فواصل القرآن تؤكد سجعه

 

فواصل آيات القرآن تؤكد ان النص القرآنى نصا مسجوعا مثله مثل سجع الكهان والعرافين والمتنبئين الجاهليين

يقول الدكتور عبدالله ابراهيم فى كتاب (سيرة المرويات النثرية السردية الجاهلية ) فصل : استبداد السجع :

" استبدّ السجع بالتعبير النثري الجاهلي، وهذه الصيغة الأسلوبية تفرض على المتكلمّ تقطيعاً متتالياً لمضمون كلامه يتناسب والفقرات اللفظية المسجعة التى غالباً ما تكون قصيرة، مسبوكة في قالب أسلوبي حاد النهايات، يبرز التعسف واضحاً في بعض فقراته حينما تقحم فكرة في سلسلة من القوالب المتناظرة بحيث لايسمح للمعنى أن يفيض خارج تلك الأطر المحددة، الأمر الذي يستدعي تقسيم محتوى الخطاب على تلك القوالب بما يضمن نوعاً من التوزيع المتناسب للفكرة بينها. وبالطبع فإنّ كل هذا يقيد إمكانية الاسترسال والتعمق والإفاضة والإحاطة بجوانب الفكرة التى يراد التعبير عنها، وفي هذا نجد أنّ النثر المسجع يُشعر المتلقي دائماً بأن سياقاته الدلالية غير مشبعة ويكتنف الغموض بعض المقاصد فيها وكأن الكلام عبارة عن نبذ مناثرة انتظمت في قوالب متراصة ومتسلسلة تفتقر إلى التنوّع الذي يعد أساساً للإشباع الدلالي في الخطاب الأدبي. ويبدو أنّ هذه الصيغة التى تهدف إلى تعميق بعض الأفكار في أذهان المتلقين بالتركيز على النهائيات الحادة لفظياً والحاملة لأفكار مركزة مكثفة كانت قد وظفت في الأساس للتعبير عن بعض التعاليم الدينية والروحية، واستأثرت باهتمام الكهنة والعرافين والمتنبئين الذين كانوا يغذّون كلامهم بالروح الديني الغامض ذي التموجات الدلالية المؤثرة التى تنشط الاحتمالات في نفس المستمع، فيسهل التأثير فيه، سرعان ما أصبح السجع أحد أهم التقاليد الأسلوبية التى تفرض حضورها في كلام يجد نفسه قد ترفع عن الكلام العادي المباشر إلاّ أنه لا يريد أن يبلغ منزلة الشعر. إذ أنّ الشعر يوظف غالباً بهدف إثارة النفس وهو لا يتقصد إثبات أفكار مباشرة إنما يترك للايحاءات أن تمارس أثرها في نفس المتلقى بوساطة الاندماج مع حالة الانشاد. فهو يخاطب والحالة هذه جانباً من نفس الإنسان على سبيل الإيحاء والتغني بالذات والمشاركة في الأحاسيس. فيما كان السجع يؤدي وظيفة أخرى، أنه أسلوب يراد منه أضفاء حالة من الخشوع والتأمل والاستعداد لتلقي فكرة مقدسة أو وصيةّ أو عبرة، تقتضي الإيجاز والتكثيف، ولكنها تهدف إلى التأثير بالتركيز على نهايات الأفكار، وكل هذا يناسب التقاليد الدينية المبكرة التى كانت تعاليمها تقتضي اقتصاداً تعبيرياً مؤثراً يستعين بالمثل مرة، وبالترغيب مرة، وبالترهيب إذا لزم الامر. وتنطوي الصيغة السجعية التى تتلاحق فيها الأفكار المبثوثة بانتظام في قوالب مرتبة على إمكانية تأثير كبيرة في المتلقي الذي يكون قد جاء في الأساس لتلقي أفكار محددة، كما أنها مؤثرة بالدرجة نفسها في أولئك الذين يدفعهم الفضول لمعرفة أمر جديد، وعموماً، فالسجع أكثر الوسائل تأثيراً في وضع المتلقى تحت طائلة منظومة من المعانى التى تتدافع فيها الأفكار بين الوضوح والمباشرة من جهة والغموض والإيحاءات المتنوعة من جهة ثانية، وقد أمكن توظيف هذه الصيغة لنشر التعاليم الدينية والتنبوءات والشذرات العبادية والاعتبارية والوصايا والحكم ولعل أكثر النصوص التى استثمرت الإمكانات التأثيرية للأسلوب المسجع هي النصوص الدينية، والحواشي الخاصة بها. وكل هذا يرجّح إقتران السجع بتلك النصوص، فالحاجة إلى إثارة الاهتمام بها فرضت ضرباً من الصيغ المعبرة والمؤثرة، ويمكن التدليل على ذلك بما تجليّ من هيمنة شبة مطلقة لهذا الأسلوب في القرآن، فقد توصل ستيورات في دراسة إحصائية مجهزة بالبيانات إلى أن النسبة المئوية للآيات المسجعة في القرآن تبلغ 85.9%من مجموع آياته


