إن لم تمت حبة الحنطة .."

. عندما يقدم المجتمع البشري على تنفيذ عمل هائل تفضي إليه عدالته ، يوجس حاجة إلى التحوط ببعض الأبهة ، وكأن الموت الذي يجرؤ الناس على إعماله ، يفرض عليهم سطوته الراغمة . أُبهة بغيضة سخيفة تُسام بها ضحية تلك الشعائر ! " أُبهة الإعدام " ، على ما ورد اسمها في قانون العدالة العسكرية ، تقضي بأن تمر الكتائب ، موكباً ، أمام المحكوم عليه ! .. وقد جاء في التلمود وصف مفصل للمراسيم المرعية في حفلات الإعدام

. ويعتقد أنها كانت سائدة أيضاً، أيام المسيح، فمن مقتضيات تلك المراسيم أن يذهب بالمحكوم عليه إلي العذاب في وضح النهار لكي يتمكن الجميع من مشاهدته، وكان يتقدمه مناد يعلن للناس بجرمه، أو يحمله مدوناً في لوحة. وكان يرافقه اثنان من طلبة اللاهوت، يحضانه علي الإقرار وكان يحضر الإعدام ممثل عن السنهدريم، للتحقق

. وأما في روما، فقد كان لحفلة الإعدام طابع آخر. فكان يتقدم الموكب قائد مائة يعين "ويعاونه عدد من الجنود يتفاوت ما بين الأربعة، علي الأقل، والمائة إذا كانت ثمة أحداث تخشى: ولا ندري هل استعانوا بعدد ضخم من قوي الأمن، للذهاب "بملك اليهود" إلي الصلب

. وهنا يتبادر إلينا السؤال ، أي الطريقتين - اليهودية أم الرومانية - اتبعت في حفلة إعدام المسيح؟ سؤال يتعذر الإجابة عنه. فالنصوص الإنجيلية قد لزمت، في ذلك، جانب الصمت، و"الجنود" الذين ورد فيها ذكرهم، يحتمل انتسابهم إما إلي الجيش الروماني وإما إلي حرس الهيكل. وكل ما يمكن افتراضه أن بيلاطس قد عهد إلي أحد قواده بالمراقبة، والقيام بمهمة "منفذ الموت"

لقد دون يوسيفوس، في تاريخه، مشاهد إعدام مختلفة قام بها الرومان، وكلها علي أوسع ما يمكن من الأبهة. وإنما من الخطأ أن نتصور موكباً منظماً مهيباً لائقاً بقدسية الموت، في تلك المدينة ذات المسالك الوعرة المعوجة، حيث لابد من صعود أدراج وهبوط أدراج، وسط جمهور صاخب، جياش بجوار الهيكل، مختلط الأزياء والعادات، واللهجات والحركات …

. وكان لابد من تدوين إعلان. فاهتم بيلاطس بالأمر. وقد روي "سويتون" أن أحد عبيد "كاليجولا "اختلس يوماً، في وليمة، مدية فضية، فأنفذه الإمبراطور إلي السياف، وأمر بأن تبتر يدا السارق وتعلقا مع إعلان جريمته. وهكذا فما كان العظماء ليأنفوا من العناية بمثل تلك الصغائر، وما كان بيلاطس ليفوت عليه فرصة الانتقام من اليهود انتقاماً محكماً. فكتب علي اللوحة، باللاتينية واليونانية والعبرية: "يسوع الناصري ملك اليهود!" فاحتج أحبار اليهود فوراً، قائلين: "لا تكتب: ملك اليهود، بل هذا الرجل قال: أنا ملك اليهود!" فأجاب بيلاطس، وشفتاه تطفحان هزءوا واستعلاءً: "ما كتبت فقد كتبت!" لقد استرد خيلاءه، بعد أن زالت عنه مخاوف الوشاية: وعلي كل، فإن لوحة مثل هذه، علي افتراض أنهم راحوا يبلغون الإمبراطور نسختها، كان من شأنها أن تثبت لطيباريوس اهتمام الوالي لمكافحة الطامحين إلي العرش

. قد تألف الموكب، يتقدمه قائد المائة بدرعه المفلس، والجنود، في إثره، بزرودهم، محدقين بيسوع. وفي الجمع الذي راحوا يدفعون به صوب الجدران، كان لابد أن يبرز التباين بين الرومانيين بأقمصتهم الحمراء وخوذهم البراقة، واليهود بأرديتهم البيضاء والغبراء والزرقاء. وكان يرافق الموكب الآسي جلبة عظيمة، وقعقعة سلاح. وإننا لنتمثل يسوع مهيباً، بالرغم من ندوب الإهانة، وسط ذاك المشهد الوجيع، وبطل تلك المأساة التي لم يكن سواه ليدرك مراميها العلوية

. في اللحظة الأخيرة، قررت الإرادة الرومانية أن تنفذ العقوبة أيضاَ في سارقين آخرين. وكانا – علي حد ما تشير إليه اللفظة اليونانية في الإنجيل – من اللصوص الباطشين. لماذا؟ ربما حم ، يوم ذاك، قضاؤهما، ورغب في إخلاء السجون، إلا إذا كانت، ثمة أيضاً، رغبة متعمدة في إهانة "ملك اليهود" ! أو لم يتنبأ أشعياء عن المسيح، أنه "سيق إلي الموت، وأحصي مع أثمه"؟ (53 :12)

وكانت الساعة ما بين الحادية عشرة والظهر-"الساعة السادسة"، بحسب رواية يوحنا (19 : 14) – عندما غادر الموكب حصن الأنطونيا.(1)

. لقد أثبتت التقاليد، في أورشليم، منذ أمد بعيد (أي منذ عهد الحجاج الأولين، في القرن الرابع). مراحل الطريق الذي سلكه المسيح، ذهاباً من الأنطونيا حتى موضع الإعدام . والحق أن تلك المعالم لا تتخطى حيز الافتراض، نظراً إلي ما تراكم في المدينة المقدسة، عبر الأجيال، من أنقاض، ورسب في قيعانها من ركامات … فهل انطلق الموكب تواً، أخذاً من باحة الهيكل، فيكون إذ ذاك قد اجتاز أسوار الحرم من باب النذير، وكان يعرف، في الأجيال الوسطي "بباب الآلام" ؟ من العبث أن نقيم وزناً لتلك المعالم المفصلة التي يشاهد مثلها في جميع مزارات الدنيا، كأن نعني – مثلاُ – بتلك الدرجة التي اصطدم بها المسيح، وهوي فوقها، والتي يشير إليها الأدلاء بثقة مقلقة … على كل لم يكن الشوط طويلاً – من 4.. إلي 5.. مائة متر علي الأكثر – واحتمال الخطأ، في ذلك، ضعيف. فقد اختاروا لتنفيذ العقوبة أقرب موضع إليهم، في النقطة التي ترسم فيها الأسوار زاوية معكوسة. ولابد أن يسوع قد هبط – حتماً – أحد تلك المسالك المدرجة التي كانت – ولا تزال – تنحدر من الهيكل إلي ساقية التيروبيون (وكان مجراها، عهد ذاك. أعمق منه اليوم)، ثم صعد، مواجهة، شطر شمالي غربي المدينة. وكانت الأزقة – كاليوم – ضيقة تكتنفها أبنية مرتفعة شحيحة النوافذ، وتكسوها، علي غير انتساق، صفائح حجرية زلقة، تتخللها بقاع ظل، ولمع شمس باهرة، ولا شك أنها كانت تعبق، عهد ذاك، بما تعبق به اليوم أيضاً، من الأخلاط المسكية والعفائن الحادة التي تسطع في جميع أسواق الشرق

. جاءنا من بلوتارك أن المحكوم عليهم بالصلب كانوا يضطرون إلي حمل آلة عذابهم، وفي ذلك ما يدعم الإشارة المقتضبة، المدونة في إنجيل يوحنا: "وحمل يسوع صليبه" (19 : 17). وقد ذهب بعض الكتاب إلي أنه لم يحمل سوي العارضة الأفقية، وأما الخشبة العمودية فكانوا يذرونها ناشبة في موضع الصلب. ومهما يكن من أمر، فقد كان وزن الخشبة ثقيلاً (3. كيلو للعارضة الأفقية، وسبعون كيلو، علي الأقل، للصليب كله)، وهكذا تقدم يسوع، وهو ينوء، أكثر فأكثر، تحت عبء صليبه … "من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه، وليحمل صليبه، ويتبعني !" (متى 16 : 24). لقد استشاط بطرس، يوم فاه يسوع بهذه الكلمات، في قيصرية فيلبس، منبئاً بها بموته، وما استوعب معناها إلا من بعد. وأما نحن فإننا نسمعها من خلال هذابة ألفي سنة من التقاليد المسيحية، فما تتناهى إلينا إلا في غمرة أنوار الجلجثة. "فأن نحمل الصليب" بل أن نسمر علي خشبة، لم يعد محض استعارة. وقد قال أحد أبطال "بشارة مريم" للشاعر الفرنسي بول كلوديل : "هل غرضنا من الحياة أن نعيش؟ كلا ! بل أن نموت، لا أن نضع الصليب، بل أن نعلق عليه ! "

. كان لابد أن يهبط الصليب، بعبئه، قوي رجل أنهكته ليلة سهاد واستجواب، واستنزفت دماءه جلدات قاسيات. فشهر نيسان شديد الحر، في اليهودية، ولا سيما حوالي الساعة الحادية عشرة صباحاً. وكان لابد للمحكوم عليه – كما ذكرنا – أن يسلك، هبوطاً وصعوداً، مسالك وعرة، وهو تحت وقره. فهل أشفق قائد المائة علي ضحيته من أن يتحيفها الموت قبل أن تنفذ فيها العقوبة؟ لقد ذكرت الأناجيل الثلاثة المؤتلفة، من غير تعليل، أن الجند "صادوا في الطريق رجلاً، فسخروه ليحمل صليب يسوع" (متي 27 : 32، مرقس 15 : 21، لوقا 23 : 26). كان عائداً من الحقول: فالفصح الشرعي لم يكن بعد ابتدأ. والعمل كان حلالاً. وكان اسمه سمعان القيرواني: واحد من اليونانيين المهاجرين من المدينة الأفريقية المشهورة، عاصمة بلاد القيروان، أو فرد من أفراد الجالية الكبيرة التي كانت قد استوطنت تلك الأصقاع. ويضيف البشير مرقس، موضحاً، أنه كان " أبا الاسكندر وروفس " ، وكانا ، علي الأرجح، من الرجال المعروفين في الجماعة الرومانية التي وجه إليها مرقس إنجيله. ويذكر الرسول بولس (روميه 16 : 13) روفس ريما كان أحدهما. وهناك تقليد يذهب إلي سمعان هذا ، كان واحداً من السبعين الذين بعثهم يسوع رسلاً من فريق المنزلة الثانية . فإذا كان ابناه مسيحيين ، فقد أصبح مقبولاً أن يكون الرجل الذي "حمل الصليب" – بالمعني الحقيقي – قد أثيب ، عن ذلك ، بنعمة الهداية

