّه، والوحي كله. وذلك منذ طفولته واختص التوراة والإنجيل بالذكر إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء ( الرازي ).

والنعمة الثالثة إنه امتاز بمعجزة القدرة على الخلق. ولو كان هذا الخلق بإذن الله أي بقدرته وفعله، فقد مرَّ هذا العمل فيه واقترن به، فشارك الخالق بمقدرته على الخلق، وهذا لم يعطه الله أحداً حسب القرآن.

والنعمة الرابعة شارك الله أيضاً في المقدرة على إحياء الموتى وإخراجهم من القبور. وهذه صفة إلهية محضة شاء الله أن يجريها في المسيح إظهاراً لفضله على سواه.

والنعمة الخامسة خص الله عيسى بالحجج والمعجزات التي فاق بها سواه حتى ائتمر مَن كفر من بني إسرائيل بقتله، فمكروا ومكر الله ، وكان الله خير الماكرين بمعجزة رَفْعه إلى السماء حيّاً: وهذه ميزة سامية لم يشاركه فيها أحد.

والنعمة السادسة أوحى الله مباشرة إلى رسله فآمنوا به واستشهدوا الله على اسلامهم وتوحيدهم. وربما أوحى الله إليهم كما أوحى إليه فكانوا أنبياء الإنجيل من بعده. فشاركوه في الوحي والنبوة ولم يحصل لرسول أو نبي أن أوحى الله صحابته أو متابعيه واستنبأهم كما عمل بتلاميذ المسيح وصحابته.

 

2 المقدمة الثانية لاستجواب المسيح : معجزة المائدة

115 إذ قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم هل يستطيع

ــــــــــــــــ

آية 115 ـ (( إذ قال الحواريون )) بدل من (( إذ أوحيتُ )) وبيان لسبب إيمانهم وإسلامهم. وبهذا تزول الإشكالات التي استنبطها المفسرون بين الآيتين.

ـ 293 ـ

ربُّك أن يُنزِل علينا مائدة من السماء ؟ قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين.

116 قالوا: نريد أن نأكل منها، وتطمئنَّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين.

117 قال عيسى ابنُ مريم: اللهمَّ، ربنا، أنزِل علينا مائدة من السماء، تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا، وآيةً منك، وارزقنا وأنت خيرُ الرازقين.

118 قال الله: إني منزِّلها عليكم. فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذِّبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين )) .

ــــــــــــــــ

(( هل يستطيع ربك )) ليس هذا شكَّاً منهم بالله ، بل باستجابته لعيسى بهذه المعجزة التي يقترحونها عليه: فقد رأَوا منه معجزات أرضية وهنا يطلبون معجزة من السماء ( عن الرازي )، وسؤالهم لا يعني قلة إيمانهم بل طلب الازدياد في الإيمان بالاطمئنان عن طريق المعجزة الكبرى وذلك كقول إبراهيم (( ولكن يطمئن قلبي )) .

آية 117 ـ (( تكون لنا عيداً )) نعظمه، وقيل العيد هو السرور العائد. روي أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً )) ( البيضاوي )، وكذلك الرازي والزمخشري. ـ ومعلوم أن النصارى اتخذوا الأحد عيداً أسبوعياً لهم إكراماً لقيامة المسيح فيه. فما معنى إذن ذكر عيد النصارى في زمن محمد مقروناً بآية المائدة ؟ إنّا لا نجد له تفسيراً صحيحاً عند المسلمين؛ ولعلّ له أصلاً فيما ذكرناه في المتن.

ـ 294 ـ

في هذا النص اختص بالذكرى من بين معجزات المسيح التي ذكرها (113) المعجزة الكبرى التي فاق بها المسيح سواه من الأنبياء وكانت سبب إيمان الرسل النهائي به: ألا وهي معجزة المائدة. واعتبرها القرآن مع النصارى عيداً أبدياً على مدى أجيالهم.

إنهم طلبوها معجزة من السماء ولسان حالهم يقول: (( إن جميع تلك المعجزات التي طلبتها كانت معجزات أرضية، وهذه معجزة سماوية وهي أعجب وأعظم فإذا شاهدناها كنّا من الشاهدين نشهد عليها عند الذين لم يحضروها ونكون عليها من الشاهدين لله بكمال القدرة ولك بالنبوة )) ( الرازي )؛ ووعدوا أن يتخذوا يوم نزولها عيداً لهم مدى الأجيال. قالوا بالإجماع: ((ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيداً )) . فعيد النصارى شهادة دائمة لتلك المعجزة الكبرى.

ــــــــــــــــ

وهناك جدال في هل نزلت المائدة أم اكتفوا بالسؤال وخافوا من وعيده. قال الرازي الجمهور الأعظم من المفسرين إنها نزلت لأنه تعالى قال: إني منزلها عليكم، وهذا وعد بالإنزال جزماً من غير تعليق على شرط ، فوجب حصول هذا النزول )) . وقال البيضاوي: ((وقيل لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة استعْفَوا وقالوا لا نريد، فلم تنزل. وعن مجاهد: إن هذا مثلٌ ضربه الله لمقترحي المعجزات. وعن بعض الصوفية: المائدة هنا عبارة عن حقائق المعارف فإنها غذاء الروح )) . وقال الزمخشري: (( وعن الحسن: والله ما نزلت، ولو نزلت لكان عيداً إلى يوم القيامة لقوله وآخرنا؛ والصحيح إنها نزلت )) وعندنا إن القرآن يذكر معجزة وقعت كما ذكر المعجزات السابقة كواقعة. ومن ذكر البيضاوي لتفاصيل المعجزة يظهر إنها منقولة على الأناجيل المنحولة.

وقد علق الرازي على صلاة المسيح في الآية 117 بقوله: تأمل في هذا الترتيب، فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضاً فقدموا ذكر الأكل فقالوا (( نريد أن تأكل منها )) وأخّروا الأغراض الدينية الروحانية

ـ 295 ـ

والجمهور الأعظم من المفسّرين أنها نزلت لأنه قال (( إني منزلها عليكم )) وهذا وعد بالإنزال جزماً من غير شرط فوجب حصول النزول. وبسبب نزول هذه المعجزة السماوية التي لا يُفهم بعدها إنكار نبوة المسيح قال: (( فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين )) .

ولكن أيَّ معجزة قصد القرآن بآية المائدة؟ لا يدرون سوى أنها معجزة قائمة بذاتها اختص بها المسيح لتأكيد رسالته ونبوّته وقد يكون لها أصل كما وردت في الأناجيل الأبوكريفية التي كتبها المسيحيون الأولون؛ بل نجد لها أصلاً وهيكلاً في قصة المائدة التي نزلت على الرسول سمعان بطرس وهو يصلّي في يافا ( أعمال الرسل 10 )، ونفهم معناها عن الخبز الحيّ النازل من السماء الذي كنى به المسيح عن تعليمه وجسده الحامل الحياة ( يوحنا 6 ) وفي ضمهم آية المائدة إلى الأحد قد عنى وقصدوا ذبيحة القربان التي يحتفل بها النصارى في كل أحد عيداً لهم، لأولهم وآخرهم، جيلاً بعد جيل. وفهم القرآن وصدّق عنهم أنها (( مائدة نازلة من السماء )) . فالعيد المذكور هو أحد النصارى. والمائدة هي ذبيحة القربان المقدس عندهم على مائدة الهيكل.

ــــــــــــــــ

(( وتطمئن قلوبنا ... )) فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدّم الأغراض الدينية وأخّر غرض الأكل حيث قال (( وارزقنا )) . وعند هذا يلوح كل مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية. ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الرزق بقوله (( وارزقنا )) لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال (( وأنت خير الرازقين )) ؛ فقوله (( ربنا )) ابتداء منه بذكر الحق سبحانه وتعالى. وقوله (( انزلْ علينا )) انتقال من الذات إلى الصفات. وقوله (( تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا )) إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث هي نعمة بل من حيث أنها صادرة عن المنعم. وقوله (( آية منك )) إشارة إلى كون هذه المائدة دليلاً لأصحاب النظر والاستدلال. وقوله ((وارزقنا )) إشارة إلى حصة النفس. وكل ذلك نزول من حضرة الجلال. فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلاً

ـ 296 ـ

3 استجواب المسيح عن إلاهيته في يوم الدين (119 ـ 123 )

هذا المشهد من أروع المشاهد التي يذكرها القرآن، وقد بلغ القرآن الذروة في استنكار إلاهية المسيح: هناك في يوم الحشر، والقول الفصل، في حضرة الله ، وعلى مشهد ومسمع من الملائكة والرسل والعالمين بعد أن يعدّد الله للمسيح أنواع المعجزات التي اختصه بها دون سواه، ليستدرجه بذلك إلى السؤال العظيم عن البدعة الكبرى المنسوبة إليه؛ يسأله:

119 وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم ءَأنت قلتَ للناس اتخذوني وأُمي إلهين من دون الله ؟؟؟

قال: سبحانك ! ما يكون لي أَن أقول ما ليس بحق! إن كنتُ قلتهُ فقد علمتَه: تعلم ما في نفسي ولا أعلمُ ما في نفسك ! إنك أنت علاّم الغيوب.

ــــــــــــــــ

إلى الأدون فالأدون. ثم قال (( وأنت خير الرازقين )) وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق. وعند ذلك تلوح كل شمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية )) .

آية 119 ـ متى كان هذا السؤال ؟ قيل يوم رُفع عيسى إلى السماء والأصح يوم القيامة استناداً إلى 112 ـ 122 ( عن الرازي ) وما معنى السؤال ؟ إنه استفهام انكاري (الرازي ) جاء في معرض التوبيخ لمن قال به ( البيضاوي ).

(( إلهين من دون الله )) صفة لإلهين أو صلة اتّخِذوني. ومعنى (( دون )) إمّا المغايرة أي عبادتهما مع الله، وامّا القصور أي عبادتهما بلا الرب: فإنهم لم يعتقدوا أنهما مستقلاّن باستحقاق العبادة، وإنما زعموا أن عبادتهما توصل إلى عبادة الله عزّ وجل، وكأنه قيل اتخذوني وأمي إلهين متوصلين بنا إلى الله تعالى )) ( البيضاوي ). وقال الرازي: (( إنه كان عالماً بأن عيسى لم يقل ذلك، فلِمَ

ـ 297 ـ

120 ما قلتُ لهم ألا ما أمرتني به : أن اعبدوا الله ربي وربكم.

ــــــــــــــــ

خاطبه به ؟ فإن قلتم الغرض منه توبيخ النصارى وتقريعهم، فنقول إن أحداً من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى ومريم مع القول بنفي إلهية الله ؛ فكيف يجوز أن ينسب هذا القول إليهم مع أن أحداً مهم لم يقل به ؟ والجواب عن الأول إنه استفهام على سبيل الانكار؛ والجواب عن الثاني: قولهم إن عيسى هو صاحب المعجزات التي صدرت منه كأنه نفى أن تكون من الله فصح أنهم أثبتوا في حق بعض الأشياء كون عيسى ومريم إلهين، فصح بهذا التأويل هذه الحكاية والرواية )) ـ والأفضل ما قاله البيضاوي.

(( سبحانك ! ما يكون أن أقول ما ليس بحق )) ما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله ( البيضاوي )؛ (( فلم يقل بأني ما قلتُ هذا الكلام لأن هذا يجري مجرى دعوى الطهارة والنزاهة، والمقام مقام الخضوع والتواضع. ولم يقل بأني قلته بل فوض ذلك إلى علمه المحيط بالكل )) ( الرازي ).

(( إن كنتُ قلتُه فقد علمتَه )) بيّن أنه ليس له أن يقول هذا الكلام ثم شرع يبيّن أَوقع هذا القول منه أم لا فقال: (( إن كنتُ قلتُه فقد علمتَه )) وهذا مبالغة في الأدب وفي إظهار الذل والمسكنة في حضرة الجلال وفي تفويض الأمور بالكلية إلى الحق سبحانه. ثم قال (( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك )) والمفسّرون ذكروا فيه عبارات. والمراد: تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، ولكنه ذكر هذا الكلام (( نفسك )) على طريق المطابقة والمشاكلة وهو من فصيح الكلام )) ( الرازي والبيضاوي عن الزمخشري ).

آية 120 ـ استنكر المسيح مبدَئيّاً تهمة الألوهية في 119 بأنها قول ليس بحق، وبأنه لا يمكن أن يقوله المسيح، وبأن علاَّم الغيوب يعلم أنه لم يقله. ثم

ـ 298 ـ

وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم. فلمَّا توفيتني كنتَ أنتَ الرقيب عليهم. وأنت على كل شيء شهيد.

121 إن تعذّبهم فإنهم عبادُك، وإن تغفر لهم فإنك أنتَ العزيز الحكيم.

122 قال الله : هذا يومُ ينفعُ الصادقين صدقهم.

ــــــــــــــــ

شرع باستنكار العمل المنسوب إليه (( ما قلتُ لهم إلا ما أمرتني به )) تصريح بنفي المستفهَم عنه بعد تقديم ما يدل عليه.

(( أَنِ اعبدوا الله ربي وربكم )) راجع في الزمخشري الإشكالات في تفسير (( أن )) حرف التفسير يحمل فعل القول على معناه أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني به )) . والبيضاوي: إنها عطف بيان للضمير في به ( أو بدل منه )؛ (( والأصل أن يقال ما أمرتهم إلا بما أمرتني به إلا إنه وضع القول موضع الأمر نزولاً على موجب الأدب الحسن لئلا يجعل نفسه وربه أمرين معاً )) ( الرازي ).

(( وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم فلمّا توفيتني )) فسر القرآن في الآية ذاتها الشبهة بالرقيب. ههنا ترد الوفاة عكس الحياة فلا بدَّ من تفسيرها بمعنى الموت مما أوقع المفسّرين في حيرة من أمرهم: فالزمخشري يمرّ عليها مرور الكرام. والجلالان يقولان: توفيتني أي ((قبضتني بالرفع إلى السماء )) ولا يزيد. والرازي الذي يطول شرحه في كل شيء يقتضب ههنا إلى حدّ الإعجاز: (( والمراد منه وفاة الرفع إلى السماء من قوله إني متوفيك ورافعك إليَّ)) . لم يصرّح بمعناها الحقيقي إلا البيضاوي: (( توفيتني: بالرفع إلى السماء لقوله تعالى: إني متوفيك ورافعك. والتوفي أَخذ الشيء وافياً والموت نوع منه، قال تعالى: يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها )) .

ـ 299 ـ

لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي اللهُ عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم.

123 للهِ ملكُ السماوات والأرض وما فيهنّ وهو على كل شيء قدير.

على استجواب الله الرائع المحرج، يجيب المسيح بأدَب لا حدّ له مستنكراً التهمة من كل وجوهها. قال: (( سبحانك )) تنزيهاً لله عن مثل ذلك القول ! وفي هذا الهتاف البديهي مجمل الجواب. وعقـّب باستنكارٍ مبدئي: القول بذاته ليس بحقّ، فلا يكون للمسيح أن يقوله وهو الرسول الأمين. واستغنى عن الجواب بتفويض الأمر إلى علم الله المحيط بالكل فإِنه (( علام الغيوب )) يعلم ما يبدو وما يخفى. ثم ردّ التهمة المنسوبة إليه بالحقيقة الواقعة: (( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم )) . وذكر أنه ظلَّ رقيباً على أتباعه يمنعهم من مثل هذا القول ما بقي حياً فيهم؛ ومن بعده كان الأمر لله.

وفي الآية 120 تعليم صريح لا يقبل الجدل على موت المسيح الذي يعبّر القرآن عنه بلفظ الوفاة ( آل عمران والمائدة ): (( وكنتُ عليهم شهيداً ما دمت فيهم = فلما توفيتني ... )) قال البيضاوي: التوفّي أخذ الشيء وافياً، والموت نوع منه )) . وهنا يعني صراحة الموت لأن الوفاة ترد معارضة للحياة (( ما دمتُ فيهم )) .

وكما كان جواب المسيح لله بأدب بالغ رائع، كان استعطافه وشفاعته لأمّته، التي غَلَتْ في إكرامه بتأليهه، بالغاً حدود الفصاحة والبلاغة: (( إن تعذّبهم فإنهم عبادُك؛ وان تغفرْ لهم فإنك أنت العزيز الحكيم )) (121). ولمّا كان الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( نساء 47 و 115) فاسـتغفار عيسى للنصارى في موقف الصدق يعني أنَّ ((غلوّهم )) في إكرام المسيح وأمه ليس شركاً ولا كفراً يستوجبان الهلاك الأبدي. ويختم بموافقة الله على صدق إقرار عيسى.

ـ 300 ـ

لنص السادس عشر: صدر سورة التوبة ( أو براءة ) 1 ـ 38

روى البخاري عن هذه السورة أنها الأخيرة في النزول ( الجلالان ) ولها أسماء عديدة منها براءة والتوبة ( البيضاوي ). وقد اختلف أصحاب الرسول فقال بعضهم إن الأنفال وبراءَة سورة واحدة، كلتاهما نزلتا في القتال، وقال بعضهم هما سورتان. وهما معاً تعدّان من السبع الطوال في القرآن، وهما السابعة ( الزمخشري ). وقد صدّروا القرآن بالسور السبع الطوال على غرار المعلّقات السبع.

وعندنا إن سورة التوبة تصف حياة الإسلام في السنتين الأخيرتين من حياة محمد، فبعد أن أخضع مكة دانت له الجزيرة العربية كلها، وزال المشركون واليهود من الوجود الرسمي فيها. وكثر المنافقون جدّاً (102). ولذلك نزلت سورة التوبة كلها ( الا صدرها ) في بيان أحوال المنافقين وجهادهم.

ولما فرغ محمد من قلب الجزيرة حيث كان يربض أسد قريش، وجّه جيوشه إلى أطرافها. فاكتسح علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد اليمن بسهولة. ولما توجهت الجيوش إلى الشمال اصطدمت بقوة النصارى، ومن بينهم العرب المتنصرين. وخُتمت حياة النبي بمأسـاة (( جيش العُسْرة )) (118). وقد تركت حملاته إلى الشمال في نفسه أثراً مريراً من العرب النصارى الذين تركوا سيّد قومهم ليوالوا الأجانب ويحمُوا لهم أطراف ممالكهم. لذلك بعد أن وادعهم طيلة حياته أمر قبل موته بقتالهم.

وأصدر ذلك الأمر في يوم مشهود حجّ فيه أبو بكر بالناس الحج الأكبر (3). فبعث النبيُّ في إِثـْره عليّاً فأذّن يوم النحر بمنى: أن لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوّف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده.

ـ 301 ـ

وتلا عليٌّ صدر سورة براءة (1 ـ 37) في وجوب قتال المشركين حتى يُسْلِمُوا فَيَسْلَموا ( 6 ) و قتال الكتابيين حتى يدفعوا الجزية ( 30 ) خاضعين لدولة الإسلام فيسلموا. ويبرّر قتال المشركين بشركهم وقتالهم للمسلمين (9 و 14 و 25) ويبرّر أيضاً قتال الكتابيين بما (( يضاهي )) الشرك في أقوالهم وصدّهم عن سبيل الله (31 ـ 36). ويختم: (( قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة )) (37).

6 فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلَّ مرصدٍ؛ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم.

ويبين الأسباب الداعية إلى قتالهم (7 ـ 29) .

30 قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا

ــــــــــــــــ

آية 30 ـ قال الجلالان (( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وإلا لآمنوا بالنبي (ص) ولا يحرّمون ما حرَّم الله ورسوله كالخمر، ولا يدينون دين الحق الثابت الناسخ لغيره من الأديان وهو دين الإسلام من الذين اوتوا الكتاب وهم اليهود والنصارى حتى يعطوا الجزية، أي الخراج المفروض عليهم كلَّ عام، عن يدٍ أي منقادين أو بأيديهم لا يوكلون بها، وهم صاغرون أذلاء منقادون لحكم الإسلام.

وقال البيضاوي: (( لا يؤمنون بهما على ما ينبغي فإن إيمانهم كلا إيمان، ولا يحرّمون ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة. وقيل (( رسوله )) هو الذي يزعمون اتباعه؛ والمعنى يخالفون أصل دينهم اعتقاداً وعملاً. ولا يدينون دين الحق الثابت. حتى يعطوا الجزية أي ما تقرّر عليهم أن يعطوه. (( عن يد )) أي عن

ـ 302 ـ

يحرّمون ما حرَّم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون !

ويبين الأسباب الأربعة الداعية إلى قتالهم:

31 وقالت اليهود: عزيزٌ ابن الله ! وقالت النصارى: المسيح ابن الله ! ذلك قولهم بأفواههم يضاهِئون

ــــــــــــــــ

يد مؤاتية بمعنى منقادين أو عن يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم ولذلك مُنع من التوكيل فيه أو عن غنى ولذلك قيل لا تؤخذ من الفقير. أو عن يد قاهرة عليهم بمعنى عاجزين أذلاء. أو عن انعام عليهم. أو من الجزية بمعنى نقداً مسلمة من يد إلى يد؛ وأضاف البيضاوي: ومفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب. وأما سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا. وعند أبي حنيفة تؤخذ منهم إلا من مشركي العرب )) . ـ ونحن نؤيد نظرية أبي حنيفة لأن القرآن كله يقصد مشركي العرب والكتابيين من العرب لا يتطلّع إلى سواهم.

وقال الزمخشري: نفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب. وتحريم ما حرّم الله ورسوله أي القرآن والسنة؛ وعن أبي روق: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل. ودين الحق الإسلام. (( عن يد )) يد المعطي أو الآخذ. واختلف فيمن تضرب عليه الجزية: فعند أبي حنيفة تضرب على كل كافر إلا على مشركي العرب، وعند الشافعي لا تؤخذ من مشركي العجم. وعند أبي حنيفة لا تؤخذ ممن لا كسب له وعند الشافعي بلى تؤخذ.

آية 31 ـ (( عزيز ابن الله )) هو قول ناس من اليهود ممن كان بالمدينة وما هو بقول كلهم )) ( الزمخشري )؛ (( إنما قاله بعضهم من متقدميهم أو ممن كان بالمدينة ))

ـ 303 ـ

( يضاهون ) قول الذين كفروا من قبلُ. قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون !

32 اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، والمسيح ابنَ مريم. وما أمِروا إلاَّ ليعبدوا إلهاً واحداً. لا إله إلا هو ! سبحانه عمّا يشركون !

33 يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يُتمَّ ولو كره الكافرون !

ــــــــــــــــ

( البيضاوي ). (( المسيح ابن الله )) هو أيضاً قول بعضهم: وإنما قالوه استحالًةً لأن يكون وُلِدَ بلا أب أو لأن يفعل ما فعله مَن لم يكن إلهاً )) ( البيضاوي ) (( قولهم بأفواههم )) : إمّا تأكيد لنسبة القول إليهم أو إشارة إلى أنه قول مجرد عن برهانٍ (( يضاهون )) ـ والهمز لغة فيه ـ قول الذين كفروا من قبلهم والمراد قدماؤهم على معنى أن الكفر قديم فيهم غير مستحدث. أو المشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله . أو اليهود على أن الضمير في يضاهون للنصارى أي يضاهي قولهم المسيح ابن الله قول اليهود عزيز ابن الله لأنهم أقدم منهم )) ( الزمخشري والبيضاوي ).

آية 32 ـ (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرباباً من دون الله )) بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرَّم الله. وعن عدي بن حاتم: (( في هذه الطاعة عبادتهم )) ( البيضاوي والزمخشري ). ـ نقول هل يوجد رئيس دين من أهل الكتاب يتجاسر على مثل ذلك ويطيعونه! كلا لعمري : بل اتخذوا منهم أولياء فأكرموهم فحكى أنهم عبدوهم. وبمشابهته بين إكرامهم للمسيح والأولياء من الأحبار والرهبان يظهر أن محمداً لم يطلع على الفارق بينهما.

ـ 304 ـ

34 هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

35 يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان لَيأكلونَ أموال الناس بالباطل ويصدُّون عن سبيل الله. والذين يكنزون الذهب والفضة لا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم ( نار جهنم 36 ).

37 قاتلوا ( بعد انقضاء الأشهر الحرم الأربعة ) المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة. واعلموا أن الله مع المتقين.

ــــــــــــــــ

إنه يوحّد بين إكرام المسيح وإكرام الأولياء من الأحبار والرهبان ـ ولا يوجد أحد من النصارى فعل ذلك. وقد يكون التوحيد بينهما من حيث شبهة الشرك.

آية 34 ـ (( ليظهره )) الفاعل الله والمفعول عائد إلى الرسول أو إلى دين الحق (بالإجماع ). ـ وعندنا أن الآية مزيدة هنا لأنها تخص (( المشركين )) وتقطع سياق الحديث عن الكتابيين (33 ـ 35).

آية 35 ـ يذم في الأحبار والرهبان خصلتين: أخذ الرشوة وكنز الأموال (الزمخشري)؛ (( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها )) يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ( الزمخشري والبيضاوي ) ـ لذلك نضرب صفحاً في المتن عن التعليق عليها (35 ـ 38).

آية 37 ـ (( الجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة. وعن عطاء: تالله ما يحلّ للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا وما

ـ 305 ـ

تلك هي وصية محمد الأخيرة لأمته أذاعها عليهم يوم الحج الأكبر (3) يطلب فيها منهم قتال المشركين الدائم حتى يُسلموا (6) وقتال الكتابيين الدائم حتى يخضعوا للجزية (30).

وفي غاية القتال مع الفريقين بون شاسع وتفاوت ساطع: لا سلام للمشركين إلا بالإسلام؛ ولا سلام للكتابيين إلا بالخضوع للجزية. يطلب من المشركين الاستسلام للدين الإسلامي، ومن الكتابيين أن أحبوا البقاء على دينهم، القبول بالجزية عنوةً واقتداراً. لا محل للشرك في دار الإسلام، ويباح لأديان الكتاب الوجود الرسمي في الدولة الإسلامية. لذلك يفرض القرآن على أمته، في وصية محمد الأخيرة، إخضاع المشركين للدين الإسلامي وإخضاع الكتابيين للدولة الإسلامية. وشتّان ما بين المطلبين !

ونلاحظ أيضاً أن قتال المشركين فريضة عامة مطلقة. بينما قتال الكتابيين مقصور ((على الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق )) منهم. فهل من أَهل الكتاب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ؟ حتى يصحّ قتالُه !

يفسّر القرآن في الآيات (31 و32 و33 و35) معنى هذه التهمة (30) ويوضح الأسباب الموجبة لقتال أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين:

1ً إنهم بقولهم (( عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله )) يضاهون قول المشركين (( الذين كفروا من قبلهم )) وهذا (( إِفك )) يستحقون عليه القتال (31)؛ 2ً وزادوا بأن اتخذوا أحبارهم (اليهود ) ورهبانهم ( النصارى ) أرباباً مع الله ، كما اتخذوا المسيح ابن مريم، وقد أمرهم الكتاب بالتوحيد، (( سبحانه عمّا يشركون )) : فقد استحقوا القتال (32)؛ 3ً ويريدون أن يطفئوا نور الإسلام: ويأبى اللهُ أن يُتم نوره ولو كرهوا (33)؛ 4ً أخيراً كثير

ــــــــــــــــ

نسخت )) ( الزمخشري والبيضاوي ) ـ وهكذا فقد أحل بقوله ومثله حرمة الأشهر الحرم لقتال المشركين.

ـ 306 ـ

من الأحبار والرهبان يأخذون الرشوة ويكنزون الأموال ولا ينفقونها في سبيل الله بل يصدون عن الإسلام: أَلا قاتلوهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون!

وبكلمة يستبيح قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأنه يرى في قولهم بأفواههم ((لا بقلوبهم )) ( الزمخشري ) شيئاً ونوعاً من (( الإفك والشرك والكفر )) الذي (( يضاهي قول الذين كفروا من قبل )) من المشركين الحقيقيين.

فما هو بالحقيقة (( شرك )) بل (( شبْهُ شرك )) : مضاهاةٌ أي مشابهةٌ لقول المشركين (الجلالان والبيضاوي ). فالنص صريح قاطع لا يجمع بين المشركين والكتابيين على صعيد واحد: فأنه يأمر بقتال المشركين حتى يُسْلِموا ولا مندوحة لهم عن الإسلام، وبقتال الكتابيين حتى يعطوا الجزية للدولة الإسلامية وهم فيها على دينهم. لا يعترف بوجودٍ وكيان رسمي للمشركين في دار الإسلام ويعترف لليهود والنصارى بالحرية والكيان الرسمي بعد دفع الجزية.

ثم إنه بعد هذه الحملة العنيفة تحريضاً على قتالهم يعود في آخر سورة التوبة، أي في آخر ما نزل من القرآن، فيجمع بين الكتب الثلاثة في منزلة واحدة ودرجة واحدة: (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأَموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون: وَعداً حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن. ومن أوفى بعهده من الله )) (112).

إلى اليوم كان محمد يستبيح قتال اليهود وحدهم لا لخلاف في الدين بل في السياسة، بسبب مؤامراتهم، والآن وصيته الأخيرة يبرّر قتال اليهود والنصارى بعد أن اصطدم معهم في شمال الجزيرة بحجة الخلاف الديني. مع أَنه قد أشاد منذ قليل بصدق مودة النصارى للمسلمين ( مائدة 85 ) ولم يُسَمِّ عبادتهم للمسيح إلا (( غلوّاً في الدين )) لا غير ( مائدة 80، نساء 170).

وقد استخلص الزمخشري من سورة التوبة هذا المبدأ: (( مَن دُعِيَ إلى الله عز وجل فأجاب، ودعي إلى الجزية فأجاب: فقد اتبع الهدى )) .

ـ 307 ـ

الجزء الثاني : تحليل النصوص القرآنية في المسيح

 

(( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه و كلمته

أَلقاها إلى مريم و روح منه )) ( نساء 170 ) .

عيسى ابن مريم آية في مولده

عيسى ابن مريم آية في حداثته

عيسى ابن مريم آية في رسالته

عيسى ابن مريم آية في آخرته

رأي القرآن في موت المسيح

رفع المسيح إلى السماء حيّاً

عيسى ابن مريم (( علم للساعة )) وآية في يوم الدين

المسيح ويوم الدين

شفاعة المسيح

عيسى ابن مريم آية في قداسته وكماله

عيسى ابن مريم آية في شخصيته

إلهية المسيح في القرآن

ألقاب المسيح في القرآن

خاتمة : شخصية المسيح في القرآن تسمو على جميع الأنبياء

عيسى ابن مريم آية في مولده

 

(( قال ربك : هو عليّ هيّن ! و لنجعلـَه

آية للناس و رحمة منا ! )) ( مريم 21 )

 

 

تبسط القرآن فـي خبر مولد المسيح في سـورتي مريم (15 ـ33) وآل عمران (33 ـ47)؛ وأوجزه في الأنبياء (91) والمؤمنون (51) والتحريم (12) والنساء (156).

إن قصة ميلاد المسيح في القرآن لمقطع من البلاغة الرائعة، فقد تكون شعراً لا يجارى بلغ أوج الوحي والسموّ في سورة مريم؛ وقد وفَّاه القرآن وصفاً بجعله من بتول لم يمسسها بشر، تحمل وتلد بقوة من الله وتلبث عذراء. والمعجزة الإلهية تكتنف أطوار الولادة كلها. قال الجلالان (( وكان الحمل والتصوير والولادة في ساعة )) !

وما أعظم مشهد البشارة بالمسيح! الله يرسل ملاكه ( مريم ) بل ملائكة ( آل عمران ) من السماء ليبشروا أمه مريم (( بالغلام الزكي )) الطاهر، النامي على الخير والصلاح ! إنه طاهر منذ الحبل به، فلا يحتاج إلى تطهير بعد مولده1 . كلمها الملاك شفاهاً كرامة لها (البيضاوي ) ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها ( الرازي ).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) لقد نقلنا في ما تقدم الحديث الشريف عن البخاري (( كل آدمي يطعن الشيطان بجنبه حين يولد إلا عيسى وأمه عليهما السلام، جُعل بينهما حجاب فلم ينفذ إليهما شيء منه )) . وهو تفسير لصلاة حنة وهي تحمل بمريم أم عيسى (( وإني أعوذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم )) قال البيضاوي (( معناه أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله تعالى عصمهما ببركة الاستعاذة )) .

ـ 309 ـ

تمثل لها بشراً سوياً تام الخَلْق والخُلق. قالت من غاية عفافها لما وقف أمامها: (( إني أعوذ بالرحمن منك ! إن كنت تقيّاً ... )) . لم يدعها الملاك في ريبة من شخصه، ولم يتركها تستكمل تعويذها ؟ (( قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيّاً )) ! فاستغربت هذه البشرى وهي العذراء البتول التي لم يمسسها رجل قط: (( قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسَسْني بشر! ولم أكُ بغيّاً )) !؟ ليس لبشر أو لمخلوق يد في ذلك، إنما الأمر كله له (( الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ( آل عمران 47 ) فأجابها الملاك: ((هو كذلك كما تقولين. قال ربك: هو عليَّ هيّن أن يكون لك غلام بدون مسيس بشر. ولنجعله آية للناس ورحمة منا ! وكان أمراً مقضيّاً )) .

اتخذ بعض الجهال من قول الملاك (( لأهِب لك )) ذريعة للقول بأن الملاك قام مقام الرجل في الحبل بالمسيح ! والقرآن يعتبر مجرّد التفكير بذلك كفراً شنيعاً. وقوله (( لأِهب لك )) حكاية قول الله لا لسان حال الملاك، يؤيد ذلك قراءة (( ليهب لك )) ( البيضاوي ). ورواية آل عمران تقضي على كل شك في هذا الشأن: الحَمْل كان بمعجزة مباشرة من الله (47) (( إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون )) !

قال كثير من المفسّرين: لم يقم جبريل مقام الرجل، بل كان الواسطة المعجزة للحمل البتولي كما جاء في سورة الأنبياء: (( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين )) (91) نفخ جبريل في جيب درعها فحملت بعيسى ( الجلالان ). قد يكون هذا التفسير محتملاً إذا اقتصرنا على السور المكية؛ أَمّا سورة آل عمران، والنساء فلا تدع مجالاً لمثل هذا التأويل فعيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ( نساء 170 )، هو روح من الله ألقي إليها ( الزمخشري ).