أثير جدل متشعب حول موقف الرسول من السجع استناداً إلى تفسيرات متباينة لحديث نسب إليها الرسول في هذا الموضوع، والحكاية التفسيرية التى تشكل الإطار الذي ينظم الحديث تدور حول امرأتين اختمصمتا فيما بينها فضربت إحداهما الأخرى وكان أن أسقطت المضروبة جنيناً ذكراً كانت حبلى به ثم توفيت، واختلف أهل المرأتين فيما بينهما أن كان يتوجب على أهل المرأة القاتلة أن يدفعوا أيضاً دية الجنين فرفع الأمر إلى الرسول فقضى بوجوب دفع دية الجنين.وهنا انبرى ولي المرأة القاتلة معترضاً(( أندي من لاشرب ولا أكل، وإلا صاح فاستهل، فمثل ذلك يطل)). وهنا تتضارب الروايات في نص تعليق الرسول على اعتراضه، ففي رواية قال له(( أسجعاً كسجع الكهان))39 وفي أخرى(( أسجع كسجع الجاهلية))40. ولا يعرف بالضبط السياق الذي ورد فيه قول الرسول، فمن الممكن أن اعتراض الرجل على حكمة قد أغضبه، وأنه عبر عن ذلك الاعتراض بصيغة سجعية الأمر الذي دعا الرسول للتعليق بقول يؤدي أكثر من دلالة. وأبدى أبوهلال العسكري وجهاً لذم السجع بإطلاق في كلام الرسول، فمقصده أن الرجل المعترض عل حكمة اتبع أسلوباً متكلفاً في اعتراضه يماثل أساليب الكهان، فالمذموم هنا تحديداً هو سجع الكهان، وليس السجع بإطلاق، ولو كرهه الرسول لقال ((أسجعاً)) ثم سكت41 ويؤكد هذا المعنى القلقشندي بقوله إن ليس ثمة دلالة على كراهة السجع في كلام الرسول فما كره إنما هو وجه المشابهة بين كلام الرجل وسجع الكهان لما فيه من التكلف42، فيما يمكن تلمس وجه الإكراه للسجع بإطلاق في كلام الرسول إذا أخذت الرواية الثانية للحديث. وعلى أية حال، فهذا ما انتهى إليه الأمر فيما بعد. فقد شاع أمر كره الرسول للسجع، بيد أنّ الأمر ظل محصوراً في المظان، فالممارسة النبوية، ذاتها وجدت أنها بحاجة لهذا الأسلوب، ويكثر ذلك في أحاديثه، ومنها ما وقف عليه القدماء مثل قوله :

(( أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)). ويعلق أبوهلال العسكري عل ذلك بقوله((كل هذا يؤذن بفضيلة التسجيع على شرط البراء من التكلف والخلو من التعسف))43. وقد أطرأ استخدامه في القرون اللاحقة، فأصبح شائعاً في التأليف الأدبية النثرية، وخلال العصور الوسطى كان السجع من أبرز خصائص النثر العربي في الرسائل والمقامات وكثير من التأليف الأخرى 0
كان السجع القرآني هو الآخر مثار جدل مماثل، وقد وجهت قدسية القرآن ذلك الجدل توجيهاً محدداً كان في أصله لاهوتي. وسعى البلاغيون وبعض النقاد إلى تأويل الخصائص الأسلوبية القرآنية بما لا يجعلها مقترنه بمصطلح(( السجع)) واستبدلوه بمصطلح(( الفاصلة)). وجمعها(( الفواصل)) تنزيهاً للكلام الإلهي على أن يتضمن سجعاً،لأن السجع في اشتقاقه اللغوي متصل بسجع الحمام، ورتب على ذلك ضرورة تنزيه القرآن عن أن يشبه أسلوبه بأصوات لا معنى لها. وهذا هو مذهب الرّماني44 والسيوطي45 الذي يخالفه أبوهلال العسكري بقوله إنه لا يحسن منثور الكلام حتى يكون مزدوجاً، ولاتكاد تجد لبليغ كلاماً يخلوا من الازدواج لكان القرآن، لأنه فى منظمه خارج من كلام الخلق وقد كثر الازدواج فيه حتى حصل فى أوساط الآيات فضلاً عما تزاوج فى الفواصل منه، ويضيف: أن جميع ما فى القرآن مما يجري على النسجيع والازدواج ولو استغنى كلام عن الازدواج مخالف في تمكين المعنى،وصفاء اللفظ، وتضمن الطلاوة والماء لما يجري مجراه من كلام الخلق46.


كان الموجّه الأساسي لهذا الجدل هو تصور البلاغيين والنقاد الذين عالجوا هذا الموضوع بعدم وجود صلة للمشابهة بين الكلام الإلهي والبشري،الأمر الذي أفضى إلى فرض تفسيرات متعددة للإعلاء من شأن الخطاب الإلهي في ميادين يعد ذلك الإعلاء فيها نوعاً من الإساءة الضمنية لذلك الخطاب، إذا ليس ثمة تعارض بين أسلوب التعبير ومصدره، فتوصيف الأسلوب القرآني يندرج في معاينة الخصائص الفنية فيه وليس في الشك بمصدره. وعلى أية حال فكون أكثر آيات القرآن مسجعة لا ينهض دليلاً على التقليل من شأنه، بل ينهض دليلاً على رسوخ هذا الأسلوب وهيمنته في العصر الجاهلي، بدلالة الإفادة الكبيرة منه فى القرآن الذي يعد في نهاية المطاف خطاباً موجهاً للتأثير في نفوس الناس بهدف تغيير عقائدهم القديمة. ووجوه استثمار القرآن لإمكانات السجع كثيرة وكلها ترجح. أهميته في سياق الأسلوب القرآني، أما ما شاع عن موقف الرسول منه، والتأويلات المختلفة حول ذلك، فيمكن إرجاعه إلى قضية أخرى وهي أن الرسول وجد نفسه متماثلاً مع كثير من أصحاب الأساليب الأدبية الشائعة آنذاك مثل القصاص والكهنة والشعراء، فهو شأنهم كان يستثمر معطيات الأسلوب الشائع في عصره، إلاّ أنه وجد نفسه أيضاً متعارضاً في رسالتة الدينية معهم، الأمر الذي استدعى بذل جهد كبير لأن يظهر مختلفاً عنهم في رؤيته وتصوراته وفي أسلوبه إذا اقتضى الأمر. ومن الواضح أن مهمته في السعي إبراز التعارض الأسلوبي بينه وبين المسجعين كانت، أصعب المهام وذلك أن السجع قد ترسخ أسلوباً دينياً لا يمكن رسالة دينية أن تتجاوز أمر الاستعانة به للتعريف بنفسها، ونشر تعاليمها والتأثير في أتباعها."


ويقول المؤلف فى فصل : نثر الكهّان :

