لزوم كفارة المسيح

كيف تنتفع بكفارة المسيح؟

القسم الثاني من كتاب

فلسفة الغفران في المسيحية

عوض سمعان

 

الباب السادس

كفاية كفارة الله في المسيح ونتائجها

- 1 - كفاية كفارة الله في المسيح

بما أن الله هو الذي فدانا في المسيح، لذلك لا بد أن فداءه كاف لإيفاء مطالب عدالته وقداسته من نحونا، وبالتالي لا بد أنه كاف لخلاصنا من خطايانا ونتائجها الوخيمة. لكن نظراً لأهمية هذه الحقيقة، نذكر فيما يلي بعض الأدلة التي تؤكد صدقها، حتى تطمئن النفوس التي يساورها أي شك من جهته.

أولاً - شهادة المسيح، والأدلة على صدقها

1 - شهادة المسيح (ا) قال المسيح قبل الفداء الذي قام به: لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16). وقال أيضاً: الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية. والذي لا يؤمن بالابن فلن يرى حياة (أبدية). بل يمكث عليه غضب الله (يوحنا 3: 36) وأيضاً: الحق الحق أقول لكم: من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة (لأن الدينونة التي كان من الواجب أن تحل عليه، حملها المسيح نيابة عنه) بل قد انتقل من الموت إلى الحياة (يوحنا 5: 24) - والتمتع بهذه الحياة على أساس الإيمان (أو بالحري الإيمان الحقيقي بالمسيح)، دليل على كفاية كفارته.

(ب) وعندما كان المسيح على الصليب، قال للص (الذي ندم على خطاياه، ولجأ إلى نعمته مؤمناً بشخصه إيماناً حقيقياً): اليوم تكون معي في الفردوس (لوقا 23: 43) - ونظراً لأن هذا اللص كان يستحق العذاب الأبدي بسبب جرائمه، وأن مجرد ندمه لارتكابها لم يكن ليؤهله للحصول على الغفران أو التمتع بالله كما ذكرنا في الباب الثاني، لذلك فقول المسيح للص المذكور اليوم تكون معي في الفردوس ، دليل على أن كفارته (أي كفارة المسيح) كافية للخلاص من الخطايا ونتائجها.

(ج) فضلاً عن ذلك فإن آخر عبارة قالها المسيح وهو على الصليب هي: قد أُكمل (يوحنا 19: 30). وهناك فرق كبير بين الإنتهاء من عمل وبين إكماله. فالإنتهاء من عمل معناه الفراغ منه بإتمامه أو عدم إتمامه. أما إكماله فمعناه إنجازه إلى التمام. لذلك فالمسيح بقوله قد أُكمل أعلن أنه لم ينتهِ من عمل الكفارة فحسب، بل وأكمله أيضاً بنجاح، كما يتضح من اللغة الأصلية للكتاب المقدس.

2 - الأدلة على صدق شهادة المسيح: فضلاً عن أن أقوال المسيح مدونة بالوحي الإلهي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها، وفضلاً عن أن المسيح لم ينطق بها كلها في أوائل خدمته، بل نطق ببعضها وهو على شفا الموت، هذا الوقت الذي يترك المرء فيه كل إدعاء (إذا كان مدعياً) ويظهر على حقيقته تماماً، نقول: بما أن شهادة المسيح عن موته الكفاري قد ثبت صدقها كما اتضح فيما سلف، وبما أنه بالإضافة إلى ذلك كان بعيداً عن التفاخر والتباهي كل البعد، إذاً لا بد أن تكون شهادته عن كفاية كفارته لإيفاء مطالب عدالة الله وقداسته (أو بالحري عن كفايتها لخلاصنا من خطايانا ونتائجها)، هي شهادة صادقة أيضاً.

 

ثانياً - شهادة الرسل والأدلة على صدقها

1 - شهادة الرسل (ا) قال بطرس الرسول عن المسيح إنه حمل هو نفسه خطايانا (أي خطايانا بأسرها) في جسده على الخشبة (1 بطرس 2: 24).

وقال أيضاً فإن المسيح تألم مرة واحدة من أجل الخطايا (جميعها)، البار من أجل الأثمة (أو بالحري كل الأثمة)، لكي يقرّبنا إلى الله مماتاً في الجسد ولكن محيىً في الروح (1 بطرس 3: 18)

(ب) وقال يوحنا الرسول عن المسيح وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً (1 يوحنا 2: 2).

وقال كذلك عنه أحبنا وغسلنا من خطايانا بدمه (رؤيا 1: 5). كما قال دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية (1 يوحنا 1: 7)

(ج) وقال بولس الرسول عن المسيح وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس (أو بالحري إلى السماء) فوجد فداءً أبدياً (عبرانيين 9: 12). وقال أيضاً لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين (عبرانيين 10: 14). كما قال عنه إنه صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا (عبرانيين 1: 3)، وإنه بذل نفسه فدية لأجل الجميع (1 تيموثاوس 2: 6)، وإنه ذاق الموت لأجل كل واحد (عبرانيين 2: 9)، وإنه يفدينا من كل إثم (تيطس 2: 14)

ومن هذه الآيات يتضح لنا أن فداء المسيح ليس لجماعة من الناس دون جماعة أخرى، أو عن بعض الخطايا دون البعض الآخر منها، أو أنه يمتد إلى فترة خاصة من الزمن يحتاج الناس بعدها إلى فداء آخر، بل إنه لكل الناس، وعن كل الخطايا، كما أن كفايته تمتد إلى أبد الآباد، الأمر الذي يفتح مجال الخلاص أمام كل الناس في كل العصور والبلاد.

2 - الأدلة على صدق شهادة الرسل: فضلاً عن أن شهادة الرسل مدونة بالوحي الإلهي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها، وفضلاً عن الأدلة التي ذكرناها في الأبواب السابقة على صدق شهادتهم، نقول: إن الرسل بمناداتهم بكفاية كفارة المسيح، أعلنوا لليهود أنه لا داعي إطلاقاً ليس فقط لتقديم الذبائح التي كانوا يقدمونها، بل ولا داعي أيضاً لوجود الهيكل أو الكهنة واللاويين الذين كانوا يخدمون فيه.

وبما أن هذا الإعلان كان يثير اليهود عن بكرة أبيهم، ويدفعهم جميعاً بزعامة كل رجال الدين بينهم لإضطهاد الرسل أشد اضطهاد، لأن مثل هذا الإعلان كان يقضي ليس فقط على موارد رزق هؤلاء كما ذكرنا، بل وأيضاً على الديانة اليهودية التي يعتزون بها كل الإعتزاز. وبما أنه ليس من المعقول أن يختلق الرسل موضوعاً يكون سبباً في توجيه الإضطهاد العنيف إليهم، وعلى الرغم من ذلك يواظبون على المناداة به جميعاً بكل شجاعة وبسالة - هذا فضلاً عن استحالة اتفاقهم معاً على اختلاقه بسبب تباينهم من جهة الثقافة والنشأة والسن والبيئة والجنسية والمركز الإجتماعي، لذلك لا بد أنهم كانوا على يقين تام أمام الله من جهة صدق موضوع كفاية كفارة المسيح الذي كانوا ينادون به.

