من هو المسيح وماذا سيفعل؟

»ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلَامِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي الطَّرِيقِ سَأَلَ تَلَامِيذَهُ قَائِلًا: »مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟« فَأَجَابُوا: »يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ«. فَقَالَ لَهُمْ: »وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟« فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: »أَنْتَ الْمَسِيحُ!« فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لَا يَقُولُوا لِأَحَدٍ عَنْهُ« (مرقس 8:27-30).

ارتحل المسيح وتلاميذه شمالاً، سفر نحو يومين، إلى سفح جبل الشيخ في نواحي قيصرية فيلبس، وهناك وجَّه لهم السؤال: »من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟«. وكعادته لم يكن سؤاله للاستفهام، بل لخير الذين يطلب منهم الجواب. طلب منهم أن يخبروه برأي الناس فيه كابن الإنسان فقط، لأن العامة لا يرون إلا ناسوته. فأجابوه أن الناس في حيرة من جهته. يعتبرونه نبياً عظيماً، لكن لا يتصورونه نبياً جديداً. يظنون أنه إيليا أو إرميا أو المعمدان أو نبي آخر قديم قد ظهر ظهوراً جديداً. والظاهر أن ليس أحد يقول إنه المسيح المنتظر.

هل هذه هي النتيجة بعد خدمته ثلاث سنين؟ هل ذهبت أتعابه أدراج الرياح؟ قد أصاب البشير بقوله: »إن النور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه« (يوحنا 1:5). بعد إشباعه الخمسة الآلاف قال عنه الجمع: »إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم«. أي النبي الذي ينبغي أن يظهر قبل مجيء المسيح ليعلن مجيئه.

كان سؤال المسيح عن رأي الناس فيه مقدمة للسؤال الأهم، عن رأي تلاميذه الذين ثبتوا بعد ارتداد الأكثرين عنه. وبعد سنوات الدرس والتمرين، أتت الساعة ليفحصهم فيعرف أفكارهم في شخصية المعلِّم وليس فقط في تعليمه. لذلك سألهم: »وأنتم من تقولون إني أنا؟« - دون حصر سؤاله كالمرة الأولى في كونه ابن الإنسان.

لا ريب أنهم كانوا قد تحدثوا في ما مضى وتحاوروا في الأمر الذي سألهم عنه الآن، وتمسكوا طوال حياتهم بالآمال السياسية العالمية المتعلقة بمجيء المسيح، فيكون تركها تماماً من أصعب الأمور. ولكن المسيح أراد أن يمحو هذه الفكرة منهم، وأن يقطعها نهائياً. ليت الجميع يدركون ضرورية »القطع والبتّ«، دون تردد أو إمهال في تقرير المعتقَد الديني، ومباشرة السلوك بموجبه.

وكم كان ابتهاج المسيح عظيماً لما أخذ من تلاميذه - بفم بطرس - ذلك الجواب المستوفي الصريح: »أنت المسيح ابن الله الحي«. كان السؤال الأول للمسيح: ما القول فيه كابن الإنسان. فجاءه في الجواب الثاني »أنت ابن الله«. فما أعظم سر التقوى الذي أشار الرسول بولس إليه وهو أن الله ظهر في الجسد (1 تيموثاوس 3:16) أي أن القولين في المسيح إنه ابن الإنسان وإنه ابن الله الحي صادقان، على رغم ما بظاهرهما من التناقص. أخذ المسيح لنفسه لقب الاتضاع، واعترف بطرس له بلقب الارتفاع. لم يبتهج المسيح لهذا الجواب، لأن الشياطين سبقت إلى مثل هذا الاعتراف مراراً، وكذلك يوحنا المعمدان ونثنائيل. وبطرس ذاته أجاب قبلاً بهذه الألفاظ. لكن المسيح ابتهج لروح بطرس وزملائه، وللإيمان الثابت بعد تمحيص الحوادث السابقة. فطوَّب المسيح بطرس حالاً شخصياً تطويباً لم نقرأ أنه أسبغه على غيره إذ قال: »طوبى لك يا سمعان بن يونا«.

ليس في هذا التطويب مديح لبطرس، بل تهنئة لحظِّه الممتاز. وقد ظهر هذا في قول المسيح لبطرس: »إن لحماً ودماً لم يعلن لك، لكن أبي الذي في السموات« فليس شيء مما قاله أو فعله بطرس مجلبة لهذا التطويب، بل ما ناله من كلام الإله الذي أعلن له بإلهام روحي تلك النبوة الفريدة. ونحن نعلم أن نور الخلاص - مثل هذا الإعلان لبطرس - لا يمكن أن يأتي من البشر، فالبشر يهيئون السراج والزيت، لكن النور من عمل الإله. وقد قال الرسول بولس: »لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: »يَسُوعُ رَبٌّ« إِلَّا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ« (1 كورنثوس 12:3).

