خرج الزارع ليزرع

الخصم

. منذ حل الروح القدس على المسيح - وهو في بيت عبرا ، - من لدن الله الآب ، كان من البديهي ، على ما يبدو، أن يشرع في الاستجابة لمقتضيات دَعْوَته الرسولية ، ويأخذ هو أيضا ، في تعليم الجماهير ، كما فعل يوحنا المعمدان من قبله ، ضمن نطاق رسالته الخاصة . ومع ذلك فقد انقضت فترة لا تقل عن أربعة أشهر، قبل أن يفتتح بعثته الرسمية . وقد كانت تلك الفترة أشبه بفترة تأهب وترقب نرى فيها المسيح يقوم من الأعمال بما يؤذن بمآثره المستقبلية . ولكننا نصادف أيضا، في غضون تلك الفترة، أحداثا مميزة، تراءى من خلالها صورة المسيح ، في إنسانيته الكاملة . .

. هل كان المسيح ، من وراء ذاك التأجيل ، رغبة مضمرة، في أن يفسح ليوحنا مجالا كافيا لإنجاز رسالته ، وذلك بدليل أن يسوع لم يشرع في الكلام إلا من يوم ألجئ النبي الكبير إلى الصمت ؟ . . . ربما ! وإنما هناك حادثة غريبة – نجدها في الإنجيل – قد تحمل على الاعتقاد بأن هناك بواعث أخرى قد عللت ذاك التمهل . ولا تخلو تلك الحادثة، من خلال عدم وضوحها الكافي ؛ من أن تقذف بعض النور في ذاك الركن القصي من طبيعة المسيح الإنسانية، حيث بات ينبض وعيه الإلهي

. وإليك ملخص تلك الحادثة، كما يرويها البشير مرقس ، بأسلوبه الفطري : " وللوقت أخرجه الروح إلى البرية . وكان هناك في البرية أربعين يوما ، يجرب من الشيطان . وكان مع الوحوش ، وصارت الملائكة تخدمه " ( مرقس 1 : 12 -13 ) . ومن الواضح أن أحداث هذه الأزمة الطويلة لم يكن في وسع أحد أن يرويها وينقلها إلى الإنجيليين ، إلا ذاك الذي امتحن بها

. إن رغبة يسوع في الاعتزال ، بعد ما جرى له في الأردن ، لم تكن في مساق حياته ، سوى أمر طبيعي مألوف . ولكم من مرة نراه في الإنجيل ، يتنحى عن الجماهير ، ويلتمس ، في الخلوة، وجه ربه . ولسوف تكون تلك الحاجة الدائمة إلى التأمل مزية أساسية من مزايا شخصيته. " أما هو فكان في يعتزل في البراري، ويصلي " (لوقا 5 : 16 ) ؛ " وانصرف من هناك في سفينة إلى موضع خلاء منفرداً " (متى 14 : 13 ) ؛ " وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي ، وقضى، الليل كله، في الصلاة لله " (لوقا 6 : 12 ) . وقد كان للفظة " موضع خلاء " أي ( القفر )، عند الأسينيين ، مدلول روحي أكثر منه جغرافي : فالاعتزال في " القفر " كان يعني ، في نظرهـم ، الاعتكاف في العزلة المقدسة. ولا شك أن النفوس المقربة . ما فتئت تلتمس في التوحد والصمت ، وسيلة ضرورية للعمل

. لقد بات معلوما ، منذ الأحداث التي جرت في طور سيناء ، أن المرتفعات الجبلية تصلح لمخاطبة العلي . ولكنه معلوم أيضا، منذ أقدم العصور، أن القفار هي ملجأ الأرواح الخبيثة، تلك الأرواح التي كان يبذل لها التيس المثقل بأوزار إسرائيل (سفر اللاويين 16 ) . وأما الأربعون يوما فهي ، بالضبط ، المدة التي قضاها موسى في الجبل (خروج 34 : 28)، وهي الفترة التي صرفها إيليا للبلوغ إلى جبل حوريب (الملوك الأول 19 : 8) ، وهي اليوم ، عند المسيحيين ، فترة الصيام . فأي إغراءات عنيفة يتعرض لها الإنسان ، إذا أجهدت جسمه مشقات صوم بمثل تلك المد ة، وذاك التشدد. إن جبل " الأربعين " الذي تثبت فيه التقاليد خلوة يسوع ، هو ، في جوار أريحا، مرتفع كلسي ، يخد بياضه الصفيق ، مسيل أسود ؛ وقد علق في منحدره دير صغير بناه رهبان أرثوذكس ، هم خلفاء أولئك النساك الأقدمين الذين استوطنوا الجبل في القرن الخامس ، والذين لا تزال مناسكهم ترى كالنخاريب في الصخور . موضع من أشد المواضع جفوة، في ذاك القفر من صحراء يهوذا، حيث تحوم النسور وتعوي بنات آوى ! ويشرف النظر من قمة الجبل على مشهد فسيح رائع : فالأردن يتسحب وسط الرمال الذهبية، كخيط من لجين ما بلين وشاحين أخضرين ، في الشمال يطفو حرمون على الأفق بهامته البيضاء، فوق جبال السامرة المتشابكة ؛ في الغرب تلوح بعض جدران من أورشليم ، قابعة وراء شجيرات من الزيتون الفضي ، في فجوة هلالية الشكل ؛ وفي الجنوب ينبسط السهل ممعنا في الإقفار، يتلألأ فيه الملح في بريق متزايد، إلى أن يختفي في ذاك الحوض الذي ترقد فيه ، بلا حياة، مياه البحر الرجيم

