|
|
... نود لو نملك لسان الشعراء، لكي
نروي، منذ الآن، حدثاً هو أروع
الأحداث وأغربها، الحدث الذي إنما
هو "مركز التاريخ برمته"، كما
قال بوسية. وهنا، كما في الساعة
التي تحدثنا فيها عن الميلاد
وروائعه، ينبعث فينا، من أغوار
الماضي، عالم من الذكريات. فصح
طفولتنا ! فصح أريافنا، يوم كانت
تبعثنا من الفراش رنة الأجراس
القوية، وتقذف في كياننا لا أدري أي
شعور مباغت بالطمأنينة، ولا أدري
أي فرح عفوي راهن. إن أكثر الناس
إلحاداً يشتركون فيه، وأشد
التقاويم علمنة تسجله كيوم عطلة
إضافية، احتفاء بذاك العيد، ذكري
الوعد الخالد
|
. انقضت الراحة السبتية، مساء
السبت، مع غروب الشمس. وغدا حلالاً،
في صبيحة الأحد، الذهاب والإياب من
غير ما حرج، والعناية – إن أمكنت
العناية بعد – بذاك الجسد الذي وجب
الإسراع في مغادرته في القبر، قبل
يومين
|
. ماذا فعل تلاميذ يسوع، منذ كارثة
الاعتقال؟ لقد هلعوا كلهم
واحتجزوا، ما خلا يوحنا الذي أقدم
علي الذهاب إلي الجلجثة. ويروي
تقليد أن يعقوب قد لاذ بمدفن من
مدافن يوشافاط، وهو قبو منحوت في
عدوة الوادي، ويشاهد ذاك المكمن،
حتى اليوم، مزيناً برواق من
الأعمدة "الدورية"، ويعرف
باسم "قبر عزير". ونقرأ في
الإنجيل المنحول، المسمي "
بإنجيل بطرس" : "أما أنا
ورفاقي، فكنا قد اختبأنا، والأسى
ملء الفؤاد، لأنهم كانوا يلاحقوننا
ملاحقة المجرمين، بمحاولة إحراق
الهيكل. وكنا نصوم جالسين في الدموع
والحداد … "، وقد صور لنا البشير
مرقس التلاميذ "وهم ينوحون
ويبكون" (مرقس 16 : 1.). وهل كان
بوسعهم غير ذلك؟ فلقد تلاشت آمالهم
البشرية كلها، وأخذ البعض يعد
العدة للرجوع إلي الجليل. وكان
المسيح قد أنبأهم قائلاً :"كلكم
ستضعفون بسببي، لأنه مكتوب :"أضرب
الراعي فتتبدد الخراف" (مرقس 14 :
27)
|
وأما المريمات وسالومة وحنة
امرأة سوزي فقد تصدين للواقعة كما
تتصدى النساء. فقد رجعن إلي عملهن،
وتعهدن ما هو من صلاحياتهن. وعندما
انقضي السبت أخذن يعددن طيوباً
وعطوراً، ولعلهن قمن يسحقن بالفهر،
في الأجران، أخلاطاً من الناردين
والمر والعود. وأما في يوم السبت
فقد استرحن بمقتضى الشريعة (لوقا 23 :
56). فعندما انقضي يوم الرب، مساء
السبت، لم يخرجن للفور: فقد كانت
الجلجثة من أماكن الشؤم التي لا يحب
الناس ارتيادها ليلاً. ولكنهن عند
شق الفجر (وذلك مما لاحظه الإنجيل)
يممن جهة القبر، حيث كان يرقد – عند
ظنهن – ذاك الذي أحببنه. وإننا
لنتصور تلك الصحوة المشرقة من
صحوات نيسان، الحافلة بذاك النقاء
العذري الذي يفرغه الربيع علي
الآفاق الفلسطينية. فمن جهة الشرق،
ومن فوق سطوح المدينة، يميل بياض
الأفق إلي غبرة اللؤلؤ، بينما في
الغرب، ينجاب الليل رويداً، مخلفاً
فوق الآكام أهداب وشاحه الليلي
الأغبر. هو الفجر "ذو العينين
الرماديتين" الذي تغني به فرجيل،
و"السحر ذو الأنامل الوردية"
الذي أحبه هوميروس، الشاعر العتيق.
وإنه ليبدو، في تلك اللحظات
القصيرة المحظوظة، أن الطبيعة كلها
تزخر بالأمل الزاهي، فيختلج في قلب
الإنسان – مهما رثت حاله – دعاء
نعمة الله …
|
. لقد روي الإنجيليون الأربعة، كل
بأسلوبه الخاص، كيف وجد القبر
فارغاً، عند وصول النساء الفاضلات.
وقد أجمعوا كلهم علي القول إن تلك
الأحداث الخارقة قد انكشفت للنساء
أولاً: ولا بدع، فالمرأة أجرأ،
وأخضع لحبها منها لفطنتها، وأقدر
علي اكتناه تلك الأحداث التي يخفق
العقل في تحليلها، وتدركها البديهة
الأنثوية بقوة ويقين عجيبين. وعلي
كل، فقد وجدت تلك النساء من ثقتهن
وبديهتهن خير دليل
|
. وسمون إلي القبر، وهن من جري
أحداث ما قبل الأمس، علي جانب كبير
من الاضطراب والأسى. لقد امتلكن
خوفهن، ولكنهن استفرغن في ذلك كل
شجاعتهن. وفيما هن في الطريق، عند
بزوغ الفجر، مادت الأرض مرة أخري،
وسمع دوي كهدير الرعد، وكأنه
منبعث، من قريب جداً، من المدينة
نفسها، من جوار أورشليم :"زلزال
عظيم"، علي حد تعبير البشير متى
|
. من كان أولئك الأوفياء البواسل؟
جميع الوثائق، بلا استثناء، تذكر
في المحل الأول، مريم المجدلية،
بنت قرية مجدلا، تلك التي أخرج يسوع
منها سبعة أرواح، فوقفت له، مذ ذاك،
حياتها. ويتفرد البشير يوحنا
بتدوين اسمها، بينما يجتزئ
الإنجيليون الآخرون بالتلميح
إليها. ويبدو أنها استبقت النساء
الأخر في جريها، يهيب بها إيمان
وأمل يعدوان المخلوق. وكان في إثرها
مريم أخري، أم يعقوب، وسالومة وحنة:
وفد صغير، لم يكن، ولا شك، ليتجاوز
الخمس أو الست … "وكن يقلن بعضهن
لبعض: "من يدحرج لنا الحجر عن باب
القبر؟" (مرقس 16 : 1 – 3). وتضيف بعض
المخطوطات القديمة عن الحجر :"أن
عشرين رجلاً بالجهد يستطيعون
زحزحته
|
. فلما بلغن الموضع، "وجدن
الحجر قد دحرج عن باب القبر" (لوقا
24 : 2). وأما الجسد فلم يكن في الداخل
مسجى في مثواه ! ماذا جري ؟"ملاك
الرب كان قد انحدر من السماء – علي
حد قول البشير متى – وأتي ودحرج
الحجر"، فالزلزال الذي سمع أزيزه
عند الفجر، هو الذي كان قد أحدثه
!" وكان منظره كالبرق، ولباسه
أبيض باهراً كالثلج" ولمنظره "ارتعد
الحراس من الذعر وصاروا كالأموات"
(متى 28 :2 - 4). من تلك المعجزة هذا ما
رواه الإنجيل. وأما المشهد الخارق
الذي انبعث فيه يسوع من القبر،
والحراس عند أقدامه مصروعون أرضاَ
– كما مثله موريلو، بين جم من
الفنانين، في لوحته الكبرى "القيامة"
– فالإنجيل لا يعرض له إلا
تلميحاً، بوجيز الكلام، وبكثير من
الزهد والترصن
|
. وأما النسوة الفاضلات فقد
أذهلهن اختفاء الجثة، وانسحاب
الحراس، وتملكهن الاضطراب والخوف.
بيد أن المجدلية – وكانت، ولا ريب،
أكثرهن رشاقة – (وفي ذلك كله ما
يشعر بشبابها)، أسرعت تحمل النبأ
إلي التلاميذ (يوحنا 2. : 2). وتلبث
النساء الأخر بالموضع، بعضهن داخل
القبر، والبعض عند مدخله. وما كانت
سوي لحظة قلق، و"إذا برجلين
عليهما ثياب براقة قد وقفا بهن !".
فأطرقن بوجوههن إلي الأرض مذعورات،
فقالا لهن :"لم تطلبن بين الأموات
من هو حي ! إنه ليس ههنا ! إنه قد قام !
.. تذكرن ما قال لكن، إذ كان بعد في
الجليل: إنه ينبغي لابن البشر أن
يسلم إلي أيدي الخطاة ويصلب، وينهض
في اليوم الثالث" (لوقا 24 : 4 – 7).
