ج - المسألة الثانية: المسيح
1) التجسد
قال المسلم: أخبرني يا راهب، ألم يكن الله قادراً على تنفيذ أمره، وهو جالس على عرشه، حتى اصطفى هذا الإنسان كما تقولون؟ .
أ - كيفية التجسّد وغايته
قال الراهب: عجبتُ من قلة فطنتك إلى مذاهب الكلام. تقول: الرحمان على العرش استوى وبهذا تجعله جالساً وعلى العرش مستوياً، ثم تنفر من قولنا إنه حل في بشر حلولاً بلا حد ولا وصف. وأنت تصفه بالجلوس والاستواء! أتقول إنه كان بعيداً من العرش حيناً ثم استوى عليه؟ أو تقول إن العرش كان خالياً منه زماناً ثم استوى عليه من بعد ذلك؟ أم تقول إنه كان متكئاً (تبارك وتعالى)؟ أنصِفْنا الآن! واعلم أنه ما استوى شيء على شيء كما وصفت إلا وهو راكب، وكل راكب هو مركّب محدود، والذي ركَّبه وَحَدَّهُ أقوى وأعظم منه. فلا تصف الله بهذه الصفة .
نرجع إلى قولك: ألم يكن الله قادراً على تنفيذ أمره؟ - بل إنه قادر قويّ قاهر. ولكنه لا يُرى ولا يُوصف ولا يُدرك جوهره، يُسمع كلامه ولا يُنظر إليه، كما أخبرنا به موسى والأنبياء والحواريون .
فلما رأى الله جلّ اسمه! قلوب الناس قد فسدت، وضميرهم يزداد شراً وتمادياً في خلاف الحق، فطال زوغانهم عما دعاهم إليه من الإيمان به، ظهر الإله الأزلي في جسد البشر. فساق العباد بحكمته وفضله ورحمته، وأنقذهم من الضلالة والكفر التي كانوا عليها من عبادة إبليس، وهداهم إلى الحق. إذ لم يظهر الله الكلمة بجوهره ولم يتغير من جوهره، ولم ينزل من مكانه إلى مكان لم يكن فيه، ولم يَخْلُ العرش منه ولا السماوات والأرض، بل في أسفل القرار وأعلاه، خارج غير داخل وداخل غير خارج، بلا صفةٍ ولا حدٍّ ولا امتزاجٍ ولا افتراقٍ .
ب - قبول الناس للمسيح المتجسد
قال المسلم: فإن الناس لم يُطيعوا المسيح، لكنهم أذلوه بالصليب كقولك .
قال الراهب: بل قبله الناس الذين اصطفاهم ورحمهم وجعلهم يعرفون طرقه، وينتهون إلى طاعته. وأما الذين لم يقبلوه، فاليهود والكفرة .
ولكن انظر إلى تدبير المسيح جل ثناؤه! إنه أظهر فيهم الآيات والعجائب. ولم يَدْعُ الناس إلى أمرٍ دون أن يبرهنه لهم بما يُظهره من الآيات والأعاجيب. فبرهن أن كل أعماله أعمال إله، حتى أقروا أنه ابن الله الحي .
فمن عظيم شر بني إسرائيل وفساد قلوبهم وحسدهم لم يلتفتوا إلى صنيعه، ولم يفكروا في كتب الله، بل صلبوه. ولم يُسلّم نفسه في أيديهم تقصيراً منه ولا ضعفاً. لكنه فعل ذلك بحكمته وحلمه. ولم يعجل عليهم العقوبة، وهو يعلم أنهم لا يؤمنون به .