3. درجات الجنّة ومنازلها:
جاء في سورة النساء 95:4-96 قوله: "فَضّل اللهُ المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجَةًً وكُلاً وعد الله الحُسنى وفضّل اللهُ المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً. درجات منه ومغفرة ورحمةً وكان الله غفوراً رحيماً". وفي سورة الأنفال 4:8 "أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجاتٌ عند رَبِّهم ومغفرةٌ ورزق كريمٌ". وفي سورة التوبة 20:9 الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظمُ درجةٍ عند الله وأولئك هم الفائزون. وهكذا تتفاوت درجات ومنازل المسلمين في الجنة، وذلك بحسب أعمالهم وجهادهم،
وفي حديث عن أبي سعيدٍ الخدري أنًّ رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم قال: "إِنَّ في الجنَّة مائة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" (رواه مسلم). وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رمى بسهمٍ فله أجرَهُ درجةً" فقال رجلٌ: يا رسول الله، وما الدَّرَجة؟ فقال: "أما إنها بعتبة أمك. ما بينَ الدرجتين مائة عام" (رواه أحمد واقتبسه ابن كثير في تفسير النساء 96:4). وأورد ابن كثير في تفسير سورة الحاقة 21:69-22 "في جنة عالية قطوفها دانية" حديثاً للنبي محمد رداً على سؤال عن تزاور أهل لبعضهم البعض، قال فيه " نعم إنّهُ ليُهبط أهل الدّرجة العُليا إلى أهل الدرجة السفلى فيُحيّوهم ويسلمون عليهم. ولا يستطيع أهل الدّرجة السُفلى أن يصعدون إلى الأعلين تقصر بهم أعمالهم".
نجد هنا أنَّ ابن كثير قد استعان بأحاديث النبي ليفسر مفهوم الدرجات في الجنة، حيث أعلمنا أنها مائة درجة، بحيث تبعد كل درجة عن الأخرى كبعد السماء عن الأرض، ثم قال أن بين الدرجتين مائة عام. فهل نفهم من حديثه أن المسافة بين السماء والأرض هي مائة عام؟ علماً أن عبارة مائة عام تدل على زمنٍ وليست على مسافة؟ ثم هل سيقضي المجاهدين من المسلمين الأبدية منعزلين بعضهم عن بعض، بحيث تفصل بينهم المسافات الشاسعة جداً؟ وما الحكمة من هذا الفصل؟ بل هي حكمة الله، كما يقول القرآن، الذي يفاضل بين المؤمنين بحسب أعمالهم. وفي حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أهل الجنة ليتراءون أهل الغرفِ فوقهم كما تتراءون الكوكب الغائر في الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين" فشتّان ما بين مكانة المسلم العادي، ومكانة غيره من سكان الدّرجات العُلى وغرف الجنات العاليات؟! (وقال الضحاك في قوله " لهم درجاتٌ عند ربَّهم" أهل الجنّة بعضهم فوق بعض، فيرى الّذي هو فوق فضلَهُ على الّذي هو أسفل منه، ولا يرى الّذي هو أسفل منه أَنَّهُ فُضِّلَ عليه أَحد). أي أنَّ ساكن الدرجة الدّنيا يعيش مخدوعاً لا يعلم أنَّ الله فضَّل غيره عليه وأعطاهم درجات عليا!؟ وهكذا فإنَّ الله الّذي قال عنه القرآن بأنَّه "خير الماكرين" (آل عمران 54:3 والأنفال 30:8) لن يغيّر من طبعه الماكر في إيهام سكّان الدّرجات الدّنيا في الجنّة بما هو ليس حق.
ومن الآيات القرآنيّة الأخرى الّتي تؤكّد على فكرة تعدّد المنازل والدّرجات في جنّة المسلمين. نقرأ ما جاء في سورة الإسراء 21:17 "أُنظر كيف فَضَّلنا بعضهُم على بعضٍ وَلِلآخِرَةُ أكثرُ درجاتٍ وأكبرُ تفضيلاً" وما جاء في سورة طه 75:20 " ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحاتِ فأُلئكَ لهم الدرجاتُ العُلى" بل توجد جنتَّان "ومن دونهما جنتان"(الرحممن62:55) ويقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية أنه "توجد جنتان من ذهب للمقرّبين وجنتان من ورق لأصحاب اليمن". ثم يناقض نفسه ويورد حديث للنبي يقول فيه أنهما جنتان من ذهب وجنتان من فضة، ويؤكد ابن كثير أن الجنتان المذكورة في الرحمن 62:55 هما دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة أما القرطبي فيقول في تفسيره لهذه الآية: "ومن دونهما جنتان" لأتْباعِهِ لِقُصورِ منزلتهم عن منزلته، إحداهما للحور العين والأخرى للولدان المخلدين، ليتميز بهما الذكور عن الإناث". وهكذا فالطبقية والتمييز الجنسي موجود في جنة المسلمين. نقرأ أيضاً في سورة المطففين 18:83 قوله "كَلا إن كتاب الأبرار لفي عِلِّيين". وفي تفسير ابن كثير أشار إلى اختلاف الرواة في تفسير معنى عِلِّيين، وبما قالوه: السماء السابعة والجنة وساق العرش اليمنى وعند سدرة المنتهى. ومهما يكن معناها، فإنَّ الآية تؤكد حقيقة تفاوت درجات المؤمنين في جنة المسلمين (انظر أيضاً الفرقان 76:25 والواقعة 11:56). وأعلى درجة في الجنة هي الوسيلة، وهي قرب عرش الله وهي مسكن النبي محمد في الجنة. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "إذا صليتُم علىَّ فسلوا الله لي الوسيلة" قيل يا رسول الله وما الوسيلة؟ قال: "أعلى درجة في الجنّة لا ينالها إلا رجلٌ واحد وأرجو أن أكون أنا هو". فالنبي محمد يريد الوسيلة لنفسه دون سواه من الرسل والأنبياء والمؤمنين، فهي أعلى منزلة في الجنة، وفي محط طموح نبي المسلمين. وفي حديث آخر في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي يقول "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علَيَّ فإنهُ من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله. وأرجوأن أكون هو، فمَنْ سأل الله لي الوسيلة حلَّت عليه الشفاعة يوم القيامة". ولا يزال المسلمون حتى اليوم يُصَلّون على النبيَّ، ويطلبون من الله أن يعطيه الوسيلة، ولا نعرف هل سمع الله لصلواتهم وأعطى محمد الوسيلة أم لا؟