. وكان يتبع يسوع، علي درب الآلام، "جمهور غفير من الشعب" (لوقا 23 : 27)، فمن شأن عقوبات الإعدام أن تستهوي الفضول المريض، وليس من عجب أن يكون الرأي العام قد اهتز لنبأ إعدام ذاك الذي – قبل خمسة أيام – دخل المدينة دخول الفاتحين. بيد أن تلك الأفواج المصطفة علي حواف الطرق التي كان يسير فيها الموكب، لم تكن لتضم فقط أناساً من أهل البطالة والسادية ، بل كان فيها من أهل المحبة والصداقة والولاء. ومع ذلك فما أطلق أحد صرخة، علي ما يبدو، وما أتي أحد محاولة في سبيله ! وكان من سنن الشرع اليهودي أن تدخل فرد واحد من الجماعة بإمكانه – حتى اللحظة الأخيرة – أن يوقف تنفيذ العقوبة. وكان ذلك القانون، عند اليهود، من الإلزام، بحيث وضعوا، لتنفيذ أحكام الإعدام، الإجراءات التالية: كان يقف عند باب السنهدريم مناد يحمل علماً. وكان يتبع الموكب الذاهب بالمحكوم عليه، فارس يتلفت دوماً إلي موضع الانطلاق، فإذا تقدم إنسان إلي السنهدريم وتكلم في صالح المحكوم عليه، لوح بالعلم، وأعيد الرجل إلي مجلس القضاة

. هكذا استطاع موكب الأسى أن يقطع من الطريق أمتارها الأربع مائة ، واستطاع الجمع أن يستمع إلي حاجب السنهدريم يردد عبارته المألوفة: "إذا شئتم أن تثبتوا براءة يسوع، فبدار !" (علي افتراض أنهم تقيدوا بهذا النص من القانون)، كل ذلك ولم يأت أحد بإيماءة، ولم ينبس أحد بكلمة ! قبل خمسة أيام كان المجد، وكانت الهتافات المهووسة ، وأما الآن ! .. سوف يقول "بيغي": "عندما يقع إنسان، فالناس كلهم عليه ! " ولكم عرفنا، في التاريخ، من رجال رفعتهم الجماهير إلي أوج العزة، ثم خذلتهم، دفعة واحدة، بمثل ذاك الجحود ! فالكتل الشعبية خاضعة أبداً لنزواتها المنفلتة، ولئن كانت سريعة إلي الحمية، فهي أسرع إلي الشك والذعر والسخط، ولذلك فهي لا تنقاد إلا للنواميس الأولية، والغرائز البدائية التي لا يسيطر عليها العقل

.. إنها الخيبة، عند البعض، من تخاذل يسوع ونكوصه عن الضربة المنتظرة، وهو عند البعض الآخر، ترقب معجزة باتوا ينتظرونها بفضول خسيس، وهو الحقد. أخيراً، وما يقبع في قلب الإنسان الزري. من تحامل علي العظمة الحقة ! أجل، لقد كان لهم في ذلك كله ما يصرفهم عن القيام بأي محاولة لاستنقاذ ذاك النبي الجاد وراء هلاكه ! هذا وكان لابد من الإسراع في ابتياع الخبز والأقراص والتين والتمر واللحم والخضار لمأدبة الفصح. فغداً – - أي في مساء اليوم عينه – حوالي الساعة السادسة، سوف يطل السبت الأكبر، ويكون قد فات الأوان !

. إلا أن نساء كن هناك، أكثر جرأة، وأقل حذراً. لقد أحببن يسوع فجئن ينحن ، وأراد المسيح أن يخاطبهن للمرة الأخيرة، ويستودعهن إنذاراً حاسماً : "يا بنات أورشليم، لا تبكين علي ! ابكين بالأحرى علي أنفسكن وعلي أولادكن ! فها هي ذي أيام تأتي، يقال فيها : طوبى للعواقر، البطون التي لم تلد، وللثدي التي لم ترضع ! عندئذ يأخذون يقولون للجبال : اهبطي علينا ! وللآكام غطينا !" هي المدينة المدمرة ! وقد انتصبت صورتها المرعبة، مرة أخري، في المستقبل الذي أنشأ يستحضره ! في ذلك اليوم، سوف ينال هذا الشعب جزاء أوزاره : فإنه إن كان هكذا صنع بالعود الرطب، الزاخر بالحياة، فكيف بعودهم اليابس، المنخور بالتصلب ! (لوقا 23 : 28 – 31)

. ثمة تقليد تلقته الكنيسة الكاثوليكية وكذا الكنيسة الأرثوذكسية – وتشهد به المرحلة السادسة من درب الصليب – مفاده أن إحدى تلك النساء اجترأت ومسحت وجه المحكوم عليه، ذاك الوجه المشوه بالضربات، الملوث بالبصاق والغبار والعرق والدم ، وقد ذهب أولاً إلي أنها مرتا مضيفة المسيح في بيت عنيا، وتلك مأثرة تتلاءم وسجية تلك النفس القوية. ثم ثبتت العادة علي تسميتها باسم "فيرونيكا" وقد تسوئل : هل هي المرأة النازفة الدم التي أبرأها يسوع يوماً فأقامت علي الوفاء بالجميل. وقد سلم أحياناً بأنها زوجة زكا، العشار ! وقد جاء في أسطورة مؤثرة أن تلك المرأة، بفضل إيمانها العظيم، قد عاينت صورة السيد مرتسمة علي المنديل الذي مسحت به محياه الإلهي

. لقد ورد في الأناجيل الأربعة اسم الموضع الذي اقتادوا إليه يسوع لتنفيذ العقوبة، فهو موضع "الجمجمة" ، وقد جاء في ثلاثة منها (إلا لوقا)، ترجمة اللفظة باللغة العبرية : " الجلجثة" وهي تشير إلي مرتفع أجرد، شبيه بالجمجمة الصلعاء. ونفهم أنهم إنما اختاروا أكمة عند باب المدينة، تقيداً بالشريعة الموسوية القديمة القاضية بتنفيذ أحكام الإعدام في منتهى العلن "فيسمع كل إسرائيل ويخافون ولا يعودون يعملون مثل هذا الأمر الشرير.." (تثنية 13 : 11)، وكانت الأكمة من الارتفاع بحيث يبرز فيها المعاقبون لأعين النظارة، ولكن لا بحيث تتعسر عليهم مهمة الصلب

وكانت العادة، عهد ذاك، ما هي اليوم في كثير من البلاد، ولا سيما في الشرق، أن تقام مدافن عند أبواب المدن، فكانت أحكام الإعدام، في معظم الأحيان، تنفذ ما بين الرموس. أو لم تكن الجلجثة علي بعد خمسة وعشرين متراً تقريباً من الموضع الذي كان فيه مدفن ليوسف الرامي؟ يجب أن تتمثل الجلجثة واحداً من تلك المواقع المشؤومة التي يحوم فوقها شبح الموت، وتستطع فيها روائح الجثث، وتحلق فوقها العقبان، مترصدة من فرائسها آخر نسمة من الحياة …

يقع المقام الذي نجل فيه اليوم ذكري وفاة المسيح، في الركن الشمالي من أورشليم، خارج منطقة الأسوار القديمة، ولكن داخل تلك التي رفعها هيرودس أغريبا الأول، بعد ثلاثين سنة. وقد جاء في تقليد أن هدريان، عندما جدد – سنة 105 م – بناء المدينة التي دمرها تيطس، جعل من الجلجثة مقاماً لعبادة الزهرة، وغرس فيها أجمة مقدسة لعبادة الأوثان … هل لبثت ذكري الموضع الصحيح محفوظة عند أحفاد قتلة المسيح؟ في الجيل الرابع، عندما قرر قسطنطين(2) وهيلانة إكرام الأماكن المقدسة، شيدا كنيستين: إحداهما فوق القبر المقدس، والأخرى عند الموضع الذي وجد فيه الصليب، وبقيت، إذ ذاك، الجلجثة في العراء. وبعد مدة طويلة، بنى الصليبيون الكنيسة الحالية، شاملة المقامات الثلاثة، وهي بناء مختلط الهندسة، روماني مشرب بعناصر الفن العربي. وقد أثبت تاريخية الموضع رجال ثقات من الأثريين. وإلي يسار الكنيسة يقوم ركن صغير عابق بروائح الشموع: هو اليوم ما صارت إليه الجلجثة …

. لابد من الإقرار بأن حجاج الأماكن المقدسة قد اعتادوا أن يتصوروا الجلجثة شبه أكمة، وذلك بسبب تراث فني أثبته مئات الرسامين، فلابد أن يفاجئوا إزاء تلك الكتلة الصخرية، تحضنها جنية منخفضة، يصار إليها بدرج بدائي، تحت صفوف من القناديل الفضية والسرج الحمراء، ويزين فسحتها رخام فاخر، ويتلاصق عند جدارها الخلفي ثلاثة هياكل مرصعة بالحجارة الكريمة، ويشير إلي الموضع الذي انتصب فيه الصليب، مجنب كبير مغشي بالذهب، يتألق فيه ألف شعلة، ويعلوه مصلوب فخم، تتلألأ فوقه، بسني الألماس، اللوحة المشينة التي كتب عليها بيلاطس "ملك اليهود !" … إن المرء ليحتاج إلي جهد عظيم لكي تقع في نفسه تلك الأبهات المستهجنة. ففي الجلجثة، كما في موضع قريب من تلك المدينة الحافلة بالذكريات التاريخية، باتت التقوى المسيحية ، بغلوائها، عائقاً دون رؤية المسيح. ولكانت أمست عقبة عصية، لولا ما يصادف، في تلك الجموع الزاحفة علي ركبها فوق المعارج الرخامية، من وجوه مشرقة بضياء راهن من الإيمان والمحبة