وعندنا إن بين السور المكية ( مريم، الأنبياء ) والسور المدنية ( آل عمران والنساء ) تطوراً: فبينما يظهر الملاك في الأولى وكأنه الواسطة المعجزة للحمل البتولي، يظهر الحمل في المدينة معجزة إلهية مباشرة يقتصر دور الملاك فيها على

ـ 310 ـ

البلاغ: أأَلقى الله روحه إلى مريم، قائلاً يا عيسى كن ! فكان ( نساء 170، آل عمران 47 ). وهكذا يظهر معنى قوله (( ونفخنا فيها من روحنا )) ( أنبياء 91، تحريم 12 ) إنه محمول على المفعول، فالمنفوخ هو المسيح روح الله. قال أحدهم (( نزل نفْخ الروح في عيسى، لكونه في جوف مريم، منزلة نفخ الروح في مريم فعبّر بما يفهم ظاهر هذا )) .

وفاتهم جميعاً أن الملاك روح لا جسد له، ولو تمثّل لها بشراً سويّاً، إنما ذلك تمثيل لا تحقيق، فالملائكة كما يقول الإنجيل (( لا يزوجون ولا يتزوجون )) .

فالمسيح (( آية )) البشرية وآية الدهور بسبب ولادته البتولية وهذا شرف لم ينله إبراهيم حجر الزاوية في الدين الحنيف، ولم يحظَ به موسى كليم الله ، ولم يُنسَب مطلقاً إلى محمد ((خاتم النبيين )) . فالنبي العربي وُلد كسائر الناس، ولم يطهر إلا بعد أن شرح له الله صدره ووضع عنه وزره ( الشرح 1 ) وموسى وإبراهيم لم يتقرّبا من الله إلا في كهولتهما.

ومعجزة المسيح لم تكن في الولادة البتولية بل أيضاً في الولادة الطاهرة من مسّ الشيطان، ومن كل أذى للخطيئة: فالملاك يبشّر أمه (( بغلام زكي )) طاهر، ينمو على الصلاح من يوم إلى يوم. فهو ليس بحاجة إلى شرح صدر: فقد ظهر للوجود منذ الحمل به مشروح الصدر، طاهراً وابن الطاهرة !

والمعجزة ليست في الحمل فقط، بل هي أيضاً في الحمل السريع الذي يقتصر على ساعة حسب تأويلهم. وهي كذلك في الولادة المعجزة. لا يرضى أحد من المسلمين حسب الرأي العام أن يراها كسائر النساء، أو أُمهات الأنبياء. لقد انفرد المسيح بميلاد غريب فريد لا شبيه له. حاولوا تفسيره بقولهم (( كما حَمَلَتْه نَبَذَتْه )) أي بمعجزة. ويرينا النص الكريم دهشة مريم ذاتها لما يجري بها، وخشيتها ألا يصدق الناس آية ولادتها. ولم تقاس ألم المخاض بل نراها واقفة لدى جذع النخلة تهزّ بجذعها لتساقط عليها رطباً جنيّاً، ثم تحمل وليدها في الحال وتأتي به قومها تريهم الصبي النبي !

ـ 311 ـ

تتعدد الخوارق لتثبت المعجزة الكبرى: فالرحمان يطعم الوالدة العذراء من نخلة يابسة زمن الشتاء تهزها فتساقط عليها رطباً جنياً ! كما أطعمها من الجنة في حداثتها وهي في المحراب. ويسقيها من جدول ماء سري كان قد جفَّ. فناداها الملاك من تحتها الا تحزني ... فكلي من النخلة واشربي من السري وقرّي عيناً ! (( لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب، ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة )) ( الزمخشري ).

ويختم القرآن خوارق ميلاد المسيح بخاتم النبوة التي تؤيدها. نُطْقُ المسيح ونبوّتُه من مهده: جاءت به قومها تحمله، قالوا، وقد عرفوها بكراً بتولاً: يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً! فأشارت إليه أن اسألوه ! قالوا: كيف نكلم من كان في المهد صبيّاً ؟ هل تهزئين بنا ؟ قال: ((إني عبد الله ، آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً منذ مولدي ! )) . بهذا النطق المعجز شهر لنفسه ولأمه.

ومعجز آخر انفرد به المسيح دون سائر الأنبياء والمرسلين: تنبّأ منذ مولده ( مريم 30) ! استنبأ الله الأنبياء جميعهم (( رجالاً كهولاً )) ، وهو وحده استنبأه طفلاً ! (( تكلم الناس في المهد وكهلاً )) ( آل عمران 47، مائدة 115 ) دون تفاوت في النبوة بين الطفولة والكهولة ( البيضاوي ). هم صاروا أنبياء في كهولتهم، وهو وحده وُلِدَ نبياً ! لم يقرب منه إلا سابقُه يحيى بن زكريا فقد (( آتاه الله الحكم صبيّا )) ( مريم 11) ليؤمن ويصدّق بكلمة الله ( آل عمران 39 )1 .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قارب خبر مولد يحيى في القرآن خبر مولد عيسى ولكن لم يلحقه. أجل ذكر القرآن بعض الخوارق عن مولد يحيى : فقد ولد من أبوين طاعنين في السن، منهما أم عاقر عجوز ( مريم 4 و 8 ) وآتاه الحكم صبياً (12) فكان تقياً (13) برّا بوالديه (14) ولم يكن جباراً عصياً (14) ويستحق الصلاة والسلام في مولده وموته وانبعاثه (15). ولكن شتّان ما بين معجزة ميلاد المسيح من أم بتول ومولد يوحنا من أم عاقر عجوز مولداً طبيعياً من والدين كسائر الناس. وفي الكتاب سيرة عواقر كثيرات حملن طبيعياً بأمر الله . ولكن ليس في الكتاب ولا في القرآن ولا في تاريخ البشرية إن عذراء حبلت

ـ 312 ـ

لم يجمع القرآن الألقاب العظيمة والصفات الفريدة في كلامه عن نبي كما جمعها في خبر مولد المسيح: فالملاك يصف للوالدة مولودها العجيب ! بأربعة ألقاب تعنيه: إن الله يبشّرك بكلمة منه ! اسمه المسيح ! عيسى ! ابن مريم ! إنه ابن مريم والقرآن يخصه بهذا اللقب شهادة منه دائمة بمعجزة أمومة والدته البتولية: ينسبه إلى أمه لأنه لا نسب له من سواها ويهاجم اليهود (( لكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً )) ( نساء 156 ). انه عيسى وهو اسمه الذاتي يحمل معنى نبويّاً في أصله اللغوي: أي المخلّص. إن المسيح الذي ظهر ممسوحاً منذ مولده من الخطايا والأوزار، ممسوحاً بدهن النبوّة، ممسوحاً بالقدرة الخارقة على المعجزات. وما ذلك كله إلا لأنه (( كلمة الله )) ، كلام الله القائم في ذاته تعالى ( الرازي ) وكلام الله الذي به كلّم البشر شخصيّاً ! ثم بأربع صفات تظهر ما له من الميزات الفريدة في عالم النبوة: (( وجيهاً في الدنيا والآخرة )) مقدماً على البشر في الدنيا بنبوته، وفي الآخرة بشفاعته وعلو منزلته ! (( ومن المقربين )) إلى عرش الجلالة ! في الدنيا (( يكلّم الناس في المهد وكهلاً )) وعن الرازي (( قال أبو مسلم معناه أنه يكلمهم حال كونه كهلاً على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية في المعجز )) . وفي الآخرة يكون (( من الصالحين )) الخالدين.

وما إن ظهر المسيح حتى أيّد منذ اللحظة الأولى بشارة الملائكة عنه. قال: (( إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )) : واللقبان مترادفان، إنه عبد الله الذي يعمل بنبوته في سبيل الله منذ وجوده. إنه المصطفى حبيب الله طيلة حياته (( وجعلني مباركاً أينما كنتُ )) . إنه رجل الله قبل كل شيء ، ومدى

ـــــــــــــــــــــــ

وولدت ابناً وهي عذراء غير مريم أم عيسى عليهما السلام. وشتان ما بين الصفات الممتازة التي يتصف بها يوحنا بن زكريا وعيسى ابن مريم : فذاك كان (( سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين )) ( آل عمران ) وعيسى كان ابن مريم وحدها، مسيح الله وروح الله وكلمة الله )) ( نساء 70 ) . ولا يقول القرآن مطلقاً عن يوحنا إنه بشخصه آية ! ولا يقول عن مولده إنه معجزة للملائكة والانس والجن !

ـ 313 ـ

الحياة (( وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً )) ! وليس برجل الدنيا يعمل لسلطان أو لدولة (( ولم يجعلني جباراً شقياً )) !

حياة فريدة تستحق الصلاة والسلام من المهد إلى اللحد: (( السلام عليَّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أبعث حيّاً ! )) سلام الله عليه في هذه الأحوال لأنها أوحش المواطن ( الزمخشري) وفي هذا السلام نبوّة عن موت عيسى وبعثه للحال، تؤيد تلك النبوّة المستقبلة معجزةُ نطقه في المهد وهي حاضرة.

حياة تبدأ بمعجزتي النطق والنبوّة في المهد، وتتكلّلُ بمعجزَتَيّ الانبعاث والرفع حيّاً إلى الله: إن صاحبها لأقوى من الموت والحياة. هل ذكر القرآن شيئاً من هذا بحق نبي أو رسول ؟ وإن مجموع هذه الألقاب والنعوت والصفات مدعومة ومحفوفة بالخوارق والمعجزات، لتجعل من عيسى ابن مريم آية الأنبياء والمرسلين.

وقد استحوذت معجزة مولد المسيح الخارقة على أفكار نبي القرآن وملكت عليه مشاعره. فهو يؤكدها في كل مناسبة: في مكة ( مريم 21، أنبياء 91، مؤمنون 51 ) وفي المدينة ( آل عمران 45، نساء 156، تحريم 12 ). وهو كيفما نظر إليها وجد فيها آية المسيح الكبرى التي ترفعه فوق سائر البشر، آية للناس، ورحمة من الله :

(( قال ربك: هو عليَّ هين ! ولِنجعله آية للناس ! ورحمة منّا ! وكان أمراً مقضيّاً )) . ( مريم 21 ).

 

ـ 314 ـ

عيسى ابن مريم آية في حداثته

 

(( و جعلنا ابن مريم و أمه آية و آويناهما إلى

ربوة ذات قرارٍ و معين )) ( مؤمنون 51 )

 

بهذه الآية يوجز القرآن حداثة عيسى ابن مريم: لقد آواهما الله إلى ربوة منعزلة. لا يذكر القرآن أين كانت هذه الربوة، والمفسرون مختلفون حيارى. على كل حال ليست ببعيدة عن الهيكل الذي تربت فيه مريم، ولا عن بلد القدس الشريف الذي خلقت فيه.

يصف تلك الربوة بأنها (( ذات قرار )) أي مستوية يستقر عليها ساكنوها ( الجلالان ). وقيل ذات ثمار وزروع فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها ( البيضاوي ). ويذكر أنها ذات ((معين )) أي ماءٍ جارٍ تراه العيون. اذن كانت خلوتها في جنة غنّاء على رابية، أليس في هذا الوصف صورة لبلدة الناصرة التي يذكر الإنجيل أن يسوع قضى حداثته فيها مع أمه ؟

حسب القرآن باشر المسيح نبوّته منذ طفولته: (( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّـاً )) ( مريم 30 ). ودرج على النبوّة في حداثته: (( يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك، إذ أيدتُك بروح القدس، تكلّم الناس في المهد وكهلاً )) ( مائدة 113 ). والنبوّة فُطرت معه تعلمها من الله حين ظهوره للوجود ( مريم 30 ) وكانت وحياً شاملاً (( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ( آل عمران 48، مائدة 110 ). ونبوّته من المهد في طفولته وحداثته (( خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله وبعده )) (الرازي، مائدة 113 ).

منذ حداثته يظهر المسيح عنوان التقوى والفضيلة والقداسة (( يكلّم

ـ 315 ـ

الناس في المهد وكهلاً، ومن الصالحين )) ( آل عمران 46 ) قال الرازي: (( ولا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين؛ فلما ذكر بعض المقامات أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات )) . لا غرو في ذلك فهو الصدّيق ابن الصدّيقة ( مائدة 78 ) خاتمة الذرية النبوية ( آل عمران 33 ) المصطفاة على العالمين.

وُلد على الهدى ونشأ على البركة الإلهية؛ (( جعلني مباركاً أينما كنتُ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمتُ حيّاً ( مريم 31 ). بركة الله تكتنفه أينما كان ، ويقضي حياته في الصلاة والزكاة جاعلاً فيها وحدها قرة عينه وما كان بحاجة مثل غيره ليشرح له الله صدره ويضع عنه وزر الصِّغر والكِبر ( الشرح 1 )، ولا في عوز مثل إبراهيم جد الأنبياء إلى استغفار ربه عن شِركه في حداثته وجهالته. إنه المبارك في كل زمان ومكان.

ويذكر القرآن من عجائب المسيح في حداثته تسليتُه في خلق الطيور: (( ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتـُكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير، فانفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله )) ( آل عمران 49 ). ويرجع إلى ذكر هذه الأعجوبة في سورة المائدة: (( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخُ فيها فتكون طيراً بإذني )) (110). ولئن ((خَلَقَ بإذن الله )) فإنّ فيه، على كل حال، مرت هذه القدرة الإلهية، ولم يكن أحد غيرُه أَهلاً لها، وما ذكر القرآن قط أن الله أعطى نبيّاً مثل هذا السلطان الإلهي.

فتلك الحداثة الخارقة، التي لا يذكر القرآن مثلها لغيره من الأنبياء والمرسلين امتازت، مثل حياة المسيح كلها، بنعمة خاصة من الله عليه وعلى أمه، وبتأييد خاص من روح القدس أي روح الله: (( يا عيسى ابن مريم اذكرْ نعمتي عليك وعلى والدتك، إذ أيدتك بروح القدس )) ( مائدة 113 ). بهذه النعمة الإلهية، وبهذا التأييد الروحي كانت حداثة المسيح عيسى ابن مريم ولم تزل آية للعالمين: (( وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين )) . (مؤمنون 51 ).

ـ 316 ـ

عيسى ابن مريم آية في رسالته

 

(( وآتينا عيسى ابن مريم البينات و أيدناه بروح

القدس )) ( بقرة 87 ، 253 ، مائدة 113 )

 

 

إن رسالة المسيح في القرآن قد امتازت وانفردت بتأييد (( روح القدس )) . تعليم القرآن عن (( الروح )) غامض: (( يسألونك عن الروح؛ قل الروح من أمر ربي. وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )) ( اسراء 85 ) بيد أنا نشعر أن روح القدس الذي اختص به عيسى ابن مريم دون سائر الناس ودون سائر الأنبياء، هو غير سائر الأرواح، وإضافته ونسبته إلى القدس تجعله في صلة خاصة مع الله تعالى، فقد جعلوا (( القدس )) مرادفاً لله : فلا يذكر القرآن أن نبياً اختص بهذا الأيد، ولا ينسب هذا الأيد العلوي إلى (( خاتم النبيين )) نفسه؛ أجل يقول القرآن عن تنزيل الوحي على محمد (( نزله روح القدس من ربك بالحق )) ( نحل 102 ) ولكن روح القدس هنا مرادف للروح الأمين )) ( شعراء 193 ) الذي هو جبريل: (( قل من كان عدواً لجبريل فأنه نزّله على قلبك بإذن الله )) ( بقرة 97 ). (( فروح القدس )) الموحي إلى محمد هو جبريل، وبهذا التصريح يتميّز عن (( روح القدس )) الذي خصّ القرآن تأييده بالمسيح. وروح المسيح هذا ليس فقط روح وحي بل هو أيضاً روحُ قدرة إلهية، به أحيا عيسى الموتى، وخلق من الطين طيوراً. أجل صفة (( القدس )) واحدة في وصف روح محمد وروح عيسى، ولكنها شخصية مختلفة ذات قدرة متفاوتة: فجبريل روح من أمر الله (( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا )) ( شورى 52 )، أما روح القدس فهو روح الله الذي يحيي الموتى ويخلق الطيور بواسطة المسيح.

فرسالة المسيح وحدها وكرازته وحدها أيدهما الله بروحه القدوس. عندما

ـ 317 ـ

يفصّل القرآن ميزات الرسـل في باب المفاضلة بينهم يختص عيسى ابن مـريم بهذا التأييد : (( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض: منهم من كلم الله ؛ ورفع بعضهم درجات؛ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ( بقرة 253 ). وعندما يوجز تاريخ النبوة ينفرد المسيح بتأييد الروح القدس: (( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ( بقرة 87 ). ويصرّح القرآن بأن هذا التأييد كان نعمة خاصة من الله بالمسيح: (( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك ـ وعلى والدتك ـ إذ أيدتك بروح القدس )) ( مائدة 113 ).

فالمسيح بقوة الروح القدس (( يكلّم الناس في المهد وكهلاً )) ( مائدة 113 )؛ وبقوة الروح القدس ينطق بمعجزة في المهد؛ وبقوة الروح القدس يعْلـَم الغيب، ويعلـّم الناس سبيل الله . وهو بقوة الروح القدس أيضاً يبرئ الأكمة والأبرص، ويخلق الطيور ويحيي الموتى. أجل، البينات نزلت مع كل الرسل (( لقد أرسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب )) ( حديد 25 ) وجاء موسى بالبينات ( بقرة 92 ) ومحمد أعطاه الله (( آيات بيّنات )) ( بقرة 99 ) لكنها آيات خطابية لا عملية. ولكن البينات التي ظهرت على يد عيسى ابن مريم بتأييد روح القدس لا شبيه لها (( وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ( بقرة 87 ).

وهذا التأييد الإلهي ميزة وخاصيّة ونعمة، والصفة الفارقة لرسالة المسيح حسب القرآن. الأمر الذي يدل على سمو تلك الرسالة، وعلى سمو تلك الكرازة وذلك الوحي.

فالروح القدس علم المسيح كل أنواع الوحي، وهو بعد طفل: (( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك ـ وعلى والدتك ـ إذ أيدتك بروح القدس ... وإذ علمتُك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل )) ( مائدة 113 ). لكن الله اختص عيسى بالإنجيل (( وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور )) (مائدة 46 ). لقد حصر

ـ 318 ـ

النبوة والكتاب في بني إسرائيل، والمسيح منهم، ولكن ميّزه بالإنجيل: (( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوّة والكتاب ... ثم قفينا على أثرهم برسلنا. وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل )) ( حديد 29 ).

بقوة الروح القدس وُلد المسيح نبياً: (( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )) (مريم 30 )، وجاء رسولاً إلى بني إسرائيل (( إذ قال عيسى ابن مريم: يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم )) ( صف 6 ). منذ كونه في بطن أمه جعله (( رسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين ... )) ( آل عمران 49 ). وقد صار منذ وجوده على الأرض نبيّاً ورسولاً بمسحة الروح القدس التي مَسّحّتـْهُ مسيحاً (( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح )) ( آل عمران 45 ).

ويظهر القرآن فضل رسول الإنجيل وسمو رسالته بالألقاب التي وصفه بها دون سائر الأنبياء (( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( نساء 171 ) رسول الإنجيل مُسِحَ مسيحاً بقوة الروح القدس لأنه كلمة الله وروحٌ منه تعالى حلَّ في مريم ومنها ظهر على الأرض يهدي الناس إلى سبيل الحق.

ولكن ماذا علّم المسيح عيسى ابن مريم ؟ ـ علم الإسلامَ المسيحي: بشر بدين الله أي الإيمان بالله واليوم الآخر. من المهد نادى: الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم )) (مريم 36 ). وطاف يكرز ويقول: (( جئتـُكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعونِ : إن الله ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم )) ( آل عمران 51 ). ويظل الحياة كلها عاكفاً على نشر التوحيد بالحكمة، مؤيداً دعوته بالبينات: (( ولمّا جاء عيسى بالبيّنات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبيّنَ لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعونِ: إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم )) ( زخرف 64 ). وهذا الإسلام المسيحي أَوحاه الله إلى الحواريين تلاميذ المسيح: (( وإذ كففتُ بني إسرائيل عنك إذ جئتَهم بالبيّنات، فقال الذين كفروا: إنْ هذا إلا سحر مبين. وإذ

ـ 319 ـ

أوحيت إلى الحواريين أن آمِنوا بي وبرسولي. قالوا: (( آمنا واشهد بأنّا مسلمون )) ( مائدة 114 ) فقبل الحواريون توحيد عيسى وكفر سائر اليهود: (( فلما أحسَّ عيسى منهم الكفر قال: مَن أنصارى إلى الله ؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنّا مسلمون ! ربنا آمنا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين )) ( آل عمران 50 ـ 53 ). (( ان ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأَنه دين كل الأنبياء )) ( الرازي ) ولم يبشر المسيح عيسى ابن مريم إلا بالتوحيد الشديد: (( وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم: إنه مَن يُشركْ بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار )) ( مائدة 72 ). وفي استجواب المسيح يوم الدين، يوم يجمع الله الرسل، يستنكر كل تعليم إلا التوحيد الخالص: (( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلتَ للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال: سبحانك ! ما يكون لي أن أَقول ما ليس بحق. إن كنتُ قلتُه فقد علمتَه. تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إِنك أَنت علاَّم الغيوب ! ما قلتُ لهم إلا ما أَمرْتني به: أنِ اعبدوا الله ربي وربكم )) ( مائدة 117 ).

ومن أهداف رسالة المسيح أن يثبّت التوراة ويصدّقها: (( ورسولاً إلى بني إسرائيل ... مصدّقاً لما بين يدي من التوراة )) ( آل عمران 49 ـ 50 )، وشهادتُه للتوراة شهادة لرسالته: (( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدّقاً لما بين يدي من التوراة )) ( صف 6 ) . فجاء الإنجيل نوراً و هدى و موعظة للمتقين تصديقاً للتوراة (( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدّقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين )) ( مائدة 46 ).

بيد أن هذا التصديق لا يمنع المسيح من تخفيف شدة بعض شرائع التوراة: (( ورسولاً إلى بني إسرائيل ... مصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحلّ لكم بعض حُرّم عليكم )) ( آل عمران 50 ).

ومن مقاصد كرازة المسيح أن يوفق بالحكمة التي أوتيها، بين البشر فيما

ـ 320 ـ

اختلفوا فيه: (( ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، فاتقوا الله وأطيعونِ )) ( زخرف 64 ).

وأما طريقة تعليمه فقد كانت بالتصريح البسيط عن التوحيد، وبالإيجاز المعجز: (( إن الله ربي وربكم: فاعبدوه ! هذا صراط مستقيم )) ( مريم 36، زخرف 64، آل عمران 51، مائدة 116 ) فالصراط المستقيم هو التوحيد المسيحي ! وكانت طريقته بالأقوال والأمثال، إلا أن القرآن لم يذكر منها شيئاً كثيراً؛ فقد حفظ ذكر مثل الزرع: (( ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئهُ فآرزه فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار )) ( فتح 29).

وجمعت الطريقةُ المسيحية الحكمةَ إلى البينات: (( ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة )) ( زخرف 63 ). بينات من الحكمة والهدى خلبت لبهم حتى عدوها سحراً: ((وإذ كففتُ بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات، فقال الذين كفروا منهم: إنْ هذا إلا سحر مبين)) ( مائدة 110 ) وكانت تلك البينات معجزات من الأقوال والأعمال لم يسبق لها مثيل، فصّلها كأسهم نارية في سورة المائدة (113) : يكلم الناس في المهد وكهلاً، ويخلق الطيور ويحيي الموتى ! وتلك الخوارق التي انفردت بها رسالة المسيح كانت بسبب تأييد الروح القدس الذي اختص به عيسى ابن مريم دون سواه: (( وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ( بقرة 87 و 253 ).

ومن خصائص رسالة المسيح معرفة الغيب والنبوّات: كان المسيح مطّلعاً على سرائر الناس وأسرارهم: (( وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم: إنّ في ذلك لآية لكم إن كنت مؤمنين )) ( آل عمران 49 ). وكان يعرف الغيب المجهول من الغد. ويورد القرآن في سورة مريم نبوّة المسيح الكبرى عن آخرته: سوف يموت ويبعث في الحال حياً. ويعطي القرآن معجزة نطقهِ في المهد دليلاً على صحة نبوّته هذه وصدقها: (( والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم

ـ 321 ـ

أموتُ ويوم أبعث حيّاً )) ( مريم 33 ) فهل أعجب وأعظم من نبوّة كهذه ذات أثر دائم، ينطق بها وليد في مطلع وجوده ؟ إنها معجزة خارقة تؤيد نبوّة خارقة ! وإنها نبوّة مدهشة تشهد لمعجزة مدهشة !

وخاتم رسالة المسيح في القرآن المعجزات التي عجز عن مثلها جميع الأنبياء. وهي على نوعين: المعجزات التي تمت في شخصه: الحبل والميلاد بأعجوبة، والنطق حال وجوده، والتنبؤ طفلاً، وارتفاعه حياً إلى الله في آخر حياته الأرضية ـ مات أم لم يمت ـ فهو آية للعالمين في شخصه منذ دخوله العالم إلى حين خروجه منه.

ثم المعجزات التي تمت في غيره على يده، يوجزها القرآن في مقطعين: في آل عمران: (( ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله. وابرِئ الأكمة والأبرص. واحيي الموتى بإذن الله)) ( آل عمران 49 ) ثم في المائدة: (( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني . وتبرِئ الأكمة والأبرص بإِذني. وإذ تخرج الموتى بإِذني )) (110).

ردّد القرآن على الدوام هذه الخوارق الباهرة التي أَجراها المسيح تأييداً لرسالته. ولا يذكر لنبي مهما سما، ولا لمحمد نفسه، معجزة مثلها أو تدنو منها. وهو يصف عيسى ابن مريم بصفات هي أقرب إلى الخالق منها إلى المخلوق: إنه يخلق أحياءً من الجماد، وإنه يخرج الموتى من القبور أحياءً، وأعمال الإحياء والخلق من صفات الله عز و جل.

والمعجزة الكبرى التي اكتسحت إيمان الحواريين هي أنه أنزل عليهم مائدة من السماء: (( إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزّل علينا مائدة من السماء ؟ قال اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا نريد أَن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أَن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين. قال عيسى ابن مريم: اللهمّ ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا

ـ 322 ـ

وآخرنا، وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين. قال الله: وإني منزِلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين )) ( مائدة 115 ـ 118 ) قال الرازي والجمهور الأعظم من المفسرين: (( إنها نزلت ... وليس هذا شكاً منهم بالله بل باستجابته لعيسى بهذه المعجزة التي يقترحونها عليه: فقد رأوا معجزاتٍ أَرضية وهنا يطلبون معجزة من السماء )) . وأَي نبي أعطاه الله معجزة كهذه من السماء ؟! فآمن الحواريون بنزولها وآمن العالم على شهادتهم بها وظلت عيداً لهم لأِولهم وآخرهم إلى يوم القيامة.

لا يذكر القرآن رسالة لنبيّ حتى محمد، تأيدت بالخوارق مثل رسالة المسيح: معجزات حياة المسيح ومعجزات كرازته رفعت رسالته، بشهادة القرآن، فوق جميع الرسالات.

 

ـ 323 ـ

عيسى ابن مريم آية في آخرته

(( إذ قال الله : يا عيسى ابن مريم إني متوفيك

و رافعك إليَّ )) ( آل عمران 55 )

 

 

تمهيد

نصل إلى نقطة حساسة من شهادة القرآن للإنجيل والمسيح موضوعها نهاية المسيح على الأرض؟

إن الإنجيل المقدس يكرِّس ثُلْث صفحاته ليسرد تفاصيل استشهاد المسيح بيد اليهود في أيام ولاية بيلاطس البنطي من قبل رومة على اليهودية، تأييداً منه لرسالته وتعليمه اللذين لم ينكرهما أمام الموت المحتوم: لقد زكّى شهادته بتضحية حياته؛ والشهادة المطبوعة بخاتم الدم لا تُنقض. فيخبرنا الإنجيل أن المسيح قد أوقف وحوكم وتألم وصلب ومات على الصليب ثم قام من القبر في اليوم الثالث وصعد حيّاً إلى السماء. والإنجيل كله، والدين المسيحي كله مبني على فداء البشرية من خطاياها باستشهاد المسيح. فهل يمكن أو يعقل أن يزوَّر كتاب برمته تفديه الملايين من الناس بالمهج والأرواح، وهؤلاء الملايين قد اختلفوا في عقائدهم المستمدّة منه وفي فهم بعض آياته الخطيرة، ولكن لم يختلفوا في نص الكتاب الذي ائتُمِنوا عليه وكانوا عليه شهداء.

والنصارى انتشروا في كل زمان ومكان، وافترقوا فرقاً وجماعات مدة 600 سنة قبل ظهور القرآن، وراحوا يبشرون في كل موضع بحقيقة موت المسيح التاريخية على الصليب. فكيف يمكن أن تُكذّب شعوب برمتها، اتفقت جميعها، مع اختلافها في غير أمر، على هذه الشهادة لحدث جَلَلٍ محسوس مشاهدٍ منقول بالتواتر؟

ـ 324 ـ

والقرآن ينقل لنا أيضاً شهادة شعب اليهود تحت كل سماء، وتبجّجهم بكفرهم وقولهم : (( إنا قتلنا المسيح، عيسى ابن مريم )) ( نساء 157 )؛ شعب بكامله يشهد لحادث خطير محسوس قاموا بتمثيله، ونقلوا خبره بالتواتر حيث رحلوا وحلّوا، ونأتي فنكذّب شهادتهم ونكذّب عيونهم وأيديهم وآذانهم وألسنتهم ؟ وذلك بعد 600 سنة من جريان الحوادث وتواتر الشهادة، التي لم يرتفع صوت من النصارى أو اليهود أو الوثنيين ينقضها أو يطعن فيها ؟!!

وقد شعر العلماء المسلمون بهذا الاشكال الضخم يوجّه إلى مقالة من أنكر موت المسيح من المسلمين. ونقل العلامة الرازي: (( الإشكال الخامس: إن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولا مصلوباً فلو أنكرنا ذلك كان طعناً في ما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوّة محمد وعيسى وسائر الأنبياء )) .

إذن موت المسيح حقيقة تاريخية ردّدت الشعوب المختلفة والأجيال المتعاقبة صداها مدة 600 سنة قبل القرآن. فهل في القرآن صدى لهذه الحقيقة التاريخية، أم أنه ينفي، كما يزعمون، قتل المسيح وموته؟

إن موقف القرآن العام من هذا الموضوع لرائع!

فهو يشهد أنه كما دخل المسيح العالم بمعجزة فريدة خرج منه بمعجزة فريدة لا مثيل لها في تاريخ البشرية، وتاريخ الأنبياء والمرسلين. فعيسى ابن مريم ـ مات أم لم يمت ـ قد ارتفع حياً إلى السماء حيث لم يزل حياً عند الله إلى قيام الساعة: (( إذ قال الله، يا عيسى ابن مريم إني متوفيك ورافعك إليّ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة )) ( آل عمران 55 ). ونقول إن معجزة ارتفاع المسيح إلى السماء حياً في آخر حياته على الأرض ـ دون أن يذوق طعم الموت شأن كل بشر وكل نبي ورسول ـ أغرب وأعظم في جانبه من موته وقيامته وصعوده: في هذه المقالة مجد جديد للمسيح لم يحلم به بشر أو نبي ألا

ـ 325 ـ

وهو استثناؤه من فريضة الموت العامة التي لا يستثنى منها أحد !! فبدل معجزة واحدة لآخرة المسيح يجدون معجزتين: استثناء من الموت، وارتفاعه حياً إلى الله.

 

أولاً : شهادة القرآن بموت المسيح

(( و كنتُ عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني

كنت أنت الرقيب عليهم )) ( مائدة 120 )

 

 

1ً النصوص التي تذكر آخرة المسيح بحسب تاريخ نزولها

1 ) سورة مريم : (( والسلام عليَّ يوم ولدتُ ويوم أُبعثُ حيّاً )) (33).

2 ) سورة البقرة : (( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرُسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم: ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون )) (87) ( قد يكون فيه تلميح لموت المسيح ).

3 ) سورة آل عمران : (( قالوا إن الله عهد إلينا أَلا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار. قل قد جاءكم رسل قبلي بالبينات وبالذي قلتم فَلِمَ قتلتموهم إن كنتم صادقين )) (183). ( قد يكون فيه تلميح لموت المسيح ).

وأيضاً: (( إذ قال الله: يا عيسى ابن مريم إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة )) (55).

4 ) سورة النساء : (( وقـولهم ( اليهود ): إنـا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله! ـ وما قتلوه ! وما صلبوه ! ولكن شبّه لهم. وإنَّ الذين اختلفوا

ـ 326 ـ

فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً )) (156). (هذا النص هو سبب كل جدل ).

أيضاً: (( وإنْ مِن أهل الكتاب إلاّ ليؤمِنَنَّ به قبل موته، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً)) (157).

5 ) سورة المائدة : (( وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله ؟ ـ قال: سبحانك، ما يكون لي أَن أقول ما ليس بحق: إن كنتُ قلتُه فقد علمتَه، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنتَ غلام الغيوب. ما قلتُ لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله وربي وربكم. وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم = فلمّا توفيتني كنتَ أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد )) (116 ـ120). ( وهذا النص هو آخر ما نزل في آخرة السيد المسيح ).

2ً تحليل ونقد

نرى من جميع هذه النصوص المذكورة أنها تؤكد تصريحاً أو تلميحاً (( وفاة )) المسيح، ما خلا الآية 157 من سورة النساء (( فيظهر )) أنها تنفي القتل والصلب، وتخلق بذلك المتناقضات بين التاريخ العام الذي تدعمه شهادة النصارى واليهود والرومان والتاريخ الخاص الذي تبدَؤه هذه الآية الوحيدة؛ وبين الإنجيل المبني جميعه على حادث الصلب الفدائي وبين القرآن الذي يحصرون معطياته، بدون مبرّر، في هذه الآية؛ وأخيراً بين سورة النساء وسائر السور التي قبلها ( آل عمران، مريم ) والتي بعدها ( المائدة ).

وإزاء هذه المشكلة المستعصية يذهب المفسرون مذاهب متباينة متناقضة:

1ً القائلون بالمجاز: يجنح أكثر المتأخرين من المسلمين على قصر رواية القرآن عن آخرة المسيح على سورة النساء، وعلى تفسير كل ما تبقّى من سائر

ـ 327 ـ

السور على ضوئها. وقد يجمع هؤلاء القوم على أخذ (( الوفاة )) المذكورة في آل عمران 55 والمائدة 120 بالمعنى المجازي أي وفاة النوم استناداً إلى قوله (( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه )) ( أنعام 60 ) وقوله: (( الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها: فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )) ( زمر 42 ).