إن متى ومرقس لا يذكران سوي ملاك
واحد : ولكن فحوى الرؤيا هو هو :
فالمسيح قد قام
|
في تلك الأثناء، كانت المجدلية قد
انتهت إلي الرسل، وأفضت إليهم
بالخبر. ثم أقبلت النساء الأخر
يحملن نفس الشهادة، في غمرة من
الاضطراب والنشوة يسهل فهمها. وقد
أشار مرقس ولوقا، بلا مواربة، إلي
أن الرسل قد قابلوا تلك الأنباء،
أولاً، بالشك والتريب، مشتبهين في
تلك الأراجيف النسوية : "أقاويل !
وترهات ! .. "، لكن بطرس أراد أن
يتثبت الأمر، فأسرع راكضاً إلي
القبر، ورافقه تلميذ آخر، هو يوحنا
ولا شك – وقد أغفل اسمه تواضعاً.
وإذ كان أسرع من بطرس في الجري، وصل
إلي القبر أولاً (يوحنا 2. : 4) : أجل !
كل ما حدث به النساء كان صحيحاً !
فاللفائف مطروحة أرضاً، والحجر
مدحرج … ووصل بطرس، وتحقق نفس
الأمور. فانهدت مشاعرهما، وأوجسا
في ذاتيهما اجتياح الإيمان مداهماً.
إنهما لم يفهما بعد، من شدة الهلع،
أن أقوال الكتاب قد تحققت، وأن وعد
المعلم بالقيامة قد تنفذ، ولكن
تعزية دفينة قد استوطنت، منذ تلك
اللحظة، قلبيهما.
|
! وبقي القبر موحشاً. كلا !
فالمجدلية قد لبثت بقربه. فذاك الحب
الفائق الذي اجتذبها إلي القبر قبل
الناس، قد حال أيضاَ بينها وبين
مغادرته. هل درت أن يسوع قد نهض حقاً
؟ ربما لا … إنها لا تحفل بشئ،
ولكنها تبكي ! إذ ذاك تبدلت الرؤيا
إلي شهادة : فقد رأت ملاكين بثياب
بيض، داخل القبر، وقد استوي أحدهما
عند موضع الرأس، والآخر عند
القدمين. فقالا لها : "يا إمرأة،
لم تبكين؟" فقالت لهما : "أخذوا
سيدي، ولا أدري أين وضعوه !".
فقالت هذا، وحانت منها التفاتة إلي
الوراء، فإذا برجل – لم تعرفه – قد
وقف بها، وسالها قائلاً : "يا
امرأة، لم تبكين؟ ومن تريدين ؟"
قالت، وقد توهمت أنه بستاني
المقبرة :"يا سيدي ! إن كنت أنت قد
ذهبت به، فقل لي أين وضعته، وأنا
آخذه"، إذ ذاك ألقي إليها
المجهول بكلمة واحدة :"مريم !"
فتفرست فيه، وقد اخترق فؤادها،
وهرولت إليه، متمتعة بالعبرية : "رابوني
!" (أي يا معلم !). لقد اجتاحتها
الحقيقة في جميع كيانها. أجل ! لقد
قام يسوع
|
! مشهد أخاذ يملك القلب بحقيقته
الراهنة العجيبة. ولكن ما معني
الكلمة الغامضة التي وجهها يسوع
إلي المجدلية (وريما أدركتها أو
حاولت أن تدركها) : "لا تلمسيني !
فإني لم أصعد بعد إلي أبي !" ؟ …
مهما يكن فإن الغرض الروحي من ذاك
الظهور واضح كل الوضوح … فتلك
الكلمة التي استطاعت، وحدها، أن
تقنع المجدلية، وتبعث في قلبها
يقين الإيمان، أي مسيحي لم يحلم
بسماعها ؟ .. تلك الكلمة التي
ينادينا بها الله منذ الأزل، والتي
نتصامم عن سماعها
|
|
. ابتدأت مرحلة جديدة في حياة
المسيح. لقد اجتاز الموت كما يجتاز
نفق مظلم، ثم انبعث، مع إطلالة
الفصح، في غمرة الضياء. ولسوف يبقى
أربعين يوماً ماكثاً بالأرض ثانية،
يعايش أوفياءه، ويتعهدهم، كما في
الأمس، بالتعليم والهداية. ولا بد
من الإقرار بأن هذه الحقيقة التي
تعتبرها المسيحية من أركانها،
والتي أقرها رسمياً قانون الرسل
وقانون نيقية، تجابه ما اعتاد
العقل البشري أن يحسبه ممكناً أو
محتملاً. فمن أنكر علي المعجز محله
في نظام الأشياء، فعقيدة القيامة،
في نظره، لا أقل من معثرة، ولا أكثر
من خرافة. وأما الذي أيقن أن معرفة
الكون في علله الأخيرة ليست من نطاق
"الكيف" و "اللماذا"،
فالقيامة، في اعتقاده، آية الآيات،
تلخص وتبرر الأسرار التي تكتنف
حياتنا
|
. إن سيرة يسوع في حياته الثانية
تستند إلي نصوص كثيرة من العهد
الجديد. فنحن نجد أحداثها متضمنة في
الأناجيل الأربعة، ومدعمة بمجموعة
رسائل الرسول بولس ورسالة بطرس
الأولي، وأعمال الرسل، فضلاً عن
طائفة كبيرة من مخلفات الأدب
الآبائي، والأسفار المنحولة. وهبنا
لم نعتمد، في ذلك، سوي الإنجيليين،
نري ما يوجب الارتياب بهذا الجزء من
شهادتهم، وهو لا يقل ضمانة عن سائر
أجزاء كتبهم. وإنه، لعمري، نهج غريب
أن نقبل بجميع النصوص حتى موت
المسيح، ونأباها من بعد القيامة،
لا لسبب إلا لأن الأحداث المروية
تزعزع أنماطنا الذهنية
|
. إلا أن هناك اعتباراً لا بد من
ذكره، وهو علي جانب من الخطورة.
فالإنجيليون الأربعة إذ سجلوا
أحداث ما بعد القيامة، إنما فعلوا
ذلك بكثير من الاقتضاب.
فالإنجيليون المؤتلفون قد اجتزءوا
بصفحة أو صفحتين. والبشير يوحنا
بثمان صفحات أو تسع. فهناك إذن
تفاوت ظاهر بين خطورة الحدث
وانقباض القصة التي ترويه وتعلق
عليه … ومع ذلك، فحسبنا أن نقف علي
كتابات الرسول بولس، لكي تثبت لنا
المكانة العظيمة التي احتلتها
عقيدة القيامة، منذ ذلك العهد، في
المسيحية الأولي
|
بيد أن الأمر يبدو أقل غرابة إذا
أخذنا بالملاحظة التالية: فالأحداث
التي تخللت تلك الأيام الأربعين
كانت – كما سنراه – شبيهة كل الشبه
بتلك التي وقعت في حياته العادية بل
نلاحظ أيضاَ أن بعضاَ منها –
كالصيد المعجز، مثلاً – باتت كأنها
تكرار أحداث سابقة. فسيرة المسيح،
بعد قيامته، تبدو كأنها امتداد
لحياته المتقدمة، والواقع أنها لم
تستغرق إلا أربعين يوماً. فإذا
راجعنا رسالة المسيح في الجليل أو
في اليهودية، اتضح لنا أن فترات
الأربعين يوماً لا تستوعب من
الإنجيل – بالتعديل – محلاً أعظم.
