الباب الثالث
مشكلات الوحدانية المجردة والوحدانية المطلقة
الفصل الأول
مشكلة العلاقة بين صفات الله وذاته
أولاً - آراء الفلاسفة فيها :
تحدثنا في الباب الأول عن آراء الفلاسفة في صفات الله على وجه الإجمال وذكرنا أن بعضهم أسند الصفات إليه، وأن البعض الآخر نفاها عنه. ونعرض الآن آراءهم فيها، بشيء من التفصيل :
1 - فلاسفة اليونان :
قال أرسطو : الله يتنزّه عن الإرادة، لأن الإرادة تقتضي الطلب، والله لا يطلب. لأنه لو كان يطلب لكان يطلب أزلاً، وطلبه أزلاً يستلزم وجود أزليين نظيره كان يطلبهم، وذلك لتنزّهه عن طلب ما هو أقل منه. وهذا محال لأنه لا شريك له على الإطلاق . وقال أيضاً : الله لا يعلم الكائنات، لأنه لو كان يعلمها لكان يعلم أزلاً، وعلمه أزلاً يستلزم وجود أزليين نظيره كان يعلمهم وذلك لتنزّهه عن علم ما هو أقل منه. وهذا محال للسبب السابق ذكره . وقال أفلوطين : تُسنَد الصفات إلى الله مسبوقة بكلمة " فوق " فيُقال إنه فوق الوجود، وفوق الكمال، وفوق... وفوق... . وهذا الوصف وإن كان موجباً في الظاهر، إلا أنه سالب في الحقيقة. وبذلك يكون أرسطو قد جرّد الله من العلم والإرادة، ويكون أفلوطين قد نفى الصفات عنه موضوعاً وأسندها إليه شكلاً، أو بالحري يكون قد جعله إلهاً خيالياً لا حقيقياً. وطبعاً ليس هناك من سبب لذلك، سوى اعتقادهما أن وحدانية الله مجردة أو مطلقة.
2 - فلاسفة اليهود :
قال موسى بن ميمون ما ملخصه : وَصْف الله بالسوالب هو الوصف الصحيح الذي لا يلحقه من جهته تكثّر. أما وصفه بالإيجابيات ففيه خطر عظيم لأنه يتطلب وجود شركاء معه أو تركيب في ذاته. ولا شك أن ابن ميمون نفى الصفات الإيجابية عن الله، لأنه تعذر عليه التوفيق بين وجودها بالفعل أزلاً، وبين اعتبار وحدانيته وحدانية مجردة أو مطلقة، إذ أن التوفيق بينهما محال. وقال سبينوزا : الله ليس له عقل، ولا يوصف بالإرادة أو السمع أو البصر أو الرضا، لأن هذه الصفات تقتضي الانتقال من حال إلى حال، والله لا ينتقل من حال إلى حال. ولأنه لا يمكن التوفيق بين وحدة الجوهر وكثرة الصفات . وبذلك يكون سبينوزا قد جعل الله إلهاً خيالياً لا حقيقياً، أو جعله هو والعالم سواء، كما يتضح من بعض أقواله الأخرى.
3 - فلاسفة المسيحيين :
قبل تقديم أفكارهم نقول إن معظم فلاسفة المسيحيين لا يعبّرون بأقوالهم عن رأي المسيحية، كما لا يعبّر معظم الفلاسفة الآخرين عن آراء الأديان التي ينتسبون إليها، لأنهم جميعاً ينقادون وراء منطق عقولهم وحدها. فنرجو ملاحظة ذلك في هذا الفصل وفي الفصول الآتية. أما أقوال فلاسفة المسيحيين الواردة هنا فمقتبسة من الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط .
قال القديس أوغسطينوس : صفات الله هي عين ذاته . وقال توما الأكويني : الله يتصف بجميع صفات الكمال، لكن صفاته السلبية أيسر فهماً لدى البشر من صفاته الإيجابية . وقال أيضاً : الله عين ماهيته، وعين وجوده، وعين صفاته، لأن الصفات تنافي البساطة المطلقة الواجبة للعلة الأولى . ولذلك قال : يجب أن نطلق الصفات على الله باعتبارٍ يختلف عن ذاك الذي نطلقها به على المخلوقات، كما نطلق الطيبة على الإنسان باعتبارٍ يختلف عن الاعتبار الذي نطلقها به على التفاح مثلاً . وقال جون سكوت : صفات الله هي موضوع اعتقادٍ فقط، فهي اعتبارية وليست حقيقية، لا يبلغ العقل إلى أدلةٍ قاطعةٍ عليها. كما أننا لا نستطيع أن نجعل من صفاته تمايزاً عينياً، لئلا نُدخل الكثرة على الذات الإلهية . ولذلك فهؤلاء الفلاسفة أيضاً كانوا يرون على العموم أن إسناد الصفات الإيجابية إلى الله يتعارض مع اعتبار وحدانيته وحدانية مجردة أو مطلقة.
4 - فلاسفة المسلمين :
شغلت هذه المشكلة فلاسفة المسلمين أيضاً، لا بل وشغلتهم أكثر مما شغلت غيرهم، وفيما يلي خلاصة آرائهم وأهمها :
" أ " علاقة صفات الله بذاته : قالت فرقة الصفاتية : صفات الله غير ذاته . ولتأكيد وجهة نظرها قالت : لو كُشف الحجاب عن الإنسان لاستطاع أن يرى صفات المعاني . وقالت المعتزلة : صفاته عين ذاته . ولتأكيد وجهة نظرها قال واصل بن عطاء أحد زعمائها : من أثبت وجود صفة قديمة لله فقد أثبت وجود إلهين . وقالت الأشاعرة : صفات الله ليست هي عين ذاته، ولا هي غيرها . وقال بعض الفلاسفة : طريق السلب أقرب من طريق الإيجاب في فهم صفات الله . وقال غيرهم : الصفات ليست حقائق ذاتية بل هي أمور اعتبارية . وقال أبو هاشم البصري : صفات الله في جملتها وسط بين الوجود والعدم . وقال معمر : الله لا يتصف بصفة لأن وجودها يتناقض مع ما يجب لذاته من توحيد تام . وقال ابن رشد : لا يجوز إثبات صفة لله زائدة عن ذاته لأن ذلك يستلزم وجود كثرة فيه . وقال ابن سينا : إن كان وجود صفات المعاني من ذاتها كانت واجبة الوجود بالذات، وهذا يؤدي إلى التعدد في الواجب. وإن كان وجودها من الله كان الله فاعلاً لها. وبوصف كونها صفات له يكون قابلاً لها، فيكون الواجب فاعلاً وقابلاً، وهذا ما لا يتفق مع وحدانيته أو بساطته. فالصفات ليست وجودية وليست زائدة، وإلا كانت جزءاً من الذات ومقومة لها، فتكون ذاته مركبة، وهذا محال . أما السَّلف فكانوا يقولون : معرفة صفات الله وذاته فوق العقل البشري ولذلك لم يبحثوا فيما إذا كانت صفاته هي عين ذاته، أو غيرها. فمثلاً عندما سئل مالك بن أنس عن معنى الرحمن على العرش استوى قال : الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة .
" ب " وقت ظهور صفات الله : قالت فرقة الماتريدية : صفات المعاني قديمة في ذاتها . وقال السعد والعضد : إنها قديمة بالزمان فقط، لأنها ناشئة عن المولى بطريق العلة . وقالت الكرامية : إنها حادثة . وكان بعض زعماء المعتزلة ينتقدون القائلين بقدم صفات الله بالقول : إن النصارى أثبتوا ثلاثة قدماء، أما أنتم فأثبتّم بقولكم إن لله ثماني صفات قديمة، ثمانية قدماء . " علماً بأن النصارى لا يؤمنون بثلاثة قدماء بل بقديم واحد، كما يتضح بالتفصيل من الباب الرابع " . وقال غيرهم : الكلام في صفات الله في غاية الصعوبة، لأنه لا يصح القول بوجوبها أو إمكانها . أي بأزليتها أو حدوثها.
هذه هي خلاصة آراء الفلاسفة على اختلاف الأديان التي ينتمون إليها في صفات الله وذاته.
والآن لنسأل أنفسنا : لماذا تضاربت آراؤهم؟
الجواب : لأنهم لم يستطيعوا إدراك العلاقة بين صفات الله وذاته.
ولماذا نفى معظمهم عنه الصفات الإيجابية؟
الجواب : لأنهم لم يستطيعوا التوفيق بين إسنادها إليه واعتبار وحدانيته وحدانية مطلقة أو مجردة.
ثانياً - ملخص المشكلة :
العلاقة بين صفات الله وذاته مشكلة معقدة. ومما زادها تعقيداً أن كل فريق من الفلاسفة عزّز رأيه بأدلة لا يُستطاع الكشف عن موضع الخطأ فيها بسهولة. ولذلك نرى من الواجب أن نعرض فيما يلي ملخص هذه المشكلة على هيئة سؤال وجواب، بحسب مواجهة العقل لها، ليتضح لنا الأساس الحقيقي للإشكال.
1 - هل لله صفات أم ليست له صفات؟
الجواب : له صفات لأنه موجود، وكل موجود له صفات. وبذلك تسقط حجة القائلين إن صفات الله اعتبارية، أو إنها مجرد اعتقاد، أو إنها وسط بين العدم والوجود.
2 - إذا كانت لله صفات، فهل هي سلبية أو إيجابية؟
الجواب : إنها إيجابية، لأن الصفات السلبية صفات ناقصة، وإسنادها وحدها إلى الله معناه إسناد النقص إليه، وهو الكامل كل الكمال! وبذلك تسقط حجة القائلين إن الله يتصف بالصفات السلبية دون الإيجابية، أو إن الأولى أكثر مناسبة لكماله من الثانية.
3 - وإن كانت إيجابية، فهل تُطلَق عليه بالاعتبار الذي نطلقها به على غيره، أم باعتبار آخر؟
الجواب : إن أطلقنا الصفات على الله باعتبار يختلف عن ذاك الذي نطلقها به على غيره، وبمعنى يختلف عن ذات المعنى الذي يُفهم منها، لأصبح الله غير مدرَك لدينا. وبما أن غرضه من الإعلان عن ذاته هو أن ندركه على حقيقته، إذاً لا شك في أنه قصد بالصفات " التي أعلن أنه متصف بها " نفس المعاني التي نفهمها منها، لكن طبعاً بدرجة تتناسب معه. فمثلاً عندما أعلن لنا أنه رحوم لا يمكن أن يكون قد قصد بذلك إلا أنه رحوم بالمعنى المفهوم لدينا، إنما بدرجة تتوافق مع كماله الذي لا حدَّ له. وبذلك تسقط حجة القائلين إن صفات الله تُطلَق عليه باعتبارٍ غير الذي تُطلق به على الكائنات.
4 - وإن قلنا إنها إيجابية، فهل هي ذاته، أم غير ذاته، أم ليست ذاته ولا غير ذاته؟
الجواب : الفقرة الأخيرة من هذا السؤال لا معنى لها، لأن صفات الله إما أن تكون ذاته أو غير ذاته، إذ ليس هناك وسط بين الأمرين إلا العدم. فيكفي إذاً أن نعرف : هل صفات الله هي ذاته، أم غير ذاته؟ إن قلنا إنها ذاته جعلنا الصفة موصوفاً والموصوف صفة، أو المعنى ذاتاً والذات معنى. وهذا باطل. وإن قلنا إنها غير ذاته افترضنا وجود أشياء منفصلة عن ذاته أو ملتصقة بها، وكل ذلك باطل. وواضح أن صفات الله هي غير ذاته، لكن لا يمكن أن تكون منفصلة عن ذاته أو ملتصقة بها، بل أن تكون عاملة بينه وبين ذاته. وعملها بينه وبين ذاته لا يتأتى إلا إذا كانت وحدانيته جامعة مانعة، كما سيتضح بالتفصيل في آخر هذا الفصل.
