الفصل الرابع
اشتراك البدوي الباهلي
قال الأمير: إنك يا راهب قد تكلمت على الله بالعظائم. وقد أتاني رجل من العرب، مسلم اسمه الباهلي، ومعه معرفة ما أنتم عليه. فأحضره لك حتى تخاطبه بين يديَّ .
قال الراهب: نعم أيها الأمير .
أ - مسألة خاصة بالمسيح: كيف تستقيم أن تسكن كلمة الله في عيسى، باطنه وظاهره؟
1) أسئلة الباهلي
ولما أحضره، عرّفه قول الراهب وما جاءهم به. فنظر إلى الراهب طويلاً ثم قال: إنكم يا معشر النصارى، تفترون على الله جهاراً، إذ تزعمون أن كلمة الله الأزلية سكنت في عيسى، ظاهره وباطنه، وأن عيسى صُلب على خشبة، وطُعن بالحربة، وثُقبت يداه ورجلاه .
فإما أن تقولوا إن الكلمة تنحَّت عنه عند طعن الحربة وحرارة وقْع الحديد، وإمّا أن تُلزموا الكلمةَ ما لزم عيسى من الأوجاع والموت. وتكون كاذباً في الحالتين، لأنك تقول إن كلمة الله ساكنة في عيسى، ظاهره وباطنه، بلا امتزاج ولا افتراق. فكيف يكون هذا؟ .
2) ردود الراهب
قال الراهب: أنا أخبرك كيف تستقيم كلمة الله ساكنة في عيسى، باطنه وظاهره، لا ينالها ما نال عيسى من الأوجاع .
أ - التشابيه بالملائكة الحراس
وسأل الراهب: من ينفخ الروح في الطفل وهو في بطن أمه؟ .
قال المسلم: هذا ملاك يبعثه الله ومعه نفس روحانية، فينفخها في الطفل وهو في بطن أمه .
فسال الراهب: الملاك مخلوق محدود أم لا؟ .
قال المسلم: مخلوق محدود .
قال الراهب: ومع كل إنسان ملاك موكل به حتى يقيمه يوم القيامة قدام الديّان .
قال المسلم: نعم .
قال الراهب: فنحن في هذا البيت والملائكة معنا، ولو وقع هذا البيت علينا وقَتَلنَا، من كان يأخذ نفسنا؟ .
قال المسلم: ذلك الملاك الذي هو معنا وبنا موكّل .
قال الراهب: وإن غضب الأمير على رجل من هذه الجماعة، فحلف أنه يطبخه بالزيت، فدعا بقِدْر عظيمة فأجلس ذلك المغضوب عليه في القِدر، وصبَّ عليه من الزيت ما يغمره، وأمر أن تُطبَق القِدر وترصّص ويوقد تحتها، فهل الملاك الموكل به، معه في القِدر أم خارج القِدر؟ .
قال المسلم: هو معه داخل غير خارج وخارج غير داخل، وهو الذي يقبض روحه .
قال الراهب: وكيف يكون هذا مخلوقاً محدوداً، داخلاً غير خارج وخارجاً غير داخل؟ إما أن تقول إن الملاك خارج الرحم، فإذا خرج الطفل من بطن أمه نفخ فيه الروح، وإما أن تلزمه الرَّحم الذي فيه الطفل. وإما أن تقول إن الملائكة الموكلين بنا يتنحّون عنا عند وقوع البيت، وإما أن يتحمَّلوا العذاب والموت الذي لزمنا. وإما أن تقول إن ملاك ذلك المطبوخ بالزيت تنحَّى منه، فإذا مات قبض روحه، وإما أن تُحمِّله الأوجاع والموت التي تَحمَّلها ذلك الإنسان! .
قال المسلم: إن الله خلق الملائكة روحانيين، لا يُوصفون ولا يُحدّون وهو الفعّال لما يريد .
قال الراهب: لا بد من الإقرار بأحد الأمرين: إما أن يتنحى الملائكة عن البشر عند الشدائد، وإما أن يتحمَّلوا ما تحمَّله البشر عند الشدائد .
قال المسلم: بل إن الملائكة مع العباد بلا حد ولا افتراق ولا امتزاج، ولا ينالهم ما نال العباد من الشدائد .
قال الراهب: أنت قد أقررت أن الملائكة مخلوقون محدودون، وهم مع العباد بلا حد ولا صفة، ولا ينالهم ما ينال العباد من الشدائد والرخاء. فكيف تكلفني أن أصف لك الخالق الذي خلق الخلائق والذي لا يُحد ولا تدركه العقول وليس كمثله شيء؟ .
ب - التشابيه بالشمس
قال الراهب: وأما قولك عند طعن الحربة ووقع الحديد فماذا تقول في جملٍ بارك في الشمس، ثم أخذْتَ حربة طعنتَه بها وقطعْتَه عضواً عضواً؟ أكان طعن الحربة يعطل حرارة الشمس وسلطانها، أم هل كان ينقطع من الشمس شيء مع أعضاء الجمل؟ .
قال المسلم: لا، يا نصراني، ما ينال الشمس مما ذكرت شيئاً .
قال الراهب: لا بد من الإقرار بأحد الأمرين: إما أن تتنحَّى الشمس عن الجمل عند طعن الحربة وتقطيع الأعضاء، وإما أن تتحمَّل الشمسُ ما تحمَّله الجمل! .