استأثر ضرب آخر من النثر باهتمام طائفة من الكهّان والمتنبّئين والمتعبّدين فى العصر الجاهلى. ونسب إليهم لأنه كان الوسيلة المعبرة عن مقاصدهم وأفكارهم. ويبدو أن جملة الظروف الثقافية القائمة آنذاك، قد دفعت هذا النوع من النثر إلى مقدمة أنواع النثر الجاهلي لأنه ارتبط بالنظم الدينية التي كانت قائمة آنذاك، ومن ناحية منطقية فإن الإسلام جبّ مضمون نثر الكهان وأساليبه السجعية، ولكن إذا نظر للأمر من ناحية واقعية فإن واقع الحال يكشف أن جوهر الرسالة الإسلامية والأسلوب الذى جاءت فيه لم يكن يتعارض مع نثر الكهان، ذلك أن الموضوعات التى كانت تتواتر فيه هى إجمالاً أخلاقية وعظية تتخلّلها ضروب من التأويلات الغامضة، أما أساليبه فيغلب عليها الأسجاع التي تماثل إلى حد ما الصيغ السجعّية التى نجدها فى الخطب والنصوص الدينية. ومن المحتمل أنّ أصل التعارض كان قائماً فى الوظائف التى يقوم بها كلّ من النبي والمتنبّئ، أى الخلاف فى وظيفة الرسول ووظيفة الكاهن. ذلك أنه لو نظر إلى ماهية النصوص بعيداً عن سلطة المقدس، لوجدنا أنّ التماثل فى المضامين والأساليب لا يفضي إلى نوع من التعارض الحقيقي، ويرجح أنّ ظروفاً واقعية وتاريخية أوجدت ذلك التعارض، وفرضت نوعاً من التناقض بينهما.


لقد ظهرت فئة تدّعي التنبؤ ومعرفة المغيبات فى العصر الجاهلى58، ومن الواضح أنّ ممارسة التنبؤ قد ازدهرت فى تلك الحقبة، وكان اهتمام تلك الفئة ينصب على الإيهام بامتلاك قوة خارقة تمكّنهم من استكناه خفايا المستقبل، وكشف الغيوب وتأويل الرؤيا، وكان يعبر عن تلك القوة الغامضة بأساليب خاصّة موحية يترك للاحتمالات أن تفعل فعلها فى نفس المتلقّي، فقوة العبارة والتمدّد الدلالي فى سياقاتها، وحشدها بالمثل أو العبرة، أو شحنها باللمحة الاعتبارية المحيرة، وكل ذلك ميّز نثر الكهان بخصائص تميزه عن غيره، وأن كانت لا تقتصر عليه. ولعل أظهر تلك الخصائص: قصر العبارة، والتزام التقفية، وتساوي الفواصل، وإيراد العبارات المبهمة المعماة، وتشكيل الجمل الغامضة، الأمر الذى يمنح المستمع إمكانية التشعب فى تأويلها بما لا يوقع الكاهن فى نوع من الحرج59، وكانوا يمثلون سلطة دينية واجتماعية، ويعتقد على نطاق واسع أنّ لكلّ كاهن رئياً من الجن يأتيه بخبر السماء، ولهذا كان الكهان يعتمدون عليهم فى مهام أمورهم كالتحاكم إليهم للفصل فى الخصومات والمفاخرات والمنافرات، ولإخبارهم عّما أبهم عليهم كضياع مال أو متاع، أو عند حدوث ريبة60، والادعاء بوجود قوة خارجية تزود بعض الكهان والشعراء والمتألهين بما يحتاجونه من معرفة أمر ضارب فى مظاهر الثقافة الجاهلية. وهو مما تحتشد به عموماً الثقافات الشفاهية التى تمنح بعض الأفراد قوى سحرية لخرق نواميس الطبيعة والإتيان بأخبار فى منأى عن طرق المعرفة الشائعة. ولما كان الكهان والشعراء والمتنبئين يعبرون عن تأملاتهم بصيغ خاصة ومتميزة أدبياً وإيقاعياً فسّر الأمر على أنه نوع من الإيهام أو الإيحاء. وفى كل الأحوال فإن المناخ الدينى، والعنصر التنبؤى أهم ما ينطوى عليه نثر الكهان، وبخاصة تلك الأجزاء المنسوبة إلى كهان لهم شأنهم فى العصر الجاهلى مثل: شق أنمار وسطيح الذئبى وطريفة الكاهنة والمأمور الحارثى وفاطمة الخثعمية وغيرها. ويحسن أن نقف على أمثلة توضح كل ذلك، مذكرين بالحكايات التفسيرية التى وضعت لتوضيح سياق الشذرات النثرية لأشهر كهان الجاهلية.