. لقد استنبطت الإنسانية، لتنفيذ ما تدعوه بقرارات العدالة، أصنافاً كثيرة من الأعذبة الهائلة، حيث لا تراعي رغبة الاسترداع والتمثيل المروع، ولا ضرورة التكفير العادل عن الذنوب المرتكبة، بقدر ما تراعي سادية الجماهير ومخيلة الحكام المنفلتة. إن قافلة المحكوم عليهم، عبر التاريخ، طويلة جداً، وليس فيها ما يشرف الإنسان: فهناك الذين عذبوا بالدولاب فأوثقت أطرافهم إلي قضبان الحديد، والذين تفصلت أعضاؤهم بشد الجياد، وهناك الذين بقروا بموجب شرع كلوفيس، والذين ألقوا في حفر مملوءة بالأفاعي والحشرات القاتلة، بموجب القانون الجرماني، والذين أوغروا في الماء الساخن، وأغرقوا في الوحل، ووئدوا … إنهم أكثر من أن يحصوا ! . ولقد يتخيل المجتمع المعاصر أنه، بمقاصله ومقاعده الكهربائية، قد أحرز تقدماً حيث أنه لم يضيف، ربما، إلا وحشية آلية. أما اليهود فكان من أهم أعذبتهم الرجم، ينهالون فيه علي المذنب بالحجارة، إما قذفاً عنيفاً وإما دحرجة، والنار يذخرونها لفئة معينة من الآثمين كالذي ثبت عليه ذنب الزنى مع حماته، والبغي إذا كانت من سبط كهنوتي، وأخيراً قطع الرأس، يعاقبون به عباد الوثن والمارقين. وكانوا يضيفون إلي ذلك أحياناً بعض التنويعات الهائلة، كالرصاص المذوب في الحلق، وقد جاء عنه في التلمود أنه "يحفظ الجثة من العطب"

! وأما الصلب فلم يكن عقوبة يهودية بل رومانية. بل يذهب إلي أنه قد استنبط في الشرق – ربما في بلاد فارس – وشاع عند الفينيقيين والقراطجة قبل أن ينتقل. في عهد غابر، إلي العالم اليوناني. وأما في اليهودية فقد أخذ به الأشمونيون أخذاً واسعاً. ويعرف عن إسكندر جانيسيس (103 – 76). أحد أبناء يوحنا هيرقان، أنه عمد إلي هذه العقوبة، لقمع فتنة قام بها الفريسيون. ولقد حفظ التاريخ صورة ذاك المليك العاتي، وهو يولم ما بين سراريه، وحيال عينيه، عند شرفة القصر، ست مائة صليب بضحاياها. وقد عمد الموفد الروماني فاروس، هو أيضاً. بعد وفاة هيرودس الكبير، إلي صلب ألفي يهودي. وكانوا ينفذون عقوبة الصلب في النساء أيضاً، ولكنهن، بعكس الرجال، كن يصلبن ووجوهن إلي الخشبة، احتشاماً … لقد كان الصلب إذن عقوبة جارية، ولم يكن لأحد أن يستغرب تنفيذها في أحد العصاة المجدفين

. لا سيما أنهم كانوا يتبينون فيها غاية إذلالية صريحة. وقد ذهب "رينان" إلي أن الغرض الأول من الصلب لم يكن القتل، بل عرض العبد المذنب، معلقاً بيديه ورجليه، لأنه لم يحسن استعمالها. وقد عرف الإسرائيليون، منذ زمن بعيد، تعليق أجساد المذنبين علي الأعواد. (سفر العدد 25 : 4، تثنية 21، يشوع 1. : 26). وعلي كل فقد كان الصلب، في روما، ميتة محفوظة للأرقاء ورعاع اللصوص وأهل الريف. ومن اجترأ من الحكام علي صلب مواطن روماني، عد مجرماً … وذلك ما كان "شيشرون" قد قرف به "فريس" تقريفاً غير يسير

. وكان الصلب، بإجماع الرأي، يعد ميتة مرعبة. " عقوبة غاية في القسوة والهول" . علي حد قول "شيشرون". فالجسد المعلق علي الخشبة كان ينقبض في توتر شامل، وتلتهب الجراح، وتحتقن الرئتان والقلب والرأس، ويستولي علي المصلوب أزم شديد، ويجتاحه أوار لاهب، ويمسي الجسم كله كتلة موجعة. وأهول من ذلك كله أن العذاب ربما استمر طويلاً إذا كان المصلوب قوي البنية. وقد روي "هيرودوتس" و "يوسيفوس" أن بعض المصلوبين قد استعادوا الحياة بعد أن قضوا علي العود بضع ساعات. وذكر "بترون" أن الموت قد يمهل المصلوب، في عذابه، ثلاثة أيام … ومن ثم فقد بات مفهوماً أن يرتعد المرء لمجرد فكرة الصليب. وجاء في تاريخ "إفلافيس يوسيفوس" أن الخوف من تلك العقوبة المقيتة هو الذي أدي إلي استسلام قلعة ماخيرونتس، إبان الحرب اليهودية: وكان الرومان قد اعتقلوا "اليعازر"، زعيم المقاومة، وتظاهروا بصلبه علي مشهد من الأسوار، فسارع رفاقه إلي تسليم الحصن، إشفاقاً علي زعيمهم من ذاك الهول

. إن لفظة "Crux" في اللاتينية، كانت تشير إلي خشبة أو شبه عامود، وتشمل بمعناها مدلولاً أوسع من مدلول الصليب المألوف بخشبتيه المتعارضتين، وربما كان مجرد وتد تشد إليه الضحية، ويداها موثقتان من وراء الخشبة، فهو، إذ ذاك، "الصليب" البسيط الذي عمد إليه جملة من الرسامين في تصوير المجرمين اللذين صلبا مع المسيح. إلا أن تلك الآلة، في معظم الأحيان، كانت تجهز بعارضة أخري مثبتة إما في قمة العامود (بشكل T) وإما بعد القمة مسافة يسيرة، وهو الصليب المتداخل المعروف، وهناك أخيراً الصليب الأزور، ذو العارضتين المتساويتين المتواربتين (في شكل X) : ويعرف "بصليب القديس أندراوس" إذ يقال أن شقيق الرسول بطرس قد لقي حتفه عليه. وتذهب أوثق التقاليد إلي أن صليب المسيح هو الصليب "المتداخل" المعهود. وقد أشار القديس إيراناوس، إلي أطرافه الأربعة. وإنما يبدو – خلافاً لما تصوره كثير من الفنانين – أن الصليب لم يكن علي ارتفاع كبير (مقدار قامة الإنسان مرة ونصفاً) وإلا لأمست مهمة الصلب علي جانب كبير من الوعورة. وأما مرتكز القدمين (وقد جاء به تقليد فني قديم لأسباب تيسيرية جمالية) فليس له أي نصيب من التاريخية، بل ولا من الاحتمال. ولكنهم، عوضاً عن ذلك، كانوا ينفذون شبه ركيزة (أو مقعد) ما بين فخذي المصلوب، لئلا تتمزق اليدان تحت وقر الجسد. فكانت مبعث ألم شديد وقد وصف "ترتليانس" ذاك المتكأ مشبهاً إياه بقرن الكركدن

. من العبث أن نتساءل من أي خشب اتخذ الصليب الذي هلك عليه المسيح، فإن ما نملك من بقاياه، هو أبعد من أن تثبت له صحة لا تنازع. وقد قال "كلفينس": "لقد أمست أخشاب الصليب من الكثرة بحيث لو جمعت كل "الذخائر" المكرمة في أنحاء الدنيا، لاجتمع منها حموله سفينة كبيرة". وإنما ذلك ضرب من التفخيم! وقد ذكر "دي فلوري "في كتابه "مذكرة في آلات استشهاد المسيح". أن مجموع بقايا الصليب المعروفة تعادل 4 ملايين مليمتر مكعب. بينما يساوي حجم الصليب الواحد، بطول ثلاثة أمتار 178 مليون مليمتر مكعب! .. وقد أدي الفحص المجهري الذي عولجت به البقايا المحفوظة في كاتدرائية بيزا، وكنيسة فلورنسا، وكاتدرائية باريس. وكنيسة الصليب المقدس في أورشليم، إلي أن الصليب قد اتخذ من خشب الصنوبر. وأما المسامير التي ثقبوا بها "يديه ورجليه" علي حد ما جاء في المزمور النبوي (22 : 17)، فليس من شك أنها من تلك الأسنة الطويلة التي كان النجارون يستصنعونها لتثبيت العضائد

. ذاك كان الصليب، وتلك كانت العقوبة التي هموا بها علي ذاك الذي، سحابة الحياة، ما نطق إلا بكلمات الرحمة والمحبة. ولا يستطيع العقل، حيال هذا الجور، إلا أن يستحوذ عليه هول مقدس. ونفهم لماذا أبي المسيحيون، مدة طويلة، أن يمثلوا يسوع في ذاك الوضع المنكر، وكانوا قد رأوا بأم العين جثث المصلوبين وقد تدلت علي الأعواد موترة مشوهة! وقد ألغي "قسطنطين" عقوبة الصلب، تورعاً، فجاء بذلك مأثرة ذات وقع جميل

! وأما المسيحية فقد اتخذت من آلة الخزي شعار عز وفخار. وقد أضحي هذا الانقلاب العجيب في مدلول الرمز، إشارة بليغة إلي ذاك الانقلاب المسلكي الذي نادي به المسيح. فالظافر إنما هو ذاك الذي يبدو، في الدنيا، محكوماً عليه بالفشل. والسعيد إنما هو المسكين والمخذول. فالمساكين في الروح، والذين غصت حياتهم بالدموع، هم الفائزون بالسعادة المقيمة. وهكذا أضحي الصليب – أحقر آلات العذاب – عربوناً لمواعيد الخلود! خشبتان مضمومتان فوق جدران غرفة، أو خطان مرميان علي عجل، بين رسوم الدياميس، وإذا الحقيقة المسيحية كلها ماثلة! أجل لقد أصبحت تلك العلامة الحقيرة واحداً من أعظم أحداث الحضارة

: قال شاعر قديم، منشداً

"سلام، أيها الصليب،

الأمل الأوحد،

! الشجرة الكريمة العجيبة التي تزين أرجوان الملوك

. أنت يا من حظي عوده بأن يلمس تلك الجوارح المقدسة"

. "إن سر الصليب يتألق حيث ماتت الحياة ويموتها استعيدت الحياة!"

