مقاطعة في الإمبراطورية
. كان قد انقضى زهاء قرن ، منذ يوم فرضت الجيوش الرومانية على الشرق سيادتها، وضمت إلى المغانم الضخمة التي سطا عليها أبناء الذئبة ، تلك البقعة الصغيرة، بقعة أرض كنعان . ففي سنة 63 ق . م .كان بومبيس قد اخترق الأسوار المقدسة المحيطة بأورشليم ، وسط سيل من الدماء، وبعد حصار دام ثلاثة أشهر . وقد عمدت السياسة الرومانية ، في آسيا ، كما في كل مكان ، إلى ذاك المزيج المتعادل من اللين والقوة ، الذي بات نموذجاً فذا في أساليب الاستعمار . فقد حفظ للحواضر الهلينية استقلالها، وهي " المدن العشر" ، وفي كثير من البلدان ،تركت السلالات القومية على عروشها، وكلفت بالسهر على الأمن وعلى جباية الضرائب . وأما في فلسطين ، فإذ ثبت عجز السلالة الأسمونية ( هم سلالة المكابيين ) عن الانسجام ومخططات السياسة الكبرى، أقامت روما ، لليهود ، أسياداً جدداً ، من صلب أسرة بدوية ، كانت قد أظهرت أطيب صفات المرونة الدبلوماسية ،عهد الفتن القومية التي نشبت بين بومبيس وقيصر . ففي 4. ق.م ، كان هيرودس بن أنتيباتر ، أحد المقربين في البلاط ، يتأهب لأن يضع على رأسه تاج داود ، وذلك بمجرد قرار من مرقس أنطونيوس وأكتافيوس وليبدوس . وأضطرب شعب الله ، مدة أثنين وثلاثين سنة ، أن ينساق لعصا ذاك الأدومي ، شبه البربري ، الذي كان آباؤه غلفاً قبل زهاء قرن ، والذي لم تكن أبهته الراهنة لتحجب عن الناس أساليبه التعسفية وطباعه الشرسة
! في العهد الذي نهض فيه يسوع لرسالته كان كثير من مباني هيرودس لا يزال بعد قائماً في فلسطين . ولا جرم أن استتباب الأمن ، مدة 69 سنة ، ينشئ ازدهاراً راسخاً ، حتى وإن ارتكز الأمن على الإرهاب . لقد كانت منشآت ذاك البناء العظيم ، إذ ذاك ، في أوج سناها .. فقد كان له قصر من الرخام ، غربي المدينة ؛ والقلعة التي دعاها " أنطو نيا " ، تملقاً لولي نعمته أنطونيوس ؛ وعلى بعد أربعة أميال من صهيون ، وفوق قمة جبل " الهيروديون "، وهو الحصن الذي أعده لنفسه ضريحاً . بيد أن الهيكل ، ما بين شتى المباني الأخرى ، كان ، ولا شك ، فخر ملكه ودرة منشأته . وقد جاء أرحب من هيكل سليمان ، ومنيفاً عليه أناقة عظيمة بعدد أساطنته وضخامتها ، وببهرجة زخارفه . وكان ، في أيام المسيح ، لم يزل بعد قيد الإنشاء ، ولم يفرغ من بنائه إلا ثلاثين عاماً بعد موت المسيح ، أي بضعة أعوام قبل أن يهدم ، سنة 7. م ، إلى الأبد
. ومعلوم أن هيرودس لم يكن له حرية التصرف إلا ما تكرم به عليه أسياده . فكانت سياسته الخارجية موجهة بتوجيهات روما ، وجيشه تحت تصرف أوغسطس في جميع الأحوال . وكان - إلى ذلك كله - قد أجري اتفاق صريح على أن يكون لسلطته صفة شخصية محضة، فلا تنتقل إلى ورثته إلا بموافقة الإمبراطور
. وذلك ما تحقق في سنة 4 ق . م . ، عندما انتقل هيرودس إلى ربه ، حاملا في يده أمام محكمة القدير، كتاب جرائمه . وكان قد بقي له ، من أبنائه الكثيرين ، هيرودس فيلبس الأول ، و هيرودس أنتيباس ، و أرخيلاوس ، و هيرودس فيلبس الثاني ؛ وكانوا قد نجوا من سيفه . هذا وكان ابنه أرسطوبولس ، الذي كان قد أوقع به في السنة 7 ق . م . قد ترك خلفا، سوف يصبح هيرودس أغريبا الأول
. لقد كان هيرودس يعلل النفس بالحفاظ على وحدة مملكته . ولكن ما إن حملت جثته إلى " الهيروديون "، فوق محمل من ذهب مرصع بالحجارة الكريمة، يواكبه الجيش وأفراد الأسرة المالكة، وفي أيديهم الطيوب ، حتى انفجر الخلاف بين الورثة . فعمد الإمبراطور إلى الخطة التي توسم فيها أعظم مراعاة للمصالح الرومانية : وهي تجزئ الدولة الهيرودية ، إلى دويلات أصغر ، وإمارات بحجم الكف