 

ثالثاً - شهادة أنبياء العهد القديم والأدلة على صدقها

1 - شهادة أنبياء العهد القديم (ا) قال موسى النبي سنة 1500 ق.م إن الله قبلما أخرج آدم من الجنة، أعلن أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15) - وبهذا الإعلان أعطى الله لآدم وعداً بالفداء التام بالمسيح، لأن كلمة نسل ترد هنا في اللغة العبرية بصيغة المفرد لا الجمع، والشخص الوحيد الذي يدعى نسل المرأة هو المسيح، لأنه ولد من أم دون أب. أما عند ورودها بالجمع في الأصل العبري، فإنها تترجم إلى العربية الأنسال . ويتضح هذا من قول بولس الرسول وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله. لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحد، وفي نسلك، الذي هو المسيح (غلاطية 3: 16).

أما الحية فيُراد بها الشيطان، لأنه هو الذي يسمّيه الوحي الحية القديمة (رؤيا 20: 2) وذلك بسبب خداعه للناس وتضليلهم. وسحق المسيح لرأس الشيطان يدل على إنهاء سلطانه والقضاء الكامل عليه، وبالتبعية يدل على كفاية كفارة المسيح له المجد، لخلاص المؤمنين الحقيقيين من الخطية ونتائجها الأبدية.

(ب) وقال داود النبي سنة 1000 قبل الميلاد بروح النبوة عن المؤمنين الحقيقيين إنهم يأتون (من كل مكان) ويخبرون ببره (أي ببر المسيح) لشعب سيولد، معلنين أنه قد فعل (أو بالحري فعل البر) (مزمور 22: 31). كما قال أيضاً عن هؤلاء المؤمنين إنهم سيفرحون وتحيا قلوبهم (مزمور 69: 32) - الأمر الذي يدل على كفاية كفارة المسيح لخلاصهم إلى الأبد، لأنه لا مجال للفرح أو للحياة الأبدية بدون كفاية كفارته.

(ج) وقال إشعياء النبي سنة 700 ق.م. عن المسيح: إن جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً تطول أيامه، ومسرة الرب (الخاصة بخلاص المؤمنين الحقيقيين) بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع. وعبدي البار، بمعرفته يبرر كثيرين (الذين هم المؤمنون الحقيقيون)، وآثامهم هو يحملها )إشعياء 53: 10 ، 11) - وكل عبارة من هذه العبارات تدل على كفاية كفارة المسيح إلى الأبد. فالنسل الذي تطول أيامه هم المؤمنون الحقيقيون الذين يحيون إلى الأبد، والذين بهم تشبع نفس المسيح لسروره العظيم بخلاص الخطاة نتيجة لكفاية كفارته.

ويطلق إشعياء على المسيح لقب عبد الرب - وهو إصطلاح كتابي يُراد به الكائن الذي يتمم كل مقاصد الله التي لا حد لها، ويُطلق هذا الإصطلاح على المسيح من الناحية الناسوتية، لأنه من هذه الناحية قام بالمهمة المذكورة خير قيام. ولا غرابة في ذلك، فإنه في ذاته هو كلمة الله ، وكلمة الله هو وحده الذي يقوم بها.

2 - الأدلة على صدق شهادة أنبياء العهد القديم: فضلاً عن أن هذه الشهادة مدّونة بالوحي الإلهي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها، وفضلاً عن الأدلة السابق ذكرها عن صدق شهادة هؤلاء الأنبياء نقول: أنهم عاشوا في أزمنة متباعدة لا تسمح لهم بالتواطؤ على فكرة ما كما يدعي البعض. فضلاً عن ذلك لا يمكن أن أحدهم قد نقل عن الآخر، لأن كلاً منهم تنبأ عن ناحية خاصة من كفاية كفارة المسيح لم يشاركه فيها غيره، الأمر الذي يدل على أنهم كانوا منقادين معاً بروح الله، لأنه هو الذي يعرف كل شيء عن هذه الحقيقة من البداءة، ومن ثم كان في وسعه أن يعلن عنها لكل نبي، ما كان متوافقاً مع الظروف التي عاش فيها.

 

رابعاً - شهادة الوقائع على كفاية كفارة المسيح

1 - انشقاق حجاب الهيكل: عندما قال المسيح قد أكمل انشق حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى أسفل (متى 27: 51) - ولكي يتضح لنا ما يدل عليه انشقاق الحجاب في هذه اللحظة من معنى نقول: كان في خيمة الإجتماع التي أقامها موسى النبي، وفي الهيكل الذي أقامه سليمان الحكيم بعد ذلك، غرفة تُدعى قدس الأقداس، كان الله قد جعلها رمزاً لسمائه يعلن فيها ظهوره بمجده وجلاله، أو بالحري كرمز لسمائه. وكان يوجد أمام هذه الغرفة، غرفة أخرى تدعى القدس، يقدم فيها الكهنة العبادة لله كل يوم. وبين هاتين الغرفتين كان يوجد الحجاب المذكور (2 أخبار 3: 14 ، خروج 26: 31) رمزاً إلى أن الناس حتى الكهنة منهم، ليسوا أهلاً بسبب خطاياهم للدخول إلى حضرة الله، وإلى أنه تعالى لقداسته المطلقة لا يمكن أن يقبلهم في حضرته لهذا السبب.

وقد ظل هذا الحجاب قائماً بين الغرفتين المذكورتين من أيام موسى النبي حتى رُفع المسيح على الصليب، ولذلك لم يجسر إنسان طوال هذه المدة أن يدخل قدس الأقداس أو يراه، لئلا يموت في الحال. فقد قال الله لموسى أن ينهى حتى رئيس الكهنة، عن الدخول كل الوقت إلى ما وراء الحجاب لئلا يموت. (لاويين 16: 2). لكن هذا الحجاب الذي ظل قائماً في موضعه مئات السنين يعلن إنغلاق باب الله في وجه البشر بسبب خطاياهم، لم يبق لحظة واحدة بعد أن قال المسيح قد أكمل ، بل انشق في الحال من فوق إلى أسفل - وطبعاً ما كان لينشق (أو بالحري ما كان الله ليشقه) في هذه اللحظة، لولا أن كفارة المسيح قد وفّت كل مطالب عدالته وقداسته، لأن الله بشقه للحجاب، كأنه يقول للناس: لقد كفّر المسيح عن خطاياكم تكفيراً كاملاً. ولذلك فتحت لكم بابي على مصراعيه، فهلموا إليّ لكي تتمتعوا بالوجود في حضرتي دون حاجز أو مانع .

2 - عدم كسر ساقي المسيح: ذكرنا في الباب الخامس، أن السبب في عدم كسر ساقي المسيح يرجع إلى أنه كان قد مات قبل الغروب. غير أننا إذا نظرنا إلى كسر الساقين من حيث كونه إهانة للمصلوب، يتضح لنا أن اللّه لم يسمح بكسر ساقي المسيح إكراماً له. وطبعاً ما كان هناك داع لإكرامه وقتئذٍ، لولا أن كفارته كانت قد وفَّت مطالب عدالة الله وقداسته كما ذكرنا.

3 - خروج الدم والماء من جنب المسيح بعد موته: بعد موت المسيح طعن أحد الجنود جنبه بحربة، فخرج للوقت دم وماء. وخروج الدم والماء وقتئذٍ، وإن كان يعلله بعض الأطباء بعلل طبيعية، بيد أننا إذا تطلعنا إليه في ضوء الكتاب المقدس نرى أنه دليل على كفاية كفارة المسيح. لأن الماء يرمز فيما يرمز إليه من أمور، إلى الوسيلة الإلهية للتطهير والارتواء الروحي (يوحنا 4: 10 - 14 ، رؤيا 22: 17) والدم هو عنوان الفداء والكفارة، إذ بدون سفك دم لا تحصل مغفرة (عبرانيين 9: 22). وقد جذبت هذه الحقيقة نظر يوحنا الرسول وعرف قدرها حق المعرفة، ولذلك قال عن المسيح هذا هو الذي أتى بماء ودم، لا بالماء فقط بل بالماء والدم.. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح والماء والدم. والثلاثة هم في (المسيح) الواحد (1 يوحنا 5: 6 - 8) أي أن الروح القدس يعلن في العالم أن الفداء والحياة الأبدية هما بالمسيح، الأمر الذي يدل على كفاية كفارته كما ذكرنا.