نسجت أساطير كثيرة حول شق وسطيح، فقيل عن الأول أنه بنصف جسد وعين ورجل ويد، أما الثانى فجسده خلو من العظام إلاّ الجمجمة، فكان يطوى كالقماش، ووجهه فى صدور. والى هذين الكاهنين تعزى أكثر التنبؤات غموضاً، وأشهر ما اتفق عليه تفسيرهما المتطابق لرؤيا ربيعة بن نصر اللخمى، أحد ملوك اليمن القدامى، إذ نجحا، فيما تذهب إليه المرويات، بأنهما أوّلاً رؤيأ رآها، ومؤداها حسب التأويل إنّ بلاده ستحتل من الأحباش، وإنها لامحالة واقعة تحت سيطرتهم. وتقدم الحكاية الخاصة بهذه الواقعة الأمر بالصورة الآتية: رأى ربيعة بن نصر رؤيا هالته، وفظع بها، فلما بعث فى أهل مملكته، فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا عائفاً ولا منجماً إلاّ جمعه إليه، ثم قال لهم: إنى قد رأيت رؤيأ هالتني وفظعت بها، فأخبرونى بتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا لنخبرك بتأويلها، قال: إنى إن اخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلاّ من يعرفها قبل أن أخبره بها فلما قال لهم ذلك قال رجل من القوم الذين جمعوا لذلك. فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانك بما سألت... فلما قالوا له ذلك بعث إليهما، فقدم عليه قبل شق سطيح، ولم يكن فى زمانهما مثلهما من الكهان، فلما قدم عليه سطيح دعاه فقال له: يا سطيح، إني قد رأيت رؤيأ هالتنى وفظعت بها، فاخبرني بها فإنك إذا أصبتها أصبت تأويلها. قال أفعل ((رأيت جمجمة خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض ثهمة ( =وفى رواية حممة وتهمة على التوالى ويقصد بالأولى فحمة والثانية بقعة من الأرض واقعة على ساحل البحر) فأكلت منها كل ذات جمجمة)). فقال له الملك: ما أخطأت منها يا سطيع، فما عندك فى تأويلها، فقال: ((احلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطنّ أرضكم الحبش، فليملكنّ ما بين أبين إلى جرش))(= موضعات باليمن)، قال له الملك: وأبيك يا سطيح، إنّ هذا لغائط موجع، فمتى هو كائن يا سطيح؟. فى زمانى أم بعده؟ قال: ((لا بل بعده بحيث، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين))، قال فهل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع؟ قال: ((بل ينقطع لبضع وسبعين، يمضين من السنين، ثم يقتلون بها أجمعون، ويخرجون منها هاربين))، قال الملك ومن ذا الذى يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟، قال: ((يليه إرم ذى يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحداً باليمن)) قال: أَفَيَدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع؟ قال: ((بل ينقطع)) قال ومن يقطعه؟ قال: نبي زكى يأتيه الوحى من العلى)) قال: وممن هذا النبى؟ قال: ((رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك فى قومه إلى آخر الدهر)) قال: وهل للدهر ياسطيح من آخر؟ قال: ((نعم. يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون))، قال: أحق ما تخبرنا ياسطيح؟ قال: (( نعم والشفق والغسق والغلق إذا اتسق، إنّ ما أنبأتك به لحق)). فلما فرغ قدم عليه شق، فحدثه بأمره فقال له: ((نعم رأيت جمجمة، خرجت من ظلمة، فوقفت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كلّ ذات نسمة)) فلما رأى ذلك الملك من قولهما شيئاً واحداً، قال له، ما أخطات ياشق منها شيئاً، فما عندك فى تأويلها؟ قال(( احلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلنّ أرضكم السودان، فليغلبنّ على كل طفلة البنان، وليملكنّ ما بين أبين إالى نجران)) فقال له الملك: وأبيك ياشق إنّ هذا لغائط موجع، فمتى هو كائن؟ أفى زمانى أم بعده؟ قال: بل بعدك بزمان، ثم يستنقذكم منه عظيم ذو شأن، ويذيقهم أشد الهوان)) قال: ومن هذا العظيم الشان؟ قال:(( غلام ليس بدنّى ولا مدنّ( =مقصر)، يخرج من بيت ذى يزن)) قال: فهل يدوم سلطانه أو ينقطع؟ قال:(( بل ينقطع برسول مرسل، يأتى بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك فى قومه إلى يوم الفصل)) قال: وما يوم الفصل؟. قال(( يوم يجزى فيه الولاة، يدعى من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات)) قال: أحق ما تقول ياشق؟:(( إى ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إنّ ما أنباتك لحق ما فيه أمض))( = باطل). فلما فرغ من مسألتهما، وقع فى نفسه أنّ الذى قالاه له كائن من أمر الحبشة، فجهزّ بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال سابور من خرّزاذ، فأسكنهم الحيرة فمن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة61.