إن صفات الله لا تنفصل عن ذاته، إذ لا انفصال لكائن عن صفاته، ولأن التصاقها به يؤدي إلى وجود تركيب فيه " والحال أنه لا تركيب فيه " . هذا هو الجزء الأول من الإشكال الذي سندرسه ونبيّن السبيل إلى حله في آخر هذا الفصل.
5 - وإن قلنا أيضاً إنها إيجابية، فهل هي حادثة أم قديمة، أم معلولة بالذات؟
الجواب : تدخل الفقرة الأخيرة من هذا السؤال ضمن الفقرة الأولى، لأن اعتبار الصفات معلولة بذات الله معناه أنه هو الذي أوجدها، ولذلك تكون حادثة، أو ليست أزلية كأزلية ذاته. فيكفي إذاً أن نعرف : هل صفات الله حادثة أم قديمة؟ إن قلنا إنها حادثة أسندنا إلى الله التعلق بحادث، وهذا باطل. لأن التعلّق بحادث يعرّض صاحبه لطروء الحدوث أو التغيّر عليه، والله منزه عن هذا وذاك. وإن قلنا إنها قديمة افترضنا وجود كائنات معه أزلاً كان يحبها ويسمعها ويكلمها، أو افترضنا وجود تركيب في ذاته، لأن هذه الصفات تستلزم في ممارستها وجود أكثر من كائن واحد، أو وجود كائن مركب،من هيولي وصورة، أو من جوهر وعرض. وهذا باطل، لأن الله لا شريك له ولا تركيب في ذاته.
وهذا هو الجزء الثاني من الإشكال الذي سنتولى أيضاً دراسته، وإيضاح السبيل إلى حله في آخر هذا الفصل.
ثالثاً - حلول رجال الدين و مكانتها من الصواب :
أما الآن، فنرى من الواجب أن نعرض الحلول التي لجأ إليها رجال الأديان للتوفيق بين اتصاف الله بالصفات الإيجابية أزلاً، وكون وحدانيته وحدانية مطلقة، لنعرف أولاً مكانة حلولهم من الصواب.
1 - إن كانت صفات الله تتجه في الأزل إلى الكائنات التي كان في قصده أن يخلقها، فليس هناك تناقض بين اتّصافه بهذه الصفات أزلاً وكون وحدانيته وحدانية مطلقة .
النقد : لو أن صفات الله كانت تتجه في الأزل إلى الكائنات التي كان في قصده أن يخلقها، لكان وجود هذه الكائنات أمراً ضرورياً لوجود صفاته، وهذا باطل. لأن الله كامل كل الكمال في ذاته وصفاته، بغضّ النظر عن وجود الكائنات أو عدم وجودها.
2 - كان الله في الأزل يشاهد ذاته ويعيها، ولذلك ليس هناك تناقض بين اتّصافه بالصفات الإيجابية أزلاً، وكون وحدانيته وحدانية مطلقة .
النقد : إن اعتبرنا وحدانية الله وحدانية مطلقة، تعذَّر علينا القول إنه يشاهد ذاته ويعيها، لأن هذا العمل يؤدي إلى تكوّن الله من إثنين هما " أ " هو " ب " وذاته، كما يؤدي إلى وجود علاقة له بينه وبين ذاته. والوحدانية المطلقة ليست مركبة، ولا علاقة لها بينها وبين ذاتها. كما تعذَّر علينا القول إنه كان يريد ذاته أو يحب ذاته، أو يسمع ذاته أزلاً. لأن ممارسته في الأزل لهذه الصفات " بل لكل صفاته الأخرى " تتطلّب إما وجود كائن أو كائنات ملازمة له أزلاً، أو وجود تركيب في ذاته. وبما أن الله واحد لا شريك له، وفي الوقت نفسه لا تركيب فيه على الإطلاق، إذاً فهذا الحل ليس على شيء من الصواب أيضاً.
3 - ليس من الضروري لإثبات أزلية صفات الله، ضرورة ممارسته لها أزلاً، لأنه ليس من الضروري مثلاً ألا يُدعَى البصير بصيراً ما لم يبصر شيئاً، فقد يكون بصيراً دون أن يكون هناك شيء يبصره، ولذلك ليس هناك تناقض بين اتصاف الله بالصفات قبل وجود أي كائن سواء، وكون وحدانيته وحدانية مطلقة .
النقد : حقاً قد يكون هناك شخص بصير دون أن يكون هناك شيء يبصره. لكن إذا أدركنا أن الله كامل في ذاته كل الكمال، وأنه لذلك لا يتغير أو يتطور أو يكتسب لذاته شيئاً على الإطلاق، تبيَّن لنا أنه لا يمكن أن صفاته كانت في الأزل عاطلة، ثم أصبحت بعد ذلك صفات عاملة، بسبب وجود الكائنات التي خلقها في الزمان. بل من المؤكد أن صفاته كانت عاملة من تلقاء ذاتها أزلاً لدرجة الكمال، قبل وجود أي كائن من الكائنات سواه. وعملها هذا، على اعتبار أن وحدانيته وحدانية مطلقة، يقتضي وجود كائن أو كائنات ملازمة له أزلاً، أو وجود تركيب في ذاته كما مرَّ بنا. لأنه لولا ذلك لما كان لصفاته عمل حينذاك. وبما أن الله لا شريك له ولا تركيب فيه، إذاً فهذا الحل ليس على شيء من الصواب كذلك.
وقد يقول قائل إنه لا يُعقل أن صفتي الرحمة والعدالة وبعض الصفات الأخرى، كانت بالفعل في الله قبل وجود الناس على الأرض، لأنه لم يكن لها مجال للعمل قبل وجودهم، ولذلك فإن اعتبار جميع صفات الله بالفعل أزلاً، لا يتفق مع الحقيقة الواقعة.
وللرد على ذلك نقول : إن الرحمة والعدالة وجميع الصفات الأخرى الخاصة بالله، لا تخرج عن كونها وجوهاً للكمال الذي يتصف به منذ الأزل. فمن البديهي أن تكون هاتان الصفتان وغيرهما من الصفات عاملة في الكمال الذي يتصف به منذ الأزل، أي قبل وجود أي كائن في الوجود سواه.
وقد يقول قائل آخر إن الكتاب المقدس يُسنِد إلى الله الغضب، ولا يُعقَل أن الغضب كان أزلاً، لأنه لم يكن هناك ما يدعو الله للغضب حينذاك. كما أن الغضب يدل على حدوث تأثر فيه، والتأثر يقتضي التغيّر، والله لا يتغير!
وللرد على ذلك نقول : إذا نظرنا إلى وحدانية الله كوحدانية جامعة مانعة، اتضح لنا أن مبدأ التأثر لا بد وأن يكون موجوداً فيه منذ الأزل، لأنه بسبب هذه الوحدانية يكون محباً ومحبوباً، وعالماً ومعلوماً، ومريداً ومراداً، ومتكلماً وسامعاً، منذ الأزل. فضلاً عن ذلك، فإن الغضب المسنَد إلى الله بسبب قيام الناس بعمل الشر، لا يُراد به حدوث انفعال فيه، بل يُراد به فقط عدم رضائه عن فعل الشر، وذلك وجه من الوجوه السلبية للكمال الذي يتصف به أزلاً، لأن الكمال لا يحب الخير فقط، بل ويبغض الشر أيضاً. وبما أن كمال الله كان بالفعل أزلاً، فمن البديهي أن يكون للغضب ضد الشر أساس في ذاته أزلاً أيضاً.
4 - إن قِدَم السمع والبصر في الله لا يستلزم قِدَم المسموعات والمرئيات، كما لايستلزم قِدَم العلم والقدرة قدم المعلومات والمقدورات. ولذلك ليس هناك تناقض بين اتصاف الله بالصفات أزلاً، وكون وحدانيته وحدانية مطلقة .
النقد : هذا الحل يشبه الحلين السابقين، وهو خطأ مثلهما، لأنه من دواعي كمال الله أن تكون صفاته بالفعل أزلاً " سواء أدركنا كيفية عملها أزلاً أم لم ندرك " . وبما أن ممارسته لأية صفة من هذه الصفات أزلاً تستلزم وجود كائنات أزلية معه، أو وجود تركيب في ذاته، لذلك فهذا الحل ليس على شيء من الصواب أيضاً، لأن الله لا شريك له ولا تركيب فيه.
5 - إن للصفات متعلقات ثلاثة : الأول تنجيزي " أي ما هو بالفعل " قديم بذاته تعالى، والثاني صلوحي " أي ما هو بالقوة " قديم بذواتنا، والثالث تنجيزي حادث، عند وجودنا في العالم .
النقد : يصف هذا الرأي فقط صفات الله من جهات ثلاث، فيطلق عليها من الجهة الأزلية اسم تنجيزي قديم، ويطلق عليها من حيث صلاحيتها بالنسبة لعلاقة الله بنا اسم صلوحي قديم، ويطلق عليها من حيث ممارسته لها بالفعل عند خلقه للعالم، اسم تنجيزي حادث. لكنه لا يبين لنا كيف تكون صفات الله قديمة دون أن تكون هناك كائنات أزلية معه أو يكون هناك تركيب في ذاته، ولا كيف تكون حادثة دون أن يترتب على ذلك تعرضه للتطوّر والتغيّر. ولذلك فهذا الرأي لا يتعرض لحل المشكلة على الإطلاق.
هذه هي الآراء الرئيسية لعلماء الدين، على اختلاف مذاهبهم في التوفيق بين صفات الله واعتبار وحدانيته وحدانية مطلقة، وهي كما اتضح لنا قد تركت المشكلة كما هي.
رابعاً - الحل المناسب للمشكلة
وإن كانت مشكلة العلاقة بين صفات الله وذاته مشكلة معقدة لكن من المؤكد أن يكون لها حل، لأنه لا يمكن أن يكون هناك تناقض أو غموض في ذات الله. ولنعرف الحل يجب أن نعرف أولاً السبب الحقيقي في تضارب آراء الفلاسفة وعلماء الدين في هذا الموضوع.
فما هو هذا السبب؟
الجواب : إذا صرفنا النظر عن آراء القائلين بوحدة الوجود، فإن تضارب آراء المؤمنين بأن الله ذات يرجع إلى اعتقادهم أن وحدانيته هي وحدانية مطلقة، لأن هذه الوحدانية هي وحدانية غامضة، إذا أنها لا تتميز بمميزات تكون بها صفات صاحبها بالفعل أزلاً. لكن لو أنهم نظروا إلى وحدانية الله كوحدانية جامعة مانعة، أي قائمة بمميزات تكون بها صفات الله بالفعل أزلاً، لما استعصى على واحد منهم إدراك العلاقة بين صفات الله وذاته. لماذا؟ لأنه على أساس هذه الوحدانية، لا يبقى مجال للتساؤل عما إذا كانت صفاته هي ذاته أم غير ذاته، إذ من الواضح أن تكون غير ذاته. وكونها غير ذاته لا يترتب عليه في هذه الحالة وجودها في حالة الالتصاق به أو الانفصال عنه، لأنها تكون فقط عاملة بينه وبين ذاته. ولا يبقى مجال للتساؤل عما إذا كانت قديمة أو حادثة، إذ من الواضح أن تكون قديمة قِدم ذاته، لأنه على أساس هذه الوحدانية تكون صفاته ملازمة له أزلاً، دون أن يتطلب ذلك وجود كائنات أزلية معه، أو وجود تركيب في ذاته.