. في الوقت الذي برز فيه المسيح لرسالته ، كان أبناء هيرودس الأربعة كلهم في قيد الحياة، وإنما لم بكن لأحدهم سلطة راهنة . أما البكر - هيرودس فيلبس الأول - فكان قد تخلي عن العرش تنحية صريحة ؛ فراح يعلل النفس ، بعد فوات المملكة، بتولي رئاسة الكهنوت . ولكنه ، عوض أن يكافأ على ترقبه الطويل ، بالتاج الأبيض والمدرعة المقدسة ، اللذين هما من شارات رئيس الكهنة ، ورمز وظيفته ، رآهما ينتقلان ، على التوالي ، إلى أخوال أمه ، فإلى جده ، فإلى أحد عمومته ، وهو لا يزال كاهنا بسيطا، عرضة لاستهزاء هيروديا ، زوجته الطموح . وأما هيرودس فيلبس الثاني ، و هيرودس أنتيباس ، فكانا متجاورين على ضفاف بحيرة جنيسارت .. أحدهما واليا على غولانيتيدية وتراخونيستيدية، وبتانية، وبانياس ؛ والآخر على الجليل و بيريه . بل كانا على اتفاق ! وتلك –في الأسرة الهيرودوسية- صفة تسترعي الانتباه. وكان فيلبس رجلا بسيطا وادعاً يعيش ، في مقاطعته ، عيشة الملاكين ، ولا يغادرها إلا لما كان يقضي به الشرع من رحلات الحج إلى الهيكل . وكان يهتم للقضايا العلمية، ولا سيما للجغرافية ؛ وقد بحث في ينابيع الأردن . وأما هيرودس أنتيباس – وهو الذي يكتفي الإنجيل بتسميته " هيرودس "، في روايته لمصرع المعمدان – فقد كان ،في ميوله ، أقل رزانة من أخيه . وإذ كان أكثر ثراء من شقيقه فقد كان له جيش وبريد. وعرف بهوايته للمآدب والنساء
. و كانا كلاهما يطمحان إلى مواصلة ما بدأ فيه أبوهما ؛ بيد أن وسائلهما لم تكن على جانب من الوفرة . وقد أراد كل منهما أن يملك مدينته في جوار تلك البحيرة الرائعة التي كان الرابيون يقولون فيها : " إن الله قد اصطفاها لراحته " . فبنى أنتيباس حاضرته على حفافي المياه تتكسر عند أقدام صروحها، وسماها طبرية، تنويها بإجلاله لطيباريوس ، سيد العالم ، يوم ذاك . وأما أخوه فقد أضاف إلى عاصمته ( وكان اسمها بانياس ، فدعاهـا " قيصرية فيلبس " ) عاصمة جديدة، اختار لها ، شرقي مصب الأردن ، عند البحيرة، أكمة جميلة، تبردها ريح الشمال . هناك انتصبت " بيت صيدا الجديدة "، يهيمن عليها شيء من الكآبة ، بسبب حجارتها النسفية السوداء. وقد دعاها " يوليادا " إكراما لذكر"آل يوليا "، تلك الأسرة الرومانية التي أخرجت قيصر الدنيا، فكان لها ذلك شرفا سنيا )
. وأما أرخيلاوس فكان في بادئ الأمر قد استولى على أجمل، حصة من أرض فلسطين..أي على السامرة ، وأدومية، واليهودية مع عاصمتها أورشليم . ولكن أرخيلاوس كان قد ورث عن أبيه الشراسة والعنف من دون الذكاء ؛ وعوض أن يعمل بنصيحة أوغسطس ، ولي نعمته ، في التزام التأني ، راح يستبد ويتعسف ، خالعا الأحبار عن مناصبهم تحكما ، معملا السيف والنار في أقل بادرة من بوادر التشكي ، مرابيا على الناس في الضرائب عنتا واعتباطا . . . . ففي السنة العاشرة من ولايته -السادسة بعد المسيح - ذهـب وفد من يهود فلسطين إلى روما يشكون إلى الإمبراطور مظلمتهم من استبداد أرخيلاوس وعنفه وشراسته ؛ فغضب أوغسطس ، وأزله عن عرشه ، ونفاه إلى مدينة فينا في بلاد غاليا، وقطع عنه موارده . وحل محله ، منذ ذاك ، على اليهودية ، وال روماني
. كانت فلسطين إذن ، في عهد المسيح ، مجزأة إلى ثلاثة أجزاء . وذلك ، لعمري ، أكثر مما تطيقه رقعة صغيرة لا تعدو مساحتها 28 ألف كيلومتر مربع ، حتى وإن ضمت إليها أرجاء كبيرة من صحاري شرقي الأردن وأرض أدوم . وأما عدد سكانها فلم يكن ليتخطى المليون نفسا . بيد أن ذاك التعقيد السياسي -الذي يشعر به الإنجيل إلى حد بعيد- يجب ألا يحمل أحدا على الوهم في حقيقته : فإنه لم يكن ليقع شيء في تلك الولايات ، إلا بإذن روما . فقد كان والي اليهودية، من صرحه الذي في قيصرية الساحل ، يشرف على كل شيء ، إشرافا محكما ، " من دان إلى بئر سبع "، كما كان يقال قديما . وكان للولاة الرومانيين ، في ذلك العهد، حقوق واسعة : في يدهم الجيش والخراج والعدالة والشرطة ؛ ولهم وحدهم الحق على الموت والحياة. وكان لوالي سورية -مبدئيا- حق الإشراف على والي اليهودية وأدوم والسامرة . ولكنه في الواقع ، لم يكن ليتدخل إلا في أحوال الخطر الداهم