لا بل إن هناك فترات (تموز إلي تشرين
الأول سنة 28، وآب إلي أيلول سنة 29،
وشباط سنة 3.) أقل منها تبسطاً
وتفصيلاً. وهذا الزهد الأدبي في
الأناجيل القانونية الأربعة هو
دليل صحتها. وأما الأناجيل
المنحولة، "كإنجيل برثلماوس"
مثلاً و"رسالة الرسل" (وهي
أسفار طريفة من حوالي سنة 16.) فهي
تغرق في التزويق وتمعن في التعليق،
فتصور يسوع، مثلاً، في جدال مع
تلاميذه في صحة القيامة وغرضها
وكيفيتها، أولم يبشر المسيح علي
تلاميذه يوماً أن : "فليكن كلامكم
نعم نعم ولا لا ! "، والواقع أنهم
قاوموا شيطان المخيلة: وهل من شيطان
أكثر منه إغراء لأهل القلم؟
|
. ولكن النصوص الأربعة المتصلة
بفترة القيامة لا تتطابق. أجل، إنه
لا يوجد بينها أي تناقض ولا أي
تباين جوهري، ومع ذلك فإنه من
المتعذر أن نتبين فيها أي ترادف أو
تراكب. ولا بد من أن نتذكر هنا أن
الإنجيليين ما كانوا من جهابذة
التاريخ : فلقد قصدوا بكتبهم تفقيه
المؤمنين وتهذيبهم. وما توخوا قط
تصنيف وثائق كاملة جامعة. ولأن
القيامة، من الناحية الدفاعية، حدث
جذمي، فقد آثر كل من الإنجيليين أن
يسرد من الأحداث ما بدا له أقوي حجة
وأعمق وقعاً. ومن الممكن أيضاً أن
يكونوا قد استخدموا، لهذه الحقبة،
مصادر مختلفة. ولكن ذلك لا يضعف ما
توحي به تلك النصوص الأربعة من شعور
عميق بالحقيقة، وما تبعثه في النفس
من يقين بأن يسوع حقاً قد قام، وأنه
فعلاً قد عاش، ثانية، أربعين يوماً
علي الأرض، وأن التلاميذ، حقيقة،
قد أبصروه ولمسوه طوال تلك المدة من
حياته المحدثة
|
! كتب رينان :"لا يثبت إلا
الحقيقة، وكل ما يخدم الحقيقة يحفظ
كذخيرة زهيدة، ولكن مكفولة، ولا شئ
يتلف من كنزها الصغير. وأما الضلال
فهو، بالعكس، يتداعي. إن الضلال لا
يعول عليه، وأما بناء الحقيقة، وإن
زهيداً، فهو من صلب ويرتفع دائماً
… "، ربما بدا واهناً، في
أساساته، البناء الصغير الذي تقوم
عليه عقيدة القيامة. ولكن ها قد
انقضي علي قيامه ألفا سنة، وأدمغة
الملايين من البشر راضية به، علي ما
يتصدي له من محاجات تهجمية : فهذا
أيضاً له وزنه
|
. والله أدري بما اختلق من
افتراضات كثيرة ومتنوعة للإجهاز
عليه ! منها ما يتاخم المهزلة. ففي
الحقبة التي شاعت فيها طريقة
المقارنات الدينية (بتأثير من
فريزر وسملون ريناخ) لم يتورع بعض
علماء الأسطورة من القول بأن
المسيح ما كان سوي إله شمسي،
وقيامته سوي تلميح إلي ذاك النير في
ظاهرات طلوعه وغروبه عند الأفق.
وساقوا برهاناً علي ذلك، إيثار
الأحد (وهو نهار الشمس) للاحتفاء
بتجدد ظهوره ! قد يكون البرهان، ولا
ريب، أقوي دلالة لو كتب الإنجيل في
بلاد الجليد حيث يدوم الليل ستة
أشهر ويعقبه النهار بعودة مفاجئة
|
! ومما تحيلوا فيه، أولاً، نفي
الأحداث التي جرت فجر الأحد: انفتاح
القبر، واختفاء الجسد. أو ليس من
المحتمل أن يكون يسوع قد أغمي عليه
فقط، وهو علي الصليب، وأن يكون ذاك
الإغماء قد أوهم الناس بموته
السريع، وأن يكون قد خرج من القبر
بعد أن ثابت إليه حواسه ؟ .. إننا
نتصور بعسر أن يكون مثل هذا
الافتراض قد استرعي النظر! فموت
يسوع واقع لم يثبته فقط الإنجيليون
الأربعة، بل أعمال الرسل أيضاً (2 : 25
– 32، 13 : 26 – 3.)، والرسول بولس، أكثر
من مرة، في رسائله (كورنثوس 15 : 3 – 5،
كولوسي 2 : 11 – 12 و 3 : 3)، وبولس من أصل
يهودي فريسي يعرف من أين تؤكل الكتف
! .. ذاك الرجل الذي عذب وجلد، وظل
علي الصليب ثلاث ساعات نهكت قواه،
أليس من الطبيعي أن يكون قد فارق
الحياة !؟ أو لم تكن الطعنة بالحربة
كافية لأن تجهز عليه ؟ وعلي افتراض
المستحيل – أي ذاك الإغماء المزعوم
– فإن مائة رطل من الطيب – 32 كيلو –
موضوعة عليه، ومن حوله، كان لابد أن
تؤدي إلي اختناقه ! .. وقد وضع رينان
حداً للجدل، بقوله : "إن أثبت
ضمانة يملكها المؤرخ في قضية من هذا
النوع، إنما هي حقد خصوم يسوع
وتحفظهم" ! أجل، لقد كان لرؤساء
الكهنة أكثر من مصلحة في التيقن من
موته
|
. فلنفرضه إذن مات ودفن : أفما كان
بوسع التلاميذ أن يفلحوا في اختطاف
الجثة ؟ لقد ورد في إنجيل متي أن
اليهود قد اختلقوا فوراً تلك
الأسطورة. فإن رؤساء الكهنة
والشيوخ حالما أوقفهم الحراس علي
حقيقة الأمر العجاب، "تفاوضوا
وأعطوا الجند مالاً كثيراً، قائلين
: "قولوا إن تلاميذه جاءوا ليلاً
وسرقوه، ونحن نيام، وإذا نما ذلك
إلي الوالي فنحن نرضيه ونجعلكم في
مأمن"، فأخذوا المال وفعلوا بحسب
ما تلقنوا، فشاع هذا القول عند
اليهود حتى اليوم" (متي 28 : 12 – 14)
|
هل راجعت تلك الإشاعة؟ يميل البعض
إلي الأخذ بذلك، منذ أن نشرت، سنة
193.، كتابة منقوشة باليونانية، عثر
عليها – علي ما يظن – في الناصرة،
وترجع، علي ما يبدو، إلي عهد
طيباريوس : وهي براءة من الإمبراطور
تنزل عقوبة الموت بمقتحمي القبور
"الذين يدحرجون الأحجار"،
ولعل الإشاعة التي روجتها السلطات
اليهودية قد بلغت إلي أذني بيلاطس،
فالتمس من روما تعليمات في شأن تلك
"الجنايات" إذا تكررت. إشاعة
مختلفة ! ولا نري بأي رشاقة تمكن
التلاميذ من أن يحملوا الجسد من غير
أن يوقظوا الحراس (1).
|
. هناك من أقلعوا عن الجدل في
نظرية سرقة الجسد فأنكروا واقع
القيامة إنكاراً شاملاً. فمنذ
الأجيال الأولي من تاريخ المسيحية
قام سلقيس (وهو محجاج مناهض
للمسيحية) يساند النظرية القائلة
بأن قصة القيامة محض وهم تولد في
مخيلة امرأة متهوسة: المجدلية. (وقد
ألمع رينان إلي ذلك، بعد قرون كثيرة)،
من البديهي أننا إذا تتبعنا مثل هذا
النهج، لم يبق لنا في التفاصيل
المعينة أي شأن. فإذا كان الحديث
كله من نسج الخيال، فقد بات بإمكان
التلاميذ أن يتوهموا، بكل نزاهة،
إنهم وجدوا القبر خالياً، ويتصوروا
أنهم شاهدوا المسيح حياً. ويمسي هدف
النقاد، والحالة هذه، أن يدرجوا
حدث القيامة بجملته في نطاق ذاك
العالم الخرافي ذي الحدود المبهمة،
حيث يختلط الواقع بالوهم، ويفقد
روح التحليل حقوقه
|
! ليس من أساس لأي من تلك
المحاولات "التعليلية".
أفلعلهم يريدون التعريض بظاهرات
التوهم الجماعي؟ قد يحدث، ولا شك،
مثل تلك الظاهرات. ونعرف أمثلة
كثيرة خيل فيها إلي جمهور من الناس،
عن سلامة راهنة في النية، أنهم
شاهدوا، حقيقة، ما لم يكن بحقيقة. (فالكنيسة
تقف موقف التحفظ الشديد من تلك
الظاهرات، وتخضع أخبار تلك "الرؤي"
لفحص صارم)، بيد أن ما يميز التوهم
الجماعي إنما هو اشتراك جميع
الحاضرين فيه، وانجرافهم جميعاً في
تيار اليقين … ولكن، ما الذي نقع
عليه في أخبار "القيامة"؟ شهود
يمارون في التصديق، ويتقلبون في
الشك: لم يكن الرسل من المتهوسين
ولا من أصحاب الرؤى ! ولم يكن
باستطاعة إيمانهم أن يختلق موضوعه،
ومثل توما وحده كاف للدلالة علي ذلك
|
. وأما أن يذهب إلي أن القضية قضية
"مشاهدات" صوفية، فذلك أيضاَ
مما ينافي النصوص. وقد كتب لوازي –
مصيباً – وهو ليس ممن يتهمون
باستساغة التعاليل الخارقة : "لم
يكن غرض الرسل والرسول بولس التحدث
عن مشاعر ذاتية، فإنهم يتكلمون عن
حضور المسيح حضوراً واقعياً
خارجياً محسوساً، وليس عن حضور
مثالي، ولا، بأولي حجة، عن حضور
خيالي"
|
. "قام من بين الأموات !" :آية
من قانون الإيمان يجب أن تؤخذ
بمعناها الحرفي، ليس فقط في نظر
المؤمن، بل في نظر المؤرخ أيضاً.
