المسيح يعلّم
عن العظمة الحقيقية
»فِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَقَدَّمَ
التَّلَامِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ: »فَمَنْ
هُوَ أَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ؟«
فَدَعَا يَسُوعُ إِلَيْهِ وَلَداً
وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ وَقَالَ: »اَلْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا
وَتَصِيرُوا مِثْلَ الْأَوْلَادِ فَلَنْ
تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. فَمَنْ
وَضَعَ نَفْسَهُ مِثْلَ هذَا الْوَلَدِ
فَهُوَ الْأَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ
السَّمَاوَاتِ. وَمَنْ قَبِلَ وَلَداً
وَاحِداً مِثْلَ هذَا بِاسْمِي فَقَدْ
قَبِلَنِي« (متى 18:1-5).
تحدث بعض التلاميذ عند رجوعهم من
جبل التجلي، على غير مسمع من المسيح، في من هو
الأعظم بينهم. ومن الطبيعي أن التلاميذ الذين
لم يدَّعوا لأنفسهم الأولية، كانوا ينتصرون
للذين يريدون لأنفسهم الكرامة الممتازة،
فأوصلهم الحسد إلى الاحتجاج الذي ربما بنوه
على بعض الامتيازات الشخصية في معاملات
المسيح وكلامه. فما أشد هذه الضربة على قلب
المسيح الرقيق المحب بوقوع هذه المشاحنة
الصبيانية، بين الذين قد اصطفاهم من بين كل
البشر رسلاً له، ويا له من هبوط عظيم في
الآمال التي تعلَّقت عليهم!
وفاتح المسيح بعض تلاميذه في ما عسى
أن يكون موضوع جدالهم الحماسي الذي لن يسمعه،
فسكتوا. كان يجب عليهم أن يعترفوا ويصلحوا
زلتهم، فقد قال إمام الحكماء سليمان: »مَنْ
يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لَا يَنْجَحُ، وَمَنْ
يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ« (أمثال
28:13). وقال نبي الله داود: »لَمَّا سَكَتُّ
بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي الْيَوْمَ
كُلَّه.. قُلْتُ: »أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ
بِذَنْبِي« وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ
خَطِيَّتِي« (مزمور 32:3 و5) لكن بعد سكوتهم
تقدموا وطلبوا إليه أن يفيدهم عن أساس العظمة
في ملكوت السماوات ومن هو الأعظم فيه، فجمع
الاثنى عشر جميعاً، ثم دعا ولداً إليه وأوقفه
في الوسط ليراه الجميع، وكأنه يقول إن العظمة
في ملكوته لا تكون إلا للذي لا يطلبها، وأن لا
أحد يدخل هذا الملكوت إلا من يرجع إليه ويصير
مثل ولد.
من أوصاف الولد بساطة التواضع بدلاً
من ادعاء العظمة، وعدم المبالاة برفعة
المقام، وسهولة الانقياد والطاعة دون تردد أو
اعتراض، وسرعة المسامحة على الأذية بدلاً من
التشبُّث بالانتقام والحقد طويلاً،
والتطلُّع للأمام برجاء والنظر إلى المستقبل
بسرور بدلاً من القنوط واليأس، والاكتفاء
بالخير القليل بدلاً من الطمع، وتصديق ما
يسمعه بدلاً من الشكوك والظنون السيئة.
لذلك قال المسيح: »الأصغر فيكم
جميعاً هو يكون عظيماً«. وقد مرَّت تسعة عشر
قرناً على البشر ولا يزال هذا التعليم
مجهولاً من الكثيرين، ولم يفهم في التواضع
إلا عدد قليل.. حتى تلاميذ المسيح أنفسهم لم
يستفيدوا في ذلك الوقت إلا قليلاً من هذا
التعليم، لأنهم جددوا هذه المجادلة فيما بعد.
وفي هذا الوقت طلبوا أن يعرفوا مَن منهم يكون
الأعظم في ملكوت السماوات. لذلك كانوا في خطر،
ليس أن يفقدوا الامتياز فقط، بل أن يفقدوا
الدخول إلى ذلك الملكوت. وما دام الذي يطلب
العظمة لنفسه ولا يرجع ويصير مثل الأولاد لن
يدخل ملكوت السماوات، فإن عليهم أن يتركوا
السؤال عن العظمة، ويهتموا بالسؤال عن دخول
الملكوت.