الفصل الثاني
مشكلة أصل العالم
أولاً - آراء الفلاسفة فيها
اختلف الفلاسفة في أصل العالم اختلافاً عظيماً، فقال بعضهم إنه أزلي، وقال البعض الآخر إنه حادث. وفيما يلي أهم آرائهم :
1- فلاسفة اليونان :
قال هيرقليطس : العالم لم يصنعه أحد من الآلهة أو البشر، لكنه كان أزلاً، وكل ما فيه من نبات وحيوان صُنع بموجب قانون ذاتي ضروري هو قانون الحكمة . وقال أفلاطون : الجوهر الخفي اللامحدود الذي صُنع منه العالم المحس، هو أزلي أبدي . وقال أرسطو : الله لم يخلق العالم بل حرّكه فحسب . فالعالم في نظر أرسطو أيضاً كان أزلاً.
2 - فلاسفة اليهود :
قال موسى بن ميمون ما ملخصه : الله علة وجود العالم، والعالم حادث. لكن إثبات الحادث بالبرهان عسير. ولولا أن الوحي قد سبق وقال إن الله خلق العالم، لكنا قد قلنا إنه قديم . وقال سبينوزا : العالم قديم . ولم يجعله قديماً فحسب، بل كثيراً ما جعله هو والله واحداً، لأنه كان يرى " بسبب اعتقاده أن وحدانية الله هي وحدانية مجردة " أنه تعالى ليس قائماً بذاته.
3 - فلاسفة المسيحيين :
قال جون سكوت : الخلق قديم . وقال توما الأكويني : حدوث العالم مسألة يفصل فيها الوحي، ولا يتأتَّى إثباتها بالبرهان .
4- فلاسفة المسلمين :
قال ابن سينا : العالم قديم، وسَبْق الله للعالم هو سبق العلة للمعلول، والعلة مع المعلول زماناً وملازمة له، غير متأخرة عنه . وقال ابن رشد : الله ليس فاعلاً بالطبع، ولا فاعلاً بالإرادة . وقال أيضاً : تقدم الله على العالم بالسببية لا بالزمان، كتقدُّم الشخص لظله . ومعنى ذلك أن الله حسب اعتقادهما، لم يخلق العالم من العدم، بل أن العالم ملازم له أزلاً.
ثانياً - حججهم، وضعف الردود عليها،
والحل المناسب للمشكلة :
لم يُلقِ الفلاسفة الذين قالوا بأزلية العالم آراءهم جزافاً، بل أيدوها بحجج كثيرة. وقد حاول علماء الدين الذين يؤمنون أن حدوث العالم لا يتعارض مع اعتبار وحدانية الله وحدانية مطلقة، تفنيد حجج الفلاسفة، لكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً. وفيما يلي أهم هذه الحجج والردود عليها، ثم الحل المناسب للمشكلة.
حجة الفلاسفة " 1 " : قال بروكلوس : بأي باعث صمم الإله على الخلق، بعد الصمت الذي ظل فيه منذ الأزل، إلى بدئه في الخلق؟ هل لأنه رأى أن هذا هو الأفضل؟ إن كان الأمر بالإيجاب، فهو إما كان يعلم هذا الفضل أو لا يعلمه. فإن كان لا يعلمه فعدم العلم لا يتفق مع الألوهية. وإن كان يعلمه، فلماذا لم يبدأه قبل ذلك العهد؟ .
وقال ابن سينا ما ملخصه : الله إما كان كافياً لإيجاد العالم، أو غير كافٍ له. فإن كان غير كافٍ له، فلماذا أوجده في زمن دون آخر؟ هل كان عاجزاً ثم صار قادراً؟ هذا محال! أم هل كان العالم مستعصياً عليه، فلم تتعلق القدرة بإحداثه، ثم صار ممكناً، فتعلقت القدرة بإحداثه؟ هذا محال! أم هل كان حدوث العالم قبلاً عبثاً، فلم تتعلق القدرة بإحداثه، ثم صار حدوثه ذا غرض وحكمة فتعلقت القدرة بإحداثه بعد ذلك؟ هذا محال، لأن العلة واحدة، والأوقات متساوية. أم هل لم تكن آلة للإحداث، فلم تتعلق القدرة بالإحداث، ثم وُجدت الآلة فتعلّقت القدرة به بعد ذلك؟ هذا محال! أم هل لم تكن إرادة من القديم لإحداث العالم، فلم تتعلق قدرته بإحداثه، ثم صار ذا إرادة، فتعلقت قدرته به بعد ذلك؟ هذا محال، لأن الإرادة تكون في هذه الحالة حادثة. والخلاصة إن خلق العالم في زمن دون آخر، مرجح بلا ترجيح، ولذلك فالعالم أزلي .
الرد عليها : قالت الأشاعرة : للقديم إرادة قديمة، اقتضت أزلاً حدوث العالم في الوقت الذي حدث فيه. فلم يحدث قبل ذلك، لأنه لم يكن مراداً بالإرادة القديمة. فذلك الاقتضاء القديم هو المرجح. لأن من إرادة الباري الترجيح، ولها أن تختار . وقالت المعتزلة : خلق العالم في وقت دون آخر، ليس لسبب يرجّحه بل لأمر يوجبه .
نقد الفلاسفة لهذا الرد : قال ابن سينا : الإرادة القديمة باقتضائها القديم لا تصلح مرجحاً للحدوث في وقت دون آخر، لأن نسبة الإرادة القديمة إلى الحدوث في الوقت المشار إليه، وإلى الحدوث في وقت غيره سواء. فلماذا اقتضت الإرادة ورجحت حدوثه في الوقت الأول دون الثاني؟ إن ترجيح هذا على ذاك، أو ترجيح ذاك على هذا، نسبتهما إلى الإرادة إما سواء، أو لا. أما النفي فغير جائز، وإلا كان إحداث العالم إرغاماً لا اختياراً، وهذا باطل. وإن كانا سواء، فهل حدث أحدهما بدون ترجيح من الإرادة أو به؟ إن كان الأول لزم الترجيح بلا مرجح. وإن كان الثاني لزم التسلسل. وكلاهما باطل. ولذلك يكون العالم أزلياً . وقال أيضاً : القول بخلق العالم في زمن دون آخر يدل على أن الله يختار. والاختيار يؤدي إلى وجود كثرة في ذاته، لأنه يستلزم معرفةً توجب القصد أو ترجّحه. والتكثّر في الواجب محال . وأيضاً : القول بحدوث العالم يدل على أن الله كان غير تام الفاعلية أزلاً. وهذا ما لا يتوافق مع كماله التام .
رد أغسطينوس على نقد الفلاسفة : لا تناقض بين قِدَم الإرادة الإلهية وحدوث المخلوقات، ولا محل للتساؤل : لماذا خلق الله العالم في زمن دون آخر، لأن الزمن لم يكن له وجود قبل خلق العالم، إذ أن بدء الخلق هو بدء الزمن، ولذلك فخلق العالم من العدم ليست فيه مفاضلة بين زمنين. فليس هناك زمن قبل خلق العالم كان الله لا يعمل فيه شيئاً.
النقد والحل : قد يبدو لأول وهلة أن رد أغسطينوس يدحض حجة القائلين بأزلية العالم. لكن بالتأمل فيه يتضح لنا أنه رد جزئي فحسب، لأن حدوث العالم يدل على أن الله قد عمل بعد أن كان لا يعمل، وهذا ما يتعارض مع ثباته وعدم تغيّره. ولذلك فالاعتراض الذي يجب مواجهته بالذات هو :
خَلْق الله للعالم يدل على انتقاله من حالة السلب إلى الإيجاب، أو من السكون إلى الدعوة للوجود، إذا يكون قد عمل بعد أن كان لا يعمل. وهذا يتعارض مع ما يجب له من ثبات تام .
وللرد على هذا الاعتراض نقول : لو اعتبرنا وحدانية الله وحدانية مطلقة، لما كان مفرّ من التسليم بأنه كان موجوداً في حالة السكون أزلاً، لأن صفاته " إن كانت له صفات في هذه الحالة " تكون عاطلة أزلاً، ولتعَّذَر علينا تبعاً لذلك إسناد الخَلْق إليه، لأنه كان يتطلب منه الانتقال من السكون إلى العمل، الأمر الذي لا يليق بثباته تعالى وعدم تعرّضه للتغيّر أو التطوّر. لكن إذا نظرنا إلى وحدانيته كوحدانية جامعة مانعة، اتضح لنا أنه من البديهي أن تكون صفاته عاملة منذ الأزل، ولذلك لا يكون قد انتقل بالخلق من حالة السلب إلى الإيجاب، أو من السكون إلى العمل. بل بالعكس يكون الخلق مجرد مظهر من مظاهر عمل صفاته الأزلي بينه وبين ذاته. وهذا لا يقتضي حدوث أي تغير في ذاته، وبذلك تسقط حجة الفلاسفة من أساسها، ويتحقق لنا أن خلق الله للعالم لم يترتب عليه حدوث تغير في ذاته.
وقد أشار الكتاب المقدس إلى أن الله كان يعمل قبل حدوث الخلق فقال : أَنَا الْحِكْمَةُ مُنْذُ الْأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ الْبَدْءِ, إِذْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَنَعَ " الرب " الْأَرْضَ,,, كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعاً normal " أمثال 8 :12-31 " . فهذه الآيات، وإن كانت بها بعض المعاني المجازية، إلا أنها تدل بكل وضوح، على أن الله لم يكن عاطلاً قبل الخلق بل كان عاملاً.
أما عن الاعتراض : لماذا خلق الله العالم في الزمن الذي خلقه فيه، دون غيره من الأزمنة؟ فلا مجال له إطلاقاً. لأن الزمن ليس له وجود في ذاته، وهو لا يوجد إلا إذا وُجدت الأشياء وحدثت. فالزمن كما قال أغسطينوس لم يكن موجوداً قبل الخَلْق، بل وُجد بحدوث الخلق، ولذلك فخلق الله للعالم من اللاشيء ليست فيه مفاضلة بين زمنين. كما أن التساؤل : لماذا كان العالم حادثاً والله قد أراد وجوده أزلاً؟ وما يريده الله أزلاً يعمله أزلاً، لأنه ليس هناك ما يمنعه من عمل ما يريد، بمجرد ما يريد ليس له مجال على الإطلاق، طالما أن حدوث العالم لم يغيّر شيئاً في ذات الله، إذ من البديهي أنه وإن كانت الأوقات والظروف هي واحدة بالنسبة إليه دائماً أبداً، إلا أنه لا يقوم بأي عمل من أعماله إلا بكل حكمة وفطنة، وذلك لخير خليقته التي تتأثر بالأوقات والظروف.
حجة الفلاسفة " 2 " : قال أفلوطين : الواحد لا تصدر عنه أعماله بالإرادة بل بالضرورة. وما يصدر عن الواحد صدوراً ضرورياً، هو مثل ذاته. فالعالم أما أن يكون أزلياً، أو يكون مثل ذات الله. ولما انتفى أن يكون مثل ذاته، لذلك يكون أزلياً .