. في الوقت الذي ظهر فيه يسوع علانية ، كان واليا على سورية بومبونيس فلاكس ، أحد شركاء طيباريوس ، قديما ، في المراغات . وأما اليهودية فكان عليها بنتيس بيلاطس ، خامس ولاتها . هؤلاء الموظفون الكبار الذين كانوا يحكمون الأقاليم باسم الإمبراطور، كانوا بعيدين كل البعد عن نمط أولئك "القناصل " و " المعتمدين "، الذين كان همهم الشاغل الإثراء على أكتاف رعاياهم . فقد كان الولاة -عادة - من طبقة الأعيان النبلاء ومن رهط أولئك الأرستقراطيين الذين كانت تبلغ بهم حضارتهم المرهفة إلى ضرب من الكياسة المستخفة المتريبة . ولكن من غير أن يؤول ذلك إلى انتقاص ما لهم من مناقب النشاط . وأما أن يكون فيلون - وهو أحد يهود الإسكندرية- قد رسم ، عن بيلاطس ، صورة كالحة الألوان ، واتهمه بالتبذير والقسوة والجور، والتشجيع على العنف والرشوة، فليس في ذلك ما يدعو حتماً إلى الثقة بأقواله . إلا أننا نعرف ، من ناحية أخرى، أن بيلاطس قد أزيل عن منصبه ، سنة 36م، بسبب ما ارتكبه من أعمال وحشية ! ذلك أن نفسية مثل هذا الموظف كانت تتميز بعاطفتين .. فمن جهة، عاطفة الخوف الدائم من أن يسعى به - أمام القيصر- وفد يهودي ، يدعمه ، في روما، أحد اليهود الكثيرين المقربين من البلاط ؛ ومن جهة أخرى، عاطفة الاحتقار العميق الذي كان يضمره لرعاياه
. إن من يعنى بتاريخ المسيح ينبغي ألا يفوته وجود أولئك القاهرين في أرض فلسطين . فمن خلال صفحات الإنجيل ، تتراءى صورة الجندي الروماني بخوذته ،وقميصه الأحمر . ولا بد من أن نوجس وقع أصوات العسكر الروماني ، في ليالي أورشليم ؟ هاجعاً فوق مرتبات حصن "أنطو نيا ". وإن محاكمة المسيح ، وخاتمتها الفاجعة، لا تفهمان إلا إذا تذكرنا ما كان لبيلاطس من صلاحيات ضخمة. فاليهودية لم تكن فقط أرضا محتلة، استقرت فيها جيوش غريبة . بل كانت أشبه بمستعمرة بات فيها المستعمرين يمارسون رقابتهم على جميع ماله صلة بمصالحهم ، ولكن من غير أن يختلطوا بسكان البلاد
. وكان الرومانيون ، فى أسلوب تنظيمهم الاستعماري ، يعمدون إلى تلك الواقعية التي ترتكز عليها نفوذهم . فقد كان عملاؤهم يستعبرون الفوارق المحلية للسيطرة على البلاد المحتلة وضبطها بوجه أوثق . فما كانوا يسوسون صقلية وسر دينية -مثلا- وقد ألفتا، منذ سالف الأزمان ، جور القراطجة "، كما كانوا يسوسون فلسطين ؛ وكانوا يعلمون حق العلم أن لا سبيل إلى استئصال ما كان ناشبا، في نفسية أهلها، من عزة قومية، ترقى جذورها إلى آلاف السنين . فكانوا يعملون على تعزيز شعور اليهود بأنهم ما زالوا يتمتعون بمطلق حرياتهم في جميع القضايا التي كانوا يتمسكون بها ، ولا سيما قضايا الدين . بيد أن ذلك لم يكن ليصرفهم عن تنحية الأحبار العظام عن مناصبهم ، إذا لم يلزموا جانب الخضوع ؛ وقد عزلوا منهم ثمانية فى الفترة الممتدة بين سنة 6 وسنة 41 . وأما الضرائب -وكانت باهظة- فكانوا يعهدون بجبايتها إلى " العشارين " ، وهم موظفون ، من أهل البلاد، كان عليهم سخط الشعب . وكان الرومانيون -إذا اقتضى الأمر- يعملون على إثارة الخصومة بين مختلف الأحزاب ، وقد باتت ، في أورشليم ، على تناحر عنيف
. وإذا كان لا بد من الإفصاح ، فإن أقوى شعور كان يضمره الرومان لليهود، إنما هـو شعور بالازدراء التام ، وشبه مزيج من الامتهان وقلة الاكتراث بل من التنكر المتعمد، نوعا ما . . . لقد كان بيلاطس ، ولا شك ، يرى في رعاياه، !شبه بهائم غريبة، أو شبه أولاد متخلفين لا بد من تأديبهم ، بين حين وآخر، تلافيا للمشاكل ، ولكن من غير أن يكترث لهم اكتراثا جديا ! وقد اتضح ذلك في موقفة" من الجمهور، يوم جرت محاكمة يسوع . وكان بيلاطس، عن حكمة وعن ميل معا ، يتوقى المكوث في أورشليم ، وسط ذاك الشعب الهائج وصياحه الدائم . فقد كان أهنأ له أن يعيش قيصرية، تلك الحاضرة الحديثة المبنية على شاطئ البحر ؛ فما كان يشخص إلى المدينة المقدسة إلا في المواسم ، إذ كان الحجاج يتقاطرون إليها ، فتصبح كثرتهم فيها ، مبعثاً دائماً للفوضى