ثم علّمهم المسيح شيئاً عن كرامة
اسمه، حتى أن كل ما يصنعه أحد باسمه يُحسب
إكراماً له. ومن يكرم صغيراً باسمه يكون قد
أكرمه. ومن يكرمه يكون قد أكرم الآب الذي
أرسله. فما أجمل هذه الرابطة التي تربط الآب
بالابن، ثم الابن بأصغر المؤمنين باسمه.
»وَقَالَ يُوحَنَّا: »يَا
مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ
شَيَاطِينَ بِاسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ
يَتْبَعُنَا، فَمَنَعْنَاهُ لِأَنَّهُ
لَيْسَ يَتْبَعُنَا«. فَقَالَ يَسُوعُ: »لَا
تَمْنَعُوهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ
يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ
سَرِيعاً أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرّاً.
لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ
مَعَنَا. لِأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ
مَاءٍ بِاسْمِي لِأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ
فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَا
يُضِيعُ أَجْرَهُ« (مرقس 9:38-41).
على أثر هذا الكلام، أخبره يوحنا
عما جرى معه ومع بعض رفقائه، لما التقوا
بإنسان يخرج شياطين باسم المسيح، وهو ليس من
تابعيه ظاهراً، ظناً منهم أن لا حقَّ لغيرهم
في هذا الامتياز الذي منحه المسيح لهم. لكن
طالما لا يقدر إلا المسيح أن يعطي هذا
السلطان، فلا مانع من أن يكون قد أخذه من
المسيح على غير علمهم. وأن المسيح أجاز له أن
يعمل باسمه دون أن يرافقه، ودون أن يعرِّف
التلاميذ به. وقد خطّأ المسيح يوحنا، وأظهر أن
من ليس عليه فهو معه. أي أن لا حياد بالنسبة
لملكوت البر. فلا يصحُّ أن يُقال مطلقاً في
الدين: »لا معنا ولا علينا«. والواجب على
يوحنا أن يعرف أن كل إنسان صالح يسمِّي اسم
المسيح سنداً لعمله، يسنده المسيح، لأن عمله
يكون عزيزاً لدى المسيح. وحامل هذا الاسم
باستحقاق يكون تحت حماية المسيح، وكل من
يؤذيه يجازيه الملك، ويكافئ كل من يقدم خدمة
باسمه.
تحذير من العثرات
»وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هؤُلَاءِ
الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ
لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ
الرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ.
وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْعَثَرَاتِ.
فَلَا بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ،
وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الْإِنْسَانِ
الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ. فَإِنْ
أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ
فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ
لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ
أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي
النَّارِ الْأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ
أَوْ رِجْلَانِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ
عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ.
خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ
أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ
النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ« (متى 18:6-9).
ثم تطرَّق المسيح إلى موضوع آخر مهم
جداً، وهو العثرات. وكان قد تكلم عنه في وعظه
على الجبل، وكرره الآن كتعليم خاص للتلاميذ
وحدهم. لقد أعطاهم نفسه قدوة لما جنَّبهم
العثرة ودفع الجزية، ووبّخهم على غلطهم لما
أعثروا التلميذ المجهول الذي كان يُخرج
شياطين باسمه. ثم قال المسيح إن غرق الإنسان
مثقلاً بحجر الرحى في لجة البحر، أفضل له من
أن »يعثر أحد هؤلاء الصغار«. ولا بد من أنه قصد
بالإعثار أولاً أن يقود الإنسان غيره إلى
الخطيئة، وقصد أيضاً الإهانة والتكدير في غير
محله. فمن يفعل ذلك لأحد تلاميذه الحقيقيين
ينال جزاءً مخيفاً، يجعله يتمنّى أن يبدل
العقاب - لو أمكن - بالغرق في قعر البحر.
ولكي لا يولِّد كلام المسيح آمالاً
فارغة في تلاميذه، فيظنون أنهم يستطيعون
إزالة العثرات من العالم تماماً، قال: »لا بد
أن تأتي العثرات«. فهل هناك عذر لمن يُعثر
غيره لأن العثرات لا بد أن تأتي؟ أسرع المسيح
وتلافى هذا الوهم فقال: »لكن ويل لذلك الإنسان
الذي به تأتي العثرة«.