وقال الكسندر أوف هاليس : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فحسب. وبما أن العالم متعدد، إذاً فهو لم يصدر عن الله، بل إنه أزلي .
وقال شلينج : الفلسفة عاجزة عن تفسير خروج الكثرة المتنوعة من الواحد المطلق . فبناءً على منطقه يكون اعتبار العالم أزلياً أقرب إلى العقل من اعتباره مخلوقاً. وقال ابن سينا : الموجود القائم بذاته لا يمكن إلا أن يكون واحداً من كل وجه، والواحد من كل وجه لا يصدر عنه إلا واحد، وإلا تعددت جهات ذلك الواحد بتعدّد ما يصدر عنه . فبناءً على منطق ابن سينا لا يكون العالم قد صدر عن الله، بل يكون أزلياً، لأن العالم متعدد النواحي.
الرد عليها : قال القديس أغسطينوس : القول بصدور العالم عن الله صدوراً ضرورياً معناه أن الله يتجزأ، والحال أنه لا يتجزأ. ولذلك فالعالم لم يصدر عن الله صدوراً ضرورياً، بل صدر عنه بإرادة . وقال توما الأكويني : العالم لم يصدر عن الله بالضرورة، لكن صدر عنه باختياره. وما يصدر عنه باختياره لا يشترط فيه أن يكون واحداً . وقالت المعتزلة : الفاعل هو الذي يفعل بقصد واختيار، والقول بقِدَم العالم ينفي الاختيار عن الله . وبما أن الله يتصف بالاختيار، فبناءً على منطق المعتزلة يكون العالم مخلوقاً به.
النقد والحل : لو اعتبرنا وحدانية الله وحدانية مطلقة، لتعذَّر علينا إسناد الإرادة أو الاختيار إليه، لأننا إن قلنا إنه كانت له إرادة أزلاً، أسندنا إليه التركيب من مريد ومُراد، أو افترضنا وجود كائنات أزلية معه كان يريدها أزلاً، إذ لا إرادة مع التركيب أو الكثرة.
وقد يقول قائل إن النفس البشرية واحدة، ومع ذلك فهي مريدة بغض النظر عن اتصالها بالإنسان. وللرد على ذلك نقول إن النفس وإن كانت واحدة، لكنها تشتمل على ملكات ومميزات كثيرة " كما ذكرنا في الباب الثاني " . ولذلك فإنها وإن كانت واحدة، إلا أنها مركبة. بينما الله مع وحدانيته لا تركيب فيه على الإطلاق.
وإن قلنا إن الله اتصف بالإرادة في الزمان، أسندنا إليه التطوّر والتغيّر، إذ يكون قد صار مريداً بعد أن كان غير مريد. وهذا ما يتعارض مع ثباته وعدم تعرضه للتطور والتغير. لكن إذا نظرنا إلى وحدانية الله كوحدانية جامعة مانعة، اتضح لنا أنه من البديهي أن يكون متصفاً بالإرادة منذ الأزل، لأن الإرادة تلازم هذه الوحدانية، وتبعاً لذلك لا يكون العالم قد صدر منه بالانبثاق أو الضرورة، كما يقول بعض الفلاسفة، أو وُجد من تلقاء ذاته أزلاً، كما يقول البعض الآخر، لأن المادة لخلّوها من العقل لا توجد من تلقاء ذاتها، بل لابد لها من موجد. وهذا الموجد لا يمكن أن يكون مادة مثلها، لأن المادة لا تخلق مادة أخرى من تلقاء ذاتها. فيكون العالم قد خُلق حقاً بإرادة الله واختياره، وبذلك تسقط حجة المعترضين من أساسها.
حجة الفلاسفة " 3 " : قال ابن سينا ما ملخصه : القول بحدوث العالم يؤدي إلى استكمال الله بالغير. واستكمال الله بالغير يؤدي إلى وجود نقص فيه، والنقص بالنسبة لله محال. ولذلك يكون العالم أزلياً .
النقد والحل : لم يتعرض أحد من القائلين بخلق العالم لمواجهة هذا الاعتراض برد قاطع، لأنهم يعتقدون " على اختلاف الأديان التي ينتمون إليها " أن الله خلق العالم ليُظهر ذاته، أو يستثمر صفاته، أو ليصير معروفاً عند غيره. وكل هذه الأغراض إن صحّت، أدت " والعياذ بالله " إلى وجود نقصٍ فيه، وإلى رغبته في استكمال هذا النقص بالغير " كما قال ابن سينا " . وهذا ما لا يتناسب مع كماله واستغنائه بذاته عن كل شيء سواها.
لكن إذا نظرنا إلى وحدانية الله كوحدانية جامعة مانعة، اختفى كل مجال للظن بأن الله قد خلق العالم ليظهر ذاته أو صفاته، لأنه على أساس هذه الوحدانية تكون ذاته متعيّنة بتعيّن واضح، وتكون صفاته عاملة أزلاً بينه وبين ذاته إلى درجة الكمال، وبذلك لا يكون خَلْقه للعالم وسيلةً لإعلان ذاته أو صفاته، بل يكون نتيجة طبيعية لعمل صفاته الأزلي بينه وبين ذاته.
حجة الفلاسفة " 4 " :قال ابن سينا ما ملخصه : القول بخلق العالم يؤدي إلى دخول الله في علاقة بعد أن لم تكن له علاقة. وبما أن الله لايطرأ عليه تغيير ما، يكون العالم أزلياً .
الرد عليها : قال جيوم دوفري : حدوث العالم لا يغيّر شيئاً في ذات الله، لأن العالم صادر عن الله بإرادة قديمة . وقالت المعتزلة والأشاعرة : الله خلق العالم بإرادة قديمة . فبناءً على رأيهم تكون لله علاقة قديمة بالعالم، وبذلك لا يكون بخلقه إياه قد دخل في علاقة جديدة.
النقد والحل : لو كانت وحدانية الله مطلقة لما كانت له في ذاته إرادة أو علاقة، لأن وجودهما لا يتناسب مع ما لهذه الوحدانية من خصائص، ولكان خلقه للعالم قد عرّضه تبعاً لذلك للتغيّر والتطوّر، إذ يكون قد أصبح مريداً بعد أن كان غير مريد، وذا علاقة بعد أن كان بغير علاقة، الأمر الذي يتعارض مع ثباته. ولذلك فالرد المذكور لا يدحض حجة المعترضين.
لكن إذا نظرنا لوحدانية الله كوحدانية جامعة مانعة، اتضح لنا أنه من البديهي أن تكون بينه وبين ذاته علاقات خاصة منذ الأزل، وأن يكون متّصفاً بالإرادة منذ الأزل أيضاً. فقد اتضح لنا أنه من البديهي أن يكون بهذه الإرادة قد قصد أن يخلق العالم منذ الأزل كذلك " لأن كل أعماله معروفة لديه أزلاً " . وبناءً على ذلك تكون له علاقة مع العالم منذ الأزل، بجانب العلاقات الخاصة الكائنة بينه وبين ذاته أزلاً. ولذلك لا يكون بخلقه للعالم قد دخل في علاقة لم تكن موجودة في ذاته من قبل، كما يقول المعترضون.
حجة الفلاسفة " 5 " : قال أرسطو : إذا أحدث الله العالم، فإنما يُحدثه ليبقَى هو كما كان، أو يُحدثه لما هو أفضل، أو يُحدثه لما هو مفضول. وكل هذه أغراض بعيدة عما يُتصوَّر في حق الله، ولذلك يكون العالم أزلياً . وقال ابن سينا بهذا المعنى تقريباً : الفاعل لا يأتي عملاً إلا لفائدته الشخصية، أو لفائدة تعود على غيره، أو لأن الفعل حسن في ذاته. لكن الغرضين الثاني والثالث لا يدفعان وحدهما الفاعل على العمل إلا إذا كانت له مصلحة خاصة. وبما أن هذا الغرض لا يليق بالله، يكون العالم أزلياً .
النقد والحل : لم أعثر بردٍّ قاطع على هذا الاعتراض فيما قرأته من آراء الذين يريدون التوفيق بين خلق الله للعالم، واعتبار وحدانيته وحدانية مطلقة. وطبعاً يرجع السبب في ذلك إلى أنه لو كانت وحدانية الله مطلقة لما كان له غرض من خلق العالم سوى الحصول على فائدة خاصة، مثل إظهار قوته وسلطانه، أو على الأقل إعلان ذاته وصفاته. ولما كانت هذه الأغراض لا تليق بكمال الله المطلق واستغنائه بذاته، لذلك يجب أن نعتبر العالم أزلياً، كما قال الفلاسفة، لأن هذا يكون أقرب للصواب، أو بالحري إلى كمال الله، من اعتباره في حاجة لشيء من الأشياء.
لكن هل العالم أزلي؟
الجواب : طبعاً لا، فالأدلة الدينية والمنطقية والعلمية تثبت جميعاً أن العالم مخلوق، لأن الأزلي غير مركب ولا يتحيَّز بمكان، ولا يتغيَّر، ولا ينقرض، بينما العالم مركب، ومتحيز ومتغير ومعرض للانقراض. فقال الإنجيل إن الأجرام السماوية تنحل ملتهبة، والعناصر تذوب محترقة " 2بطرس 3 :12 " . وقال العلماء : إن الشمس تحترق ببطء والنجوم تتضاءل وكل حرارة في الكون مصيرها إلى الإشعاع، وإن الكون على الإجمال يتقدم نحو الانحلال أو الاحتراق. وماله نهاية له حتماً بداية، أو بتعبير آخر لا يكون أزلياً، بل مخلوقاً. فضلاً عن ذلك فقد أجمع أشهر العلماء " كما ذكرنا في الباب الأول " على أن العالم مخلوق. وقد ذهب رجال الجيولوجيا إلى أن العالم وُجد منذ 2 بليون سنة. ونحن لا نكذّبهم في تقديرهم، لأن الكتاب المقدس وإن كان لم يعلن لنا التاريخ الذي خُلق فيه العالم، لكن يُستنتج منه أن هذا التاريخ أبعد من أن تستطيع عقولنا إدراكه، فقد قال : فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللّهُ السَّمَاوَاتِ وَا لْأَرْضَ " تكوين 1 :1 " .
أما الدعوى بأنه لو كانت المادة حادثة لاحتاجت لمادة قبلها توجَد منها، كما قال ابن سينا وابن رُشد وغيرهما، فلا نصيب لها من الصحة، لأن هذه الدعوى تؤدي إلى التسلسل إلى ما لا نهاية له، والحال أنه يجب أن ننتهي إلى علة أولى هي أصل جميع الأشياء، يجب أن تكون عقلاً لا مادة، لأن المادة لا تعمل شيئاً من تلقاء ذاتها، أما العقل الذي لا حدّ لقدرته فيستطيع أن يعمل كل شيء بدونها.
ويواجهنا سؤال آخر :
كيف يكون العالم مخلوقاً، ولا يتعارض خلقه مع عدم حاجة الله لشيء من الأشياء؟
الجواب : إذا نظرنا لوحدانية الله كوحدانية جامعة مانعة، اتضح لنا أنه من البديهي أن يكون منذ الأزل متصفاً بصفات مثل المحبة والإرادة والقدرة، وأن تكون هذه الصفات ليست في حالة السكون بل في حالة العمل، وعملها هذا لا يمكن أن يُخفَى، بل لابد أن يظهر ويتجلى. ولذلك كان من البديهي أن يخلق وأن يعتني بما يخلق. وخلقه في هذه الحالة لا يكون من باب العبث أو الرغبة في إعلان ذاته، أو إضافة مجد جديد لمجده الأزلي، أو الإقلال من مجده هذا " كما يتصور المعترضون في حقه " بل يكون نتيجة طبيعية لعمل صفاته أزلاً. وبذلك تسقط حجتهم هذه كما سقطت غيرها من الحجج.
