الفصل الخامس

محمد صورة من الإنسان القديم

 

 

إذا تركنا جانباً قضية "التأثير" وهي مسألة معقّدة لا يتمّ عليها اتفاق (كما قال "هارت" في أول كتابه المذكور) نعود في جولة أخيرة إلى موضوع العظمة الحقيقية الخالدة. إن أعظم عظمة هي تلك التي تخترق الأجيال والقرون وتبقى صامدة أمام الزمن وتآكل السنين. والواقع أن العظمة المحمدية - في بعض نواحيها - انقضت ولم يبقَ لها في أيامنا من أثر:

1 - العبقرية العسكرية: انتهى عصر السيف والرمح والقوس والترس والخندق والسلاح الأبيض. أتت الدبابات فالطيارات فالصواريخ، ويعلم الله ما سيأتي بعد. وإذا كان محمد قائداً عسكرياً عبقرياً، فقد انتهت تلك العبقرية. أما يسوع فما في عبقريته من سلاح، لذا لا تنقص عبقريته عبر الأجيال.

2 - العبقرية السياسية: وصلت الحضارة الإنسانية في إيجابياتها إلى فصل السياسة عن الدين، لأن السياسة مصالح والحرب خدعة والمصالح "مكيافيلية"، يبرّر الهدف فيها الوسيلة. وكلما ترفَّع رجل الدين عن مطبات السياسة وغياهبها ومراوغاتها ومناوراتها، حفظ نفسه من أدناس هذا العالم (يعقوب 1: 27). وبعد تحليلٍ بسيط نستنتج أن السياسة والديانة على طرفي نقيض: فالسياسة كذب والدين صدق. السياسة تقلّب يتحوّل فيه العدو إلى صديق والصديق إلى عدو، أما الديانة فثبات. السياسة حقد وضغينة مبيَّتة يقول فيها الدبلوماسي خلاف ما يُضمر، والدين إخلاص وصدق. السياسة ركض وراء المال للسيطرة على الناس واستعبادهم وقد "ولدتهم أمهاتهم أحراراً" والديانة إنفاق في سبيل الله (الذي لا يمكن أن يكون سبيل قساوة وحرب وحيلة) وتصدُّق على الفقراء وزكاة.

أما الحروب في سبيل الدين فهي أقسى الحروب وأقربها إلى الكفر، لأنها تقتل الإنسان "باسم الله".

السياسة تدنِّس الأيدي، وما تدنست يدا يسوع الناصري. وإذا كانت في الماضي عظمةُ سياسةٍ لأفراد، أمثال فرعون والإسكندر ومحمد، فإن الشاعر يقول للأفراد الذين كانوا حكاماً مُطلقين، مثل محمد وستالين وفرعون:

زمانُ الفردِ يا فرعونُ ولَّى
ودالَتْ دولةُ المتجبّربن

في أيامنا انتهت ديكتاتوريات وإمبراطوريات، ولا يستطيع أحدٌ أن يسيطر على السياسة إلا إذا تسلح بالمال والسلاح. وهذه القوى العظمى محدودة العدد وهي التي تحكم كوكبنا. وهكذا دالت دولة العباقرة السياسيين الأفراد، وضاع قسم من عبقرية محمد، هو النبوغ السياسي. أما يسوع فلم يفقد شيئاً من عبقريته لتساميه عن غياهب السياسة ومطباتها.

3 - العبقرية العشائرية: نبوغ المصاهرة والمسايرة: يبدو أن محمداً تفوق على غيره في توحيد صف العرب وكلمتهم ولسانهم، وقد يكون له الفضل في ذلك لا يشاركه فيه أحد. ولكن القضايا العشائرية والقبَلية انتهت أيضاً وزالت مع الأجيال. ولا فائدة تُرجى اليوم من مصاهرة أبي بكر أو عمر بن الخطاب. المقصود من الكلام هو أن الفئات الحاكمة نفسها تخلت - بشكل عادي - عن سياسة النسب والمصاهرة، واعتمدت على السلاح والاقتصاد والحنكة والمحافظة على شعبيتها لدى الجماهير. لذا يفقد محمد أيضاً هذا الوجه من العبقرية، في حين يحتفظ المسيح بكامل نبوغه، لأنه يملك على القلوب والعقول لا على المتاع والأراضي والأمصار.

4 - العبقرية الاقتصادية: كان محمد بحاجةٍ إلى المال ليدفع مهور نسائه ويُعتق بعضهن (مثل صفية بنت حُيي التي وقعت في الأسر). كما كان يحتاج إلى المال في حروبه وفتوحاته أو مغازيه. أما المسيح فلم يطلب مالاً، ولا اضطر إلى إنفاقٍ على حرب أو على امرأة.

وضع المرأة: قد يكون ما قدَّمه محمد للمرأة أفضل من وضعها عند العرب قبل الإسلام، ولكنه لا يعلو على وضع المرأة في المسيحية. وبغض النظر عن المقابلة مع المسيحية، يلحظ الناقد الموضوعي أن أوامر قرآنية ولت وانتهت مع تقدم الأيام، مثل التوصية بضرب بعض النساء وهجرهن في المضاجع (النساء 34). والقول "إن الرجال قوّامون على النساء"، بشكل مُطلق غير صحيح. فإذا كان السبب في ذلك أن الرجل يُنفق على المرأة فالكثير من النساء تُنفق على الرجال. وقد أنفقت خديجة على محمد! وقد أصبح عمل المرأة ضرورة مُلحَّة بسبب ضيق الأحوال الاقتصادية. وكون الرجل هو صاحب الأمر والنهي في العلاقات الزوجية (إذ يوصي القرآن الرجال أن يأتوا نساءهم أنّى شاؤوا، لا مثلما شئن هنّ أحياناً - البقرة 2: 223) يجعل الرجل ديكتاتوراً ويترك في يده منفرداً إمكانية تطليق امرأته. ولو أنه في حالة "العصمة" يُمكن للزوجة أن تطلق زوجها.

أما المسيحية فلا تترك لأي من الزوجين صلاحية تطليق الآخر: لأن الذي يطلق الطرف الآخر يلفظ عليه حُكماً مع أن الذي يطلّق، سواء كان الرجل حسب القرآن، أو المرأة - حسب مصادر أخرى - في حالة بقاء "العصمة في يدها" - هو نفسه طرف في القضية. ولا يجوز لإنسان أن يكون قاضياً في قضيته.

5 - إعجاز البيان وسِحر الكلام: يفتخر المسلمون بإعجاز القرآن وفصاحة لغته. ويحسن بالمرء في هذا المقام أن لا يدخل في نقاش حول ذلك الإعجاز. ولكن تكفي نظرة إلى واقع الحياة العصرية كي يُدرك الإنسان أن سِحر البيان وإعجاز الألفاظ هما دليل فصاحة وأدب، لا نبوّة. وإذا قبل المرء على أي حال ذلك الإعجاز فإنه يراه يزول عند ترجمة القرآن إلى غير العربية.

أما الإنجيل فإنه لا يفقد شيئاً من قيمته الجوهرية عند الترجمة. وإذا كانت أخطاء في هذه "الترجمة" أو تلك، فإن إصلاحها ممكن دائماً. وما الأكثر منطقية: أن نُجبِر عدداً من شعوب الأرض أن تتعلم لغة غير لغتها وأن تصلي بلسان غير لسانها (والعربية لغة صعبة حتى على العرب أنفسهم)، أم ننقل إليهم بأكبر أمانة ممكنة كلمة الله؟ أليس من الأفضل أن يبتهل الإنسان إلى ربه في اللغة التي يعلمها، لا في لسان هو له أعجمي؟