ومهما بدا لنا مذهلاً، فيسوع قد خرج
من القبر، وعاش أربعين يوماً عيشة
ثانية. وذلك واقع تاريخي، مثل سائر
أحداث السيرة، بل يمكن تاريخه:
فيسوع قد خرج من القبر، وبدأ مرحلة
وجوده الجديدة، في "اليوم الثالث"
– علي حد تعبير قانون الرسل – أي في
اليوم الثالث بعد موته
|
.. وهذا الإيضاح يورده الإنجيل
بصورة لا جدل فيها. فقد ورد في
الروايات الأربع أن القيامة قد
حدثت في "اليوم الأول من الأسبوع".
فالسبت – عند اليهود – هو خاتمة
الأسبوع، كاليوم السابع الذي
استراح فيه الله بعد الخلق. ومن ثم
فالأحد هو – بلا مراء – مطلع
الأسبوع. فالقيامة قد تمت إذن في
اليوم الثالث بعد الوفاة، وفي ذلك
ما ينسجم وما أنبأ به يسوع نفسه،
بحسب رواية القديس متي ( 16 : 21، 2. : 19)،
والبشير لوقا (9 : 22، 18 : 33)، وأما
البشير مرقس، فمع أنه أثبت هو أيضاً
نفس العبارة "اليوم الثالث"،
فقد عمد مرتين إلي استعمال عبارة
أخري: "وبعد ثلاثة أيام" (8 : 31،
1. : 34)، ويعلل ذلك عادة اليهود في
إدخال اليوم الأول واليوم الأخير
في قياس المدة … ولكن ألا يومئ هذا
الرقم إلي الاعتقاد المأخوذ عن
تعليم الرابيين، بأن الروح كانت
تحوم، متوجعة، في جوار الجسد الذي
فارقته، فلا تغادره نهائياً إلا في
اليوم الثالث؟ لقد ذهب بعضهم إلي
هذا التساؤل. أو لم تقل مرثا – أخت
لعازر - ليسوع: إنه لم يبق ثمة من أمل
لأن أخاها كان قد مضي عليه في القبر
أربعة أيام ؟
|
لقد قضي يونان ثلاثة أيام في جوف
الحوت، كذلك ابن البشر أيضاَ في
مطاوي الأرض، وتلك هي "آية يونان"
التي كان قد أنبأ بها يسوع نفسه. لقد
رد الوحش فريسته، والموت طريدته ! ..
وسري الخبر سريعاً، غدوة الصبح،
بين جماعات المؤمنين الواجمين
المكتئبين … وبعد فترة من الزمن،
يوم قررت الكنيسة أن تميز فصحها من
فصح إسرائيل. اختارت "يوم
القيامة" لإقامة شعائر العيد :
فيوم الأحد، عندنا، إنما هو ذكري
القيامة …
|
|
. إنه، ولا شك، في غاية الوعورة –
إذا لم نقل من المتعذر – أن نربط
الأحداث التي تخللت حياة يسوع
الناهض بتواريخها. فالذي يؤخذ من
إنجيل البشير متي (28 : 1.) وإنجيل
البشير مرقس (16 : 7) هو أن المسيح قد
ظهر لتلاميذه في الجليل أولاً،
وأما إنجيل البشير يوحنا فيلهم أنه
ظهر في أورشليم، وإنما يجب أن نلحق
تلك الأخبار بعضها ببعض، عندما
نطالعها، وتلك هي إحدى مهمات
المفسرين: أن يعملوا علي استكشاف
تلك الأحداث في ترابطها التاريخي.
وأكثر تلك التفاسير شيوعاً أن
المسيح قد ظهر للتلاميذ في المدينة
المقدسة أولاً، ثم ظهر لهم بعد ذلك
في الجليل، وكانوا، بعد الفصح، قد
قفلوا إلي موطنهم
|
. وإنما ثمة ملاحظة واجية، أخطر
بما لا يقاس مما سبق، ولعلها تلهم
شرحاً. فمما لا نزاع فيه أن الظروف
الحياتية التي تميزت بها سيرة
المسيح بعد القيامة، ليست هي نفس
الشروط التي خضع لها في الفترة
الأولي، ويتبين ذلك بوضوح من قراءة
النصوص الإنجيلية، كما أن ذلك جزء
من التعليم المأثور في الكنيسة.
فجسد المسيح لم يخضع، بعد القيامة،
لما خضع له قبلها من قيود. ويبدو أن
حضوره في موضع ما، كان رهن إرادته،
لقد قال للمجدلية، وقد سارعت إليه
منفعلة : "لا تلمسيني !" وأما
توما، المتريب، فقد تقدم إليه يسوع
بأن يضع يده في جنبه المفتوح. وكان
"يظهر" لتلاميذه، وتلك لفظة لم
تكن قط قد وردت في الإنجيل بهذا
المدلول، ويؤخذ منها، علي ما يبدو،
أن التلاميذ ما كانوا ليشاهدوه، لو
لم يشأ لهم ذلك
|
. هناك تفاصيل كثيرة تلح في
الإشارة إلي الميزات الغريبة التي
اتصفت بها حياته الجديدة. فالمسيح
قد ظهر لتلاميذه، وهم في غرفة موصدة
المنافذ. فخيل إليهم أنهم يرون
طيفاً. (لوقا 24: 36، يوحنا 2. : 19)، وإذ
كان مع تلميذي عمواس، إذا به يتواري
عنهم، ويختفي من أمامهم اختفاء (لوقا
24 : 31)، وقد اتخذ أشكالاً غريبة.
فالمجدلية قد توهمته البستاني،
وتلميذا عمواس قد "أمسكت أعينهما
عن معرفته" (لوقا 14 : 16)، وظهر
للتلاميذ في "هيئة أخري" (مرقس
16 : 12)، وبطرس نفسه، مع أقطاب
التلاميذ، عند شاطئ بحيرة الجليل،
خاطبوه وما عرفوا أنه هو (يوحنا 21 : 4)
|
. هل فكر في هذه التحولات ذاك الذي
ترك لنا الحديث الغريب، حيث جاء :
"لم أكن في الظاهر ما كنت في
الواقع ! "، ومع ذلك – وهذا مما
يتجاوب والقضايا التي أتينا علي
ذكرها – لم يكن شئ أبعد عن فكرة
الإنجيليين من أن يحسبوا المسيح،
بعد قيامته، مجرد خيال. فقد قال
لتلاميذه المجتمعين، وقد ذعروا من
حضوره بينهم : "لم هذا الاضطراب،
ولم الهواجس تنبعث في قلوبكم؟
انظروا يدي ورجلي ! فإني أنا هو !
جسوني وانظروا فإن الروح لا لحم له
ولا عظم كما ترون لي " (لوقا 24 : 38
– 4.)، وإذ كانوا بعد متذبذبين، غير
مصدقين من شدة العجب، قال لهم : "هل
عندكم ههنا طعام؟" فقدموا له من
طعامهم سمكاً وشهد عسل. " (لوقا 24 :
36 – 43) … سوف يكتب القديس إغناطيوس
الأنطاكي، منذ نهاية القرن الأول :
"أما أنا فإني لواثق أن يسوع
المسيح كان له جسد، حتى من بعد
قيامته، وأنه أكل وشرب مع تلاميذه،
وإن بات متحداً بالآب اتحاداً
نفسياً"، وبالإمكان أيضاً أن
نورد علي سبيل التفكهة البرهان
المدون في "رسالة الرسل"
المنحولة : "الشبح الشيطاني لا
يترك أثر قدمه في الصخرة !"
|
. من النقاد من يتبين – توهماً –
في الأناجيل، نظريتين متباينتين في
القيامة: إحداهما روحية، "تذهب
إلي أن الناهض لم يظل خاضعاً لشروط
الحياة البشرية المألوفة"،
والأخرى تقول "برجعة المسيح إلي
الحياة"، ثم يصرح، بعد ذلك، أن
النظريتين "متنافيتان". ذلك،
ولا شك، صحيح في النظام البشري
الطبيعي، ولكنا ألسنا، ههنا، في
نظام يفوق الطبيعة؟ لابد من
التسليم بأن يسوع، بعد موته، قد ظهر
في طبيعة لم تكن محض بشرية، بالمعني
الحصري، وأنه كان بوسعه، وهو متلبس
بجميع خواص الجسد، أن يفلت مما نخضع
له من قيود ! فكأن الألوهية فيه قد
ازدادت، بفضل الموت، سيطرة علي ذاك
الغشاء الجسدي
|
. لقد رأي الرسول بولس، في معرض
كلامه عن قيامة الأموات، في فقرة
مشهورة من رسالته الأولي إلي
الكورنثيين، "أن كل إنسان موعود
بذاك التحول عينه"، قد يقول قائل
: "كيف يقوم الأموات؟ وبأي جسد
يرجعون ؟" – يا جاهل ! إن ما
تزرعه، أنت، لا يحيا إلا إذا مات.