مما تقدم يتبيّن لنا أن الاعتقاد بأن وحدانية الله مجردة أو مطلقة، يؤدي لاعتبار العالم أزلياً مع الله، أو اعتبار العالم والله شيئاً واحداً، أو يؤدي لحدوث تغيّر وتطوّر في الله عند قيامه بخلق العالم. أما الاعتقاد بأن وحدانية الله جامعة مانعة، فيدل على أن الله خلق العالم دون أن يتعرض سبحانه للتغيّر أو التطور.
الفصل الثالث
مشكلة كيفية تكوين العالم
أولاً - آراء الفلاسفة فيها :
يقول الكتاب المقدس إن العالم تكوّن فقط بأمر الله، دون أن يستلزم ذلك حدوث تطور فيه، أو وجود وسطاء معه يساعدونه على تكوينه. لكن الفلاسفة الذين يعتبرون وحدانية الله وحدانية مطلقة، لا يؤمنون بهذه الحقيقة، ويذهبون في كيفية تكوين العالم مذاهب شتى. وفيما يلي أهم آرائهم في هذا الموضوع :
1- فلاسفة اليونان :
قال أفلاطون : الله أزلي أبدي، وهو منزّه عن الحركة تنزيهاً مطلقاً، وكان معه في الأزل كائن يدعى الديمورج " أي الصانع " ، هو صورة الخير " أو صورة الله " ، والنموذج الحي بذاته والحاوي لجميع المُثل. فكان من الطبيعي أن يتأمل الله فيه، لأنه تعالى خيِّر. وكان من الطبيعي أن يريد بعد ذلك صنع عالمٍ خَيِّرٍ على مثاله. فأثّر الديمورج في عالم الحس تأثيراً متوافقاً مع الخير الأعلى، وحوّله إلى النظام الذي تسمح به طبيعته. وأول ما ظهر من تأثير الديمورج، هو نفس العالم، ثم ظهر بعد ذلك جسمه . " و المُثل في نظر أفلاطون هي ماهيات الكائنات والوجود الحقيقي لها " .
ويقول بعض الشراح إن أفلاطون اعتقد أن الله كان يتأمل في ذاته. ويقول البعض الآخر إنه اعتقد أن الله كان يتأمل في صورة الخير. ويرجع السبب في هذا الاختلاف بينهم لعدم معرفتهم بوجهة نظر أفلاطون في الديمورج معرفة دقيقة. فقال فريق منهم إنه وضع الله فوق الديمورج، وقال فريق ثان إنه اعتبر الديمورج والله شيئاً واحداً، وقال فريق ثالث إنه اعتبر الديمورج صورة الله، أو الله خارجاً من عزلته.
وقال أفلوطين : الله لم يخلق العالم مباشرة، لأن الخلق عمل، والعمل يستدعي التغيّر، والله لا يتغيّر. بل إن تفكير الله في ذاته نشأ عنه فيض، وتكوَّن العالم من الفيض. وأول شيء انبثق من الله هو العقل، ومن العقل انبثقت نفس العالم، أو النفس الأولى، ومن هذه النفس انبثقت النفوس الجزئية أي النفوس البشرية وغيرها .
2- فلاسفة اليهود :
قال فيلون : الله لعدم تنزله للاتصال بالمادة لم يخلق العالم مباشرة، بل أوجد وسطاء ليقوموا بالخلق. والوسيط الأول هو اللوغوس أو الكلمة أو العقل .
و اللوغوس كلمة يونانية يُراد بها في الأصل القوة العاقلة التي تمد الكون بالحياة وتدبر كل أموره، أو العقل الإلهي الظاهر أثره في الكون. وقد تُرجمت إلى اللغة العربية الكلمة ، وتُرجمت إلى اللغات الأخرى بما يتفق مع معنى هذا اللفظ تماماً. وربما يرجع السبب في ذلك إلى أن كلمة الله " كما هو مصطلح عليه عند الناس " هي التي تعبر عن مكنونات الله، وتنفّذ مقاصده.
وقال الفيلسوف اليهودي سليمان بن جبيرول : الله منزه عن الاتصال بالعالم، ولذلك كان لابد من وجود وسيط بينه وبين العالم. وهذا الوسيط هو المشيئة الإلهية .
ولقد أحسن هذا الفيلسوف في عدم افتراضه وجود وسطاء بين الله وبين العالم، لكنه أسند إلى الله المشيئة. وإسناد المشيئة إليه لا يتفق مع اعتبار وحدانيته وحدانية مطلقة. كما أنه جعل الله شيئاً ومشيئته شيئاً آخر، فأسند بذلك الثنائية إليه. وهذا ما لا يتفق أيضاً مع اعتبار وحدانيته وحدانية مطلقة.
3- فلاسفة المسيحيين :
قال رافيسون موليان : الجزء المادي من الكون هو نتاج ثانوي لله، تولّد عن انتشار الروح الإلهية وانقسامها . وقال ألبرت : الله أوجد العقل بالصدور أو الانبثاق، والعقل عاون الله على إيجاد سائر العقول . وقال جون سكوت : الخلق من لا شيء معناه أن الله يخلق من كماله غير المدرَك، الذي هو في ذاته لم يكن شيئاً معيّناً. فهو إذ خلق الخليقة، يخلق ذاته من ذاته على نحو خفي يفوق التصور والتعبير، فيجعل ذاته منظوراً وهو غير المنظور، ويجعل ذاته مدركاً وهو غير المدرَك، ويتخذ لذاته ماهية وطبيعة وهو يفوق الماهية والطبيعة، ويصير عالماً مخلوقاً، وهو خالق العالم . ولذلك اتُّهم سكوت أنه من القائلين بوحدة الوجود، ولكنه برئ من هذا الاتهام، فقد كان من العلماء المتمسكين بأصول الدين. إنما اعتقاده بأن وحدانية الله هي وحدانية مطلقة هو الذي جعله ينفي عن الله التعيّن أزلاً.
وقال فكتور كوزان : الله يستخرج الكون من ذاته بتطور إرادي، كما يستخرج الإنسان من نفسه فعله الإرادي . فجعل العالم هو الله متطوراً.
4 - فلاسفة المسلمين :
قال أبو هذيل العلاف : إرادة الله في الخلق ليست أزلية، بل إن كلمة " كن " أو " التكوين " التي تعبر عن الإرادة الإلهية هي حادثة لا في محل. والإرادة تغاير المريد والمراد. وعلى هذا، فكلمة " التكوين " هي في المكان الوسط بين الخالق الأزلي والعالم المخلوق الحادث . وقال إخوان الصفا : العالم كله صادر عن الله. ومراتبالصدور هي " أ " العقل الفعال " ب " العقل المنفعل " ج " الهيولي الأولي " د " الطبيعة الفاعلة " ه " الجسم المطلَق " و " عالم الأفلاك " ز " عناصر العالم السفلي " ح " المعادن والنباتات والحيوانات المكونة من هذه العناصر - وهذه ماهيات ثمان، وهي والله، الذات المطلقة التي هي في كل شيء ومع كل شيء . وقال الإمام الرازي : هناك خمسة مبادئ قديمة هي : الباري تعالى، والنفس الكلية، والهيولي الأولي، والمكان المطلق، والزمان المطلق، وهذه كلها موجودة منذ الأزل لم يسبقها زمان . وقال الفارابي : نشأ عن واجب الوجود العقل الأول، ومن اتصال هذا العقل بواجب الوجود نشأ العقل الثاني، ومن تعقله لذاته نشأت السماء الأولى، ومن اتصال العقل الثاني بواجب الوجود نشأ العقل الثالث، ومن تعقله لذاته نشأت الكواكب الثابتة. وهكذا الحال مع بقية العقول، فقد نشأ عن العقل الثالث العقل الرابع وزحل، وعن العقل الرابع العقل الخامس والمشترى وهلم جراً . وقال ابن سينا : أول الفائضات عن الله هو عقل محض يُدعَى العقل الأول، وباعتباره عقلاً فهو يعقل الله ويعقل ذاته " هو " من حيث هي واجبة وممكنة. فبعقله لله صدر عنه عقل ثان، وبعقله لذاته هو، من حيث هي واجبة، صدر عنه نفس الفلك الأول، ومن حيث هي ممكنة، صدر عنه جسم هذا الفلك وهلم جرا... .
ثانياً - الأسباب التي بنوا عليه آراءهم
هذه هي آراء الفلاسفة في مشكلة كيفية تكوين العالم، وهي مع تنوّعها وتشعُّبها تتحد معاً في إنكار تكوين الله للعالم بطريق مباشر. ويرجع السبب في ذلك كما أرى إلى أنهم بعد إيمانهم أن الله واحد لا شريك له ولا تركيب فيه، وأنه كامل كل الكمال ولا يتغير أو يتطور على الإطلاق، وجدوا أنفسهم أمام مشكلات عويصة، هي : كيف يدخل من لا شريك له، والمنزّه تبعاً لذلك عن العلاقة بسواه في علاقات مع سواه؟
وكيف يتغير الذي لا يتغير فيصبح فاعلاً بعد أن كان غير فاعل؟
وكيف تصدر الكثرة عن الله وهو لا تركيب فيه على الإطلاق؟
ولذلك اضطر معظم المؤمنين منهم بوجود الله الذاتي، إلى افتراض صدور فيض عنه، أو وجود وسطاء بينه وبين العالم، أو وجود عناصر أزلية معه، أو حدوث تطور داخلي في ذاته، حتى لا يسندوا إليه " حسب وجهة نظرهم " أيشيء يتعارض مع كمال الوحدانية المطلقة التي كانوا يؤمنون أنها الوحدانية المناسبة له. أما الذين لم يستسيغوا هذه الافتراضات، فقد قالوا إن الله هو عين العالم، ليتجنبوا المشكلات الناتجة من اعتبار وحدانية الله وحدانية مجردة أو مطلقة.
ثالثاً - الرد على الفلاسفة والحل المناسب للمشكلة :
لم يتعرَّض معظم الذين يؤمنون بخلق الله للعالم بطريق مباشر للرد على هؤلاء الفلاسفة بالحجة والبرهان. كل ما فعلوه هو الاستهزاء بهم ورميهم بالجهل واللغو والهذيان، الأمر الذي لا يتناسب مع نزاهة البحث. أما نحن وإن كنا نحاول الرد على الفلاسفة بالحجة والبرهان، فلا نريد أن نتعرض للأدوار التي مرَّ بها العالم، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن، لأن هذا البحث خاص بعلماء الفلك والجيولوجيا.
