من تعاليم
المسيح
تعليم عن الصلاة
»وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي
مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ
مِنْ تَلَامِيذِهِ: »يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا
أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا
أَيْضاً تَلَامِيذَهُ«. فَقَالَ لَهُمْ: »مَتَى
صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي
فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ،
لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ
مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ
عَلَى الْأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا
أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، وَاغْفِرْ لَنَا
خَطَايَانَا لِأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً
نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا،
وَلَا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لكِنْ
نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ«. ثُمَّ قَالَ
لَهُمْ: »مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ
صَدِيقٌ، وَيَمْضِي إِلَيْهِ نِصْفَ
اللَّيْلِ وَيَقُولُ لَهُ: يَا صَدِيقُ
أَقْرِضْنِي ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ، لِأَنَّ
صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ،
وَلَيْسَ لِي مَا أُقَدِّمُ لَهُ. فَيُجِيبَ
ذلِكَ مِنْ دَاخِلٍ وَيَقُولَ: لَا
تُزْعِجْنِي! اَلْبَابُ مُغْلَقٌ الْآنَ،
وَأَوْلَادِي مَعِي فِي الْفِرَاشِ. لَا
أَقْدِرُ أَنْ أَقُومَ وَأُعْطِيَكَ.
أَقُولُ لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لَا يَقُومُ
وَيُعْطِيهِ لِكَوْنِهِ صَدِيقَهُ،
فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ
وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ. وَأَنَا
أَقُولُ لَكُمُ: اسْأَلُوا تُعْطَوْا.
اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ
لَكُمْ. لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ
يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ
يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. فَمَنْ مِنْكُمْ،
وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ابْنُهُ خُبْزاً،
أَفَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أَوْ سَمَكَةً،
أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ السَّمَكَةِ؟
أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً،
أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ
وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ
تُعْطُوا أَوْلَادَكُمْ عَطَايَا
جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الْآبُ
الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ، يُعْطِي الرُّوحَ
الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!« (لوقا
11:1-13).
في ذات مرة، لما فرغ المسيح من
الصلاة طلب منه أحد تلاميذه أن يعلِّمهم
الصلاة كما فعل المعمدان، فأجابه المسيح
بتكرار الصلاة الربانية، مختلفة قليلاً عن
صورتها في موعظته على الجبل. وأردف هذه الصورة
بمَثَل الصديق الذي يأتي ليلاً ليقترض من
صديقه خبزاً، ولا ينجح أولاً. ولكنه ينجح
أخيراً بسبب إلحاحه ولجاجته. وبنى على هذا
المثل نصيحته الشهيرة: »اسألوا تُعطوا.
اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم«. أي أولاً
سؤال بسيط. وإن لم يكف فأقوى منه: أي طلب. وإن
فشل الطلب فالقرع. فما نُعطاه فوراً هو خير.
وما نجده بعد الطلب هو خير أعظم. وما نناله بعد
القرع هو كمال الخير.
ثم أوضح المسيح علاقة المؤمنين
البنوية مع الله. فهذه تضمن لهم نوال الخير
منه. إذ يستحيل أن يمنعه عن الذين يحبهم
كأولاده. طالما الأب هو بشر لا يخدع ولده ولا
يتأخر عنه، فكيف يمكن أن الآب السماوي الكامل
يخدع أو يتأخر؟ ولا سيما إن طلب منه أولاده
عطية الروح القدس، أثمن عطاياه.
تعليم عن عناية الله
»وَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ
الْجَمْعِ: »يَا مُعَلِّمُ، قُلْ لِأَخِي
أَنْ يُقَاسِمَنِي الْمِيرَاثَ«. فَقَالَ
لَهُ: »يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي
عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟«
وَقَالَ لَهُمُ: »انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا
مِنَ الطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ
لِأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ
أَمْوَالِهِ«. وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً
قَائِلاً: »إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ
كُورَتُهُ، فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً:
مَاذَا أَعْمَلُ، لِأَنْ لَيْسَ لِي
مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟
وَقَالَ: أَعْمَلُ هذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي
وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ
جَمِيعَ غَلَّاتِي وَخَيْرَاتِي، وَأَقُولُ
لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ
كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ
كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي
وَافْرَحِي. فَقَالَ لَهُ اللّهُ: يَا
غَبِيُّ، هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ
نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي
أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ هكَذَا
الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ
غَنِيّاً لِلّهِ«.