.. "طوباك أيها الصليب: فإن فدية القرون منوطة بذراعيك!

أنت الميزان الذي زين به الجسد! أنت غلاب الجحيم! .."

. اجتاز الموكب باب إفراثيم، وببضع خطوات أفضي إلي أكمة "الجمجمة" وشرع الجلادون في مهمتهم. وكانوا يعمدون أولاً إلي تثبيت اليدين في العارضة القصيرة التي كانوا يلزمون بحملها ثم، بواسطة بكرة أو بمجرد حبل، كانوا يرفعون العارضة، مع وقرها، إلي الخشبة العمودية، وكانوا – كما رأينا – يذرونها ناشبة في موضع الإعدام. وكان يستقيم وضع الصليب إذا دخل المقعد ما بين الفخذين، واستوي عليه جسد المصلوب. وقد لاحظ "ريشيوتي"، بكثير من الصواب، أن بعض التعابير الواردة في كتب الرومان (صعود الصليب، امتطاء الصليب …) لا يستوثق معناها إلا بهذه الطريقة، وعندما ذكر "فرميكس ماترنس " – وهو لاهوتي من الجيل الرابع – أن المسيح "رفع علي الصليب بقساوة". فقد أفصح عن حقيقة راهنة: فإن رفع العارضة الأفقية – والمجرم مسمر فيها بيديه – كان لابد أن يحدث في الجسد المتدلي ألماً مبرحاً

. قبل أن يشرعوا في تنفيذ الحكم، قدموا ليسوع "خمراً ممزوجة بمر" (مرقس 15 : 23). وكان ذلك من العادات العريقة، في إسرائيل، وقد جاء في أحد الأمثال : "أعطوا مسكراً لهالك وخمراً لمري النفس " (أمثال 31 : 6). أما ذاك الشراب فكان – ولا شك – صنفاً من المخدرات. وكان في أورشليم- علي ما جاء في التلمود – جماعة من النساء الموسرات يقدمن هن أنفسهن ذاك المشروب للمحكوم عليهم، إحساناً وتعطفاً. ويبدو – علي كل – أن هذا التفسير أرجح مما جاء في إنجيل متى، حيث نقرأ، "خمراً ممزوجة بمرارة"[ ذلك من باب التقريب والمجانسة ما بين "المر" (وهي مادة مخدرة) والمرارة]. وربما كان في ذلك تلميح إلي الآية : "ويجعلوا في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خلاً !" (مزمور 69 : 21). ومهما يكن من أمر فقد ذكرت النصوص الإنجيلية، بتعبير جلي بليغ، أن يسوع أبي أن يشرب. فالموت الذي رضيه لم يكن مما يسوغ فيه التلاعب

. ثم إنهم جردوه من ثيابه – علي ما ذكره الإنجيليون الأربعة (متي 27 : 35، مرقس 15 : 24، لوقا 23 : 34، يوحنا 19 : 23)، ولكن هل عري ابن الله تعرية كاملة؟ لقد جرت مناقشات كثيرة في هذا الأمر، ومن الذين أخذوا به – علي ما يبدو – القديس امبروسيس والقديس أوغسطينس والقديس كبريانس. والواقع أن الرابيين في إسرائيل ما كانوا متفقين علي ذاك القانون، فبينما نراهم مجمعين علي وجوب تغطية المرأة المذنبة بلبوس لائق، نراهم، في شأن الرجل، علي مذهبين: مذهب الداعين إلي التعرية الكاملة، ومذهب القائلين بتغطية الجزء الأمامي

. وأما ثياب المجرمين فكانت من نصيب الجلادين، يأخذونها علي سبيل "المنحة"، وقد أصبحت بموجب قرار من "أدريانس"، حقاً من حقوقهم. "وأخذوا ثيابه. وجعلوها أربع حصص، لكل جندي حصة، وأخذوا القميص أيضاً. بيد أن القميص كان غير مخيط، منسوجاً من فوق إلي أسفل. فقالوا فيما بينهم: "لا نشقه، بل لنقترع عليه لمن يكون"، ليتم قول الكتاب :"يقسمون ثيابي بينهم، وعلي لباسي يقترعون" (مزمور 22 : 18). ما كان ذاك القميص النفيس، غير المخيط؟ لقد كان رئيس الأحبار يرتدي مثله، في الحفلات الليترجية: أو ما كان يسوع هو الكاهن والضحية في آن واحد؟ .. هل كان هدية من بعض النساء الورعات؟ أم كان هو الثوب الهزئي الذي أمر له به "هيرودس"؟ (لا شك أنهم أعادوا إليه، بعد الجلد، ثيابه العادية). هناك تأويل رمزي أخذت به التقاليد المسيحية، فإذا بذاك الرداء صورة الوحدة الكنسية التي لن تتمكن الهرطقات والانشقاقات من تمزيق لحمتها الأبدية

! بقي أن يغرزوا المسامير في اللحم الحي: مجزرة ينقبض لها القلب! إن المسيحيين، كل يوم، يرددون، في قانون إيمانهم: "وصلب! .. " ولكن هل يأبهون للواقع الرهيب، ولتلك السنان المرهفة تفتتح لها في العضل سبيلاً، ولذاك الدم النافر من الجرح، ولتلك الانتفاضة التي لا سبيل إلي كبتها، انتفاضة الإنسان المبرح به

. لقد ثار جدل حول الظروف المادية التي تم فيها ذاك التبريح، في شأن موضع المسامير في اليدين. فاليد، في نظر أقدم التقاليد، تشير إلي الكف في مدلولها المتعارف. ومن ثم، فالفنانون، بالإجماع تقريباً، قد أثبتوا الثقب في وسط الراحتين . إلا أن بعض المفسرين المحدثين – ومن بينهم أطباء – قد رأوا من الممتنع أن تكون المسامير قد أثبتت في الكف، بمفهومها الحصري. وقد أفضت حساباتهم واختباراتهم إلي أن الإنسان، إذا هوي بجميع وقره، وهو مسمر براحتيه، تمزقت أنسجتهما، فلابد من أن تؤخذ "اليد" بمعناها الطبي، فتشمل الرسغ أيضاً، وهو موصل الأصابع بالمعصم. فثمة مجموعة من العظيمات الصلبة، يدعمها جهاز ليفي صفيق، ويتخلل هذه العظيمات – أي، بالضبط، ما بين العظمة المعقوفة، والهلالية، والهرمية – براح يستطيع المسمار أن يلج فيه، ويتحمل من قوة الاجتذاب قدراً كبيراً … بيد أن هذا التفسير يصطدم بعقبة : فإنه يبدو ثابتاً – كما رأينا – أنهم كانوا يعمدون دائماً، في الصليب، إلي شبه متكأ يثبتونه ما بين الفخذين، تفادياً – ولا شك – من تمزق الراحتين، وتمديداً لمدة العذاب. فإذا صح أن صليب يسوع قد جهز بمثل ذاك "المقعد"، فقد ألغيت جميع الحسابات المتعلقة بضغط الجسم علي اليدين

. ولكن ما بين تلك الاجتهادات الطبية، ملاحظة لابد من الاحتفاظ بها: وهي إن إثبات المسمار في الأنسجة اليدوية، كان لابد أن يبرح بالعصب الأوسط تبريحاً شديداً، ويسبب للمصلوب آلاماً لا تطاق، ويضطر الإبهام إلي أن ينشئ في تواجه مع الأصابع الأخرى. وقد أشارت جميع الاختبارات التشريحية إلي ذاك الانكماش في يد المسمر. ومع ذلك فقد ندر، من الفنانين، من مثل ذاك الوضع المميز

. أما القدمان فالأرجح أنهما ضمتا الواحدة فوق الأخرى، وأثبتتا بعيداً عن موضع العقب (وإلا لوجب استعمال مسمار طويل جداً، وشق عليهم العمل)، ولاشك أنهم وضعوا المسمار ما بين المشطين الثاني والثالث من القدم

. ثم بدأت التباريح … ففي بادئ الأمر يوفق المصلوب، بفضلة قوته، إلي مقاومة التقلص الكزازي الذي يسحق صدره، فيحاول الارتكاز علي قدميه للتنفس، علي ما يكلفه ذلك من تمزقات هائلة. ثم تنحط قواه شيئاً فشيئاً، فهبط الذراعان بعد توتر، ويتهاوي الجسم، وتتخذ الركبتان شكل زاوية منفرجة بعكس الوركين والرسغين السفليين. وإذا بذاك الهمل البشري يصور، فوق الصليب، شبه تعريج فظيع. وأما الرأس، فبعد أن يهوم علي وقع زفرات النزاع، يهوي علي الصدر، ملتصقاً بالنحر

. وكان الجلادون، أحياناً، يتعجلون ساعة الموت، فيضرمون ناراً من تبن وحشيش، ينبعث منها دخان حريف فتحمله الريح جهة الصليب، أو يستنزفون دم المصلوب، بضربة سيف. وأما يسوع فما كان بحاجة إلي أن يسعف بمثل ذلك. ولقد قال يوماً: "لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً ، ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي . لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً . هذه الوصية قبلتها من أبي ( يوحنا 1. : 17 - 18). ويجب ألا يغرب عن ذهننا أن يسوع كان راضياً بجميع تلك الأعذبة الفاحشة. ولقد كان بوسعه، بكلمة واحدة، أن يحطم الصليب والجلادين والجند، ويبدد جمهور المتفرجين. ولكن ألم يكن أشعيا قد تنبأ قائلاً: "ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه ، كشاة تساق إلى الذبح ، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه !" (أشعيا 53 : 7)