فمن رأي جيمز جينز مثلاً، أنه كانت في الكون في أول الأمر غازات متناثرة هنا وهناك، وأنه نظراً لأن جاذبية كل كمية من الغاز تؤثر على الكمية الأخرى، نشأت بين هذه الغازات تيارات متعددة. وقد ترتب على وجود هذه التيارات تكوين كتل غازية بعضها كبير الحجم والبعض الآخر صغيره. ولما كانت قوة الجاذبية عند الكتل الكبيرة عظيمة وعند الكتل الصغيرة ضعيفة، أخذت الأولى تجتذب الثانية إليها شيئاً فشيئاً، وبذلك تلاشت الكتل الصغيرة ولم تبق إلا الكتل الكبيرة. وبتأثير التيارات أخذت هذه الكتل " أو السدائم " في الدوران، وأخذت تبعاً لذلك في التكاثف شيئاً فشيئاً. وما تكاثف منها انفصل عنها وكوّن النجوم العظيمة. ومن بين هذه النجوم الشمس التي تضيء علينا. وبدوران الشمس انفصلت عنها الأرض وبعض الكواكب الأخرى. وكانت الأرض في أول الأمر كتلة من غازات ملتهبة لا شكل معين لها. ولكن بمرور الزمن بردت وتكاثفت ثم تكوّنت على سطحها قشرة أخذت في الصلابة يوماً بعد يوم. وبعد ذلك ظهرت الحياة عليها تدريجياً " النجوم ومسالكها ص 141-143 " . ويتفق معه العلماء العصريون على تحوّل الأرض من الحالة الغازية إلى الصلبة، ولكن لا يتفق معه بعضهم على انفصال الأرض من الشمس، لأنهم يرون أن الأرض تكونت بالاستقلال عن الشمس، لأسباب لا يتسع لنا المجال للتحدث عنها الآن.
ولذلك سنقصر ردنا على الناحية الإلهية الفوقطبيعية أو الميتافيزيقية، لنعرف فقط " 1 " هل صنع الله العالم من عناصر أزلية، أم كوَّنه من لا شيء؟ " 2 " وهل في تكوينه إياه أخرجه من ذاته، أم أبدعه من العدم إبداعاً؟ " 3 " وهل تعرض تعالى للتغيّر بسبب تكوينه إياه، أم لم يتعرض؟ " 4 " وهل خلق وسطاء ليعاونوه على تكوينه أم لم يخلق؟ " 5 " وهل كان معه كائن أزلي قام بتكوينه أم لم يكن؟ ولذلك نقول :
1 - لا نستطيع أن نسلّم بوجود مواد أزلية صنع الله العالم منها، لأن المادة لخلوّها من العقل لا توجد من تلقاء ذاتها، بل لا بد لها من موجد. وهذا الموجد لا يمكن أن يكون مادة مثلها، لأن المادة لا تأتي بمادة أخرى من تلقاء ذاتها، بل لا بد أن يكون الموجد عقلاً لا حدَّ لقدرته، لأن مثل هذا العقل يمكن أن يكون قائماً بذاته، ويمكن أن يكوِّن شيئاً من لا شيء.
2 - ولا نستطيع أن نسلم بأن الكون انبثق من الله، لأن هذا يؤدي إلى افتراض وجود تركيب فيه. ولا نستطيع أن نسلّم بأن كلمة أو روحاً أو عقلاً أو نوراً أو صفة قد انبثقت منه وقامت بتكوين العالم، لأن هذا يؤدي إلى حدوث تفكك في الله، وهو غير قابل للتفكك، إذ أنه لا تركيب فيه بأي وجه من الوجوه.
3 - ولا نستطيع أن نسلم بأن الله في سبيل تكوين العالم قد تطور، فأصبح معيّناً ومدرَكاً وذا ماهية، بعد أن كان غير معيّن أو مدرَك أو ذا ماهية، لأنه كامل كل الكمال، ولا يتعرض للتطور أو التغير بأي حال من الأحوال.
4 - ولا نستطيع أن نسلم بأنه خلق وسطاء ليقوموا بتكوين العالم أو يعاونوه على تكوينه، لأن تصرفاً مثل هذا يتعارض مع قدرته الذاتية على القيام بكل شيء بمفرده، كما يتعارض أيضاً مع حكمته ومقامه الخاص. لأنه ما دامت له القدرة على الخلق فليس من الحكمة أن يخلق كائناً آخر ليخلق العالم، بل يخلقه مباشرة. ولو أن كائناً غيره قام بهذه المهمة لكانت لذلك الكائن السلطة المباشرة على العالم، لأنه يكون خالقه والمعتني به، ولكان من الواجب على الناس أن يقدموا له العبادة والإكرام بوصفه خالقهم والمعتني بهم. والحال أن الله وحده هو الذي له السيادة المباشرة، وهو وحده الذي له الإكرام والعبادة.
5 - وأخيراً لا نستطيع أن نسلم بأنه كان لديه كائن أزلي قام بتكوين العالم، لأنه لا شريك له على الإطلاق.
لكن إذا نظرنا إلى وحدانية الله كوحدانية جامعة مانعة أدركنا أنه بسبب هذه الوحدانية يكون له تعيّن أزلي وصفات أزلية، وتكون هذه الصفات ليس بالقوة بل بالفعل أزلاً، وأنه بسبب عملها أزلاً تكون لديه أزلاً صورة كاملة لكل عمل من أعماله وللعالم من كل ناحية من النواحي، وتبعاً لذلك تكون له علاقة أزلية مع العالم، ويكون بتكوينه إياه وفق مشيئته لم ينتقل من لا تعيّن إلى تعيّن، أو من سكون إلى عمل، ولا يكون قد دخل في علاقة لم يكن لها وجود في ذاته من قبل، بل يكون تكوينه إياه قد جاء نتيجة طبيعية متوافقة كل التوافق مع ذاته، وما بها من خصائص أزلية.
الفصل الرابع
مشكلة علاقة الله بالعالم
أولاً - آراء الفلاسفة فيها :
من الأمور المسلَّم بها لدى المؤمنين، أن لله علاقة خاصة مع جميع الكائنات العاقلة على الأقل، لأنه لولا ذلك لما كان لها أمل في التمتع به، ولما كانت مسئولة أمامه عن أي عمل من أعمالها، ولكان وجوده وعدمه سيان بالنسبة لها تبعاً لذلك.
وقد شهد بهذه الحقيقة كثير من الفلاسفة العارفين بالله، فقال بسكال : الإنسان يعتبر الله كالوثن لو أنه حصره في جعله إياه موضوعاً للمعرفة فحسب، ولم يحتفظ له بعمله الجوهري الخاص بتبادله العلاقات معنا . وقال وليم جيمز : الإله الذي نقبل منه المدد والعزاء ليس إلهاً مفارقاً، لأن الإله المفارق لا يدخل في علاقة مع الإنسان .
لكن الفلاسفة الذي اعتبروا وحدانية الله وحدانية مطلقة، نفوا وجود أي علاقة بينه وبين العالم، بحجة أن وجودها لا يتناسب مع ما يجب لهذه الوحدانية من تنزيه تام. وفيما يلي أشهر آرائهم وأهمها.
1- فلاسفة اليونان :
قال أرسطو : الله لا يفكر إلا في ذاته ولا يتأمل إلا فيها، فهو العقل والعاقل والمعقول، ولذلك فإنه لا يعلم العالم ولا يُعنَى به، وليست له إرادة في حركاته، بل إن العالم هو الذي يسعى إليه سعياً آلياً، منشؤه الاستعداد الطبيعي الموجود في أجزاء مادته، وشوقها القاهر الذي يدفعها من القوة إلى الفعل . وقال دامسيوس : يجب وضع المبدأ الأول فوق كل شيء وخارج كل شيء " أي فصله عما سواه فصلاً تاماً " ، لأنه نوع من الحرية المطلقة والقدرة غير المحدودة . وقال الغنوسيون : الله أسمى من أن يتصل بالعالم، ولذلك خلق وسطاء من الملائكة ليتصلوا به ويعنوا بأمره، وأقرب هؤلاء الملائكة إلى الله هو اللوغوس . وقد ظهر الغنوسيون في القرن الثاني للميلاد، إلا أن آراءهم هذه كانت موجودة في النصف الأخير من القرن الأول، وكان بولس الرسول يحذر المؤمنين منها تحذيراً شديداً. فقال لهم مرة : لَا يُخَسِّرْكُمْ أَحَدٌ الْجِعَالَةَ " أي المكافأة " رَاغِباً فِي التَّوَاضُعِ وَعِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ " كولوسي 2 :18 " . وطبعاً لا يقصد بالتواضع هنا صفة الوداعة المحمودة، بل رَفْض حقيقة علاقة الله المباشرة بالعالم، بدعوى أنها لا تليق بمجده تعالى. وهذا التواضع ولا شك، هو تواضع خبيث، لأنه عوضاً عن أن يقود الإنسان إلى تعظيم الله لاتصاله بالعالم مباشرة، يدفعه إلى الابتعاد عنه تعالى، والالتجاء إلى الملائكة دونه.
2 - فلاسفة اليهود :
قال فيلون : الله لا يتصل بالعالم ولا يُعنَى به مباشرة، بل بواسطة وسطاء، فالوسيط الأول هو اللوغوس أو الكلمة أو العقل أو ابن الله. وبهذا الوسيط خلق الله العالم ويُعنَى به، وبواسطته أيضاً يمكننا الاتصال بالله ومعرفة أفكاره. والوسيط الثاني هو الحكمة التي تدير العالم وتقوده إلى اللوغوس، أما الوسيط الآخير فهو آدم، الذي وُلد منه البشر جميعاً . وقال سليمان بن جبيرول : الله منزه عن الاتصال بالعالم تنزيهاً تاماً .
3 - فلاسفة المسيحيين :
قال نقولادي كوسا : اللاهوت سالب وليس بموجب . وقال توماس هوبس : الله لا يتصف بالإرادة . ولذلك فحسب اعتقادهما لا تكون لله ذاتية، وبالتالي لا تكون له علاقة بالعالم.
4- فلاسفة المسلمين :
قال ابن سينا : الله لا يعلم إلا الكليات فأبطل بذلك علمه بالأفراد وعنايته بهم. فالله، في نظر ابن سينا، لا يعلم " مثلاً " أن فلاناً بعينه وُلد في يوم كذا، أو فكر في موضوع كذا، أو مات يوم كذا، أو كان مؤمناً أو كافراً. وقال ابن رشد : الله لا يعلم الكليات ولا يحيط بالجزئيات، لأن الذات الإلهية منزهة عن كليهما . وقال معمر : الله لا يعلم ذاته ولا يعلم غيره، لأن هذا يؤدي إلى التعدد في ذاته .
ثانيا - حجج الفلاسفة وضعف الردود عليها :
لم يلقِ الفلاسفة السابق ذكرهم آراءهم في هذا الموضوع جزافاً، بل أيدوها بحجج كثيرة. وقد حاول الذين يؤمنون بوجود علاقة لله مع العالم تفنيد هذه الحجج بإثبات عدم تعارض هذه العلاقة مع اعتبار وحدانية الله وحدانية مطلقة أو مجردة، لكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، كما يتضح مما يلي :
حجة الفلاسفة " 1 " : قال أرسطو : لا يتفق مع المنطق أن يكون موضوع العلم الإلهي هو عالمنا هذا لأنه ناقص، ويجب تنزيه الله عن إدراك الناقص، ولذلك فهو لا يفكر في العالم بل يفكر في ذاته وحدها .
الرد عليها : قال أفلوطين : كيف يصحّ تدبير العالم من متحيّز في نفسه؟ وإن كانت لا علاقة لله بالعالم، فكيف أوجده " أو بالحري حركه " في بدء نشأته؟ وكيف يبقى العالم إذا لم يكن للمبدأ الأول يد في تدبيره؟ ألا يجعل أرسطو الله والعالم منفصلين، ولا حاجة لأحدهما بالآخر . ذلك لأن أرسطو كان يعتقد أن الله لم يخلق العالم، بل حركه فحسب.