4 - دفن المسيح في قبر جديد: قد لا يخطر ببال أحد من الناس أن دفن المسيح في قبر جديد له علاقة بكفاية كفارته، لكن نظراً لأن كل كبيرة وصغيرة في الحياة لا تحدث إلا وفقاً لمشيئة الله وتدبيره، فإن عقولنا لا تمر على دفن المسيح في القبر الجديد دون أن تتساءل: لماذا شاء الله أن يدفن جسد المسيح في مثل هذا القبر، وقد كان المقرر أن يدفن مع اللصين اللذين صلبا معه في المقبرة العامة، بناء على قوانين الدولة الرومانية وقتئذٍ؟! وللرد على هذا التساؤل نقول: لو كانت كفارة المسيح لم تف مطالب عدالة الله وقداسته، لكان مثل المسيح مثل أحد الناس لا أكثر ولا أقل، ولدفن تبعاً لذلك في المقبرة العامة بناءً على القوانين المذكورة. ولذلك فعدم دفن جسد المسيح في هذه المقبرة دليل على كفاية كفارته وإيفائها لمطالب عدالة الله وقداسته، بل ودليل أيضاً على كمال طهارته.

فالله سمح للبشر بصلب المسيح لا لعجزه عن إنقاذه من أيديهم، بل لأنه شاء أن يتمم فيه كفارته عنهم جميعاً. أما وقد أكمل المسيح هذه الكفارة بالتمام، فطبعاً لم يكن هناك داع لأن يهان جسده الطاهر بعد، بل كان من اللازم أن يكرم ويبجل. نعم كان عتيداً أن يُكرم ويبجل بقيامته من بين الأموات دون أن يعتريه فساد، لكن هذا لم يكن يمنع من إكرامه وتبجيله أيضاً في أثناء موته. فبأثمن الأكفان كان يجب أن يكفن، وبأغلى الحنوط كان يجب أن يعطر، وفي قبر جديد منحوت في صخر ومحاط ببستان كان يجب أن يدفن (يوحنا 19: 39 - 41).

5 - قيامة المسيح من بين الأموات: لو أن المسيح ظل مائتاً مدفوناً في قبره، لكان هناك مجال للطعن في كماله المطلق، بدعوى أنه لا يفرق شيئاً عن باقي الناس الذين بسبب خطاياهم يسود عليهم الموت ويظلون في قبورهم إلى يوم القيامة. ولكان هنا أيضاً مجال للطعن في كفارته التي نادى بها بدعوى عدم كفايتها لإيفاء مطالب عدالة الله وقداسته. لكن قيامته من بين الأموات في اليوم الثالث، لم تدع مجالاً لهذا الطعن أو ذاك.

6 - قيامة بعض القديسين: على أثر قيامة المسيح من بين الأموات، قام بعض القديسين من قبورهم، وظهروا لكثيرين من سكان أورشليم (متى 27: 52). وهذه الحادثة فضلاً عن أنها مدونة بالوحي الإلهي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها نقول: إنها ترد في الكتاب المقدس بأسلوب بسيط بعيد كل البعد عن المغالاة والتعليق الخاص، اللذين نراهما في القصص التي يؤلفها البشر. كما أنها لا يمكن أن تكون من خيال التلاميذ، لأن هؤلاء لو أرادوا إكرام المسيح بسبب قيامته من الأموات، لما خطر ببالهم أن يكرموا معه بعض القديسين الذين ماتوا قبله، حتى يكون وحده محط الأنظار. فضلاً عن ذلك فإن هذه الحادثة كتبت ونشرت في نفس المكان الذي صُلب فيه المسيح وقام، وبين الناس الذين شاهدوا صلبه وسمعوا عن قيامته، دون أن يعترض عليها واحد منهم، الأمر الذي يدل على أنها كانت حادثة حقيقية معروفة كل المعرفة لديهم.

وسماح الله بقيامة هؤلاء القديسين من قبورهم على أثر قيامة المسيح من الأموات، دليل على كفاية كفارته، ودليل أيضاً على أن قوة الحياة التي لا تزول التي قام بها المسيح (عبرانيين 7: 16)، تستطيع أن تقيم جميع القديسين الذين ماتوا والذين يموتون، بالهيئة التي قام بها المسيح إلى المجد الأبدي.

7 - هدم الهيكل اليهودي: كان الهيكل مفخرة اليهود العظمى، ففضلاً عن أن بناءه تكلف حوالي مليار من الجنيهات الذهبية، فقد كان الملجأ الوحيد الذي يهرعون إليه في ضيقاتهم ويقدمون فيه الذبائح حسب الناموس الذي أعطاه الله لموسى النبي، لكي ينالوا من الله عند توبتهم، رحمة وغفراناً. بل وكان هذا الهيكل هو أيضاً الشهادة العلنية على اتصالهم بالله دون غيرهم من الشعوب القديمة، لأن هذه كلها كانت تعبد الأوثان. ولذلك كان الله يملؤه بمجده، ويعلن لهم فيه مشيئته، ويتقابل معهم بالروح في رحابه - لكن هذا الهيكل العظيم لم يبق له أثر بعد ارتفاع المسيح إلى السماء بسنوات، إذ أقبل تيطس القائد الروماني وأحرقه، فهبط إلى الأرض من عليائه. ولم يكتف تيطس بذلك، بل اقتلع أساسه من الأرض، فتمت نبوة المسيح عنه أنه لن يترك فيه حجر على حجر لا يُنقض (متى 24: 2).

وقد حاول اليهود إعادة بناء الهيكل المذكور مرات متعددة عبر ألفي سنة تقريباً، فباءت كل محاولاتهم بالفشل - وهذا دليل واضح على أن ذبائحهم كانت مجرد رموز إلى كفارة المسيح، وبالتبعية على أن كفارة المسيح هي الكفارة التي يدوم أثرها إلى الأبد.

 

- 2 -

نتائج كفاية كفارة الله في المسيح

أولاً - البركات الخارجية

البركات الخارجية هي البركات التي يمنحها الله للمؤمنين الحقيقيين، ويراهم حاصلين عليها أمامه بفضل كفاية كفارة المسيح، وذلك بغض النظر عن حالة نفوسهم الداخلية في أي وقت من الأوقات، وتتلخص هذه البركات فيما يلي:

(ا) الغفران

كان داود النبي يرنم قبل مجيء المسيح بألف سنة قائلاً طوبى للذي غُفر إثمه وسُترت خطيته! (مزمور 32: 1). وكان إرميا النبي يتساءل قبل مجيء المسيح بستمائة سنة: كيف يصفح الله عن الخطاة؟ (إرميا 5: 7) - ولكن الطوبى التي كان يترنم داود بها ويريد الحصول عليها، لم تتحقق إلا بكفاية كفارة المسيح. والطريقة التي يمكن أن يصفح بها الله عن الخطاة والتي تساءل إرميا عنها، لم تُستعلن إلا بكفاية هذه الكفارة. فقد قال الوحي على لسان الرسل فليكن معلوماً عندكم أيها الرجال الإخوة أنه بهذا (أي المسيح) يُنادى لكم بغفران الخطايا (أعمال 13: 38). وقال أيضاً حتى ينالوا (أي البشر) بالإيمان بالمسيح غفران الخطايا ونصيباً مع المقدسين (أعمال 26: 18). وأيضاً إن كل من يؤمن به (أي بالمسيح) ينال باسمه غفران الخطايا (أعمال 10: 43). وقال للذين آمنوا إيماناً حقيقياً قد غفرت لكم الخطايا من أجل اسمه (1 يوحنا 2: 12).