ولكن هؤلاء القوم نسوا أن القرآن يأخذ (( الوفاة بالمعنى الحقيقي أي الموت خمساً وعشرين مرَّة. ولم تَرِدْ بالمعنى المجازي إلا في الموضعين المذكورين بسبب قرينة لفظية تحملها على المجاز (( يتوفاكم بالليل )) ( أنعام 60 ) و (( يتوفى الأنفس في منامها )) ( زمر 42 ). وبدون قرينة لفظية أو معنوية تقيّد المعنى يجب حمل اللفظ على معناه الحقيقي الوضعي البديهي. والقرآن ذاته يشعر بأن المعنى الحقيقي (( للوفاة )) هو الموت (( الله يتوفى الأنفس حين موتها )) لذلك لما أخذ (( الوفاة )) على المجاز اضطر إلى تبيان ذلك بقرينة لفظية فأضاف (( الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت، في منامها )) . وفي النصوص كلها التي تذكر (( وفاة )) المسيح لا توجد أدنى قرينة لفظية أو معنوية تحمل معنى الوفاة على المجاز بل بالعكس فالقرائن المعنوية واللفظية تتطلّب وفاة الموت.

2ً القائلون بالاستيفاء: وهناك فئة تفسّر معنى (( الوفاة )) لغة (( بالاستيفاء )) من استوفى الشيء وتوفى الشيء أي أخذه كاملاً. فقوله (( إني متوفيك معناه مستوفي أجلك المسمّى )) . وهذا ما ذهب إليه الزمخشري والبيضاوي، لتستقيم نصوص القرآن وتنسجم في شأن آخره المسيح.

وفات هؤلاء القوم أن الكلام مركب من ألفاظ تستكمل معانيها في تركيبها وإن احتملت لغةً ومفردةً معاني عديدة. فالوفاة قد تعني (( الاستيفاء )) بحد ذاتها ولكن في تركيب الكلام المفيد لا تعني في لغة العرب ولغة القرآن كله إلا الموت، ما لم تخرج بها قرينة لفظية أَو معنوية عن هذا المعنى.

ـ 328 ـ

وقد اختصر الرازي تفاسير المفسرين بقوله: (( يا عيسى إني متوفيك ( آل عمران 55) ونظيره قوله: (( إني متوفيك )) ( مائدة 120 ): اختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين ( أحدهما ) إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم ولا تأخير، ( والثاني ) فرض التقديم والتأخير. أما الطريق الأول فبيانه من وجوه: 1ً إني متمم عمرك إلى أجلك؛ 2ً متوفيك أَي مميتك وهو مروي عن ابن عباس قال مع وهب توفي ثلاث ساعات ثم رفع، ومع محمد بن اسحاق توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه إليه؛ 3ً قال الربيع بن أنس إنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء؛ 4ً يحمل الألفاظ على ظاهرها من موت ورفع ولكن كيف ومتى فلا يذكره؛ 5ً متوفيك عن شهواتك؛ 6ً التوفي هو أخذ الشيء وافياً أي كاملاً أي أخذه بجسده وروحه؛ 7ً متوفيك أي أجعلك كالمتوفي في نظرهم برفعك؛ 8ً التوفي هو القبض، يقال توفى واستوفى، وهو رفعه؛ 9ً أن يقدر حذف المضاف أي متوفي عملك. ـ والطريق الثاني لا بد من تقديم وتأخير في آية آل عمران، فالواو لا تفيد الترتيب، فيُقدَّم الرفع وتؤخر الوفاة وتحمل على ظاهرها بالموت. واعلم أن الوجوه التي قدمنا تغني عن التزام مخالفة الظاهر )) .

وهكذا ما أخذ (( الوفاة )) بمعنى (( الاستيفاء )) إلا قول من عشرة أقوال. وأكثر الأقوال تقتضي حمل اللفظ على ظاهره بمعنى الموت.

3ً الآخذون بمبدإ النسخ: تشاهد حيرة المفسرين لاستنباط تفسير منسجم بين النساء من جهة وآل عمران والمائدة من جهة أخرى. وهذه الحيرة وهذا الارتباك شاهد على وجود إشكال لم يسلكوا بعد إلى حله السبيل السوي.

وظن قوم آخرون أنَّ لهم مخرجاً في مقالة الناسخ والمنسوخ فقالوا: إن ما جاء في سورة النساء ينسخ ما ورد في آل عمران و مريم وعليه ظل الرأي العام الإسلامي على أن المسيح لم يمت ولكن فات هؤلاء القوم إن النسخ ـ إن قبل كمبدإٍ في تفسير كلام الله ـ لا يقع إلا في الأحكام من أمر أو نهي،

ـ 329 ـ

ولا يجوز البتة أن يُسند إلى الأخبار: فالخبر أمر جرى على وجه معين لا تقدر قدرة أن تجعله لم يكن، (( وكان أمر الله مفعولاً )) . فبعد أن شهد في مريم وآل عمران أن المسيح سيموت ومات فلا يجوز أن يكذب هذا الخبر بقوله في النساء: (( وما قتلوه وما صلبوه ! ... وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه )) ! أي انه لم يمت بأي حال من الأحوال.

وهب وقوع النسخ في هذا الخبر بعينه، فالمعروف بديهياً أن النسخ يتناول ما قبله، ولا يقع فعله على ما بعده. وهب أن الآية 156 من النساء قد نسخت وفسرت ما قبلها من سورة مريم وآل عمران، فكيف تنسخ ما بعدها من سورة المائدة التي لم تكن بعد قد نزلت، ولما نزلت لم يرد شيء بعدها عن آخرة المسيح ؟ فما النسخ هنا كما ترى سوى المَسْخ بعينه !

4ً اسطورة الشّبه: وهناك أسطورة غريبة يتناقلها القوم، ويسِفُّ بعض المفسرين إلى الأخذ بها، ألا وهي قصة (( الشبه )) ؛ ومضمونها إنه لما مكّر اليهود بالمسيح ليقتلوه مكر الله بهم، فألقى شِبْه عيسى على غيره فأخِذ هذا الغير المسكين وقُتل بَدَل المسيح عيسى ابن مريم يُرفع حيّاً إلى السماء ( نساء 157 ) وكان الله خير الماكرين ( آل عمران 54 ).

فهذا التعبير (( شبّه لهم )) من هذه الآية (( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم )) ( نساء 156 ) أصل الرواية التي أخرجوها. وقد أثارت جدلاً طويلاً عقيماً1 وانقسم القوم حول الموضوع فرقاً: هل قُتِل أحد بدل المسيح أم لا ؟ وعند من قالوا بمقتول بدل المسيح هل ألقي على المقتول شِبْه عيسى أم لا ؟ وهل يجوز إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر ؟ وبعد أن يسرد الرازي برصانته المعهودة روايات الشبه الملقى يختم بقوله: (( وهذه الوجوه متعارضة متدافعة، والله أعلم بحقائق الأمور )) .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) نقلناه في تعليقنا على سورة النساء.

ـ 330 ـ

ثم يورد الرازي إشكالات ستة لا مردّ لها على فساد نظرية (( الشبه )) الذائعة بين عامة المسلمين: (( فكيفما كان ففي إلقاء شبه عيسى على الغير إشكالات: ( الأول ) إنه إن جاز أن يقال إن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة ويفضي أيضاً إلى القدح فى التواتر: ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره أبطال النبوءات بالكلية. ( الثاني ) إن الله أيده بروح القدس جبريل، فهل عجز هنا عن تأييده ؟ وهو نفسه كان قادراً على إحياء الموتى فهل عجز عن حماية نفسه ؟ ( الثالث ) إن الله تعالى كان قادراً على تخليصه برفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره، وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه ؟ ( الرابع ) بإلقاء الشبه على غيره اعتقدوا أنَّ هذا الغير عيسى مع أنه ما كان عيسى، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله. ( الخامس ) إن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً، فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد وعيسى وسائر الأنبياء. ( السادس ) ألا يقدر المشبوه به أن يدافع عن نفسه أنه ليس بعيسى، والمتواتر أنه فعل. ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى. فلما لم يوجد شيء من ذلك علمنا أن الأمر ليس على ما ذكرتم )) .

لذلك يجب رفض خرافة (( الشبه )) الشائعة بين المسلمين إلى حيث لا رجعة. ورفضها لا يغيّر من موقف القرآن، ومقالة النساء ، شيئاً.

5ً القائلون بالارجاف: بقي قول من قال (( لم يُقْتَلْ أحد، ولكن أُرجف بقتله فشاع بين الناس )) وإليه يميل الرازي. قال البيضاوي أيضاً: (( وشبّهَ مسند إلى الجار والمجرور (( لهم )) كأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى والمقتول، أو وقع لهم التشبيه في الأمر على قول من قال لم يُقتل أحد ولكن أُرجف بقتله فشاع بين الناس )) . ـ نقول لا تجوز فرية على شعوب مختلفة مدة مئات السنين ! . ولا شيء ينقض تعليل الزمخشري وتفسيره

ـ 331 ـ

لقوله (( شبه لهم )) : (( شبه مسند إلى ماذا ؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح فالمسيح مشبّهٌ به، وليس بمشبه. وإن أسندته إلى المقتول، فالمقتول لم يجر له ذكر ! ـ قلتُ هو مسند إلى الجار والمجرور ( لهم ) كقولك خُيِّل إليهم )) . وهكذا فليس من ضرورة لغوية لأسطورة الشبه والتشبيه.

ومعنى التعبير بسيط له أمثاله في العربية: (( شبه لهم )) أي (( خيّل إليهم )) (الزمخشري ) أو (( وقع لهم التشبيه في الأمر )) ( البيضاوي ) أو اشتبه الأمر عليهم. فأسطورة (( الشبه )) ومقالة المقتول بدل المسيح، باطلة لغوياً ومنطقياً وتاريخياً فيجب طرح هذه السخافة نهائياً.

6ً استنتاجات وتطبيقات: وبناءً على ما تقدم نقول:

أولاً: إن التعارض في آي القرآن عن آخرة المسيح موجود لا سبيل إلى إنكاره إذا أصرّ القوم على فهم الآية 156 من سورة النساء حسب (( ظاهرها )) الذي ينكر موت المسيح وقتله وصلبه1. إن صراحة وشدة نَفْي القتل والصلب والموت في سورة النساء حمل القوم على (( تدبّر )) معنى الوفاة في آل عمران والمائدة على غير معناها الحقيقي. وهي محاولة فاشلة كما رأيت.

فقبل سورة النساء يعلن القرآن مرتين تصريحاً ومرتين تلميحاً بموت المسيح وقتله.

1) ففي سورة مريم المكية يتنبأُ المسيح في مهده عن حياته وآخرته بقوله (( والسلام عليَّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أبعث حيّاً )) (33).

ـــــــــــــــــــــــ

( 1 ) تحذلق قوم فقالوا : إن الآية 156 من سورة النساء لا تنفي الموت بل القتل والصلب لا غير. ـ إن فهم هؤلاء قصير لأنّ تصريحات القرآن عن رفع المسيح حيّاً تنفي كلّ موت بقتل أو بغيره (( وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه )) : إن التمسك بظاهر الآية تقتضي استثناء المسيح من كل أنواع الموت.

ـ 332 ـ

قال قوم لا يذكر القرآن هنا موت المسيح الوهمي الذي حصل عند مجيئه الأول بعد موته الحقيقي الذي سيتم عند مجيئه الثاني قبل قيام الساعة.

لا شك أن القرآن يعني موت المسيح الحقيقي وبعثه الحقيقي كما يعني مولده الحقيقي الذي يقص خبره. ولا شك إن القرآن يعني موته الحقيقي الذي ختم به حياته بعد ظهوره الأول على الأرض كما عنى ذلك عن يحيى بن زكريا الذي ختم ذكره بالكلام ذاته (( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموتُ ويوم يبعث حيّاً )) : فكما مات يحيى مات عيسى: فالمشهور إن هذا السلام يصف حادثاً تاريخيّاً مماثلاً، وموتاً حقيقيّاً لا مجاز فيه ليحيى كما للمسيح.

ولا تنسَ أَن كلام عيسى عن نفسه في مهده (29) نبوّة منه عن آخرته، مدعومة بمعجزة نطقه الخارقة: فإذا كان المسيح لم يمت كانت نبوَّته كاذبة، وشهادته لنفسه بهاتين المعجزة والنبوَّة كاذبة ! ومعجزة نطقه في مهده زوراً وبهتاناً وحاشى ! وإذا حملنا تحقيق النبوّة إلى آخر العالم، ضاع مغزاها على أهل زمانه والأجيال المتعاقبة إذ لا يدري أحد متى تتحقق.

فعندنا في سورة مريم شهادة صريحة لا ريب فيها على حقيقة موت المسيح وانبعاثه في شكل نبوّة ترتكز على معجزة. وقول مَن قال: الموت لا يعني القتل، أو هو الموتُ الآجل لا العاجل، حذلقة فارغة ينقضها سياق الحديث في السورة كلها.

2) في سورة آل عمران المدنية يسرد قصص آل عمران مطولاً ويختمه بهذا التصريح عن آخرة المسيح لمّا مكر اليهود به ليقتلوه (54): (( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة)) (55).

هذا أيضاً إقرار لا ريب فيه عن حقيقة وفاة المسيح وانبعاثه ورفعه إلى السماء. وتفسير الوفاة هنا بمعنى النوم كما يريد البعض ـ أي رفعه الله إليه في سِنَة الكرى ـ تفسير سخيف لا قرينة لفظية أو معنوية تدل عليه. وجمهور

ـ 333 ـ

المفسرين على أن القرآن يعني وفاة الموت كما يتضح جَليّاً من سورة المائدة (117) حيث الوفاة ترد معارضة للحياة.

قال الرازي: (( روي عن ابن عباس ومحمد بن اسحاق أنهما قالا: متوفيك أي مميتُك ثم أقامه الله ورفعه إلى السماء. وقال وَهْب توفي ثلاث ساعات ثم رفع إلى السماء. وقال محمد بن اسحاق توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه)) . وختم البيضاوي بقوله: (( وقيل أماته الله سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى )) .

لا يوجد مفسر واحد في الإسلام وغيره يستطيع أن يجزم بأن الوفاة هنا لا تعني أيضاً الموت؛ قال البيضاوي: (( التوفي أخذ الشيء وافياً والموت نوع منه )) . وسياق الحديث ( 54 ـ 56) يؤيد ذلك: مكر اليهود بالمسيح وقتلوه ، فمكر الله بهم فتوفاه ورفعه إليه، وهكذا (( كان الله خيرَ الماكرين )) .

3) وهناك في سورة البقرة تلميح يتضمن معناه الكامل قتل المسيح: (( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ؟ ففريقاً كذبتم ! و فريقاً تقتلون ! )) ( 87) . يذكر المفسرون من الفريق المقتول زكريا ويحيى، لا عيسى. مع أن القرآن لا يذكرهما هنا بل يسمّي صراحة موسى وعيسى، ويشمل بينهما باقي الرسل بكلمة عابرة، أفلا يقع التكذيب على موسى والقتل على عيسى؟

4) وتلميح آخر في آل عمران أوضح: (( وقالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار. ـ قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فَلِمَ قتلتموهم إن كنتم صادقين؟ )) (183) ـ مَن هو الرسول الذي جاء بالقربان (( الذي قلتم )) وقتلوه ؟ راجع قصص القرآن كله عن الأنبياء جميعاً، فلا ترى غير عيسى ابن مريم وحده قد أنزل على تلاميذه قرباناً أو مائدة من السماء ( مائدة 111 ـ 115 ). فهو إذن رسول القربان الذي قتلوه (120).

ـ 334 ـ

وبعد سورة النساء التي ظاهرها ينفي موت المسيح وقتله يعود القرآن في آخر حياة النبي العربي يشهد بحقيقة موت المسيح في سورة المائدة التي بعدها لا ينزل شيء عن آخرة المسيح:

(( وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم = فلمّا توفيتني كنتَ أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد )) (120).

هذا النص هو الصخرة التي تتحطم عليها جميع محاولات الذين ينكرون شهادة القرآن بموت المسيح. فالوفاة هنا تعني الموت والموت دون سواه، وتعني الموت الحقيقي لأنها ترد معاكسة للحياة: (( ما دمت فيهم = فلما توفيتني )) . فهي شهادة صريحة وما من شك فيها. ويريد القرآن موت المسيح في ختام رسالته، لا موته في آخر العالم قبل قيام الساعة، لأن الله يستجوبه عن عبادته بعد رسالته: (( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله )) (119) فينكر المسيح أن رسالته تضمنت شيئاً من ذلك (119 ـ120) ويقول شهدت لهم بالتوحيد ما دمتُ فيهم فلما توفيتني صرتَ أنت الرقيب عليهم (120) فالوفاة عقبت رسالته في الحال. وموت المسيح عند قيام الساعة لا يترك مجالا لأحد كي يعبده إلهاً من دون الله. وهذه الشهادة على لسان المسيح نفسه لا مرد لها لأنها من يوم الدين حيث ينفع الصادقين صدقهم (122). وهي شهادة نهائية لا ينسخها شيء ولا يفسرها شيء لأنها آخر شيء ورد في القرآن عن آخرة المسيح.

وهكذا فقد تبين لنا بوضوح أن القرآن قبل سورة النساء في مكة والمدينة، وبعد سورة النساء، في آخر القرآن ( سورة المائدة ) يشهد دون التباس البتة بحقيقة موت المسيح في ختام رسالته. فإذا تمسكنا بظاهر الآية 156 من النساء (( وما قتلوه وما صلبوه )) بمعنى إنكار موت المسيح وقتله، نجد أنفسنا أمام تناقض صريح فاضح.

ثانياً: إن الطريق التي سلكوا إلى إزالة هذا التناقض الظاهر ليست بالطريق السوي: إنهم يفسّرون الكل بالبعض ! يريدون أن يفهموا كل آي

ـ 335 ـ

القرآن عن آخرة المسيح على ضوء آية واحدة ( نساء 156 ). لا تؤخذ نظرية أو عقيدة في كتاب منزل أو غير منزَل من نص واحد، بل من مجموع النصوص الواردة في المعنى ذاته. وعندنا في القرآن أربعة أو ستة نصوص عن آخرة المسيح، تشهد جميعها إلا واحداً بموت المسيح وقتله، فهل من العقل والمنطق أن نهمل الكل لنتمسك بجزء واحد ؟!

أنخلق بهذا الموقف الشاذ تناقضاً في القرآن بين سوره، وبين الإنجيل والقرآن، وبين تفسيرهم المخطئ والتاريخ العام عند النصارى واليهود والأمميين ؟ وقد قال القرآن عن نفسه: (( أفلا يتدبرون القرآن ؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً )) ( نساء 82 ).

إن الطريق السوي هي في فهم آية النساء الوحيدة على أضواء جميع آيات القرآن عن حقيقة موت المسيح وقتله. فالمنطق يقتضي فهم البعض على نور الكل. والطريق السوي هي عكس التي سلكوا.

لقد (( تدبرنا )) الآية 156 من سورة النساء على أنوار ما قبلها وما بعدها فوجدناها لا تتعارض معها. وسياق الكلام في النص المشبوه يؤكد ما نحن ذاهبون إليه: فالقرآن يسفه اليهود على زعمين: (( كفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيما ً! وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم )) . قال البيضاوي: (( وإنما ذمّهم الله تعالى بما دلّ عليه الكلام من جرأتهم على الله وقصدهم قتل نبيه المؤيد بالمعجزات القاهرة، وبتججهم به، لا بقولهم هذا على حسب حسبانهم)). إنه يسفههم على تبججهم الفارغ، لا على حقيقة القتل والصلب والموت لأن مكر الله بهم بإحياء المسيح ورفعه حيّاً إلى السماء كان أشد من مكرهم بنبيه. فقتلهم إياه ليس بالقتل الذي يتوهمون وصلبهم إياه ليس بالصلب الذي يظنون إذ ما لبث أن انبعث حيّاً للحال وصعد إلى السماء حيث رفعه الله إليه. نقل الرازي: (( اجعلك كالمتوفى في نظرهم برفعك إليَّ )) .

ظنوا أنهم قضوا على المسيح عيسى ابن مريم رسول الله قضاءً مبرماً ولاشوا

ـ 336 ـ

ذكره إلى الأبد، فلا حاجة إذن لأن يذكره النبي العربي لهم. ولكنهم قد خاب ظنهم فما قتلوه نهائيّاً وما قضوا عليه قضاءً مبرماً أي (( وما قتلوه يقيناً )) إذ أحياه الله في الحال ورفعه إليه وكان الله عزيزاً حكيماً، ومن ثم فلا بد لهم من الإيمان به.

ومجموع التعابير في الآية يؤيد أن تبجّحَهم بالقضاء نهائيّاً على المسيح: غرور 1) شُبّه لهم وخيّل إليهم أنهم قضوا عليه قضاءً نهائياً: فما قتلوه ذلك القتل وما صلبوه ذلك الصلب، ولكن شُبه لهم، واشتبه الأمر عليهم. 2) وهم أيضاً مختلفون فيما بينهم على زعمهم ذاك وفي شك من قولهم: (( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه )) . 3) تبجّحهم الفارغ من باب الظن لا من باب العلم اليقين: (( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن )) . 4) أجل (( ما قتلوه يقيناً)) أَي نهائياً وما قضوا عليه إلى الأبد كما يفتخرون، بل رفعه الله إليه حيث لم يزل حيّاً عند الله. 5) فالذي قتلوه وصلبوه ثم هو قام منبعثاً حيّاً ورفعه الله إليه كان كأنه لم يقتل ولم يصلب، وكان الله عزيزاً حكيماً، قادراً على إجراء هذه المعجزة.

والآية 157 التي تؤكد موت المسيح صراحة توجب علينا فهم الآية 156 كما رأيت. يقول: (( وإنْ ما أهل الكتاب إلا ليؤمِنَنَّ به قبل موته )) . يوجد غموض في الضمائر. ولكن سياق الحديث كله من 154 ـ 157 يدل على أن المقصود بها جميعاً عيسى ابن مريم: لا بد لكل كتابي أن يؤمن بالمسيح قبل موته. فآمنوا بالمسيح يا يهود، ولا تتبجحوا بقتله: فلا مندوحة لكم عن الإيمان به.

فاستنتج أَنه إذا كان ظاهر القول ينفي قتل المسيح وصلبه فإنَّ باطنه يؤكده. وهكذا تنسجم جميع تصريحات القرآن عن آخرة المسيح؛ أمّا إذا أصرّ القوم على موقفهم بأن الآية 156 من النساء تنفي قتل المسيح وصلبه، فإن التناقض بينها وبين سور مريم وآل عمران والمائدة قائم لا يزول على الإطلاق. وعلى كل حال إن كان ثمت تطور أو تعارض فقد استقر رأي القرآن

ـ 337 ـ

وانتهى بصراحة المائدة: فإنه لا إشكال على شهادة القرآن بعد تصريح سورة المائدة: (( وكنت عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم )) (120).

 

ثانياً: صعود المسيح إلى السماء

 

(( بل رفعه الله إليه )) ( نساء 158 )

مهما يكن من مسألة موت المسيح التاريخية في القرآن فالقرآن الكريم يشهد بأن آخرة المسيح على الأرض خُتِمتْ بمعجزة كما بدأت بمعجزة.

فسواء مات المسيح وقام أم لم يمت بل ظل حياً إلى الأبد، فهذا لا يقلل من قيمة شهادة القرآن للإنجيل والمسيح: فالمسيح حيٌّ (( رفعه الله إليه )) ( نساء 158 ) ولا يزال حياً عند الله. وتلك ميزة انفرد بها المسيح على جميع البشر وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. فعيسى ابن مريم آية في مولده للعالمين، وهو آية أعظم في آخرته: وهاتان المعجزتان الفريدتان هما أفضل شهادة شهد بها الله لوليّ أو نبي أو رسول أو مخلوق أياً كان.

والقول بأن المسيح لم يمت أو لم يذق طعم الذلّ الأكبر كسائر البشر المحكوم عليهم بالموت لا يُستثنى منهم أحد، قولٌ أعظم من الاعتراف بموته وقيامته لو فطنوا: إنه ينقل عيسى ابن مريم من صف البشر المائتين إلى صف غير البشر الخالدين.

(( ورفْع المسيح حيّاً إلى الله )) عقيدة راسخة في القرآن، يؤكدها في مكة والمدينة ثلاث مرات: في سورة مريم: (( والسلام عليّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أبعث حيّاً )) (33) يتنبأ منذ ميلاده عن بعثه حيّاً، ويخاطبه الله مؤكداً رفعه إليه: (( يا عيسى ابن مريم إني متوفيك ورافعك إليّ )) ( آل عمران 55 )؛ وقد ينكر قتله ولكن يشدّد على التأكيد برفعه: (( وما قتلوه يقيناً ! بل رفعه

ـ 338 ـ

الله إليه )) ! ( نساء 158 ): ما قتلوه نهائياً كما فعلوا بغيره من الأنبياء، لأن الله رفعه حالاً إليه فكأنه لم يقتل، وكأنه لم تسرِ عليه سُنّة الموت، فهو أقوى من الموت !

هل قال القرآن مثل هذا عن بشر؟ هل نسب مثل هذا إلى نبيّ أو رسول ؟ هل أشار القرآن إلى أن محمداً، (( خاتم النبيين )) ، قد نال شيئاً من هذا ؟ فالقرآن والحديث والتاريخ العام تشهد جميعاً بأن محمد قد مات كسائر الأنبياء، وحواه قبر في المدينة المنوّرة: (( فما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفئن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ؟ )) ( آل عمران 144 ).

ويقول القرآن عن مصير ((خاتم النبيين)) : ((عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً )) : فالقرآن إذن يؤكد أن المسيح صعد في الحال حيّاً إلى السماء فيما ينتظر محمد أن يُبعث مع سائر الناس يوم يبعثون؛ ويؤكد أنه (( عسى )) أن يبعث محمد (( مقاماً محموداً )) ، بينما يجزم ثلاث مرات أن (( الله رفع عيسى إليه )) وهو عنده حيّ إلى الأبد (( ومن المقربين )) . قال الرازي: (( رَفْع عيسى عليه السلام إلى السماء ثابت بهذه الآية. ونظير هذه الآية قوله في آل عمران (( رافعك إليّ )) ودلَّ ذلك على أن رفْعه إليه أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية. وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية )) .

ثم ما معنى قوله (( عسى )) ؟ ... وما مدى اليقين في هذا التمني ؟ ...

وهكذا يشهد القرآن أن واحداً لا غير بين البشر، ودون الأنبياء والمرسلين بلا استثناء، كان أقوى من الموت، فلم يكن له عليه من سلطان: ألا وهو عيسى ابن مريم. بهذه المعجزة الفريدة جعل القرآن المسيحَ نهائياً، فوق البشر أجمعين لا يستثني أحداً من الأنبياء والمرسلين.

فكان عيسى ابن مريم في آخرته كما كان في مولده آيةً للعالمين.

ـ 339 ـ

عيسى ابن مريم آية في يوم الدين

 

 

(( وإنه لَعِـَلمٌ للساعة )) ( زخرف 61 )

 

 

تتعدد الميزات التي انفرد بها المسيح بين الأنبياء والمرسلين حسب شهادة القرآن الكريم. وها هو يُسند إلى المسيح دوراً عظيماً في آخر العالم، ويوم الدين، لم يسنده إلى غيره.

 

أولاً : عيسى ابن مريم (( عَلمٌ )) للساعة

نقرأ في سورة الزخرف: (( ولمّا ضُرِبَ ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدّون. وقالوا: آلهتنا خير أم هو ؟ ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خَصِمون. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل. ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون. وإنه لَعَلَمٌ للساعة فلا تمتَرُنَّ بها وابتعونِ: هذا صراط مستقيم )) .

قَرأنا (( عَلَمٌ للساعة )) وبعضهم يقرأ (( عِلـْمٌ للساعة )) . قال الزمخشري (( وانه لَعِلـْمٌ للساعة أي شرط من أشراطها يُعلَمُ بها فسُمي الشرط علماً لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس (( لَعَلـَمٌ )) وهو العلامة. وقرِئ (( لِلْعِلْم )) . وقرأ أبيّ (( وإنه لذكر للساعة )) على تسمية ما يذكر به ذكراً كما سمّي ما يُعلم به علماً. وعن الحسن: (( إن الضمير للقرآن لأن فيه الإعلام بالساعة )) ؛ كذلك البيضاوي.

لا يمكن أن يعود الضمير في (( وإنه )) إلى القرآن إذ لا ذكر له في المقطع كله. وسياق الحديث كلُه، من قبلُ ومن بعدُ، يعود إلى موضوع واحد لا

ـ 340 ـ

ريب فيه (( عيسى )) . قال الجلالان: (( وإنه ( عيسى ) لَعِلْم للساعة (تُعلم بنزوله ). وقوله عن عيسى أنه (( عَلَمٌ )) للساعة أي علامة لها يُعرف لها يُعرف دنوُّها من مجيئه وظهوره ثانية، أو (( عِلْم )) للساعة أي معرفة لها بظهوره كشرط من أشراطها، قولان يتقاربان.

هذه الآية إِخبار عن دور المسيح قبل يوم الدين، حين تحين (( الساعة )) الآذنة بحلول الدينونة. ومعلوم أن لفظ (( الساعة )) مرادف ليوم الدين. وقد ورد الخبر عقب جواب جدلي عن شخصية المسيح. قال لهم: (( وَسْئَلْ مَن أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ )) (45). فأجابوه: (( النصارى أهل كتاب وهم يعبدون عيسى ويزعمون أنه ابن الله ، والملائكة أولى بذلك. وقالوا: ءَآلهتنا خير أم هو؟ )) ـ ولما ضُرب ابن مريم مثلاً إذا قومك بنو قريش منه يصدُون ويضجون فرحاً، ظنّاً منهم أنهم حاجّوه. فجاء الجواب الشافي: ((إن هو إلا عبد أَنعمنا عليه، وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل )) . وأضاف إليه قوله: (( وإنه لَعَلَمٌ للساعة )) أي علامة ودليل على قرب اليوم الآخر. فهو يجعل ظهور المسيح ثانية على الأرض شرطاً من أشراط حلول يوم الدين، وذكراً ومعرفة له، وعلامة تدل على وقوعه.

وفي هذا التعليم تصريح عن مجيء المسيح ثانية في آخر الأزمان. وفيه صدى لمقالة الإنجيل واعتقاد النصارى: (( كذلك المسيح سيظهر ثانية لا ليكفّر الخطيئة بل لخلاص الذين ينتظرونه )) (عب 9 : 28 ).

ومن هنا انتشرت رواية (( المهدي )) ذاك الإِمام الذي يظهر في آتيات الأيام ويرد الدين الحنيف إلى أصله. ومَن تتّبع مغزى الرواية وجد أن عمل المسيح الموصوف والمهدي المذكور واحدٌ. قالوا في المهدي ( وهو اسم بلا مسمّى ) ما قيل عن المسيح.

وهذا أيضاً دور فريد اختص به القرآن عيسى ابن مريم دون سائر الأنبياء والمرسلين؛ وفيه ميزة وخارقة: ميزة ظهور المسيح (( عَلـَما )) للساعة، وخارقة

ـ 341 ـ

رجوع المسيح إلى العالم ثانية في آخر الأزمان، مما لم يُقلْ مثلهُ عن نبي أو رسول. ولم يقل القرآن عن إبراهيم أو موسى أو محمد أَنهم سيظهرون أيضاً قبل يوم الدين للدعوة الأخيرة إلى الله التي لا دعوة بعدها.

وفي هذا التعليم أيضاً تصريح ضمني بأن عيسى ابن مريم سيكون فِعلاً خاتمة الأنبياء والمرسلين إذ لا رسول ولا نبي معه أو بعده في يوم الدين عند قرب (( الساعة )) .

ففي قوله (( وإنه لَعَلم للساعة )) قد جعل عيسى ابن مريم آيةً للعالمين منذ ظهوره إلى يوم الدين !

 

ثانياً : عيسى ابن مريم (( وجيه )) وشفيع في يوم الدين

الشفاعة توسّط النبي بين الخالق والمخلوق في يوم الدين لينقذ من يتوسط له من النار، فيغفر له الله خطايا حياتـه على الأرض ويدخـل جنات تجري من تحتها الأنهار ( مؤمن 7 و 8).

وإذا تفحصنا القرآن فهل نراه يجيز الشفاعة في يوم الدين ؟ إنه في مواضع ينفيها (في البقرة ): (( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ... واتقوا يوماً ... ولا تقبل منها شفاعة ... ولا تنفعها شفاعة )) . ويهاجم العرب على اتخاذهم آلهتهم شُفعاء عند الله حيث يقولون (( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )) ( زمر 3 )، فيجيب: (( أم اتخذوا من دون الله شفعاء ؟ قل أوَ لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ! قل لله الشفاعة جميعاً: له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون )) ( 43 ـ 44). ويحصر الشفاعة في الخالق وحده: (( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش: ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع، أفلا تذكرون )) ( سجدة 4 ). فالشفاعة في القرآن من حقوق الله المحفوظة له دون سواه.

وفي مواضع يثبتُها في معرض النفي ـ إذ يرتضي بالشفاعة ويأذن بها ـ

ـ 342 ـ

لِمَن شهد بالحق. (( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى )) ( أنبياء ) (( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ( بقرة ) (( ما من شفيع إلا من بعد إذنه )) ( يونس ) (( يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ( طه ) (( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له )) ( سبأ ) (( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق )) ( زخرف ).

فكأنه نفى الشفاعة التي يدّعون لآلهتهم، واعترف بها للملائكة المقربين: الذين يحملون العرش ومَن حوله يسبحون بحمد ربهم، ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا: (( ربنا وسعتَ كل شيء رحْمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك قِهم عذاب الجحيم؛ ربنا وأدخِلْهم جنات عدن التي وعدتهم )) ( المؤمن 7 و 8 ). في هذه الآية تعريف بالشفاعة واعتراف بها.

ولا يذكر القرآن شفاعة لأحد من الأنبياء. ومحمد خاتم النبيين يحرمه القرآن حتى حق الشفاعة في الدنيا: (( استغفر لهم أولا تستغفر لهم: إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم! ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين )) ( توبة 81 ): يبيّن له حَسْم المغفرة بآية: (( استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم )) ( الجلالان ) يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم ( البيضاوي )، بل يعدّ القرآن استغفار محمد لهم عبثاً. ويحرمه حق الشفاعة في الآخرة بقوله: (( أفمن حقَّ عليه كلمة العذاب: أفأنت تنقذ مَن في النار ؟! )) ( زمر 19 ) كررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الإنكار والاستبعاد، ووضع من في النار موضع الضمير لذلك والدلالة على أن من حُكم عليه بالعذاب كالواقع فيه لامتناع الخلق فيه (البيضاوي).