. ومن الثابت إذن أن الشعب المختار ، بعظمته الراهنة ، وصبوته الدهرية إلى التماس ديانة أخلص ، ورسوخ معتقداته التوحيدية ، ولجاجته الدائبة في مجابهة القدر ، قد جهله أولئك الموظفون الرومانيون جهلاً مطمئناً
! ولكن اليهود كانوا يواجهون ذاك الاحتقار المضمر، بعاطفة من الكبرياء ما كانوا ليبطنوها . كانت كبرياؤهم ، نوعا ما ، هـي الحصن الذي تحصنت به الأمة اليهودية، واحترزت به ، منذ خمس مائة عام ، من الانقياد لضغط الوثنية وتسويلاتها . وكانت ترتكز على يقينهم من أن امتياز إسرائيل، يعدو كل سلطة بشرية ، وأن الملابسات السياسية لن تتمكن منه ، ولا بوجه من الوجوه . لقد قال يسوع لأتباعه يوما : " وتعرفون الحق والحق يحرركم " ؛ ولكن اليهود احتجوا عليه قائلين : " إننا ذرية إبراهيم ، ولم نستعبد لأحد قط . كيف تقول أنت : أنكم تصيرون أحرارا ؟ " ( يوحنا 8 : 31 ، 35) . فالوالي ، والجنود الرومانيون ، والضرائب المفروضة للقاهرين ، كل ذلك لم يكن لليهود به كبير شأن : فالاستقلال الصحيح إنما يقوم في الداخل
أجل ! لقد كان شعب يعقوب وموسى والأنبياء، وهر في بأسه ، متيقناً، أكثر منه في أي وقت آخر، من أن الله يذود عنه . وقد ورد لرابي أليعازر، في تفسيره لأحد نصوص " سفر التثنية "، قوله على لسان الله :" كما تعترفون بي إلها وحيدا في الكون ، أعترف بكم شعبا وحيدا على وجه الأرض " ، فلئن كان الرومان يحتقرون اليهود، فقد كان اليهود يأبون أن يتوسموا في الرومان خلائق بشرية . ولسوف يصف بولس -وقد خرج من صلب ذاك الشعب عينه - تلك الحالة الذهنية، وصفا كاملا : " هو ذا أنت تسمى يهودياً ، وتتكل على الناموس ، وتفتخر بالله ، وتعرف مشيئته ، وتميز الأمور المتخالفة متعلماً من الناموس ، وتثق أنك قائد للعميان ، ونور للذين في الظلمة ، ومهذب للأغبياء ، ومعلم للأطفال ، ولك صورة العلم والحق في الناموس. . . " (رومية 2 :17 - 21 )
فبين هاتين القوتين المتباينتين ، لم تكن العلاقات على كثير من اللين والسهولة . وليس من عجب -والحالة هذه - أن يكون قد وقع . ، بينهما، حوادث كثيرة ، منها ما كان في نطاق صراع منظم ضد الرومان، أو ضد الأمراء الهيرودسيين عملائهم . وقد أشرنا إلى الحادثة التي خضبت بالدم عرش أرخيلاوس ، في مستهل ولايته ، يوم تحصن الثوار داخل الهيكل ، وهبوا يردون الهجمة تلو الهجمة ، وقد اضطر أرخيلاوس ، يوم ذاك ، أن يستعين على تحطيم هذه المقاومة، بجميع ما كان لديه من قوى مسلحة، فكلفه ذلك مصرع ثلاثة آلاف رجل ! ثم ، إذ كان أرخيلاوس في روما، تجددت الفتن ، وانتشر النار والدم في جميع أطراف البلاد : ففي اليهودية، هاجم ألفان من جنود هيرودس - كانوا في إجازة - الفيالق الرومانية . وفي بيريه، أحرق سمعان - وكان من الموالي المعتقين - قصر أريحا ، وأعلن نفسه ملكا . . .اضطرابات باطلة ، ومحاولات فاشلة فعندما كانت روما تطأ أرضاً ، كان من الصعب جداً أن تجلو عنها
. بيد أن هناك أحداثاً باتت أقل وطأة ، وإن لم تكن أقل دلالة فقد تعلم بنتيس بيلاطس - على نفقته - إذ كان بعد في مطلع ولايته ، أن يخبر ما كان لليهود من عزة نفس . وذلك أنه كان قد استقدم إلى أورشليم ، ليلاً ، بنوداً تحمل صورة الإمبراطور . فانتفض اليهود هولاً لمثل تلك الرجاسة ، وهرعوا إلى قيصرية يتوسلون إلى الوالي في إزالة تلك الشارات الكافرة . ولبث الجمع يصيح أما القصر خمسة أيام متتالية . وعبثاً توعد بإفنائهم عن بكرة أبيهم .. فقد كشف أولئك المؤمنون بالله عن صدورهم ، وأعلنوا إيثارهم للموت على الانقياد . وظلوا حتى فازوا بمطلبهم ، وعاد الوالي ، مرة أخرى ، وأمر بأن تعلق في قصر هيرودس دروع تحمل اسم الإمبراطور طيباريوس ؛ فتجدد الهياج نفسه ، وكاد أن يفضي إلى ما لا تحمد عقباه ، لولا تدخل الإمبراطور نفسه ، تدخلاً حكيماً ، وأمر بإزالتها