والله عندما يصفح عن الخطايا لا يذكرها على الإطلاق، فتصبح كأنها لم تقترف بتاتاً. وقد كان داود النبي يشتاق إلى مثل هذا الصفح الكامل، ولذلك كان يخاطب الله قائلاً: لا تذكر خطايا صباي (مزمور 25: 7). لكن عدم ذكر الخطايا إطلاقاً لم يكن ليتحقق إلا بفضل كفاية كفارة المسيح لأنها وحدها هي التي وفت مطالب عدالة الله وقداسته، وعلى أساسها استطاع الله أن يقول للمؤمنين الحقيقيين أصفح عن آثامهم، ولا أذكر خطيتهم فيما بعد (إرميا 31: 31 - 34).

(ب) التبرير

والتبرير لا يراد به فقط، خلاص المؤمنين الحقيقيين من وصمة الخطايا (التي كانت لاصقة بهم) مثل الغفران، بل يُراد به أيضاً صيرورتهم أبراراً أمام الله، أي كأشخاص لم يرتكبوا خطيئة على الإطلاق. وفي الوقت نفسه عملوا كل البر الذي يريده الله. ولا غرابة في ذلك، فكما أن المسيح بنيابته عنا حُسبت عليه خطايانا بكل شناعتها، كذلك بسبب هذه النيابة عينها يحسب لنا بره الذي يفوق كل بر في الوجود.

كان أيوب الصديق وداود النبي يبحثان قديماً عن هذا التبرير، فلم يجدا إليه سبيلاً. فتساءل الأول: كيف يتبرر الإنسان عند الله؟ (أيوب 35: 4). وخاطب الثاني المولى قائلاً: فإنه لن يتبرر قدامك حي (مزمور 134: 2). لكن التبرير الذي نظر هذان التقيان إليه كأمر لا يمكن الحصول عليه، تحقق بفضل كفاية كفارة المسيح. فقد قال الرسل بالوحي للمؤمنين الحقيقيين: متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح (رومية 3: 24 - 28). وقالوا أيضاً: أما الآن فقد ظهر بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون (رومية 3: 21 - 2). وأن المسيح أسلم من أجل خطايانا، وأُقيم لأجل تبريرنا (رومية 4: 25). وأن به يتبرر كل من يؤمن (أعمال 13: 39).

هناك فرق بين البر الشرعي وبين البر العملي. فالأول هو ما يحسبه الله لنا بفضل كفاية كفارة المسيح عند الإيمان الحقيقي به، أما الثاني فهو الأعمال الصالحة الخالية من النقائص، التي نقوم بها نحن المؤمنين بفضل تأثير الله في نفوسنا. والبر الأول كامل كل الكمال وغير قابل للزيادة على الإطلاق بالنسبة إلى كل واحد منا، كما أنه هو الأساس الوحيد لقبولنا أمام الله (لأننا لا نستطيع بكل أعمالناالصالحة أننكفر عن خطيئة واحدة من خطايانا). أما البر الثاني فيختلف قدره من واحد إلى آخر منا، لأننا نحن الذين نعمله بأنفسنا. أما من جهة فائدته فإنه الأساس الذي عليه يعطينا الله ما يراه من مكافأة، بجانب التمتع بالقبول الأبدي أمامه على أساس كفاية كفارة المسيح.

(ج) التطهير

قبل مجيء المسيح بمئات السنين كان أيوب الصديق يقول عن نفسه، إنه لو اغتسل في الثلج ونظف يديه بالأشنان، فإنه يظل مذنباً (9: 30). وكان إرميا النبي يقول عن البشر إنهم حتى إذا اغتسلوا بالنطرون، فإن آثامهم لا تُمحى من أمام الله (2: 22). الأشنان كلمة معربة عن اليونانية، تُطلق على مادة تستعمل في التنظيف. أما النطرون فهو كربونات الصوديوم، ومنه يصنع الصابون الذي يستطيع تنظيف الملابس - والأشنان والنطرون مستعملان هنا بالمعنى المجازي، للدلالة على أن الخطيئة لا تستأصل بأية وسيلة من الوسائل البشرية.

وكان حزقيال النبي يقول عنهم إنهم لم يطهروا ولن يطهروا (24: 13). وكان داود النبي يصرخ لله قائلاً إغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيتي طهرني (مزمور 51: 2) - لكن هذا التطهير الذي كانوا يتوقون إليه، ويرون الحصول عليه أمراً بعيد المنال، قد تحقق بفضل كفاية كفارة المسيح. فقد قال الرسول بالوحي عن المسيح إنه صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا (عبرانيين 1: 3). وأنه أحبنا وغسلنا من خطايانا بدمه (رؤيا 1: 5) الغسل هنا يُراد به المعنى المجازي. والمراد بالآية المذكورة أن كفارة المسيح تزيل كل أثر للخطيئة عن المؤمنين الحقيقيين، وإن دمه يطهر من كل خطية (1 يوحنا 1: 7). وإننا اغتسلنا بل تقدسنا بل تبررنا باسم الرب يسوع وروح إلهنا (1 كورنثوس 6: 11).

(د) الصلح والسلام مع الله

كان أيوب الصديق يبحث عن شخص خال من الخطيئة وفي الوقت نفسه قادر على إيفاء مطالب عدالة الله، حتى يستطيع أن يصالحه معه، لكنه لم يعثر على هذا الشخص إطلاقاً. ولذلك قال يائساً ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا، ليرفع عني عصاه ولا يبغتني رعبه (أيوب 9: 33 - 34). وكان إرميا النبي يقول إنه ليس سلام للبشر (12: 12). وكان إشعياء النبي يطلب من الله أن يجعل له ولغيره سلاماً (26: 12). غير أن الصلح والسلام مع الله اللذين كان يتوق هؤلاء الأفاضل إليهما ويرون الحصول عليهما أمراً متعذراً، قد تحققا بفضل كفاية كفارة المسيح. فقد قال بولس الرسول بالوحي فإذ قد تبررنا بالإيمان، لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح (رومية 5: 1 - 2). وقال أيضاً نفتخر.. بالله بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به الآن المصالحة (رومية 5: 11). ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح (2 كورنثوس 5: 18 - 21). وأيضاً إن الله صالح الكل لنفسه بالمسيح، عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته (كولوسي 1: 20 - 22).

(ه) الخلاص من الدينونة الأبدية

كان أتقى الناس قديماً يخشون الموت، ويبكون بكاء مرّاً إذا عرفوا باقترابه منهم (2 ملوك 20: 3). لأنهم كانوا يخشون الوقوف أمام عدالة الله (مزمور 143: 2) ويفزعون من الوقائد الأبدية التي قضي بها (إشعياء 33: 14). لكن بفضل كفاية كفارة المسيح، أصبحنا لا نخشى الدينونة، بل ونثق كل الثقة أن لنا امتياز التمتع بالله في سمائه إلى الأبد. فقد قال المسيح إن من يؤمن به لا يدان أمام العدالة الإلهية (يوحنا 3: 18)، والذي يؤمن بالذي أرسله فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. وإن من يؤمن بالابن تكون له الحياة الأبدية، ويقيمه الابن في اليوم الأخير (يوحنا 6: 40). وقال بولس الرسول بالوحي عن الخلاص من هذه الدينونة حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه، لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا (تيطس 3: 5). وقال أيضاً لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان، وذلك ليس منكم، هو عطية الله (أفسس 2: 8). وقال عن نفسه إن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا (1 تيموثاوس 1: 12 - 15).