ثم نصح المسيح أن من تعثره يده
فليقطعها، ومن تعثره عينه فيقلعها. وهذا
بالطبع كلام مجازي، لأن قطع اليد أو قطع العين
الحرفي لا يزيل الإثم الذي مركزه القلب،
فقَطْع أعضاء الجسد لا يصلحها. يمكن أن يرتكب
الإنسان جميع الخطايا في فكره وقلبه ولو قلع
ليس العين اليمنى فقط، بل واليسرى أيضاً،
وقطع يده اليمنى واليسرى أيضاً. فالإله
الروح، الذي له وحده الحكم في أمر الخطيئة
والهلاك، ينظر إلى ما في القلب وليس إلى ما في
الأعضاء. والمقصود من هذا الكلام هو أن كل من
يجرُّ الإنسان إلى الخطيئة يجب إبعاده ولو
كان عزيزاً عند الإنسان، كعينه اليمنى أو يده
اليمنى.
قصد الخالق أن تكون أعضاء الجسد
بركة وآلة للخير في نفع الناس، لذلك يسمِّي
الرسول بولس الأجساد هياكل للروح القدس (1
كورنثوس 6:19) فالذي يشوهها يُهين الهيكل
وصانعه. إنه لا يطلب قلعاً لأعضاء الجسد، بل
يطلب صيانتها وتكريسها لخدمته. وهذه الخدمة
تتعذر على من يتلف هذه الأعضاء.
ثم قال المسيح إن كل من يعثر غيره
يتعرَّض لجهنم النار، حيث دودهم لا يموت
والنار لا تُطفأ. وليس في هذا الكلام رائحة
تهديد، بل هو تحذير وإنذار مقدَّم ممن أتى من
السماء ليخلصنا من هذه الأبدية المرعبة. ولا
يمكن أن محباً نظيره يبالغ في وصف المخاوف
التي يخشى من أن تصيب الذين يحبهم.
تحذير من تعثير الصغار
»لَا تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هؤُلَاءِ
الصِّغَارِ، لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ
مَلَائِكَتَهُمْ فِي السَّمَاوَاتِ كُلَّ
حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي الَّذِي فِي
السَّمَاوَاتِ. لِأَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ
قَدْ جَاءَ لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ.
مَاذَا تَظُنُّونَ؟ إِنْ كَانَ لِإِنْسَانٍ
مِئَةُ خَرُوفٍ، وَضَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا،
أَفَلَا يَتْرُكُ التِّسْعَةَ
وَالتِّسْعِينَ عَلَى الْجِبَالِ
وَيَذْهَبُ يَطْلُبُ الضَّالَّ؟ وَإِنِ
اتَّفَقَ أَنْ يَجِدَهُ، فَالْحَقَّ أَقُولُ
لَكُمْ إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ
التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الَّتِي لَمْ
تَضِلَّ. هكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ
أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَنْ
يَهْلِكَ أَحَدُ هؤُلَاءِ الصِّغَارِ« (متى
18:10-14).
ثم حذر المسيح تلاميذه من احتقار
الصغار، لأن الله يعتني بهم، حتى أنه يقدم لهم
خدمة ملائكية خصوصية. قال إن ملائكتهم ينظرون
كل حين وجه الآب السماوي. فأيُّ حقٍ للناس أن
يحتقروهم؟ ليس المقصود بهذا القول صغار السن
وحدهم، بل يشمل أيضاً صغار النفوس، وعلى
الأخص المؤمنين الواقعين تحت نيران
الاضطهاد، أو الغرقى في بحر الاحتقار. ثم أوضح
المسيح أن خلاصه يعمُّ جميع الأطفال، عندما
قال: »ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السماوات
أن يهلك أحد هؤلاء الصغار«.
وأردف بهذا القول كلاماً جميلاً من
غاية مجيئه من السماء، بيّن فيه تمسُّكه بلقب
ابن الإنسان. وهو »لأن ابن الإنسان قد جاء لكي
يطلب ويخلص ما قد هلك«. ومثَّل عمله بتفتيش
إنسان عن خروف أضاعه، فترك على الجبال التسعة
والتسعين التي لم تضل لكي يفتش عن الضال. ومتى
وجده يفرح به أكثر من التسعة والتسعين. حقاً
إن اهتمام الله وفرحه بخاطئ واحد يتوب أكثر من
تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة، يفوق
إدراك البشر، وأن أفكاره ليست كأفكارهم.
إن أخطأ إليك أخوك
»وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ
فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ
رَبِحْتَ أَخَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ،
فَخُذْ مَعَكَ أَيْضاً وَاحِداً أَوِ
اثْنَيْنِ، لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ
عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ.
وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ
لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ
الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ
كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ. اَلْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ
عَلَى الْأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي
السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى
الْأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي
السَّمَاءِ. وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنِ
اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الْأَرْضِ
فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ
يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي
فِي السَّمَاوَاتِ، لِأَنَّهُ حَيْثُمَا
اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ بِاسْمِي
فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ« (متى
18:15-20).
ثم تكلم المسيح عن عثرة أخرى لا بد
من وقوعها بين أهل الإيمان ضمن الكنيسة. فكيف
يتصرف المؤمن متى تعدى عليه أخٌ؟ أولاً: لا
يجب أن يدخل معه في منازعة، بل عليه أن يحفظ
نفسه من الغيظ. ثم عليه أن يراعي المحبة
الأخوية، فلا يُفشي الأمر خشية تضخُّمه فيصعب
إصلاحه. وعليه أن يعاتب المعتدي حبياً وعلى
انفراد، أملاً برجوعه عن خطئه في الحال،
ويمنعه من تكرار زلته. لأنه يُرجَّح أن
المعتدي متى رأى عدوه في روح الحب والمسالمة،
يخجل ويندم ويتوقف عن تكرار الاعتداء ويُصلِح
ما فعل. ولهذا السبب قال المسيح: »إن سمع منك
فقد ربحت أخاك«.
أما إنْ قسّى المعتدي قلبه فالواسطة
الثانية لتخجيله وإقناعه هي الاستعانة بلجنة
صغيرة تسعى في إصلاح ذات البيْن، وتكون
شاهداً على المعتدي إن لم يمتثل للحق،
وللمعتدَى عليه ببرائته من الذنب. لكن إنْ
أصرَّ على رفض هذه الوسائط الحبية، تُرفع
القضية إلى المجلس الرسمي، أي الكنيسة، لتنظر
في الأمر، وتسعى في إصلاح المذنب. وهذا
الاستشناف مفيد، لأن من شأنه أن يجعل المعتدي
يخضع للجنة، لئلا يزيد تخجيله وتُخفَض كرامته
بسبب تقديم الشكوى عليه للكنيسة. فإنْ لم يخضع
لحكم الكنيسة يحق للشاكي إن يجتنبه ولا
يعتبره كأخ، لأنه قد برهن أن ليس فيه الشروط
الجوهرية للأخوية المسيحية.
»حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ
بُطْرُسُ وَقَالَ: »يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً
يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ
لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟« قَالَ
لَهُ يَسُوعُ: »لَا أَقُولُ لَكَ إِلَى
سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ
مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ« (متى 18:21-22).
كانت الشريعة اليهودية تقضي بأن
يغفر الإنسان لمن يسيء إليه، ثلاث مرات. وإنْ
تكررت الإساءة لا يُكلَّف بتكرار المغفرة.
وشعر بطرس أن شريعة المسيح الجديدة أوسع من
القديمة، فسأل المسيح: »يا رب، كم مرة يخطئ
إليَّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟« ظن
أن سبع مرات هي أكثر ما يُطلب منه، فيكون قد
تكرم بقوله »إلى سبع مرات«. فكم كان خجله لما
أجابه المسيح: »لا أقول لك إلى سبع مرات، بل
إلى سبعين مرة سبع مرات«. يعني إلى ما لا نهاية
له.
ما أصعب هذا الأمر على الإنسان، فإن
الطبيعة البشرية لا تحتمله دون نعمة إلهية.
لكن الروح الذي يقود إلى مسامحة مسيحية قلبية
في المرة الأولى، يقود أيضاً في الثانية،
وإلى ما لا نهاية له. ولا سيما إنه إذا غفر مرة
يتقوى في هذه الروح، فيسهل تكرار الغفران
أكثر من المرة الأولى. والذي ليس له في قلبه أن
يسامح في المرة المئة يبرهن أن مسامحته
الأولى لم تكن من روح مسيحي حقيقي. فكل من يشعر
بفضل الإله الغفور، لا يمكنه أن يحاسب إخوته،
مهما عُظمت تعدياتهم عليه.