وَقَالَ لِتَلَامِيذِهِ: »مِنْ
أَجْلِ هذَا أَقُولُ لَكُمْ: لَا تَهْتَمُّوا
لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ، وَلَا
لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ. اَلْحَيَاةُ
أَفْضَلُ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ
أَفْضَلُ مِنَ اللِّبَاسِ. تَأَمَّلُوا
الْغِرْبَانَ: أَنَّهَا لَا تَزْرَعُ وَلَا
تَحْصُدُ، وَلَيْسَ لَهَا مَخْدَعٌ وَلَا
مَخْزَنٌ، وَاللّهُ يُقِيتُهَا. كَمْ
أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلُ مِنَ
الطُّيُورِ! وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ
يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ
ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ لَا
تَقْدِرُونَ وَلَا عَلَى الْأَصْغَرِ،
فَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِالْبَوَاقِي؟
تَأَمَّلُوا الّزَنَابِقَ كَيْفَ تَنْمُو!
لَا تَتْعَبُ وَلَا تَغْزِلُ، وَلكِنْ
أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلَا سُلَيْمَانُ
فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ
كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ
الْعُشْبُ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ فِي
الْحَقْلِ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ
يُلْبِسُهُ اللّهُ هكَذَا، فَكَمْ
بِالْحَرِيِّ يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا
قَلِيلِي الْإِيمَانِ؟ فَلَا تَطْلُبُوا
أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ
وَلَا تَقْلَقُوا، فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا
تَطْلُبُهَا أُمَمُ الْعَالَمِ. وَأَمَّا
أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ
تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ. بَلِ اطْلُبُوا
مَلَكُوتَ اللّهِ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ
لَكُمْ.
»لَا تَخَفْ أَيُّهَا الْقَطِيعُ
الصَّغِيرُ، لِأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ
أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ« (لوقا
12:13-32).
جاء رجل إلى المسيح يطلب منه أن
يستعمل سلطانه ليقنع أخاه أن يقاسمه الميراث،
فرفض المسيح التداخل في الأمر، لأنه يحصر
مساعدته الزمنية في الحاجات الضرورية التي لا
يقدر غيره أن يؤديها، ولأن خدمته الدينية
خالية من كل صبغة سياسية مذهبية، فلا يرضى أن
ينظر الناس كرئيس مذهب يقضي في أمور تابعيه
الزمنية. وبمناسبة هذا الحادث هاجم المسيح
خطيئة أخرى أعم من الرياء، ولكنها غير
مستقبحة عند العموم، وهي خطيئة الطمع، أي
تعلُّق القلب بالمال.
ولكي يوضح ما هو الطمع، قدم مَثَلاً
عن غني زادت خيراته الزمنية، لكنه لم يهتم أن
يكون غنياً لله، بل رضي أن يعيش غنياً عنه
تعالى. لما زادت محاصيله كان يجب أن يشكر الله
ويعترف بفضله، لكنه لم يفعل. وكان عليه أن
يعرف أن أمواله ليست له بل لربِّه، وأنه موكّل
عليها ليستخدمها في ما يهديه الله من الأعمال
المفيدة له ولغيره، ولكنه لم يفعل. فأي حقٍّ
له أن يعتني الله به، ما دام لا يبالي بالله
ولا بالناس، بل بذاته فقط؟ فكان نصيبه أن نقصت
حياته بقدر ما زادت حاصلاته، لأنه سمع صوت
الرب قائلاً: »يا غبي، هذا الليلة تُطللب نفسك
منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون؟«.. لا يحصر
الله خيراته الزمنية في الذين يتقونه، بل
يُنعم بشمسه وهوائه ومائه على الظالمين كما
على الأبرار. لكي لا يفسد الدين بسبب استخدامه
للمطامع الزمنية.