وإبراهيم جدُّ الأنبياء يطلب أن يغفر الله له خطيئته يوم الدين: (( رب العالمين ... الذي خلقني فهو يهدين ... والذي يميتـُني ثم يحيينِ. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدينِ... ربِّ واجعلني من ورثة جنة النعيم ... ولا تُخزني في يومَ يُبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون )) (77 ـ90). فمن كان بحاجة

ـ 343 ـ

إلى شفاعة لا يقدر أن يشفع في غيره، مَن يطمع في أن يغفر الله له خطيئته يوم الدين، لا يقدر أن ينقذ مَن في النار.

ومع ذلك فيظهر أن القرآن قد أعطى عيسى ابن مريم حق الشفاعة في الآخرة حيث يقول: (( إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقرَّبين )) ( آل عمران 45 ): ‘نه وجيه في الآخرة أيضاً، وإنه من المقربين.

أجمع المفسرون على أن وجاهة الآخرة هي الشفاعة. قال البيضاوي: (( الوجاهة في الدنيا النبوة، وفي الآخرة الشفاعة )) ؛ وقال الجلالان: (( وجيهاً أي ذا جاه في الدنيا بالنبوة وفي الآخرة بالشفاعة والدرجات العلى )) ؛ وقال الزمخشري: (( الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة )) ؛ وقال الرازي: (( الوجاهة في الدنيا هي النبوة، أو استجابة دعائه أو براءته من العيوب، وفي الآخرة بالشفاعة أو علو درجته ومنزلته أو كثرة ثوابه )) .

وفي قوله (( ومن المقرّبين )) رفـْعٌ لمنزلة المسيح حتى الملائكة المقربين، وتمثيل لشفاعته كما يستغفرون هم للذين آمنوا ( المؤمن 7 و 8 )؛ وقيل هو إشارة إلى علو درجته في الجنة أو ورفعه إلى السماء وصحبته الملائكة ( الزمخشري والبيضاوي ). وقيل: جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ( الرازي ) فالقربى من الله في الجنّة دالّة على الله ومقام شفاعة واستغفار للمخلوقين.

فعيسى ابن مريم له في الآخرة دنوّ من الله ، وتقرّب منه تعالى، وحظوة لديه، ووجاهة عنده، ودالة عليه: وكل ذلك ألا يعني الشفاعة كما يفسرون ؟

ومهما يكن من معنى هذه الآية فهي تدل على كل حال أن للمسيح عند الله في الآخرة ميزة الوجاهة على الناس والأنبياء، التي كانت له على الأرض. وقد

ـ 344 ـ

رأينا أنه انفرد بهذه الوجاهة في الدنيا، فكذلك ينفرد بها في السماء على العالمين والمرسلين. والقرآن لا يذكر لنبي مهما سما شيئاً من ذلك.

وهكذا يصادق القرآن قول الكتاب: (( إن المسيح لم يدخل إلى أقداس صنعتها الأيدي رموزاً للحقيقة بل دخل إلى السماء بعينها ليتراءى الآن أمام الله من أجلنا ( عب 9 : 25 )؛ وأيضاً: فإنه بعد أن قرب عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس عن يمين الله إلى الأبد ... فمن ثم يقدر أن يخلّص على الدوام الذين يتقربون به إلى الله إذ هو حي كل حين ليشفع فيهم )) ( 7 : 25 ) فالقرآن بعد الإنجيل يشهد أن المسيح حيٌّ في السماء يشفع في العالمين؛ ومن ثم فعيسى ابن مريم آية في الدنيا والآخرة للعالمين.

 

ـ 345 ـ

عيسى ابن مريم آية في قداسته وكماله

 

(( إنما أنا رسـول ربك لأهب لك

غلاماً زكيّاً )) ( مريم 18 )

 

 

القداسة، هي التقوى والفضيلة الكاملة؛ بل هي مجموع الفضائل، وعنوان الكمال. وقد تقرن القداسة بالعصمة من الرذائل والخطايا إذا اقتضى الأمر في وظيفة سامية ينتدب الله إليها مخلوقاً، كالنبوّة مثلاً.

والقداسة صفة من صفات الله عزّ وجل. لا يسبغها إلا على مَن اصطفى من عباده ليختمه بخاتمه الإلهي. وهي ميزة منه تعالى لمختاريه، ومعجزة عظيمة جدّاً يشهد بها الله لأنبيائه وأوليائه: لا توجد في بشر إلا بمنّة ونعمة سامية من جودة المولى الجواد. فلا يقدر مخلوق خلق وجبل من لحم ودم أن يُنزّه عن الخطيئة والاثم إلا بفضل خاص ونعمة خاصة من الرحمن الرحيم: (( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكّى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكّي من يشاء )) ( نور 21 ).

ولقد اختلف المسلمون في عصمة الأنبياء من الضلال والخطيئة. فمنهم مًن قال بعصمتهم على الإطلاق. ومنهم من قال بعصمتهم بعد سن البلوغ ونسب إليهم الخطأ في الصغر. ومنهم مَن قال بعصمتهم في تبليغ الرسائل فقط ، وإمكان ارتكاب الخطأ فيما سوى ذلك: فالعصمة تكون عندهم من الضلال لا من الرذيلة والخطيئة. والرأي الأخير هو ما كان يعتقده الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية1 .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) راجع المؤيد (عدد 3328 ).

ـ 346 ـ

والقرآن لا يستثني أحداً من الضلال والخطيئة. فالنفس خلقت أمَّارةً بالسوء: (( إن النفس لأمّارة بالسوء )) ( يوسف 53 ) التعريف فيها للجنس لا للفرد، و (( أمَّارة )) من صيغ المبالغة، واللام فيها للتحقيق؛ (( قال ذلك يوسف الصديق من حيث أنها بالطبع مائلة إلى الشهوات فتهمُّ بها وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات )) ( البيضاوي ). وبسبب هذا الميل الفطري إلى الشر كان حتماً على كل بشر أن يرد جهنم: (( وإِن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقتضيّاً ثم ننتجي الذين اتقوا، ونذر الظالمين فيها جثيّاً )) ( مريم ) قال الرازي: (( ولا يجوز أن يقال ( ثم ننجي ) إلا والكل واردون النار )) . وعن جابر: (( الورود وهو الدخول: لا يبقى بَرٌّ ولا فاجر إلا دخلها )) . وقال البيضاوي: (( منكم، التفات إلى الإنسان، واردها أي واصلها وحاضر دونها يمرُّ بها المؤمنون وهي خامدة وتنهار بغيرهم. كان على ربك حتماً مقضيا، كان ورودهم واجباً أوجبه الله على نفسه وقضى بأن وعد به وعداً لا يمكن خَلْفه وقيل أقسم عليه )) .

وجاء الإيمان بالله عوناً عن الشر وتزكية منه (( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكي منكم من أحد أبداً )) ( نور 21 ) لذلك فالشيطان قرين للكافرين: (( ومَن يَعْشُ عن ذكر الرحمن نُقيّض له شيطاناً فهو له قرين )) ( زخرف 35 ).

فالإنسان من طبعه ميال بالفطرة إلى الضلال والخطيئة، وما الهدى والفضيلة إلا من فضل الله ورحمته.

وينسب القرآن الخطيئة إلى كل الأنبياء.

إلى آدم وزوجه (( فأزلّهما الشيطان )) ( بقرة 3 )، (( وعصى آدم ربه فغوى )) ( طه 121 )، وقد اعترف بخطيئته ( اعتراف 22 ). وإلى نوح: (( ربي اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي )) ( نوح 28 ). وإلى إبراهيم، جد المؤمنين والأنبياء: فقد كفر ثم اهتدى ( أنعام 76) وكان يصلي هكذا: (( ربنا اغفر لي ولوالديَّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب )) ( إبراهيم 41)، فلقد شمله الإثم الذي يمس كل

ـ 347 ـ

البشرية ( بقرة 26، أنبياء 64 )؛ وإلى موسى، سيد الشريعة الذي كلّم الله تكليماً ( نساء 163) فقد وكز المصريَّ فقضى عليه فقال: (( هذا من عمل الشيطان ! قال ربي فاغفرْ لي ! فغفر له )) ( قصص 16 ) كذلك شعراء 19، أعراف 149. وإلى داود، النبي والملك، صاحب الزبور: (( وظن داود أنّا فتنّاه فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب فغفرْنا له )) ( ص 24 ـ 25 ) وإلى يوسف الذي همّت به امرأة سيده وهمّ بها لولا أن رَأَ برهان ربه ( يوسف 24). إلى سليمان، فخر الملوك، الذي سخّر له الله الإنس والجن والطير (( إِذ عُرض عليه بالعشي الصافناتُ الجياد ... يقال ربي اغفرْ لي )) ( ص 29 ـ 40 ). إلى يونس الذي نجا من الحوت في البحر (( إذ أبقَ إلى الفلك المشحون )) ( صافات 139 ).

وهكذا إلى جميع الأنبياء والمرسلين الذين هم صفوة البشرية.

وكنَّا نأمل أن ينزّه القرآنُ محمداً، خاتم النبيين، ومثال الكمال المأمول، عن الخطيئة. فإذا به ينسبها إليه كما نسبها إلى غيره:

فيقول: عن طفولته وحداثته: (( أَلم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أَنقض ظهرك! )) ( شرح 1 ـ 3 )؛ ووزر ينقض الظهر ليس هو بالصغير ولا الحقير ! وفي المدينة، عندما استفحل أمره، وبلغ أوج مجده بدعوة التوحيد، يقال له بعد (( فتح )) الحديبيّة: (( إنَّا فتحنا لك فتحاً مُبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر )) (فتح 2 ) سبق له ذنوب ويتبعها ذنوب ! وقد شعر محمد بحاجة دائمة إلى الاستغفار: (( واصبرْ إنَّ وعد الله حق: واستغفر لذنبك )) ( غافر أو المؤمن 55 )؛ ويؤمر مراراً وتكراراً بالاستغفار (( واستغفر الله أن الله كان غفوراً رحيماً )) ( نساء 106 ). إنها حاجة ملحة فيه كما في سائر المؤمنين والمؤمنات: (( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات )) ( محمد 19 ). فالخطيئة مرض بشري وقع فيه محمد كما وقع فيه غيره من الأنبياء والمرسلين.

ثم الا ينسب القرآن الشكَّ إلى محمد إلى قوله: (( فإن كنت في شك ممَّا أنزلنا

ـ 348 ـ

إليك فَسْئَل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك: لقد جاءَك الحق من ربك فلا تكوننَّ من الممترين )) ( يونس 94 ) ؟ والميلان عن القضاء بالحق في قوله: (( ولا تكن للخائنين خصيماً )) ؟ والركون إلى المشركين في قوله: (( لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً )) ( إسراء 76 ) ؟ والأذن للمنافقين بالقعود عن الجهاد في قوله (( عفا الله عنك لما أذنتَ لهم )) ( توبة ) ؟

أمَّا الخطيئة فقد جاء في الحديث أنه كان يستغفر ربه سبعين مرة في اليوم وعلى قول بعضهم مئة مرة في اليوم ! فتلك الحاجة الماسة للاستغفار، يؤكدها أمر من فوق، تدل على شعور الضمير بالاثم أتعب وجدان البشرية جمعاء لا يُستثنى منها أحد.

بلى ! واحد أحدٌ بين الناس، وبين الأنبياء والمرسلين، لا يذكر له القرآن إثماً ولا علاقةً بالاثم على الإطلاق ! هو عيسى ابن مريم. فهو لا ينسب إليه خطيئةً أبداً. ولا نرى منه أنه يشعر بحاجة إلى الاستغفار. ولا نقرأ إنه أُمر بطلب الغفران. ولا نسمع في القرآن أو في الإنجيل أنه تاب، أَو احتاج إلى توبة، أو طلب صفحاً عن إثم. بل في الإنجيل يتحدّى خصومه بهذه الجرأة الكاملة: (( مَن منكم يثبتُ عليَّ خطيئةً )) ( يوحنا ).

قبل ميلاده عُصم وأمَّه من الشيطان الرجيم (( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم )) ( آل عمران 36 )؛ وحده هو وأمّه بين صفوة المختارين حُبل به وولد في نجوة من خطيئة الجنس البشري ( الآية نفسها ). وجاء عن هذه الآية في صحيح البخاري وصحيح مسلم: (( كل آدمي يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى وأمه عليهما السلام جُعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ إليهما شيء منه )) . فالقرآن والحديث يعصمان المسيح وأمه من مس الشيطان وطعنته وكل أذى يؤتيه: إنها عصمة مبدئية مقررة قبل ميلادهما ونرى في مولد المسيح من أم بتول لم يمسسها بشر معجزة تفسّر عصمتهما من خطيئة الجنس البشري.

ـ 349 ـ

والملاك الذي يبشر العذراء بالحبل المعجز يبشرها (( بالغلام الزكي )) : (( إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيّاً )) ( مريم 19 ) أي (( طاهراً من الذنوب، كما يفسره البيضاوي، نامياً على الخير، مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح )) . ملاك الله يعلن لأمه أنه سيكون طاهراً من كل اثم، زكيّاً، طيلة حياته. وهذه البشرى من قبل أن يولد توكيدٌ من السماء لطهارته ونبوّة بقداسته.

وهذه الطهارة وهذه القداسة آتاه الله إياها، وأوصاه بها طيلة حياته في كل زمان ومكان: (( وجعلني مباركاً أين ما كنت ! وأوصاني بالصلوة والزكوة ما دمت حيّاًَ ! وبراً بوالدتي ! ولم يجعلني جباراً شقيّاً ! )) ( مريم 30 ـ 32 ). فهو ليس بجبار، رجل حروب وغزوات، وليس بشقي يُرعب الناس وينتصر بوسائل الإرهاب: بل هو رجل الله ، رجل الصلاة والزكاة ما دام حيّاً !

ليس له سوى أمّه، من صلات الدم، فهو (( بَرّ بها )) وهذه الصفة تحوي كل واجبات الولد نحو والدته.

وهناك حديث مشهور أيضاً عن قتادة قوله: (( وذكروا لنا أنهما ( المسيح وأمه ) كان لا يصيبان من الذنوب كما يصيب سائر بني آدم )) . شُهد له بالعصمة الفعلية كما شهد له بالعصمة المبدئية. ونجد في انتصار المسيح على الموت برفعه إلى السماء حيّاً تفسيراً كاملاً لعصمته في حياته من سلطان الخطيئة.

لذلك، هو وحده، أُعطي مثالاً وقدوة لبني إسرائيل وسائر الناس: (( إِن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل )) ( زخرف 79 ). ولا ينص القرآن عن غيره إنه أعطي مثلاً يقتدى به في جميع أعماله وأقواله.

وهكذا أجمع القرآن والحديث والتفسير على عصمة المسيح المبدئية والفعلية من كل خطيئة. فجعله القرآن في الدنيا (( من الصالحين )) وفي الآخرة (( من المقربين )) ( آل عمران 45 و 46 ). وهكذا استثنى المسيح من صف البشر الخاطئين الخاضعين بطبيعتهم لسلطان الشر.

ونعرف جميعنا بالخبرة الشخصية، وأولياء الله وأنبياؤه خبروا معنا، إن

ـ 350 ـ

نفس الإنسان، كلّ إنسان، أمّارة بالسوء. فكبار المختارين من إبراهيم إلى موسى إلى محمد لم يسلموا من شر الخطيئة. واحد وحده، عيسى ابن مريم، مسيح الله وكلمته وروحه، يشهد له الكتاب والقرآن أنه تبرّأ من الإثم، وعُصِم من الخطيئة ولم يكن للشر عليه من سلطان على الإطلاق. بل (( إنه قدوس بريء زكي متنزّه عن الخطأة قد صار أعلى من السماوات )) ( عب 7 : 47 ).

بهذه القداسة الفائقة معجزة الكمال التي انفرد بها المسيح دون سائر الأنبياء والمرسلين، قد صار عيسى ابن مريم (( غلاماً زكياً )) (( أعلى من السماوات )) و (( آية للعالمين )) .

 

ـ 351 ـ

عيسى ابن مريم آية في شخصه

(( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته

ألقاها إلى مريم و روح منه )) ( نساء 170 )

 

 

نصل إلى نقطة الخلاف الكبرى بين النصرانية والإسلام: أعني ألوهية المسيح1. وهو الخلاف الوحيد أو يكاد بين الإنجيل والقرآن. ونظن أنه على كل حال خلاف ظاهري، لا حقيقي ولا جوهري، لاختلاف وجهات النظر إلى الموضوع الواحد في الكتابين2 .

فالألوهية التي ينكرها القرآن على المسيح ليست بالتي ينسبها الإنجيل إليه. والتثليث الذي ينكره القرآن ليس بالتثليث المسيحي.

والألقاب التي يصف بها القرآن المسيح هي أقرب إلى الخالق منها إلى المخلوق.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) النسبة إلى إله يسميها البيضاوي (( ألوهية )) والزمخشري (( لاهوتية )) والرازي والغزالي (( إلهية )) .

(2) القرآن تعليم ابتدائي لقوم بدائيين عن توحيد الله ، فلا يطلب منه في المحيط الذي نزل فيه أبحاثاً أو حقائق عن (( ذات الله )) : قبل أن يعرفوا ما هو الله في ذاته، يجب عليهم أن يوحدوه ، وهذا ما يسعى إليه القرآن فلا يجوز أن نطلب منه أكثر مما يريد . ونقلوا لنا حديثاً شريفاً : (( البحث عن ذات الله كفر )) . وفي إهمال القرآن لعقائد النصرانية الخاصة ، أو في نكرانها أَلا ينسجم مع موقف فرق نصرانية عاصرته كالآريوسية والنسطورية أو تعاصرنا كأحرار البروتستنطية، وشهود يهوه.

ـ 352 ـ

بحث أول: ألوهية المسيح في القرآن

 

(( قل إن كان للرحمن ولد، فأنا

أول العابدين )) ( زخرف 81 )

ينكر القرآن أشدّ الإنكار تعدد الآلهة بناءً على شهادة الأنبياء المتعاقبين: (( وَسْئَلْ من أرسلنا من قبلك من رسلنا، أجعلنا من دون الرحمن آلهة يُعبدون )) ( زخرف 45 )، ومنطق العقل البديهي: (( قل لو أن في السماء والأرض إلهين لفسدتا )) ( أنبياء ).

ويشهد للتوحيد الخالص في كل صفحاته: (( شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم ـ قائماً بالقسط ـ لا إِله إلا هو العزيز الحكيم )) ( آل عمران 18 ).

ينفي القرآن الولادة في الله ، ولا يقدر أن يتحمّل تأليه أحد مع الله ، بولادة أَو بسواها: (( قل هو الله أحد، الله الصمد ! لم يلدْ ولم يولَدْ ! ولم يكن له كفوءاً أحد )) ( الإخلاص ). لاتناسل فيه، ولا مثله أَحد يتّخذه ولداً، فوحدانيتُه لا يشاركه فيها أحد.

وينكر أشد الإنكار بنوَّة أيّ مخلوق من الله: (( وقالوا اتخذ الله ولداً ! ـ سبحانه بل له ما في السماوات والأرض، كلٌّ له قانتون: بديع السماوات والأرض، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون )) ( بقرة 117 ). لا يمكن للإله أن يكون مخلوقاً ولا يمكن للمخلوق أن يصير إلهاً، بالبنوّة أو بالتبنّي: (( وقالوا: اتخذ الرحمن ولداً ! ـ لقد جئتم شيئاً إدّاً تكاد السماوات يتفطّرْنَ منه، وتنشقُّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّاً : أَن دعوا للرحمن ولداً ! وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً : إنْ كلُّ من في السماوات والأرض إلاّ آتى الرحمن عبداً )) (مريم 88 ـ 93).

ينكر حتى البنوّة المعنوية التي يدّعيها اليهود والنصارى لأنفسهم من الله :

ـ 353 ـ

(( وقالت اليهود والنصارى: نحن أبناءُ الله وأحباؤه ! ـ قل فَلِمَ يعذبك بذنوبكم ؟ بل أنتم بشر ممن خلق )) ( مائدة 20 ). وينكر هذه البنوّة المعنوية حتى في الأنبياء والملائكة: (( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ! أَيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ؟ )) ( آل عمران 80 ) لأنها تقود إلى الشرك: (( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ! ... وجعلوا له من عباده جزءاً: إن الإنسان لكفور مبين )) ( زخرف 15 و 19 ).

حتى عيسى ابن مريم، رسول الله وكلمته وروحه ، لا يمكن لله أن يتخذه ولداً أو يصيّره إلهاً، لأن كل مخلوق عبد لله بطبيعته. (( لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقرّبون )) ( نساء 172 ) فبتأليه عيسى (( ضاهى )) النصارى قول الذين كفروا من قبل من المشركين: (( وقالت النصارى: المسيح ابن الله ! ذلك قولهم بأفواههم، يضاهون قول الذين كفروا من قبل: قاتلهم الله أنّى يؤفكون )) ( توبة 31 ).

وأما الأسباب التي دعت إلى هذا التكفير والنكران فتنحصر في نظريتين:

1) النظرية الأولى إٍن كل بنوة أو ولادة تنسب إلى الله لا يمكن أن تكون إلا جسدية تناسلية: (( بديع السماوات والأرض، أَنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة )) ( أنعام 101 ): لا يفهم القرآن البنوة والولادة، أيّاً كانت إلا بزوجة وزواج. فكل بنوة عنده هي مخلوقة بشرية جسدية تناسلية. فهو يجهل البنوة المعنوية أو ما يسمّى التبنّي الإلهي. وهو يجهل أيضاً مفهوم الولادة المجرّدة، لأن الولادة بحد ذاتها هي انحدار حيّ من حيٍّ انحداراً ينتج عنه، بفعله الذاتي، مشابهة تامة في الطبيعة. وهذا الانحدار قد يكون جسدياً كما في الإنسان، وقد يكون عقليّاً كالذي يسنده الإنجيل إلى المسيح.

2) والنظرية الثانية، المنبثقة عن الأولى، هي امتناع الصاحبة والولد عند الله لأنه ((اتخاذ )) لا تناسب فيه ولا تكافؤ في طبيعة الآخذ والمأخوذ :

ـ 354 ـ

(( وإنه تعالى جدُّ ربنا: ما اتخذ صاحبة ولا ولداً )) ( الجن 3 ) تنزّه جلاله وعظمته عما نُسب إليه من الزوجة والولد ( الجلالان ). لذلك ينتفي تأليه المسيح أو غيره لأنه (( اتخاذ )) : (( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ( آل عمران 80 )، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، والمسيح ابن مريم ( توبة 32 ) ذلك عيسى ابن مريم، قول الحق، الذي فيه يمترون: ما كان لله أن يتخذ من ولد، سبحانه )) ( مريم 34 ).

ويساوي القرآن بين تأليه المسيح وتأليه آلهة العرب: كلاهما اتخاذ و ضم (( جزءٍ )) خارج عن الله إليه تعالى ! (( وجعلوا له شركاء الجن وخَلقَهم ! وحرقوا له بنين وبنات بغير علم، سبحانه وتعالى عما يصفون ! بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة )) ( أنعام 100 ـ 102 )، (( وقالوا اتخذ الله ولداً ! سبحانه، بل له ما في السماوات والأرض، كلٌّ له قانتون، بديع السماوات والأرض، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون )) ( بقرة 117 و و118 )، نزلت لما قال اليهود (( عزيز ابن الله )) والنصارى (( المسيح ابن الله)) ومشركو العرب (( الملائكة بنات الله )) ( البيضاوي ).

وفسروا فلسفة استحالة الاتخاذ، استناداً إلى قوله ( بقرة 117 وأنعام 101 )؛ (( وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه: 1ً إن من مبدعاته السماوات والأرضون وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها فهو أولى بأن يتعالى عنها. 2ً إن المعقول من الولد ما يتولّد من ذكر وأنثى متجانسين والله تعالى منزه عن المجانسة. 3ً إن الولد كُفـْؤُ الوالد، ولا كفؤَ له بوجهين إن كل ما عداه مخلوق فلا يكافئه، وإنه لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره. بالإجماع )) ( البيضاوي ). فهم أيضاً لم تَرقْ أحلامهم إلى ما فوقَ الولادة الجسدية الجنسية التناسلية.

وفسّر القرآن استحالة التأليه، والاتخاذ إلهاً مما خلق بقوله: (( وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين )) ( زخرف 15 ). فالاتخاذ والتأليه

ـ 355 ـ

يضم إلى الله (( جزءاً )) خارجاً عنه ... وهكذا تفهم حملة القرآن العنيفة الصاخبة على فكرة البنوة والولادة منسوبة إلى الله .

ولكن ليس من (( مضاهاة )) بين بنوة عيسى من الله ، وبنوة عزيز عند اليهود، وبنوة آلهة العرب المشركين :

فبنوة آلهة العرب تناسلية : وقد فهم القرآن (( قومه )) على حقيقتهم. فلا بدع أن ينتفض القرآن لهذه الفكرة السمجة تنسب إلى الله : فما اتخذ صاحبة ولا ولداً ( جن 3 ) وقالوا اتخذ الرحمن ولداً ! لقد جئتم شيئاً إدّاً، تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّاً: أنْ دعوا للرحمن ولداً )) ( مريم 88 ).

وبنوة عزيز عند اليهود معنوية قد تجرّهم إلى مشاكلة المشركين (( فيضاهئون )) بقولهم قول الذين كفروا من قبلهم ( توبة 31 ).

ولكن بنوة عيسى في الإنجيل ليست تناسلية، وليست معنوية. بل هي بنوة روحية محضة من ولادة عقلية محضة:

للمسيح في الإنجيل إسمان: اسم شعبي تفهمه الجماهير: ابنُ الله وابن الإنسان؛ واسم علمي فلسفي لاهوتي أوحى به الله في مطلع إنجيل يوحنا يبيّن طبيعة هذه البنوة: إنه كلِمـَةُ الله : (( في البدء كان الكلمةُ والكلمة كان لدى الله ، وكان الكلمة الله : به كُوِّن كل شيء وفيه كانت الحياة )) ( 1 : 1 ـ 4 ). وهذا الاسم يشرح معنى بنوة المسيح من الله وفي الله : بما أنه كلمةُ الله فبنوته فكرية عقلية، لا علاقة لأي جسد فيها، بل هي قبل كل جسد. وبما أن الله روح محض، وعقله روح محض، وفكره وكلمته روح محض، فالولادة روحية من جوهر الله وفيه، لا يشاركه فيها أحد. وهكذا يسمّي الإنجيل التفاعل الجوهري الإلهي (( ولادة )) والتسلسل العقلي الإلهي (( بنوة )) بلغة بشرية يفهمها جميع الناس: فكلمةُ الله هو ابن الله ، وابن الله هو كلمة الله . ولا علاقة لمريم أَو لمخلوق بهذا التفاعل والتسلسل الإلهيين.

ـ 356 ـ

وليس في هذا (( اتخاذ )) بضم جزءٍ من خارج الله إلى الله ، أو تأليهٌ برفع مخلوق إلى منزلة الخالق وطبيعته، أو تناسل جسدي باستيلاد الله عيسى من مريم، فالله لا جسد له ! بل جلُّ ما في ذات الله من سرّ الحياة السرمدية والوجود الفيّاض، أنه في الجوهر الإلهي الفرد تفاعل روحي وتسلسل عقلي في الله ، ومنه ، ومعه : فكلمة الله هو فكر الله الناتج عن عقل الله في جوهره الروحي نتوج الابن عن أبيه، ولذلك يجوز بكل حق أن نسمّي الله (( أباً )) وفكره الجوهري (( ابناً )) .

وإذن فالألوهية التي ينفيها القرآن عن المسيح ليست بالألوهية التي يثبتها الإنجيل له. والبنوة التي يسندها الإنجيل إلى المسيح ليست كالتي ينفيها القرآن عنه.

ان بنوّة عيسى في القرآن تناسلية جسدية، كأن الله اتخذ مريم صاحبة واستولدها عيسى: (( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون: ما كان لله أن يتخذ من ولد ! )) ( مريم 59 ). والقرآن على حق حين يسمي مثل هذه الولادة السمجة، منسوبةً إلى الله ، إفكاً: ((ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صدّيقة، كانا يأكلان الطعام ! انظر كيف نبيّن لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون )) ( مائدة 78 ). والقرآن على حق حين يسمّي بنوة كهذه كفراً: (( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم : قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يُهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً )) ( مائدة 19 ).

إن ألوهية عيسى التي ينكرها القرآن تستند إلى هذه البنوّة الجسدية والولادة التناسلية، ومن ثم فلا بدع أن يثور ويصيح: (( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم! )) (مائدة 19 و 75 ) كأن الإنسان ابن مريم صار الله !! أو كأن الله استحال عيسى ابن مريم !! لذلك ينزّه القرآن المسيح عن ادعاء تأليه كهذا: (( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله )) ( آل عمران 79 )؛ فحسبُ

ـ 357 ـ

المسيح فخراً أن يكون عبداً لله: (( لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ـ ولا الملائكة المقرّبون )) ! ( نساء 172 ).

وقصارى القول ليست لاهوتية المسيح كتأليه المشركين لآلهتهم. وليست بنوّة المسيح العقلية الروحية في الله كبنوّة وولادة الآلهة المتألهين من الله . هذه غارقة في اللحم والدم، والجسد والصاحبة، في دنيا المحسوسات، وتلك ضمن الجوهر الإلهي الفرد، الروح المحض، والعقل المحض، في عالم الأزل قبل الزمان والمكان، وقبل المحسوسات والمعقولات والأجساد والأرواح: (( في البدء كان الكلمة ! والكلمة كان لدى الله ! وكان الكلمة الله )) ( يو 1 : 1 ).

وهكذا فليست البنوة الروحية التي ينسبها الإنجيل إلى المسيح مثل البنوة الجسدية التي ينفيها القرآن عنه. وليست الإلهية التي يثبتها الإنجيل للمسيح، روح الله وكلمة الله ، مثل التأليه الذي يستنكره القرآن فيه، ولا هي (( الاتخاذ )) الذي يضم إلى الله (( جزءاً )) ليس منه.

 

حاول وفد نجران إلى النبي الجديد، بعد أن أَنِسوا منه اعترافه بنبوَّة عيسى، أن يحمله على الإقرار ببنوّته أيضاً، واتخذوا من ولادته البشرية المعجزة من مريم بلا أب دليلاً على ولادته الإلهية من الله دون أمٍّ أو علاقة مخلوق. فأجابهم ولادتُه المعجزة من مريم بلا أب ليست أغرب من خلق آدم بلا أب وأُمّ معاً: (( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون: الحق من ربك فلا تكن من الممترين... إن هذا لهو القصص الحق )) (آل عمران 59 ـ63 ).

وأردف يقول: هذا المعجز الحقيقي في ميلاد المسيح لا يرفعه إلى رتبة الألوهية لأن الصدور عن الله لا يكون إلا بخلق، ويستحيل على مخلوق أن يتخذه الله إلهاً من دونه: (( ذلك عيسى قول الحق الذي فيه يمترون: ما كان

ـ 358 ـ

لله أن يتخذ من ولد ! سبحانه ! إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون )) ( مريم 34 ـ 36).

السؤال قاصر، والجواب قاصر، ولا غرابة في ذلك: فالبيئة لا تحتمل أكثر!

خلطوا بين البنوّة بالصدور والبنوّة بالاتخاذ، وهذه مستحيلة إذ كيف يمكن أن يصير إلهاً من هو بشرٌ يأكل الطعام كالحيوان! (( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة : كانا يأكلان الطعام ! ... ( مائدة 78 ).

وشابه قوم من نصارى العرب حال مريم بحال ابنها فألـّهوها، فاستفظع ذلك منهم، ووصل الاستغراب إلى الله عز وجل فاستجوب عيسى عن ذلك: (( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ ـ قال: سبحانك ! ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق ! )) ( مائدة 119 ).

فالقضية في القرآن هي دائماً قصة (( اتخاذ )) و (( تأليه )) ، دون تمييز بين حال وحال.

وليس تأليه عيسى ـ وأمه ـ منه بل من بعض أتباعه كما يظهر من جواب المسيح لله في يوم الدين ( مائدة 119 ـ 122 )، وهو (( غلوّ )) من قوم قد ضلّوا من قبل وأضلوا كثيراً. لذلك يعتبر القرآن اعتقاد النصارى في ألوهية المسيح (( غلواً )) منهم في دينهم لا غير ويردَعُهم عنه: (( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه: فآمنوا بالله ورسله )) ( نساء 170 )؛ فلا تتبعوا أهواء مَن سبقكم: (( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبلُ وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل )) ( مائدة 80 ). لذلك يدعوهم إلى التوحيد الخالص: (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله )) ( آل عمران 62).

ـ 359 ـ

ذلك هو اعتقاد القرآن في ألوهية عيسى كما فهمها بعض نصارى العرب الجهال: وهو بعيد كل البعد عن تعليم الإنجيل وإيمان النصارى:

فليست ألوهية عيسى تأليهاً ولا اتخاذاً ! هذا مستحيل !

وليست بنوّته العقلية الروحية في جوهر الله الفرد بنوّة مخلوقة بشرية جسدية جنسية تناسلية: كل بنوّة من هذا النوع منسوبة إلى الله إفك وشرك وكفر ! ( توبة 31 ـ 33 ). كأن الله اتخذ مريم إلاهة صاحبة واستولدها عيسى إلهاً من دون الله ! إن مجرّد فكر كهذا لكفر محض ! كفر لا يقول به إلا مَن أوغل في الهمجية، وما قدر الله حق قدره ! يُنزِل الخالق منزلة المخلوق ! وينسب اللاهوت لغير الله ! يا قوم ألا رحمةً بعقولكم وعقولنا ! ألا انصافاً لكتابكم وكتابنا ! نحن أعقل من هذا ! وأنتم أعدل من هذا !

أجل لقد كفر الذين جعلوا الملائكة والنبيين أرباباً من دون الله ! ( آل عمران 80 ).

أجل لقد كفر الذين اتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله ! ( توبة 32 ).

أجل (( لقد كفر الذين قالوا: عزيزٌ ابن الله ! )) ( توبة 31 ).

أجل (( لقد كفر الذين قالوا: أمُّ المسيح إلاهة من دون الله أو مع الله! )) ( مائدة 120 ).