ثانياً - البركات الباطنية

عرفنا في الباب الثاني أننا لا نحتاج إلى غفران فحسب، بل ونحتاج أيضاً إلى حياة روحية تؤهلنا للتوافق مع الله في صفاته السامية، لأننا إذا حصلنا على الغفران دون هذه الحياة، ننجو من الدينونة الأبدية لكن نظل عاجزين عن التوافق مع الله، والعجز عن التوافق مع الله هو الشقاء بعينه. لذلك لم تقف نتائج كفارة المسيح عند حد منح البركات الخارجية السابق ذكرها، بل منحت أيضاً بركات باطنية تهيّء النفس للتوافق مع الله في صفاته المذكورة، وهذه البركات هي:

(ا) الولادة الروحية من الله

ولكي نعرف شيئاً عن ضرورة هذه الولادة وماهيتها وأهميتها، نتحدث عن النقاط الآتية.

1 - عجز الوسائل البشرية عن إصلاح النفس: اتضح لنا في الباب الثاني عجز الأعمال الدينية (مثل الصوم والصلاة والتوبة الصادقة) عن قصاص الخطيئة عن الخطاة، وأيضاً عن تأهيلهم للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية. وسنرى الآن أن محاولات رجال الإصلاح الإجتماعي في القضاء على الخطيئة قد باءت بالفشل كذلك:

قال فريق من هؤلاء الرجال أن الفقر والجهل والفراغ وثورة الشباب هي العوامل التي تقود إلى ارتكاب الخطيئة، لأنهم رأوا أن الفقير ينقاد إليها للحصول على لقمة العيش، والجاهل لعدم تقديره للعواقب، والعاطل لعدم استطاعته البقاء بلا عمل، والشباب لتهوره واندفاعه. ولذلك سعوا لتوفير المال اللازم للفقراء، والعلم للجهلاء، والعمل للعاطلين، والتهذيب للمراهقين. لكن هذه الوسائل (كما أثبت الإختبار) لا تجدي في التحول عن الخطيئة، لأن كثيرين من الأغنياء والمثقفين وأصحاب الأعمال والأشخاص الذين فاتوا دور الشباب، يرتكبون الكثير من الآثام والموبقات مثل غيرهم من الناس.

وقال فريق ثان إن العقاب البدني كفيل بتحويل الأشرار عن شرهم، ولذلك أمروا بمعاقبتهم إما بالسجن أو الجلد أو الأشغال الشاقة - لكن هذه الوسائل (كما أثبت الإختبار) لا تجدي أيضاً، إذ أنها تجعل الأشرار يعمدون إلى ابتكار طرق جديدة يخفون بها معالم جرائمهم، ومن ثم يتمادون في ارتكابها دون أن يكتشف أحد أمرهم. ولو فرضنا جدلاً أنهم أقلعوا عنها لسبب من الأسباب، فإن الميل إليها أو إلى بعضها قد يظل متأججاً في نفوسهم، ومن ثم يظلون أشراراً كما كانوا من قبل.

وقال فريق ثالث إن للدين سلطاناً عظيماً على الناس إذا نشأوا عليه منذ نعومة أظفارهم. ولذلك جعلوا تعليم الدين إجبارياً في المدارس، وأوصوا بتدريب الأطفال على حفظ الكثير من النصوص الدينية، لا سيما الخاصة منها بعظمة الله ووجوب الطاعة له - ولكن ألا يرتكب رجل الدين الذي نشأ منذ طفولته نشأة دينية بحتة نفس الخطايا التي يرتكبها غيره من الناس، وهكذا يفعل التربوي والأخصائي الإجتماعي، حتى إذا بلغ الستين تقريباً من عمره؟

2 - أسباب فشل الوسائل المذكورة في إصلاح النفس: (ا) إن السبب في فشل هذه الوسائل في تحويل البشر عن الخطيئة، يرجع إلى أن الميل إليها ليس أمراً عرضياً فيهم بسبب ظروفهم أو حالة المجتمع الذي يعيشون فيه، حتى لو كان من الممكن إزالته بواسطة هذه الوسائل،بل إنه نابع من ذات طبيعتهم. وهذه الطبيعة لا تتغيّر على الإطلاق، مهما تطبَّع المرء بطباع جديدة، لأن الطبع (كما يقولون) يغلب التطبُّع. فالوحوش المفترسة (مثلاً) وإن كان قد أمكن تدريبها على القيام بالأعمال التي يتطلبها مروضوها، لكنها كثيراً ما تنقضّ عليهم وتفتك بهم. وهكذا الحال من جهة البشرية، فإنه من الممكن تهذيبها، وقد تهذَّبت فعلاً حسب الحال الظاهر وأصبح الإنسان المتحضر أفضل من إنسان الغابة كثيراً، لكن الطبيعة التي في كليهما هي طبيعة واحدة.

نعم إن الإنسان المتحضر يتسامى أحياناً فوق الخطيئة تحت تأثير عوامل دينية أو إجتماعية، ولكن تسامياً مثل هذا لا يكون في الواقع إلا تصرفاً صناعياً، لأنه ضد الطبيعة وميولها. أما التسامي الحقيقي فهو التسامي الطبيعي (ومثله مثل ارتفاع الأبخرة في الهواء، لأنها بطبيعتها أقل وزناً منه)، ولا يكون هذا التسامي طبيعياً. إلا إذا حصل المرء على طبيعة جديدة يكون السمو (وليس التسامي فقط) من شأنها. وهذه الطبيعة لا يتيسر للمرء الحصول عليها بمجهوده الشخصي أو بمجهود غيره من الناس له (وذلك للقصور الذاتي الكامن فيه وفيهم معاً)، بل الله وحده هو الذي يستطيع أن يمنحها لمن يتهيئون لها، إذ أنه تعالى هو الخالق لكل الأشياء سواء أكانت مادية أم روحية.

(ب) وقد أدرك رجال الله مثل أيوب وإرميا عجز البشر عن إصلاح نفوسهم، فقال الأول متسائلاً من يخرج الطاهر من النجس؟ ثم أجاب عن هذا التساءل فقال: لا أحد أو بالحري لا أحد من البشر (أيوب 14: 4). وقال الثاني هل يغير الكوشي (أي الحبشي أو الزنجي) جلده أو النمر رقطه؟! (الجواب طبعاً كلا). فأنتم أيضاً (هل) تقدرون أن تصنعوا خيراً أيها المتعلمون الشر أو بالحري المطبوعون عليه؟ (إرميا 13: 23). وقال بولس الرسول عن طبيعته البشرية ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت (رومية 7: 24). كما أدرك ذلك كثير من الفلاسفة والعلماء، فقال أفلاطون ليس هناك تدرج من الشر إلى الخير ، أو بتعبير آخر إن الشرير لا يمكن أن يتدرج من تلقاء ذاته حتى يصبح خيّراً. وقال أرسطو أني عاجز كل العجز عن إصلاح النفوس البشرية وتحويلها إلى خيّرة . وقال ولسن إن العلم أخفق في تحقيق الإصلاح الأولي وتوفير الفردوس الأرضي للناس. حقاً لقد أفادهم من الناحية المادية وحررهم من الخرافات وأنقذهم من الأمراض، ولكنه فشل في تغيير الطبيعة البشرية وتخليصها من الأدران الكامنة فيها مثل الحقد والضغينة . وقال أيضاً إن علم الأخلاق عجز عن اقتلاع الميل إلى الشر من النفس وغرس الميل إلى الخير عوضاً عنه فيها . وقال بيتشر ضع ما يروق لك على حمار وحشي. ضع لجاماً من ذهب في فمه، وسرجاً من دمقس على ظهره. هل هذا يغير من طبيعته؟! زيّنه بكل زينة في الوجود، فهل يخرجه هذا من وحشيته؟ هكذا الطبيعة البشرية لا يمكن تغييرها، مهما بذل معها رجال الدين والإصلاح من جهود . وقال سينيكا إن الناس يكتنفهم شعور غامض بضعفهم وعجزهم إزاء التقدم الأدبي. فهم يكرهون رذائلهم ومع ذلك ينجذبون إليها. فما يحتاجون إليه هو أن توضع يد تحتهم لكي ترفعهم إلى أعلى ، وهذه اليد لا تكون طبعاً إلا يد الله.

