5. أنهار الجنّة وعيونها:
تكرّرت عبارة "جناتٍ تجري تحتها الأنهار" حوالي اثنتين وأربعين مرّة في القرآن "42"، وفي ذلك جَزْمٌ وتأْكيدٌ على وجود أنهار عديدة في الجنّةِ الموعودةِ في القرآن، مع عدم ذكر عددها. بل ذَكر أربعة أنواع منها في سورة محمد 15:47 "مثلُ الجنَّةِ الّتي وُعِدَ المتَّقونَ فيها أنهارٌ من ماءٍ غيرِ آسنٍ وأنهارٌ من لَبَن لم يتغيَّر طعمُهُ وأنهارٌ من خمرٍ لذَّةٍ للشَّاربينَ وأنهارٌ من عَسَلٍ مُصفّى ولهم فيها من كُلِّ الثَّمراتِ ومغفرةٌ من رَبِّهم". وهكذا يعلن القرآن عن وجود أنهار ماء ولبن وخمر وعسل في الجنَّة:
أنهار من ماءٍ غير أسنٍ: يتوفّر الماء بكثرة في الجنّة، فهي روضةٌ غنّاء، لا صحراء قاحلة،لأنَّ فيها "ماء مسكوب" (الواقعة 31:56) أي كثير يجري في أنهار عديدة في الجنّة. وهو ماءٌ غير آسن.أي لا تتغيّر رائحته بل يبقى صافياً لا قدر فيه. وذكر القرآن نهر الكوثر كأحد أنهار المياه في الجنّة، وهو النّهر الّذي سيكون للنّبي محمد نفسه دون بقيّة خلق الله، كما جاء في سورة الكوثر 1:108 "إنَّا أعطيناك الكوثر". وقد وردت أحاديث كثيرة جدّاً تتحدّث عن نهر الكوثر وروعته، منها واحد عن أنس بن مالك قال: سُئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الكوثر فقال: "هو نهرٌ اعطانيهِ اللهُ عَزَّ وجلَّ في الجنَّة ترابُهُ المسكْ ماؤُهُ أبيضُ من اللَّبَنِ وأحلى من العسل ترده طيرٌ أعناقها مثلُ أعناق الجُزُرِ" قال أبو بكر يا رسول الله إنّها لناعمةٌ فقال "أَكَلَتُها أَنعَمُ مِنْها". (مسند أحمد). وقال ابن عُمر لما نزلت "إنَّا أعطيناك الكوثر" فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "هو نهر في الجنّة حافّتاه من ذهبٍ يجري على جنادل الدُّرِّ والياقوت شرابُهُ أحلى من العسلِ وأشدُّ بياضاً من اللّبن وأبردُ من الثّلجِ وأطيبُ من ريحٍ المسكِ" (مسند أحمد وأخرجه أيضاً التّرمذي وابن ماجه والدّرامي). فما أكرم الله الّذي أعطى نبيّه محمداً دون غيره من الرُّسل والأنبياء والنّاس، ولا نعرف إن كان النّبي محمد سيشارك مياه هذا النّهر الخالد مع غيره من المسلمين.
أنهار من لبنٍ لم يتغيّر طعْمُهُ: وهذا اللّبن كما يقول ابن كثير في غاية البياض والحلاوة الدّسومه، وفي حديث مرفوعٍ "لم يخرج من ضروح الماشية". كان اللّبن وما يزال الغذاء الرّئيسي لبدو الصّحاري القاحلة، فهو بالتّالي عزيز عليهم لأنًّ فيه الحياة. لذلك كان لا بدَّ من وضع نهر من اللّبن في الجنّة، ليطمئنَّ قلب المسلم أنّه لا جوع في الجنّة، بل إنًّ اللّبن الحلو والدّسم يجري في نهر لا ينضب.
وأنهار من خمرٍ لَذّةٍ للشّاربين: سيتلذّذ المسلمون بشرب الخمر في الجنّة، وستجري أنهار الخمر إلى أبد الآبدين، ليشربوا منها مكثّرين، مع أنّها في الأرض مشروب الملاعين والكافرين، فقد جاء في المائدة 90:5 "يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمرُ والميسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عمل الشّيطانِ فاجتنبوهُ لعلّكم تفلحون". لذلك لا يشربها المسلمون، بل أنّهم يَحْرِقون محلات بيعها، وَيُعاقبون المتاجرين بها من المهرّبين. أمَّا في الجنّة فستتغيّر الأحوال تماماً، وما كان محرَّماً سيصبح حقاً شرعيّاً وجائزاً من الله. فالمؤمن الّذي صبر وترفّع عن ملذّات الدنيا الزائلة، سيكون نصيبه ملذّات الجنَّة الخالدة، ومنها خمر الجنّة، الّذي يختلف تماماً عن خمر الأرض، كما جاء في القرآن وأحاديث نبي الإسلام، فهي خمر بلا طعم كريهٍ أو رائحة مزعجة، بل هي حسنةُ المنظر والطّعم والرّائحة والفعل، كما قال ابن كثير. وجاء وصف خمرة الجنّة في عدد من آيات القرآن، مثل قوله في سورة الصّافات 45:37-47 "يطافُ عليهم بكأسٍ من معينٍ. بيضاءَ لذّةً لِلشاربين. لا فيها غولٌ ولا عنها يُنْزفون" أي أن غلمان الجنة سيطوفون على المؤمنين بكاسات الخمر التي أحضروها من الأنهار الجارية في الجنة إلى الأبد، فهي خمر باقية، بيضاء، أي لونها مشرق حسن بهي، كما يقول ابن كثير، "لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء من حمرة أو سواد أو اصفرار". وسيتلذذ شاربوها لأن طعمها طيب كَلونِها، ولن يصاب شاربها بالصداع أو وجع البطن، كذلك لن يَسكرَ صاحبها فلن يذهب عقله. وفي سورة الطوّر 23:52 "يتنازعون فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأْثيم" أي أن من يشرب خمر الجنة لن يتكلم بكلامٍ باطلٍ أو آثم أو فاحش، لأن الله، كما ذكر ابن كثير في قوله اقتبسه عن قتاده، قد نَزَّه خمر الآخرةِ عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكليّة". وقد تكرر نفس المعنى في الحديث عن الخمر في سورة الواقعة18:56-19 "بأكواب وأباريقَ وكأْسٍ من معينٍ، لا يُصَدَّعونَ عنها ولا يُنزفون". وعند تفسيره لهاتين الآيتين، أورد ابن كثير قولاً لابن عباس جاء فيه: "في الخمر أربع خصالٍ: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله تعالى خمر الجنّة ونزَّهها عن هذه الخصال". وأكد القرآن نفس المعنى في سورة المطفِّفين 25:83-26 "يُسقون من رحيقٍ مختومٍ.ختامُهُ مسكٌ وفي ذلك فليتنافَسِ المُتنافسون" والرحيق، حسب أقوال مفسري القرآن، هو من أسماء خمر الجنة، وختام شرب خمر الجنة مسك رائع لا شكْرٌ فاضح.