تثير هذه المدونة التى تقوم على أصل مروى إشكاليات كثيرة، وأبرز ما يلاحظ عليها أنها تندرج فى سياق المرويات التنبؤية التى أشرنا إلى أنّ النثر الجاهلى كان يزخر بها. ونظراً لتكيفّ النبؤة بما يوافق الإسلام، فقد كان هذا العامل حاسماً فى روايتها، مع احتمال أن تكون النبوءة قد وضعت فى وقت آخر. بيد أن ما يلاحظ على هذه المدونة تعدد النبوءات فيها.فثمة نبوءة خاصة باحتلال اليمن وثانية بتحريرها وثالثة بظهور الرسول، فضلاً عن النبوءة الكبرى وهى(( نبوءة آخر الدهر)) وكل من هذه النبوءات ترسل دلالتها الخاصة. فالأولى تدور حول مصير ربيعة بن نصر مباشرة، والثانية تدور حول مصير الأحباش الذين سيطردهم سيف بن بن ذى يزن. والثالثة تتصل بمصير سيف نفسه الذى ينقطع سلطانه بظهور الرسول. والأخيرة تتعلق بمصير الحياة بأجمعها إذ ينقضى الدهر بيوم الخلاص. وتساوي النبوءات بما يجعل كل واحدة تفضى إلى الأخرى، ابتداء من حالة محدودة تتعلق بمصير شخص وصولاً إلى مصير الحياة باجمعها. ومع أنّ هذه الحكاية بما فيها من نبوءات قد وضعت لتفسير حالة تاريخية تتصل بنسب ملوك الحيرة، وكيفية وصولهم إليها، فإنّ أخذ الأمر كما صورته لنا هذه المدونة يعنى صياغة الواقع التاريخى فى ضوء النبوءة، فالأمر الذى ترتب على النبوءة هو قيام ملك اليمن بإرسال أهله إلى العراق للاحتماء بملك فارس من خطر الأحباش. ونخلص فيما يخص هذه الظاهرة أنّ النبوءة عنصر شبه قار فى أغلب المرويات المماثلة. أما لو نظرنا إلى المدونة من ناحية الأسلوب المسجع، فإننا نجد أنّ الفقرات المسجوعة فيها ركيكة ومصنوعة، وتفتقر إلى المتانة التى عرف بها نثر الكهان عموماً، إلى ذلك فأن التناقضات الداخلية فى النص لا تحصى وفى مقدمتها خلط الوقائع ببعضها دون مراعاة الشرط التاريخى، ويغلب أنّ القصد من كل تركيب نموذج لفعالية الكهان آنذاك. فالحكاية تتوسع ولا تقتصر على تأويل رؤيا الملك مباشرة، إنما الحوار المتبادل بين الملك والكاهن يمدد من وظيفة المدونة لتغطى جوانب أخرى فرضت حضورها لحظة التدوين أو فى أثناء الرواية. وعلى أية حال، فالمناخ الذى تترتب فيه المدونة بأجمعها هو ديني وعظي تتبوئي يندرج فى نهاية المطاف فى خدمة الدين. وينبغى علينا أن نشير إلى أنّ النبوءة بظهور الرسول هى أبرز ما تنطوى عليه النبوءات الواردة فى تضاعيف النثر الجاهلى، إلاّ أنها ليست الوحيدة. فالنبوءة بظهور غيره ممن استأثر بالسلطة والحكم ترد أيضاً فى بعض المرويات. مما يدل أنّ أجزاء من تلك المرويات وضعت فى ظل موجهات واقعية. ومن ذلك ما روى حول هند ابنة عتبة بن ربيعة، وكانت تحت الفاكه بن المغيرة المخزومى، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن. فخلا البيت يوماً فاضطجع الفاكه هو وهند فيه، ثم نهض الفاكه لبعض حاجته، وأقبل رجل ممن كان يغشى البيت فولجه فلما رآها ولى هارباً وأبصره الفاكه فأقبل إلى هند فركضها( = ضربها) برجله وهى نائمة فانتبهت، فقال من ذا الذى خرج من عندك، فقالت لم أر أحداً وأنت الذى أنبهتنى، فقال لها اذهبى إلى بيت أبيك فأقيمى عنده، وتكلّم الناس فيها، فقال له أبوها إنك قد رميت ابنتى بأمر عظيم، فحاكمنى إلى بعض كهان اليمن، فخرجا فى جماعة من قومهما إلى كاهن من كهان اليمن، ومعهما هند ونسوة أخر، فلما شارفوا بلاد الكاهن، قالت هند لأبيها: إنكم تأتون بشراً يصيب ويخطئ، ولا آمنه أن يسمنى ميسماً يكون عليّ سبة. فقال أبوها سأختبره لك فصفّر لفرسه حتى أدلى، فأدخل فى إحليله حبة حنطة وشد عليها بسير، فلما دخلوا على الكاهن، قال له عتبة: إنا قد جئناك فى أمر وقد خبأت لك خبئاً اختبرك به فانظر ما هو، فقال: ((ثمرة فى كمرة)) فقال أريد أبين من هذا. فقال ((حبه برّ، فى إحليل مهر))، فقال له انظر فى أمر هؤلاء النسوة فجعل يدنو من إحداهّن فيضرب بيده على كتفها ويقول انهضى حتى دنا من هند فقال لها: ((انهضى غير رسحاء( = قبيحة) ولا زانية، ولتلدنّ ملكاً اسمه معاوية))، فنهض إليها الفاكة فأخذ بيدها، فجذبت يدها من يده. وقالت إليك عنى!، فوالله لأحرص على أن يكون من غيرك، فتزوجها أبو سفيان بن حرب فولدت له معاوية، فكان من أمره ما كان إلى أن انتهت به الحال إلى الخلافة62. ويبدو أنّ الموجه الأساسى للنبوءة فى هذا الخبر هو الصراع السياسى الذى نشب حول الخلافة. ذلك أنّ الإشارات التى يوردها المدوّن فى بداية الخبر تتضافر جميعها من أجل براءة هند، ومع أنّ هنداً تظهر وعياً وتبصراً بما قد يقضى إليه حكم الكاهن إذا أخطأ بحقها، فإنّ قضاء الكاهن يأتى تتويجاً لسلسلة الإيحاءات ببراءتها وبخاصة ما ورد فى مطلع الخبر. ولكن ليس هذا هو المركز الدلالي الذى ينساق إليه الخبر، إنما ذلك المركز هو النبوءة بظهور معاوية بوصفة ملكاً، وبطبيعة الحال لا يمكن أنً يكون ذلك من امراة زانية.