. كان زهاء الظهر عندما انتصب الصليب بحمله … هناك، في منطقة بيت حسدا، علي مسافة قريبة من الجلجثة، كان يتصاعد، ولابد، ثغاء الأضاحي، في تحنان حزين، وقد جاء المبتاعون يساومون في شرائها لمأدبة الفصح … أجل، لقد أوشك أن يسيل دم الحمل

. استمر النزاع ثلاث ساعات، من السادسة حتى التاسعة: وكانوا قد رفعوا إلي جانبي يسوع اللصين الذين كانا قد ألحقا بالموكب. وانتصبت الأعواد الثلاثة، كئيبة، عند حافة الطريق. وكانت طريقاً مسلوكة، تنطلق من يافا عند شاطئ البحر. ولا ريب أن الحجاج كانوا كثيراً عليها، في تلك الفترة من المواسم. ويجب أن نتمثل عذابات يسوع الأخيرة في وسط ضوضاء المارة والبطالين، والفضوليين، والكلاب، وغيرها من الدواب، وفي شبه هرج سوق من مثل الأسواق التي نراها في الشرق، عند أبواب المدن. وأما الحرس فكانت مهمتهم منع كل محاولة لإنزال المصلوبين، وليس السهر علي سكينة نزاعهم

! وإنها لتكشف لنا، من خلال روايات الأناجيل الأربعة، مشاعر ذاك الجمع الذي يشهد مصرع المسيح. فهناك أصدقاء وأتباع ولاسيما النساء (وقد بات لهن، في جميع روايات الآلام. مهمة خليقة بالثناء، تميزن فيها بشجاعتهن ووفائهن)، هؤلاء كلهم كانوا واجمين تحت وقع الكارثة. صامتين من الأسى. وهناك المارة، يستوضحون أمر المصلوبين الثلاثة ويصغون إلي افتراءات أنصار الحزب الكهنوتي، فيتحيزون للقوي علي الضعيف، شأن كل سخيف وجبان من الناس: "أنت يا هادم الهيكل وبانيه، في ثلاثة أيام، أنقذ نفسك! إن كنت ابن الله. فانزل إذن عن الصليب!" (متي 27: 4.، مرقس 15 : 29). وكان سادات القوم وأولياء الأمر فيهم، ينضمون إلي الحثالة الشعبية في تهكماتهم البذيئة: "لقد خلص آخرين، فليخلص نفسه إن كان هو مسيح الله المختار!". وكان جنود البادية، هم أيضاً، يهزءون مستغربين: فلقد كان من الطرافة أن يغلظ اليهود لواحد من بني قومهم: "إن كنت أنت ملك اليهود، فنج نفسك!" (لوقا 23 : 37)، ولكن الجنود كانوا، في قرارة نفوسهم، أخف وطأة عليه، فقدموا له من شرابهم المألوف: ماء ممزوجاً بخل. وكان رؤساء الكهنة وأعضاء السنهدريم قد جاءوا هم أيضاً، ينعمون بنصرهم – متعرضين للتنجس إذا شهدوا ساعة الموت – ويسخرون من ضحيتهم: "هو ملك إسرائيل! فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به! لقد توكل علي الله، فلينقذه الآن إن كان راضياً عنه، فإنه قد قال: أنا ابن الله!" (متي 27 : 42 – 43). ولكنهم، حتى في تعييراتهم تلك، كانت تنطلق من حناجرهم نبؤات النصوص المقدسة. فإن ما نطقوا به إنما هو آية من مزمور ماسوي: "أنا دودة لا إنسان، عار عند البشر، ورذالة في الشعب، كل الذين يبصرونني يستهزئون بي، يفغرون الشفاه ويهزون الرؤوس. فوض إلي الرب أمره، فلينجه وينقذه، فإنه راض عنه" (مزمور 22 : 7 – 9)، فلكم بات لذلك كله مدلولات تفوق المرامي الطبيعية

. وكان يسوع يري ويسمع ذلك كله. ولابد أن نظره الذي بدأ يزيغ لحظة بعد لحظة، راح يشرد متنقلاً من هذا اللغط البائس، إلي أسوار المدينة الجبارة.فإلي الذؤابات المتوهجة فوق قمة الهيكل. يا للشعب الذي أحبه، والإنسانية التي شرع يفتديها بموته! لقد كان حلالاً علي كل إنسان أن تثور فيه ثورة الكره والغضب، إزاء مثل ذاك الإجحاف! بيد أن يسوع، الذي ظل صامتاً طوال فترة الآلام، سوف ينقض الصم ثلاثاً، فما تجري علي لسانه سوي كلمات حب وإشفاق

. فمن أعلي الصليب، حيث كان يحتضر رسول الغفران، هبطت علي الجمع صلاة. قال: "يا أبتاه! أغفر لهم، فإنهم لا يدرون ما يعملون!"، وكانت لا شك، إشارة إلي المزمور 21. ولكن هذه الكلمات التي لم يدونها إلا البشير لوقا (23 : 42). "مؤرخ رحمات المسيح"، لا توجد في كثير من المخطوطات القديمة، حتى ولا في "مخطوطة الفاتيكان"، بيد أن المفسرين يؤيدون صحتها، ويذهبون إلي أنها إنما أسقطت في القرون الأولي تفادياً من أن يستغلها أصحاب البدع لهواهم. ولكن، هل في جميع الإنجيل أكثر منها تصديقاً للنهج الذي التزمه المسيح؟ فالصفح عن الأعداء، ومحبة الشانئين، لا يحملان في القلب نظرياً، وعندما لا يحدق بنا خطر، بل في الساعة الحاسمة التي يعمل فيها الظلم والاضطهاد! ولقد دعا يسوع لتلك الجماهير المعماة التي استنزلت علي نفسها لعنة الدم، وللجلادين الذين هووا بالمطارق علي المسامير الداخلة في لحمه، ولأولئك الذين خذلوه من أتباعه وجحدوه وخانوه! .. كلمات قلائل صادق بها المسيح علي تقدمة حياته وأفرغ عليها معناها

: لقد كان ذاك المصرع، في مكامن سر الله، ضرورة لازمة. ولكن ذلك لا ينفي كونه أعظم انتهاك للنظام الشرعي. ولقد كان بوسع الناس، في غفلتهم، أن يتنكروا لخطورة الحدث الفرد الذي كانوا يشاهدون. ولكن الطبيعة – وهي صورة الله مبدعها – قد أوجست في الصميم من كيانها الجامد، صدمة تلك الجريمة النكراء، وهذا ما رمي إليه الإنجيل، بإثباته هذا الحدث الآخر

. "فمن الساعة السادسة حتى الساعة التاسعة طبق الظلام الأرض كلها، وأظلمت الشمس" (لوقا 23 : 44، مرقس 15 : 33، متي 27 : 45). لقد وهم بعض الكتاب الأقدمين – عن سذاجة بالغة – تعليل تلك الظاهرة، بانسكاف في الشمس. ولكن أوريجنس وإيرونيمس ويوحنا الذهبي الفم كانوا قد لاحظوا، من أيامهم، تهافت تلك النظرية. فنحن نذكر أن القمر كان يومئذ، بدراً، ونعلم أن القمر، في تلك الفترة، لا يجتاز الأفق نهاراً. أفكان ذلك إذن إحدى زوابع الخماسين، تلك الريح الصحراوية السوداء، التي تطبق علي اليهودية بليل داهم، شبيه بتلك الدجنات التي غشيت مصر، بأمر موسى، عقاباً لفرعون؟ إن مثل تلك التقلبات لا يندر وقوعها في شهر نيسان. ولئن بقيت تلك الظاهرة مبهمة في تبثقها، فإن دلالتها الإعجازية بينة واضحة: "ويكون في ذلك اليوم – يقول السيد الرب – أني أغيب الشمس عند الظهيرة، وأجلب الظلمة علي الأرض في النهار الضاحي" : لقد تحققت، في تلك الساعة، نبوءة عاموس القديمة (8 : 9). ومنذ تلك اللحظة، ينبغي أن نتمثل مشهد النزاع، في جو مدلهم ينوء بالوجل … وأخذ الصمت يشيع شيئاً فشيئاً، في الجمع الذاهل، وشرع كثيرون في الانسحاب، واشتد جوي، في البعد، ثغاء الحملان المعدة للذبح، وأما الهازئون والصلفون فقد عقد الجزع حناجرهم، وما برح ذاك الجزع علي تفاقم، - وقد ارتبط سراً بهلع الطبيعة – حتى اللحظة التي "تم فيها كل شئ !"

. وانبعث وسط الصمت، من أحد الصلبان صوت مهدود: إنه أحد اللصين اللذين حكم عليهما بالموت مع يسوع. وما كان، في غمرة عذابه المريع، سوي ثورة وغضب. ولو استطاع، لانهال بسخطه علي أي من كان من الناس! وهذا الذي بقربه، والذي قيل عنه إنه يصنع المعجزات، ما باله لا ينقذ نفسه وإياهما؟ "إذا كنت المسيح، فخلص نفسك وإيانا !"، فانبعث من الصليب الثالث، صوت آخر يقول: "أفلا تخشى الله وأنت مشترك في الحكم نفسه؟ أما نحن فبعدل! إنا نعاقب بما قدمت أيدينا، أما هذا فلم يفعل شيئاً من السوء! .." لقد فاءت براءة الله إلي تلك النفس المدنسة! فأردف اللص التائب قائلاً : "يا سيد، اذكرني متى جئت في ملكوتك!". هل أدرك معني كلامه؟ وهل كان علي علم بذاك الملكوت الذي التمس الانضمام إليه؟ ولكن حسبه إيمانه! فأجابه يسوع: "الحق أقول لك، إنك اليوم تكون معي في الفردوس!" (لوقا 23 : 39 – 41). لقد اكتفي مرقس ومتي بالإشارة إلي أن اللصين "كانا يعيرانه"، وأما يوحنا فقد أغفل أمرهما. وعن أوريجينس حديث ليسوع، قال فيه :"من كان بقربي فهو بقرب الضرام، ومن كان بعيداً عني فهو بعيد عن الملكوت!"، ولقد كان بقرب يسوع، ذاك اللص، السليم القلب، ورضي بالموت عقاباً بذنوبه، ووضع نفسه في عهدة الله، فاستحق ذاك البائس – عامل الحادية عشرة – أعظم الأجور : نوايا القلب كافية لاستنزال الصفح

