الصليب في الإنجيل والقرآن
قال رسول الجهاد العظيم بولس : لِأَنَّ اليَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً ، وَاليُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً ، وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالمَسِيحِ مَصْلُوباً : لِلْيَهُودِ عَثْرَةً ، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا للْمَدْعُوِّينَ : يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ ، فَبِالمَسِيحِ قُوَّةِ اللّهِ وَحِكْمَةِ اللّهِ 1 كورنثوس 1 :22 24 ,
وقال أيضاً : وَأَنَا لمَّا أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ ، أَتَيْتُ لَيْسَ بِسُمُوِّ الكَلَامِ أَوِ الحِكْمَةِ مُنَادِيا لكُمْ بِشَهَادَةِ اللّهِ ، لِأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلَّا يَسُوعَ المَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً 1 كورنثوس 2 :1 2 ,
وإذا ما تأملنا في شهادات رسل المسيح ، الذين رافقوه وعرفوه كوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً ، ومن ملئه أخذوا نعمة فوق نعمة ، نرى أن الإنجيل الذي أخذوا من ملئه وبشروا به منذ فجر المسيحية ، وقبله الناس وبه خلصوا ، إنما كان الخبر السار الذي أوجزه الرسول بولس بهذه العبارات الصريحة إذ قال : وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِالإنجيل الذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ ، وَقَبِلْتُمُوهُ ، وَتَقُومُونَ فِيهِ ، وَبِهِ أَيْضاً تَخْلُصُونَ,,, فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضاً : أَنَّ المَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الكُتُبِ ، وَأَنَّهُ دُفِنَ ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الكُتُبِ 1 كورنثوس 15 :1 4 ,
وقال الرسول يوحنا : فَإِنَّ الحَيَاةَ أُظْهِرَتْ ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ التِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا. الذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا 1 يوحنا 1 :2 3 , هذا كقوله في الإنجيل وَالكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا يوحنا 1 :14 ,
وقال الرسول بطرس لليهود : أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِسْرَائِيلِيُّونَ ا سْمَعُوا هذِهِ الأَقْوَالَ : يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللّهِ بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا اللّهُ بِيَدِهِ فِي وَسَطِكُمْ ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ. هذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ اللّهِ المَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ أعمال الرسل 2 :22 23 ,
شهادات الأنبياء
جاء في الأسفار المقدسة نبوات كثيرة عن احداث تقترن بموت المسيح على الصليب وقد تمت كلها بالحرف :
يُباع بثلاثين من الفضة ويشترى بثمنه حقل يدعى حقل الفخاري - زكريا 11 :13
يُسمَّر من يديه ورجليه على خشبة الصليب - مزمور 22 :16 17
يُثخن بالجراح - إشعياء 53 :5
يُجلد بالسياط - مزمور 129 :3
يتقبَّل آلامه بصمت - إشعياء 53 :7
يُضرب ويبصق في وجهه إشعياء 53 :3 ، 4 ، 8
يُستهزأ به - مزمور 22 :6 8
يُسقى خلاً - مزمور 69 :21
يقتسم الجند ثيابه بالقرعة - مزمور 22 :18
يُطعن بحربة - زكريا 12 :10
يموت بين لصين ويُدفن في قبور الأغنياء - إشعياء 53 :9 ,
إعلانات المسيح
في مناسبات عديدة ، صرح يسوع المسيح لتلاميذه بأن رسالته الخلاصية تستلزم موته على الصليب, وقد دُوِّن هذا التصريح في الإنجيل بحسب متى 17 :21 ، مرقس 8 :31 ، لوقا 9 :22 ، ويوحنا 3 :14 15,
قيامة المسيح
في اليوم الثالث لصلبه حدثت آية الآيات ، فالمسيح قام, ويخبرنا متى أنه : عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ، جَاءَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا القَبْرَ قبر يسوع . وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ ، لِأَنَّ مَلَاكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الحَجَرَ عَنِ البَابِ ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالبَرْقِ ، وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ. فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ. فَقَالَ المَلَاكُ لِلْمَرْأَتَيْنِ : لَا تَخَافَا أَنْتُمَا ، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ المَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ ه هُنَا ، لِأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ متى 28 :1 6 ,
شهادة التاريخ
إنّ موت المسيح على الصليب مؤيد بالوثائق التاريخية ، التي كتبها المؤرخون القدماء من وثنيين ويهود منهم :
تاسيتوس الوثني : سنة 55 ميلادية ، فهذا المؤرخ كتب في مؤلفاته فصولاً ضافية عن صلب يسوع وما تحمَّل من آلام,
يوسيفوس اليهودي : فهذا المؤرخ الذي وُلد بعد الصلب بسنوات قليلة ، كتب تاريخ أُمَّته في عشرين مجلداً ، وقد كتب في أحد مؤلفاته بياناً عن صلب المسيح بأمر من بيلاطس البنطي,
لوسيان اليوناني : سنة 100 ميلادية, وهذا العالم المؤرخ ، قد كتب عن المسيح والمسيحيين, وأبرز ما جاء في قوله : أن المسيحيين ما زالوا يعبدون ذلك الرجل العظيم الذي صُلب في فلسطين ، لأنه أدخل إلى العالم ديانة جديدة ,
شهادة شعار الصليب
هذا دليل مادي لا يستطيع أحد أن ينكره, لأن إشارة الصليب منذ أقدم عهود المسيحية ، قد نقشها المسيحيون الأوائل على أضرحة الموتى ، وفي السراديب التي كانوا يجتمعون فيها زمن الاضطهاد,
شهادة التلمود اليهودي
من المعروف أنَّ التلمود كتاب مقدس لدى اليهود, ففي النسخة التي نُشرت عام 1943 ، جاء في الصفحة 42 : لقد صُلب يسوع قبل عيد الفصح بيوم ، لأنه ساحر وقصده أن يخدع إسرائيل ويضلهم ,
شهادة التواتر
في ممارسة المسيحيين فريضة العشاء الرباني ، التي تذكرهم بموت المسيح على الصليب شهادة حية على مرور الزمن أن المسيح مات مصلوباً,
