الجزء الثالث:
المسيحية في الحديث
بما أن الخلاص والمخلّص يشكلان جوهر الإنجيل، فسنورد بعض الأحاديث عن شخصية المسيح. وفي مجموعات الحديث عدد من الروايات عن المسيحية، أغلبها لا نصيب لها من الصحة، ولو أنها وردت في مصنفات الحديث الموثوق بها عند أهل السنة، مما يعني أن لها أهمية كبيرة لدى أغلبية المسلمين، بغضّ النظر عن نقاش العلماء حول تأويلها وتفسيرها. ثم سنورد صورة المسيح في الإسلام الشعبي، رغم أن القصص التي سنذكرها تحت هذا العنوان كلها مختلقَة. لكن لا ينبغي أن ننسى أن جماهير الشعب تتأثر بها لكثرة تداولها وانتشارها، حتى أصبحت تُروى وكأنها حقيقة!
1 -المسيح في الأحاديث الموثوق بها
تصادفنا في الأحاديث الصحيحة الموثوق بها صورة مشوَّهة للمسيح والمسيحية. وتهمّنا بعض تلك الروايات لأننا نعرف منها الحوارات الدينية التي دارت بين محمد والمسيحيين في شبه الجزيرة العربية، مما يفسر لنا كيف كوَّن محمد تصوراته عن المسيحية وعن المصادر التي أخذ عنها. ولم يكن المسيحيون الذين احتك بهم المسلمون ممن يمثلون العقيدة المسيحية بشكل مثالي، كما يظهر في كلام علي بن أبي طالب مع وفد بني تغلب: إن تغلب ليسوا نصارى، وما أخذوا من النصرانية سوى شرب الخمر.
والقصة التالية التي وردت في السيرة النبوية لابن هشام خير مثال على طبيعة الجدل الكلامي (اللاهوتي أو الفقهي) بين الإسلام والمسيحية في وقتٍ كان الإسلام فيه في طور النشأة والصوغ:
قدم على رسول الله وفد (نصارى) نجران ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم. في الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم (عمادهم) وصاحب رحلهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مِدْراسهم. ولما قدموا على رسول الله في المدينة دخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات وجبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي: ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم.. فكلّم رسول الله أبا حارثة بن علقمة والعاقب عبد المسيح والأيهم السيد وهم من النصرانية على دين الملك (يعني من مذهب الملكانية) مع اختلاف من أمرهم. يقولون هو الله، ويقولون هو ولد الله، ويقولون هو ثالث ثلاثة، وكذلك قول النصرانية. فهم يحتجون في قولهم : هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخفيه فيكون طائراً وذلك له بأمر الله تبارك وتعالى.. ويحتجون في قولهم إنه ولد الله بأنهم يقولون: لم يكن له أب يُعلم وقد تكلّم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله. ويحتجون في قولهم إنه ثالث ثلاثة بقوله: فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون: لو كان واحداً لما قال إلا فعلتُ وقضيت وأمرت وخلقت، ولكنه هو وعيسى ومريم.. فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله: أسلِما! قالا: قد أسلمنا. قال: إنكما لم تسلما، فأسلِما. قالا: بلى وقد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما. يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير. قالا: فمن أبوه يا محمد؟ صمت عنهما رسول الله فلم يجبهما. فأنزل الله تعالى في اختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران,
هذه القصة وأمثالها تعلمنا (كما هو الحال أيضاً في القرآن نفسه) إن مريم كانت إحدى الأقانيم الثلاثة حسب عقيدة التثليث الموجودة آنذاك في شبه الجزيرة العربية.
نرى أيضاً في الحديث التالي كيف يميّز محمد المسيح وأمه عن سائر الناس مما يدل على تصوره عن التثليث: ما من بني آدم مولود إلا يمسّه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً مِن مسّ الشيطان، غير مريم وابنها, فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم كما ورد في الأحاديث الصحيحة، وكما عرض لمحمد غير مرة يجب علينا التسليم بأن عيسى يختلف عن سائر البشر تمام الاختلاف. إن المسيح لا يتميّز فقط بعصمته عن مسّ الشيطان أثناء ولادته، بل هو الوحيد بين بني البشر الذي لم يخطئ أبداً. والحديث الذي نذكره أدناه خير دليل على ذلك:
عن أبي هريرة قال: أُتي رسول الله بلحم، فرُفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون ممّ ذلك؟ يجمع الله الناس الأوَّلين والآخِرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم. فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك. اشفع لنا إلى ربك. أَلا ترى إلى ما نحن فيه؟ أَلا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته. نفسي نفسي. اذهبوا إلى غيري. اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح، إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سمّاك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك: أَلا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عزَّ وجل قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك. أَلا ترى ما إلى نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات - نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضَّلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك. أَلا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلّمتَ الناس في المهد صبياً، اشفع لنا. أَلا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله قط، ولن يغضب بعده مثله - ولم يذكر ذنباً - نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد. فيأتون محمداً فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحُسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تُعطَه واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب. فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب. ثم قال: والذي نفسي بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير، أو كما بين مكة وبُصرى,
والأمر الذي يجعل هذا الحديث ذا أهمية قصوى يكمن في جواب عيسى على سؤال الناس للشفاعة. فهو الوحيد خلافاً لآدم وإبراهيم وموسى ومحمد الرسول الذي لم ينسب إلى نفسه خطيةً. كما نقدر أن نقول إن الذي روى هذه القصة أو اختلقها لم يجرؤ على ذلك: من هنا يتبيَّن لنا التناقض في كون محمد - حسب الحديث - شفيع المؤمنين لدى الله الذي غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. ولكن يبدو أن علماء الإسلام لاحظوا خطورة هذا الحديث بالنسبة لمكانة محمد في ترتيب الأنبياء فأتوا برواية أخرى لا يذكر فيها الأنبياء السابقون ما تقدّم من خطاياهم. ويقول محمد وهو أمام الله: أي رب، خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر, لا يحتاج المرء أن يكون ملماً بقواعد علم الحديث لكي يرى يد التحريف في هذه الرواية، حيث يُرى بوضوح كيف حاول المسلمون الغيارى في العصور الأولى إعلاء مكانة محمد عن مكانة المسيح. إن المسلمين لم يختبروا فقط من المسيحيين ما امتاز به المسيح من صفات تجعله كائناً فوق البشر، بل قرأوا في قرآنهم والآثار المروية عن نبيّهم محمد ما يصدّق على ذلك. وقد أدّى هذا إلى إنتاج أحاديث تُضفي على محمد فضائل بدوية : أعطيت مفاتيح الكلم ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وبينا أنا نائم البارحة إذ أقيمت مفاتيح خزائن الأرض حتى وُضعت في يدي,
وتزوِّدنا مصادر الحديث بمعلومات عن منظر المسيح وملامح وجهه حيث يقول محمد: أراني في المنام عند الكعبة فرأيت رجلاً آدم كأحسن ما ترى من الرجال، له لمّة قد رجّلت ولمته تقطر ماء واضعاً يده على عواتق رجلين يطوف بالبيت، رجل الشعر. فقلت: من هذا؟ فقالوا: المسيح ابن مريم. ثم رأيت رجلاً جعداً تطفأ أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية كأشبه ما رأيت من الناس بابن قطن واضعاً يديه على عواتق رجلين يطوف بالبيت فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا المسيح الدجال",يقول ابن عباس إن موسى أيضاً كان رجلاً آدم جعداً, أما ما يتعلق ب اللمة فإنها كانت على ما يبدو من علامات الجمال حسب الموضة السائدة حينذاك في الحجاز، إذ يخبرنا الصحابي البراد: ما رأيت من ذي لمّة أحسن في حلة حمراء من رسول الله وزاد محمد بن سليمان: له شعر يضرب منكبيه, وتوجد روايات أخرى عند البخاري ومسلم عن لمة محمد,
ومن يتصفح مصادر الحديث الموثوق بها عند المسلمين بحثاً عن روايات تتعلق بالمسيح، يلاحظ بسرعة أن المسيح يظهر في تلك الروايات إما كمولود لم ينخسه الشيطان، أو كقاضٍ يأتي في نهاية الدهر. هناك أحاديث عديدة في شتى المصادر تصف بدقة على لسان محمد ما سيفعله المسيح عند مجيئه ثانيةً. أما القرآن فهو المصدر الوحيد بين المصادر الموثوق بها الذي يُطلعنا على تفاصيل ولادة المسيح ومعجزاته وموته على الصليب. يقول المستشرق الإنكليزي الكبير MacDonald? إن أقدم الأحاديث لا تقدم إلا قليلاً من المعلومات عن المسيح، أو تذكره فقط في سياق المسيح الدجال في أبواب الفتن أو شروط الساعة. إن محمداً ركز جل اهتمامه على فكرة الدجال، كما يدل على ذلك رواية ابن صياد عن الدجال. غير أن الرواة المسلمين بدأوا في وقت مبكر لأسباب سياسية وفقهية (كلامية) في إعداد وتطوير التعاليم الخاصة بالأمور الأخيرية، وذلك من خلال أحاديث موضوعة، كما نرى ذلك في كتاب مشكاة المصابيح18,حيث توجد عدة أبواب من علامات الساعة ونزول عيسى، أو في قصص الأنبياء للثعالبي19,الذي يقدم أكثر الأساطير عن المسيح كمالاً وتفصيلاً، بينما يسرد الطبري وابن واضح معلومات مختصرة من الأناجيل. غير أن التشابك الذي طرأ على الدور الذي يقوم به المسيح حسب هذه الروايات وعلى الذي نسب إلى المهدي بصورة شبه مشابهة اضطر أحدهم إلى القول بأن لا يوجد مهدي إلا عيسى ابن مريم. ويشير ابن خلدون (الذي درس هذه القضية بصورة فلسفية في مؤلفه المقدمة ) إلى ضعف الآثار المختلفة ويتابع تطور فكرة المجدد للإسلام قبل نهاية الدهر ويشير كيف تأثرت تلك الفكرة بالأفكار الشيعية والصوفية,