. لم يكن هناك إذن ، في أيام المسيح ، دولة يهودية ، بالمعنى الحصري ، بل نظام في منتهى الغرابة ، فريد في التاريخ ، وحصيلة تمازج صميم بين الدين والسياسة .فما كان العبراني المؤمن ليهتم لها إلا بمقدار ما كانت تتصل بالمصالح الروحية ، وصيانة الإيمان . وأما الدين ، فقد كان يقوم بوظيفة سياسية صريحة ، نظراً إلى أنه الدعامة التي يرتكز عليها الكيان القومي . ففي هذه الأوضاع ، كل قضية دينية تصبح ، حتماً ، قضية سياسية
. ذاك النظام السياسي ، الديني كان مندمجا في نظام الحماية الرومانية
. وكان الرومان يطلقون لرعاياهم حرية واسعة في كل نطاق ليس له مساس بمصالحهم المباشرة . وما دام النظام قائما والضرائب مدفوعة، لم يكن لهم أي رغبة في التدخل في النزاعات الكثيرة والمشاكل الطويلة التي كان يرتاب لها ذاك الشعب الغريب . لقد كان ذلك ، ولا شك ، منسجما مع الأساليب المرعية في روما ؛ بيد أن اليهود كانوا ، بذلك ، ينفلتون ، نوعاً ما، من ربقتهم . ولسوف يصحو الرومان من غفوتهم ، يوم اندلاع الثورة الكبرى (سنة 7. )، فتكون صحوتهم ، عليهم ، شديدة
. إن اللفظة الوحيدة التي يمكن أن نعرف تعريفا محكما، ذاك النظام السياسي -الديني ، الذي جرى عليه إسرائيل ، في حقبه الأخيرة، إنما هي لفظة " الثيوقراطية " ( حكم الله ) . وذاك هو التعريف الذي اعتمده إفلافيوس يوسيفوس ، حيث قال : . " إن بعض الأمم قد وضعت السلطة العليا قي يد الأفراد، وبعضها في يد الأقليات ، وبعضها الآخر في يد الشعب . ولكن واضع الشرع ، عندنا، لم يستهوه أي شكل من أشكال الحكم هذه . فأفرغ على دستوره صيغة يمكن تعريفها بلفظة- " ثيوقراطية "، فوضع السيادة كلها، والسلطة كلها، بين يدي الله "
. على رأس ذاك النظام الثيوقراطي كان يقوم الكاهن الأعظم ، الزعيم الديني ، سيد الحفلات ، والمكلف وحده بإقامة المراسيم الدينية ، في الهيكل ، في بعض المناسبات الكبرى، كعيد " التكفير" مثلا . ولكنه ، بسبب تلك الزعامة الدينية، كان قد أضحى ، في نظر الأمة اليهودية ، زعيمها السياسي أيضا . لقد كان شبه رئيس جمهورية وبطريركا، في آن واحد . وذلك أن الأسمونيين - وهم من سلالة المكابيين - من يوم استأثروا بالعرش والكهنوت الأعظم ، كانوا قد مهدوا السبيل لتوحيد السلطتين . بيد أن هيرودس ، أو لا ، ثم روما من بعده ، كانا قد نقصا أولئك الأسياد العظام جزءا كبيرا من دائرة نفوذهم ؛ وباستتباعهم ، تمكنا من فرض سيطرتهما مباشرة على السياسة اليهودية كلها . وكان الأحبار العظام ينتخبون ، مبدئيا، لمدة الحياة كلها . ولكن العادة جرت ، مرارا كثيرة، على تنحيتهم . ولما كانوا دائما من ذوي المطامح ، وغالبا من هواة الرشوة، فقد كانوا أبعد من أن يجسموا تلك السلطة الرزينة المفروضة في ممثلي الله العلي
وكانت هناك عشيرتان تتنازعان المدرعة والتاج : عشيرة بوئيتس ،وعشيرة حنان . وقد عد يوسيفوس حنان من أهل " الغبطة " لأن خمسة من بنيه -فضلا عن صهره - قد توالوا على تلك الوظيفة من بعده : وذلك دليل عصبية راسخة. ففي سنة 29 كان الصهر-قيافا- هو القائم بمهام ذاك المنصب الأعلى، وذلك منذ سنة 18. ولم يكن حنان ليغتم للأمر اغتماما مفرطا : فقد كان قيافا هزيل الشخصية جدا، يترك لعمه شرف القيام بمهمة المرشد والمشير