وما تزرعه فليس هو الجسم الذي
سيكون، بل مجرد حبة من الحنطة،
مثلاً، أو غيرها من البذور. إلا أن
الله يؤتيها جسماً علي ما يريد، لكل
من البذور جسمه المختص به
|
. "كل الأجساد ليست واحدة، بل
للناس جسد وللبهائم جسد آخر،
وللطيور أخر، وللأسماك آخر.
والأجسام أيضاً أجسام سماوية
وأجسام أرضية، بيد أن بهاء
السماوية منها نوع، وبهاء الأرضية
نوع أخر، وبهاء الشمس نوع، وبهاء
القمر نوع آخر، وبهاء النجوم نوع
آخر، حتى إن نجماً يمتاز عن نجم في
البهاء. فهكذا قيامة الأموات: يزرع
الجسد بفساد ويقوم بلا فساد، يزرع
بهوان ويقوم بمجد، يزرع بضعف ويقوم
بقوة، يزرع جسد حيواني ويقوم جسد
روحاني" (1 كورنثوس 15 : 35 – 44)، لقد
كان إذن جسد المسيح القائم –
بالمعني الذي أفصح عنه الرسول بولس
في هذا النص – جسداً بشرياً
حقيقياً ولكن "ممجداً"
|
أفلا يحق لنا أن نلتمس في هذا
التعريف بالذات، تفسير ما يبدو لنا
متناقضاً في النصوص الإنجيلية؟ إن
مفاهيم الزمان والمكان، تتصل
اتصالاً وثيقاً بوضعنا الإنساني،
وهي التي تفرض علينا قيوداً مرهقة.
ولكن هل الجسد "الممجد" خاضع
لها أيضاَ؟ أو لا يستطيع أن يكون
هنا وهناك في ذات اللحظة، وقد سقطت
عنه حواجز المكان، وبات أمسه ويومه
وغده نقطة متجمعة في الأبدية، حيث
صار إلي تمامه ! أولا ينبغي أيضاَ أن
نجد دعامة هذا الافتراض، في موضع
آخر من نفس الرسالة (15 : 5 – 8)، حيث
يلمح الرسول بولس إلي ظهورات يسوع
مدة الأربعين يوماً، بعد القيامة،
ويدرج في ذات النطاق، وكحدث شبيه
بها كل الشبه، الظهور الذي أكرمه به
يسوع، في طريق دمشق، مع أنه جري بعد
أربعة أعوام، إذ كان المسيح قد صعد
إلي السماء منذ فترة طويلة؟
|
. ذاك معني القيامة، كما كان يسوع
نفسه قد أنبأ بها. وقد قال
للتلاميذ، ساعة حضر عليهم مجتمعين :
"ذاك ما قلت لكم، إذ كنت بعد معكم:
إنه كان لابد أن يتم جميع ما كتب عني
في ناموس موسى، وفي الأنبياء
والمزامير" (لوقا 24 : 44). لقد كانوا
ملتئمين في ذات العلية التي كان
يسوع – من قبل أربعة أيام، أثناء
العشاء – قد قدم لهم فيها جسده ودمه.
وكانوا يتحدثون عن الأمور الغريبة
التي جرت في الصباح، وعن القبر
الخالي، وعما خبرت به النسوة، وما
عاينه بطرس ويوحنا. وكانوا قد
تحصنوا منيعاً، لما باتوا فيه من
شدة الخوف من ضغائن اليهود، وكان
اثنان من التلاميذ – ربما من أولئك
السبعين الذين كان يسوع قد وكل
إليهم مهمة التبشير – قد وصلا إلي
العلية ملتهثين، وأخبرا التلاميذ
بأن المعلم قد إلتقاهما وتحدث
إليهما، في طريق عمواس، علي بعد
غلوات من أورشليم … فثار جدال في
أقوالهم. لقد كانت غيوب الدنيا
محومة فوق تلك الحفنة من الرجال،
وكانت نفوسهم حافلة بذاك الأمل
الذي ظل العقل يأبى التسليم به. إذ
ذاك ظهر لهم يسوع. وقال : "لا
تخافوا"
|
. مثل هذا الظهور قد حدث مراراً
كثيرة، بل أكثر مما يأتي الإنجيل
علي تفصيله : فسمعان بطرس قد أكرم
بأحدهما، وبولس قد ذكر ظهوراً آخر
شهده لا أقل من خمس مائة شاهد.
وأولئك الرجال والنساء الذين كانوا
قد عاشوا – منذ أكثر من سنتين – في
ظل الغيب، ولم يستوعبوه، إذا بهم
يقذفون في صميمه، فتتضعضع حياتهم
اليومية، وما كانوا قد استعادوه،
حالاً، من مهام الصيد، وأشغال
المهنة
|
. إلا أن بعضهم ظلوا مكابرين: "
فإن توما، أحد الإثنى عشر، الذي
يقال له ذيذمس (أي التوأم)، لم يكن
معهم حين جاء يسوع. فقال له
التلاميذ الآخرون: "لقد رأينا
الرب !". أما هو فقال لهم: "إن لم
أر أثر المسامير في يديه، وأضع
إصبعي في موضع المسامير، وأضع يدي
في جنبه، فلن أومن !"
|
. "وبعد ثمانية أيام كان
التلاميذ أيضاَ في الداخل، وتوما
معهم، فأتي يسوع – والأبواب موصدة
– ووقف في الوسط، وقال : "السلام
لكم !"، ثم قال لتوما : "هات
إصبعك إلي ههنا وانظر يدي، وهات يدك
وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل
مؤمناً "، أجاب توما، وقال له :
"ربي وإلهي !"، قال له يسوع :
" أفلأنك رأيت آمنت؟ طوبى للذين
يؤمنون ولم يروا" (يوحنا 2. : 24 –
29). مشهد رائع بقوة حقيقته، يبدو فيه
التلميذ، - مثل ما عرفناه في سائر
الإنجيل – مدققاً، متيناً،
محجاجاً، ويتجلى فيه المسيح رفوقاً
بالمرتابين، وقل ما يضاهي ذاك
المشهد تأسية لضعف الإنسان،
وتعهداً للقلب المضعضع، بالأمل
والمساندة
|
. ثم كانت الظهورات في الجليل. وقد
أشارت الأناجيل المؤتلفة إلي أحدها.
(متى 18 : 16)، ولكن البشير يوحنا،
خصوصاً قد أراد له فصلاً ولا ريب
إضافياً، وشبه ملحق بالإنجيل، وقد
ألمع إليه بوضوح إنجيل بطرس
المنحول، في نص مجذوم، لسوء الحظ:
"لقد كنا، نحن تلاميذ السيد، في
الدموع والكمد، فرجع كل منا كئيباً
إلي بيته. أما أنا سمعان بطرس وأخي
اندرواس فقد احتملنا شباكنا وقصدنا
بحر الجليل، يرافقنا لاوي بن حلفا
الذي كان السيد قد …"، وقد ذكر
يوحنا من الحاضرين بطرس وتوما
ونثنائيل الذي من قانا الجليل،
وابني زبدي واثنين آخرين، وكانوا
قد صرفوا الليل في الصيد، ولم
يصيبوا شيئاً. فعند الصباح، صاح بهم
من الشاطئ رجل مجهول: "هيا فتيان،
هل عندكم شئ للأكل؟" قالوا: "لا
!" فقال لهم : " ألقوا الشبكة من
جانب السفينة الأيمن، فتجدوا"،
فألقوها، فلم يعد في وسعهم أن
يجتذبوها لكثرة السمك !" (يوحنا 21
: 1 – 15)
|
.. وكان يوحنا أول من أدرك الأمر،
فقال لبطرس: "هو الرب!"، فأسرع
زعيم الرسل وائتزر ثوباً له – لأنه
كان عرياناً – وألقي بنفسه في
البحيرة، وازدلف إلي يسوع. لقد كانت
معجزة الصيد، قبلاً، قد أشرعت
للنور قلب أولئك الرجال البسطاء،
وها هي المعجزة نفسها، فوق ذات
المياه، تتم عليهم ثانية نور الهدي.