تلعب الحكاية التفسيرية دوراً كبيراً فى توجيه الخبر ومقاصده إلى مناح جديدة لم تكن فى الأصل موجودة، فإذا اعتبرت رؤيا الملك اليمانى هى البؤرة التى تدور حولها الحكاية الأولى وتهمة زنا هند هى المحور الذى تتمركز حوله الحكاية الثانية، فإنّ هذين المركزين يندمجان فى سياق يفضى إلى أن يكونا ثانويين، ذلك أنّ ما تخلص إليه القراءة هو أنّ ظهور الرسول وفكرة يوم القيامة فى الحكاية الأولى، وظهور معاوية وخلافته فى الحكاية الثانية هما المولداّن الأساسيان لمعظم الأفكار التى تتناثر فى سياق الحكايتين، والأكثر من ذلك هما اللذان سيستأثران باهتمام الشخصيات المعنية فى الحكايتين، فالملك اليمانى يهمل أمر الأحباش، وينساق وراء أسئلة متتالية تقود إلى النبوءة الأساسية فى الحكاية. وهند ابنة عتبة، تغلب أمر إنجابها المرتقب على براءتها، وموضوع اتهامها بالزنا. ويصعب أن ينظر إلى هذه المدونات على أنها معبرة فى أصلها عن الموضوعات التى يفترض أنها دارت حولها، فالإضافات التى عرضت لها بسبب المشافهة وتغير البنيات الثقافية، وجدت طريقها إلى صلب هذه النصوص وكيّفتها طبقاً للموجهات الأساسية التى وراء روايتها."

الصفحة الرئيسية