(ج) وإذا كان الأمر كذلك، فإن رجال الدين والإصلاح الإجتماعي الذين ذكرنا محاولاتهم في البند الأول، لا يشبهون إلا جماعة من الناس رأوا شخصاً مشرفاً على الغرق، فأخذوا يصيحون نحوه قائلين (مثلاً): لقد أخطأت بذهابك إلى البحر، وكان من الواجب عليك أن لا تخاطر بحياتك، طالما أنت لا تحسن السباحة. أما وقد بلغ بك الأمر إلى هذا الحد، فعليك أن تجاهد وتكافح ولا تدع الماء يتسرب إلى جوفك، حتى لا تتعرض للغرق - فهل لذاك اللوم أو هذا النصح من فائدة؟! طبعاً لا. لأن ما يجب عمله في هذه الحالة هو إنقاذ المشرف على الغرق أولاً، ثم توجيه اللوم والنصح إليه بعد ذلك. وهذا ما تفعله المسيحية مع الخاطئ، فهي لا تطلب منه مبدئياً أن يحيا حياة القداسة والطهارة، بل أن يُقبل بكل قلبه إلى المسيح الفادي، وحينئذٍ لا تُغفر له خطاياه فحسب، بل وينال أيضاً من الله طبيعة روحية تؤهله للإرتقاء فوق الطبيعة الخاطئة الكامنة فيه، وبذلك يستطيع تنفيذ كل وصايا الله على أحسن وجه - وهذا العمل هو ما يسمى الولادة من الله .

3 - ماهية الولادة من الله (ا) فهذه الولادة ليست إذاً إصلاح الطبيعة البشرية العتيقة بواسطة الصوم والصلاة أو الوعظ والإرشاد، أو هي بدء صفحة جديدة في الحياة بواسطة التوبة عن الخطيئة ومحاولة الإبتعاد عنها، أو الإنضمام إلى جماعة دينية ومزاولة بعض النشاط الديني أو الأدبي بينها، أو دراسة الكتب المقدسة والسعي للعمل بما جاء فيها (وإن كانت هذه كلها أموراً طيبة في حد ذاتها)، بل إن الولادة من الله هي حصول المرء من الله على طبيعة روحية تؤهله للتوافق معه في صفاته السامية.

(ب) وقد أشار الرسل إلى الولادة المذكورة فقالوا وأما كل الذين قبلوه (أي قبلوا المسيح) فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه. الذين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل، بل من الله (يوحنا 1: 12 و 13) ليس من دم أي ليس من سلالة أو جنس ما. ولا من مشيئة جسد أي ليس بواسطة المجهود الجسدي أو الذاتي. وليس من رجل أي ليس بواسطة التفاعل الطبيعي أو بواسطة رجل من رجال الدين مثلاً، وقالوا أيضاً: كل من يؤمن (إيماناً حقيقياً) أن يسوع هو المسيح، فقد وُلد من الله (1 يوحنا 5: 1). وأيضاً إن الله ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات (1 بطرس 1: 3). وإنه شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه (يعقوب 1: 18). وإن المؤمنين (الحقيقيين) وُلدوا ثانية، لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى، بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد (1 بطرس 1: 23) وإن الله وهبهم كل ما هو للحياة والتقوى لكي يصيروا شركاء الطبيعة الإلهية (الأدبية) هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة (2 بطرس 1: 3 و 4). وقد نبّه السيد المسيح من قبل إلى ضرورة هذه الولادة، فقال لأحد كبار معلمي اليهود: المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح. لا تتعجب أني قلت لك: ينبغي أن تولدوا من فوق (يوحنا 3: 6 - 7).

(ج) والولادة من الله يعبر عنها أيضاً بالخليقة الجديدة. فقد قال الرسول إذاً إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً (2 كورنثوس 5: 17). كما قال عن نفسه وعن المؤمنين لأننا نحن عمله (أي عمل الله) مخلوقين (مرة ثانية) في المسيح يسوع، لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها، لكي نسلك فيها (أفسس 2: 10).

(د) فالولادة من الله ليست وهماً أو بعض وهم (كما يظن بعض الناس)، بل هي حقيقة واقعة، لها الأدلة الكافية على وجودها. وقد اهتم كثيرون من علماء النفس بدراستها لا سيما في الأشخاص الذين كانوا يرتكبون الجرائم ويدمنون المخدرات من قبل، فهالهم أمرها واعترفوا بأحقية وجودها. فالأستاذ دراموند عندما رأى آثارها في الأشخاص المذكورين، اقتنع بوجودها ووصفها وسجل نتائجها في كتبه. والعلامة ستوربوك عندما درس نتائج هذه الولادة، أسندها إلى حدوث تغيير عظيم في النفس. والأستاذ بروننج وجد أن الولادة المذكورة لا تتم في النفس بالتدريج، بل دفعة واحدة. وقال الأستاذ جويت: إن الولادة الثانية لا تخضع لنواميس العلاج النفسي بل لناموس آخر، هو ناموس الله . وقال الأستاذ سافينارولا إن الولادة من الله تبعث في النفس حياة خلاقة لأنه وجد المولودين من الله يحيون حياة روحية سامية لا يستطيع سواهم أن يحياها.

4 - ضرورة الولادة الجديدة: (ا) إن نفس الإنسان ليست مريضة فقط بالخطيئة حتى كان يكفيها علاج ما، لكنها ميتة بالخطيئة، إذ أن هذه سيطرت عليها تماماً. ومن ثم فإنها تحتاج قبل كل شيء إلى حياة روحية. وهذه الحياة هي التي أتى المسيح إلى العالم ليمنحها لنا. فقد قال عن نفسه: أما أنا فقد أتيت (لا لكي أعظ أو أعلم أو أرشد أو أعمل معجزات، وإن كان قد قام بهذه الأعمال خير قيام)، بل أتيت لتكون لهم حياة. ويكون لهم أفضل (يوحنا 10: 10).

وهذه الحياة ليست قوة أدبية (كما يظن بعض الناس)، بل هي حياة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، مثلها في ذلك مثل الحياة التي تدب في الميت فينهض من رقاده ويقوم بما أراد من أعمال. ومن ثم فبواسطتها يصبح الميت بالذنوب والآثام شخصاً روحياً يستطيع بنعمة الله الإرتقاء فوق كل الخطايا، كما يستطيع التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية. والرسول الذي اختبر هذه الحياة في نفسه قال: لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت . (رومية 8: 2).