في حديث عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي محمد قال: "إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحراللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد" (رواه الترمذي). وهنا حدّد النبي منابع انهار الجنة من البحر، وقد أشرنا إلى حديث الفردوس الذي يناقض هذه الرواية في تحديد منابع أنهار الجنة. وأضاف النبي محمد أنهاراً أخرى في الجنة. ففي حديث لأبي هُرَيرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سَيْحانُ وجيَحْانُ، والفُراتُ والنّيلُ، كلٌّ من أنهار الجنة" (رواه مسلم).
وأنهار من عسل مصفّى: يقول ابن كثير: "وهو في غاية الصفاء وحسن اللّون والطّعم والرّيح. وفي حديثٍ مرفوعٍ "لم يخرج من بطون النّحل". فالعسل النّادر الوجود والغالي الثّمن في الصّحراء، سيصبح أنهاراً في الجنّة.
وفي الجنّة عيونٌ كثيرة إلى جانب أنهارها العديدة، وقد ذكرها القرآن في عددٍ من آياته. في سورة الحِجر45:15 "إن المتَّقينَ في جَنّاتٍ عيونِ" (انظر أيضاً الدخان 52:44 والذاريات 15:51 والمرسَلات 41:77)، وهذه العيون أعدّها الله ليشرب منها أهل الجنة، كما ذكر في سورة الإنسان 5:76-6 "إنَّ الأبرار يشربون من كأسٍ كان مزاجُها كافوراً. عيناً يشربُ بها عبادُ الله يفجِّرونها تفجيراً". وكافور، كما قال ابن عباس والفراء في تفسير القرطبي هي عين ماءٍ في الجنة. مع أنَّ القرطبي نفسه كتب قائلاً: "وقيل كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده، لأنَّ الكافور لا يُشرب". فهل العين تدعى "كافور" أم أنَّ ماءها مثل الكافور، ومهما كان الجواب، فالمحصلة واحدة في حديث القرآن عن عيون للشّرب في الجنّة. وتجدر هنا الإشارة إلى قول القرآن في سورة الغاشية 12:88 "فيها عَيْنٌ جارية". والمعنى الظّاهر لهذا النّص هو وجود عين واحدة في النّص، ولكن مفسّري القرآن وجدوا مخرجاً بالقول أنَّ الحديث هُنا يدور حول جنس العيون وليس عددها، أمّا في سورة الرّحمن، فقد ذكر القرآن أربعة عيون من عيون الجنّة، في الآية 50 "فيهِما عينانِ تجريان" أي في الجنّتين المذكورتين في الآية 46 "ولمن خافَ مقامَ ربُّه جنّتان". واقتبس ابن كثير هنا قول الحسن البصري في أنَّ إحداهما يقال لها تسنيم، والأخرى السّلسبيل. وهذا يتّفق مع قول القرآن في سورة الإنسان 18:76 "عيناً فيها تُسمّى سَلْسَبيلاً" وفي سورة المطفّفين 27:83-28 "ومَزَاجُهُ من تسنيمٍ. عيناً يَشربُ بها المقرّبون". والعينان الثّانيتان اللّتان ذكرتهما سورة الرّحمن في الآية 66 "عينانِ نضّاختان" لم يذكر المفسّرون لها أسماء. والّذي يهمّنا هُنا ليس غموض آيات القرآن في تحديد عدد العيون في الجنّة، بل إعلانهُ عن وجودها هناك.
يموت الكثيرون من العطش أثناء سفرهم أو ضياعهم بين رمال الصحراء القاحلة، وقليلة وصغيرة هي الواحات التي تروي عطشهم وتظِّلَلهم بأشجارها، لذلك عرف محمد بحكمته ضرورة الإسهاب في ذكر أنهار الجنة وعيونها المتفجرة بالماء وأنواع الخمر واللبن والعَسَل، فلا جفاف هناك، بل نعيم مقيم، وكان في ذلك ترغيب عظيم لاعتناق دين الإسلام من أجل الفوز بجنَّته الغنّاء.