أجل (( لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم )) . ( مائدة 19 و 75 ) فجعلوا المسيح إلهاً آخر دون الله !

أجل (( لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة )) ( مائدة 76 ) أي الالهة ثلاثة )) ! والذات الإلهية ثلاث !

أجل، أجل ! لقد كفروا: فالذات الإلهية واحدة، والجوهر الإلهي فَرْدٌ أحد ! وليست بنوة (( كلمة الله )) منه تعالى جسديةً، ولا معنويةً، ولا

ـ 360 ـ

اتخاذاً، ولا تبنيّاً، ولا تأليهاً، حتى ولا إلهيةً بمعنى أنها غريبة عن جوهر الله الفرد، ومن خارج الذات الإلهية الواحدة.

فالمسيح (( روح الله )) ، وبنوته روحية في الله ذاته.

والمسيح (( كلمة الله )) ، وبنوّته عقلية.

وهكذا فالخلاف على ألوهية المسيح بين الإنجيل والقرآن خلاف ظاهري: وليس بينهما خلاف جوهري لاختلاف وجهات النظر: ليست ألوهية عيسى ابن مريم ـ تلك الألوهية الكاذبة التي حاربها القرآن عند بعض نصارى العرب الأميين الجاهلين ـ بألوهية المسيح الحقّة التي يعلمها الإنجيل. واعتقد كل الاعتقاد أنه لو وصل تعليم الإنجيل إلى محمد سالِماً لاعتنقه ودانَ به: (( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أوَّل العابدين )) ( زخرف 81 ).

 

بحث ثانٍ : التثليث في القرآن

 

(( يا عيسى ابن مريم ءَانت قلت للناس اتخذوني

وأمي إلهين من دون الله )) ( مائدة 119 )

كما حارب القرآن (( تأليه )) عيسى ابن مريم عند بعض نصارى العرب الجهال، حارب كذلك عقيدة (( التثليث )) عند قوم آخرين منهم ضلوا عن الإنجيل والقرآن.

فالتثليث الذي ينكره القرآن ليس بالتثليث المسيحي.

فالتثليث المسيحي هو من صميم التوحيد، من صميم وحدانية الله ، في وحدة الذات الإلهية.

1ً التثليث الذي ينكره القرآن

هناك ثلاثة نصوص توحيه لنا:

ـ 361 ـ

الأول من سورة النساء:

170 يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فآمِنوا بالله ورسله، ولا تقولوا: ثلاثة ! انتهوا، خير لكم ! إنما الله إلهٌ واحد ! سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السماوات وما في الأرض، وكفى به وكيلاً !

171 لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ـ ولا الملائكة المقربون ! ـ ومَن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً.

والثاني من سورة المائدة:

70 لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم ! .

76 لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة ! وما من إله إلا إله واحد ! وإن لم ينتهوا عمّا يقولون لَيَمسنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم.

والثالث من سورة المائدة أَيضاً، أَبان فيه تلميحاً ثم تصريحاً مَن هم (( الثلاثة )) :

77 أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرون، والله غفور رحيم:

78 ما المسيح، ابن مريم، إلا رسول قد خلت من قبله

ـ 362 ـ

الرسل. وأمه صدّيقة. كانا يأكلان الطعام. انظر كيف نبيّن لهم الآيات؛ ثـم انظر أنّى يؤفكون! )) .

119 وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم أأنتَ قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ! ـ قال: سبحانك ! ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق ! إن كنتُ قلته فقد علمتَه ! .. ما قلتُ لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم.

فالخطاب في سورة النساء لأهل الكتاب عامة: (( يا أَهل الكتاب ... لا تقولوا (( ثلاثة )) (170). والخطاب في سورة المائدة خاصٌ بفئتين أو ثلاث من أهل الكتاب العرب يفسّرون معنى (( الثلاثة )) : فئة تدّعي أن الله هو المسيح ابن مريم ! وفئة تدّعي أن الله ثالث ثلاثة !

وإذا سألتَ القرآن عن (( الثلاثة )) التي يزعمون، أجاب تلميحاً ( مائدة 77 ) ثم تصريحاً ( مائدة 119 ) بأنهم: الله ، وعيسى ابن مريم، ومريم أُم عيسى: فهما إلهان مع الله!

ذاك هو التثليث أو الثالوث الذي كان يدين به بعض نصارى العرب، فأنكره القرآن عليهم، وكفّرهم به من النقل على لسان المسيح: (( وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم )) ( مائدة 75 ): (( ما قلتُ لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم )) (مائدة 119 )؛ ومن المنطق والعقل أنه (( ما من إله إلا إله واحد (76) وقد كان المسيح وأمه يأكلان الطعام (78) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً )) (79).

اعتبر القرآن ذلك الاعتقاد الفاسد قولاً من بعضهم (( الذين قالوا )) (75 و 76) الذين كفروا منهم )) (76): ثم اعتبره غلوّاً من جميعهم ( نساء 170،

ـ 363 ـ

مائدة 80 ). لذلك يدعوهم إلى نبذ الغلوّ في تأليه المسيح والتثليث المذكور (( يا أَهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه؛ فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا (( ثلاثة )) ، انتهوا خيرٌ لكم )) ( نساء 170 ) (( قل يا أَهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبلُ وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل )) ( مائدة 80 ) .

2ً موقف المفسرين من قول القرآن: و لا تقولوا: (( ثلاثة )) ( نساء 170 )

قال الجلالان: (( أي الآلهة ثلاثة: الله وعيسى وأمه )) .

وقال البيضاوي: (( أي الآلهة ثلاثة: الله والمسيح ومريم، ويشهد عليه قوله: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ـ أو الله ثلاثة: إن صح أنهم يقولون: الله ثلاثة أقانيم الآب والابن وروح القدس ويريدون بالآب الذات، وبالابن العلم وبروح القدس الحياة )) . ـ ونقول: وان صحّ أن النصارى يعنون (( بالآب الذات وبالابن العلم وبروح القدس الحياة )) فذلك لا يدلّ على تعدّد الذات الإلهية، لأن العلم والحياة في الله هما ذات الله بعينها. وهكذا تختلف جوهريّاً مقالة القرآن عن مقالة الإنجيل في التثليث.

وقال الزمخشري: (( إن صحت الحكاية عن النصارى أنهم يقولون: هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم: أقنوم الآب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنهم يريدون بأقنوم الآب الذات وبأقنوم الابن العلم وبأقنوم روح القدس الحياة: فتقديره (( الله ثلاثة )) ، وإلا فتقديره (( الآلهة ثلاثة )) : والذي يدل عليه القرآن هو التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة وأن المسيح وَلَدُ الله من مريم: ألا ترى إلى قوله (( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله )) وحكاية الله أوثق من حكاية غيره!! )) ـ أجل حكاية الله أوثق من حكاية غيره، لكن القرآن بقوله ما تقديره: الآلهة ثلاثة، الله والمسيح ومريم، وإن المسيح وَلَدُ الله من مريم، حكى حكاية بعض نصارى العرب

ـ 364 ـ

الذين يكفّرهم، وليس حكاية الإنجيل والنصارى عامة الذين يقولون: الله جوهر واحد، في ثلاثة أقانيم، وهذه المقالة لا تنافي التوحيد، ولا دخل لمريم في هذا التثليث ولا لولادتها الجسدية لعيسى، وهي تختلف تماماً عن مقالة القرآن (( الآلهة ثلاثة، الله وعيسى ومريم )) أو الإله صار ثلاثة (( الله وعيسى ومريم )) .

والرازي المدقق يقول: (( قوله ثلاثة خبر مبتدإ محذوف. ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدإ على وجوه: ( الأول ) ما ذكرناه أي ولا تقولوا: (( الأقانيم ثلاثة )) ؛ ( الثاني ) آلهتنا ثلاثة كما قال الزجاج مستشهداً بآية المائدة؛ ( الثالث ) قال الفرّاء: (( هم ثلاثة )) كقوله ((سيقولون ثلاثة )) وذلك لأن ذكر عيسى ومريم مع الله بهذه العبارة يوهم كونهما إِلهين )) . ثم يفسر رأيـه (( الأقانيم ثلاثة )) : أي والمعنى ولا تقولـوا (( إن الله واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم )) ؛ واعلم أن مذهب النصارى مجهول جداً، والذي يتحصل منه أنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات ثلاث؛ إلا أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها (!) فلهذا المعنى قال (( ولا تقولوا: ثلاثة فهذا لا يمكن إنكاره، وكيف لا نقول ذلك وإنَّا نقول: هو الله الملك القدوس العالم الحي القادر ... ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر، ولا معنى لتعدد الصفات إلا ذلك. فلو كان القول بتعدّد الصفات كفر لزم ردّ جميع القرآن، ولزم رد العقل من حيث إنا نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من قوله حيّاً )) .

وإنَّا لنستغرب قول الرازي (( إن مذهب النصارى مجهول جداً )) ، وقد عرفه تمام المعرفة (( إن الله واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم )) وأنهم أي النصارى (( أثبتوا، على قوله، ذاتا موصوفة بصفات ثلاث )) . وفي كلا القولين ليس من تعدّد ينقض التوحيد. ولكن ضلَّ عندما أراد أن يطبق مذهبهم على مقالة القرآن القائلة (( بثلاثة آلهة )) فاستنتج منه (( إنهم وإن سموها صفات فهي في

ـ 365 ـ

الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها !! كلا ليست (( الاقانيم الثلاثة )) ذواتٌ قائمة بأنفسها مما يُشعر بأنها ثلاثة آلهة، بل هي علاقات ذاتية قائمة بالذات الإلهية الواحدة؛ وقد أشعر هو نفسه أن ذلك ممكن حيث قال: (( فأما إن حملنا الثلاثة على أنهم يثبتون صفات ثلاثاً فهذا لا يمكن إنكاره ... فلو كان القول بتعدد الصفات كفر لزم رد جميع القرآن ولزم رد العقل من حيث نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من قوله حيّأً )) ، وبهذه المقالة يلتحق بالزمخشري والبيضاوي حيث يصف مذهب النصارى إنه: (( جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أقنوم الآب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس؛ وإنهم يريدون بأقنوم الآب الذات وبأقنوم الابن العلم وبأقنوم روح القدس الحياة )) . وما كان ضرّهم لو قالوا بقول النصارى وإنجيلهم القائم على توحيد الجوهر الإلهي الفرد: فالله واحد في ثلاثة أقانيم أي علاقات جوهرية غير قائمة بأنفسها بل قائمة في الذات الإلهية الواحدة ؟

فمقالة (( الثلاثة )) أو الثالوث أو التثليث لها وجه مقبول ينسجم مع التوحيد الصارم ولها وجه مرذول ينقض التوحيد ويعني تعدّد الآلهة. وما نهاهم القرآن عنها (( ولا تقولوا: ثلاثة )) إلا لأن العرب، أو بعض نصارى العرب الجهال قد فهموا التثليث المسيحي على غير حقيقته فمالوا به إلى تعدد الآلهة أو تعدّد الذات الإلهية، وأقحموا فيه ما ليس منه (( مريم أم المسيح )) ، ونسبوا إلى الله ما يقشعر له المرء أبى استيلاده عيسى من مريم كما سيظهر من مقالاتهم في ما يلي:

 

(( الله ثالث ثلاثة )) ( مائدة 76 )

إن بعض نصارى الحجاز قد فهموا بالثالوث أو (( الثلاثة )) أن (( الله ثالث ثلاثة )) (مائدة 76 )، ولا يجوز فهم هذا التعبير كفهم سابقه (( ولا تقولوا: ثلاثة )) لأنه في حدّ ذاته يجعل الله أحد ثلاثة فيعدّد الآلهة، أو يعدّد الذات الإلهية. وهذا كفر كما نعته القرآن. وتلاحظ أنه يكفّر مقالة (( الله ثالث ثلاثة )) فيما ينعت مقالة (( الثلاثة )) بالغلو ( نساء 170 ).

ـ 366 ـ

وقد تُفسّر هذه المقالة بأنَّ (( الابن والروحَ إلهان من دون الله )) وهي تعني حتماً تعدد الآلهة؛ وقد تُفسّر بأن (( المسيح ومريم إلهان من دون الله )) وظاهرها يعني أيضاً تعدد الآلهة. ويميل القرآن إلى التفسير الثاني لأن الآية 78 من المائدة بيان للآية 76 منها. وكلا القولين كفر كما نعتهما القرآن؛ بيد أن القرآن لا ينسبهما إلى عموم نصارى الحجار بل إلى الذين ((كفروا منهم )) (76).

قال الجلالان: أَي أحدُ آلهةٍ ثلاثة والآخران عيسى وأمه. وهم فرقة من النصارى.

وقال البيضاوي: أي أحد ثلاثة وهو حكاية عمَّا قاله النسطورية (؟) والمِلْكانية منهم القائلون بالأقانيم الثلاثة وما سبق (75) قول اليعقوبية القائلين بالاتحاد1 .

وقال الرازي ناقلاً رأي المفسرين ورأي المتكلمين: (( في تفسير قول النصارى (( ثالث ثلاثة )) طريقان: ( الأول ) قول بعض المفسرين وهو أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة والذي يؤكد ذلك قوله: (( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله )) ، والدليل أَنه المراد، قولهُ في الرد عليهم (( وما من إله إلا واحد )) ؛ ( والثاني ) إن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أب وابن وروح القدس، وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالآب الذات وبالابن الكلمة وبالروح الحياة؛ وأثبتوا الذات والكلمة والحياة، وقالوا إن الآب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد )) . ـ نقول لقد أنصفهم المتكلمون، وظلمهم المفسرون بنسبة مقالة بعض نصارى العرب الكفار إلى عموم النصارى. وعقّب الرازي على حكاية المتكلمين: (( إن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل فإن الثلاثة لا تكون واحد والواحد

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قد تكون مقالة الملكانية (( الله ثالث ثلاثة )) ولا يمكن أن تكون بحال من الأحوال مقالة النسطورية الذين لا يعترفون بأمومة مريم الإلهية، ويحطُّون من كرامتها !!

ـ 367 ـ

لا يكون ثلاثة! )) ـ أجل من وجه واحد، كلا من وجوه مختلفة، فالنصارى يوحّدون جوهر الله أو طبيعته الإلهية، ويثلثون أقانيمه الذاتية، وهذا لا يعني جعل الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة حتى يجوز القول إنه (( لا يُرى في الدنيا مقالة أشدّ فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى )) (الرازي ) فلا يراها المتكلمون كذلك، ولا الراسخون في العلم !!

فمقالة بعض نصارى الحجاز (( الله ثالث ثلاثة )) تفسير خاطئ فاسد لا يجوز تعميمه على سائر النصارى.

(( إلهان من دون الله )) ( مائدة 119 )

إن بعض نصارى الحجاز كانوا يقولون (( عيسى ومريم أمه إلهان من دون الله )) (مائدة 78 و 119 ) وهذه المقالة أيضاً تفسير آخر فاسد لمقالة النصرانية بالثالوث أو ((بالثلاثة)) الأقانيم.

فمقالة تلك الفئة الضالة تعني صراحة تعدد الآلهة، لا بل تأليه مخلوقين مع الله ، الإنسان عيسى ابن مريم، وأمه. لذلك يستفظعها الله يوم الدين ويستجوب عيسى عنها: (( إذ قال الله ( يوم يجمع الرسل ): أأنتَ قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟! )) فيستنكر عيسى التهمة ويشهد للتوحيد؛ ويستغفر لمن قال بها.

ويرد القرآن على هذه المقالة الفاسدة ببراهين عدة: (( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل )) أي ما هو إلا رسول كالرسل قبله خصه الله بآيات كما خصهم بها (البيضاوي )؛ (( وأمه صدّيقة )) : وإن كل مَن كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن وكل من كان كذلك كان مخلوقاً لا إلهاً ( الرازي )؛ و (( كانا يأكلان الطعام )) : أي إنهما كانا محتاجين، لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة والإله هو الذي يكون غنيّاً عن جميع الأشياء فكيف يعقل أن يكون إلهاً ( الرازي )؛ و (( قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لك ضرّاً ولا نفعاً ؟ أي أن عيسى وأمه لا يملكان الضرّ والنفع مثل الله حتى يكونا إلهين.

ـ 368 ـ

ونقول إنها براهين سديدة تنقض مقالة جهال الحجاز من النصارى لأنها تعني تأليه مخلوقين مع الله . ولكن قولهم ليس بقول النصارى الحق، ولا تعنيهم أدلة القرآن الواردة. فالإله في عيسى ليس ما وُلد من مريم أي ناسوته أو طبيعته الإنسانية، بل مَن أُلقي إلى مريم من جوهر الله دون انقسام أَي (( كلمةُ الله )) الذي هو (( روح منه )) تعالى.

(( الله هو المسيح ( مائدة 75 )

وإن بعض نصارى الحجاز كانوا يقولون (( إن الله هو المسيحُ ابنُ مريم )) ( مائدة 75) ومقالتهم هذه هي تفسير ثالث لعقيدة النصارى العامة في التثليث أي (( الثلاثة )) الأقانيم.

ومقالة أولئك تفسير خاطئ لأنها تعني أن جوهر الله كله، وذات الله كلّها، وطبيعة الله كلها، قد صارت عيسى ابن مريم. أو تعني على الأقل (( إن الله تعالى حلَّ في ذات عيسى واتحد بذات عيسى )) ( الرازي ) وهذا هو مذهب الحلول الذي يجيز على الله ما لا يجوز أي أن يتغير أو يتبدل أو يتحول.

قال الجلالان: لقد كفروا حيث جعلوا ابن مريم إلهاً، وهم اليعقوبية، فرقة من النصارى.

وقال البيضاوي:هم الذين قالوا بالاتحاد منهم؛ وقيل لم يصرّح به أحد منهم بل حكى لسان حالهم.

وقال الرازي: حكى عن فريق منهم أنهم قالوا (( إن الله هو المسيح ابن مريم )) وهذا هو قول اليعقوبية لأنهم يقولون: إن مريم ولدت إلهاً. ولعلَّ معنى هذا المذهب إنهم يقولون: إن الله تعالى حلَّ في ذات عيسى واتحد بذات عيسى )) .

ونقول: إن النصارى يكفّرون مع القرآن هذه المقالة: ليس لعيسى ابن مريم ذات غير ذات الكلمة الملقاة إلى مريم روحاً من الله : فليس هناك ذاتان

ـ 369 ـ

بل ذات واحدة تجسّدت من مريم أي تدرّعت بجسد منها. وهذا القول بعيد كل البعد عن مذهب الحلول والحلولية، ومذهب الامتزاج بين ذات خالقه وذات مخلوقة.

تلك هي التفاسير الثلاثة التي قال بها بعض نصارى العرب الجاهلين، البعيدين عن مراكز النصرانية الحنيفة الرسمية، في ما يتعلق بعقيدة التثليث النصرانية، أي الأقانيم ((الثلاثة)) في الله الواحد، وتلك مقالات فاسدة جعلت القرآن يكفّر أصحابها واحداً واحداً، وينهاهم عن الاعتقاد (( بالثلاثة )) على الإطلاق: (( ولا تقولوا: ثلاثة ! انتهوا، خير لكم )) ( نساء 170 )1 .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) فذلكة تاريخية : هل وراء أقوال نصارى الحجاز مذاهب نصرانية معروفة وصلت إلى قلب الجزيرة ؟ قد يكون الأمر كذلك على ما يؤخذ من نصوص القرآن واجتهادات المفسرين ، كما رأينا.

قبل مبعث النبي العربي كان يتقاسم العالم امبراطوريتان ضخمتان ، الفرس في الشرق من الجزيرة العربية ، والروم في الغرب . وقد تنصرت دولة الروم ، وبدأت النصرانية تغزو دولة الفرس ، وهذا سبب ما كان بينهما في مطلع القرن السابع من حرب سجال، علاوةً عن المنافسة على سيادة العالم، وتنازع البقاء .

وقد غزت النصرانية الجزيرة وتوغلت إلى الحجاز، آتية من الشرق ومن الغرب معاً .

وقد حاولت نصرانية الفرس أن تقرّب بين المسيحية والدين القومي (( المزدكية )) القائلة بإلهين ، إله الخير وإله الشر أو إله النور وإله الظلمة ، فطلعت علينا ببدعة المانوية التي تسربت إلى قلب الجزيرة ونجد لها صدى في قول القرآن (( وقال الله : ولا تتخذوا إلهين اثنين ، إنما هو إله واحد )) . ( نحل 51 ) . قال الشهرستاني هذه المقالة تنقل تعليم المانوية والديصائية ، من مارقة النصارى ، القائلين بعنصرين أو إلهين ، إله الخير وهو النور ، وإله الشر وهو الظلمة ، ( كتاب الملل والنحل ج 1 ص 143 ) .

كما غزت الحجازَ النصرانية الغربية بفرقها الثلاث المعروفة آنذاك : المِلـْكائية ، واليعقوبية ، والنسطورية وليدة وحليفة الآريوسية المصرية . فكان آريوس يدّعي أن المسيح عبد الله ورسوله فهو مخلوق قبل غيره ، وبه كبواسطة خلق الله العالم ، فهو غير الله ، فتبرّأت النصرانية منه ، ودانت بالتثليث . وافترقت النصرانية الغربية ثلاث فرق في فهم هذا التثليث : فقالت اليعقوبية ، أتباع يعقوب البرادعي ، (( بالأقانيم الثلاثة )) إلا أنهم قالوا انقلبت الكلمة لحماً ودماً فصار الإله هو المسيح ، وهو الظاهر بجسده بل هو هو وعنهم أخبرنا القرآن :

ـ 370 ـ

استنتاج وتطبيق

نستنتج مما تقدم إن التثليث الذي ينكره القرآن غيرُ التثليث المسيحي الذي يعلمه الإنجيل. كل من الإنجيل والقرآن يقصد غير ما يعنيه الآخر. والمسيحيون يعتقدون غير ما ينكر المسلمون.

ـــــــــــــــــــــــ

(( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ! )) . وقالت الملكائية أتباع الملك والمجمع النصراني ((بالأقانيم الثلاثة، إلا أنهم قالوا أن الكلمة اتحد بجسد المسيح وتدرع بناسوته )) ففهم العرب من ذلك أن الله صار (( ثالث ثلاثة )) فحكى عنهم القرآن : (( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة )) . وقالت النسطورية ((وهي من الملكائية كالمعتزلة من السنة )) وهم أتباع نسطور : إن مريم هي أم المسيح لا أم الله ، فليست مريم بإله ، ولا ولدت الله ، وبهذا قد ينكرون عرضاً ألوهية المسيح كما قالت اليعقوبية ، والتثليث كما قالت الملكائية . ونظن مع عبد المسيح الكندي ، أن القرآن في قبوله نبوّة المسيح ، ونكرانه بُنُوّتَهُ قد انتهى إلى مقالة النسطورية ، فكفّر معهم اليعقوبية والملكائية من النصرانية الغربية كما كفّر النصرانية الشرقية ونهى عن القول بالتثليث (( لا تقولوا : ثلاثة ! انتهوا )) ففيه مزلقة عن التوحيد . كما نهى عن القول بالثنائية : (( ولا تتخذوا إلهين اثنين )) ففيه نكران للتوحيد.

وننقل على سبيل الاطلاع ما كتبه الشهرستاني المؤرخ الديني : (( واثبتوا لله تعالى أقانيم ثلاثة . قالوا : الباري تعالى جوهر واحد يعنون به القائم بالنفس ، لا التحيّز والحجمية ، فهو واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية ، ويعنون بالأقنومية الصفات : كالوجود والعلم والحياة أي الآب و الابن وروح القدس . وإنما العِلم تدرع وتجسد دون سائر الأقانيم ( 172 ) ... وقالت الملكائية : إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته ويعنون بالكلمة أقنوم العِلم. ويعنون بروح القدس اقنوم الحياة . ولا يسمون العلم قبل تدرّعه به ابناً، بل المسيح مع ما تدرّع به ابن ... وصرحت الملكائية بأن الجوهر غير الأقانيم وذلك كالموصوف والصفة. وعن هذا صرحـوا بإثبات التثليث ( 173 ) ... وعنهم أخبر القرآن : (( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة )) ... وحسب رأي النسطورية ، وهي من الملكائية كالمعتزلة من السنة : إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة )) الوجود والعلم والحياة، وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات ، ولا هي هو . واتحدت الكلمة بجسد عيسى عليه السلام على طريق الامتزاج كما تقول الملكائية ( ؟ ) ولا على طريق الظهورية كما قالت اليعقوبية ولكن كإِظهار الشمس في كوة أو على بلور أو كظهور النقش في الخاتم . وأشبه المذاهب بمذهب نسطور في الأقانيم أحوال أبي هاشم من المعتزلة فإنه يثبت خواص مختلفة لشيءٍ واحد ( 174 ) . واليعقوبية أصحاب يعقوب قالوا بالأقانيم الثلاثة كما ذكرنا إلا أنهم قالوا انقلبت الكلمة لحماً ودماً فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده بل هو هو. وعنهم أخبرنا القرآن الكريم : لقد كفر

ـ 371 ـ

1ً تصريح الإنجيل

فالثالوث المسيحي مبنى في الإنجيل على وحدانية الله ، لا إله إلا هو. سُئل السيد المسيح: (( أي وصية هي أولى الوصايا جميعاً ؟ فأجاب الأول هي: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا هو الرب الوحيد فأحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك وكل قوتك. فقال له الكاتب: حسن يا معلم لقد أصبت إذ قلت إنه الوحيد ولا آخر سواه )) ( مرقس 12 : 28 ـ 34 ). ومع هذا الإقرار الصريح بالوحدانية الإلهية فالتصريح بالتثليث لاريب فيه، وقد ختم المسيح حياته ورسالته وإنجيله لتلاميذه الحواريين: (( لقد دُفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم. وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتُكم به وها أنا ذا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر )) ( خاتمة متّى).

فهذا الإعلان النهائي سبقَتْه تصاريح متعددة عن الوحدة بين المسيح الابن والله الآب: (( ووقع عيد التجديد في أورشيلم وكان شتاء وكان يسوع يذهب ويجيء في الهيكل في رواق سليمان فتحلّق اليهود حوله وقالوا له: (( حتى مَ تريب أنفسنا ؟ ان كنت أنت المسيح فقله لنا جهراً ! أجابهم يسوع: لقد قلته لكم ولا تصدّقون، والأعمال التي أعملها باسم أبي هي تشهد لي... ( ثم قال ) أنا والآب واحد! حينئذ تناول اليهود من جديد حجارة لكي يرجموه. فأجابهم لقد أريتكم أعمالاً حسنة كثيرة من عند الآب فلأي عمل منها

ـــــــــــــــــــــــ

الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم . فمنهم من قال المسيح هو الله ومنهم مَن قال ظهر اللاهوت بالناسوت ( 176 ) . وزعم آريوس أن الله واحد سمَّاه أباً ، وأن المسيح كلمة الله وابنه على طريق الاصطفاء وهو مخلوق قبل خلق العالم وهو خالق الأشياء . وزعم أن لله تعالى روحاً مخلوقة أكبر من سائر الأرواح و أَنها واسطة بين الآب و الابن تؤدي إليه الوحي ، و زعم أن المسيح ابتدأ جوهراً لطيفاً روحانياً خالقاً غير مركب ولا ممزوج بشيء من الطبائع وإنما تدرع بالطبائع الأربع عند الاتحاد بالجسم المأخوذ من مريم . ـ وهذا آريوس قبل الفرق الثلاث فتبرّأوا منه لمخالفتهم إياه في المذهب )) ( 178 ) ( كتاب الملل والنحل ) .

ـ 372 ـ

ترجموني؟ أجابه اليهود: لسنا لعمل حسن نرجمك بل لأجل التجديف ولأنك تجعل نفسك إلهاً وأنت إنسان ! فأجابهم يسوع: أو ليس مكتوباً في ناموسكم: (( أنا قلتُ إنكم آلهة )) ؟ فإن كان يدعو آلهة أولئك الذين صارت إليهم كلمة الله ـ ولا يمكن أن ينقض الكتاب ـ فأنا الذي قدسه الآب وارسله إلى العالم تقولون لي إنك تجدّف ! لكوني قلتُ: أنا ابن الله ؟ إن كنت لا أعمل أعمال أبي فلا تصدقوني، ولكن إن كنتُ أعملها ولا تريدون أن تصدّقوني فصدّقوا هذه الأعمال لكي تعلموا وتعترفوا أن الآب فيَّ وأني في الآب )) ( يوحنا 10 : 22 ـ 42 ).

فهذه الوحدة بين الله الآب والمسيح الابن ليست معنوية بل جوهرية، والمسيح هو ابن الله ليس على طريق الاصطفاء أو على سبيل المجاز، بل حسب الطبيعة (( لكي تعلموا وتعترفوا أن الآب فيّ وأني في الآب )) ( 10 : 38 )؛ ثم يعود إلى الشهادة ذاتها مع تلاميذه: (( قال له فيلبس: يا رب، أرنا الآب وحسبُنا، قال له يسوع: أنا معكم كل هذا الزمان ولا تعرفني؟ يا فيلبّس، من رآني فقد رأى الآب ! فكيف نقول أنت: أرِنا الآب ! أفلا تؤمن أني أنا في الآب وأن الآب فيَّ ؟ الأقوال التي أكلمكم بها لا أتكلم بها من نفسي بل الآب المقيم فيّ هو يعمل أعماله. صدّقوني أني أنا في الآب والآب فيّ. وإلا فصدقوا من أجل الأعمال )) ( يوحنا 14 : 3 ).

وقد سبقته أيضاً، تصاريح عن الوحدة القائمة بين الابن وروح القدس. فالروح القدس هو المحامي عن الحواريين في نشر الإيمان لأنه روح الحقّ الذي ينبثق من الآب: (( ومتى جاء المحامي الذي أرسله إليكم من لدن الآب، روح الحق الذي ينبثق من الآب، فهو يشهد لي، وأنتم أيضاً تشهدون بما أنكم معي منذ البدء )) ( يوحنا 15 : 26 )؛ وروح الحق ينزل بعد رفع المسيح: (( غير أني أقول لكم الحق: إن في انطلاقي لخيراً لكم: فإن لم أنطلق لا يأتِكم المحامي وأمَّا إذا انطلقت فإني أرسله إليكم ( 16 : 7 )، ولكن متى جاء هو، روح الحق، فإنه يرشدكم إلى الحقيقة كلها لأنه لا يتكلم من عند نفسه بل يتكلم بما

ـ 373 ـ

يكون قد سمع ويخبركم بما يأتي. إنه سيمجّدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. جميع ما للآب فهو لي: من أجل هذا قلت لكم إنه يأخذ ممّا لي ويخبركم )) ( 16 : 12 ـ 15 ).

2ً تحليل التصريح:

وهكذا يعلمنا الإنجيل أن (( الله روح )) محض لا دخل للجسد ولشؤون الجسد فيه تعالى، (( والذين يعبدونه يجب أن يعبدوه بالروح والحق )) ( يوحنا 4 : 25 )؛ ويعلّم الإنجيل أن يسوع المسيح هو (( ابن الله )) و (( كلمة الله )) لأنه (( كما أن الآب له الحياة في ذاته كذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته )) ( يوحنا 5 : 26). إن الله هو الوجود، والوجود هو الحياة، والله هو (( الحي القيوم )) ( آل عمران 2، بقرة 255، طه 111 )، يحيا ويتفاعل ويتسلسل في ذاته الواحدة. والإنجيل بتسميته (( الابن كلمة الله )) ( يوحنا 1 : 1 ) ـ كذلك القرآن نساء 170 ـ أفهمنا إن هذا التفاعل والتسلسل روحيّ عقلي. فالمسيح هو ابن الله ، أي فكر الله الجوهري، أو نُطق الله الجوهري. فهل يمكن أن يكون الله بدون عقل ؟ وهل يكون عقله إلا غير محدود كذاته. وفكره الذي هو منتوج عقله، وهو غير محدود في الله كعقله، هو ما يسمّيه الإنجيل بلفظ علمي فلسفي لاهوتي (( كلمة الله )) ، وبتعبير شعبي تفهمُه الجماهير ((ابن الله )) والشعب البسيط نفسه ألا يسمّي الأفكار بنات العقل ؟ وعندما يستعمل الإنجيل لفظة (( كلمة )) يدل بصراحة على أن بنوّة فكرية نطقية عقلية؛ وأن الولادة في الجوهر الإلهي الفرد هي روحية إلهية، فوق الزمان والمكان، وفوق الجسد والمخلوق. يتسلسل كلمة الله من جوهر الله كما يصدر نطقنا من عقلنا. وهذا الصدور أو التسلسل غير المخلوق، نتيجة التفاعل الإلهي، لا يمكن التعبير عنه تماماً بكلام مخلوق، فيسميه الإنجيل بلغة بشرية تقرّب غير المدرك من إدراكنا (( ولادة وبنوّة )) ثم (( أباً وابناً )) . فكلمة الله أو نطق الله الصادر عن القوة العاقلة في الله ، هو في وضع يشبه عند البشر وضع ابن من أبيه، وفي علاقة

ـ 374 ـ

ولادةٍ روحية وبنوّة عقلية تشبه فينا ولادة الفكر من العقل. فليس في ذلك إذن رفع مخلوق في صفة الخالق، ولا حطّ الخالق إلى درجة المخلوق؛ بل هو تفاعل روحي وتسلسل عقلي؛ بل هو ولادة روحية وبنوة عقلية في الذات الإلهية الواحدة.

وكما أنه لا بدّ من الاعتراف في الجوهر الإلهي الفرد بقوة عاقلة كذلك لا بدّ من الاعتراف فيه بقوّة مُحبّة، كما قال الإنجيل: (( الله نور )) و (( الله محبة )) . فالطبيعة الإلهية الواحدة هي ذاتها قوّة عاقلة وقوّة مُحبّة. والقوّة العاقلة فيها تنتج فكرها أو (( ابنها )) ، والقوة المحبّة في الآب والابن تنتج، عن طريق التبادل، ثمراً حُبيّاً هو الروح القدس الذي يعرّفه النصارى (( محبة الآب والابن المتبادلة )) . وحياة الحيّ القيوم هي حياة قوّة ذاته العاقلة وحياة قوّة ذاته المحبّة: فابن الله هو فكر الله الجوهري، وروح الله أو روح القدس هو حبّ الله الجوهري. ولكي يقرّب لنا المسيح فَهْم هذه الحياة الإلهية وكيفيّة تفاعلها في داخلها عبّر لنا بكلام بشري عن ذات الله وعن ثمرة عقله الجوهرية وثمرة حبه الجوهرية، إذ لا عَرَض في ذات الله، إنها (( الآب والابن والروح القدس )) وإن (( الثلاثة )) هي الإله الواحد، لا إله إلا هو.