. وكان يعاونهم في ممارسة وظائفهم الكهنوتية، جمهور ضخم من الكهنة واللاويين ؛ منهم المكلفون بالذبائح والمراسيم المقدسة، ومنهم القائمون على بيت المال ، والواهفون ، والعازفون ، والحجاب . فكان يلازم الهيكل لا أقل من 25 ألف . تعيشهم الأموال الضخمة التي كان في يتبرع بها ليس فقط يهود الأرض المقدسة، بل اليهود المشردون قي جميع أطراف الإمبراطورية أيضاً . وكان لآل هارون وحدهم - وهم ذرية شقيق موسى، - حق القيام بالمراسيم المدققة، والتقادم العلنية ، والذبائح الكبرى. وأما اللاويون فكانوا منقطعين للمهام الصغيرة، يؤلفون شبه بروليتارية كهنوتية، لم تكن على وئام مع الطبقة الكهنوتية الراقية . بيد أن كلا الفئتين كانت قد فقدت معظم سيطرتها منذ يوم برز " الكتبة " للوجود
. كان صنف الرجال هذا قد نشأ في سبي بابل . فقد كان الشعب المختار"في تلك الحقبة من تاريخه ، بعيدا عن هيكله ، عاجزا عن القيام بمراسيم عبادته ، كما كانت تقتضيه الطقوس المفروضة، فراح يتشبث بما بقي له من كنز وحيد : الشريعة . وكان ذاك الكنز -لحسن الطالع- بما يتخطى حيز الزمن ، فأمكن حمله فوق، دروب الصحراء بعضه في المدارج ، ومعظمه في الصدور . فظهر إذ ذاك رجال ضليعون في التوراة، يرد دون نصوصها ويفسرون آياتها ، ويدرسونها بذاك التحذلق وذاك الانكباب الجلود اللذين برع فيهما الفكر اليهودي . وتألفت من حولهم ، حلقات من الأتباع كانوا يستمدون من تعليمهم تعزية راهنة . وهؤلاء المستمعون والتلاميذ هم الذين خلعوا على أساتذتهم لقب " راب " أو " رابي "، فراجت تسميتهم به ؛ ومعناه " سيد " أو " سيدي " . وعندما رجع شعب الله إلى أرض أجداده ، وأصبح فيها أمة منكمشة على نفسها، ظل نفوذ الكتبة على تزايد مستمر ، كيف لا وكانت عند جميع أسرار تلك الشريعة التي وجد فيها اليهود، لكيانهم ، خير ضمان . وكان الكتبة، جيلا بعد جيل ، قد أشبعوها بحثا وتفسيرا وتطبيقا على جميع الأحوال الممكنة، فاجتمع لديهم علم الكلام وعلم الفقه ، في آن واحد. وكانوا يؤلفون ، في أيام المسيح ، طبقة منظمة يشرف عليها نخبة من ألمع " علماء الناموس "، يدخل في سلكها منذ الحداثة ، ويسيطر عليها جو من التنافس النشط في جميع ما له علاقة بشؤون الروح . وكان لتلك الطبقة نفوذ أعمق ، بما لا يقاس من نفوذ الطبقة الكهنوتية التي باتت سجينة فرائضها الطقسية
. وكان لهاتين النزعتين - الكهنة والكتبة - أعضاء يملونها ضمن هيئة إدارية ، كانت تؤازر الحبر الأعظم في مهامه ، وتعرف باسم " السنهدرين الأكبر " .وكان السنهدرين ، في آن واحد ، شبه مجلس الشيوخ ، ومجلس حكومة ، ومحكمة عليا ، وأكاديمية لاهوتية . وقد ذهبت التقاليد إلى أن السنهدرين يرقى بتاريخه إلى عهد موسى ، يوم اتخذ من السبعين شيخاً أعواناً له في العمل . ولكن الواقع أن تلك المؤسسة ما نشأت إلا في غضون القرون الخمسة الأخيرة ؛ وكان أول من دعمها الملوك السلوقيون ؛ ثم اعترفت بها روما اعترافاً رسمياً واتخذتها ، خفية ، لبسط نفوذها على جميع الأمة . وكان السنهدرين ، في مجمله ، هيئة أرستقراطية ، يؤلف نواتها الأساسية " الشيوخ ورؤساء الكهنة " ، أي ممثلو الجبهتين : الكهنوتية والعلمانية . وكان يرأسه الكاهن الأعظم ، ويدخل فيه شرعاً ، كل الكهنة العظام المنتحين عن منصبهم . بيد أن عدداً كبيراً من الكتبة وعلماء الناموس كانوا قد انضموا إليه شيئاً فشيئاً ، فباتوا في صلبه ، عناصر أكثر نزوعاً إلى الشعب ، يستمدون من جدارتهم الراهنة ، نفوذاً متزايداً . هؤلاء السبعون ، كانوا ، في محفلهم ، يؤلفون جهازاً إدارياً معنياً بجميع المشاكل التي تتشابك فيها شؤون الدين والسياسة . وأمام محكمته سوف يمثل المسيح متهماً بجريمتين معاً : جريمة الخروج على الشريعة ، وجريمة إثارة الشغب ، وتشويش الأمن العام . وكان للسنهدرين حق النظر في كلتيهما ؛ بل الصواب أن كلتيهما كانت جريمة واحدة