ومن ثم فكما أنه بالولادة من آبائنا وأمهاتنا نحصل على صفاتهم وخصائصهم، ونبدأ حياتنا على الأرض معهم، ويكون لنا أيضاً حق التمتع بهم وبكل ما لديهم من خير (إن كان لديهم خير)، هكذا الحال من جهة الولادة من الله، فإن بها دون غيرها نحصل على طبيعته الأدبية، فتبدأ علاقتنا الحقيقية معه، ونستطيع التمتع به في كل أمجاده.

(ب) مما تقدم يتضح لنا أنه كما أن الطبيعة أوصدت بابها بين مملكتي الجماد والحيوان، فلا يمكن أن ينتقل جماد من حالة الجمود إلى الحياة، كذلك لا يمكن للميت بالخطايا والذنوب أن يكّون بنفسه الحياة الروحية المذكورة، مهما بذل من مجهود. ولذلك فعلى من يريد الحصول عليها أن يتجه بقلبه إلى الله مباشرة مؤمناً إيماناً حقيقياً بالمسيح، فيمنحه الله إياها كما ذكرنا. أما من يكتفي بما يقوم به من الأعمال التي تُدعى الصالحة لكي يستر خطاياه، فمثله مثل شخص يحاول القضاء على رائحة ميت، مهما أكثر من تعطيره، لا يمكن أن يجعل الميت حياً. أو مثل شخص يصنع زهوراً، لكن مهما أتقن صناعتها فلا يمكن أن يجعلها تبعث من تلقاء ذاتها رائحة زكية.

(ب) الحصول على الروح القدس

1 - العلاقة بين حلول الروح القدس وكفارة المسيح: كان الروح القدس، أو بالحري روح الله، يحل على الأنبياء قديماً في أوقات خاصة لكي يبلغهم أقوال الله. ولكنه لم يسكن في واحد منهم، لأن الخطيئة لم تكن قد أُزيلت عنهم من أمام الله بعد. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة فقال عن الروح القدس: إنه لم يكن قد أُعطي بعد. لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد (يوحنا 7: 39). ولكن لما تمجد المسيح بالقيامة من الأموات والصعود بعد ذلك إلى السماء، على أساس كفاية كفارته، حلّ الروح القدس على تلاميذه وسكن فيهم (أعمال 2)، بناء على وعد المسيح السابق لهم (أعمال 1: 4). ومن هذا الوقت إلى الآن وهو يحل في المؤمنين الحقيقيين. فقد قال الرسول لهم: إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس (أفسس 1: 13)، كما قال لهم: إنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم (1 كورنثوس 3: 16).

2 - تهيئة المؤمنين الحقيقيين للصلاة: ذكرنا في الباب الثاني أن البشر بسبب قصورهم الذاتي لا يستطيعون أن يرفعوا من تلقاء أنفسهم الصلاة المقبولة أمام الله. ولكن بفضل سكنى الروح القدس فيهم تكون لهم القدرة على القيام بهذه الصلاة، لأنه يسمو بنفوسهم إلى حالة الشركة مع الله، كما يعلن لهم مشيئته من نحوهم. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة فقال لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي (بسبب عجزنا الطبيعي). ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها. ولكن الذي يفحص القلوب يعرف ما هو اهتمام الروح، لأنه بحسب مشيئته يشفع في القديسين (رومية 8: 26 ، 27).

3 - تعليمه للمؤمنين الحقيقيين وإعطاؤهم الغلبة على الخطيئة. فقد قال المسيح لتلاميذه عن الروح القدس إنه يعلّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم - (يوحنا 14: 26). وقال الرسول للمؤمنين عنه وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه (أي من الله) ثابتة فيكم ولا حاجة بكم أن يعلمكم أحد (شيئاً من أموره تعالى). بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء (1 يوحنا 2: 27).

ونظراً لأن هذا الروح هو روح الله، فإنه يعطيهم الغلبة على الخطيئة. فقد قال الرسول للمؤمنين إنهم بالروح القدس يميتون أعمال الجسد (رومية 8: 13). فضلاً عن ذلك فإنه عندما يسود عليهم يربطهم بالله ويطبعهم بطابعه السماوي المقدس. ومن ثم ينظم تفكيرهم، ويهيئهم للسير في طريق الله في كل حين، فيسيرون في طريقه، كما تسير الكواكب في أفلاكها بانتظام، بسبب الجاذبية الكائنة بينها وبين غيرها من الكواكب والنجوم.

(ج) النبوة لله

هناك فرق لا حد له بين بنوة المؤمنين الحقيقيين لله وبين بنوة المسيح الفريدة له. فهؤلاء المؤمنون يُعتبرون أبناء لله بالنعمة، من وقت إيمانهم بالمسيح إيماناً حقيقياً فحسب. أما المسيح فهو ابن الآب بالحق والمحبة منذ الأزل (2 يوحنا 3). ولذلك فإنه دون سواه هو ابن الله الوحيد (يوحنا 1: 18).

1 - كان إرميا النبي يبحث قديماً عن كيفية الحصول على هذا الإمتياز الثمين، لكنه رأى استحالة بلوغه بالمجهود الذاتي، فتساءل قائلاً: كيف أضعك (أيها الإنسان) بين البنين؟ (إرميا 3: 19). لكن هذا الإمتياز الذي كان إرميا يرى استحالة حصول الإنسان عليه لقصوره الذاتي، قد تحقق فعلاً بفضل كفاية كفارة المسيح وعمله الروحي في قلوب المؤمنين الحقيقيين. ولذلك قال الرسل لهؤلاء المؤمنين: بما أنكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً (أو هاتفاً) يا أبا الآب (غلاطية 4: 6). وكلمة أبا كلمة سريانية معناها آب . ونظراً لشيوع استعمالها في نشأة المسيحية، سجلت كما هي في الكتاب المقدس، وسجل بعدها معناها باللغة المترجم إليها. ولذلك فإن هذه الآية تقرأ فقط صارخاً أيها الآب .

وقالوا أيضاً لهم: أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب. الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً، ورثة الله، ووارثون مع المسيح (رومية 8: 15 ، 16 ، 17). والمراد بوراثة الله أن يكون تعالى هو النصيب الأبدي للمؤمنين الحقيقيين، لأن هؤلاء لا يشتهون التمتع بأمجاد السماء (وإن كانت هذه ثمينة وغالية)، بل يشتهون التمتع بالله ذاته، فهو لديهم أعظم من هذه الأمجاد بما لا يقاس.

وأيضاً أنظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله (1 يوحنا 3: 1). وأيضاً: فلستم بعد غرباء ونزلاً بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله (أفسس 2: 19).

2 - والحق أن جعل الله إيانا أولاداً له، هو أعظم إحسان أنعم علينا به، على أساس كفاية كفارة المسيح. فهو لم يتبنانا لنفسه كما يتبنى إنسان بعض الأطفال، بل ولدنا بروحه معطياً إيانا طبيعته الأدبية السامية. وهذا هو الإحسان الذي لا يستطيع أحد في العالم أن يجود بمثله. لأننا نرى أنه إذا أراد إنسان كريم الخلق أن يتبنى لنفسه غلاماً مطبوعاً على الشر (مثلاً)، فإنه يعامله بكل عطف ولطف، ويرسله إلى أرقى المدارس والمعاهد، ويقدم له أفخر الملابس والأطعمة، ويوفر له كل أسباب الراحة والهناء. لكن مهما أوتي من حكمة وكرم لا يستطيع أن يلد الغلام المذكور مرة ثانية (أو بالحري لا يستطيع أن يولد فيه ذات الأخلاق الكريمة التي يتمتع هو بها)، لذلك فإن هذا الغلام وإن كان يتثقف ذهنياً وظاهرياً، غير أنه يظل بنفسيته الشريرة التي طُبع عليها - لكن ما لا يستطيع البشر قاطبة أن يعملوه، قد عمله الله في نفوسنا بولادتها منه.