وهكذا فالروح اسم وحقيقة للمحبّة المتبادلة في ذات الله ؛ والابن اسم وحقيقة لثمرة القوّة العاقلة في جوهر الله ؛ والآب اسم وحقيقة لمصدر هاتين الثمرتين في الذات الإلهية الواحدة. وهكذا فالآب والابن والروح جوهر واحد، طبيعة واحدة، ذات إلهية واحدة، هو الله لا إله إلا هو. ومن ثم فإذا بشّر الإنجيل بالتثليث ضمن الطبيعة الإلهية الواحدة فهو لا يجعل مع الله إلهاً آخر، ولا يجعل الله (( ثالث ثلاثة )) ، ولا يجعل الله (( ثلاثة )) آلهة؛ بل هو تثليث علاقاتٍ أقنوميّة قائمة في الذات الإلهية الواحدة، هو تثليث في التوحيد الخالص.

 

وقد نجد عند أرسطو والغزالي ما يشبه من بعض الوجوه هذا التحليل:

ـ 375 ـ

فأرسطو يقول ـ على حدّ ما نقل عنه الشهرستاني: (( المسألة الثالثة في أن واجب الوجود لذاته عقلٌ لذاته، وعاقل ومعقول لذاته ـ عُقِل من غيره أم لم يُعقل ـ أما أنه عقلٌ فلأنه مجرّد عن المادة، منزّه عن اللوازم الماديّة، فلا يحجب ذاته عن ذاته؛ وأما أنه عاقلٌ لذاته فلأنه مجرّد لذاته؛ واما أنه معقول لذاته فلأنه غير محجوب عن ذاته بذاته أو بغيره )) (ص 313 ): فالله إذن عاقل وعقلٌ ومعقول في ذاته الواحدة؛ ومثل هذا (( التثليث )) في الذات الواحدة لا يتنافى مع وحدانية الله.

وقال حجّة الإسلام الإمام الأول الغزالي: (( يعتقدون أن ذات الباري واحدة ولها اعتباران: فإن اعتُبرتْ مقيدة بصفة لا يتوقف وجودها على تقدم وجود صفة قبلها، كالوجود، فذلك المسمّى عندهم بأقنوم الآب. وإن اعتُبرتْ موصوفة بصفة يتوقف وجودها على تقدم وجود صفة قبلها، كالعلم، فإن الذات يتوقف اتصافها بالعلم على اتصافها بالوجود فذلك هو المسمّى عندهم بأقنوم الابن والكلمة. وإن اعتُبرتْ بقيد كون ذاتها معقولة لها فذلك المسمّى عندهم بأقنوم روح القدس. فيقوم إذن من الآب معنى الوجود، ومن الابن أَو الكلمة معنى العالِم، ومن روح القدس كون ذات الباري معقولة له. هذا حاصل هذا الاصطلاح، فتكون ذات الإله واحدة في الموضوع موصوفة بكل أقنوم من هذه الأقانيم. ومنهم من يقول: إنَّ الذات، إن اعتُبرت من حيث هي ذات، لا باعتبار صفة البتة، فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن العقل المجرّد وهو المسمّى بأقنوم الآب. وإن اعتُبرت من حيث هي عاقلة لذاتها فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن معنى العاقل وهو المسمّى بأقنوم الابن والكلمة. وإن اعتبرت بقيد كون ذاتها معقولة لها فهذا الاعتبار عندهم هو المسمى بأقنوم معنى المعقول، روح القدس. فعلى هذا الاصطلاح يكون العقل عبارة عن ذاته بقيد كونها عاقلة لذاتها، والابن أو الكلمة مرادفين له؛ والمعقولية عبارة عن الإله الذي ذاته معقولة له، وروح القدس مرادفاً له1 . هذا هو اعتقادهم

ـــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ أن الغزالي قلب ترتيب أرسطو : فهذا يقول ذات الله عقل وعاقل ومعقول

ـ 376 ـ

في هذه الأقانيم. وإذا صحت المعاني فلا مشاحة في الألفاظ )) ( ص 43 ).

فيعود تحليله إلى قوله: الذات الإلهية موصوفة بخواص جوهرية ثلاث الوجود والعلم والمعقولية، وهي الآب والابن والروح القدس الإِله الواحد؛ أو إلى قوله: الذات الإلهية هي عقل وعاقل ومعقول معاً وهي الآب والابن والروح القدس الإله الواحد: فهل في هذا ((التثليث)) ما ينافى التوحيد ؟

وقد رأيت أَن المفسرين أخذوا بالاصطلاح الأول، فيما المتكلمون يأخذون بالاصطلاح الثاني. وقد فسّر الشهرستاني بعدهم عقيدة التثليث المسيحية بقوله: (( وأثبتوا لله تعالى أقانيم ثلاثة؛ قالوا: الباري تعالى جوهر واحد، يعنون به القائم بالنفس، لا التحيّز والحجميّة؛ فهو واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية؛ ويعنون بالأقنومية الصفات كالوجود والعلم والحياة، الآب والابن وروح القدس؛ وإن العِلـْم تدرّع وتجسد دون سائر الأقانيم ( ص 172 ): قد أوجز الشهرستاني عقيدتي (( التثليث )) والتجسد: فهل في مثل هذا ما ينافي التوحيد ؟

لقد ثبت لنا بالنقل والعقل أن التثليث المسيحي الذي يعلمه الإنجيل ويدين به النصارى لا ينافي التوحيد، بل يقوم عليه، وهو من صُلبه، وهو تفسير سامٍ لحياة (( الحيّ القيوم )) في ذاته، لا إله إلا هو سبحانه وتعالى.

فالتثليث المسيحي إذن هو من صميم وحدانية الله ، في وحدة الذات الإلهية.

 

أما في القرآن فقد رأيت أن التثليث الذي يذكره في تعابيره الأربعة: (( الثلاثة )) ( نساء 170 ) و (( الله ثالث ثلاثة )) ( مائدة 76 ) و (( الله هو المسيح ابن مريم )) ( مائدة 75 ) و ((عيسى وأمه إلهان من دون الله )) ( مائدة 119 ) يعود إلى نكران وحدانية الله ، وتعدّد الذات الإلهية وإيجاد ثلاثة آلهة أي

ـــــــــــــــــــــــ

معاً ؛ والغزالي يقول ذات الله عاقل وعقل ومعقول . راج الرد الجميل على إلهية المسيح ص43 . ولاحظ أيضاً أن الغزالي يقبل بهذا التثليث في كتاب يرد به على إلهية المسيح !

ـ 377 ـ

إلهين غريبين مع الله هما الإنسان عيسى ابن مريم وأمه. وهذا التثليث القرآني كفر محض ينكره الإنجيل كما ينكره القرآن، لأنه يعني (( تأليه )) عيسى وأمه (( واتخاذهما )) إلهين من دون الله . والإنجيل لا يعرف اتخاذاً ولا تأليهاً. فقول كهذا يعني ثلاثة آلهة، وتعدد الذات الإلهية، مما لا أثر له في الإنجيل ولا في اعتقاد النصارى.

ومما يستفزّ النصارى اتهامهم بتأليه مريم أم المسيح كما فعله (( المريميون )) أو ((الكليريون )) من نصارى العرب الجهال فحكى القرآن حكايتهم. وها هي كتب النصارى ومؤلفات علمائهم تملأ العالم منذ ألفي سنة فلا تجد فيها أثراً لهذا التثليث الذي ينكره القرآن على نصارى العرب: الله والإنسان عيسى ابن مريم، وأمه؛ ولا تجد فيها ذكراً لإشِراك أمّ المسيح من قريب أو بعيد في عقيدة التثليث. فهل جُنّ جميع النصارى منذ ألفي سنة حتى يؤمنوا بثلاثة آلهة ؟! هل توصل جهلهم وحماقتهم إلى أن يؤلهوا مخلوقاً الإنسان عيسى ابن مريم، أو امرأة هي مريم بنت عمران أم عيسى ؟! فالنصارى قبل إيمانهم بألوهية المسيح، وقبل إيمانهم بالثالوث الأقدس يدينون بوحدانية الله الخالصة. وإذا كان في ألوهية المسيح أو التثليث الإلهي ما ينافي وحدة الطبيعة الإلهية فهم يرفضونها.

لذلك فالتثليث الذي ينكره القرآن ليس بالتثليث المسيحي. فلا النصارى يؤمنون ولا الإنجيل عَلـّم ولا المسيح قال للناس: (( اتخذوني وأمي إلهين من دون الله )) ( مائدة 119 ).

ـ 378 ـ

بحث ثالث: ألقاب المسيح في القرآن

(( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته

ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( نساء 170 )

 

 

الاسم دليل المسمّى ... ومما يزيدنا معرفة لمنزلة المسيح الفريدة في القرآن، ما يضفيه على عيسى ابن مريم من الألقاب. وإِنك لتراه يسبغ عليه من النعوت والصفات، والألقاب والأسماء ما يجعله وحيداً بين الأنبياء، وسيداً للمرسلين.

نجد في القرآن أَلقاباً نبويّة تجعل المسيح (( وجيهاً )) بين الرسل الذين خلوا من قبله.

ونجد في القرآن ألقاباً إلهية ـ أَجل إلهية ـ ينفرد بها المسيح على سائر الأنبياء والمرسلين، بل ترفع المسيح من رتبة المخلوق إلى صلة ذاتية خاصة بالخالق.

 

أولاً : ألقاب المسيح النبوية في القرآن

(( قال إني عبد الله أتاني الكتاب

وجعلني نبيّاً )) ( مريم 30 )

 

 

يسمّي القرآنُ المسيحَ عادة: (( عيسى ابن مريم )) .

هو (( عيسى )) : بالعبريـة (( إيشوع )) ( البيضاوي والزمخشري ) أو بالحري ((يشوع )) ومعناه في لغتهم (( المخلّص )) . هذا اسمه الشخصي المعروف به، اسم العلم الذي به يُعْلـَم. وصحيح الاسم (( يشوع )) بالعبرانية، و (( يسوع )) بالسريانية فمن أين نقله على هذه الصورة (( عيسى )) ؟ الأرجح أَنها منقولة ومنحوتة عن الرومية السريانية في صيغة المنادى ((إيْسُو )) فوصلت إلى قلب الجزيرة على هذه الصورة (( عيسى )) .

ـ 379 ـ

ومعروف عند الشرقيين ما للاسم من مغزى وأَمل.

وهو (( ابن مريم )) نسبة إلى أمه1 . وينسبه إلى أمّه تشريفاً له ولها. وليس في هذه النسبة أَية إهانة أو تحقير لأن هذه الأم قد (( اصطفاها الله على نساء العالمين )) ( آل عمران 42 ) وينسبه إلى أمه ليس لأنه مجهول الأب، فتلك إهانة ينتفض لها القرآن ويكفّر اليهود الذين يقولون بها ( نساء 157 ) بل هي شهادة دائمة من القرآن لأمومة مريم البتولية، ولمولد عيسى المعجز الفريد من بتول لم يمْسَسْها بشر.

ويردُ هذا اللقب (( ابن مريم )) مسنوداً إلى عيسى كناية له: (( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم )) ( بقرة 87 ، نساء 170، مائدة 46 ) (( وآتينا عيسى ابن مريم البينات )) ( بقرة 87 و 253، مائدة 49 )، و (( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم )) ( مائدة 113 و 119 )؛ وهذا الاسم تصح به نسبة عيسى.

ويرد اللقب (( ابن مريم )) مستقلاً بنفسه، كناية عَلَميّة على الطريقة السامية: (( وجعنا ابن مريم وأمه آية )) ( مؤمنون 51 ) (( ولما ضُرب ابن مريم مثلاً ( زخرف 57 ) وفي هذه الكناية تشريف، وتفضيل، واستشهاد، وشهادة.

ويدعوه (( عبد الله )) أي رجل الله، وهي صفة يتصف بها أنبياء الله ورسله. فهو قال عن نفسه (( إني عبد الله )) ( مريم 30 ) حينما نطق طفلاً؛ والله يدعوه عبده (( ان هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه )) ( زخرف 58 )؛ ويجعل القرآن هذه الصفة ميزة رسالته. وحسبه فخراً أنه عبد الله (( لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله )) ( نساء 171 ).

وهو (( النبي )) : وُلِدَ نبيّاً لمّا نطق حال ولادته (( إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً )) ( مريم 30 )؛ بل نبوَّته ترتقي إلى ما قبل الولادة،

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال البيضاوي : لما كان صفة تميز تمييز الأسماء ... تنبيهاً على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد تنسب إلى الأب ولا تنسب إلى الأم إلا إذا فقد الأب.

ـ 380 ـ

إذ هو (( كلمة الله ألقاها إلى مريم، وروح منه )) ( نساء 171 ). وقد انفرد هذا (( النبي )) بخوارق شخصه ورسالته.

وهو (( الرسول )) أيضاً: لا يجعل القرآن عادة فرقاً بين النبي والرسول. وقالوا إن الرسول هو النبي الذي اختصه الله بشرع جديد، مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. إنه رسول الله (( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله )) ( نساء 170 ). إنه (( رسول إلى بني إسرائيل )) ( آل عمران 49 ) امتازت رسالته بتمام الوحي فيه (( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بني إسرائيل )) ( آل عمران 48 و 49 ). فانفردت رسالته بخوارق لا مثيل لها في تاريخ النبوّة والرسالة من إبراءٍ، إلى احياءٍ، إلى خلق ( آل عمران 49 ). واختُصّت بتأييد الروح القدس، روح الله ( بقرة 78 و 53، مائدة 113 ).

وهو (( الغلام الزكي )) ( مريم 18 ) جسداً ونفساً؛ وحده وُلد بحال البتولية، ووحده وُلِدَ بدون مسّ الشيطان، ووحده عاش (( طاهراً بريئاً من الذنوب )) ( البيضاوي )، ووحده عاش ((لا يصيب من الذنوب كما يصيب سائر بني آدم حتى الأنبياء منهم )) ( قتادة )، ووحده لا يُنسب إليه إثم على الإطلاق.

وهو (( المبارك )) أينما كان: حمل هذه البشرى معه منذ مولده (( وجعلني مباركاً أين ما كنت )) ( مريم 31 )؛ وظل في كل لحظة، وفي كل موقف من مواقف حياته (( المبارك )) أينما كان. فأيّ نبيّ خصه الله بمثل هذه البركة في كل دقائق حياته (( أين ما كنت )) ؟ مَن لا تتغلّب عليه في ساعة من ساعات حياته عوامل البشرية، ومواطن الضعف، فلا يكون فيها ((مباركاً )) ؟؟ لقد جاء عن محمد، خاتم النبيين: (( وإِن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك، لتفتري علينا غيره، وإذن لاتخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً )) (إسراء 73 ) وأيضـاً (( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله مـا تقدم من ذنبك وما تأخر )) ( فتح )؛ وجاء عن سائر المرسلين:

ـ 381 ـ

(( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ، إلا إذا تمنّى ( قرأ ) ألقى الشيطان في أمنيتِه )) ! إنما واحد أحد رافقته البركة والنعمة، وتأييد الروح القدس من المهد إلى اللحد ومن الدنيا إلى الآخرة (( وجعلني مباركاً أين ما كنتُ )) ، هو عيسى ابن مريم.

وهو (( البتول )) دائماً وُلد من بتول، وعاش بتولاً، وارتفع بتولاً؛ لا يذكر له القرآن والإنجيل زوجة ولا أولاداً، ولا يُسندان إليه كنيةَ ولد، ولا يلمحان إلى علاقة له بالنساء، ولم يمد عينيه إلى ما متع به الله أزواجاً منهم. بينما القرآن يزخر بحوادث النساء عند غيره، ولم يكتم في نفسه ما الله مبديه ... وحده مع يحيى بن زكريا كان (( حصوراً )) ارتفع فوق حاجة الرجل إلى امرأة. إنه البتول.

وهو (( المثل )) الأعلى: (( وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل )) ( زخرف 58 )؛ والقرآن لا يعرض غيره مثلاً1. فقد حقق المثل الأعلى في التقوى والفضيلة والقداسة: (( وأوصاني بالصلوة والزكوة ما دمت حيا ! وبَرّاً بوالدتي ! ولم يجعلني جباراً شقيّا ً! )) ( مريم 32 ). ويكفيه فخراً أن القرآن ينزِّهه عن كل إثم ومنقصة. فهو المثل الذي لا تشوبه شائبة.

هو (( الوجيه في الدنيا والآخرة )) ( آل عمران 45 ) قالوا بالإجماع، كما رأينا، الوجاهة في الدنيا هي النبوءة، وفي الآخرة هي الشفاعة. زاد الرازي هي براءته من العيوب في الدنيا وكثرة ثوابه في الآخرة، واستجابة دعائه في الدنيا، وعلو درجته ومنزلته في الآخرة. لا بل أَكثر من ذلك، فوصفه بالوجاهة يعني زعامة في النبوءة، وزعامة في الشفاعة، والتقدم، والدرجات العلى. هو (( وَجـْهُ )) الأنبياء والمرسلين، المقدم في الدنيا عليهم، والمقرّب في الآخرة من عرش الجلالة (( فقد ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله )) ( خاتمة انجيل مرقس ).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) كان للمؤمنين في رسول الله محمد (( ‘سوة حسنة )) في الصبر في الحروب والغزوات ؛ إنها إسوة محدودة خاصة .

ـ 382 ـ

وهكذا، فألقاب المسيح النبوية تظهر المسيح وحدهُ (( آية للعالمين )) بين الأنبياء والمرسلين. قبل ظهوره يقول القرآن عنه (( قال ربك: هو عليَّ هين: ولنجعله آية للناس ورحمة منا ! وكان أمراً مقضيّاً )) ( مريم 21) وبعد ظهوره يقول (( وجعلناها وابنها آية للعالمين )) ( أنبياء 91 ) مشركاً الأم في شرف ابنها فهو آية بشخصه، آية بحياته، آية برسالته. ففي تاريخ النبوة المسيح وحده (( آيةُ الله للعالمين )) : وهذه الصفة موجز كل الألقاب.

هذه الألقاب النبوية تجعل وحدها عيسى ابن مريم نبيَّ الأنبياء في القرآن. وتدل وحدها دلالة كافية على سمو رسالته وشخصيته اللتين انفرد بهما.

ثانيا : ألقاب المسيح الإلهية في القرآن

 

(( إنما المسيح، عيسى ابن مريم، رسول الله وكلمته

ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( نساء 170 )

هناك في القرآن الكريم، بين النعوت والصفات، والأسماء والألقاب التي تكلل هامة المسيح بمجد لا يُدانى، ثلاثة ألقاب انفرد بها المسيح دون سواه من الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، والملائكة المقربين: (( إنما المسيح، عيسى ابن مريم، رسول الله ، وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( نساء 170 ).

فعيسى ابن مريم هو مسيحُ الله

وعيسى ابن مريم هو كلمة الله

وعيسى ابن مريم هو روح الله

في هذه الصفات والألقاب تعريف بالمسيح أَبلغ وأسمى من كل تعريف. فهي بحد ذاتها، مهما كان معناها، تحديد لشخصيته يرفعها فوق الجميع؛ وهي كما فسّرها المسلمون تبيّن عظمة المسيح الوحيدة في العالمين. وهي في معناها

ـ 383 ـ

الكامل ـ على ضوء التوراة والنبييّن والإنجيل حيث اقتبسها القرآن وصدّقها وشهد لها ـ ترفع المسيح فوق المخلوقين إلى صلة ذاتية خاصة مع الخالق.

ونقرّ منذ البدء أن لنا الحق كله بأن نفهم على ضوء التوراة والنبيين والإنجيل ما غمض في القرآن من النقاط المشتركة لأن القرآن ذاته، في حالة الشك من شهادته أو فهمها، يحيلُنا إلى الكتاب: (( فإن كنتَ في شك ممّا أنزلنا إليك فَسْئَل الذين يقرأون الكتاب من قبلك )) ( يونس 94 ).

1ـ عيسى ابن مريم هو مسيح الله

 

(( إذ قالت الملائكة : يا مـريم ان الله يبشرك

بكلمة منه اسمه المسيح )) ( آل عمران 45 )

عيسى ابن مريم هو المسيح (( إنما المسيح، عيسى ابن مريم )) ( نساء 170 ).

المسيح هو اسم لعيسى ابن مريم، وليس لقباً فقط: (( يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه: اسمه المسيح )) ( آل عمران 45 ).

الملائكة تبشّر بهذا الاسم، وهي تحمله معها من السماء إلى الأرض. والله ذاته يبشر به العذراء، بواسطة الملائكة: (( إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح )) .

فهو اسم سماوي إلهي أَوحى به الله مباشرة.

وعندما يوحي الله اسماً يعلّق عليه رسالة خاصة: فالاسم دليل الشخص. ومهما كان معنى هذا الاسم العجيب، فإنه يعني أن ( الله مسحه وأرسله ) (( رحمة وآية للعالمين )) .

لقد سبق الله في التوراة والأنبياء فأخبر عنه، وصف شخصه ورسالته. ولما جاء القرآن، وصدّق هذا الاسم لعيسى ابن مريم، وشهد للإنجيل والتوراة، دلَّ على أن عيسى ابن مريم هو مسيح الله المنتظر، موضوع أحلام وآمال البشرية

ـ 384 ـ

جيلاً بعد جيل؛ ودلَّ دلالة واضحة على أنه هو هو حامل الرسالة العظمى التي تنبّأ عنها الأنبياء ووصفوها في شخصه.

ولمّا أعلن القرآن أن عيسى ابن مريم هو المسيح الموعود به شهد لما قالته التوراة عنه، وشهد لما قاله الإنجيل عنه. وباعتراف القرآن لعيسى بهذا الاسم أقرّ بأنه أتم الرسالة التي علقها كتاب الله على هذا الاسم الجليل.

التوراة والأنبياء سمّوا (( النبي )) الأعظم باسمه (( المسيح )) . والإنجيل والقرآن يشهدان أن عيسى ابن مريم هو المسيح أي النبي الموعود به (( اسمه المسيح )) ( آل عمران 45 ).

ولو فتشت القرآن كله لما وجدت سوى عيسى ابن مريم وحده، بين الأنبياء والمرسلين، قد انفرد باسم (( المسيح )) ، وانفراده به ميزة خُصَّ بها دون سواه.

وقد ذهب المفسرون في تفسير هذا الاسم الفخيم، المثقّل بنبوّات الأنبياء الأولين، مذاهب شتى. ولكن كلها تنطوي على عظمة شخصية المسيح وعلى عظمة رسالته اللتين دلّ عليهما ((اسمه المسيح )) .

قال البيضاوي: (( المسيح لقبه. وهو من الألقاب المشرفة كالصدّيق. واصله بالعبرية ((مشيحا )) ومعناه المبارك1 . سمّي كذلك:

ـ لأنه مُسِحَ بالبركة ( ولم يُمس غيره بالبركة ).

ـ أو مُسِحَ بما طهّره من الذنوب ( ولم ينل غيره مسحة طاهرة مطهِّرة مثله ).

ـ أو مسح الأرض ولم يقم في موضع ( وهل يستطيع غيره ذلك ) ؟

ـ أو مسحه جبريل صوناً له من مسّ الشيطان )) ( ولم يُصَن أحد غيره بمثل هذه المسحة).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) (( مشيحا )) معناه مَسِيح أي ممسوح . وقد تكون المسحة دلالة بركة خاصة .

ـ 385 ـ

وقال الرازي: (( المسيح: هل هو اسم مشتق أو موضوع ؟ أصله بالعبرية (( مشيحا )) فعربته العرب وغيّروا لفظه: وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق. والأكثرون أنه مشتق1 موضوع:

ـ قال ابن عباس: إنما سمّي مسيحاً لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة إلا بَرِئ من مرضه.

ـ قال أحمد بن يحيى: لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة.

ـ قال غيره: لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله تعالى.

ـ لأنه مُسح من الأوزار والآثام.

ـ لأنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يُمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم2 .

ـ لأنه مسحه جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون له ذلك صوناً من مس الشيطان.

ـ لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن )) .

تعود تفاسير مسحة المسيح إلى معنيين: إنه مُسح من الخطيئة، في ولادته (( مسحه جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له من مس الشيطان )) ، وفي حياته كلها ((مُسِحَ بما طهره من الذنوب، مُسِحَ من الأوزار والآثام )) . ثم نال مسحة النبوّة الكاملة (( مُسح بالبركة. إنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يُمسح به الأنبياء )) . وذلك من بطن أمه (( إنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن )) وفي هذه المسحة من بطن أمه للرسالة الكاملة

ـــــــــــــــــــــــ

(1) والأكثرون أنه مشتق قال الزمخشري: (( ومشتقهما ( المسيح عيسى ) من المسح والعيس كالراقم في الماء. وقال البيضاوي واشتقاقهما من المسح والعيس تكلّف لا طائل تحته )) .

(2) لماذا ما سمِّي غيره مسيحاً لو كلهم مُسحوا ؟

ـ 386 ـ

سرّ شخصيته وسرّ عظمته التي يحوم حولها المفسرون ولا يجرأون على التصرح بها.

 

والمعنى الكامل لاسم (( المسيح )) يجب أن نفهمه في القرآن على ضوء الإنجيل والأنبياء الأولين والتوراة، التي يأخذ القرآن عنها ( أعلى 18 و 19، مريم 15 ) ويصدّقها ( بقرة 41 و 89 و 91 و 101 ).

فموسى يعتبر (( النبي )) خاتمة سلسلة أنبياء الكتاب.

وداود في زبوره يدعوه: الرب والملِك والكاهن. وداود أول من يسميه المسيح.

وأشعيا يسمّي المسيح المنتظر (( عمانوئيل أَي الله معنا )) وينشد متنبئاً في شأن مولده: ((قد وُلد لنا ولد، وأعطي لنا ابن؛ صارت رئاسته على كتفه، ولاحد لسلامه؛ ويدعى اسمه رسول المشورة العظيمة؛ مشيراً عجيباً؛ إلهاً قويّاً؛ سلطاناً؛ رئيس السلام؛ أبا الدهر الآتي؛ ومخارجه منذ الأزل )) .

ودانيال يراه دياناً للعالم آتياً على سحاب السماء في (( هيئة ابن الإنسان )) .

فلقب المسيح في الكتاب مثقل بالمعاني النبوية الكثيرة.

وقد نقل الشهرستاني1 نظرية الكتاب كما يقول بها المسيحيون: (( كمال الشخص الإنساني في ثلاثة أشياء: نبوّة وإمامة وملكية. وغيره من الأنبياء كانوا موصوفين بهذه الخصال الثلاث2 أو ببعضها. والمسيح عليه السلام درجتُه فوق ذلك لأنه الابن الوحيد فلا نظير له، ولا قياس له إلى غيره من الأنبياء؛ وهو الذي به غفر زلة آدم عليه السلام. وهو الذي يحاسب الخلق )) .

ـــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب الملل و النحل : في أصل النصرانية ( 172 ).

(2) لم يكن أحد من الأنبياء موصوفاً بها معاً بل جميعهم بواحدة منها أو اثنتين . مثلاً موسى كان نبيّاً وقائداً ولم يكن إماماً أو كاهناً بل هارون . وداود كان نبيّاً وملكاً ولم يكن كاهناً . وإرميا كان نبيّاً وكاهناً ولم يكن ملكاً . المسيح وحده جمع الخصال الثلاث.

ـ 387 ـ

فمسحة المسيح التي مسحه الله بها هي (( نبوّة وإمامة وملكية )) . فالمسيح هو النبي الأعظم والإمام أو الكاهن الأعظم والملك الأعظم. واختصاصه (( باسم المسيح )) ، لهذه المسحات الثلاث، دليل على كمالها فيه حتى عُرف بها وعرفت به.

والقرآن الكريم، على آثار التوراة والأنبياء والإنجيل، إذ يعترف لعيسى ابن مريم، باختصاصه (( باسم المسيح )) ( أل للتعريف و الفردية ) ، يقرّ له بكل تلك الخصال. فمسحة النبوة ومسحة الإمامية أَو الكهنوت ومسحة الملكية انتهت إليه واستُكملت فيه.

فهو (( مسيح الله )) بين الأنبياء والمرسلين من قبل أن يظهر ومن بعد: (( إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح )) .

ذلك هو معنى (( المسيح )) في القرآن والإنجيل والتوراة.

 

2 عيسى ابن مريم هو كلمة الله

 

(( إنما المسيح عيسى ابن مريـم رسول الله

وكلمته ألقاها إلى مريم )) ( نساء 170 )

النصوص:

كل البشارات في القرآن تبشر بعيسى ابن مريم أنه (( كلمة الله )) .

الله يبشر زكريا بيحيى، وعلامة نبوّته تصديقه بكلمة الله: (( فنادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب: إن الله يبشر بيحيى ، مصدقاً بكلمة من الله ، وسيداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين )) ( آل عمران 39 ). أولى صفات

ـــــــــــــــــــــــ

(1) وكمال هذه المسحات الثلاث في الإنجيل : مسحة الألوهية (( مسحك إلهك، يا الله ، بدهن البهجة أفضل من شركائك )) ( عبر 1 : 8 ) ، (( مسح الله بالروح القدس يسوع الناصري الذي اجتاز يحسن إلى الناس لأن الله كان معه )) ( أعمال 10 : 8 ) .

ـ 388 ـ

يحيى أنه مصدق بكلمة من الله أي بعيسى ابن مريم، أنه كلمة (( كائنة )) من الله ( الجلالان).

الله يبشر مريم مباشرة بكلمة منه: (( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين )) ( آل عمران 45 ). أولى صفات مولود مريم وأول ألقابه التي تسمع به مريم هو أنه (( كلمة الله )) .

ومريم صدقت بالمسيح وإنجيله فسمّيت (( الصدّيقة )) ( مائدة 78 ) : جاء في سورة التحريم في قراءَة صحيحة: (( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا. وصدقت بكلمة ربها وكتابه وكانت من القانتين (12).

والقرآن الكريم عندما أراد أن يستجمع أوصاف وألقاب المسيح ليعرّف به يلقبه بهذا اللقب العظيم الفريد: (( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح ابن مريم، رسول الله ، وكلمته ـ ألقاها إلى مريم ـ وروح منه. فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ((ثلاثة)) ! انتهوا، خيرٌ لكم: إنما الله إله واحد ! سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السماوات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلاً . لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون )) (نساء 170 و 171 ).

إن وجود هذا اللقب الوحيد الذي يخص القرآن به عيسى ابن مريم وحده، يخلق إشكالاً ومشكلة في القرآن: فالقرائن تدل على أنه يختلف في مفهومه ومدلوله عمّا يصرّح به القرآن عن عيسى ابن مريم؛ وهو حجر عثرة أيضاً عند المفسرين فهم يخطبون خبط عشواء في تفسيره: يرون فيه أكثر ممّا يقرّون ولا يجهرون. ولا يُفهم معنى اللقب الكامل إلا بمقارنته بالإنجيل الذي نُقل عنه وقد سبق إلى تعريف المسيح به.

ـ 389 ـ

معناه في القرآن:

ما معنى هذا اللقب الفريد في القرآن ؟

لا نجهل أن هذا اللقب السامي لا يحمل في القرآن عامة أدنى معنى للألوهية. فالقرآن ينكر بوجه عام بنوّة المسيح الإلهية من الله ، وإن قبل نبوءته ورفعه بها فوق الجميع1 ( وموقف القرآن من هذا اللقب خصوصاً يتضح من تعريفه الشهير في الآية 170 من سورة النساء: إِنه كلمة الله ! ولكن ليس لهذا الكلمة صفة الألوهية: صدرُ الآية ينهى عن هذا الغلو في الدين: (( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق )) ؛ وعجز الآية يعدد ثمانية دلائل تنفي ألوهية هذا الكلمة: 1ً إنه رسول من رسل الله (( فآمنوا بالله ورسله )) ، 2ً الإقرار بألوهية الكلمة ينتهي إلى القول (( بالثلاثة )) ولا تقولوا: ثلاثة ، 3ً (( انتهوا، خير لكم ))، 4ً (( إنما الله إله واحد )) فلا يمكن أن يكون الكلمة إلهاً معه، 5ً وكيف يكون الكلمة إلهاً إلا بولادة الله له، (( سبحانه أن يكون له ولد )) ، 6ً فكل ما عدا الله ملك وعبيد لله (( له ما في السماوات وما في الأرض )) ، 7ً ولسنا بحاجة إلى غير الله (( وكفى بالله وكيلاً )) ، 8ً فالكلمة عبد لله مثل الملائكة المقربين، لا إله ((لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقرّبون )) .

أمَّا في الإنجيل فمعنى هذا اللقب الإلهي صريح: مطلع إنجيل يوحنا يكفي برهاناً قاطعاً. والمشكلة بين الكتابين في هذا: كيف نقل القرآن عن الإنجيل هذا اللقب الإلهي مجرداً عن ألوهيته؟ والحلّ الصحيح ليس في نقض الإنجيل أو القرآن بل في التوفيق بينهما ما أَمكن ...

ـــــــــــــــــــــــ

(1) راجع خصوصاً النصوص الإضافية التفسيرية : مريم 35 ، زخرف 59 ، آل عمران 59 ، 62 .

ـ 390 ـ

معناه عند المفسرين:

وبين المفسرين أيضاً تقوم المشكلة على هذا: هل يعني تعبير (( الكلمة )) اسم شخص أم مجرد (( أمر )) إلهي ؟

لقد أجمع القوم على أن (( كلمة الله )) تعني (( أَمره )) . وقد تعني (( وحيه )) أو (( كلامه الموحى به )) .

جاء في الجلالين عن آل عمران 39 (( مصدّقاً بكلمة من الله )) : كائنة من الله أي بعيسى أنه روح الله . وسمي كلمة لأنه خُلق بكلمة كن ! )) وفي آل عمران 45 يمر على التعبير دون أن يشرحه مما يدل على تحذّر. وفي سورة النساء 170 يمر بالاسم مرور الكرام؛ مكتفياً بالإشارة الأولى: (( سُمّي كلمة لأنه خلق بكلمة كن ! )) ـ ونقول لماذا وحده سمّي بهذا الاسم (( كلمة الله )) وقد خُلق البشر كلهم والأنبياء والمرسلون ، والملائكة المقربون بكلمة (( كن )) ، ولم يقل الإنجيل والقرآن والتوراة عن أحد من المخلوقين أن (( اسمه كلمة الله )) ؟ ثم كيف (( روح الله )) يكون مجرد أمر ؟ أليس في التفسيرين تناقض وارتباك ؟!