وبعد أن كرر المسيح لتلاميذه فكرة
اعتناء الله بحاجياتهم الزمنية، الواضحة من
عنايته بالنبات والحيوان. وبعد أن طمأنهم
بأنه على رغم ضعفهم الكلي قد سُرَّ الآب
السماوي أن يعطيهم الملكوت، حثَّهم على
العطاء، مبيناً أن ما يبذله الإنسان في عمل
الخير هو الذي يبقى له. وما يذخره لنفسه فهذا
يخسره، وإن بذل المال في سبيل البر يقرِّب
القلب إلى الله. لأنه »حيث يكون الكنز هناك
يكون القلب أيضاً«.
تعليم عن المجيء الثاني
»بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا
صَدَقَةً. اِعْمَلُوا لَكُمْ أَكْيَاساً لَا
تَفْنَى وَكَنْزاً لَا يَنْفَدُ فِي
السَّمَاوَاتِ، حَيْثُ لَا يَقْرَبُ سَارِقٌ
وَلَا يُبْلِي سُوسٌ، لِأَنَّهُ حَيْثُ
يَكُونُ كَنْزُكُمْ هُنَاكَ يَكُونُ
قَلْبُكُمْ أَيْضاً. لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ
مُمَنْطَقَةً وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً،
وَأَنْتُمْ مِثْلُ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ
سَيِّدَهُمْ مَتَى يَرْجِعُ مِنَ الْعُرْسِ،
حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقَرَعَ يَفْتَحُونَ
لَهُ لِلْوَقْتِ. طُوبَى لِأُولَئِكَ
الْعَبِيدِ الَّذِينَ إِذَا جَاءَ
سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ.
اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ
يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ
وَيَخْدِمُهُمْ. وَإِنْ أَتَى فِي
الْهَزِيعِ الثَّانِي أَوْ أَتَى فِي
الْهَزِيعِ الثَّالِثِ وَوَجَدَهُمْ
هكَذَا، فَطُوبَى لِأُولَئِكَ الْعَبِيدِ.
وَإِنَّمَا اعْلَمُوا هذَا: أَنَّهُ لَوْ
عَرَفَ رَبُّ الْبَيْتِ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ
يَأْتِي السَّارِقُ لَسَهِرَ، وَلَمْ يَدَعْ
بَيْتَهُ يُنْقَبُ. فَكُونُوا أَنْتُمْ
إِذاً مُسْتَعِدِّينَ، لِأَنَّهُ فِي
سَاعَةٍ لَا تَظُنُّونَ يَأْتِي ابْنُ
الْإِنْسَانِ« (لوقا 12:23-40).
أعلن المسيح أنه سيجيء ثانية إلى
أرضنا مجيئاً مفاجئاً، وهذا يوجب على كل
عبيده أن يسهروا ويستعدوا ليلاقوه بفرح.
فالذين يراهم عند مجيئه مستعدين، يكافئهم
ويتكئهم ويتقدم ويخدمهم، ويكونون حقاً
مطوبين. ولما سأله بطرس: »ألنا تقول هذا
المَثَل أم للجميع ايضاً؟« قدم لهم مثلاً آخر
أظهر فيه نصيب عديمي الأمانة في ما وكلهم الله
عليه. هؤلاء: »يقطعهم سيدهم، ويجعل نصيبهم مع
الخائنين«. فالذي يعطيه الله كثيراً يطالبه
بالكثير، والذي عنده قليل يطالبه بالقليل،
لكنه لا يعفي أحداً من المطالبة. ولا يطالب
الله الإنسان فقط بما عنده أو بما أعطاه له،
بل يطالبه أيضاً بما كان يمكنه أن يحصل عليه
لو سعى جدياً، فيجازي الإنسان ليس فقط على
مخالفة ما يعرفه من الواجب، بل أيضاً على ما
يهمله من الوسائط لزيادة المعرفة.