. في تلك الأثناء كان بعض النساء قد دنون من الصليب، في جنة تلك الغياهب الخارقة : ثلاث أو أربع من أولئك اللواتي أحببنه، ومعهن شاب، هو "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" إنه يوحنا نفسه – ويوحنا وحده – قد أثبت هذا المشهد في إنجيله. (19 : 25 – 27). وذكر أسماء أولئك المقدامات اللواتي لم يخذلن يسوع في مذلته: وهن مريم المجدلية، ومريم امرأة كلوبا ، ثم مع إحدى أخواتها، مريم تلك الأولي، الأم العذراء، وكانت قد توارت عن الأنظار، إلا قليلاً، من بعد معجزة قانا الجليل، وإذا بها في تلك اللحظة الحاسمة، بقرب ولدها، ولا شك أنها ما فارقته، بالقلب، هنيهة واحدة … وإننا لنفكر في عذاب جميع الأمهات اللواتي لهن من أكبادهن فلذات تعاني الألم في المعتقلات وساحات الوغي وفي جميع المواضع التي ينفلت فيها ظلم الإنسان: كلهن، في ذاك العذاب الأوحد، يصادفن تعزية وإشراقاً

. "ولما رأي يسوع أمه وبقربها التلميذ الذي كان يحبه، قال لأمه: "يا امرأة، هو ذا ابنك !" ثم قال للتلميذ: "هي زي أمك !" ومنذ تلك اللحظة أخذها التلميذ إلي بيته الخاص". تحب التقاليد المسيحية أن تتوسم في البشير يوحنا شاهداً وممثلاً للإنسانية جمعاء، وفي العذراء مريم، من خلال أقوال المسيح، أما للجميع

. وكانت تلك آخر كلمات المسيح إلي عالم الأرض. وكان الموت قد أخذ يعمل فيه عمله، وإذا به في ذاك التواجه الرهيب الذي لا بد لكل منا أن يختبره في يومه المرقوم، لم يعد سوي إنسان يسحقه الوجل. وصرخ بصوت عظيم – صوت غريب مدهش، إذ أن الصليب يشل الرئتين ويعقد الحنجرة – وقال: "إيلي ! إيلي ! لما شبقتني؟" (متي 27 : 46)، إنه في العبرية، لغته المألوفة، البيت الأول من ذاك المزمور الماسوي (22) الذي استشهد به رؤساء الكهنة في خطابهم الساخر. ولعلهم هم الذين مهدوا له ذاك الاستذكار. ولكن ذاك المزمور لم يكن فقط صرخة استنجاد، أطلقها الجسد المعني من أغوار بؤسه احتجاجاً، فهو لم يعرب عن الارتياب، بل بالعكس عن الثقة :"من بطن أمي أنت إلهي! .. وأنت يا رب لا تتباعد … سأبشر باسمك اخوتي، وفي وسط الجماعة أسبحك". (مزمور 22)

. سقط النداء في بحر من الصمت والظلام. وسمعه أحد القائمين هناك، ولم يكن يفهم العبرية، فقال :"ماذا؟ ألعله ينادي إيليا؟"، وأضاف آخر هازئاً :"دعه! سوف نري هل يأتي إيليا وينقذه!"، وانبعث من ذاك الهمل البشري آنة جديدة، أنة الجسد المعذب، يتمتم كلمات باتت هي الشكوى الوحيدة التي نقع عليها في جميع رواية الآلام :"أنا عطشان!". فأخذ واحد من الحرس، لين القلب، إسفنجة، وغمسها في ماء ممزوج بخل، وجعلها علي طرف عصا كانت هناك (قصبة، في رواية الأناجيل المؤتلفة، أو غصن زوفي، في رواية يوحنا، أو حربة، في نظر بعض المفسرين) وأدناها من شفتي المدلف، وقد قال صاحب المزامير :"في عطشي سقوني خلاً!" (69 : 22)

. وكان نحو الساعة الثالثة من بعد الظهر. وكان الظلام لا يزال مخيماً، وكل شئ يجري شطر نهايته. وقبل أن نقلب هذه الصفحة – أروع وأهول صفحة في الإنجيل – نود أن نلفت النظر إلي بساطة تلك الأحداث، وبساطة الأسلوب الذي أفرغ علي روايتها، فلقد روي الإنجيليون متي ومرقس ولوقا ويوحنا ما كان في معلومهم، ولم يتكلفوا زيادة في الترويع والتهويل. ولا نجد في الأناجيل الأربعة ما يشعر بالحقيقة العارية مثلما تشعر به قصة الآلام، وبالانتساب، في آن واحد، وفي أصغر التفاصيل، إلي مصدر وحي سماوي

كانت الساعة الثالثة. وكانت قد ابتدأت، في الهيكل، مراسيم التأهب للفصح، ولم يكن العيد ليثبت شرعياً إلا بعد غياب الشمس. وانطلق هتاف البوق، ثلاث دفعات: طويلة فقصيرة فطويلة. وراح رئيس الأحبار، في ملاءته الزرقاء، يرتقي درجات الهيكل، وتعالي أمام المذبح، لحن قيثار … هناك، فوق الجلجثة، من علي الصليب، سقطت كلمتان: "لقد أكمل !" (يوحنا 19 : 3.)، ثم – ولعلها كانت صلاة أخيرة :"يا أبت، في يديك أستودع روحي !"، ولقد انطلقت في شبه صرخة عظيمة، كانت هي استفاضة الحياة المنتهية !" قال يسوع هذا وأسلم الروح !" …

! لقد تم كل شئ واختتمت، في تلك اللحظة، الرسالة التي جاء يسوع لأجلها، وتحقق عمل الفداء الدامي الذي كان طالما قد أنبأ به، وكل ذاك الذي تمخضت به روح إسرائيل – عبر الأجيال – من رؤى نبوية، قد أصبح في تلك اللحظة، تاريخاً. أو لم تكن تلك الصرخة التي انطلقت من صدر الرجل الذبيح، صدي لصرخة الإيمان، عند صاحب المزامير :"في يديك أستودع روحي. لقد افتديتني أيها الرب، إله الحق!" (مزمور 3. : 6" أقوال داود علي لسان سليله ! أجل، لقد أصبح كل ذلك مترابطاً سرياً، وتحقق كل شئ بمقتضى الرسوم الأبدية … أجل، لقد تم كل شئ

. من بين أولئك الذين هبوا، عند باحات الهيكل، يرفعون إلي الواحد القدوس ضراعاتهم، لم يكن – ولا شك – واحد ليفقه مأساة الجلجثة وخطورتها الفريدة. بل من كان ليوجس من تلك الدجنة الصفيقة التي طبقت المدينة، آية للإنذار؟ .. بيد أن الطبيعة أصدت، مرة ثانية، وبهول أشد، للجريمة النكراء. فقد روت الأناجيل المؤتلفة أن حجاب الهيكل قد انشق في اللحظة التي فاضت فيها روح المسيح. وقد رأي أوريجينس والقديس إيرونيمس أنه هو الحجاب الذي كان يسدل، سحابة النهار، علي مدخل "المصلي"، عندما كانت تفتح الأبواب. لقد انشق حجاب السر، وأمسى الهيكل، منذ تلك اللحظة، مشرعاً أمام الناس أجمعين … وكتب "الأب لاغرانج ":" بالإمكان أن نفتر ض إحدى تلك العواصف التي تبدد، في لحظة واحدة، هواجر الربيع السوداء"، عاصفة، ولا شك، من أنفاس الله ! ولكن البشير متى أضاف أن "الأرض اهتزت، إذ ذاك، والصخور تشققت"، وحدثت ظاهرات غريبة، وحضر أموات، أفلتوا من القبور … فسعى الهلع في المدينة سعي النار في الهشيم. لقد أصدت الطبيعة، بزلزالها، لموت الإله الحي ! وليست الزلازل في فلسطين، من الأمور النادرة. ومعلوم أن قبة القيامة قد تصدعت من جرى الهزة التي اجتاحت أورشليم في 11 تموز سنة 1927 . ويري، حتى اليوم في صخرة الجلجثة، صدع عامودي، عرضه 25 سنتيمتراً، وطوله متر و7. سنتمتراً، وهو ولا ريب، أثر زلزالي … لقد دنت من أجلها دينونة الأمم. على ما جاء في نبوءة يوئيل :"إن يوم الرب قد اقترب … قد أظلمت الشمس والقمر، ومنعت الكواكب ضياءها، يزأر الرب من صهيون، ومن أورشليم يطلق صوته، فتتزلزل السماوات والأرض …" (يوئيل 3 : 14 – 16)

! إلا أن ثمة رجلاً أوجس علاقة بين ذاك الهلع الكوني وصرخة المصلوب الأخيرة. إنه قائد المائة، وكانت وظيفته تفرض عليه التلبث، حتى النهاية، بقرب المعاقبين. كان، ولا شك، قد سمع الشعب يقول لبيلاطس :"إنه مستحق الموت. لأنه جعل نفسه ابن الله". ولكنه لم يأبه للأمر، بادئ ذي بدء. بيد أن جيشان الطبيعة، وذاك الهلع المنتفض المنتشر في كل مكان، وذاك الهدير المترجع في قرارات الأرض السحيقة، كل تلك الأحداث مجتمعة، قد كشفت له عن الحقيقة، وفي وسط تلك المقبرة الداجية، وعند أقدام تلك الأعواد الثلاثة، سطع النور في قلبه :"في الحقيقة كان هذا ابن الله !" (متي 27 : 54). فمن كان ذاك الجندي الشهم، وقد بات، في طليعة الملايين، أول من آمن بيسوع المصلوب؟ إن الوعي العسكري يعد للإيمان، إذ يدرب العقل علي النظام والمنطق الصارم في العلاقات القائمة بين العلة والسبب، أو لم يعجب يسوع يوماً بما صادفه، عند قائد آخر، من ثقة متواضعة؟ فأول المهتدين هذا، سمي تارة بترون، وتارة كورنيليس، علي سبيل التقريب بينه وبين ذاك الذي ضمه الرسول بطرس إلي الجماعة المسيحية (أعمال 1.و 11): تقاليد واهية ! وإنما قيمة اعترافه بأنه أول تعبير عن الإيمان المسيحي