كانت المعجزة الأولي قد نصبت
للكنيسة معالمها الأولي، فجاءت
الثانية شبه وعد بتلك المصادرات
الكبيرة التي سوف يوفق إليها، عن
قريب، صيادو البشر!
|
. إن التعاليم الأخيرة التي
ألقاها يسوع علي أتباعه، في تلك
الساعات الحاسمة التي أوتي فيها –
لتدعيم إيمانهم – حياة ثانية، قد
هدفت إلي إعداد الكنيسة لمصيرها،
وتفقيهها نهائياً في رسالتها
|
. "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم،
وعمدوهم باسم الآب والابن والروح
القدس. فمن آمن واعتمد يخلص، ومن لا
يؤمن يقضي عليه، وها هي ذي الآيات
تصحب المؤمنين، باسمي يخرجون
الشياطين، وينطقون بألسنة جديدة،
ويأخذون الحيات بأيديهم، وإن شربوا
سماً قاتلاً فلا يضرهم، ويضعون
أيديهم علي المرضي فيبرأون … وها
أنا معكم كل الأيام، إلي انقضاء
الدهر" (متي 28 : 18 – 2.، مرقس 16 : 15 –
19)
|
منذ تلك اللحظة غدت واجبات
الكنيسة وحقوقها راسية لا مراء
فيها. ففي إثر معجزة الصيد، وبعد
الوجبة التي ذهب فيها بعض من المائة
والثلاث والخمسين سمكة المنتزعة من
الشبكة، قال يسوع لسمعان بطرس :"يا
سمعان بن يوحنا أتحبني أكثر من
هؤلاء ؟" قال له :"نعم، يارب،
أنت تعلم إني أحبك". قال له :"إرع
خرافي !". ثم قال له ثانية :" يا
سمعان بن يوحنا، أتحبني؟" قال له
:"نعم يارب، أنت تعلم إني أحبك!"
قال له :"إرع نعاجي!" ثم قال له
ثالثة:" يا سمعان بن يوحنا،
أتحبني؟" فحزن بطرس من ذاك
الإلحاح، وقال له: يارب، أنت تعرف
كل شئ، وأنت تعلم إني أحبك".
|
.. قال له يسوع :" إرع نعاجي" (يوحنا
21 : 15 – 17). لقد أراد الراعي الصالح.
قبل أن ينطلق، أن يعهد بقطيعه إلي
من كان أقدرهم وأولاهم. وقد قبل
بطرس بالمهمة. بالرغم مما بادره به
المسيح حالاً من نبأ استشهاده: "الحق
الحق أقول لك: إنك إذ كنت شاباً، كنت
تمنطق نفسك، وتمضي حيث تشاء، ولكنك
متي شخت، ستمد يديك، وآخر يمنطقك
ويذهب بك حيث لا تشأ !" (يوحنا 21 :
18)، وهكذا تراءى، من خلال تلك
النبوءة الكالحة، الصليب الذي سوف
يردي عليه سمعان الملقب بالصخرة.
ولكنه لم يجزع، بل أذعن لمصيره، في
قرارة قلبه. فقال له يسوع :"اتبعني
!"، وانتحيا ناحية من ضفاف
البحيرة، عند تلك الشواطئ الغبراء
السوداء تارة، والوردية الفاهية
تارة أخري، حيث الرمال مرقطة
بأصداف صغيرة براقة … النصح أخير،
أم لتوجيهات حاسمة؟
|
.. هكذا قضي أولئك الرجال أريعين
يوماً في ذاك الجو من الحقيقة
العلوية. وأصبح مفهوماً أن يكون
إيمانهم قد اقتبس من تلك المعايشة
رسوخاً لن تزعزعه الأيام. وفي ذات
يوم، بالقرب من المدينة المقدسة.
وعند أكمة الزيتون حيث كانوا قد
واكبوه ظافراً، وإذ كان يسوع يتحدث
إليهم، بسط يديه ليباركهم، وفيما
هو يباركهم، بدا – وهو في وسطهم –
كأنه ينفصل عنهم نحو الفضاء رويداً
رويداً، إلي أن تواري عن أعينهم،
تاركاً لهم الفرح!
|
|
لقد كتب بولس، في رسالة إلي
الكورنثيين، ثلاثين سنة تقريباً
بعد تلك الأحداث :" إن كان المسيح
لم يقم، فكرازتنا إذن باطلة،
وإيمانكم أيضاً باطل !" (1 كورنثوس
15 : 14). وقد اتخذت الكنيسة ركناً
لبنائها، ذاك الحدث الخارق الذي لا
يطيق الملحدون إلا أن يدرجوه في
عداد الأساطير، والذي شطبه رينان،
ضمنياً، من سيرة المسيح، إذ ختم قصة
حياته بالدفن. وإنه لينتصب في صميم
لاهوت الكنيسة كما في صميم
مسلكيتها، رسم المعلم الذي سحق
الموت، ومنه ينبعث الرجاء المسيحي
برمته، لأنه "إن كان رجاؤنا في
المسيح، في هذه الحياة فقط، فنحن
أشقي الناس أجمعين !" (1 كورنثوس 15
: 19) …
|
|
. إن الأهمية التي يوليها
المسيحيون عقيدة القيامة، لهي أعظم
من أن تكون محض اكتراث تاريخي.
فحياة يسوع الثانية ليست مجرد
مرحلة خارقة، وفصلاً إضافياً ألحق
بسيرته. ولأمست المسيحية مذهباً من
بين المذاهب السلوكية، لو لم تنطلق
بها "قيامة المسيح" من "المسلكية"
إلي أجواء الميتافيزيقية. فمن أخذ
بهذه العقيدة فإن مأساة الحياة
عينها، وسر مصير الإنسان،
يستضيئان، في نظره، بضياء جديد. ولا
نذهبن إلي القول بأن عقيدة القيامة
ما كانت سوي اجتهاد لاهوتي جادت به
قريحة بولس النافذة. فلئن كان رسول
الأمم. قد بسط تلك العقيدة بتقص لم
يجاره فيه أحد، في رسالته الأولي
إلي الكورنثيين، فحسبنا أن نطالع
خطاب بطرس، في مطلع "أعمال الرسل"،
فيتضح لنا أن الفوج المسيحي الأول
كله قد أولي ذاك الحدث نفس الأهمية.
وعندما وقعت القرعة علي متياس ليحل
محل يهوذا، في مصف الرسل، فإنما
انتدب ليكون "شاهداً"، مع
الرسل، للقيامة. وبعد ذلك، فإن آباء
الكنيسة كلهم، من أكليمنضس
الروماني إلي أغناطيوس الأنطاكي،
وبوليكربوس السمرني، وديونيسيوس،
وأوريجنس، وأوغسطينوس، قد ركزوا
تعليمهم علي ذاك المؤدي، وأعلنوا
المكانة الأساسية التي يحتلها
الاعتقاد بيسوع القائم من بين
الأموات
|
. إن القيامة هي أسمي وعود
المسيحية، فيسوع الناهض من بين
الأموات إنما هو "باكورة
الراقدين" (1 كو 15: 2.). وكما نجا
يسوع من القبر، بإمكان كل إنسان، في
إثره، أن يرجو ذلك أيضاَ. "ها إني
أكشف لكم سراً – يقول الرسول بولس
– لن نرقد كلنا، ولكن سنتحول كلنا،
في لحظة، في طرفة عين، عند البوق
الأخير، لأنه سيهتف بالبوق، فينهض
الأموات بغير فساد، ونحن نتحول"
(1 كورنثوس 15 : 51)
|
. وقد مر بنا أن الاعتقاد بقيامة
الأموات، كان قد شاع شيوعاً واسعاً
عند اليهود، عهد المسيح. لقد كان
الصدوقيون يمارون فيه، وأما الشعب
فكان آخذاً به. وقد قالت مريم، أخت
لعازر، وكأنها تردد حقيقة مألوقة:
"أنا أعرف أنه سيقوم في اليوم
الأخير !" (يوحنا 11 : 24)
|
. ذاك الرجاء الفخيم، كغيره من
مؤدبات الإيمان المسيحي، كان قد
أنبت شيئاً فشيئاً، وارتوي ونضج في
أعمق أعماق الوعي الإسرائيلي. وكان
الأنبياء العظام قد نادوا بأن
الموت سوف يسحق إلي الأبد ( أشعيا 25 :
8) :"ويبيد الموت علي الدوام،
ويمسح السيد الرب الدموع عن جميع
الوجوه " – "ستحيا موتاك وتقوم
أشلائي ! استيقظوا ورنموا، يا سكان
التراب" (اشعياء 26 : 19) – "وكثيرون
من الراقدين في تراب الأرض
يستيقظون بعضهم للحياة الأبدية،
وبعضهم للعار والرذل الأبدي !" (دانيال
12 : 2) وأي مؤمن لم يكن قد روعي في
أذنيه صيحة أيوب المتهللة،
ومناداته الخالدة :"وبعد ذلك
تلبس هذه الأعضاء بجلدي، ومن جسدي
أعاين الله !" (أيوب 19 : 26)
|
. ذاك هو الرجاء الذي أفرغت عليه
قيامة المسيح كمال اليقين. لقد كان
يسوع، إبان حياته، قد أنبأ بمصيره
الفاجع، مستعيناً برمز الهيكل،
ينقض ثم يعاد بناؤه في ثلاثة أيام،
بيد أن أتباعه لم يفقهوا التلميح،
كما أنهم لم يصيبوا في "آية يونان"
من الفهم أكثر مما أصابوه في رمز
الهيكل. ولكن، من يوم فتحت القيامة
بصائرهم، فهموا وعرفوا وأعلنوا أن
ذاك الحدث يعينهم شخصياً، بل يعني
أيضاً جميع الناس. وما كان في العهد
القديم مجرد استشمام، وعقيدة
متنازعة، أضحي، في العهد الجديد،
ركن الدين كله. أجل، لقد قال يسوع
لمرتا، أخت لعازر، بعبارة صريحة
:"أنا القيامة والحياة! من آمن
بي، وإن مات، فسيحيا !"، ولكن من
كان – يوم ذاك – ليفهم تلك الكلمات
فهماً محكماً؟ ففي هذه القضية، كما
في جميع القضايا الأخرى، قد اجتاز
الوحي آخر مرقاة له
|
. ولكن الاعتقاد بالقيامة لا
ينحصر فضله في أن يولي الإنسان
الفاني رجاءاً خالداً: بل هو يجدد
نظرة الإنسان إلي الحياة عينها.