وجاء في البيضاوي: (( مصدّقاً بكلمة من الله )) ( آل عمران 39 ) أي بعيسى، سُمّي بذلك لأنه وُجِدَ بأمره تعالى دون أبٍ فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر؛ أو بكتاب الله )) . ـ ليس المعنى الثاني مقصوداً. ثم أليس كل الأنبياء والصالحين وجدوا (( بأمره )) تعالى ؟ فلماذا لم يسمِّ الإنجيل والقرآن أحداً منهم (( كلمة الله )) ، واختص عيسى ابن مريم وحده بهذا الاسم ؟ وعلى الآية 45 منها يمرّ مرور الكرام مع أنه يعدد الأسماء والأحوال التي يصف القرآن بها (( الكلمة )) الذي يبشر به الله مريم. كذلك في الآية 170 من النساء. كأنه يشعر بخطر هذا اللقب فيتحاشى عن سبر معانيه.

وقال الزمخشري: (( مصدقاً بكلمة من الله ، مصدّقاً بعيسى مؤمناً به ؛ قيل هو أول مَن آمن به ؛ وسمّي عيسى كلمة لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها وهي قوله (( كن )) من غير سبب آخر. وقيل مؤمناً بكتاب منه تعالى )) : ـ ولكن

ـ 391 ـ

ليس المعنى الثاني مطلوباً لأن أوصاف يحيى نبوّة عنه للمستقبل وليس إخباراً عن الماضي حتى تعني الكتاب المنزل قبله. ونجيب الزمخشري وسائر المفسرين الذين قصَروا معنى (( الكلمة )) على أمره تعالى (( كن )) من غير سبب آخر: لماذا آدم لم يسمّه القرآن والإنجيل والتوراة (( كلمة )) مع أن خَلْقـَه أغرب من خلـْق عيسى كما يذكر (( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن، فيكون ! )) ( آل عمران 59 ) فآدم أحق البشر بلقب (( كلمة )) لأنه أول من وُجد بكلمة (( كن )) الخلاَّقة من غير سبب آخر البتة ؟!

وقال الرازي: (( مصدقاً بكلمة من الله )) أي كتاب من الله ، وهو قول أبي عبيدة ؛ واختيار الجمهور أن المراد بكلمة الله هو عيسى. وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه. وسمي عيسى كلمة الله من وجوه: 1ً إنه خُلق بكلمة الله وهو قوله (( كن )) من غير واسطة الأب كما يسمّى المخلوق خَلْقاً وهو باب مشهور في اللغة؛ 2ً إنه تكلم في الطفولية وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية فكان في كونه متكلماً بالغاً مبلغاً عظيماً فسمّي كلمة أي كاملاً في الكلام؛ 3ً إن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية كما سمّي القرآن (( روحاً )) ؛ 4ً إنه حقق كلمة بشارة الأنبياء به كما قال (( وحقت كلمة ربك )) ؛ 5ً إن الإنسان يسمّى فضل الله ولطف الله فكذا عيسى عليه السـلام كان اسمه العلم (( كلمة الله وروح الله )) . واعلم أن كلمة الله هي كلامه، وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذات الله )) . وأضاف في آل عمران (45) : (( سمي كلمة الله كأنه صار عين كلمة الله الخالقة له بوجوده المعجز أو لأنه أبان كلمة الله أفضل بيان )) ؛ وفي النساء 170 يختار منها ما أجمع عليه القوم: ((المعنى إنه وُجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة )) .

ونجيب عليها جميعاً: كل هذه التعريفات تنطبق على سائر الأنبياء، في عرفهم، وخصوصاً على خاتم النبيين: فلماذا لم يسمِّ القرآن محمداً (( كلمة الله )) ، وهو عندهم (( أول خَلْق الله )) ، وخاتم رسل الله وأكملهم في الكلام المعجز،

ـ 392 ـ

وقرآنه (( روح من أمره )) تعالى، وقالوا إنه هو النبي الأمي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل فيه حقت أكثر من عيسى كلمة الله ، وقد جاء رحمة للعالمين كافة فهو أحق أن يكون (( عين كلمة الله )) ، وقد أبان كلمة الله الأخيرة ، خير بيان وأفضله ؟! . فالقرآن يشهد بأن عيسى وحده دون العالمين خُصّ بهذا اللقب العظيم ، حتى صار اسم علم له. وليس ذلك مجرّد اسم علم، بل دلالة على ان كلمة الله هي كلامه ، (( وكلامه صفة قديمة قائمة بذات الله )) على قول أهل السنة.

وهكذا فاختيار الجمهور أن (( كلمة الله )) لقب لعيسى ابن مريم؛ وهذا اللقب يعني كلام الله الخارجي لا كلام الله الداخلي القائم بذات الله على حد قول أهل السنة.

اجتهادنا:

وعندنا أن النصوص واضحة تعني اسم شخص لا مجرّد أمرٍ إلهي.

فالله تعالى يبشر زكريا بيحيى ويصفه بأنه أول من يصدّق بعيسى أنه (( كلمة الله )) ( آل عمران 39 )؛ ويحيى ليس أول مَن آمن بكلام الله ولا أفضل مَن آمن به، بل يحيى أول من آمن بعيسى أنه (( كلمة الله )) وهو يصدق بشخصٍ اسمه (( كلمة الله )) وليس بمجرد أمر أو صفة. وجاء يحيى ليصدّق ويبشّر (( بكلمة الله )) الشخص المنتظر.

ومريم آمنت (( بكلمة ربها وكتابه )) ( تحريم 12 ) والنص هنا يوضح بأن كلمة الرب غير كتاب الرب. فهي آمنتْ بعيسى وإنجيله؛ آمنت بابنها النبي وبكتابه.

الملائكة تبشر مريم بولد وليس بأمر أو بمجرد كلام: (( إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح عيسى ابن مريم )) ( آل عمران 45 ) ليس أوضح ولا أصرح : (( فالكلمة )) المبشّر به (( اسمه المسيح )) ويؤكّده (( عيسى، ابن مريم )) : ثلاثة أسماء علم مشهورة تصف (( الكلمة )) .

ـ 393 ـ

ومن يقرأ هذه الآية بإخلاص (( إنما المسيح، عيسى، ابن مريم: رسول الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه )) ( نساء 170 ) لا يستطيع إلا الإقرار بديهيّاً أن (( الكلمة )) اسم شخص لوروده بين الاسمين (( رسول الله ... وروح الله )) ، فهو مرادف للأسماء المحيطة به ، وهو خبر ثانٍ معطوف على رسول الله وكلاهما خبران للمسيح عيسى ابن مريم؛ (( وروح منه )) خبر ثالث معطوف على (( كلمته )) يوضحه ويؤكده. فكلمته لقب بين ألقاب تعني شخص المسيح، فكيف يكون مجرد أمرٍ ؟! .

وإلى ذلك فإن لفظ (( الكلمة )) ورد في آل عمران (45) مذكراً (( بكلمة اسمه المسيح )) فالهاء في (( اسمه )) تعود إلى كائن ذكر؛ وأما قوله في النساء (( كلمتُه ألقاها إلى مريم )) فأنّثها حملاً على اللفظ ، لأن معنى التذكير صريح من الأسماء الثلاثة المحيطة به (( رسول الله وكلمته وروح منه )) .

فهذا (( الكلمة )) الملقى إلى مريم هو (( روح من الله )) فكيف يكون مجرد أمر ؟ هو ((رسول الله )) فكيف يكون مجرد كلام ؟ هو (( المسيح عيسى ابن مريم )) فكيف يكون شيئاً لا شخصاً لا جرم أن الأمر الإلهي خلاَّق ولكن ليس له صلة مولود بِرَحِمِ مريم.

(( والكلمة )) المبشّر به له اسم معروف (( اسمه المسيح عيسى ابن مريم )) ( آل عمران 45 ) ، (( والكلمة )) الملقاة إلى مريم اسم شخص له خمسة ألقاب غيرها تحيط بها وتوضحها (نساء 170 )؛ فوجودها بينها يدل على أنها مثلها اسم علم لعيسى.

(( أَلقاها )) : فالكلمة الملقاة كائنة قبل أن تلقى إلى مريم وقبل مريم : فهذا الابن الذي سيولد، موجود قبل أمه !!

(( يبشرك بكلمة منه )) مولود مريم كائن قبل مريم وهو (( منه )) أي من الله لا من العدم! بل لا يمكن أن يكون من العدم كسائر المخلوقين لأنه (( كلمة من الله )) .

ـ 394 ـ

(( منه )) تدل على صلة المصدر: قال البيضاوي (( ذو روح صدر منه )) إذن عن طريق الصدور لا عن طريق الخلق؛ وإلا فما معنى هذه التأكيدات التي خُصّ بها: (( كلمته، كلمة منه، روح منه )) إذا كان يتساوى في طريقة وأصل وجوده مع سائر الناس ؟

ورسول الله ، المسيح عيسى ابن مريم، امتاز بين الرسل بأنه (( كلمة الله وروح الله )) (نساء 170 ) ولقب روح الله يوضح أن الكلمة شخص لا مجرد كلام. وأن هذا الشخص ((الكلمة)) هو (( روح الله )) أو (( روح من الله )) على السواء. وهذان اللقبان يصفان رسول الله المسيح أفضل وأكمل وصف يميزه عن سائر الأنبياء والمرسلين، بعلاقة مصدرية أقنومية عقلية روحية إلهية.

(( فكلمة الله )) المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله وروحه، ليس هو إذن كلام الله الخارجي الذي يخلق به الله أو يأمر به أو يوحي به : بل هو كلامُ الله الداخلي الجوهري (( القائم بذات الله )) .

(( صفة قديمة قائمة بذات الله )) :

لقد حدد (( أهل السنة أَن كلمة الله صفة قديمة قائمة بذات الله )) ( الرازي ) فكلام الله الخارجي مخلوق حتماً إذ يستحيل أن يتجزأ الخالق، وهذا هو كلام الخلق والوحي. أما كلام الله الذي به يعقل ذاته وبذاته يعقل غيره، فهو غير مخلوق، هو منه وفيه ؛ فذاته تعقل ذاتها، لذلك كلام الله الذاتي صفة قديمة قائمة بذات الله . هذا ما فهمه الراسخون في العلم منهم وإِن أبوا تطبيقه على اسم المسيح (( كلمة الله )) . لذلك، فإن (( كلمة الله )) ، الاسم العلم لعيسى ابن مريم، كائن من قبل أن يُلقى إلى مريم، إنه (( صفة قديمة قائمة بذات الله )) . وهذا ما يتضح جليّاً من إنجيل يوحنا حيث ورد هذا اللقب الفخيم علماً للمسيح لأول مرة:

قال في وصف جوهره: (( في البدءِ كان الكلمة

و الكلمة كان لدى الله

و كان الكلمة الله ؛ ))

ـ 395 ـ

وقال يصف عمله: (( كان ذاك منذ البدء لدى الله.

به كُوّن كل شيءٍ: وبدونه لم يكن شيء واحد مما كوّن.

فيه كانت الحياة ...

أما النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان، كان آتياً إلى العالم ...

وقال يصف اتصاله بخلقه، بواسطة تجسده من مريم بمعجزة إلهية:

(( والكلمة صار جسداً وسكن في ما بيننا.

وقد شاهدنا مجده، مجداً من الأب لابنه الوحيد، الممتلئ نعمة وحقاً

فإن الناموس قد أُعطي بموسى؛ وأما النعمة والحقيقة فبيسوع المسيح

قد حصلا. ))

وختم يصف مصدر معرفة هذه الأسرار الإلهية: سر وجود الكلمة الإلهي، وعمله في الخلق، وإلقاءه إلى مريم فيتجسّد :

(( الله لم يره أحد قط:

الإله، الابن الوحيد، الذي في حضن الآب هو نفسه قد أخبر )) . ( يوحنا 1 : ـ 18 ).

ويبرهن الإنجيل كله، من أعمال وأقوال عيسى ابن مريم، أن عيسى هو المسيح الكلمة الأزلي الذي ألقاه الله إلى مريم آيةً للناس ورحمةً منه تعالى. والقرآن يشهد ضمناً بذلك بأخذ لقب (( الكلمة )) عن الإنجيل واسناده إلى المسيح عيسى ابن مريم، وإن هو نفى ظاهرياً ألوهية المسيح (( كلمة الله )) ، فإنما ينكر لاهوتاً غريباً عن ذات الله الواحدة، ولا يقصد إلى إنكار لاهوت (( كلمة الله )) (( القائمة بذات الله )) ، والتي بها الذات الإلهية تعقل ذاتها: (( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين )) ( زخرف 81 ) ! إن في هذه الآية لمفتاح النور الذي يكشف التعارض القائم بين موقف القرآن الظاهري من نفي إلوهية المسيح وموقفه الحقيقي الناتج من النصوص التي بها يسمّي عيسى ابن مريم (( كلمة الله )) كاسم علم يوضح سرّ شخصيته. وهكذا يشهد القرآن للإنجيل ويصدّقه.

ـ 396 ـ

رد تفسيرهم:

ذاك هو (( القول الحق )) الذي فيه يمترون. قال الأستاذان مصطفى خالدي وعمر فروخ1 في الرد على تفسيرنا (( النصراني )) الذي به نفهم نصوص القرآن عن اسم المسيح (( كلمة الله )) : (( وفي بعض الأحيان يختار المبشرون موضوعات إسلامية لها مقابل في النصرانية ثم يموّهون الحقائق ويقفزون فوق الفروق. إن القرآن الكريم يسمي المسيح (( كلمة الله )) . ومعنى ذلك أن الله تعالى ألقى كلمته أي أمره ( ! ) بان يولد المسيح على ذلك الوجه المعجز في التاريخ. ولكن المبشرين يأخذون (( كلمة الله )) ليفسّروها التفسير النصراني. ووجه الخلاف أن كل شيء في هذا العالم، كما يرى المسلمون، كان بأمر الله (( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون )) ( يس 82 )؛ أما النصارى فيعتقدون أن التعبير (( كلمة الله )) تعبير خاص بالنصرانية يجب أن يُفهم على أن المقصود به عيسى ابن مريم وحده، وأنه دال على الإلوهية في المسيح. وللمبشرين أن يفهموا ذلك كما يريدون؛ ولكن ليس لهم أن يقولوا على الإسلام ما لا يعلمون. إن كل موجود وكل حادث في العالم أمر يُلقى من الله (( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون )) . وفي القرآن آيات كريمات تجعل عيسى كآدم مثلاً، وتجعل آدم يتلقى من ربه (( كلمات )) لا كلمة واحدة2 : (( ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون )) ( آل عمران 59 ) (( فتلقى آدم من ربه كلمات، فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم )) ( بقرة 37 ).

لقد وضعنا أمام القارئ المنصف، مسلماً كان أم مسيحياً، عناصر القضية

ـــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب التبشير والاستعمار ، بيروت 1953.

(2) في هذا الاستدلال التمويه الحقيقي الذي يقفز بين الفروق في الاسم العلم (( كلمة الله )) وفي (( كلمات الوحي )) التي نزلت على آدم وسائر النبيين دون أن تنفذ : (( قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مداداً )) ( كهف 110 ).

ـ 397 ـ

كلها ليرى هل نحن في التفسير النصراني (( لكلمة الله )) الذي يسمّي به القرآن عيسى ابن مريم، نُموّه الحقائق ونقفز فوق الفروق، ونقول على الإسلام ما لا نعلم إرضاءً لشهوة التبشير. بل هو قول الحق، حسب الدرس العلمي النزيه. فنصوص القرآن الكريم عن (( كلمة الله )) عيسى ابن مريم أقرب في مبناها ومعناها إلى انسجام حقيقي خفي بين الإنجيل والقرآن منها إلى تعارض ظاهر يتعلق به الذين لا يعلمون (( وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )) ؟ قل: (( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) .

 

3 عيسى ابن مريم هو روح الله

 

(( إنما المسيح عيسى ابن مريم ...

روح منه )) ( نساء 170 )

(( الروح )) في القرآن:

يأخذ القرآن (( الروح )) بمعاني عديدة مختلفة:

فمرات يظهر أن الروح ملاك: (( تنزَّل الملائكة والروح فيها ( ليلة القدر ) بإذن ربهم )) (قدر 4 ) ثم (( يوم يقوم الملائكة والروح صفّاً )) ( نبأ 138 ) ثم (( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )) ( معارج 4 ).

ومرات يظهر أن الروح سيد الملائكة: (( ينزّل الملائكة بالروح من أمره على مَن يشاء )) ( نحل 2 ).

ومرات يجعل الروح من نصيب كل الأنبياء: (( يلقي الروحَ من أمره على مَن يشاء من عباده لينذر يوم التلاق )) ( غافر 15 ) ومرات يجعل الروح وحياً: (( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا: ما كنتَ تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به مَن نشاء من عبادنا )) ( شورى 52 ): فتارة الروح وحي، وتارة الروح واسطة الوحي.

ـ 398 ـ

بل يجعل الروح من نصيب كل المؤمنين يؤيدهم في إيمانهم: (( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه )) ( مجادلة 52 ): فهل الروح هنا ملاك أم قـوة من الله أم عون معنوي ؟...

والروح، والروح الأمين، وروح القدس هو جبريل أوحى إلى محمد: (( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا )) ( شورى 52 ) (( نزل به الروح الأمين على قلبك )) ( شعراء 193 ) (( قل نزَّله روح القدس من ربك بالحق )) ( نحل 102 ) (( قل من كان عدوّاً لجبريل فإنه نزَّله على قلبك)) ( بقرة 97 ). وبما أن القرآن يسمّي الروح الذي يوحي إلى محمد، أي جبريل، فلا سبيل بعد إلى تأويل الروح الأمين أو روح القدس المذكور هنا بغيره ، ولا إلى خَلْط (( روح القدس )) الموحي إلى محمد (( بروح القدس )) الذي أيّد المسيح.

فالروح الذي أيّد المسيح يتصف بالقدس اختصاصاً، وامتيازاً له عن غيره: (( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم وأيّدناه بروح القدس )) ( بقرة 87 و 253 ). بهذا الروح القدس امتازت شخصية المسيح ورسالته بالخوارق الخارقة: (( يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك بروح القدس ... فيعمل معجزات على الأرض ومعجزات من السماء كإنزال المائدة )) (مائدة 113 ـ 119 ).

وروح القدس هذا يتميّز عن الروح الذي بشر مريم بعيسى: (( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويّاً )) ( مريم 16 ) فهذا الروح ملاك من ملائكة البشارة: (( إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح )) ( آل عمران 45 ).

وروح البشارة يتميز عن الروح الملقى أو المنفوخ في مريم: (( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا )) ( أنبياء 91 ) (( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا )) ( تحريم 12 ). في هذين النصين قد يكون الروح نافخاً أو منفوخاً؛ فعلى معنى الفاعل ((من روحنا )) يعني الملاك النافخ وعلى معنى المفعول (( من روحنا )) يعني الروح المنفوخ في مريم أو في فرجها أي

ـ 399 ـ

روح عيسى الذي كونه في رحم أمه مريم. وهذا الروح الذي كونه هو روح من الله ألقاه إلى مريم: (( إنما المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله وكلمته ـ ألقاها إلى مريم ـ وروح منه )) (نساء 170 ).

وهكذا فالروح في القرآن إما شيء وإما شخص؛ و (( الشخص الروح )) ملاك من الملائكة كجبريل الذي يوحي إلى محمد، أو كالملاك الذي يبشر زكريا أو مريم أو ملاك آخر؛ ((والروح ـ الشخص )) الذي يؤيد المسيح في رسالته غير الروح الذي منه تكوَّن عيسى في رحم مريم1 .

فالمسيح (( روح الله أو روح من الله )) غير روح القدس الذي أيّده.

والقرآن بإسناده هذا اللقب (( روح منه )) ( نساء 170 ) إلى المسيح يعطي عيسى ابن مريم اسماً يفوق كل اسم، به تُعرف شخصيتُه ويحدّد معنى اللقب السابق (( كلمته ألقاها إلى مريم)) ( نساء 170 ) .

(( الروح )) عند المفسرين:

فما معنى قوله (( عيسى ابن مريم روح منه تعالى )) في الآية الشهيرة ؟

قالوا معناه ما ورد عن آدم (( فإذا سوّيتُه ونفختُ فيه من روحي فققَعوا له ساجدين )) (حجر 19 )، (( ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه )) ( سجدة 9 )؛ وعن مريم (( فنفخنا فيها من روحنا )) ( أنبياء 91 )، (( فنفخنا فيه من روحنا )) ( تحريم 12 ) بدليل المبدإِ العام (( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له : كن فيكون )) ( آل عمران 59 ). فكما نفخ الروح في آدم نفخ أيضاً في مريم !

ـــــــــــــــــــــــ

(1) إزاء هذه الاحتمالات العديدة المختلفة اضطرب المسلمون وسألوا النبي عن الروح فقال: (( يسألونك عن الروح ؟ قل الـروح من أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )) ! ( إسراء 85 ) أي لا أدري. فقال أحـدهم : (( مضى محمد ولم يدرِ ما الروح ! ))

ـ 400 ـ

وفاتهم الفرق العظيم والبون الشاسع بين التعبيرين: فعن آدم ومريم فالروح نافخ فيهما، أما عن المسيح فهو روح منفوخ، ملقى إلى مريم.

في الأول الروح وآدم أو مريم متميزان، أما في الثاني (( فروح منه )) والمسيح شخص واحد على حدّ التحديد: (( إنما المسيح ... روح منه )) : فروح منه خبر ثالث من المبتدإِ أي المسيح.

وهب أن قوله (( من روحي )) ( حجر 29، سجدة 9 وغيرها ) تُحمَل على المفعول فتعني الروح المنفوخ في آدم أو المنفوخ في مريم فهذا يعني مشاكلة الصدور، ولا يعني قطعاً مشابهة الروح الصادر من الله .

على أن بين التعبيرين فرقاً ظاهراً (( فنفخنا فيه ( في آدم وفي فرجها ) من روحنا )) ثم ((روح منه )) : ففي الأول يكون آدم والمسيح مـن روح الله ؛ وفي الثاني يكون المسيح (( روح الله )) .

فكما أن المسيح هو كلمةُ الله ، فهو أيضاً روح الله ؛ والقرآن يجمع بين التعبيرين في شأن المسيح فهو روح الله الذي ألقاه إلى مريم بنفخة من روحه .

ففي قوله (( من روحه )) يعبّر عن صدوره من الله ؛ وفي قوله (( روح منه )) يعبّر عمّا هو في ذاته.

فلفظ (( روح منه )) تعريف بالمسيح وبشخصه يدل على مصدره الذي هو الله . فهل الروح المكونة للمسيح والتي صارت المسيح في مريم هي منسوبة إلى الله نسبة خلق أم نسبة مصدر ؟ نقول: إنها نسبة مصدر لأنها تفسير للّقب السابق (( كلمتُه وروح منه )) . ولنلاحظ أن القرآن يعطف (( روحاً منه )) على قوله (( كلمته )) : فالاسمان يفسر أحدهما الآخر: فالمسيح هو كلمة الله وروح الله )) : كلمةُ الله من حيث الأقنوم، وروح الله من حيث الطبيعة.

وبما أَن (( روحاً منه )) خبر من المسيح في الآية 170 المذكورة فلا يجوز أن نموّه فيه بكل أنواع التعابير التي وردت في القرآن عن الروح إذ يتغير معنى (( الروح )) من آية إلى آية ، كما رأيت؛ ويدل على المعنى المقصود النص المحيط به

ـ 401 ـ

والقرائن اللفظية والمعنوية الداخلة عليه. ففي تحديد المسيح، في سورة النساء، تعبير مستقل عمـَّا سواه : يظهر منه جليّأً أن المسيح روح الله ، قد صدر منه، صدور الفكر من العاقل، صدور كلمة الله من الله .

فروح الله اسم آخر للمسيح غير كلمة الله ، وهو معطوف عليه لتفسيره ، وكلاهما معطوفان على (( رسول الله )) لبيان شخصية هذا الرسول الفريدة : فالألقاب الثلاثة تتساند، ويوضح بعضها بعضاً، ويفسر بعضها بعضاً ويكمل بعضها بعضاً: (( إنما المسيح عيسى ابن مريم: رسولُ الله وكلمته وروح منه )) .

وفي تفاسيرهم لهذا اللقب الفريد حيرة وتعظيم: يشعرون إنه يعني صلة خاصة بالله ، ولكن لا يجرؤون على إعلانها:

قال الجلالان : روح، أي ذو روح ( منه ) أُضيف إليه تعالى تشريفاً له وليس كما زعمتم ابن إله أو إلهاً معه أو ثالث ثلاثة: لأن ذا الروح مركب والإله منزه عن التركيب ونسبة التركيب إليه )) . ـ تفسير مغرض يضعف قوَّة النص: المسيح روح الله لا ذو روح من الله فقط ! ثم أين الإشارة في النص إلى فلسفة التركيب التي يذكر ؟!

وقال الزمخشري: (( قيل له روح الله أو روح منه تعالى لأنه ذو روح وجسد من غير جزءٍ من ذي روح كالنطفة المنفصلة عن الأب الحيّ؛ وإنما اختُرع اختراعاً من عند الله وقدرته الخالصة )) . ـ أفلا ينفرد المسيح عن البشرية جمعاء بهذا الاختراع الفريد ؟ ألا يدل هذا الاختراع الفريد على شخص وحيد، له علاقة فريدة بالله ؟

وقال البيضاوي (( وروح منه: ذو روح صدر منه تعالى، لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له. وقيل سمّي روحاً لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب )) . ـ فالروح الذي يحيي الأموات أو القلوب إحياءً حقيقياً ومعنوياً، وينفرد بعمل يدل عليه اسمه الفريد، ألا يصدر عن الله صدوراً خاصاً لائقاً به ؟ ألا يكون له صلة خاصة بالله دون سائر المخلوقين الذين ليسوا ( روح الله )) ؟

ـ 402 ـ

وقال الرازي مستجمعاً أنواع تفاسيرهم لهذا اللقب العظيم: (( أما قوله روح منه ففيه وجوه: 1ً إنه جرت عادة الناس إنهم إذا وصفوا شيئاً بغاية الطهارة والنظافة قالوا إِنه روح: فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الآب وإنما تكوّن من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح. والمراد من قوله (( منه )) التشريف والتفضيل؛ ـ 2ً إنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم. ومن كان كذلك وصف بأنه روح؛ ـ 3ً روح منه أي رحمة منه: فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحاً منه؛ ـ 4ً إن الروح هو النفخ في كلام العرب فإن الروح والريح متقاربان، فالروح عبارة عن نفخة جبريل، وقوله منه يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه، وهذا كقوله فنفخنا فيها من روحنا؛ ـ 5ً قوله روح، أدخل التنكير ليفيد التعظيم. فكان المعنى: روح من الأرواح الشريفة العالية القدسية. وقوله منه إضـافة لذلك الروح إلى نفسه تعالى لأجل التشريف والتعظيم)) .

ومن هذه الوجوه كلها تتضح شخصية المسيح الفريدة التي لا يدانيها نبي أو رسول، ويرفع المسيح فوق المخلوقين إلى صلة خاصة بالله. فهو روح من الأرواح الشريفة العالية القدسية، ولم يرد عن بشر أنه منها ولو كان خاتم النبيين؛ وقول الرازي هذا أو مَن نقل عنه يفترض أنَّ روحاً علوية أي أحد الملائكة المقربين قد تجسّد وظهر في شخص المسيح؛ ومن يقول لذلك فالأجدر به أن يقول مقالة الإنجيل (( إن كلمة الله تجسد وصار إنساناً )) .

وهو روح من نفخة جبريل: إذا قصدوا جبريل كمصدر للمسيح فهذا قول هراء فليس جبريل بخالق ولا عنده نفخة خلاقة ! وإذا قصدوا أنه الواسطة المعجزة فما أتوا بتفسير لشيء إذ أنه روح الله بمعزل عن جبريل. وعلى كل حال فشرف الواسطة يدل على شرف الغاية.

أما قوله سمي روحاً لأنه كان رحمة من الله على الخلق: ليس هذا من باب التفسير بل من باب المقارنة التي لا تفي ومع ذلك ففيه إقرار بفضل المسيح

ـ 403 ـ

على الخلق كلهم: ولم يرد مثل هذا الفضل لأحد من البشر كما ينسب القرآن والمفسرون إلى المسيح.

أما قوله سمي روحاً لغاية طهارته في مولده فمن باب الاستدلال لا من باب التفسير، وإن كان فيه إقرار بسمو تكوين المسيح الذي انفرد به.

وقد قارب المفسرون من فخامة الاسم وعظمته وجلاله بقولهم: سمي روحاً لأنه كان سبباً لحياة الخلق ( الرازي )، لأنه كان يحيي الأموات والقلوب ( البيضاوي ) فجعلوه سبب الحياة الطبيعية والروحية والمعنوية؛ وما ذلك إلا صدى لقول المسيح في الإنجيل (( أنا الطريق والحقيقة والحياة )) ( يوحنا 10 : 25 ): فهو روح الله الحي المحيي.

وقد دلوا على معنى (( منه )) في التحديد المذكور بقولهم: (( ذو روح صدر منه )) (البيضاوي ) أي ذو روح منه تعالى ( الجلالان ) فالتعبير يحتمل معنى المصدر الإلهي للمسيح، إذ من أين يصدر (( روح الله )) إلا من الله ؟؟ فالروح الذي يصدر من الله كيف يتميز عنه؛ وبما أنه ليس في الله انقسام ولا تجزؤ، أليس هو والله واحداً كذات الله ونورها ؟ وهذا أيضاً صدى لتعليم الإنجيل: (( قد خرجتُ من الآب وأتيت إلى العالم ... بهذا نؤمن أنك من الله خرجت )) ( يو 16 : 28 و 30 ). أَليس هذا هو المعنى الكامل الذي قصده القرآن في تعريفه المسيح: إنه كلمة الله وروحه ؟ إنه لا ينطبق على مجموع الألقاب في الآية 170 الا هذا المعنى: المسيح روح صدر من الله ككلمته ونطقه الجوهري؛ وكلمة الله ليست مجرد كلام خارج عن الله بل هو كلامه الداخلي كروحه.

وهكذا يلتقي القرآن والإنجيل في تعريف المسيح: (( في البدء كان الكلمة والكلمة كان لدى الله ، وكان الكلمة الله ... فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس )) أي (( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) : والحياة والروح بمعنى واحد؛ وبمقارنة التحديدين ينجلى معناهما

ـ 404 ـ

العميق. إذا لم يكن التعبير واضحاً كل الوضوح في القرآن فلنستوضحْه من الإنجيل لأن القرآن أخذ عنه وهو يحيلنا إلى الكتاب وأهله في حالة الشك والريب ( نحل 43، شعراء 193 )، بل يأمر محمداً نفسه أن يستوثق من إيمانه لدى الذين يقرؤون الكتاب من قبله ( يونس 94 ).

خاتمة بحث:

تلك هي الألقاب الإلهية الثلاثة التي بها يُعرف القرآن المسيح في آية النساء 170.

أجل المسيح هو عيسى، ابن مريم، عبد الله ونبيّه ورسوله .

ولكن فوق ذلك هو مسيح الله وكلمة الله وروح الله .

ألقاب وأسماء يكمّل بعضها بعضاً ويدعم بعضها بعضاً ويفسّر بعضها بعضاً في هذا التعريف الغني بالمعاني. وهذه الألقاب الثلاثة لا تدل على صلة الخلْق بين الله وعيسى، بل تستوعب صلة شخصية عقلية روحية بجوهر الله . فمهما قللّوا من دلالتها العميقة فهي تحتمل وتحمل معنى إلهياً بحد ذاتها كما يرشح من تفاسيرهم . نحن لا نستجلب المعاني، ولا نفترضها بهذه الأسماء الوحيدة التي انفرد بها المسيح دون العالمين، بل نظهر ما تستوعبه على نور الإنجيل الذي نزل من قبل هدى ونوراً. (( وكفى بالله شهيداً ومَن عنده عِلْم الكتاب )) ( رعد 45 ).

إنه مسيح الله : مسحه الله (( بقوة الروح القدس )) ( لوقا 1 : 35 ) أي (( ِأيده بروح القدس)) ( بقرة 87 ، 253 ومائدة 113 ) .

إنه (( كلمة الله التي ألقاها في الزمن إلى مريم ( نساء 170 ) لأن الكلمة الذي كان منذ البدءِ لـدى الله صار جسداً وسكن في ما بيننا )) ( يو 1 : 2 ، 14 ).

إنه (( روح الله )) الصادر (( منه )) ( نساء 170 ) ، فهو شبيه به لأن المصدر

ـ 405 ـ

والصادر واحد في الله ، هو منه وفيه ، لأن الله لا يتجزّأ. وروح الله هو (( ضياءُ مجده وصورة جوهره )) ( عبر: 31 ) .

نعلم جيداً أن القرآن ينكر كل تعدد أو تجزّؤ في اللاهوت، ويستنكر كل بنوة من خارج الله، وكل شرك وغلو في الدين. ونحن نؤيده ونؤمن بقوله. لكنه لا يذكر شيئاً عن حياة (( الحي القيوم )) في وحدة ذاته، عن حياته العاقلةِ ذاتها، وعن حياته المحِبّة ذاتها. فجاءَت هذه الألقاب الإلهية تلقي ضوءاً عمّا انحجب عنا.

ومهما يكن من فهمها الصحيح، فهذه الصفات والنعوت والألقاب والأسماء التي اختص بها القرآن المسيح دون سواه من الأنبياء والمرسلين ، والملائكة المقربين ، تجعل المسيح في صلة شخصية وحيدة، عقلية وروحية وخاصة مع الله . ومهما قالوا في تفسيرها فهي ترفع المسيح فوق العالمين، من صفة المخلوقين، إلى هالة اللاهوت.

بهذه الألقاب النبوية، والألقاب الإلهية، جعل القرآن عيسى ابن مريم مسيح الله وكلمة وروح الله ( نساء 170 ) واذن آيةً في شخصه: (( وجعلنا ابن مريم ـ وأمه ـ آية )) ( مؤمنون 71 ).

 

 

ملحق : هل من تثليث في القرآن ؟

لا جرم أن القرآن ينتفض عند هذا السؤال، ويجيب: (( قلْ هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلدْ ولم يولدْ ، ولم يكن له كفوءاً أحد ! )) .