. هذا التداخل بين السياسة والدين نجده أيضاً في المذهبين الكبيرين اللذين كانا يتوزعان الرأي إذ ذاك : مذهب الفريسيين ، ومذهب الصدوقيين . وتشير كل من هاتين اللفظتين إلى حزب سياسي وشبه فرقة دينية، في آن واحد، وتعني ، معاً ، وجهة نظر في قضايا الروح وموقفا سياسيا تجاه السلطة . . . وانقسام إسرائيل إلى هذين المذهبين قد نجم نجوما طبيعيا جدا من الظروف التاريخية التي وجدت فيها الأمة اليهودية، إثر رجوعها من الجلاء . فلقد نشأ فيها ما ينشأ دائماً في البلاد المحتلة، من توزع الناس إلى فئتين . فمنهم من وقفوا موقف التنكر الشديد للعوامل الأجنبية، ومنهم من اعتمدوا سياسة اللين ، وحاولوا أن يلتمسوا، في الأوضاع الراهنة : جميع ما ، تنضوي عليه من عناصر مرضية . فالفريسيون راحوا ينادون بديانة صارمة ، وحياة ممعنة في التشدد ؛ والصدوقييون التحقوا بتقليد قديم ، فراحوا يركزون على الشعائر جوهر حياتهم الروحية، ولا يتزيدون في ما يأمر به الشرع من فرائض باتت ، في ذاتها، على جانب عظيم من الوعورة
. كان الفريسيون من ذرية أولئك " الحسديم " الذين حرضوا على مقاومة عوامل الانحلال ، منذ يوم بدأت السلالة المكابية تخضع لعدوى التأثيرات الغريبة . . . إنه ليصعب علينا أن نطلق فيهم حكما عدلا ، وذاكرتنا حافلة بصدى التقريعات الهائلة التي تناولهم بها المسيح . فهل كانوا كلهم " منافقين " ، وكلهم " قبورا مبيضة " ؟ . . كلا" ! فالمسيح لم يشملهم جميعهم بالمذمة، بدليل أنه قبل الدعوة يوما إلى مائدة أحد أفرادهم . . . ولا شك أنهم قد قاموا، في تاريخ إسرائيل ، بمهمة مفيدة، جوهرية : فإنهم قد سعوا، أكثر من أية فئة أخرى ، إلى صيانة التراث الروحي ،في حذافيره ، وإن لم يكن نزوعهم إلى التشبث بالحرف ليخلو من بعض الأخطار
. ولم يكن عدد الفريسيين كبيرا جدا : فكانوا يقدرون بستة آلاف في فلسطين كلها . وكانوا ، في معظم الأحيان ، ينتمون إلى الأوساط الشعبية ، يمارسون فيها حرفة يدوية كالقصابة ، والعطارة ، والرعاية ، والنجارة ، والحدادة . ومع أن الإنجيل يشمل ، غالبا ، قي ذات الملامة، " الكتبة و الفريسيين " فإن معظم الفريسيين لم يكونوا من الكتبة " المهنيين "، كما أننا نعرف كتبة وعلماء ناموس ، لم يكونوا من الفريسيين . وأما في الدين فكانوا يذهبون مذهب التشدد . ولابد أنهم كانوا يسترعون الأنظار بتزمتهم ، ووقار مظهرهم ، والتمائم التي كانوا يحملونها فوق صدورهم سحابة النهار - مخالفين بذلك عامة الشعب اليهودي ، إذ أن اليهودي العامي كان بضع تلك العلبة الصغيرة المحتوية على بعض نصوص التوراة مدة الصلاة فقط - وأقمصتهم الطويلة العارية من الزينة . وكانوا، على زعمهم ، يهربون من ظاهر الشر، ويحرمون - طبعا - الزواج بالوثنيين . بل مجرد الاتصال بهم . وكانوا لا يلجون بيت روماني لا لأسباب خطيرة، ويعمدون ، في إثر ذلك ، إلى الإمعان في التطهر . هذا ، وكانوا يتخطون أحيانا ، في تدقيقاتهم الشرعية ، حدود المحال
. وأما الصدوقيون - وكانوا يدعون الانتساب إلى صادوق ، رئيس الكهنة في عهد داود و سليمان - فقد كانوا أشبه بمن ندعهم اليوم " بالمعتدلين "، وكان منبعهم تلك الأوساط الثرية التي ما فتئت ، في كل عصر وتحت كل سماء، تعتقد أن المغامرات الكبرى -روحية كانت أم وطنية- لا تستحق أن تبذل ، في سبيلها، رفاهية كريمة . فكانوا لا ينصحون بالمقاومة العنيفة، والتصدي بها لتلك السلطات الأجنبية التي لم يكن أحد لينكر عليها فضلها في صيانة الأمن ، داخل أرض كنعان . وربما يصح فيهم القول فيهم : " بأنهم أبدا يسعون وراء أهون الشرين ) . و لا يعني ذلك أنهم كانوا من كفار اليهود . وكل ما هنالك أنهم كانوا يؤثرون الأخذ بمدلول الشريعة -ولا سيما إذا كان من جانبهم - ويزدرون كل الازدراء الاجتهادات الكلامية التي تفرعت حول ذاك الجذع القديم الذي نبت من موسى. و لم يكونوا أكثر اعتقادا بتمحلات الفريسيين في شريعة السبت ، منهم بتلك البدع المتطرفة التي راح يروج لها القائلون بالحياة الأخرى وبعث الأموات. .