فالمذاهب الفلسفية القديمة كلها
تقريباً قد علمت أن الجسد شر كله،
وأنه سجن وقيد وقبر، وقد كتب
أفلاطون، في كتابه فيدون :"إن
النفس لن تملك ذاتها تماماً إلا إذا
تجردت من الجسد … ولن نحيا إلا إذا
تحررنا وتطهرنا من غضاضات الجسد
…". أما المسيحية فهي تشرك الجسد
مع النفس في نصرها الخالد، وتقول
بالإنسان الكامل، مؤلفا من نفس
وجسم متكافلين في المسؤولية، هكذا
أمسي امتهان الجسد أمراً مستحيلاً،
وقد دعي إلي الاشتراك، ضمن الكيان
الكلي، في المجد المقيم. "إن كان
الأموات لا يقومون، فلنأكل ولنشرب،
فإنا غداً نموت !" (1 كورنثوس 15 : 32).
ولكن، بما أنهم سوف يبعثون،
فالنزاع، في ذواتنا، وفي الآخرين،
حرمة ذاك الجسد المدعو إلي المجد.
قيامة المسيح هي إذن باكورة قيامة
كل إنسان، وهي، في ذات الوقت، إثبات
الكرامة البشرية. فشتان بينها وبين
أن تكون محض أسطورة أو رمز أدبي، بل
هي شهادة للواقعية في أسلم
معانيها، وعليها ترتكز، في آخر
المطاف، المسلكية والمجتمعية
المسيحية
|
. "أين غلبتك، أيها الموت؟ أين
شوكتك، أيها المنون !.." صرخة
متهللة أطلقها الرسول بولس، فكانت
كلمة عزاء ترجعت أصداؤها في
التقليد المسيحي كله. ولكنه أضاف
:"إن شوكة الموت هي الخطيئة" (1
كورنثوس 15 : 55 – 56): كلمات قلائل تلخص
فيها مصير الإنسان بأسره.
فبالخطيئة قد ولج الموت في
التاريخ، ولكن يسوع قد أثبت أن
الإنسان – مهما تفاقم بؤسه وذله –
بإمكانه أن يسيطر عليهما، بحسب وعد
الله. فالاشتراك في "يسوع القائم
من بين الأموات"، إنما هو اشتراك
في العبرة السامية التي آتاناها في
حياته. فالشر والموت سيان، وكل ما
ينحاز فينا إلي الخطيئة، ينزع إلي
الموت، وكل انصراف إلي الخير هو
خطوة شطر الخلود ! فالقيامة ليست
فقط واقعاً تاريخياً، وحدثاً
محصوراً ضمن حيز معين من المكان،
ولحظة من الزمان، بل هي الشرح الذي
به تستضئ مأساة الإنسان بالذات:
فنحن لا نحفظ فينا للحياة إلا ما
كان خليقاً بأن يبقي، ويخلد إلي
الأبد
|
. قبل أجيال كثيرة، وفوق تلك
البقعة بالذات حيث عاش يسوع وتألم
وقهر الموت، شعب صغير كان قد استكشف
شيئاً فشيئاً تلك الفكرة الجليلة:
أن الله ليس هو فقط "القدرة"
"الإرادة" و"سر الأشياء"،
بل هو، فوق كل شئ، الخير المطلق
والكمال الأسمى. ثم إن ذاك الشعب
راح يتقصى مبادئه، شيئاً فشيئاً،
ويتحري مقتضيات حياته، ويعمل علي
إخضاع مراسيم شريعته لأحكام العلي.
وقد تفرد، من دون الشعوب كلها،
بإعلان أن ليس من ناموس خلقي إلا
وعلي الله مرتكزة. وكان عليه أن
يذهب إلي أبعد من ذلك، فيبلغ ذروة
منيفة لم تبلغ إليها ديانة أخرى،
جامعاً، ضمن نظام واحد، ما بين
المسلكية والمتافيزيقية، وموفراً
للناس وسيلة لتحقيق حلمهم القديم،
بأن "يصبحوا كآلهة"
|
. إن الفرح الذي استودعه المسيح
تلاميذه، يوم فارقهم، إنما ارتكز
علي هذا اليقين. ولقد تحقق، إذ ذاك،
ما كان إسرائيل قد أوجسه: وهو أن
الوجود والخير شئ واحد، ليس فقط في
الله، بل للإنسان أيضاً، وأن
الوسيلة الوحيدة للاشتراك في ما هو
إلهي وأبدي هي أن ننفذ، منذ هذه
الحياة الفانية، المثل التي تركها
لنا يسوع تعليماً وعملاً، والشرائع
الصعبة التي تقضي بها المحبة
|
|
. كان علي يسوع أن يعود إلي أبيه،
وعلي الناس أن يحرموا رؤيته. ولكنه،
وإن غاب، فقد ثبتت رسالته، وكان علي
التلاميذ أن يذيعوها في الأرض،
تنفيذاً لما أمروا به. بعد بضعة
أجيال، كان بذار الحقيقة كالحنطة
التي في مثل الإنجيل، قد ألقي في
جميع حقول الإمبراطورية، وأخذ يحمل
حصاداً عجاباً، وإذا بتعليم ذاك
المقهور، في أقل من ثلاث مائة سنة،
قد اجتاح العالم. وذلك، لعمري، سر
آخر يعجب به التاريخ، ويشهد للمسيح
بطريقة أخري
|
. لكن ألم يترك المسيح، حين صعوده
إلي السماء، سوي رسالته؟ إن
الإنسان، إذا زال عن وجه الدنيا، لا
يبقى منه سوي ذكري وبضع كلمات مدونة
أو مرددة، وأعظم العباقرة، إذا
استذكرهم الناس من خلال مآثرهم أو
تعاليمهم، بدوا كأنهم رسوم متحجرة.
وأما الله الحي، فالذي خلد منه علي
الأرض إنما هو حضوره، فضلاً عن
تعليمه. فالمسيحية، من حيث هي
إيمان، ليست انتحال مذهب فلسفي، بل
هي أكثر من ذلك: اتحاد بالمسيح يقضي
باندماج الذات في نموذجها: وما
يدعوه المسيحيون "نعمة"، إنما
هو امتداد حياة الله المتجسد، في كل
منا
|
. في النص الإنجيلي الذي يروي حياة
يسوع الثانية، نقع علي حادث غاية في
البسطاء، ولكنه حافل بثروة روحية
مضمرة. وقد رواه البشير لوقا (24: 13 –
35) وأثبته البشير مرقس (16 : 12). وهو
حادث ظهور المسيح، في طريق عمواس،
لاثنين من تلاميذه، خاملي الذكر،
رجلين من بين الناس. وقد باتا في
الكنيسة، بعد الرسل الاثني عشر
والنساء الفاضلات، أول الأعضاء
الذين نجد لهم في العهد الجديد
ذكراً مبسطاً. ولعل المسيح ما
آثرهما بذاك الكشف الخاص، إلا
لأنهما كانا كباقي الناس، ولأنهما
كانا باكورة وصورة مسبقة لكل خافت
الذكر في قطيع المسيح. لقد أحبا
يسوع من مجامع نفسيهما، ولكنهما لم
يفهما رسالته فهماً كاملاً، فباتا
يحملانها علي مفهومها الزمني. وكان
اسم أحدهما كلوبا وهذا جل ما نعرف
عنهما
|
. كانا ذاهبين، والغم ملء
فؤادهما، مما شاهداه من مأساة
الصليب. هل كانت عمواس – القرية
التي كانا شاخصين إليها، - هي مسقط
رأسهما؟ وهل كانا راجعين لاستعادة
مهامهما اليومية، - تلك المهام
التافهة التي يعني بها الآدميون –
بعد أن فشلت المغامرة الكبرى التي
كانت قد انتزعتهما فترة من الزمن،
من مألوف حياتهما، وسمت بهما فوق
ذاتيتهما؟ يتجادل اليوم في تحديد
موقع عمواس الإنجيل. فالبعض
يجعلونها في " القبيبة"، وهي
قرية تبعد عن أورشليم نحو ستين غلوة
(12 كيلو متراً تقريباً)، وهو الرقم
الذي أثبته البشير لوقا … والآخرون
يجعلونها في "عمواس" الحالية (أي
نيقوبولس القديمة)، مراعين في ذلك
أقدم التقاليد، إلا أن عمواس
الحالية تبعد عن أورشليم 16. غلوة (3.
