2) موقف الأمير
أ - إعتراض الأمير: المسيح حنيف ومسلم
قال له الأمير: أبطلت، ونسبْتَ المسيح إلى الشرك، وما كان المسيح يهودياً ولا نصرانياً، ولكنه كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين. ونسبْتَ نفسك إليه، وأنت منه بعيد وهو منك بريء. وذلك أنّك تعبده دون الله، وهو مخلوق من مخلوقةٍ، نبي الله وعبد خاضع، أيّده الله بكلمته وروحه، آية للناس ورحمة لهم .
ب - دعوة الراهب للأمير إلى تفريغ النفس لقبول البيان
قال الراهب: أيها الأمير، أمْرُ المسيح وأمْرُنا له جواب عتيد كالنار في الحطب، يريد عقلاً دقيقاً، ورأياً رشيداً يؤمن بالوقوف يوم القيامة. ففرِّغ نفسك إذا أردت البيان لذلك .
قال له الأمير: ما طلبنا هذا الأمر إلا وقد فرّغنا أنفسنا له .
ج - تطابق صفات الدين الحق والإسلام
وقال الأميرولكن قد أخطأت فيما وصفت. وما هذه الصفة لكم ولا لدينكم. ولكنها صفة الإسلام، دين الحق الذي قال: ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً، فلن يُقبَل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين .
وهي صفة محمد خاتم النبيين وسيد المرسَلين. وهي صفة الأمة المرحومة المُحبّة لنبيها وأهل بيته، البارة الطاهرة من كل دنس. وتعرف ذلك من أمة المؤمنين أنّ الله أعزَّه ونصَره من الوجوه كلها، وأمّن ليله ونهاره. وعهده القرآن الذي أنزله نوراً وهدى، وبيَّنه لأصحاب رسول الله الذين لا يؤمنون بكذب، المظهرين شهادة أنّ الله لا إله إلا هو، وأن محمداً عبده ورسوله. فماذا تقول يا راهب؟ .
د - كيفية الحوار
1) الاستعدادات الأولية للشروع في أيّ حوار
أ - ضرورة الإصغاء إلى جميع الأطراف
قال الراهب: صدق الأمير. ولكن قد قيل إنّ من انطلق إلى قاض، بعين دامعةٍ، يبكي ويستغيث به، فرحمه القاضي وقضى له بغير تحقيق - فإذا اجتمع الخصمان جميعاً، افتضح مدّعي الباطل وصار بكاؤه آفةً عليه. فليس من الكلام شيء إلا وله جواب .
ب - اختيار الأسلوب المناسب
من أهل الكلام من لا ينبغي أن يُجاوَبوا. أولئك هم الأخيار أهل العقل والفهم والحلم والتقوى. فأولئك لا يُجاوَبون، بل يُستمع إليهم ويُقبل منهم .
ومن أهل الكلام مَن ينبغي أن يُجاوبوا، ويُناظَروا أشدّ مناظرة. أولئك أهل العقل والفضل والاحتمال والعدل والإنصاف .
ومن أهل الكلام من ينبغي أن يُهابوا ولا يُجاوبوا، إكراما لهم وإجلالاً واتقاءً منهم. أولئك أهل الملك والسلطة والعزّ، وأهل العجلة والضجر وقلة الصبر والاحتمال .
ومن أهل الكلام من لا ينبغي أن يُجاوَبوا أصلاً، بل يُحقرون ويُرذلون. أولئك أهل الضلالة والكفر، والجهالة والغشّ، وأهل المعصية واللعنة .
والأمير قد برئ من الخصلة الرابعة. فاختر لنفسك من أيّ أهل الثلاث خصال تحب أن تكون، فأجيبك على قدر ذلك .
2) أولى مبادرات الأمير
أ - دعوة الأمير للراهب إلى اعتناق الإسلام
قال الأمير: ما أحسن كلامك يا راهب، وما أجهل فعالك. فإنك تتكلم بكلام عقل، وأنت من معرفة الله من أهل الجهل. فدع المزاح ومناقلة الصبيان، واتق الله الذي إليه تصير، وأسلِم على يديَّ حتى أجعلك في أرفع المنازل .
فسكت الراهب ولم يرد عليه جواباً. قال له الأمير: ما لي أراك صامتاً؟ هل عجزت عن الكلام ورد الجواب؟ .
ب - تعجّب الراهب ومطالبته بحرية التعبير
قال الراهب: لم أعجز عن الكلام، لأن مَرْجي واسع وعشبه كثير، وسبلي سهلة وفَرَسي جواد، لا تخاف من عثرة ولا نكبة. وإنني لمعرفة الله في روضة وهدىً ونور وافر غير عسير .
ولكني عجبت من قول الأمير! يجعلني من أهل الجهل، ويجعل الكلام بيننا مزاحاً كمناقلة الصبيان! وكيف لا يكون ذلك وأنا قدام ليْثٍ ضارٍ تتخوفنّ منه العجول! أما تعلم أيها الأمير، أنّ الليث إذا ظهر على مواش في مرجٍ، تشتّتت وضلت عن الطريق؟ .
ج - تأكيد الأمير لتعهداته
قال الأمير: صدقت يا راهب فيما ذكرت من أمر الليث والمواشي، وهو كذلك لا محالة. غير أننا رأينا من الليوث ما يظفر بفريسته ولا يبدو منه شيء تكرهه، إمّا اتقاءً من الله فَيَحْرَج، وإمّا حياءً من الناس. الآن فاعلَمْ يا راهب وأيقِنْ أن هذا الليث الذي تحذر جانبه وتتخوف من صولته قد أوسع المرج لهذه المواشي التي ذكرْتَ بالاحتمال، وسهَّل لها السبيل بالعدل والإنصاف. واتّق الله، ولا تكن من الذين ختم الله على أسماعهم وأبصارهم، فهم لا يصدقون ولا يؤمنون .
د - رفض الراهب اعتناق الإسلام
قال الراهب: أيها الأمير، الذين ختم الله على قلوبهم وأبصارهم هم اليهود والأعراب أيضاً، الذين يشهد عليهم كتابكم ويبرئهم من الإيمان. فأنا لا لهؤلاء ولا لأولئك. بل أنا من عبيد المسيح وأصحابه .
لكن، أيها الأمير، ما لي فيما دعوتني إليه حاجة ولا رغبة، لأني لا أرى لي فيه الغبطة. ولولا كراهية الغضب لقلت: إنّ الله يعلم خلاف كل ما قد ذكرته. فخلِّ سبيلي، جُعلتُ لك الفداء! .