النقد : لقد أحسن أفلوطين في دفاعه عن علاقة الله مع العالم، لكن ما رأيه هو في هذه العلاقة؟
الجواب : إنه يعتقد كما مرَّ بنا، أن العقل انبثق من الله، ومن العقلانبثقت نفس العالم، ومن نفس العالم انبثقت نفوس البشر. فهو يعتقد بوجود علاقة لله معنا، لكن يفترض وجود وسيطين بينه وبيننا، وهما العقل ونفس العالم. وافتراض وجود وسطاء بين الله وبيننا لا يتفق مع الحق، لأن وجودهم يحدّ من محبة الله لنا وعلاقته بنا، لأن المحبة الصادقة لابد أن يتوافر فيها عنصر الصلة المباشرة. ولا حدَّ لمحبة الله لنا وعلاقته بنا. كما لا يفصلنا عن الاتصال المباشر به شيء، لأنه مصدر حياتنا وسلامنا وسعادتنا.
فيجدر بنا أن نتساءل : لماذا افترض أفلوطين وجود وسطاء بين الله وبيننا؟
الجواب : لا شك أنه رأى أن وجود علاقة مباشرة لله معنا لا يتفق مع اعتبار وحدانيته وحدانية مطلقة أو مجردة. لماذا؟ الجواب : طبعاً لأن هذه الوحدانية أو تلك ليست لها علاقة بينها وبين ذاتها أصلاً، ولذلك لا تقوم لها علاقة بينها وبين غيرها دون أن تتعرض للتطور والتغير، والله لا يتطور ولا يتغير.
حجة الفلاسفة " 2 " : قال ابن سينا : العلم بالجزئيات " أو بتعبير آخر بالأفراد " يقتضي التحيّز، والله لا يتحيّز .
الرد عليها : قال ابن ميمون : الله لا يعلم الجزئيات من قِبَلها حتى يقع التحيز، بل إن تلك الجزئيات تابعة لعلمه المتقدم المقرر لها أزلاً .
النقد : نحن نسلم مبدئياً مع ابن ميمون بأن علم الله بالجزئيات وبالكليات يرجع إلى ما هو مقرر لديه من جهتها أزلاً. ولكن هل يتفق مع كماله أن يكون علمه بها قاصراً على علمه المقرر لها من قِبَله أزلاً، وأنه لا يعلم شيئاً عنها في الزمان؟ وإذا كان لا مفر من الإجابة بأنه يعلمها بعلمه المقرر لها أزلاً، ويعلمها أيضاً من قِبَلها عند حدوثها في الزمان، فقد سقطت حجة ابن ميمون وثبتت حجة ابن سينا. فضلاً عن ذلك، فإن إسناد ابن ميمون العلم بالأشياء إلى الله أزلاً يقتضي وجود صورها لديه أزلاً، كما يقتضي وجود صفاته بالفعل أزلاً أيضاً، وهذا ما يتعارض مع خصائص الوحدانية المطلقة.
حجة الفلاسفة " 3 " : قال ابن سينا : كل إدراك جزئي يتطلب وجود آلة جسمانية، وتعالى الله عن أن يستخدم آلة جسمانية . وبناءً على رأي ابن سينا، لا يدرك الله الجزئيات.
الرد عليها : قال بعض الفلاسفة : ليس من الضروري أن يكون علم الله بالجزئيات متوقفاً على آلات، فلديه تعالى وسائل أخرى غير الآلات، يستولى بواسطتها على الجزئيات .
النقد : لو اعتبرنا وحدانية الله مطلقة لتعذَّر علينا التسليم بوجود أية وسيلة لديه، في الأزل أو غير الأزل سوى ذاته. وذاته هذه تكون عاطلة أو غير عاملة، ولذلك لا تكون لها علاقة بنفسها أو غير نفسها، لأنه تعالى بجانب تفرُّده بالأزلية وعدم وجود تركيب فيه، لا يتغير ولا يكتسب لنفسه شيئاً على الإطلاق، ولذلك فهذا الرد لا يدحض حجة ابن سينا، ويخلق أيضاً لنا مشكلة مبهمة، لا قِبَل لنا على تصّورها.
حجة الفلاسفة " 4 " : قال ابن سينا : الله لا يعلم الجزئيات قبل وجودها ولا بعد وجودها، لأن علمه بها يتطلب وجود كثرة في ذاته . وقال معمر : علم الله بالغير يؤدي إلى التعدد في ذاته، ولذلك فهو يتنزه عن العلم بأي شيء من الأشياء .
الرد عليها : قال علماء المعتزلة : العلم إضافة، وكثرة الإضافات لا تؤدي إلى كثرة في الذات .
النقد : إن إضافة شيء إلى الله، وإن كانت لا تؤدي إلى وجود كثرة في ذاته، لكنها تدل على أنه اكتسب شيئاً جديداً، وهذا لا يتفق مع ثباته وعدم قابليته للزيادة أو النقصان، ولذلك فهذا الرد لا يدحض حجة ابن سينا.
حجة الفلاسفة " 5 " : قال ابن سينا : المعلومات الجزئية متعاقبة، وتعاقُبها يستلزم تغيّرها، وتغيّر المعلوم يقتضي تغيّر العلم به، وتغير العلم به يقتضي بالضرورة تغيّر العالم. والتغيّر على الباري محال، فعلمه بالجزئيات محال .
الرد عليها : قال علماء المعتزلة : تغيّر العلم الناشئ من تغير الجزئيات لا يؤدي إلى التغيّر في ذات الله، لأنه يعلم كل شيء عنها أزلاً .
النقد : علم الله بالجزئيات أو الكليات أزلاً يقتضي وجود صورها لديه أزلاً، كما يقتضي وجود صفاته بالفعل أزلاً أيضاً. وهذا ما يتلاءم مع اعتبار وحدانيته مطلقة. فهذا الرد لا يدحض أيضاً حجة ابن سينا.
حجة الفلاسفة " 6 " : قال أرسطو : الله لا يعقل الأشياء، لأنه إذا عقلها صار منفعلاً بها، وأدى هذا إلى حدوث تغيّر فيه . وقال ابن سينا بهذا المعنى : العلم هو انطباع المعلوم في ذات العالم. ولما كان الانطباع يستلزم قابلية " أي انفعالاً " في الذات المطبوع فيها، وكانت القابلية " أو الانفعال " هي أولى خصائص الممكنات " الكائنات الحادثة " ، تنّزه الباري عن الاتصاف بها. لذلك وجب الجزم بتنزيه الباري عن العلم بالجزئيات .
الرد عليها : قال بعض الفلاسفة : التعريف الصحيح للعلم، كما قال أوكليد الميجاري، هو استيلاء العالِم على المعلوم . وعلى هذا الاعتبار لا يؤدي علم الله بالأشياء لحدوث تغيير فيه.
النقد : إذا اعتبرنا أن العلم هو استيلاء العالِم على المعلوم، فعلم الله بالكائنات يكون معناه استيلاءه على مدلولاتها، وهذا يتطلب وجود صفاته بالفعل، وهذا لا يتفق مع اعتبار وحدانيته وحدانية مطلقة، إلا إذا تعرّض تعالى للتطوّر والتغيّر. وبما أن الله لا يتطور ولا يتغير، إذاً فهذا الرأي لا يدحض أيضاً حجة ابن سينا .
حجة الفلاسفة " 7 " : قال ابن سينا : الله لا يعلم العالم " أي الكائنات التي فيه " عن طريق العالم، بل يعلمه عن طريق علمه بذاته هو. وهذا العلم أزلي وغير مرتبط بالزمان . وبناءً على قوله لا تكون لله علاقة بالعالم في الزمان.
النقد : اتفق معظم علماء الدين الذين يقولون بوجود علاقة لله مع العالم، مع ابن سينا، على أن الله يعلم العالم عن طريق علمه بذاته أزلاً، ومع ذلك يرون أن علمه بالعالم في الزمان لا يتعارض مع اعتبار وحدانيته مطلقة.
لكن هل عِلم الله بذاته أزلاً يتفق مع اعتبار وحدانيته وحدانية مطلقة؟
الجواب : طبعاً كلا، لأن العلم يتطلب التقوم من عالم ومعلوم، وقد شهد كثير من العلماء بهذه الحقيقة، فقال وليم جيمز : المعرفة فيها ثنائية تميز بين العقل والمعقول، أو العلم والمعلوم . وقال وورد : الإدراك أثينية في وحدة . وقال جنتيل : للإدراك ناحيتان . وقال هيوم : المعرفة مجموعة إدراكات، والإدراكات منها انفعالات ومنها معانٍ، ومنها علاقات . وقال أنطون كورنو : المعرفة لا تقع إلا على نسب أو علاقات . وقال سادلر : العقل طبيعة مزدوجة . وقال شلينج : المعرفة لا تقوم لها قائمة إلا بوجود اثنين، هما الذات واللاذات، أو الأنا وغيرها . ويقصد هؤلاء العلماء بالعقل هنا العقل الإنساني، كما يقصدون بالمعرفة المعرفة الإنسانية. لكن إذا نظرنا إلى الله أيضاً كعقل كامل يعقل ذاته ويعرفها، وجدنا أن هذا العمل وحده يدل كذلك على أن وحدانيته ليست وحدانية مجردة أو مطلقة، لأن عقله لذاته أو معرفته بها، يدل على وجود علاقات خاصة بينه وبين ذاته، ولا يمكن أن تكون بينه وبين ذاته مثل هذه العلاقات، ما لم تكن وحدانيته وحدانية جامعة مانعة.
ولعل هذا هو السبب الذي دعا معمر وغيره، إلى نفي العلم عن الله نفياً تاماً، بسبب اعتقادهم أن وحدانيته هي وحدانية مطلقة.
ثالثاً - الحل المناسب للمشكلة :
إذا اعتبرنا وحدانية الله وحدانية مطلقة، لما كان له علم بنا أو علاقة معنا، بل ولما كان له أيضاً علم بذاته أو علاقة معها، كما قال بعض الفلاسفة. لأنه إذا كانت هذه هي وحدانيته، كان عقلاً مجرداً، والعقل المجرد لا يعي ذاته، لأن هذا العمل يستلزم وجود اثنين : عقل يعقل، وذات تعقل. لكن إذا نظرنا إلى وحدانية الله كوحدانية جامعة مانعة، اتضح لنا أنه من البديهي أن يكون عاقلاً لذاته، وواعياً لها أزلاً، وأن يكون لديه أزلاً أيضاً صورة كاملة لجميع الكائنات التي كان في قصده أن يخلقها، وأنه تبعاً لذلك تكون له بها علاقة أزلاً أيضاً. وقد أشار الكتاب المقدس إلى علاقة الله بالناس أزلاً، وتهيئة كل ما هو لازم لهم قبل تأسيسالعالم " إقرأ مثلاً : أفسس 1 :3-6 " . ولذلك لا يقتضي الأمر في علمه بها وعلاقته معها في الزمان أن يتحيّز بحيّز، أو يتخذ وسيلة من الوسائل، أو يتغير فيصبح فاعلاً ومنفعلاً، أو يمر في أي دور من أدوار التطور، كما يقول هؤلاء الفلاسفة.
أما تنزيه الله عن العلاقة بالكائنات بدعوى أنها أقل منه مكانة، فليس في الواقع تنزيهاً له، بل هو تجريد له من الكمال. لأنه من دواعي الكمال أن للخالق علاقة مع خلائقه كبيرها وصغيرها، وأن يعامل كلاً منها بالمعاملة التي يرى أنها تصلح لها. وقد أدرك هذه الحقيقة القديس أغسطينوس حق الإدراك، ولذلك قال : لكل شيء حكمة وغرض. وليس في الوجود شيء يكون في حساب الله تافهاً أو حقيراً .
