الخلاصة

 

إذا تأملنا في هذه الحقائق ، نجد أنفسنا أمام شخص لم يظهر مثله في تاريخ البشرية, إنَّ صورته المرسومة لتأخذ بمجامع القلوب وتلزم السجود له ، فإننا نجد لاهوته مرتبطاً بجميع أطوار حياته ، ومرتبطاً بأقواله وأعماله ومعجزاته وحياته وموته على الصليب وقيامته وصعوده, تلك هي الحقائق التي ألزمت رجال العهد الجديد ، الذين رضعوا لبن التوحيد منذ حداثتهم ، على الإيمان بلاهوته, فإذا قبلنا هذه الحقائق يمكننا العثور على معضلة المسيحية, وإذ لم نقبلها نترك منشأ المسيحية معلقاً في الهواء, ونجد أنفسنا ملزمين بأن نعتقد بأن الكنيسة الأولى قد لفقت هذا التاريخ ، وأن هذه الحوادث أتت من خيال جماعة من الجليليين البسطاء, ولكن أي عقل ، يمكن أن يصدق أن أناساً من العاملين الجهلاء أمكنهم أن يرسموا هذا الشخص الإلهي البديع من مخيلاتهم, وأمكنهم أن يتخيلوا عصمته من الخطية ، وهم الضعفاء المحاطون بالخطية, وأن يتخيلوا لاهوته وهم الذين يجري في عروقهم دم التوحيد ، وأن يتصوروا تعدد الطرق والأساليب وتنوع الظروف والمناسبات التي أعلن بها لاهوته, وأمكنهم أن يتصوروا الضعف مع القوة والمجد المقنع مع الاتضاع,

تلك هي معضلة المسيحية ، وهذا هو حلها كما ورد في العهد الجديد, ونحن نقبل هذا الحل ، لأنه لا يوجد حل آخر يحل محله, لذلك نحن أيضاً نؤمن ولذلك نحن نتكلم,

 

المسيح كلمة الله

إنَّ تلقيب المسيح بكلمة الله يدل على أن محمداً أخذ هذا اللقب من شفاه المسيحيين الذين كانت له عشرة معهم لأنها ألقاب مسيحية محضة,

وقد أجاد الدكتور تسدل بقوله في كتابه ميزان الحق : إنَّ الكلمة تدل على تعبير ما في عمل المتكلم ، وهو في هذه الحالة يكون الله نفسه, وعليه إذا كان المسيح كلمة من الله فما هو إلا تعبير إرادة الله, وحيث أن الله بنفسه يدعوه كلمة فهو تعبير إرادة الله الكامل ، أو بعبارة أخرى استعلان الله وبواسطته تكلم عند إرساله لهم روحه القدوس, فكلمة الله إذا تُبيِّن أنَّ المسيح هو الوحيد الذي يعلن الله للناس ، إذ هو يعرف الله ويعلن إرادته تماماً, والمسيح نفسه أعلن هذه الحقيقة إذ يقول : وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الا بْنَ إِلَّا الآبُ ، وَلَا أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلَّا الا بْنُ وَمَنْ أَرَادَ الا بْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ. تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ المُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ متى 11 :27 ، 28 ,

وفي ختام هذا البحث ألفت انتباهك إلى الآية 91 من سورة الأنبياء 21 القائلة : وَالتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ , فاستعمال كلمة آية بالمفرد على حين أن الكلام على الاثنين يذكرنا بما ورد عن مخلصنا في نبوة إشعياء ، إذ يقول : لِأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ا بْناً ، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً ، مُشِيراً ، إِلَهاً قَدِيراً ، أَباً أَبَدِيّاً ، رَئِيسَ السَّلَامِ إشعياء 9 :6 , وقد اجتهد البيضاوي أن يقلل من أهمية هذا القول بما وسعت حيلته من التأويل ، إذ قال : آية للعالمين ، فإن من تأمل حالهما تحقق كمال قدرة الصانع تعالى ,

 

حياة المسيح وموته ورفعه

تعترضنا ثلاث صعوبات في ذكر ما جاء في القرآن عن حياة يسوع المسيح,

الأولى تجزؤ القرآن ، أي عدم اتصال أخباره وتسلسلها ، فلا تجد فيه ترتيباً تاريخياً ولا تسلسلاً منطقياً ، لأن آياته نزلت حسب قول المسلمين في أوقات متقطعة وأماكن مختلفة ، هذا علاوة على التشويش العام الذي يصادفه القارئ الراغب في أن يتتبع أمراً من بدايته إلى نهايته, فتجد الشرائع ممزوجة بالقصص والأخبار ، والوعد والوعيد,

