الفقرات التي فقدت من القرآن

 

1-التدوين الغير الكامل للمصحف.

لقد رأينا من قبل أنه بعد مقتل عدد كبير من القراء في معركة اليمامة ذهب جزء من القرآن كان لا يعلمه إلا هؤلاء. هناك أيضا عدد من الروايات الصحيحة توضح أن آيات منفردة و أحيانا مقاطع كاملة فقدت من القرآن. لقد أجمع المؤرخون المسلمون القدامى على أن القرآن في حالته الراهنة غير مكتمل : "قال أبوعبيد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله قد ذهب قرآن كثير ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر‏.‏ " ( (السيوطي-الإتقان في علوم القرآن)

كثيرة هي الأمثلة التي يمكن سردها لكن سنكتفي في استدلالنا على الأمثلة المشهورة فقط. حيث نبدأ بمثال متميز يتعلق بآية كانت تقرأ كالتالي :"وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيرًا فلن يكفره" (السيوطي-الإتقان في علوم القرآن)

ورد في كتاب التفسير للترمذي (هذا الكتاب جزء من الجامع الصحيح الذي يُعتبر واحدا من كتب الحديث الستة الصحيحة كصحيح البخاري و صحيح مسلم و سنن أبي داود و النسائي و بن ماجة) أن هذه الآية كانت في وقت ما تشكل جزء من سورة البينة (السورة 98) (Noeldecke, 1.242). هذا الأمر جد محتمل لأن الآية تنصهر جيدا في سياق هذه السورة القصيرة التي تحوي بعض الكلمات الموجودة من النص المفقود ك "دين" (الآية 5) و "عمل" (الآية 7) و "حنفاء" (الآية 4) و تبرز معارضة دين الله لمعتقدات اليهود و النصارى.

من المهم أن نشير هنا إلى أن الآية في شكلها الحالي تُقرأ كالتالي : "إن الدين عند الله الإسلام" في حين كان بن مسعود يستعمل كلمة "الحنيفية" مكان كلمة "الإسلام" (1) (Jeffery, Materials,p.32) و هذا ما يوافق ما ذكره الترمذي بخصوص السورة 98. وقت بدأ محمد دعوته كان أناس ينكرون عبادة الأصنام و يسمون أنفسهم "حنفاء" أي الذين يتبعون الطريق المستقيم و يحتقرون المعتقدات السائدة آنذاك.

من المحتمل أن يكون محمد قد سمى دينه "الحنيفية" في بداية الأمر و لما صارت لهذا الدين هوية خاصة غير إسمه ليصبح الإسلام و صار يسمي أتباعه "المسلمين" اي أولئك الذين لم يكونوا فقط يتبعون الطريق المستقيم بل كانوا في نفس الوقت يسلمون أنفسهم لله الذي أوحى هذا الطريق المستقيم و أمر باتباعه. هذا هو ما يفسر سقوط هذه الكلمة (الحنيفية) من القرآن و فقدان الآية التي تحدثنا عنها سابقا.

يذكر البيهقي في "السنن الكبرى" (2) مقطعا كاملا قيل إنه فُقد من القرآن حيث روى أن أبي بن كعب تذكر أنه في وقت من الأوقات كانت سورة الأحزاب بنفس طول سورة البقرة يعني أنها كانت تحوي على الأقل 200 آية لا توجد في النص الحالي (البيهقي-السنن الكبرى-الجزء 8-ص 211) (3). من المهم أيضا أن نذكر أن هذا المقطع المفقود كان يحوي آية الرجم كما سنرى قريبا. هناك أدلة إضافية على فقدان سور بأكملها من المصحف الحالي. يروى أن أبا موسى الأشعري (4) كان يقول لقراء البصرة : "حدثني سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن داود عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه قال ثم بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن فقال أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فأتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف بن آدم إلا التراب" (صحيح مسلم- جزء 2-ص 726-رقم 1050).

الآية التي ذكرها مسلم هي بالفعل إحدى النصوص المعرفة التي فُقدت من القرآن التي سنتطرق لها لاحقا. يضيف أبو موسى : "كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ما نسناها غير أني حفظت منها‏:‏ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون‏:‏ فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة" (انقر هنا) (السيوطي-الإتقان في علوم القرآن).

الرواية المذكورة هنا مستقاة من حديث صحيح مسلم الذي عرضناه سابقا. المسبحات هي السور التي تبدأ ب "يٌسبح" أو "سبح" "لله ما في السموات و الأرض". الكلمات التي تحويها الآية الأولى التي ذكرها أبو موسى هي نفسها التي توجد بالآية 2 من سورة الصف (5) في حين يشبه النص الثاني الآية 13 من سورة الإسراء (6) و هذا ما يفسر لمذا تذكر أبو موسى هاتين الآيتين بالذات.