الفصل الخامس
مشكلة ماهية الله
الماهية هي ما يكون بها الكائن ذلك الكائن، وإن شئت فقل إنها كنهه أو حقيقته أو جوهره أو كيانه.
أولاً - آراء الفلاسفة فيها
مرَّ بنا في الباب الأول أنه نظراً لأن لله وجوداً حقيقياً، فهو ذات، أو بتعبير آخر، هو ذو ماهية خاصة به. وقد شهد بهذه الحقيقة أشهر رجال الدين المسلمين المشهورين أيضاً، فمثلاً قال الإمام الغزالي : الله ذات وله صفات قديمة مع ذاته... وله ماهية موجودة، ووجودها مضاف إليها. لأن وجوداً بلا ماهية ولا حقيقة غير معقول " تهافت الفلاسفة ص 166 ، 197 ، 199 " .
لكن الفلاسفة الذين اعتبروا وحدانيته وحدانية مطلقة، وجدوا أن الماهية لا تتناسب معه، ولذلك نفوها عنه، كما يتضح مما يلي :
1 - فلاسفة اليونان : قال أرسطو : الله صورة الصور وفكرة الفكر أي أنه ليس ذاتاً. وقال أفلوطين : الواحد ليس بماهية بل هو شيء أسمى من الماهية، وليس هو الوجود لأن الوجود له تعين، بل هو فوق الوجود. وهو ليس ذاتاً أو صفة لأنه سابق لكل الصفات. وهو ليس بكائن لأن الكائن كلّ، والكلية تتناقض مع الوحدانية المطلقة. ولذلك لا يمكن أن نعرف عنه شيئاً . وقال ألبينوس : الله ليس خيِّراً وليس شريراً، ولا يتصف بصفة وليس بدون صفات . فالله بناءً على رأي أفلوطين وألبينوس كائن مبهم ليست له ماهية خاصة.
2 - فلاسفة اليهود : قال فيلون : الله بعيد كل البعد عن إدراكنا، ولذلك لا نستطيع أن نعلم عنه شيئاً أكثر من اسمه. وليس هناك لفظ يستطيع أن يساير أبديته . وقال ابن ميمون : الله عز وجل واجب الوجود، ولسنا ندرك إلا آنيته لا ماهيته. فسبحان من إذا لاحظت العقول ذاته عاد إدراكها تقصيراً، وإذا لاحظت صدور أفعاله عن إرادته عاد علمها جهلاً، وإذا رامت الألسن تعظيمه بأوصاف عادت كل بلاغة تقصيراً . وقال سبينوزا : اللامتناهي ليس شخصاً مثل إله الديانات، ولذلك ليس له عقل أو إرادة، لأنهما يفترضان الشخصية . وبذلك جعل الله، عين العالم، بسبب اعتقاده أن وحدانية الله مجردة، لأن هذه الوحدانية لا تتميز بمميزات يكون بها صاحبها ذاتاً.
3 - فلاسفة المسيحيين : قال نقولا دي كوسا : يجب أن ننفي عن الله كل تعيّن، فلا يبقى لنا شيء نسميه " لأن كل اسم ناشئ عن تفريق وتمييز " ، فاللاهوت إذاً سالب وليس بموجب . وقال توماس هوبس : لفظ اللامتناهي لا يدل على موجود حقيقي . وقال برادلي :الله مطلق منزه عن كل معاني الشخصية، ولا يُنسَب إليه شيء من الخير . وقال هويتهد : ليس الله ذاتاً، ومع ذلك هو أصل كل ما له حقيقة في الوجود . وبذلك نفوا عن الله الوجود الذاتي، بسبب اعتقادهم أن وحدانيته هي وحدانية مجردة أو مطلقة.
4 - فلاسفة المسلمين : قال ابن سينا : الله مجرد عن الماهية، لأن الواجب هو في الواقع أنٌّ ووجود فقط . وقال الفارابي : الذات الأحدية " أي ذات الله " لا سبيل إلى إدراكها، وغاية السبيل إليها الاستبصار بأنه لا سبيل إليه تعالى . وقال محيي بن العربي : الله من حيث هو ذات بسيطة منزهة لا يمكن التعبير عن حقيقته. وكل ما يمكن وصفه به، هو سلوب محضة. كما أنه ليس من هذا الوجه إلهاً على الحقيقة . وقال علماء المعتزلة : الله ليس بجوهر أو عرض، ولا بذي اجتماع أو افتراق، ولا بذي حركة أو سكون، ولا تجوز عليه المماسة أو العزلة، لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار أي أنه لا تعيّن له أو ماهية. أما السلف فكانوا يقولون : لا تجوز معرفة حقيقة الذات الإلهية عقلاً أو شرعاً . ولذلك كانوا ينصحون الناس بالقول : تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا، لأنه مهما خطر ببالكم عنه، فهو بخلافه .
ثانياً - مكانة آرائهم من الصواب :
يتضح من الفصول السابقة أن الفلاسفة الذين اعتقدوا أن وحدانية الله مجردة أو مطلقة، قد جعلوه هو والعالم شيئاً واحداً. أما الذين عّز عليهم أن يعتبروا الله والعالم شيئاً واحداً، فقد اكتفوا بجعله بلا ماهية أو كيان. وما كان لنا أن ننتقد الفريق الأخير من الفلاسفة لو أنهم كانوا ينكرون أن الله ذات مثل الفريق الأول، لأن ما ليس بذات لا ماهية له. أما وقد اعترفوا بأن الله ذات ونفوا عنه الماهية فقد حادوا عن أحكام العقل السليم، لأنه لابد لكل ذات من ماهية وإلا لما كانت ذاتاً. ونظراً لتشابه آرائهم نردّ عليها بالإجمال فيما يلي :
1 - نتفق مع أفلوطين على أن الله لا يُقاس بالنسبة إلى الجواهر الموجودة في العالم، لكن بقوله إن الله فوق الوجود قد جعله واحداً من اثنين : إما موجوداً أو غير موجود. فإن كان موجوداً تكون له ماهية، وإن كان غير موجود، يكون وهمياً، وتبعاً لذلك لا تكون له ماهية. وبما أن الله ليس وهمياً، إذاً فمن المؤكد أن تكون له ماهية.
ويتفق معنا الأستاذ سانتيلا على ذلك، فقد قال للأفلوطينيين : إذا كان المبدأ الأول فوق الوجود، فمن أين لكم وجوده، وكيف أدركتم تأثيره في العالم؟ وإذا كان فوق العقل، فكيف يتصور صدور العقل منه؟ وكيف يكون له تأثير في الموجودات وهو الواحد البسيط " أو المجرد " ؟ إن قلتم إنه بنوع فيض، فهو قول مجازي لا برهاني، إذ لا يفيض الشيء إلا بما فيه، ولا يظهر منه إلا ما كان فيه من قبل .
2 - نشترك مع فيلون وابن ميمون في أفكارهما من جهة عظمة الله، ونعجب معهما بسموه، ونشعر معهما بعجزنا عن وصفه، ونعترف معهما بعدم قدرتنا على إدراك ماهيته. لكن هذا لا يمنع من أن تكون له ماهية لأنه موجود، وكل موجود له ماهية.
3 - نفي التعيّن عن الله وتجريده من كل معاني الشخصية، وعدم إسناد شيء حتى من الخير إليه، مع الاعتراف بأنه أصل كل ما له حقيقة في الوجود " كما يقول بعض فلاسفة المسيحيين السابق ذكرهم " لا يقرُّه عقل. لأنه لا يمكن أن يكون الله أصل كل موجود دون أن يكون هو موجوداً. ولا يمكن أن يكون هو موجوداً دون أن يكون ذا تعين. ولا يمكن أن يكون ذا تعين دون أن تكون له ماهية، سواءً أدركنا هذه الماهية أم لم ندركها.
4 - أما فلاسفة المسلمين، فقد تطرفوا أيضاً في تنزيه الله، إذ نفوا عنه الصفات والماهية، وجعلوه أقرب إلى العدم منه إلى الوجود، وقد شهد بذلك كثير من علماء الدين، فقال الإمام الغزالي : إن هذا التنزيه يشبه العدم وقال أهل السنّة : هذا التنزيه يعطل الألوهية من معناها .
ثالثاً - أسباب خطأ الفلاسفة والحل المناسب للمشكلة
لا شك أن الفلاسفة السابق ذكرهم أخطأوا في نفي الماهية عن الله، لأن الله كائن، وكل كائن له ماهية. ولكن مع ذلك، لا يجوز أن نبخسهم حقهم من التقدير كفلاسفة يبحثون في نطاق خاص، لأنهم بذلوا كل ما في وسعهم لتنزيه الله عن كل شيء في الوجود، رغبة منهم في تعظيمه والمحافظة على معنى الوحدانية التي أسندوها إليه. لأن الوحدانية المطلقة لا تتميز بمميزات تنشأ بسببها بينها وبين ذاتها نِسَب أو علاقات، ولذلك تكون بلا ماهية على الإطلاق.
لكن هل من الجائز أن يكون الله بالصورة التي صوّروه بها؟ هل من الجائز أن يكون حتى بلا ماهية أو كيان أو صفة من الصفات؟ طبعاً لا، ولماذا؟
الجواب : لأن إلهاً مثل هذا يكون هو والعدم سواء. ومع ذلك لنسأل أنفسنا : هل من الجائز أن يكون الله بصورة غير تلك التي صوّره بها الفلاسفة، إذ كانت وحدانيته هي وحدانية مجردة أو مطلقة؟
الجواب : طبعاً لا. وإذا كان الأمر كذلك، ألا تكون وحدانيته وحدانية جامعة مانعة؟ الجواب طبعاً نعم، لأن هذه الوحدانية وحدها، هي التي تكون له بها ماهية، وتكون له بها صفات وعلاقات، الأمر الذي يتناسب مع كونه ذاتاً كل التناسب.
أما كُنْه ماهية الله، فلا قدرة لنا على فحصه أو إدراك شيء عنه، بل ولا يصح لنا أن نتطاول لفحصه أو إدراكه، إذ من الحكمة لَا يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ، بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ " رومية 12 :3 " 4. فقدرتنا محدودة والله منزه عن الحدود، وأنَّى للمحدود أن يدرك كل شيء عن المنزّه عن الحدود!؟ وإذا كان العلم، كما يقول وليم جيمز، لا يدري ماهية الكهرباء، أو ماهية الأثير - وهذه كلها أشياء محدودة واقعة تحت إدراكنا، فمن الحكمة إذاً ألا يقودنا عدم إدراكنا لماهية الله إلى إنكارها. لأن من المسلَّم به أن لكل موجود ماهية، وأنه ليس بلا ماهية إلا غير الموجود. وبما أن الله موجود إذاً فله ماهية، إنما قصورنا الذاتي هو الذي يحول بيننا وبين إدراكها. لكن لو أننا سَمْونا إلى الله، لأدركنا الكثير جداً عنه.
ويكفينا ما دمنا في هذا العالم أن نعرف أنه نظراً لأن وحدانية الله هي وحدانية جامعة مانعة، فإنه ذات، ويتصف بكل صفات الكمال، وإنه ذو علاقة معنا ومع جميع الكائنات، لأن هذه المعرفة وحدها كفيلة بأن تهيئنا للاتصال به والتوافق معه. وهذا هو كل ما تصبو إليه نفوسنا، وهو أيضاً كل ما يطلبه تعالى منا.