. كان يسوع معلقاً علي الخشبة. وبات الجسم، في هبوطه، متداعياً علي ذاته في تقبض متعب، شاداً علي الراحتين والذراعين، فبرزت فيهما العضلات شبه أوتار مفتولة. وكان الدم يسيل من الكلوم علي جلده الشاحب، وينعقد فوق الندوب الصغيرة التي خلفتها في جسمه جلدات السوط، وذاك الجسد الملطخ والمضلع بالضربات، لم يعد له، من الحياة، لا رواء ولا قوام ! وما أسرع ما تمسي الجثة ذاك الشئ المنكر، الذي فيه من التمثال ومن الرمة معاً، والذي يشق علينا أن نتوسم فيه ما كان غالياً علينا … "هكذا يمضي كل جسد !"، فكلنا نحمل، في ذواتنا، ميعاد ذاك الشحوب، وذاك التبقع. وهذه العروق التي أراها تنبض، أعرف ما يكمن فيها من يقين رهيب … لقد لاقي يسوع حتفاً شبيهاً بذاك الذي يترقبنا، وذاك هو السر والعزاء معاً. فقد قال المسيح متنبئاً :"وأنا متى رفعت، جذبت إلي الجميع !". كان قائد المائة أول من خضع لقوة الاجتذاب، وفي إثره أخذ يتوافد – أفواجاً لا تحصى – أولئك الذين أضحي موت المصلوب أمل حياتهم الأوحد، وعربون القيامة

. بجوار الأكمة التي "أكمل فيها كل شئ"، كان قد تلبث بعض من أتباع يسوع. ونراهم. في رواية لوقا، وقد وقفوا عن بعد ينظرون نهاية ذاك الذي أحبوه: النسوة اللواتي أتينا على ذكرهن، وبعض الجليليين من الذين جاءوا أورشليم للفصح. وكان الحزن والذهول قد ختم علي شفاههم

. ولكن عندما حم القضاء، واعتلن رجز الله في آياته الخارقة، وأخذ كثير من الحاضرين يعودون أدراجهم إلي المدينة، وقد تملكهم الوجل وتأنيب الضمير، مضي واحد من التلاميذ إلى الجماعة يحمل لها نبأ الوفاة. وكانت للأموات، في إسرائيل، حرمة عظيمة. ففكروا حالاً في إنزال يسوع عن خشبة العار، وتجهيزه بما تقتضيه المراسيم الأخيرة. وإنما كان لابد من استئذان بيلاطس، فتطوع للأمر واحد من أولئك الزعماء – أمثال نيقودمس – الذين كانوا قد أذعنوا لكلام يسوع في قرارة قلبهم، ولكنهم أمسكوا عن – المجاهرة بعقيدتهم، فطنة واتقاء، إنه يوسف، أحد أعضاء السنهندرين، وكان من الرامة (وهي اليوم قرية في جوار اللد):"ولم يكن – علي حد قول لوقا – قد أيد رأي الآخرين وفعلهم" (لوقا 23 : 51)، عبارة خطيرة – وإن كانت قصيرة – يؤخذ منها أن السلطات اليهودية نفسها، لم تكن مجمعة علي الحكم علي يسوع … وهكذا استطاع يسوع في مماته ما لم يحققه في حياته: وهو انتصار يوسف الرامي علي مخاوفه

. كان موسى قد أمر في شأن المصلوبين أن "لا تبيت جثثهم علي الخشبة" (تثنية 21 : 23)، فقد كان من الشرع إذن أن تستحصل من الوالي رخصة في الدفن. بيد أنه ليس ممتنعاً – علي حد ما جاء في التلمود- أنهم كانوا يلقون جثث المقتولين في حفر لمصلحة القضاء، فتظل فيها إلي أن تبلي لحومها، فيعاد رفاتها إلي الأسرة. لقد كان علي يوسف الرامي إذن أن يستوهب بيلاطس جسد يسوع. وكان رفض الرخصة في إعادة الجثة إلي ذويها، أو تقاضي بعض المال عنها، يعد – في الإمبراطورية الرومانية – ضرباً من التشدد في الصرامة. ولم يكن لبيلاطس أي داع لاعتماد مثل ذاك التصلب. فوهب للسنهدريني ملتمسه، ولكنه استغرب سرعة الوفاة

. في الوقت عينه، كان يسعي، بين يديه، بطلب آخر، فقد جاءه بعض تقاة اليهود يلتمسون منه استعجال موت المجرمين بتحطيم سيقانهم، خشية أن يداهمهم الفصح، وهم بعد علي الأعواد في قيد الحياة، فتعم النجاسة المدينة كلها (يوحنا 19 : 31)، فأنقذ بيلاطس مفرزة تقوم بالمهمة

. "فجاء الجند وكسروا ساقي الأول الذي صلب معه، وأما يسوع، فلما انتهوا إليه، ورأوه قد مات، لم يكسروا ساقيه، بيد أن واحداً من الجند فتح جنبه بحربة، فخرج للوقت دم وماء"، وقد أثبت يوحنا تلك الحادثة، وأضاف أنه كان لها شاهد عيان. (19 : 32 – 35). لقد كان حطم الساقين، في روما، ضرباً شائعاً من ضروب التعذيب، فيه من البربرية ما كان يلحق بالمجرم تبريحاً إضافياً. ولكنه، بالنسبة إلي من استنزف الصليب قواهم، كان من الطبيعي أن يبدو لوناً من ألوان الرحمة والتلطيف. وأما الطعنة بالحربة فما كانت – ولا شك – سوي بادرة عفوية من بوادر التثبت، ويمكننا أن نستنج من حادثة توما، يوم شك في المسيح، من بعد القيامة، (يوحنا 2. : 25 – 27)، أن الجرح كان بليغاً، بمتسع اليد. وأما قضية "الماء والدم" ففيها مزاعم كثيرة. فهناك من افتراض انفجاراً في القلب مع نزيف داخلي، سابق للطعنة. وأما أنصار التفسير الباثولوجي فقد توهموا تورماً جانبياً من مصدر درني. وإنما يبدو أن الماء ما كان سوي سائل شغفي ناجم عما أحدثه النزاع من ترشح داخلي. وأما الدم ففيه معضلة فيزيولوجية طريفة، عالجها الأطباء الذين بحثوا في "الكفن" المحفوظ في تورينو

. وأما من الناحية الفنية، فثمة مذهبان متعارضان: فمنهم من يجعل جرح الطعنة في جنب يسوع الأيمن، ومنهم في الجنب الأيسر. وتبدو النظرية الثانية، لأول وهلة، أقرب إلي الصواب، نظراً إلي أن موضع القلب هو في جهة اليسار. ومع ذلك فإن فناناً مدققاً في وثائقه مثل رامبراندت، قد تبني المذهب الأول، هذا وإن أثر الجرح الراهن، في "كفن تورينو" إنما هو إلي جهة اليمين. وبوسعنا أن نلاحظ، أولاً، أن الضربة في اليمين، كانت من الإصابات المعهودة في تدريبات الجنود علي الطعان، إذ أن الجهة اليسرى. في النزال، محمية بالدرع. وإنما هناك خصوصاً مباحثة تشريحية تفضي إلي أن الدم، بعد الوفاة، يحتقن في الأذين الأيمن، يكمله من فوق، البطين الأعلى، ومن تحت البطين الأسفل. فلو سددت الطعنة إلي اليسار، لاخترقت الأذين الأيسر، فألفته فارغاً، أو لأصابت البطينين معاً، بسبب انحراف القلب، فوجدتهما فارغين أيضاً. لقد سددت الطعنة إذن إلي اليمين، وتثبت الفيزيولوجية. أخيراً، أن يسوع كان قد فارق الحياة، عندما جرح في جنبه: ولو كان حياً لانقبضت الرئة، وحالت دون نزيف الدم

. "طعنة الحربة" هذه، هي من أشهر أحداث الآلام. وقد أشار الإنجيلي إلي قيمتها الرمزية، مستشهداً بنصين من النصوص النبوية: فقد جاء في الناموس، عن الحمل الفصحي :"أنه لا يكسر له عظم" (خروج 12 : 46، عدد 9 : 12)، ونجد في سفر زكريا هذه الآية النبوية :"سوف ينظرون إلي الذي طعنوه" (زكريا 12 : 1.). والحقيقة أن جندي بيلاطس لم يكن وحده لينظر إلي الجسد الذي تفجر منه، منذ لحظة ، الدم والماء، بل البشرية المسيحية كلها: فالماء والدم إنما هما رمزا المعمودية إما بالإيمان وإما بالاستشهاد

لقد أمسى بإمكان الجند أن يذهبوا إلي بيلاطس ويطمئنوه: فيسوع قد مات بلا مراء، ولن يعمد أتباعه إلي أي لون من ألوان التدجيل لإعادته إلي الحياة وأضحي، من ثم، ممكناً أن يترك لهم ذاك الجسد. وتعاون يوسف الرامي وبعض التلاميذ علي إنزال الجثة كي ما تواري التراب. هذا "الإنزال" الذي طالما استوحاه الفنانون، نود لو نجرده من أغراضه الفنية، ونرده إلي واقعه المفجع. إنه لأمر فظيع أن تكفن ميتاً أحببناه. ذاك الجسد المتهاوي – وكأنه الدمية المتخلخلة – وذاك الإهاب الذي يرعب مسه … لقد جعل دوستويفسكي في كتابه "الأخرق" علي لسان بطله الأمير مويشكين، معلقاً علي رائعة الفنان دولابين - وهي لوحته الشهيرة: "إنزال يسوع عن الصليب"- هذه الأقوال:" لئن كانت تلك هي الجثة التي شاهدها تلاميذه (ولا شك أنها كانت كذلك)، فكيف استطاعوا، هم الذين آمنوا به، أن يسلموا بأنه سيقوم. ولا يمكننا إلا أن نتساءل: إذا كانت نواميس الطبيعة بمثل هذه الفظاعة، فكيف السبيل إلي قهرها. إن الطبيعة تبدو لنا، من خلال هذه اللوحة، شبه وحش هائل أخرس لا يرحم، أو بتعبير أصح، شبه آلة ضخمة خرقاء، اختطفت، ومزقت، وازدهرت، بلا رحمة ولا اكتراث، اعظم الكائنات وأسماها!". في تلك اللحظة التي أنزل فيها يسوع عن منصة صليبه، ولم يبق سوي جثة واهية وترتها تباريح النزاع، بدا الموت في أوج انتصاره …