الصعوبة الثانية ، والأكثر تعقيداً هي أن أقوال القرآن عن الرب يسوع المسيح لا تخلو من التناقض مثل بعض تعاليمه, فبعض الآيات تتكلم عنه كمجرد إنسان ونبي, بينما بعضها الآخر يطلق عليه ألقابا لا يلقب بها إنسان آخر في الوجود, وأكبر مناقضة هي ما جاء عن موته ، فإنه لا يمكن التوفيق بين تلك الآيات إلا تعسفاً,

والصعوبة الثالثة ، هي الترتيب التاريخي للسور فإذا تتبعنا نشوء الفكر وتقدمه عند محمد عن المسيح وجب أن نبدأ بأول ذكر جاء عنه حسب الترتيب التاريخي ثم نسير فيه تدريجياً وكرونولوجياً أي بترتيب زمني حتى نصل إلى آخر سورة ، ولكن للأسف لا يوجد اتفاق بين علماء الإسلام أنفسهم على الترتيب التاريخي للسور القرآنية ، ويقرّون أن ترتيبها الحالي ليس تاريخياً,

ماذا قال بولس؟

أما عن قولك إنَّ الخطية التي قالت بها المسيحية ، فما هي إلا صدى للوثنية التي تلونت بها المسيحية ، كما أعلن بولس ، حتى يتخذ منه كل قوم حالاً, فصار لليهودي كاليهودي وللوثني كوثني,, الخ,

قبل اهتدائه كان بولس يهودياً متعصباً ، وكان اسمه شاول, وقد اشتهر بالغيرة لناموس موسى ، إذ نجده يصف نفسه بالقول : إِنْ ظَنَّ وَاحِدٌ آخَرُ أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى الجَسَدِ فَأَنَا بِالأَوْلَى. مِنْ جِهَةِ الخِتَانِ مَخْتُونٌ فِي اليَوْمِ الثَّامِنِ ، مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ ، مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ ، عِبْرَانِيٌّ مِنَ العِبْرَانِيِّينَ. مِنْ جِهَةِ النَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ. مِنْ جِهَةِ الغَيْرَةِ مُضْطَهِدُ الكَنِيسَةِ. مِنْ جِهَةِالبِرِّ الذِي فِي النَّامُوسِ بِلَالوْمٍ. لكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ المَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ المَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي ، الذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ المَسِيحَ فيلبي 3 :4 8 ,

ويخبرنا مؤلفو تاريخه أن أباه كان فريسياً وقد رُبِّي على الناموس الضيق,

ولما أتم بولس ما يمكن تحصيله في بلده طرسوس ، ذهب في حداثته إلى أورشليم ليدرس الشريعة اليهودية والعلوم الدينية, وقد تثقف دينياً عند رجلي الرباني غمالائيل المشهور في ذلك العصر, وقبل أن يظهر له يسوع المسيح ، بذل طاقته في اضطهاد المسيحيين, والذي أغاظه بالأكثر ما قاله الشهيد استفانونس قبل رجمه : إنَّ يسوع الناصري سينقض هذا الموضع ويغيِّر العوائد التي سلمها موسى لشعبه, ونظرالغيرته أُعطي سلطاناً من رؤساء اليهود لإهلاك المسيحيين في دمشق,

ولكن فيما هو سائر إلى تلك المدينة ، ظهر له الرب يسوع وتكلم إليه ، فآمن به, وقد روى كيفية اهتدائه أمام أغريباس الملك فقال :

12 وَلَمَّا كُنْتُ ذَاهِباً فِي ذ لِكَ إِلَى دِمَشْقَ ، بِسُلْطَانٍ وَوَصِيَّةٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ ، 13 رَأَيْتُ فِي نِصْفِ النَّهَارِ فِي الطَّرِيقِ ، أَيُّهَا المَلِكُ ، نُوراً مِنَ السَّمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ لَمَعَانِ الشَّمْسِ قَدْ أَبْرَقَ حَوْلِي وَحَوْلَ الذَّاهِبِينَ مَعِي. 14 فَلَمَّا سَقَطْنَا جَمِيعُنَا عَلَى الأَرْضِ ، سَمِعْتُ صَوْتاً يُكَلِّمُنِي بِاللُّغَةِ العِبْرَانِيَّةِ : شَاوُلُ شَاوُلُ ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ 15 فَقُلْتُ أَنَا : مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ : أَنَا يَسُوعُ الذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. 16 وَل كِنْ قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لِأَنِّي لِهذَا ظَهَرْتُ لَكَ ، لِأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ ، 17 مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ الشَّعْبِ وَمِنَ الأُمَمِ الذِينَ أَنَا الآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ ، 18 لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ ، وَمِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ إِلَى اللّهِ ، حَتَّى يَنَالُوا بِالإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ الخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ المُقَدَّسِينَ أعمال 26 :12 18 ,