تعليم عن التوبة
»وَقَالَ هذَا الْمَثَلَ: »كَانَتْ
لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي
كَرْمِهِ، فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَراً
وَلَمْ يَجِدْ. فَقَالَ لِلْكَرَّامِ:
هُوَذَا ثَلَاثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ
ثَمَراً فِي هذِهِ التِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ.
اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ الْأَرْضَ
أَيْضاً؟ فَأَجَابَ: يَا سَيِّدُ،
اتْرُكْهَا هذِهِ السَّنَةَ أَيْضاً، حَتَّى
أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً.
فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً، وَإِلَّا فَفِيمَا
بَعْدُ تَقْطَعُهَا« (لوقا 13:6-9).
أظهر المسيح أيضاً في خطابه إنه أتى
إلى العالم بتعاليم هي كنار تحرق أشواك
الأباطيل والمتمسّكين بها، لأنه متى جاء
النور إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من
النور، لا بد من الخصام بين أنصار النور
وأنصار الظلام. لأن من طبيعة أنصار الظلام
الخصام. فحيثما يكون الكل ظلاماً أو الكل
نوراً، فلا خصام. أما متى أقبل النور على
الظلام، فإن الظلام يهاجمه فيحدث الانقسام،
فالانقسام إذاً نتيجة حتمية لمجيء المسيح لبث
تعاليمه.
ثم شبَّه المسيح أمته اليهودية
بشجرة تين قُضي عليها لعدم إثمارها، وأمر
بقطعها لأنها تعطل الأرض. وشبَّه الخالق
سبحانه بصاحب الكرم، وشبَّه المسيح نفسه
بالكرَّام. فهو الوسيط بين الله أبيه والناس
الخطاة، يستدرك الغضب الإلهي الذي استحقوه
لعدم إتيانهم بالأثمار الصالحة، ولتعطيلهم
الأرض بقدوتهم الشريرة بين الأمم، ويسترحم
الصبر الإلهي عليهم حتى يتمَّ ما يقصده
لخلاصهم. يعترف بأن الله صبر عليها ثلاث سنين،
بينما كان هو يعلّمهم ويخدمهم بطرق متنوعة.
ولم تبْقَ له غير واسطة وحيدة وأخيرة يقدمها
لعلهم بسببها يتوبون، وهي أنه يقدم ذاته أمام
عيونهم ذبيحة إثم عنهم، فإن قبلوا هذه
الواسطة يسلمون، وإلا فيُقطعون. وقد تدوَّنت
على صفحات التاريخ بعد صعود المسيح، الخاتمة
المحزنة لِما صوَّره المسيح في هذا المثَل
الذي تمَّ به كلام المعمدان لما قال: »وَالْآنَ
قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ
الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لَا تَصْنَعُ
ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي
النَّارِ« (متى 3:10).
تعليم عن عمل الخير يوم السبت
»وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي أَحَدِ
الْمَجَامِعِ فِي السَّبْتِ، وَإِذَا
امْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضُعْفٍ
ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ
مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ
تَنْتَصِبَ الْبَتَّةَ. فَلَمَّا رَآهَا
يَسُوعُ دَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: »يَا
امْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ
ضُعْفِكِ«. وَوَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ،
فَفِي الْحَالِ اسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ
اللّهَ. فَرَئِيسُ الْمَجْمَعِ، وَهُوَ
مُغْتَاظٌ لِأَنَّ يَسُوعَ أَبْرَأَ فِي
السَّبْتِ، قَالَ لِلْجَمْعِ: »هِيَ سِتَّةُ
أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا الْعَمَلُ، فَفِي
هذِهِ ائْتُوا وَاسْتَشْفُوا، وَلَيْسَ فِي
يَوْمِ السَّبْتِ« فَأَجَابَهُ الرَّبُّ: »يَا
مُرَائِي، أَلَا يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ
حِمَارَهُ مِنَ الْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ
وَيَسْقِيهِ؟ وَهذِهِ، وَهِيَ ابْنَةُ
إِبْرهِيمَ، قَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ
ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَا كَانَ
يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هذَا
الرِّبَاطِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟« وَإِذْ
قَالَ هذَا أُخْجِلَ جَمِيعُ الَّذِينَ
كَانُوا يُعَانِدُونَهُ، وَفَرِحَ كُلُّ
الْجَمْعِ بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ
الْمَجِيدَةِ الْكَائِنَةِ مِنْهُ« (لوقا
13:10-17).