كيلو متراً)، وفي ذلك ما يجعل
مستعبداً سفر التلميذين ذهاباً
وإياباً في ذات النهار. وعمواس هذه
هي اليوم، عند حواشي أكمة يمتد منها
النظر إلي حقول يافا، قرية صغيرة
وضاءة، شبيهة بكثير من القرى
الأخرى، يسروها وجميزها ومنازلها
المكعبة البيضاء، وساقيتها
الصغيرة المتعرجة في قاع واد أغبر.
ويقوم في الأطرون، علي مقربة من
القرية، دير للرهبان الترابيست، لم
يكتفوا بأداء شهادة العبادة
المسيحية، حيث ريما ظهر المسيح، بل
حولوا، بكدهم، تلك البقعة المقفرة
إلي جنة زاهية بالكروم وأشجار
البرتقال والزيتون، وبسطوا،
بأعراق جبينهم، فوق هاتيك الآكام
الصهباء، وشاحاً من السبل الأشقر،
وإنه ليتبادر إلي الذهن صورة
البركة الإلهية، دليلاً حياً علي
أن النعمة قد عرجت بذاك المكان
|
. "وفيما هما يتحدثان
ويتباحثان، دنا إليهما يسوع نفسه،
وأخذ يسير معهما. إلا أن أعينهما قد
أمسكت عن معرفته، فقال لهما :"ما
هذه الأقوال التي تتبادلانها في
طريقكما ؟"، فوقفا واجمين. ثم
أجاب واحد منهما، اسمه كلوبا، وقال
له :"أو تكون الغريب الوحيد في
أورشليم الذي يجهل ما جري فيها، في
هذه الأيام !" فقال لهما :"وما
هو ؟" فقالوا له: ما يتعلق بيسوع
الناصري الذي كان نبياً مقتدراً في
الفعل والقول، أمام الله وأما
الشعب كله، كيف أسلمه رؤساء الكهنة
وحكامنا للقضاء عليه بالموت،
وصلبوه. وكنا نؤمل، نحن، أنه هو
الذي يفتدي إسرائيل. ولكن، مع هذا
كله، فاليوم هو الثالث لوقوع تلك
الحوادث. بيد أن نسوة منا قد
أذهلننا، فإنهن بكرن جداً إلي
القبر، ولم يجدن جسده، بل جئن يخبرن
أن ملائكة قد ظهروا لهن، وقالوا إنه
حي. فمضي نفر منا إلي القبر، فوجدوا
الأشياء علي ما قالت النساء، أما هو
فلم يروه !"
|
. فقال لهما :"ما أقصر أبصاركما،
وما أبطأ قلوبكما في الإيمان بكل ما
نطقت به الأنبياء ! أما كان ينبغي
للمسيح أن يكابد هذه الآلام، ويدخل
إلي مجده؟". ثم فسر لهما ما يختص
به في الأسفار كلها ذاهباً من موسى
إلي جميع الأنبياء
|
. واقتربوا من القرية التي كانا
يقصدانها، فتظاهر أنه قاصد إلي
مكان أبعد، فألحا عليه، قائلين :"أقم
معنا، فإن المساء مقبل، والنهار قد
مال، فدخل ليمكث معهما. ولما اتكأ
معهما، أخذ الخبز، وبارك وكسر
وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه
… ولكنه غاب عنهما. فقالا أحدهما
للآخر:"أو لم تكن قلوبنا مضطرمة
فينا، إذ كان يخاطبنا في الطريق،
ويفسر لنا الكتب!". وقاما علي
الفور، ورجعا إلي أورشليم، فوجدا
الأحد عشر ومن معهم، مجتمعين، وهم
يقولون :"لقد نهض الرب حقاً وظهر
لسمعان"، فأخذا هما يخبران بما
جري في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر
الخبز (لوقا 24 : 15 – 35)
|
. نود أن نغادر صورة المسيح، عند
هذا المشهد الرائع ببساطة، والذي
برع رامبراندت في تمثيله في اللوحة
الصغيرة المحفوظة في اللوفر: غرفة
يغمرها الظل، ويبدو فيها النور
مشعاً من المسيح نفسه. وعلي
المائدة، وسط السماط الأبيض، الخبز
الذي سيفيض عليه المسيح بركة مقدسة.
ويري المسيح في دعاء، وذانك
البائسان، في اللحظة التي تنبهت
فيها روحهما، أحدهما في حركة
انكفاء والآخر في عبادة وخشوع. بعد
لحظة سوف يتواري الزائر العجيب،
بيد أن كل شئ، في ذاك المشهد، ينبئ
بأن حضوره، وإن كان محجوباً، سوف
يظل راهناً، وأن ذاك الضرم الذي سعي
في كيانهما، إذ كان يخاطبهما، سوف
ينشب، إلي الأبد، في قلوب المؤمنين
|
. ذاك التأجج في القلب، هل هو إلا
دلالة ذاك الحضور؟ .. فهو الذي صور
للشهداء أن يبذلوا حياتهم، بحسب
الجسد، في سبيل حياة أخرى أكثر
خلوداً ! وهو الذي ساند أعاظم
الصوفيين في بطولاتهم اللهيبة،
ومآسيهم الصامتة. وهو الذي يحمله
أصغر المؤمنين في ذاته، كل مرة يلقي
نفسه، بعد تناول "الخبز"، أوفر
قوة، وأكثر سخاء، وأشد تلهباً.
ولسوف تتوالى علي شفاه أتباع
المسيح، عبر الأجيال، تعابير ذاك
الحضور :"زريعة الحب الخفية"،
"والوهدة التي لا قرار لها"،
متنوعة في الأداء، متفقة علي
الواقع. ولسوف يقول بولس :"أنا حي
! ولكن لا أنا بل المسيح حي في !".
ومنذ ألفي سنة تقريباً، جمهور لا
يحصى من الرجال والنساء قد حدثوا عن
ذاك الحضور. وكأنه أشد الحقائق
رسوخاً. فيسوع، من بعد صعوده، لا
يزال ذاك الكائن البشري الحي الذي
أحبته قلوب، في زمانه، ولا تزال
تنبض بحبه قلوب أخري. بعد أجيال
مديدة
|
. لقد كتب المؤرخ الألماني ولهوسن
:"نوجس أن رسالة المسيح لم تستوف
أجلها، بل صرمت منذ مطلعها"،
ربما صح ذلك، ضمن الحيز الإنساني.
ولكن تلك الرسالة إنما هي، بالضبط،
من تلك التي لا يستطيع الموت ولا
الإخفاق أن يصرمها : فهي تواصل
سعيها في نفوس أتباعه
|
. قبيل أن يتواري يسوع عن أنظار
تلاميذه، أودعهم هذه الكلمات التي
اختتم بها البشير متى إنجيله :"ها
أنا معكم كل الأيام ، إلى انقضاء
الدهر !". كان المسيح، سحابة
الثلاثين شهراً التي وقفها لتحقيق
رسالته في الأرض، قد تأتي في إعداد
أولئك الرجال الذين انتدبهم
لخلافته. انتخبهم، هذبهم، نظم
أحوالهم. وهبهم أجود ما في قلبه.
فكان عليهم، منذ تلك اللحظة أن
يشهدوا للحق الذي أكرموه به
|
|
. وإن تاريخ الإله الحي يمتد – مذ
ذاك – في تاريخ "الجسد السري"
الذي يحييه المسيح بحضوره، أي في
تلك الحقيقة الرائعة، الناشبة في
قلب الدهور: كنيسة يسوع المسيح
|
|
|
. "كانت نظرية "اختلاس
الجسد" رائجة في الجيل الثامن
عشر، تبناها صموئيل ريماروس، إلا أن
نقاد القرن التاسع عشر، حتى أشدهم
تحرراً (شتروس مثلاً) قد عدلوا عنها
عدولاً نهائياً |
(1) |