أعطيك مفاتيح الملكوت

»فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ: »أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ الْحَيِّ«. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: »طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضاً: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الْأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الْأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ«. حِينَئِذٍ أَوْصَى تَلَامِيذَهُ أَنْ لَا يَقُولُوا لِأَحَدٍ إِنَّهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ« (متى 16:16-20).

ثم كرر المسيح لبطرس ذِكْر الإسم الذي دعاه به بياناً لثباته (بطرس معناه: صخرة) وكأن المسيح يقول لرسوله المقدام: »أنت يا بطرس قد برهنت ثباتك الصخري في هذه الأحوال الصعبة لما كررت بيان حقيقة كوني في شخصي الواحد: المسيح البشري وابن الله الحيّ. وأنا أصرح لك أني سأبني كنيستي على صخرة هذه الحقيقة الجوهرية التي نطقت بها الآن، بعد أن أُعلنت لك من أبي الذي في السماوات. وكل مقاومات العالم، وقوات الجحيم إلى آخر الأيام لا يمكن أن تتغلب على الكنيسة المؤسسة على هذه الحقيقة. أصرّح لك وللذين نُبت عنهم في الجواب، بأني قد عينتكم لتنوبوا عني وتكملوا عملي بعد صعودي إلى السماء. أعطيكم مفاتيح ملكوت السماوات، لتفتحوا باب الخلاص بتبشيركم في كل البلدان، وتدخلوا إلى كنيستي الذين ترونهم من أهل الخلاص، لأنهم أتّموا شروط الخلاص. أخوّلكم سلطاناً لتصرِّحوا بالهلاك الأبدي للذين يرفضون شروط الخلاص، ويتأخرون عن التوبة والإيمان والصلاح. تحلون وتربطون هذه أيضاً بواسطة كتابكم الإنجيل - يقودكم إلهام الروح الإلهي. فكل ما تضعونه في هذا الكتاب يكون مصدَّقاً في السماء، وكل ما تتركونه يكون متروكاً في السماء. لأن ما تكتبونه من الواجبات والمحرمات يكون ما سمعتموه مني، أو ما تأخذونه بإلهام روحي، فيصلح أن يكون قانون كنيستي إلى كل الأزمان. وسأعطيكم نصيباً خصوصياً وكافياً من روح النبوة وتمييز الأرواح، تأهيلاً لهذه المهمة الفائقة. وأجعلكم أهلاً له بسكب الروح القدس عليكم سكباً عجيباً، تحقق لكم ولجميع الناس، أنكم نوابي المفوّضين. وسأمنحكم ختماً لكل ذلك: قوة لفعل المعجزات العظيمة. أسلّمكم هذا العمل الخطير لأني أسندكم فيه فتستطيعونه«.

ماذا سيفعل المسيح؟

»وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. وَقَالَ الْقَوْلَ عَلَانِيَةً، فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. فَالْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلَامِيذَهُ، فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلاً: »اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ، لِأَنَّكَ لَا تَهْتَمُّ بِمَا لِلّهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ« (مرقس 8:31-33).

بعد اعتراف بطرس هذا، طلب المسيح من تلاميذه أن لا يقولوا لأحد إنه يسوع المسيح، لأن ساعته لم تأت بعد. ثم أعلن لهم لأول مرة صريحاً غاية مجيئه من السماء، فابتدأ يعلّمهم أنه سيتألم كثيراً في أورشليم ويرفضه الرؤساء ويقتلونه ثم يقوم في اليوم الثالث. انتظر إلى أن يرسخ في قلوبهم اليقين بسرّ تأنُّسه، ويعترفون به بلسانهم صريحاً ونهائياً قبل أن يعلن لهم أمر آلامه وموته ثم قيامته. لأن فهم عمل الفداء بموته يتوقف على تأنُّسه - أي طبيعته المزدوجة. فإن لم يعرفوه المسيح ابن الله وابن الإنسان، لا يدركون معنى موته وقيامته. وكل من يرفض حقيقة التأنُّس لا يترك مكاناً للفداء. لذلك ترى الذين ينكرون لاهوت المسيح ينكرون أيضاً كفارته، لأن القضيتين مرتبطتان برباط لا يُحل.