دخل المسيح مجمع إحدى القرى في يوم
سبت وصار يعلّم، وكان بين العابدين امرأة
منحنية الظهر، لا تقدر أن تنتصب البتة منذ
ثماني عشرة سنة، حتى لم يعد لها أمل بصحة
الجسم. لكن تقواها جذبتها إلى المعبد برغم
العلة. لا يظهر أنها استنجدت بالمسيح، بل كانت
تُصغي إلى تعليمه، فدعاها ليشفيها ثم يجدد
تعليمه في قضية السبت وبركاته. فلما تقدمت
إليه وضع يديه عليها كطبيب يقوّم ظهرها
المنحني وقال: »يا امرأة، إنك محلولة من ضعفك«.
فانتصبت حالاً صحيحة من دائها، وأظهرت
إيمانها وفِعْلَ النعمة في قلبها بأنها مجدت
الله. فاغتاظ رئيس المجمع مدَّعياً المحافظة
على وصية السبت. ومع احترامه للمسيح صوَّب
توبيخه نحو الجَمع وأمرهم أن لا يطالبوا
بالشفاء في السبوت ما دام لهم ستة أيام أخرى
لذلك.
أما المسيح فرفع عن هذه المسكينة،
وعن الجموع، هذا الحكم الظالم. وذكّر هذا
الرئيس المرائي أنه يسمح للناس أن يعملوا في
السبوت أعمالاً للمحافظة على مواشيهم تزيد
على ما عمله المسيح للمحافظة على هذه المرأة.
فإذا كانوا يقودون في السبوت مواشيهم إلى
المياه بعد أن يحلوها من مرابطها، كيف يدينون
من يحل شخصاً من قيود استمرّت سنوات، بفعل
الشيطان، ليقودها إلى الصحة الجسدية، ثم إلى
الحياة الأبدية ففرح الجمع بكلام السيد
المسيح وبجميع أعماله المجيدة، وخجل جميع
الذين كانوا يعاندونه.
تعليم عن دعوة المساكين
»وَإِذْ جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَحَدِ
رُؤَسَاءِ الْفَرِّيسِيِّينَ فِي السَّبْتِ
لِيَأْكُلَ خُبْزاً، كَانُوا
يُرَاقِبُونَهُ. وَإِذَا إِنْسَانٌ
مُسْتَسْقٍ كَانَ قُدَّامَهُ. فَسَأَلَ
يَسُوعُ النَّامُوسِيِّينَ
وَالْفَرِّيسِيِّينَ: »هَلْ يَحِلُّ
الْإِبْرَاءُ فِي السَّبْتِ؟« فَسَكَتُوا.
فَأَمْسَكَهُ وَأَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَهُ.
ثُمَّ أَجَابَهُمْ وَقَالَ: »مَنْ مِنْكُمْ
يَسْقُطُ حِمَارُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي
بِئْرٍ وَلَا يَنْشِلُهُ حَالاً فِي يَوْمِ
السَّبْتِ؟« فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ
يُجِيبُوهُ عَنْ ذلِكَ. وَقَالَ
لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً، وَهُوَ
يُلَاحِظُ كَيْفَ اخْتَارُوا الْمُتَّكَآتِ
الْأُولَى: »مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى
عُرْسٍ فَلَا تَتَّكِئْ فِي الْمُتَّكَإِ
الْأَوَّلِ، لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ
يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ. فَيَأْتِيَ
الَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ:
أَعْطِ مَكَاناً لِهذَا. فَحِينَئِذٍ
تَبْتَدِئُ بِخَجَلٍ تَأْخُذُ الْمَوْضِعَ
الْأَخِيرَ. بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَاذْهَبْ
وَاتَّكِئْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَخِيرِ،
حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ
لَكَ: يَا صَدِيقُ، ارْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ.
حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ
الْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ. لِأَنَّ كُلَّ مَنْ
يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ
نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ«. وَقَالَ أَيْضاً
لِلَّذِي دَعَاهُ: »إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً
أَوْ عَشَاءً فَلَا تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ
وَلَا إِخْوَتَكَ وَلَا أَقْرِبَاءَكَ وَلَا
الْجِيرَانَ الْأَغْنِيَاءَ، لِئَلَّا
يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً، فَتَكُونَ لَكَ
مُكَافَاةٌ. بَلْ إِذَا صَنَعْتَ ضِيَافَةً
فَادْعُ الْمَسَاكِينَ: الْجُدْعَ،
الْعُرْجَ، الْعُمْيَ، فَيَكُونَ لَكَ
الطُّوبَى إِذْ لَيْسَ لَهُمْ حَتَّى
يُكَافُوكَ، لِأَنَّكَ تُكَافَى فِي
قِيَامَةِ الْأَبْرَارِ« (لوقا 14:1-14).
دعا أحد الفريسيين المسيح ليتناول
الطعام في بيته في يوم سبت. ولم تكن الدعوة عن
حب وإخلاص، ولكن المسيح المتواضع المتسامح
قبلها.
وصادف المسيح في هذا البيت رجلاً
مريضاً بالاستسقاء، فسأل الذين كانوا
يراقبونه: »هل يحل الإبراء في السبت؟«
فتحيَّروا لأنهم إن قالوا: »نعم«، يكونون قد
فتحوا له باباً لفعل المعجزة، ولا يمكنهم أن
ينتقدوه عليها، فيزيد تعلُّق الشعب به
وبتعليمه. وإن قالوا »لا« يخجلهم من كتبهم كما
فعل سابقاً، فسكتوا. فأبرأ المستسقي وأطلقه.
ثم بكّت مقاوميه مرة أخرى على أفكارهم السرية
في انتقادهم عمله في السبت.
وإذ لاحظ المسيح كيف تسابق ضيوف هذا
الفريسي أثناء الوليمة إلى المتكأ الأول على
المائدة، الذي هو الأشرف حسب اصطلاحهم، بنى
على ذلك تعليمه أن »كل من يرفع نفسه يتضع، ومن
يضع نفسه يرتفع«. ونصح الحاضرين أن لا يعرّض
أحدهم نفسه للخجل باختياره الموضع الأول.
فالتعظُّم ذميم، والتواضع باب الكرامة
الحقيقية.
ثم التفت المسيح إلى صاحب البيت
وذكّره أن الذي يدعو أصحابه والأغنياء من
جيرانه ليأكلوا عنده ينال مكافأته في هذه
الدنيا، لأنهم فيما بعد يدْعُونه إلى موائدهم.
أما الذي يريد المكافأة في قيامة الأبرار
فعليه أن يدعو ويطعم أهل الفاقة والذل،
فالفضل الحقيقي الذي يسخو لمجرد حبه لربه
ولبني جنسه، دون نظر إلى العَوَض، لا في هذه
الدنيا ولا في الآخرة. والإكرام الإلهي مضمون
لمثل هذا.
الأكل في ملكوت السماوات
»فَلَمَّا سَمِعَ ذلِكَ وَاحِدٌ
مِنَ الْمُتَّكِئِينَ قَالَ لَهُ: »طُوبَى
لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزاً فِي مَلَكُوتِ
اللّهِ«. فَقَالَ لَهُ: »إِنْسَانٌ صَنَعَ
عَشَاءً عَظِيماً وَدَعَا كَثِيرِينَ،
وَأَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي سَاعَةِ الْعَشَاءِ
لِيَقُولَ لِلْمَدْعُّوِينَ: تَعَالَوْا
لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ.