3 - إن رجال الإصلاح الإجتماعي الذين تأثروا بالخراب الذي يحل بالبشر بسبب الحروب، يتجهون في الوقت الحاضر إلى إزالة الفوارق بين البشر حتى يصيروا شعباً واحداً متآلفاً، يحب كل فرد فيه غيره كما يحب نفسه. وما أسمى هذا الفكر وما أنبله!! لكن هل من الممكن تحقيقه بدون ولادة البشر من الله ولادة جديدة؟ طبعاً كلا، لأن هذه الولادة هي التي تجعلهم فعلاً أولاداً لله، وإخوة بالروح بعضهم لبعض.

(د) الحياة الأبدية والصلة الحقيقية بالله

1 - الحياة الأبدية: الحياة الأبدية ليست هي التمتع بالله بعد الإنتقال من العالم الحاضر كما يظن بعض الناس، بل هي الحياة الروحية التي يهبها الله للمؤمنين الحقيقيين بمجرد إيمانهم في هذا العالم. فقد قال المسيح هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له (الآن) الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16). وإن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله (الآن) حياة أبدية (يوحنا 5: 24). وقال الرسول إن الله أعطانا (الآن) حياة أبدية، وهذه الحياة هي في ابنه. من له الابن له (الآن) الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة (1 يوحنا 5: 11). والحياة الروحية التي يتمتع بها المؤمنون الحقيقيون في العالم الحاضر، ستظل فيهم إلى الأبد مؤهلة إياهم للتمتع بالعلاقة السامية مع الله إلى ما لا نهاية. فكل من لا يحصل على هذه الحياة في الوقت الحاضر، سوف لا تكون له حياة مع الله بعد انتقاله إلى رحابه، لأنه كما يكون الإنسان في هذا العالم، سيكون كذلك في الأبدية.

2 - الصلة بالله: إن الأنبياء قديماً لم يكن في وسعهم الهروب من دينونة الله، فعندما ظهر الله لموسى صرخ في الحال أنا مرتعب ومرتعد (عبرانيين 12: 21). وعندما ظهر لإشعياء صرخ قائلاً ويل لي إني هلكت (إشعياء 6: 5). ولكن بفضل كفاية كفارة المسيح أصبح للمؤمنين الحقيقيين امتياز الدنو من الله منذ الآن للتمتع به وبأمجاده. ولذلك قال الرسول فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع... لنتقدم بقلب صادق (عبرانيين 10: 19 - 22). وقال أيضاً فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه (عبرانيين 4: 16). وأيضاً إن بالمسيح لنا قدوماً إلى الآب (أفسس 2: 18). لأننا بعدما كنا بعيدين عنه صرنا قريبين منه بفضل كفارة المسيح (أفسس 2: 13).

(ه) الإتحاد الروحي بالمسيح وإدراك الحقائق الروحية

1 - الإتحاد الروحي بالمسيح: فقد قال الوحي عن المؤمنين الحقيقيين إنهم بواسطة إيمانهم الحقيقي بالمسيح وسكنى الروح القدس فيهم تبعاً لذلك، أصبحوا بمثابة أعضاء جسد المسيح من لحمه ومن عظامه (أفسس 5: 30)، وأصبح المسيح بمثابة الرأس لهم (كولوسي 1: 18). فضلاً عن ذلك، فإنه يحيا فيهم (غلاطية 2: 20)، ويكون حياتهم (كولوسي 3: 4). وكما يكون فيهم، كذلك يكونون هم أيضاً فيه (يوحنا 15: 4 ، 17: 23) - واتحاد المؤمنين الحقيقيين بالمسيح واتحاد المسيح بهم يكسبهم صفاته السامية، ومن ثم يستطيعون بنعمته أن يعيشوا على الأرض كما عاش، بكل قداسة وطهارة.

2 - إدراك الحقائق الروحية: إن الإنسان الطبيعي، مهما سمت حكمته الذاتية لا يستطيع فهم أمور الله، لأن هذه تفوق العقل والإدراك. لكن عندما يؤمن إيماناً حقيقياً، يتولد لديه إدراك واضح لهذه الأمور بواسطة عمل الروح القدس في نفسه. فقد قال بولس الرسول لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح (2 كورنثوس 4: 6). وقال أيضاً لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر، ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون، بل نتكلم بحكمة الله في سر. الحكمة المكتومة التي سبق الله فعيّنها قبل الدهور لمجدنا... (لأن) أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله، ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله... ولكن الإنسان الطبيعي (بسبب الخطيئة المسيطرة عليه) لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة... وأما الروحي فيحكم في كل شيء وهو لا يُحكم فيه من أحد، لأنه من عرف فكر الرب فيُعلّمه، وأما نحن فلنا فكر المسيح (1 كورنثوس 2: 6 - 16).

من الأبواب السابقة يتضح لنا (أولاً) أن المسيح احتمل دينونة خطايانا وعارها نيابة عنا، وأنه على هذا الأساس تهاطلت علينا إحسانات الله بكرم لا حد له. وبذلك سار عدل الله في مجراه إلى النهاية، كما سارت رحمته في مجراها إلى النهاية أيضاً، وفي هذا التصرف يتجلى لنا كمال الله المطلق وتوافق جميع صفاته معاً. وقد رأى داود النبي بالوحي هذا التصرف السامي العجيب فصاح متهللاً الرحمة والحق (أي والعدل) التقيا. البر (أي الإستقامة أو العدل) والسلام تلاثما (مزمور 85: 10). نعم وكان لا بد أن يلتقيا وكان لا بد أن يتلاثما كذلك، لأن صفات الله جميعها كما نعلم كاملة ومتوافقة. لكن هل كان من الممكن أن يلتقي عدل الله ورحمته معاً وأن يتلاثما أيضاً، بدون كفارة المسيح؟ طبعاً كلا. ولما كان الأمر كذلك، صاح الرسول قائلاً تملك النعمة (أي الرحمة والمحبة) بالبر (أي بالعدل والحق) للحياة الأبدية بيسوع المسيح ربنا (رومية 5: 21)، أو بتعبير آخر إن رحمة الله لها الآن أن تشمل جميع المؤمنين الحقيقيين، فتمتعهم بكل البركات السابق ذكرها، دون أن يكون في ذلك إجحاف بحقوق عدالته. بل إن عدالته نفسها تشترك مع رحمته في منحهم هذه البركات، لأنه تم إيفاء كل مطالبها من جهتهم.

(ثانياً) إن الله تمجد بالكفارة أكثر مما لو كان قد طرح جميع البشر في جهنم إلى الأبد بسبب عجزهم عن إيفاء مطالب عدالته وقداسته. وللإيضاح نقول: لنفرض أن رجلاً ثرياً نهبت ثروته، وبالقبض على اللصوص وجد أنهم بدّدوا هذه الثروة عن آخرها، فإن كل ما يمكن عمله في هذه الحالة هو معاقبتهم، لكن الثروة لا يمكن استردادها. أما الله فقد استطاع بالكفارة أن يستردنا نحن الذين ضللنا، وإن يمنحنا ليس فقط حياة الإستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطيئة، بل حياة أفضل منها بما لا يقاس، لأنها الحياة الأدبية الخاصة به تعالى. ومن ثم (إن جاز التعبير) نقول: إن الله أحرز بالكفارة فوزاً عظيماً ونصراً مبيناً

 

الصفحة الرئيسية