المسيح الراعي الصالح

»فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: »قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ«. فَقَالَ: »أُومِنُ يَا سَيِّدُ«. وَسَجَدَ لَهُ. فَقَالَ يَسُوعُ: » لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لَا يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ«. فَسَمِعَ هذَا الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ: »أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟« قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: »لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلكِنِ الْآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ«.

»اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الَّذِي لَا يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ الْخِرَافِ، بَلْ يَطْلَعُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ. وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ فَهُوَ رَاعِي الْخِرَافِ. لِهذَا يَفْتَحُ الْبَّوَابُ، وَالْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ، فَيَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا. وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا، وَالْخِرَافُ تَتْبَعُهُ، لِأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ. وَأَمَّا الْغَرِيبُ فَلَا تَتْبَعُهُ بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ صَوْتَ الْغُرَبَاءِ«. هذَا الْمَثَلُ قَالَهُ لَهُمْ يَسُوعُ، وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا هُوَ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُمْ بِهِ« (يوحنا 9:39-10:6).

فتح المسيح عيني الرجل الذي وُلد أعمى، ولكن شيوخ اليهود قاوموا المسيح. وهاجموا الأعمى الذي أبصر. وطردوه من مجمعهم، فكيف يكلمهم المسيح؟

لقد أطلق عليهم لقب »سُرَّاق ولصوص« لأنهم لم يدخلوا على وظيفتهم الرعائية من الباب الوحيد الذي عيَّنه اللّه، الذي هو المسيح ذاته، بل طلعوا من موضع آخر. ولم يدخلوا بدعوة إلهية، ولا لأهلية فيهم، بل لنجاحهم في الوسائط السياسية. دخلوا من الثغرات في سور الحظيرة، فقد نالوا وظيفتهم الكهنوتية الرعوية بالإِرث أو المحاباة أو التمليق أو الرشوة أو الحيلة أو الاستبداد. فما الفائدة من تسلسلهم الهاروني ورسامتهم القانونية، وغير ذلك من الشروط الرسمية الخارجية، طالما هم تائهون عن الباب؟ والمسيح ذاته هو الباب. وإلى اليوم لا دخول للخدمة الرعائية إلا من هذا الباب.

المسيح هو الباب

»فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: »الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا بَابُ الْخِرَافِ. جَمِيعُ الَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ، وَلكِنَّ الْخِرَافَ لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ. أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى. اَلسَّارِقُ لَا يَأْتِي إِلَّا لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ، وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ« (يوحنا 10:7-10).

قال أحد اللاهوتيين: »إن الراعي الحقيقي بين البشر هو الذي يتقلّد هذه الوظيفة حباً للمسيح، ويقصد تمجيد المسيح، ويعمل عمله بقوة المسيح، ويعلّم تعليم المسيح، ويسلك في خطوات المسيح، ويسعى ليأتي بالنفوس إلى المسيح«. ولا يصحُّ الخروج أيضاً إلا من هذا الباب. والذي قال: »الحق الحق أقول لكم إني أنا باب الخراف. إنْ دخل بي أحدٌ فيخلص، ويدخل ويخرج، ويجد مرعى«. فالباب للرعاة هو الباب أيضاً للرعية، أي لأفراد المؤمنين.

فسَّر البعض أن الباب المذكور في هذا المثل هو الروح القدس. يعني أن وصول الراعي إلى قلوب رعيته، بقوة روحية لخلاصهم وبنيانهم، لا يكون إلا بفعل هذا الروح. كما أن تأثير المسيح في تبشيره كان يُعزَى إلى هذا الروح.

المسيح هو الراعي الصالح

»أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ« (يوحنا 10:11).

ثم وصف المسيح نفسه بأنه الراعي الصالح، لهذا يصلي صاحب المزامير: »يَا رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ اصْغَ، يَا قَائِدَ يُوسُفَ كَالضَّأْنِ« (مزمور 80:1) ويقول النبي إشعياء: »هُوَذَا السَّيِّدُ... كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ. بِذِرَاعِهِ يَجْمَعُ الْحُمْلَانَ وَفِي حِضْنِهِ يَحْمِلُهَا، وَيَقُودُ الْمُرْضِعَاتِ« (إشعياء 40:11) ثم أن أحلى المزامير كلها مزمور الراعي (مزمور 23) يقول مطلعه: »الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء«.

ليست مهنة الراعي مهنة فخر ودلال، بل هي محفوفة بالمتاعب والمخاطر في الوعور بين الوحوش الضارية. والمسيح كالراعي الصالح تحمَّل أعظم المتاعب والمخاطر، ثم بذل حياته ليخلَّص خرافه الخاصة. بينما الذين سمّاهم »سُرَّاقاً ولصوصاً« لا يأتون إلا ليسرقوا ويذبحوا ويهلكوا. والذين سمّاهم »أَجْرى« لا يدافعون عن الخراف في ساحات الخطر، بل يهربون ويتركون القطيع يتشتت ويُفترس »لأنهم لا يبالون بالخراف«.