فَابْتَدَأَ الْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ
يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَهُ الْأَوَّلُ:
إِنِّي اشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَأَنَا
مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ.
أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. وَقَالَ آخَرُ:
إِنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ
بَقَرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لِأَمْتَحِنَهَا.
أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. وَقَالَ آخَرُ:
إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ، فَلِذلِكَ
لَا أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ. فَأَتَى ذلِكَ
الْعَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذلِكَ.
حِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ الْبَيْتِ، وَقَالَ
لِعَبْدِهِ: اخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى
شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا،
وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا الْمَسَاكِينَ
وَالْجُدْعَ وَالْعُرْجَ وَالْعُمْيَ.
فَقَالَ الْعَبْدُ: يَا سَيِّدُ، قَدْ صَارَ
كَمَا أَمَرْتَ، وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ.
فَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: اخْرُجْ
إِلَى الطُّرُقِ وَالسِّيَاجَاتِ
وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ حَتَّى
يَمْتَلِئَ بَيْتِي، لِأَنِّي أَقُولُ
لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ
أُولئِكَ الرِّجَالِ الْمَدْعُّوِينَ
يَذُوقُ عَشَائِي« (لوقا 14:15-24).
علق أحد الحاضرين على تعليم المسيح
عن الولائم، وقال: »طوبى لمن يأكل خبزاً في
ملكوت الله«. حاسباً نفسه من هؤلاء
المطوَّبين. فقدَّم المسيح مثلاً اتّخذ فيه
الوليمة رمزاً إلى الدين، لأن الدين الحقّ
يغذي النفوس ويلذُّ لها، ولأن الله يقدّمه
للناس مجاناً، ولأنه يترك للمدعوين تمام
الحرية بقبول الدعوة أو رفضها، ولأنه يجمع كل
الذين يلبُّون الدعوة. تحدث المسيح في المثل
عن إنسان شريف دعا أشخاصاً إلى عشاء عظيم في
بيته، فقدّموا أعذاراً مختلفة، وتأخروا عن
العشاء.
هكذا يوجِّه الله الدعوة
للمتديّنين، لكن لأنهم رفضوا دعوته فإنه
يوجهها إلى العشارين والخطاة. وهؤلاء يشبهون
أهل الشوارع والأزقة في مدينة الملك. ولما كان
عشاؤه يكفي كثيرين، فإنه يعمّم الدعوة إلى
الذين في الطرق والسياجات خارج المدينة - أي
الشعوب الوثنية، فيقبلون ما رفضه رجال الدين
اليهود، ويجدون طريقهم إلى التوبة والإيمان.
شبَّه المسيح رؤساء الدين بالذي
يقول: »اشتريتُ حقلاً وأنا مضطرٌّ أن أخرج
وأنظره. أسألك أن تعفيني«. ثم بآخر يقول: »اشتريت
خمسة أزواج بقر، وأنا ماض لأمتحنها. أسألك أن
تعفيني«. وبثالث يقول: »إني تزوجت بامرأة،
فلذلك لا اقدر أن أجيء« (إن أعفيتني أو إن لم
تعفني). فالاعتذار الباطل في الدين هو اصطلاح
قديم ومنتشر كثيراً ومُهْلك. وقد وضَّح
المسيح غضب الله من الأعذار على أنواعها،
لأنها تدل على الاستخفاف بدعوته الإلهية
لوليمة الخلاص، وعلى غباوتهم الفائقة لأنهم
وضعوا أرباح الدنيا قَبْل أرباح السماء،
وظنوا أن أعذارهم تفيدهم، وأن الباب يبقى
مفتوحاً لهم إن أتوا متأخرين.
عزيزي القارئ، هل وصلتك دعوة المسيح
إلى وليمة محبته لتجد فيها شبع نفسك؟ إنه
يريدك أن تتعشى معه وهو معك (رؤيا 3:20).
فهل تقبل الدعوة؟ هل تفتح له باب
قلبك؟
اترك الأعذار، ومتِّع نفسك معه
بالشبع العظيم...