. هكذا كانت المذاهب موزعة في العهد الذي بدأ فيه المسيح يبث تعليمه . فالفريسيون من جهة، والصدوقيون من جهة أخرى . وأما الزيلوتيون فكانوا ، إذا صح التعبير ، في أقصى اليسار من النزعة الفريسية ، والهيرودسيون في أقصى اليمين من الحزب الصدوقي
. وإنما لا بد أن نلاحظ أن هؤلاء القادة من كلتا الفئتين ، كانوا يؤلفون أقليات منطوية على ذاتها، في عاطفة شديدة من الخيلاء . وكانوا جميعهم يضمرون الازدراء للرعاع السافل وللحثالات الشعبية : أما الفريسيون فلأنهم كانوا، في نظر ذواتهم ،راسخين في معرفة علم الله ؛ وأما الصدوقيون فلأنهم كانوا فقط من ذوي النعمة والثراء
.. وكان يطلق على العوام " لقب " عم هآريتس " أي ، أهل البلاد . ولكن اللفظة كانت قد اكتسبت ، في الاستعمال ، معنى ذميما، فـ "العم هآريتس " كانوا في نظر،علماء الناموس أشبه بالوثنيين : أو لم يكن أولئك الأوباش مثقلين بالنجاسات الشعائرية ؟ .
. الفريسيون ، و الصدوقيون والـ عم هآريتس . . . ما بين تلك الفئات الثلاث كان لا بد للمسيح أن ينطلق رسولا . كما أنه ، في حضرة الكاهن الأعظم ، وأمام ا السنهدرين ، كان لا بد أن يمثل متهما . .
. في تلك الحقبة من تاريخ البشرية، كان العالم الروماني قد بلغ أوجه ؛ وكانت الإمبراطورية قد مهدت للإنجيل ، بيئة طيعة. لانتشاره ، و للرسل ، وسائل النقل والاتصال ، وللدعوة المسيحية، ذاك السلام الذي سوف يمكنها من الانتشار في الأرض قبل انفجار الثورة الكبرى . فاصبح في إمكان المسيح أن يعالج مشاكل أهل ذاك الزمن ، بالحلول الناجعة . فهناك الأزمة الفكرية : وسوف يتدبرها المسيح بإرساء الأسس التي تقوم عليها كرامة الفرد، وتمهد السبيل لبناء فكرة جديدة عن الإنسان . وهناك الأزمة الخلقية، وسوف يهتم لها بإحداث انقلاب جذري قي المبادئ ، والرجوع بها إلى الله مباشرة، عوض أن تظل خاضعة للعقل وحده ، وللمصالح المدرجة في القوانين الجماعية . وهناك الأزمة الاجتماعية : ولسوف يعيد الإنجيل إلى الإنسان كرامته ، ويعلن أن الشريعة الضرورية الوحيدة إنما هي شريعة المحبة، فيملأ بذلك ، على الأذلاء والأرقاء، فراغ ترقبهم ، و يجري في عروق المجتمع دما جديدا . وهناك أخيراً الأزمة الروحية، تلك الصبوة المبهمة إلى تحقيق أهداف العدالة ، في هذه الدنيا ، والطمأنينة في الآخرة : ولسوف تفضي تلك الرغبة الدفينة، بفضل الإنجيل ، إلى عقيدة نيرة واضحة، وأنقى ،من كل عقيدة سواها . .
فلا شك إذن أن الإمبراطورية الرومانية ، في واقعها التاريخي ، قد هيأت ،
. لتلك الحبة المقذوفة في أرض فلسطين ، أن تترعرع سريعا وتمتد بعيدا . بيد أن كل شيء يدل على أن تلك الحبة كان لا بد مها، وأن العالم ، في قرارة ضميره ، كان يترقبها