البيئة العقائدية لمحمد:
لم تكن الجزيرة العربية خلواً من الديانات، بل كان بها كثير من العقائد الدينية. وكانت إرهاصات النبوة تملأ الجزيرة العربية، فاليهود ينتظرون مجيء المشيح المنتظر ، والمسيحيون ينتظرون المجيء الثاني للمسيح ، والحنفاء ينتظرون نبياً لهم. وفي هذا يقول أمية بن أبي الصلت أمية بن أبي الصلب :
ألا نبي لنا منا فيخبرنا
ما بعد غايتنا من رأس محيانا,
فنشأ محمد في وسط هذه البيئة، يلتقي بقَس بن ساعدة في سوق عكاظ ويسمعه. ويجلس مع زيد بن نفيل عند الكعبة فيما يرويه البخاري: فقُدِّم لهم طعاماً فقال زيد: لستُ آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذُكر اسم الله عليه.
ثم يتزوج محمد من خديجة ويظل خمسة عشر عاماً قبل نبوّته قريباً من ورقة بن ، ابن عم خديجة، وهو على ما تذكر كتب السيرة كان يترجم الإنجيل للعربية، ويدعو للتوحيد الكتابي، ومن المنطقي أن يدعو محمداً إلى ذلك (السيرة النبوية لابن هشام).
ونقرأ في صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله فقال: هل معك من أُمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم، قال: هيه. فأنشدته بيتاً، فقال: هيه. ثم أنشدته بيتاً. فقال: هيه. حتى أنشدته مائة بيت, ثم نجد حديثاً آخر عن أبي هريرة: قال رسول الله: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل, فهذا محمد يطلب أن يسمع شعر الحنفاء، ويحفظ منه، ويلتقي بهم في أسواقهم الثقافية، ويرافق أحدهم خمسة عشر عاماً، ويلتقي بآخر حول الكعبة. بل ذهب الدكتور القمني في كتابه الحزب الهاشمي إلى أن عبد المطلب جد محمد كان أحد زعماء الحنفاء، وذلك بالإضافة إلى جده الأكبركعببن لؤي الذي ابتدع يوم الجمعة، فكان يدعو قريشاً ويعظهم فيه ويدعوهم للتوحيد، ويحملهم على التأمل في خلق السماء والأرض، واختلاف الليل والنهار، وكان يتصدق، ويحفظ العهد، ويفشي السلام. فكل هذا كان متوارثاً في بيئة محمد ولم يكن جديداً عليها.
وكما رأينا أن هذه الأخلاط من الديانات التي نشأ محمد في وسطها واحتك بها لا بد أن يكون لها تأثيرها على موروثه العقائدي، ومِن ثمَّ على دعوته التي لم تختلف كثيراً عن أغلب الدعوات قبلها، إلا في تبنّيها لشريعة الجهاد (كما ترى ذلك في تعليقنا على أحاديث الجهاد، في الجزء الثاني من هذا الكتاب). لقد وُلد محمد في مجتمع يعرف الله، وإن كانت معرفته غير سليمة، ثم عاش في بيئة تنتمي إلى الحنفاء وتوحيدهم. ونعتقد أن أخلاط ديانات الجزيرة هي التي أوجدت محمداً ، وأنه هو الذي نشرها وتبنّاها مضيفاً لها شرع الجهاد مسمياً إياها الإسلام. والواضح أن لهذا الموروث العقائدي أثره حتى على الحديث الصحيح، كما سنرى في الأحاديث التي جاءت بشأن المسيح، أو حتى في أحاديث الحدود.