بيد أن القرآن الكريم ينفي (( الاثنين )) ( نحل 51 )، وينفي (( الثلاثة )) ( نساء 170 ) التي تتعارض مع وحدة الله ، مع وحدة الذات الإلهية ، مع وحدة

ـ 406 ـ

الجوهر الإلهي الفرد؛ ولا يفكر البتّة في حياة (( الحيّ القيّوم )) الداخلية وتفاعلها وتسلسلها. إنما هناك آية تدل على أنه إذا كان الجوهر الإلهي الواحد بنوّة لا تناقضه، فهو يقبل بها: (( قل ، إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين )) ( زخرف 81 ).

وبناء عليه فهل يرفض القرآن إلهية الكلمة وإلهية الروح إذا كانت ضمن لاهوت الجوهر الإلهي الواحد ؟ هل تُراه يرفضها إذا كان الكلمة الأزلي عبارةً عن الفكر الجوهري، ثمرة القوَّة العاقلة في الذات الإلهية الواحدة ؟ ... لا نظن. فإن لقب (( الكلمة )) في القرآن يحمل معنىً إلهياً، لأن (( الكلمة )) الملقى إلى مريم هو شخص له اسمه الخاصّ وكائن قبل إلقائه إليها، وهذا الكلمة هو روح منه تعالى، وروح الله ، يصدر منه ويبقى معه في كامل الوحدة الجوهرية ( نساء 170).

ولقب (( الروح )) الغامض بسبب تنوّع مدلوله، إذ يضيفه القرآن إلى المخلوق كما يضيفه إلى الخالق، يتّضح ويتحدّد مفهومه بإسناده القدرة الخالقة إليه: (( فإذا سوّيتُه ونفختُ فيه من روحي فقَعُوا له ساجدين )) ( حجر 29 ) (( ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه )) ( سجدة 6 ) وهكذا خلق الله آدم بنفخة من هذا الروح الخلاَّق، كما كوّن (( المسيح كلمة الله وروحه )) في رحم مريم بنفخة أيضاً من هذا الروح الخلاَّق بنفْخته ليس ملاكاً، وليس الروح المنفوخ الحاصل من الفعل بل هو روح مستقلّ بذاته، يتمتّع بالقدرة على الخلق، وهو الواسطة التي بها يخلق الله ويكوّن، وبها كوَّن المسيح في مريم (( روحاً من الله )) : ففي تكوين عيسى في مريم يظهر ثلاثة أرواح: روح مبشّر هو الملاك، والروح النافخ، وروح الله الملقى إلى مريم بالنفخة المكوِّنة. وقد جمعها الإنجيل وميّزها بقوله: (( فأجاب الملاك ( الروح المبشّر ) ، وقال لمريم: الروح القدس يأتي عليك ( يقابل الروح النافخ ) وقدرة العليّ تظلـّلك ، ومن أجل ذلك فالقدوس

ـ 407 ـ

الذي يولد منك ( يقابل الروح الملقى ) يُدعى ابن الله )) ( لوقا 1 : 35 ): فروح القدس مستقلٌّ عن الملاك، وعن روح عيسى المتأنس في مريم. وهكذا فالروح في القرآن والإنجيل يحمل معنىً إلهياً. ومن ثمّ ففي القرآن تثليث يتألف من الله والكلمة والروح أو روح القدس؛ ونكون من الكافرين إذا جعلنا هذا التثليث خارجاً عن التوحيد، ونكون في الصراط المستقيم إذا كان تفسيراً لحياة (( الحيّ القيوم )) متفاعلة متسلسلة ، لا إله إلا هو.

 

ـ 408 ـ

شخصية المسيح في القرآن

 

إنـه وحــدَهُ (( آيــة للعالمين ))

( مريم 20، أنبياء 91، مؤمنون 51 )

 

لنستجمع الآن الخطوط التي تتكون منها شخصية المسيح في القرآن الكريم كما رسمها لنا. لقد أوجزها بلفظة واحدة: إنه (( آية للعالمين )) .

أعز الأشخاص على النبي العربي هم: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد نفسه. ولا يخط القرآن لواحد منهم صورة تداني الصورة التي يرسمها لعيسى ابن مريم، مسيح الله وكلمة الله وروح الله . فإن أجمل وصف وأكمل تعريف حلاَّه القرآن بالنعوت الغنيّة والألقاب السامية هو خبر عيسى ابن مريم؛ وإن أسمى شخصية فيه تستلفت العقول وتستهوي القلوب هي شخصية المسيح في القرآن؛ إنها مجموع ميزات خارقة انفردت بها شخصيتُه على العالمين.

ظهوره المعجز

عيسى ابن مريم منذ مولده شخص فوق البشرية ، شخص عجيب غريب فريد وحيد.

جميع الأنبياء، حتى محمد بن عبد الله (( خاتم النبيين )) ، ولدوا بحسب ناموس الطبيعة البشرية. أما المسيح فوحده وُلِدَ من أمّ بتول لم يمسسها بشر ( مريم 20، آل عمران 45، نساء 156، أنبياء 91، مؤمنون 51 )؛ ملاك متقدم على الملائكة المقرّبين يبشر به أمه؛ وروح القدس يظلـّل مريم وينفخ فيها فتحمل وتلد وهي عذراء؛ وهذه المعجزة الوحيدة في تاريخ البشرية ترفع

ـ 409 ـ

المسيح منذ مولده على كل البشر والأنبياء والمرسلين لأنها دليل خاص فائق على أن الله اصطفاه على العالمين كما اصطفى أمه على نساء العالمين (( وجعلنا ابن مريم وأمه آيةً )) ( مؤمنون 51).

 

طهارته المعجزة :

تخطّى الله من أجل المسيح ليس سنّة الطبيعة فحسب بل سنّة النعمة أيضاً.

فقد حفظه الله كما حفظ أمه من مسّ الشيطان ومن أَذاه لكل مولود، حين ميلادهما: (( إني أعيذها بكَ وذريتها من الشيطان الرجيم )) ( آل عمران 36 )؛ وأي مسٍّ للشيطان وأي أذى يلحق منه بالمولود سوى الخطيئة التي يولد بها أبناء آدم ؟ حدَّث أبو هريرة عن النبي العربي قال: ((سمعتُ رسول الله يقول: ما من مولود من بني آدم يولد إلا نخسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من نخسه إياه إلا مريم وابنها )) . وقد أخرج الصحيحان هذا الحديث بقولهما: (( كل ابن آدم يطعنه الشيطان في جنبه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب ليطعن فطعن في الحجاب )) . لقد عبّروا عن خطيئة الجنس البشري، الموروثة بالتناسل، بطعنة الشيطان للمولود ومسّه ونخسه. وقد صوَّر القرآن حالة النفس الطبيعية الناتجة عن مسِّ الشيطان بقوله: (( وإن النفس لأمَّارة بالسوء )) . فعصم القرآن والحديث المسيح وأمّه من هذه الوصمة الأصلية. ونجد في ميلاد المسيح من بتول لم يمسسها بشر دليلاً وتفسيراً لعصمة المسيح من الخطيئة، ونجد في الخوارق التي اكتنفت الولادة المعجزة والطهارة المعجزة بياناً لهما وبرهاناً.

وكما عصم الله المسيح من الخطيئة الأصلية التي يولد بها كل الناس حتى الأنبياء عصمه أيضاً من الخطايا الفعلية التي يصيبها سائر بني آدم، حتى الأولياء والصالحين والمرسلين، طيلة حياتهم. روي عن قتادة: (( وذكروا لنا أنهما كانا ( المسيح وأمه ) لا يصيبان من الذنوب كما يصيب سائر بني آدم )) . ورأى المفسّرون في

ـ 410 ـ

اسم المسيح إشارة إلى أنه مُسح بما طهّره من الذنوب مبدئياً ( البيضاوي ) ودليلاً على أنه مسح من الأوزار والآثام فلم يكن لها عليه من سبيل ( الرازي ). فقد (( مُسح بالبركة )) وظل (( مباركاً أين ما كان )) ( مريم 30). وقد نسب القرآن الإثم والخطيئة إلى كل الناس وكل الأنبياء، وواحد أحدٌ في العالمين يقول عنه القرآن والحديث والتفسير إنه كان ـ وأمه ـ معصوماً من الخطيئة. نجد في انتصار المسيح في آخرته على سلطان الموت تفسيراً كاملاً لانتصاره في حياته على سلطان الخطيئة.

 

الحداثة الخارقة:

وتتوالى الخوارق الإلهية في طفولة المسيح وحداثته.

قال الجلالان: كان الحَمْل بالمسيح والتصوير والولادة في ساعة. وقال الزمخشري: حملته في ساعة وصُوّر في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها. وقالوا غير ذلك. وعن ابن عباس: كانت مدة الحَمل ساعة واحدة وكما حملته نبذته: حملت بمعجزة وولدت بمعجزة؛ فأمه هي الأم البتول وحدها بين النساء.

وأَطعم الله الوالدة من نخلة يابسة في الشتاء، وسقاها من (( سريٍّ )) ناشف: (( لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان للناس أنهما من أَهل العصمة )) ( الزمخشري ).

والوليد يتكلم للحال منذ مولده : نُطقه معجزة، وكلامه نبوّة، وكلاهما ميزة فريدة ((فأشارت إليه. قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً ؟ ـ قال: إني عبد الله ... )) ( مريم 26 )، قال الرازي: (( هي خاصة شريفة كانت حاصلة لـه ، ولا حصلت لأحـد من الأنبياء قبله ولا بعده )) .

لقد استنبأه الله طفلاً : (( يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك

ـ 411 ـ

إذ أيدتك بروح القدس: تُكلّم الناس في المهد وكهلاً )) ( مائدة 113 ): إن إبراهيم وموسى ومحمداً وسائر الأنبياء صاروا أنبياء بعدما تخطوا الكهولة أما المسيح فوحده وُلِدَ نبيّاً ، واستنبأه الله طفلاً. قال الشهرستاني (( جميع الأنبياء بلاغ وحيهم أربعون سنة، وهو قد أُوحي إليه انطاقاً في المهد، وأُوحي إليه إبلاغاً عند الثلاثين )) (171).

منذ مولده تعلّم من الله مباشرة (( الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل )) ( آل عمران 48 ) فيما يتخذ الله بينه وبين أنبيائه الملائكة واسطة يوحي بهم إلى عبيده : (( يُنزّل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده لينذروا يوم التلاق )) ( نحل 2، غافر 15، شورى 52 )؛ واتخذ جبريل واسطة لوحي محمد: (( قل من كان عدوّاً لجبريل ؟ فإنه نزله على قلبك بإذن الله )) ( بقرة 97 ). قال الشهرستاني (( نفس وجوده وفطرته آية كاملة على صدقه ، ونطقه من غير تعليم سالف )) (171)؛ فلا غرو أن ينفرد بالوحي منذ مولده بين العالمين: فهو (( كلمة الله )) فلا حاجة له إلى من ينقل إليه كلام الله وهو (( روح الله )) فلا حاجة له إلى من يُسرّ إليه اسرار الله .

وكانت إِعالته مع أمه على رابية غنّاء معجزة أخرى: (( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ، وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين )) ( مؤمنون 51).

ولا يذكر القرآن لمحمد أو لغيره من الأنبياء معجزة في حداثته فيما يذكر للمسيح معجزة الخلق: (( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني )) ( مائدة 113، آل عمران 49 ) : يسوع يتسلى بخلق الطيور في حداثته ! إِنها لبداية ملأى بالخوارق والمعجزات.

 

معجزة العفة

حسب القرآن الكريم قضى المسيح حياته كلها في البتولية، في عفة لا يدانيه فيها نبي من كلّ من يذكر. فلا ينسب إلى عيسى ابن مريم أدنى علاقة بالزواج والنساء؛ فيما يتكلم عن أعمال الأنبياء وخطاياهم وأخطائهم، وعن

ـ 412 ـ

أزواجهم ومشاكلهنَّ ( رعد 40 )، ويتطرّف إلى كلام عن النبي العربي، وعن أزواجه يحتاج إلى شرح كثير حتى نستسيغه؛ المسيح وحده ارتفع فوق حاجة الرجل إلى حواء ، فعاش بتولاً و رُفع بتولاً : وفي هذا ما فيه من الكمال الذي انفرد به. وليس ذلك من نوع التقصير الجنسي كما يغمز الأستاذ العقاد حيث قال : (( قال لنا بعض المستشرقين: إن تسع زوجات لدليل على فرط الميول الجنسية. قلنا: إنك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية لأنه لم يتزوج قط . فلا ينبغي أن تصف محمداً بأنه مفرط الجنسية لأنه جمع بين تسع نساء ))1 ولكن هذا دليل على أنه خضع لعازة الرجل إلى المرأة حسب القول المأثور2 : (( المرأة شرّ كلها وشرّ ما فيها إنها لا بد منها )) ، فيما سما المسيح فوق هذه العازة البشرية سموّاً كاملاً لا يدانيه فيه أحد.

 

معجزة القداسة

وشهد القرآن أيضاً للمسيح بالقداسة الكاملة التي لا يرسم عنها مثيلاً للمثله: وُلد (( غلاماً زكيّاً )) ( مريم 18 ) وعاش قديساً (( وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً )) ( مريم 31 ) . لم يكن له في العالم من صلة سوى أمه فكان (( بَرّاً بوالدته )) ( مريم 32 ). عاش بعيداً عن كل ما يمت إلى السلطان والطغيان والسيف بصلة (( ولم يجعلني جبَّاراً شقيَّاً )) ( مريم 32 ): بُعث رحمة للعالمين فكيف يكون غير الرحمة ( مريم 21 ). لقد عاش كرجل الله بكل ما في هذه الكلمة من معنى، فلا يفطن إلا لما لله . فقد يهمل أمور الحياة والزواج والرزق والتسلية ، قد يترك أمور جسده ودنياه حتى لا يفكر إلا بمناجاة الحق ودعوى الناس إلى الإيمان بالله وحبّه. لم يبنِ مثل غيره منازل لأزواجه قرب المسجد، ليختلف كل ليلة إلى واحدة منهنَّ بعد صلاة العشاء3 ، بل كان يقضي ليلته في

ـــــــــــــــــــــــ

(1) عبقرية محمد للأستاذ عباس محمود العقاد ص 178.

(2) عن علي بن أبي طالب.

(3) حسين هيكل : حياة محمد ص 413.

ـ 413 ـ

الصلاة إلى الله ( لوقا 6 : 13 ، يوحنا 6 : 13 )؛ لم يكن ليغزُوَ ولا ليُقـْرِع بين نسائه، فأيّهن خرج سهمها خرج بها معه1 كأنه لا يقدر أن يستغني عن المرأة حتى في معامع الحروب؛ بل كان يقول لتلاميذه: إن طعامي أن أعمل مشيئة من أَرسلني واتمّم عمله ( يوحنا 4 : 34 ). لم يكن بحاجة في أول أمره إلى أن (( يشرح الله له صدره ليضع عنه وزره الذي انقض ظهره )) ( الشرح 1 و 2 )، ولا في آخر عهده أن (( يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر )) ( فتح 2 )؛ فهذه القداسة السامية التي يفترضها القرآن في المسيح لهي أكبر نعمة وأعظم ميزة يقدر الله أن يتحف بها مخلوقاً. إن عيسى ابن مريم أكمل مثال للكمال كما صورة القرآن.

 

كيف أدى المسيح رسالته ؟

أدّاها كمثال للنبي والرسول الذي يهدي إلى الله بأقواله وأعماله: (( لقد أحسن في كل ما صنع )) هكذا شهد له الشعب اليهودي؛ والشرطة الرومانية المكلّفة بتوقيفه ولم تفعل أجابت: (( إنه ما نطق إنسان قط بمثل ما نطق هذا الرجل )) ( يوحنا 7 : 46 ). كان يهدي الناس لا عن طريق الرهبة والقوّة، ولا عن طريق الرغبة والمال: فلا يذكر القرآن أن المسيح شرع جهاداً لتوطيد حقيقة دينه بل ترك لسلطان الإيمان أن يفتح للحق مغاليق العقول والقلوب؛ ولا يذكر القرآن أن المسيح قام بغزو أو حاصر قوماً: لم يغزُ قوماً ولم ينهض على بلد ! ولا سيّر السرايا والغزوات ليجلب لرجاله المال والمعيشة بل كان يعيش من حسنات الشعب، ووصى مبعوثيه لنشر دينه (( ألا يحملوا في الطريق لا عصاً ولا زاداً )) . بل عاش فقيراً ومحبَّاً للفقراء والمساكين محرِّماً (( عبادة ربّين: الله والمال )) . لم يهدِ المسيح العالم إلى الله بسلطان السيف، ولا بسلطان المال، ولا بسلطان الإغراء بطيّبات الدنيا والآخرة، ولا بسلطان العلم

ـــــــــــــــــــــــ

(1) حسين هيكل : حياة محمد ص 324.

ـ 414 ـ

والفلسفة، ولا بشيء من مغريات الحياة الدنيا؛ بل فرض احترامه واحترام دينه بالزهد، والقداسة، والنبوّات والمعجزات.

 

يشهد القرآن أن الله اختص رسالة المسيح بتأييد الروح القدس: (( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيّدناه بروح القدس )) ( بقرة 87 ، 253). أجل، لا نفهم صريحاً ما يقصد القرآن بروح القدس؛ غير إننا نرى مليَّاً أنه أيـْدٌ علوي فريد لم يَنَلـْه أحد من الأنبياء قبله أو بعده. فقد ميّز الله المسيح بين الأنبياء والمرسلين بتأييد الروح القدس، وقد لا ينعت (( الروح )) بالقدس إلا في كلامه عن المسيح1 : (( إذ قال الله يا عيسى اذكر نعمتي عليك ـ وعلى والدتك ـ إذ أيدتك بروح القدس )) ( مائدة 113 ): فهذا التأييد كان نعمة كبرى وميزة عظمى من الله . وإن رسالةً يؤيدها روح القدس لهي أفضل رسالة.

 

وقد شهد الله للمسيح بمعجزة النبوّآت التي لم يفه بمثلها لغيره : يصرّح القرآن مراراً عن محمد بن عبد الله أنه لا يعلم الغيب ( أنعام 50، 124 )، فعلم الغيب من خصائص الله : (( وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو )) . بل هي صفة إلهية من صفاته تعالى (( إنك أنت علام الغيوب )) ( مائدة 120 ) . فإذا أشرك الله أحداً في هذه الميزة يكون قد شهد له أفضل شهادة . والقرآن يقرّ أن المسيح أُوتي عِلْم الغيب: (( وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم: إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين )) ( آل عمران 49 ). وتنبّأ من مهده أكبر نبوءَة عن آخرته: (( والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مرة واحدة ينعت جبريل الموحي إلى محمد بروح القدس . وروح القدس هنا مرادف لجبريل ( نحل 102 ) .

ـ 415 ـ

حيا )) ( مريم 33 )) : منذ مولده يتنبأ أنه سوف يبعث حياً وقد تحققت النبوة لما (( رفعه الله إليه )) (نساء 157). فهل يذكر القرآن لرسول معرفة الغيب بهذه الصراحة وهذه القوة ؟ وهل حققت الأيام قولاً كما حققت نبوة المسيح .

 

وشهد القرآن للمسيح أيضاً بمعجزة العجائب الباهرة: العجيبة فعل يفوق طاقة المخلوق ومعجزة إلهية لا يقدر أن يجترحها إلا الله القادر على كل شيء . فإذا اختص الله عبداً له بشيء من هذه القدرة الإلهية فذلك دليل ساطع على أن الله اصطفاه على سواه . والقرآن لا ينسب لنبي من المعجزات كما نسب للمسيح. وفيما يصرح القرآن مراراً أن الآيات والخوارق مُنعت عن محمد (( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون )) ( إسراء 59 )، يشهد مراراً للمسيح باجتراح المعجزات العظام: (( ورسولاً إلى بني إسرائيل، أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ، وأبرئ الأكمة والأبرص، وأحيي الموتى )) ( آل عمران 49 )؛ يعود إلى ذكرها أيضاً في آخر عهده ( مائدة 113 ): فأي خارقة أعظم من إحياء الموتى1 وأعظم من القدرة على الخلـْق ؟؟ هل ينسب القرآن إلى بشر أو نبي أو مخلوق ما ينسبه إلى المسيح من خوارق في شخصه وفي رسالته ؟ وتتخطّى معجزاته نطاق الأرض إلى السماء فيُنزِل على الحواريين تلاميذه مائدة من السماء يأكلون منها فتطمئن قلوبهم، ويؤمنون به مستشهدين في سبيله ( مائدة 111 ـ 115 ) : فظلت (( عيداً لأولهم وآخرهم)) وأعظم آية من الله في تاريخ الأنبياء والمرسلين.

 

ولكن شهادة الشهادات في القرآن عن المسيح، وميزة الميزات التي انفرد

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ذكر الكتاب لبعض الأنبياء إقامة موتى ، وذكر أيضاً أنها كانت بإذن الله ؛ فيما ينقل الإنجيل أن عيسى كان يقيم الموتى بقدرته الذاتية : (( أنا أقول لك : قم ! فقام الميت واستوى )) .

ـ 416 ـ

بها المسيح ومعجزة المعجزات التي بها اختص الله عيسى ابن مريم دون سائر الأنبياء والمرسلين بلا استثناء هي أن (( الله رفعه إليه )) فهو حي نفساً وجسداً عند الله وإلى ما شاء الله: (( وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً )) ( نساء 157 ).

البشر كلهم يموتون، وينتهي أمرهم بالموت. ويولدون ليموتوا: الأولياء والصالحون، والأنبياء والمرسلون، ماتوا جميعاً. ومحمد (( خاتم النبيين )) قد مات كغيره وقبره في المدينة المنوّرة (( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإنْ مات أو قُتِل انقلبتم على أعقابكم )) (آل عمران 144 ) فالموت سلطان السلاطين ! الموت آخرة كل شيء: آخرة القداسة والنبوّة، وآخرة العلم والفلسفة والسلطان: واحد وحده لم يكن للموت عليه من سلطان، هو عيسى ابن مريم، مسيح الله !

فهو وحده حي عند الله ! وإذ هو وحده حي فيما غيره قد مات وصار رميماً فرسالته دائمة، وهدايته دائمة، وشفاعته دائمة. أليست رسالة الحي الدائم أفضل من رسالة الميت ؟ أَليست شفاعة الحي عند الله أفضل من شفاعة الميت الذي صار تراباً ؟ قال المسيح في الإنجيل: (( أنا القيامة والحياة : مَن آمن بي وإن مات فسيحيا )) ( يوحنا 14 : 26 ). وقال القرآن: (( إِذ قال الله : يا عيسى إني متوفيك و رافعك إلي ، و مطهرّك من الذين كفروا ، و جاعلٌ الذين اتّبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة )) ( آل عمران 55 ).

وهكذا فقد اتّقت شهادة الإنجيل و القرآن للمسيح أّنه حيٌّ عند الله . فهذه ميزته الخاصة التي انفرد بها دون العالمين ؛ و هي ميزة الميزات و معجزة المعجزات .

 

فلا عجب بعد ذلك إذا سمعنا القرآن يصف عيسى ابن مريم بألقاب ترفعه فوق المرسلين، و سائر المخلوقين إلى صلة خاصة شخصية مع الله .

لقد غمر القرآن المسيح بألقاب نبويّة قد يشترك فيها غيره، ولكن القرآن

ـ 417 ـ

قد خص ابن مريم بألقاب غريبة سماوية، وأسماء إِلهية : فقد أعطاه مع الإنجيل اسماً يفوق كل اسم : (( إنما المسيح عيسى ابن مريم: رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( نساء 157 ) فعيسى ابن مريم، رسول الله هو بالحقيقة مسيح الله ، وكلمة الله ، وروح الله ! مهما يكن من معنى هذه الألقاب الفريدة التي لا ينسبها القرآن لأحدٍ من المرسلين والعالمين، فهي تجعل المسيح وحده في صلة شخصية خاصة مع الله ، صلة مصدرية عقلية روحية، ترفعه فوق صفة المخلوق.

 

لقد كتب الأستاذ العقاد (( عبقرية محمد )) فجمع في النبي العربي مجموع العبقريات والبطولات. وقد يكون ذلك. ولكن ليست العبقرية الخطابية، ولا العبقرية العسكرية، ولا العبقرية السياسية، ولا العبقرية الإدارية، ولا العبقرية الشخصية في الصدّيق والزوج والأب والسيد المطاع، والرجل الفرد المحبوب ... ليست كلها بشيءٍ إزاء هذه الألقاب الإلهية التي وصف بها القرآن المسيح عيسى ابن مريم.

لقد عرَّف القرآن شخصية المسيح بأنه وحده في العالمين: مسيح الله ، وكلمة الله ، ورح الله !

ولخّص عظمته بكلمة لم يقلها في غيره: (( إنه آية للعالمين )) .

(( وجعلنا ابن مريم وأمه آيةً )) ( مؤمنون 51 ).

(( وجعلناها وابنها آية للعالمين )) ( أنبياء 91 ).

(( قال ربك هو عليّ هين: ولنجعله آية للناس ورحمة منا. وكان أمراً

مقضيّاً )) ( مريم 21 ) .

 

ـ 418 ـ

كلمة الختام

 

 

(( لا حجـة بيننا وبينكم . الله يجمـع

بيننا . وإليه المصير )) ( شورى 15 )

 

نوجزها بلمحتين خاطفتين:

1ً موقف أهل الإنجيل من القرآن ونبيّه

إنهم يعترفون بأن محمداً بن عبد الله الهاشمي القرشي تطوّع لأسمى رسالة يمكن أن يتطوع لها بشر: رسالة التوحيد ! أي دعوة الناس إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.

ويشهدون من القرآن ذاته أنها لم تكن رسالة مستقلةً عمّا تقدمها في التوراة والإنجيل ، بل إنما جاءَت تصديقاً وتفصيلاً لرسالة الكتاب ( أنعام 114، يونس 37 ) وشاهدة عليها ( مائدة 51) وواحدة معها ( بقرة 136، 285 وآل عمران 84 ونساء 163 وتوبة 112) .

ويؤكدون مع القرآن أن محمداً أخلص لرسالته كل الأخلاص، وعمل لها بالقلم والسيف ما استطاع سبيلاً حتى توصل إلى غايته. فأنشأ أمة وديناً ودولة قادت شطراً من العالم أجيالاً ولم يزل لها وزنها الثقافي والدولي .

ولا يقلـّل من عظمة سيد العرب في نظر التاريخ أنه لبّى الدعوة مندفعاً من نفسه أو مدفوعاً من عَلُ : فقد كان الرسول عظيماً والرسالة عظيمة ونتائجها عظيمة .

ونرى اليوم ضرورة رسالة التوحيد أكثر من كل زمن مضى عندما نرى تيارات الإلحاد الجارف تجتاح البشرية أو تكاد من مهابّ الريح الأربعة .

ـ 419 ـ

فالإيمان بالله واليوم الآخر هما الدعامتان اللتان لا بد منهما للبشرية لكي تصعد ولا تهبط ، لكي تتقدم ولا تتأخر، لكي تسعد ولا تشقى: وهذا كان عمَلَ القرآن ونبيه.

فكم هو جميل مشهد هذه المآذن الشواهق المنتشرة في العالم والتي تمثل اشتياق الأرض إلى السماء، وسواعد البشرية المؤمنة المرتفعة فوق كل فضاء تنادي إلى الإيمان بالله وعبادته !

 

2ً موقف القرآن من الإنجيل

مَن يطـّلع بإخلاص على شهادة القرآن للإنجيل رأى في القرآن مدخلاً إلى الإنجيل.

لقد آمن القرآن ونبيه الإيمان كله بنبوّة المسيح ورسالة الإنجيل، وما كان هذا الكتاب الذي بين يديك إلا رسماً صادقاً لهذا الإيمان: فليس في القرآن شخصية تداني شخصية المسيح، وليس في القرآن ـ بين الرسالات التي يخبر عنها ـ رسالة تسمو إلى رسالة الإنجيل.

ولكن النبي العربي لم يعترفْ بنبوّة المسيح لأنه لم يعْرِفْها حقَّ معرفتها. فقد ظنَّ أن كل بنوَّة تخضع حكماً وضرورةً لناموس الجسد، ولا تكون إلا بإمرأة وزواج: (( بديع السماوات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة )) ( أنعام 101 )، وظن أن البنوّة في عالم الروح حاجة كما في عالم الأجساد (( وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً: إن كل مَن في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً )) ( مريم 93 )؛ ليست البنوَّة في الروح حاجة (( ما اتخذ صاحبة ولا ولداً )) (الجن 3 ) بل هي فيضُ جودته، وضياءُ مجده. ونقول جازمين لو أن النبي العربي عرف بنوَّة المسيح حقَّ معرفتها لاعترف بها دون ما تردّد: (( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين )) (زخرف 81 ).

ـ 420 ـ

تلك هي بعض الأبحاث عن الكتاب والإنجيل في القرآن. فيها كل ما من شأنه أن يجمع ويؤلف بين أهل الكتاب وأهل القرآن. فإن ما حفظ القرآن عن المسيح والإنجيل والنصارى مفخرة للمسلمين والمسيحيين إذا تجرّدوا عن تفاسير الشحناء والبغضاء.

وفصل الخطاب، على حد قول القرآن، إن هناك إلهاً واحداً ، ووحياً واحداً ، وكتاباً واحداً منزلاً، ورسالةً واحدة ، وديناً واحداً في أصله، وإيماناً واحداً هو الإيمان بالله واليوم الآخر ( بقرة 62، 177 ومائدة 62، 72 )؛ يعطيه إسماً جديداً عربيّاً (( الإسلام )) أي التوحيد ؛ وإن كان جديداً بالمبنى فليس جديداً بالمعنى (( هو سـمَّاكم المسلمين مـن قبل ( في الكتاب ) وفي هذا ( في القرآن ) )) ( الحج 78 ) وقد ختم القرآن شهادته بمكة بقوله: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم ـ وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأُنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) ( عنكبوت 46 )؛ وختم القرآن رسالته في المدينة في آخر آية تقريباً من آخر سورة فيه بقوله : (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ... وَعْداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن )) ( توبة 112 ).

وحسن الختام في الصورة التي رسمها القرآن للإنجيل والمسيح : ليس بين الكتب المنزلة حسب قوله أسمى من الإنجيل، وليس بين الأنبياء المرسلين أفضل من المسيح. لقد أُعجبنا بتلك الصورة فجمعنا بعض خطوطها. ففي كل قصصه عن الأنبياء والمرسلين لا يرسم القرآن الكريم صورة أسمى وأكمل من شخصية المسيح عيسى ابن مريم. لقد كان للإنجيل وقع عميق في نفس النبي الأمّي، وكان لتأثير شخصية المسيح على وجدان النبي العربي صدى بعيد فملأت عظمةُ المسيح، الذي وحده بين البشر والأنبياء انتصر على الموت والحياة وارتفع حيّاً إلى الله ، كلَّ مشاعره فرسمها بذلك الرسم الخالد.

أعاظم الأنبياء في القرآن هم إبراهيم وموسى وداود وعيسى ومحمد. وكلهم

ـ 421 ـ

جاء بكتاب. وأعظم شخصية بينهم حسب القرآن هو المسيح عيسى ابن مريم لا يصف أحداً بما وصف به عيسى ابن مريم. ولا يلقّب أَحداً بما لقب به المسيح :

عيسى ابن مريم هو وحده مسيح الله

عيسى ابن مريم هو وحده كلمة الله

عيسى ابن مريم هو وحده روح الله

فالمسحة السرية، والكلمة من الله ، وروح الله ، تعني صِلـَةً ذاتية حقيقية لا مجازية ، بين المسيح والله دون العالمين جميعاً.

ـ 422 ـ

المؤلف والمجموعة

 

مجموعة الأستاذ الحداد القرآنيّة والإنجيليّة

 

أولاً : المؤلف

الأب يوسف درّة الحدّاد (1913 ـ 1979)، المعروف يضاً بـ (( الأستاذ الحدّاد )) ، من يبرود ( القلمون ) مولداً ، ومن خرّيجي إكليريكية القديسة حنّة ( الصلاحيّة ) في القدس ثقافة.

خدم النفوس بعد سيامته الكهنوتية ( 1939 ) في أبرشيّتي حمص وبعلبك ، ثم انقطع زهاء عشرين سنة للبحث والكتابة في حقل استهواه منذ أيام التلمذة، حقل الشؤون القرآنية على وجه عام ، والمعضلات الإسلامية المسيحية ، والدراسات الإنجيلية والكتابيّة على وجه خاص .

فأكبّ بجلـَد على العمل ، قلّ أن يضاهى بمثله ، وبقدرة على الاستساغة والتأليف تثير الإعجاب ، فأنتج نتاجاً ضخماً جدّاً، بعضه نشر وبعضه لا يزال مخطوطاً أو قيد الطبع.

 

ثانياً : المجموعة

مجموعة الأسـتاذ الحدّاد من أبرز المجموعات الدراسية التي ظهرت في الآونة الأخيرة ، ومن أوسعها موضوعاً ، وأعمقها تحليلاً ، وأنزهها هدفاً . وأسلمها أسلوباً . وهي تتألف من ثلاث

ـ 425 ـ

سلاسل: سلسلة الدروس القرآنيّة ، وسلسلة الحوار الإسلامي المسيحي ، وسلسلة الدراسات الإنجيلية .

وفي كل سلسلة طائفة من البحوث القيّمة قلّما عرض لها مفكّر مثلما عرض لها الأستاذ الحدّاد ، وقلّما تعمّق في حقائقها عالِم كما تعمّق وكشف عن أسرارها وخفاياها الأستاذ الحدّاد ، وذلك كله بفكر ثاقب لا يكاد يخطئ هدفاً ، وعلم واسع لا يعرف إلا الدقة والتدقيق أسلوباً ، وقلم صريح لا يخشى إلا خيانة الحقيقة والتقصير في خدمتها ، وجلَد لا مثيل لـه يتتبع أوثق المصادر والمراجع القديمة والحديثة، فيجول في عالمها جولة قدير ، ويقارن ما بين نصوصها مقارنة ناقد حاذق ، لا تلهيه القشور، ولا تغشي بصره الميول . إنه رسول حقيقة ، في عالم من الاضطراب والمفارقات.

وهكذا كانت مجموعة الحدّاد ، على ما فيها من بعض الشوائب التقنيّة ، موسوعة ضخمة ، لا عهد لنا بفرد طوى في ميدانها بقدر ما طوى هو وبمثل ما طوى . ولهذا كانت مرجع الباحث الذي يطلب العلم ، ومنهل الوارد الذي يطمح إلى المعرفة.

( الأب جورج فاخوري البولسي )

الصفحة الرئيسية