الصليب في الإسلام
حين نتأمل في نصوص القرآن يتضح لنا أنَّ هذا الكتاب إن كان حسب الظاهر ينفي الصلب عن المسيح ، فهو لم ينف موته قبل ارتفاعه إلى السماء, والواضح أن القرآن يحتوي على ثلاثة نصوص تؤكد موته بكلمة وفاة أو موت ، ونصين يؤكدان موته قتلاً,
أ وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً سورة مريم 19 :33 ,
ب إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذِينَ كَفَرُوا سورة آل عمران 3 :55 ,
ج وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ا بْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ا تَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ,,, فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ سورة المائدة 5 :116 117 ,
د وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ا بْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ ا سْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ سورة البقرة 2 :87 ,
ه قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالبَيِّنَاتِ وَبِالذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ سورة آل عمران 3 :183 ,
آراء مفسري القرآن
قال الإمام البيضاوي : إن رهطاً من اليهود سبّوا المسيح وأمه فدعا عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير, فاجتمعت اليهود على قتله ، فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه, فقال المسيح لأصحابه : أيكم يرضى أن يُلقى عليه شبهي فيُقتل ويُصلب؟ فقام رجل منهم فقُتل وصُلب,
وقيل إن اليهود لما اعتقلوا عيسى أقاموا عليه حارساً, لكن عيسى رُفع إلى السماء بأعجوبة ، وأَلقى الله شبهه على الحارس, فأُخذ وصُلب ، وهو يصرخ : أنا لست بعيسى,
وقيل : نافق أحد تابعي عيسى يهوذا وجاء مع اليهود فلما دخل معهم ليدلهم عليه ، ألقى الله شبه عيسى عليه ، فأُخذ وقُتل وصُلب تفسير البيضاوي 2 :127 128 ,
وجاء في كتاب جامع البيان للإمام أبو جعفر الطبري عدة روايات منها : قال وهب بن منبه : أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين إلى بيت ، فأحاط اليهود بهم, فلما دخلوا صوَّر الله جميع من في البيت على صورة عيسى, فقال اليهود : لقد سحرتمونا لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعاً, وكان عيسى قد سأل حوارييه من منكم يشتري الجنة؟ فقال رجل منهم أنا ، فقُتل وصُلب,
وروايات أخرى من هذا النوع ، جاءت في تفاسير السنوي وابن كثير ، والجلالان والزمخشري ، لا يتسع المجال لذكرها كلها,
ولكن قبل إقفال البحث أرى لزاماً أن أختم بشهادة الإمام فخر الدين الرازي الذي فنَّدقصة الشبه تفنيداً محكماً, ففي تفسيره لقول القرآن في الآية من سورة آل عمران : يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَإِلَيَّ ، عالج مسألة الشبه بكل موضوعية ، قال :
من مباحث هذه الآية موضع مشكل أنَّ نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفع عيسى ألقى شبهه على غيره, وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ سورة النساء 4 :157 , فالأخبار واردة بذلك إلا أن الروايات اختلفت, فتارة يُروى أنَّ الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه ، حتى قتلوه وصلبوه, وتارة يُروى أنه رغَّب بعض خواص أصحابه في أن يلقي شبهه عليه حتى يقتل مكانه, وبالجملة فكيفما كان في إلقاء شبهه على الغير إشكالات :
الإشكال الأول : إننا لو جوَّزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر ، لزم السفسطة, فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذ أجوّز أن يكون هذا الذي رأيته ثانيا ليس بولدي بل هو إنسان أُلقي شبهه عليه ، وحينئذ يرتفع الإحساس عن المحسوسات, وأيضاً فالصحابة الذين رأوا محمد يأمرهم وينهاهم ، وجب أن لا يعرفوا أنه محمد ، لاحتمال أنه أُلقي شبهه على غيره, وذلك يفضي على سقوط الشرائع, وأيضاً فحذار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أُخبر عن المحسوس, فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى, وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية,
الإشكال الثاني : وهو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال, هكذا قال معظم المفسرين في تفسير قوله : إذ أيدتك بروح القدس , ثم أنَّ طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي العالم من البشر ، فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه؟ وأيضاً أنه عليه السلام لما كان قادراً على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى أسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم ، حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له؟
الإشكال الثالث : إنه تعالى كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء ، فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره, وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؟
الإشكال الرابع : إنه إذا أُلقي شبهه على غيره ثم أنه رُفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه هو عيسى ، مع أنه ما كان عيسى, فهذا إلقاء لهم في الجهل والتلبيس ، وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى,
الإشكال الخامس : إن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام وغلوهم في أمره ، أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً, فلو أنكرنا ذلك كان طعناً في ما ثبت بالتواتر, والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد ونبوة عيسى بل في وجودهما ووجود سائر الأنبياء ، وكل ذلك باطل,
الإشكال السادس : ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً, فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع وقال : إني لست بعيسى ، بل إنما أنا غيره, ولبالغ في تعريف هذا المعنى, ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى, فلمالم يوجد شيء من هذا ، علمنا أن الأمر على غير ما ذكرتم التفسير الكبير 12 :99 ,