مَثَل الملك الذي سامح
»لِذلِكَ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ
السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً أَرَادَ
أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ. فَلَمَّا
ابْتَدَأَ فِي الْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ
إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ
آلَافِ وَزْنَةٍ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مَا يُوفِي أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ
هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ وَكُلُّ
مَا لَهُ، وَيُوفَى الدَّيْنُ. فَخَرَّ
الْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا
سَيِّدُ، تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ
الْجَمِيعَ. فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذلِكَ
الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ، وَتَرَكَ لَهُ
الدَّيْنَ. وَلَمَّا خَرَجَ ذلِكَ الْعَبْدُ
وَجَدَ وَاحِداً مِنَ الْعَبِيدِ
رُفَقَائِهِ، كَانَ مَدْيُوناً لَهُ
بِمِئَةِ دِينَارٍ، فَأَمْسَكَهُ وَأَخَذَ
بِعُنُقِهِ قَائِلاً: أَوْفِنِي مَا لِي
عَلَيْكَ. فَخَرَّ الْعَبْدُ رَفِيقُهُ
عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ
قَائِلاً: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ
الْجَمِيعَ. فَلَمْ يُرِدْ بَلْ مَضَى
وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ حَتَّى يُوفِيَ
الدَّيْنَ. فَلَمَّا رَأَى الْعَبِيدُ
رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ، حَزِنُوا جِدّاً.
وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ
كُلَّ مَا جَرَى. فَدَعَاهُ حِينَئِذٍ
سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ
الشِّرِّيرُ، كُلُّ ذلِكَ الدَّيْنِ
تَرَكْتُهُ لَكَ لِأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ.
أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ
أَيْضاً تَرْحَمُ الْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا
رَحِمْتُكَ أَنَا؟. وَغَضِبَ سَيِّدُهُ
وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى
يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ.
فَهكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ
بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ
قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لِأَخِيهِ
زَلَّاتِهِ« (متى 18:23-35).
لما كان ضرورياً أن يبيّن المسيح
أساس هذا القانون الصعب ليقنع تلاميذه
بصوابه، أوضح لهم ذلك بواسطة مثل العبد
الظالم، الذي بعد أن ترك سيده الملك ديناً
عظيماً للغاية، لا يمكنه أن يوفيه مطلقاً،
قبض ذلك العبد على أحد رفقائه العبيد بسبب
ديْن زهيد كان عليه، وزَجَّه في السجن، رغم كل
الاستراحامات والمواعيد وإحسان مولاه إليه،
بتركه له هذا الدين العظيم. لم يلن قلبه ليصبر
على رفيقه، بل أخذه بعنقه وألقاه في السجن حتى
يوفي الدين. فلما أبلغ العبيد رفقاؤه مولاهم
الملك بهذا الأمر، اغتاظ الملك جداً، وأحضر
هذا العبد الظالم وأنّبه، وسلّمه إلى
المعذِّبين حتى يوفي كل ما كان له عليه. فإن
كان مفلساً قبل سجنه، فأي أمل له أن يفي
الملايين وهو سجين؟ فلا مناص من بقائه إلى
الأبد بين أيدي المعذِّبين!
في هذا المثل شبَّه المسيح الله
بالملك، وشبَّه الخطاة بالعبيد المديونين.
ولما كان الدَّين الذي على الخاطئ لله
عظيماً، يستحيل على الخاطئ أن يوفيه. لكن الله
برحمته، وبناءً على عمل الفداء، يغفر لأعظم
الخطاة متى اعترف له وطلب منه الرحمة وتعهَّد
أن يصلح أمره فيما بعد. أما دَيْن الخاطئ
لرفيقه البشري فزهيد بالنسبة إلى دَيْن
الرفيق لربه. فمتى حصل إنسان على الغفران
الإلهي، لا حقَّ له أن يمسك عن رفيقه المغفرة
على زلاته، مهما تكاثرت وتكررت. ولا يحق
لإنسان أن يدين أخاه قبل مقابلته واستماع
عذره. لعله أخطأ سهواً، أو ظلمه واشٍ. فما أرهب
العبارة التي ختم بها المسيح جوابه على سؤال
بطرس بقوله: »فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن
لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته«.
ولنا في الصلاة الربانية برهان
أهمية وجوب ترك الحقد، لما نصلي: »اغفر لنا
ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا«.
لا ينتظر البريء أن يأتيه المذنب ليستغفر
منه، بل يسبقه، إتماماً للقول: »اذهب وعاتبه
بينك وبينه«. تمثُّلاً بالمسيح الذي لم ينتظر
الخاطئ إلى أن يتوب ويأتي إليه، بل قد أتى من
السماء ليطلب ويخلص ما قد هلك