أما المسيح فهو الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخراف. فلكي تَسْلم الخراف من مخالب إبليس ذاق المسيح موتاً لا يستحقه، وأحيا الموتى بموته الذي برهن القيمة العظيمة التي يقدّر بها خرافه جملة وأفراداً. وهو يعرف كل فرد من قطيعه معرفة تامة، تتناول أسماءهم وجميع أسرارهم وخفياتهم. ومعرفته الدقيقة واهتمامه التام بكل فرد من رعيته التي لا تُحصى ليست بأقل الآن مما كانت عليه لما أسلم نفسه على الصليب.

الراعي يبذل نفسه

»وَأَمَّا الَّذِي هُوَ أَجِيرٌ، وَلَيْسَ رَاعِياً، الَّذِي لَيْسَتِ الْخِرَافُ لَهُ، فَيَرَى الذِّئْبَ مُقْبِلاً وَيَتْرُكُ الْخِرَافَ وَيَهْرُبُ، فَيَخْطَفُ الذِّئْبُ الْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا. وَالْأَجِيرُ يَهْرُبُ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَلَا يُبَالِي بِالْخِرَافِ. أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي، كَمَا أَنَّ الْآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الْآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ. وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ. لِهذَا يُحِبُّنِي الْآبُ، لِأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لِآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي« (يوحنا 10:12-18).

لاحظ المسيح أثناء خطابه أنهم لم يفهموا كلامه، فكرره وفسَّره موضِّحاً لهم أنه يضع نفسه عن الخراف طوعاً، فيحقُّ له القول: »لهذا يحبني الآب، لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً. هذه الوصية قبلتُها من أبي«. وهذا يشبه قول إشعياء »آثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الْأَعِّزَاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ« (إشعياء 53:11 ، 12). وأوضح لهم أيضاً أن له سلطاناً أن يسترد حياته البشرية بعد أن يبذلها - أي أن يقوم من الموت بقوته الذاتية بعد هذا الخضوع الإختياري للموت.

ثم صرح أيضاً باهتمامه بالخراف الأُخر التي ليست من هذه الحظيرة. فقال »ينبغي أن آتي بتلك أيضاً، لأنها لي، فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراعٍ واحد«. فهو يقصد ضمَّ الأمم الخارجية إلى شعب اللّه المختار.

»فَحَدَثَ أَيْضاً انْشِقَاقٌ بَيْنَ الْيَهُودِ بِسَبَبِ هذَا الْكَلَامِ. فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: »بِهِ شَيْطَانٌ وَهُوَ يَهْذِي. لِمَاذَا تَسْتَمِعُونَ لَهُ؟« آخَرُونَ قَالُوا: »لَيْسَ هذَا كَلَامَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ. أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ الْعُمْيَانِ؟«.

وَكَانَ عِيدُ التَّجْدِيدِ فِي أُورُشَلِيمَ، وَكَانَ شِتَاءٌ. وَكَانَ يَسُوعُ يَتَمَشَّى فِي الْهَيْكَلِ فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ، فَاحْتَاطَ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: »إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا جَهْراً«. أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: »إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلْأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي. وَلكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي، كَمَا قُلْتُ لَكُمْ. خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الْأَبَدِ، وَلَا يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. أَنَا وَالْآبُ وَاحِدٌ« (يوحنا 10:19-30).

كانت هذه التعاليم فوق مستوى سامعيه، فقالوا: »به شيطان وهو يهذي. لماذا تسمعون له؟« أما القسم الآخر، وهم الأقلية، فلم يسكتوا عن التهمة بل أجابوا: »ليس هذا كلام من به شيطان«. واستندوا في جوابهم على المعجزة الأخيرة، التي كانت سبب إلقاء هذا الخطاب، وتساءلوا: »ألعل شيطاناً يقدر أن يفتح أعين العميان؟«. أما نحن فنضيف على برهانهم الإستفهامي برهاناً آخر ونسأل: على فرض أن الشيطان فتح أعين العميان، هل يمكن أن يعمل الشيطان عملاً صالحاً؟ ألا تكفي الرحمة في هذا الشفاء برهاناً أنه ليس فعلاً شيطانياً؟ لو أراد الخير للناس لما كان شيطاناً.