اعتمادا على هذه الأدلة وجب على العلماء المسلمين الذين يزعمون أن نص القرآن الحالي هو نفس النص الذي صدر عن محمد دون زيادة أو نقصان, أن يعترفوا أن الشيء الكثير قد فُقد منه. بعض هؤلاء العلماء يلجأ إلى طريقة سهلة و موالمة و يعلن بكل ببساطة أن هذه الروايات ضعيفة (7) و البعض الآخر لا ينكر صحتها (8) لكن يقدم جوابا مغايرا باعتبار أن الله نفسه قد نسخ هذه الآيات حين كان محمد لا زال يتلقى الوحي منه و كان القرآن في طور النشوء. سنتطرق الآن للرد على هذا الزعم المغلوط.

 


(1) الحنيفية تعني الصراط المستقيم

(2) مجموعة احاديث لا تحسب على الصحاح لكن لا تخلو من أهمية و هي شائعة الإستعمال عند المسلمين السنة

(3) " قال لي أبي بن كعب رضي الله عنه كأين تعد أو كأين تقرأ سورة الأحزاب قلت ثلاث وسبعين آية قال أقط لقد رأيتها وإنها لتعدل سورة البقرة". و قد ورد هذا الحديث كذلك في المستدرك على الصحيحين للحاكم-دار الكتب العلمية بيروت-1990- الجزء 4 ص 400 قال الحاكم "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " يعني البخاري و مسلم.

(4) أحد صحابة محمد و كان ذا معرفة كبيرة بالقرآن.

(5) " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ"

(6) وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا

(7) رغم أنها تطابق معايير الصحة كما تعرفها كتب الحديث و الجرح و التعديل و علم الرجال.

(8) لكي لا يتحمل النتائج المنطقية التي تنتج حتما عن ذلك النكران.

 

2- الآية المفقودة المتعلقة بطمع بني آدم

لقد سبق لنا أن استشهدنا بحديث صحيح مسلم عن الآية المتعلقة بطمع بني آدم التي مفادها أن الإنسان مهما أعطي من الثروة فهو لا يقنع بل يطمع في أكثر. هذا الحديث القائل بأن الآية المذكورة كانت في وقت ما جزأ من القرآن شهرته تبرهن على أن أساسه صحيح. لقد أورد السيوطي في إتقانه عددا لا يستهان به من الأحاديث التي تذكر هذه الآية و منها :

"عن أبي واقد الليثي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحى إليه أتيناه فعلمنا مما أوحى إليه.‏ قال‏:‏ فجئت ذات يوم فقال‏:‏ إن الله يقول‏:‏ إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولوأن لابن آدم لأحب أن يكون إليه الثاني ولو كان غليه الثاني لأحب أن يكون إليهما الثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب‏." (السيوطي الإتقان-الجزء الثاني ص 53) (انقر هنا)

هذا الحديث يتبعه حديث مشابه يقول إن أبي بن كعب كان هو من نقل هذه الآية و بنفس العبارات جزئيا (1) و قال أبي إن محمدا كان يعتبرها من القرآن الذي أمره الرسول أن يقرأه على المسلمين. من بعد هذا يأتي حديث أبي موسى الأشعري (2) الذي يشبه ذلك الذي ورد في صحيح مسلم. الحديث هذا يخبرنا أن الآية كانت جزأ من سورة يوازي طولها طول سورة برآءة دون أن يدعي أن أبا موسى قد نسي هذه السورة بل يوضح أنها رفعت كلها باستثناء الآية المتعلقة بطمع بني آدم.

يذكر كذلك بعض الثقات أن هذه الآية كانت تأتي في مصحف أبي بعد الآية 25.10 (Jeffery, Materials, p.135) مصادر إضافية تذكر أن نفس الرواية جائت عن طريق أنس بن مالك و بن العباس و بن الزبير و غيرهم من الصحابة (Noeldeke, Geschichte, 1.234) لكن لا أحد من هؤلاء كان متيقنا يقين أبي من أن الآية كانت من القرآن أو لا (صحيح مسلم). الرواية إذا متواترة و لا يمكن أن تعتبر إلا صحيحة لأن رواتها من كبار الصحابة الذين لا يمكن وضعهم موضع الشك.

حديثي أبي واقد و أبي بن كعب شهدا أن الآية كانت من ما أوحي لمحمد من القرآن. زيادة على هذا شهدت رواية أبي موسى الأشعري التي أوردها السيوطي في الإتقان أنها كانت جزأ من سورة كاملة تم نسخها. بعض المفسرين كأبي عبيد في "فضائل القرآن" و بن حزم في "كتاب الناسخ و المنسوخ" ذهبا كذلك إلى اعتبار أن السورة كانت جزأ من القرآن قبل نسخها. هذه سورة من بين عدة سور روي أنه رغم نسخها بقيت في صدور الصحابة و اعتبرها الثرات الإسلامي من بين ما فًقِد من القرآن.


(1) ‏وأخرج الحاكم في المستدرك عن أبيّ بن كعب قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ ‏{‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين‏}‏ ومن بقيتها‏:‏ لوأن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه سأل ثانيًا وإن سأل ثانيًا فأعطيه سأل ثالثًا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرنية ومن يعمل خيرًا فلن يكفره

(2) وقال أبوعبيد‏:‏ حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها‏:‏ إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولوأن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثًا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب

 

الصفحة الرئيسية