4. حائط الجنة وترابها وأشجارها:
يورد القرآن حواراً يقول أنه سيجري بين أصحاب الجنة وأصحاب النار يدور حول صحة وعد الله بخصوص الجنة والنار، ثم يصف السور أو الحائط الذي يفصل بين الجنة والنار، فيقول في سورة الأعراف 46:7 "وبينهما حجابٌ وعلى الأعراف رجالٌ يعرفونَ كُلاً بسيما هُم". ويتوسع القرآن في وصف هذا السور كما نقرأ في سورة الحديد 13:57"يومَ يقولُ المنافقونَ والمنافقاتُ للَّذينَ آمنوا أنظرونا نقتبِسْ من نوركمُ قيلَ ارجعوا ورائكمُ فالتْمَسوا نوراً فضربَ بينهم لسورٍ له بابٌ باطِنُهُ فيهِ الرّحمَةُ وظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العذابُ". فالحجاب هو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة، وهو الأعراف. وفي تفسير ابن كثير يقول أن الأعراف سور كعرف الديك، وكل مرتفعٍ من الأراضِ عند العرب يسمى عرفاً. وفي رواية عن ابن عباس: الأعراف جمع تل بين الجنة والنار حُبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار. ثم يورد ابن كثير روايات كثيرة حول هويّة وقصّة أصحاب الأعراف، ومما قاله:
هم قوم اسْتَوَتُ حسناتهم مع سيئاتهم، فوقفوا على السور بين الجنة والنار حتى يقضي الله فيهم.
هم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم فقتلوا في سبيل الله.
سمي الأعراف أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس، أي أن أصحاب الأعراف هم رجال علم.
هم قوم صالحون فقهاء علماء.
هم رجال من الملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار.
هم آخِرُ من يفصل الله بينهم من العباد الذين أخرجتهم حسناتهم من النار.
وهكذا نجد أنه رغم وجود سور بين الجنة والنار، إلا أنه يوجد باب في ذلك السور، وسيتمكن أناس من الخروج من النار ودخول الجنة، وسيكون هنالك أشخاص، أطلق عليهم المفسرون لقب أصحاب الأعراف ولكنهم اختلفوا في تحديد هويتهم.
أمّا تراب الجنة، وإن كنا لا نجد له وصفاً في القرآن، فإن ذلك لم يَفُت على النبي محمد الَّذي قال في وصف حائط الجنة وترابها: "أن حائط الجنة لبنة من فِضَّةٍ ولبنة من ذهبٍ ترابها زعفران وطينها مسك" وسئل النبي محمد عن تربة الجنّةِ فقال: "درمكة بيضاء مسك خالص" (رواه مسلم). وهكذا سيسير المسلم في جنّته على ترابٍ من المسك والزعفران، يستنشق الرائحة الزكية، فلا غبار يزعجه، ولا رمالٍ أو كثبان صحراوية. وهذا الوصف لتراب الجنة يروق، بل ويفرِّح قلب العربي البدوي الذي كان يسكن صحراء الجزيرة العربية القاحلة، حيث الرمال الحارقة والجفاف الدائم، فمكة كانت "وادٍ غير ذي زرعٍ" (إبراهيم 14:37) ولا بد أن المسلمين تهلَّلوا بسماع أوصاف الجنة الموعودة من نبيِّهم، لأنهم عرفوا قسوة الصَّحراء.
وستعج الجنة بكل أنواع الأشجار الحرجية والمثمرة. وقد مر معنا أن الجنة تعني الروضة أو البستان الذي فيه نخيلٌ وعنب، ويقول الجلالان أن الجنّات هي حدائق ذات أشجار ومساكن. وقال القرطبي: "سُمِّيت الجنات لأنها تَجِّنُّ من فيها، أي تستره بشجرها". وتمتاز أشجار الجنة المثمرة بأن "قُطوفها دانية" (الحاقة 23:69) بحيث يتمكن المؤمن من قطف ثمارها وهو على سريره، فالمؤمنون سيكونون في "روضةٍ يُحْبِرونَ" (الروم 15:30) أي سيتنعمون بهذه الرياض التي تزخر بالأشجار. وفي حديث معروف للنبي قال فيه: "إن في الجنّةِ لشجرةً يسيرُ الراكِبُ في ظِلِّها مائة سنة لا يَقْطعُها". (رواه مسلم والبخاري وأحمد وغيرهم). وقد ذكر ابن كثير هذا الحديث في سياق تفسيره لما جاء في سورة الواقعة 27:56-30) "وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين. في سدرٍ مَخضودٍ. وطلحِ منضودٍ وظلٍّ ممدودٍ" والسدر قليل الثمر كثير الشوك، أما في الجنة فستتغير الصورة تماماً، ففي حديث ذكره ابن كثير عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم، قال: أقبلَ أعرابيٌ يوماً فقال: يا رسول الله ذكرَ الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وما هي"؟ قال السدر فإن له شوكاً مؤذياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أليس الله تعالى يقول "في سدر مخضود" خضد الله شَوكَهُ فجعل مكان كل شوكةٍ ثمرة، فإنها لتنبت ثمراً تفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لوناً من طعام، ما فيها لونٌ يشبه الآخر". أمّا الطلح فهو أيضاً شجرٌ كثير الشوك، ولكنه سيصبح في الجنّة "منضود" أي متراكم الثمر بطعمٍ أحلى من العسل. فبدلاً من الشجر الهزيل والبائس والقليل والكثير الشوك في الصّحراء، سينعم المسلم بشجر ظليل كثيف وكثير ومبهج كثير الثّمر المتنّوع واللّذيذ.