وهكذا أظهر الرؤساء غباوة عندما نسبوا أعمال المسيح الصالحة إلى الشيطان، فأثبتوا صدق حكم المسيح عليهم بأنهم عميان. ولماذا نسي هؤلاء العلماء أن منح البصر للعميان في التوراة علامة من جملة علامات المسيح وأفعاله؟

أوضح المسيح أنه الراعي الصالح، وأن خرافه تعرفه وتسمع صوته وتتبعه. أما رؤساء اليهود فليسوا من خرافه، ولذلك يرفضون أجلى البراهين على كونه مسيحهم، ويرفضونه لأنه لا يجاريهم في رغباتهم وأفكارهم. أما جاذبيته القوية للأشخاص الذين يستحقون اسم الخراف بالمعنى الروحي، فبرهان على أنه المخلِّص الآتي، لأن هؤلاء بفعل الروح الإلهي في تجديدهم يميلون إلى الراعي الصالح، الذي نعرفه من مَيْل الخراف إليه واتّباعهم له.

ثم قال المسيح عن خرافه: »لن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحدٌ من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل. ولا يقدر أحد يخطف من يد أبي«. أما الذين يُحسبون ويحسبهم الناس من خرافه ثم يرتدّون عنه، فأمرهم موضَّح في قول الرسول يوحنا: »مِنَّا خَرَجُوا، لكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا« (1 يوحنا 2:19). من تحقق أنه من خراف المسيح أصبح في ضمانته فلا يهلك. ويستحيل على إبليس وعلى العالم أن يخطفاه من يد راعيه السماوي. وإن ضلَّ، فهذا الراعي يردُّ نفسه ويهديه »إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ« (مزمور 23:3).

وعندما يضع المؤمن ثقته في هذه الآية مع أمثالها يجد مرساه مؤتمَنة لنفسه، ولا سيما في ساعة السقوط. ولكن لئلا يتصور أحد هذا اليقين يفتح الباب للاستمرار في الخطيئة طمعاً في ضمان المسيح، نقول إن الحياة الأبدية التي يعطيها المسيح لخرافه هي حياة سماوية تجعلنا نكره الخطية ونحب إرضاء الآب السماوي. لأن كل من يرضى أن يبقى في أي نوع من الإثم ويراعي إثماً في قلبه، يبرهن بذلك أنه ليس من خراف المسيح الخاصة. ومن يطلب فقط الخلاص من عذابات الآخرة لا محلَّ له بين الخراف التي يجمعها الملك عن يمينه في يوم الحساب. وكل من يحب المخلِّص حباً صادقاً، ويقصد باستقامة ثابتة أن يتخلَّص من كل ما يخالف إرادة هذا المخلص، يحقُّ له أن يطمئن برغم سقطاته، وأن يتمسك بقول الرسول بولس: »الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ« (فيلبي 1:6). ويقول الحكيم قبله: »الصِّدِّيقَ يَسْقُطُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيَقُومُ« (أمثال 24:16). ولا يُعقَل أن المخلّص القدير يبتدئ خلاصاً ويفشل في تكميله. ليس لغير خرافه أن يدركوا هذا السر الذي يعني ويهمّ الخراف فقط.

في هذا الخطاب تظهر جلياً براهين طبيعة المسيح الإلهية التي خوَّلته حقَّ التكلُّم على صورة لا تجوز لإنسان هو مجرد بشر أن ينطق بها، لأنه سمَّى المؤمنين خرافه، وقال إنها تسمع صوته. وليس أنها تسمع صوت الرب كما كان يقول الأنبياء. وإن الكلام كلامه (لم يقل كلام الرب) وإن الخراف تتبعه، وإنه هو الذي يعطيها حياة أبدية، وأنها في يده هو. ولا أحد يخطفها من يده. وله الحق أن يقول إنها لن تهلك أبداً. قال أولاً إنها لا تُخطَف من يده، ثم إنها لا تُخطف من يد أبيه. فلئلا يظن أحد أن هذين القولين متناقضان ختم خطابه بالقول: »أنا والآب واحد«. وفي هذه العبارة أعلن التوحيد والتثنية في الله في وقت واحد.

وقع هذا الختام الخطير على الرؤساء السامعين كصاعقة أثارتهم حتى لم يعد لهم إلا الاختيار بين أمرين: إما أن يعبدوه كالمسيح ابن الله الوحيد، أو أن يرجموه كمجدف حسب نص ناموسهم. »فتناولوا حجارة ليرجموه«. لكنه قابل هذه الحركة بالبسالة قائلاً: »أعمالاً كثيرة حسنة أريْتُكم من عند أبي. بسبب أي عمل منها ترجمونني؟!«. أجابوه: »إنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً«. فأجابهم: »الذي قدَّسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدف لأني قلت إني ابن الله؟«.

لا يقول نبي عن نفسه إن الآب قدسه وأرسله إلى العالم. ولما نفى المسيح عن نفسه التجديف في قوله إنه ابن الله، عرفنا صدق هذا القول. فلما حاول اليهود ثانية أن يمسكوه، خرج من أيديهم، وذهب إلى المكان الذي عمَّد فيه يوحنا المعمدان، ونجح هناك في تبشيره، إذ آمن به كثيرون.