ثقافة محمد:

بالرغم من كل ما سبق من قرائن على عدم أُمية محمد، فإننا سندع هذا جانباً، لنتناول ثقافة محمد النبي الأُمي ، وسوف نعرض بعض أحاديثَ في هذا الأمر، تبيّن أن محمداً كان عالماً مثقّفاً يعرف أديان عصره، متقناً لفن الاستماع، وهو الأمر الذي ينفي عنه الأمية الثقافية. ثم نُعلق على هذه الأحاديث.

1 - أخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان رسول الله يعلم قيناً (غلاماً) بمكة اسمه بلعام، وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون رسول الله يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (سورة النحل 16: 1 3) (وهذا الحديث سنده ضعيف ولكن له عدة طرق يقوي بعضها بعضاً).

2 - عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان: أحدهما يقال له يسار، والآخر جبر، وكانا صقليين، فكانا يقرآن كتابهما ويعلمان علمهما، وكان النبي يمرّ بهما فيستمع قراءتهما، فقالوا: إنما يتعلم منهما

3 - عن زيد بن ثابت قال: قال النبي: أتُحسن السريانية فإنها تأتيني كتب قلت: لا. قال: فتعلَّمْتُها في تسعة عشر يوماً ، وفي رواية للبخاري أن النبي أمره أن يتعلم كتابة اليهود ليقرأ عليه إذا كتبوا إليه

4 - عن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: أتيت رسول الله (ص) مع أبي وعَليَّ قميص أصفر فقال رسول الله: سناه ، قال عبد الله: وهي بالحبشية حسنة

5 - عن أبي هريرة، أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فمه، فقال النبي بالفارسية: كخ كخ، أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة

6 - عن أبي هريرة، قال: هجَّر النبي فهجَّرت. فصلّيت ثم جلست، فالتفت إليَّ النبيُّ فقال: أشكمت درد؟ (فارسية معناها: تشتكي بطنك) قلت: نعم يا رسول الله، قال: قم فصلِّ، فإن في الصلاة شفاء

وللتعليق نقول:

هذه الأحاديث التي رويناها عن محمد، بغضّ النظر عن معرفته الكتابة من عدمها، تؤكد أنه كان يقف ويستمع إلى غلامين صقليين وهما يقرآن كتابهما، وأنه أمر زيداً أن يتعلم السريانية (وفي رواية لغة اليهود) وأن محمداً تكلم بالحبشية والفارسية. ولعل هذه الأحاديث لا تتفق والقول بأُمّية محمد.

المعروف لنا جميعاً والثابت في كتب السيرة النبوية أن محمداً كان تاجراً ناجحاً، وكانت تجارته رائجة في اليمن والشام، مما دفع بخديجة لأن تتزوجه. ومن المعروف منطقياً لنا أنه إذا أراد تاجر أن ينجح فلا بد وأن يعرف عادات وتقاليد وبعض ثقافة من يتعامل معهم، فكان احتكاك محمد بأهل اليمن والشام دافعاً له لأن يتعلّم الكثير عنهم. وكذلك فإنه من غير المعقول أن يقف محمد ليستمع لغلامين أعجميين دون أن يفهم ما يقولان، خصوصاً وأن هذا الوقوف إليهما تكرر، مما دفع بقريش أن يقولوا إن محمداً يتعلم منهما. هذا بالإضافة إلى الجُمَل أو الكلمات التي كان يقولها محمد أحياناً بالحبشية والفارسية. والقرآن يشتمل على كلماتٍ كثيرة غير عربية. وقد كان محمد (على عكس ما يصوّرون لنا) مهتماً بالثقافة الشخصية والأدب، وكان يحضر سوق عكاظ أحياناً وذلك فيما يرويه ابن كثير عن عبادة بن الصامت. قال: لما قدِم وفد إياد على النبي قال: يا معشر وفد إياد، ما فعل قس بن ساعدة؟ قالوا: هلك يا رسول الله. قال: لقد شهدتُه يوماً بسوق عكاظ على جمل أحمر يتكلم بكلام مُعْجِب مُونِق لا أجدني أحفظه (السيرة النبوية لابن هشام - باب ذكر قس بن ساعدة).

وكل هذا لا يقدح في أُمية محمد، ففي رأينا أن محمداً كان واسع الاطلاع، غزير الثقافة بغضّ النظر عن أميته. ولم يكن من الصعب على شخص مثله أن يصبح ملمّاً بأخبار أهل الديانات الأخرى الذين كان يحتك بهم كثيراً. ونتيجةً لهذا الاحتكاك تعلّق قلبه وروحه بالله، فحاول البحث عنه، ولأن كل من كانوا حوله مِن يهود ومسيحيين كانوا إما هراطقة أو زائغين عن الحق فقد حاول أن يكتشف طريقاً آخر غير طريقهم، فحاد عن الصواب.

ولعل الأحاديث السابقة توضح أن محمداً كان باحثاً مخلصاً عن الله، ولكن المثير للعجب هو موقف المسلمين من هذا الرأي، فإنهم يصرّون على أن محمداً لم يكن يكتب ولا يقرأ، وليس لديه أي علم سابق عن أية ديانة حتى هبط عليه الوحى فجأة بغار حراء، ومن ثم تعلم كل شيء فوراً. وهذا الرأي لا يستقيم عقلياً أو تاريخياً، وإلا فليفسّروا لنا أحاديثهم حول علاقة محمد بأهل الكتاب قبل هبوط الوحي عليه في غار حراء فجأة.

الصفحة الرئيسية