أما عن قول الرسول الكريم : فصرت لليهودي كيهودي,, الخ, فيبدو أنك لم تحسن قراءته ، وتبعا لذلك لم تحسن فهمه, أو لعلك عمدت إلى التعتيم عليه ، وذلك بتجريد الآية من قرائنها,

لقد سبق أن قلنا إن الرسول بولس تربى دينياً عند قدمي الرباني غمالائيل, ففي مدرسة هذا العالِم الشهير تثقف في السُنن اليهودية ورسومها في كل مالا ينافي حكم ضميره ، فأبى أن يغيظ اليهود لغير اضطرار لتتاح له الفرصة ، لكي يؤكد أن يسوع هو المسيح المنتظر, وفوق كل اعتبار كان ينبغي أن يبين أن المسيحية لم تأت لهدم الناموس بل لتكميله, لقد كان عبرانياً بالمولد ، كما رأينا, وبغير هذا لم يكن في وسعه أن يؤثر على اليهود ، أو يسمح له بالدخول إلى مجامعهم للكرازة ب الإنجيل, أما من جهة الأمم فيخبرنا سفر أعمال الرسل أن الكنائس المسيحية الأولى وخصوصاً في اليهودية كانت تمارس عبادتها بحسب ناموس الوصايا التي رتب موسى بعضها ، وزاد عليها المعلمون والربيون في الأجيال المتعاقبة الكثير من الممارسات, وكانت هذه الممارسات وعلى رأسها الختان تشكل حاجزاً منيعاً, وخصوصاً الختان, فقد قال أحد الربيين : لولا هذا الطقس لما وجدت الأرض والسماء , وقال آخر إنه يعادل كل وصايا الناموس, ولكن كنيسة أنطاكية التي عمل فيها بولس وبرنابا سنتين ، فتحت باب الإيمان المسيحي لقبول الأمميين الذين قبلوا رسالة الإنجيل ، لكن الإخوة من أصل يهودي في كنيسة أورشليم لما سمعوا هذه الأنباء ، لم يستريحوا وحدثت مناقشات حامية فعقدت كنيسة أورشليم مؤتمر البحث الموضوع ، فأخبرهم بولس وبرنابا ما صنعه الله معهما خلال رحلاتهما التبشيرية من عجائب في قبول الإنجيل الذي بشرا الأمم به ابتداء من قبرص إلى آسيا الصغرى, وبعد سماع هذه الأخبار السارة عن إقبال ألوف الأمميين على اعتناق الديانة المسيحية ، قام بطرس وذكّر الحاضرين بأن الله بفمه اختار أن يسمع الأمم كلمة الإنجيل ويؤمنوا, وأخيراً قام الرسول يعقوب الذي ترأس المؤتمر ولخص كل المناقشة وخرج منها بأربع نقاط ، وهي أن يمتنع المسيحيون من أصل أممي عن نجاسات الأصنام والزنى والمخنوق والدم, ويخبرنا مؤرخو الكنيسة أن بولس كان يتعامل مع الأمم بوداعة وتواضع ، بعيداً عن غطرسة اليهود, وعامل المؤمنين منهم بمحبة المسيح ، وأشرك بعضهم معه في العمل التبشيري ، وأقام بعضاً آخر قسوساً على الكنائس, وهذا يفسر قوله صرت : لِلَّذِينَ بِلَا نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلَا نَامُوسٍ مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلَا نَامُوسٍ وهو يعني أنه لم يتبع شريعة اليهود الرمزية وهو بين الأمم ، بل كان تحت ناموس المسيح 1 كورنثوس 9 :20 22 ,

 

كلمة أخيرة

 

جاء في الصفحة الثانية من رسالتك : هذه رسالة إلى من أراد الهداية ، ولكنك شحنت الصفحات الأخرى بأقوال أقرب إلى السباب منها إلى الدعوة إلى كلمة سواء وكان في وسعنا أن نرد الصاع صاعين ، لأن الإسلام فيه تعثرات كثيرة جداً ،

ولكننا لم نفعل ، لأن روح المسيح قد طهر أفكارنا وبالتالي أقلامنا ، ولأن المسيح أعطانا هذه الوصية : أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ متى 5 :44 ,

وبالفعل نحن نصلي لأجلك حتى الرب الذي نعبده بالروح والحق يعطيك بصيرة لتعرف الحق ، فيحررك من روح التعصب,

الصفحة الرئيسية