لكن هذا الإعلان الجديد خالف كل آمال التلاميذ، فلم يقدر بطرس أن يسكت، بل تجاسر وأخذ المسيح على جانب وابتدأ ينتهره. يا للعجب! إن الذي اعترف في هذه الساعة أن هذا السيد هو ليس المسيح العظيم فقط، بل ابن الله الحي، ينتهره ويكذَّبه بقوله: »حاشاك يا رب! لا يكون لك هذا«. فما رآه بطرس في نفسه غيرةً حبية نحو سيده، كان بالحقيقة انتصاراً شيطانياً فتح له بطرس الباب، لأن الأسد الزائر إبليس كامنٌ لهذا الرسول المقدام، فوثب عليه في ساعة ارتفاعه، وأوقعه إلى الأرض مهشَّماً. كان خيراً لكل ناجح وممدوح ومرتفع لو تحذَّر من حيل الشيطان لإسقاطه. ولنا هذا التحذير في قول الرسول: »مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لَا يَسْقُطَ« (1 كورنثوس 10:12). وقال سليمان الحكيم: »قَبْلَ الْكَسْرِ الْكِبْرِيَاءُ، وَقَبْلَ السُّقُوطِ تَشَامُخُ الرُّوحِ« (أمثال 16:18).

لم يحتمل المسيح هذا الكلام بل انتهر الشيطان الذي تكلم في بطرس. ووبخ بطرس توبيخاً مراً، وقال له: »اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس«. رأى المسيح عالم الخفايا أن نوايا بطرس لم تخل من حب المجد العالمي، فاستحق هذا التوبيخ الصارم. ولأنه تلميذ حقيقي احتمله بمحبة، ولذلك وبخه. قال الحكيم: »وَبِّخْ حَكِيماً فَيُحِبَّكَ« (أمثال 9:8). وأيضاً: »وَبِّخْ فَهِيماً فَيَفْهَمَ مَعْرِفَةً« (أمثال 19:25).

شروط اتباع المسيح

»وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلَامِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: »مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الْإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. لِأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الْإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟« (مرقس 8:34-37).

ثم دعا المسيح تلاميذه مع الجمع الذي كان قد انفرد عنه، وأعلن لهم الشروط الثلاثة الشهيرة المطلوبة من تابعيه.

 

الشرط الأول: »إنكار الذات« أي تسليم زمام الذات والحياة له. لما أنكر بطرس المسيح قال: »لا أعرفه«. ومن يتبع المسيح حقاً وينكر نفسه يقول: لا أعرف نفسي حاكماً في حياتي، بل ربي هو الحاكم. سأعطي كل السيطرة على حياتي للمسيح الذي أحبني.

 

الشرط الثاني: حَمل الصليب يومياً. وهذا بالأكثر هو التمثُّل بالمسيح الذي حمل صليباً لم يضعه آخر عليه، بل هو قصده وأقامه وحمله حبّاً ليخلّص النفوس من الخطيئة والهلاك. وحَمْل الصليب وراء المسيح هو الإقدام على المصائب والمتاعب الجسدية - حتى الموت - تطوُّعاً لا إرغاماً، متى كان ذلك اهتماماً بتخليص النفوس، فليس هذا الشرط (في معظمه) احتمال صليب يوضع علينا، بل حمل صليب نقصده ونرفعه باختيارنا لخير الآخرين.

 

الشرط الثالث: اتِّباع المسيح، أي السير في خطواته بالتدقيق، دون كلل أو فتور، ودون تردُّد أو ارتداد. هو الراعي الذي يتقدم خرافه فتسير وراءه أمينة وآمنة. ثم أوضح المسيح أن هذه الشروط الثلاثة مبنية على حقيقة رئيسية في شريعة النعمة، وهي أن الذي يطلب السلامة أولاً يخسرها، والذي يطلب الخدمة أولاً يجد السلامة أيضاً. والذي يتهم أولاً بأن يحمي ذاته لا يحميه الرب فلا يسلم، أما الذي يتفرغ أولاً لخدمة الرب ويرضى أن يهجم على المخاطر في سبيل هذه الخدمة، فهذا يحميه الرب فيسلَم.

ثم قال السيد المسيح: »ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟« - هنا يسأل المسيح سامعيه: هل قيمة العالم بأسره تساوي قيمة نفس واحدة؟ والجواب: هذا غير ممكن، طالما العالم وكل ما فيه من الخيرات والأمجاد يزول، بينما النفس خالدة تبقى إلى الأبد. إذاً ما أعظم غباوة الذي يهمل أمور النفس في سيره وراء الأرباح العالمية. لأنه لو ربح العالم كله ثم أراد أن يشتري به الخلاص، يجد ذلك مستحيلاً.

وأخيراً أنذر المسيح سامعيه أن لا يستحوا به ولا بكلامه. ولو استهان ذلك الجيل الفاسق الخاطئ به وبهم، فإنه سيجيء يوماً في مجد أبيه مع الملائكة ليجازي كل واحد حسب عمله، ويستحي بالذي استحى به أولاً.