! وأما الصليب فلم يذكر الإنجيل عنه شيئاً. وقد ذهب التقليد إلي أنه ألقي في حفرة عند الأسوار، علي بعد 25 متراً من الجلجثة. هناك عثرت عليه القديسة هيلانة – علي ما يقال – إبان الحفريات التي أمرت بها. ذاك الموضع هو اليوم – علي يمين كنيسة القبر المقدس – ركن صغير موحش، معبد جوفي بقبة مرتكزة علي أربعة أعمدة نحيلة تعلوها تيجان ضخمة، وينزل إليه في درج من حديد: عنوان الإملاق والإهمال

. بعد أن أنزل الجسد من الخشبة، أجريت له المراسيم الأخيرة،"علي حسب عادة اليهود في دفنهم" (يوحنا 19 : 4.)، ولا شك أنهم أسرعوا في قضاء مهمتهم، لأن السبت كان علي الأبواب. وإنما ليس هناك ما يضطر إلي الأخذ بما ذهب إليه بعضهم. من أن مراسم الدفن قد ألغيت. فالشريعة كانت تجوز غسل الأموات وتحنيطهم، حتى في يوم الراحة المقدسة. وقد جاء في أحد فصول التلمود ما يلي:"يمكن أن يجري للميت ما هو مفروض، يمكن تطييبه وغسله" (في باب "السبت" 23 : 5)، لقد كان إذن بوسع التلاميذ أن ينجزوا المراسيم الدينية المفروضة علي الإسرائيليين في دفن موتاهم. حتى وإن كانت الأبواق الفضية قد أعلنت، بطلقاتها القانونية الست. بدء النهار المقدس

. وكان ليوسف الرامي، في الحوار، مدفن جديد " لم يوضع فيه أحد بعد" (متى 27 : 6.، مرقس 15 : 42، لوقا 23 : 5.، يوحنا 19 : 38). وربما كان ذلك ما دعا أصدقاء يسوع إلي الاستعانة بيوسف. وأكبر الظن أن القبر كان من النموذج الشائع في فلسطين، وشبيهاً بالقبر الذي خرج منه لعازر. وكان فيه جزءان كلاهما محفوران نقباً، في الأكمة: فالجزء الأول حجرة تمهيدية ينفرج أقصاها عن مخرق صغير يفضي إلي الجزء الأخر. وهو المثوى الصحيح. وكان المثوى أشبه بقبو صغير مربع (2.07 × 1.93). قد نحت في جداره مرقد معد لإيواء الجثة. وكانوا يسدون القبر بحجر ثقيل جداً أشبه بالرحى، فإذا فتح القبر، استوي الحجر في أخدود مائل بعض الشئ، وأثبت فيه بأسفين، فإذا رفع الأسفين، تدحرج الحجر من ذاته علي باب القبر

. إن الموضع التقليدي الذي يقوم فيه القبر يوجد اليوم في صحن الكنيسة المعروفة "القبر المقدس". فهذا المقام الجبار الذي شيدته القديسة هيلانة أولاً، وقوض مراراً، وجدد عشرين مرة. هو اليوم بناء مهيب مختلف يخامره لا أدري أي طابع هجين، يهبط فيه، من قبة شامخة. ضياء أصهب، وتنتصب في داخله حلقة من الأعمدة الضخمة السوداء. تنعكس عليها مئات من الأنوار في لمعان غريب. وتواكب بناء مستديراً تطيف به سرج وثريات وشموع ضخمة، وتغشي جدرانه الصور والنذور والزخارف الذهبية، ويرتفع عن حضيض الكنيسة بثلاث درجات من الحجر النسفي. هكذا أمسى المدفن المحفور في الصخر، معبداً قائماً بمعزل عن الأكمة، تضطرم فيه مئات من الشموع في توهج ورائحة لا يطاقان

.. ألا ما بعد ذاك المقام المنور عما نتمثله من صورة القبر الصحيح، بظلمته الخرساء ! وهل من حاجة إلي أن نضيف أيضاَ أن ليس ثمة ما ينافي روح المسيح، مثل تلك المزاحمة البغيضة في تنازع ذكراه المقدسة. فجزء من المقام ملك لليونان وجزء آخر للاتين، يحرسه الرهبان الفرنسيسكان.وهنالك جدول يحدد لمختلف الطوائف مواقيت تناوبها علي إقامة الشعائر … من العبث أن نستعيذ من هذا الواقع: فهل في هذا فقط يخالف المسيحيون أوامر معلمهم في شأن الوحدة ؟

. فتح القبر، ولف يسوع بالأكفان، ولم تكن قطعة واحدة تثنى، يل – علي ما يؤخذ جلياً من إنجيل يوحنا (2.) – قطعتان علي الأقل إحداهما للبدن، والأخرى منديل صغير للرأس، بل يمكن الظن أنهم عمدوا إلي مثل تلك اللفائف التي كفن بها لعازر. وأسند الرأس إلي الإفريز الحجري الذي كان ينحت في المدافن اليهودية لهذا الغرض. واشترك في تجهيز الميت أولئك النسوة الفاضلات اللواتي لم يفارقنه، منذ أتين معه من الجليل

. "وأقبل نيقودمس (ذاك الذي كان قد جاء إلي يسوع ليلاً. إبان رحلته الأولي إلي أورشليم)، ومعه خليط من المر والعود، نحو مائة رطل … "، صنيع زهيد من رجل مسكين بات إخلاص نيته أرجح من جرأته ! كان قد نكص عن الجهاد في سبيل المسيح فجاء يكرم جثته بهدية فاخرة. مائة رطل تعادل لا أقل من 32 كيلو ! هبة سنية ! وأما المر فهو ذاك الصمغ العطر الذي أحبه الشرق دائماً، وجاء ذكره مراراً في العهد القديم (خروج 3. : 23، مزامير 45 : 8 – 9، نشيد الإنشاد 3 : 6، 4 : 6 – 14، 5 : 1 – 5)، وهو الذي قدمه المجوس للطفل الإله، وأما العود فهو خشب طيب العرف مستقدم من الهند. كان الإغريق يستخرجون منه عطوراً

. ما كان الغرض من وضع تلك المقادير من الطيوب في القبر ؟ أحفظاً للجثة من التعفن؟ ربما، وإن لم يكن من الثابت أن للمر والعود مثل تلك الخواص. هذا، ولكي يأتي التحنيط بفائدة مكفولة. يجب أن تراعي فيه الطريقة المصرية، فيعمد إلي استئصال الأمعاء. وإشباع الجسم بسوائل واقية. كل ذلك لم يتحقق منه شئ. ويمكن الظن أن تقديم الطيب كان عادة تكريم الموتى، كما نضع لهم الزهور

. وبانت تباشير الفصح. فأسرعوا في إزاحة الإسفين الخشبي، وذهبوا مغادرين الجسم في وحشة الرمس

! اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلي بيلاطس. وقالوا له :"أيها السيد، لقد تذكرنا أن ذاك المضل قال، وهو بعد حي، إني بعد ثلاثة أيام أقوم. فمر إذن بضبط القبر إلي اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه ويسرقوه، ويقولوا للشعب، إنه قام من بين الأموات. فتكون الضلالة الأخيرة شراً من الأولي" (متى 27 : 62 – 66). لقد كانوا من ذوي الفطنة، أولئك السياسيون ! بيد أن مسعاهم أثار حفيظة الروماني إلي حد بعيد: إلام تلك القضية؟ فأجابهم :"إن لكم حراساً، فاذهبوا وتحوطوا كما تعلمون !" فمضوا وضبطوا القبر بختم الحجر وإقامة الحراس … ما أكثر ما يركن إليه الناس من تحوطات تحامياً من إرادة الله

. لم يعد يسوع، في ظلمة اللحد، سوي ميت ما بين الأموات، وجثة معدة للتعفن الوشيك. هكذا، ولا شك توهمه التلاميذ الهالعون، هكذا تخيله هولبين وفيليب دي شامبيني، وقد برعا في رسم تلك الرمة المروعة. وذاك الفم المفرج عن كشرة عريضة، معذبة، وتينك المقتلين الغائرتين، وتلك الجراح الشاحبة التي نضب فيها الدم. ومع ذلك فما كان منطقياً في طبيعة الأشياء: التفسخ. وتهدم الجسم المعد للدود. كل ذلك لن يكون! لقد قال يسوع يوماً: "إن لم تقع حبة الحنطة الأرض، وتمت فهي تبقي وحدها، ولكن إن ماتت فهي تأتي بثمر كثير !" (يوحنا 12 : 25). ها قد ألقيت الحبة في التربة الخصبة، فأصبح علي الأبواب حصاد الحنطة المتفجرة منها


. جاء في مرقس: "وكانت الساعة الثالثة لما صلبوه!" (15 :14) وإنما يبدو أن توقيت الساعات، عند مرقس، كان علي شئ من التذبذب والتقريب. وكان اليهود يوزعون ساعات النهار إلي أربعة أجزاء كل جزء منها ثلاث ساعات، الأولي: من الصبح حتى التاسعة، والثالثة: من التاسعة حتى الظهر: والسادسة من الظهر حتى الثالثة، والتاسعة: من الثالثة حتى منتصف الليل … وربما أراد مرقس أن الثالثة لم تكن بعد قد انتهت، والسادسة لم تكن قد ابتدأت، وقت الصلب. هذا، والبشير لوقا، هو أيضاً، يعمد إلى عبارة مبهمة: "وكان نحو الساعة السادسة" (23 : 44) (1)
. هو أول إمبراطور اعتنق المسيحية وعزز شؤونها من بعد حقبة الاضطهاد، وهيلانة أمه
(2)

 فيلم يسوع باللغة العربية