. كل ذلك قد انبسط ، ولا شك ، أمام ناظري المسيح .. تلك البقاع التي يخيل إلى الرائي أن الحياة البشرية قد شردت منها، وذاك المشهد الذي ، باتساع أبعاده ، يوحي بالأبدية . لا شك أنه شاهد الشمس تشرق بغتة من وراء جبل " نيبو " ، من غير أن تؤذن بها تباشير الفجر ؛ وعند المساء – في تلك اللحظة التي تسبق انقضاض الليل ، وتنتشر فيها على الأرض أضواء خافتة- لا بد أنه أوجس تلك الكآبة التي يشيعها في القلب زوال نهار جميل في نزاعه الصامت . ولا بد أنه ، في غضون تلك الأسابيع الستة التي قضاها في التهجد، قد شعر بزحف الريح تنهض من السهل إلى الكهف الذي كان يأوي إليه .. ريح البيداء العربية بأنفاسها السوداء ؛ ريح الخماسين ، التي إنما هي لهاث الصحراء، والتي كانت تتناهى إليه ، وفي ثناياها، من الخصم الجهنمي ، جم . من الأسئلة المزمجرة

. وأما ما نعرفه كل تلك المأساة الموحشة، فهو أن المسيح ، "فبعدما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة، جاع أخيرا، فتقدم إليه المجرب وقال له : إن كنت ابن الله ، فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً . فأجابه يسوع وقال: مكتوب : " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله " ؛ إذ ذاك قاده إبليس إلى قمة مرتفع عال ، وأراه – في لحظة- جميع ممالك المسكونة . وقال له :" لك أعطي هذا السلطان كله ، ومجدهن ، لأنه إلى قد دفع ، وأنا أعطيه لمن أريد . فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع" فأجابه يسوع : "اذهب يا شيطان ، إنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد " ! ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على البرج – الزاوية الذي يشرف على وادي قدرون من علو 12. مترا، والذي كان يدعى " جناح الهيكل " . ثم وسوس له قائلا : إن كنت ابن الله ، فأطرح نفسك إلى أسفل ، لأنه مكتوب : "إنه يوصي ملائكته بك فعلى أيديهم يحملونك ، لئلا تصدم بحجر رجلك " . فأجابه القهار : . مكتوب أيضا : " لا تجرب الرب إلهك ! " . حينئذ تركه إبليس خائبا ؟ وإذا ملائكة أقبلت ، وأخذت تخدمه " ( لوقا 4 : 1 - 13 ؛ مرقس 1: 2 1 – 13 ؛ متى 4 : 1 –11)

. إن مجرد وجود الشيطان ، في هذا المشهد، يكفي لأن يجعله ، في نظر أصحاب " النقد التاريخي "، بعيدا كل البعد عن الاحتمال ، وداخلا في نطاق القصص الأسطوري . ويرى بعض اللاهوتيين " أن تلك التجارب كانت ، ولا شك ، صراعا شخصيا بين يسوع وإبليس " ؛ بيد أنهم لا يستبعدون أن يكون الانتقال إلى قمة الهيكل ، وإلى ذروة المرتفع العالي ، لونا من ألوان الرؤى . وقد لوحظ أيضا أن جوهر التعاليم الأسينية، كما كشفت عنها مخطوطات البحر الميت ، هو أن الإنسان متنازع ، أبدا، ما بين الأبالسة والملائكة . ومهما يكن من أمر، فذلك لا يبدل شيئا من الحادثة المروية في الأناجيل . فالخصم الجهنمي يبدو، من خلال ذاك الحوار السريع المتوثب ، في صميم واقعه الهائل ، كما آمن بوجوده ، ليس فقط دانتي وتوما الأكويني ؛ بل نيوتن ، وباسكال ، وجوته الذي وصفه بأنه " وليد الفوضى " ، والذي كان يوجسه ، من حوله ، كائنا حقيقيا ، متربصا به الشر . وقد ورد لدوستويفسكي في تفسير ذاك المشهد الإنجيلي " أن تلك الإغراءات الثلاثة تسود التاريخ كله ، وتشير إلى الصور الثلاث التي ترجع إليها جميع المناقضات التاريخية المستعصية ، الملازمة للطبيعة البشرية فوق وجه الأرض كلها " . فالشهوة الحسية، وغريزة التسلط ، وطموح الإنسان إلى تخطي حدود بشريته .. تلك هي أقوى بواعث الأهواء الإنسانية، على وجه الإطلاق ؛ وهي مستعرضة في ذاك المشهد"

. إن القفر حافل بتلك الأحجار الغريبة الني تبدو – ويا للهزء ! – كأنها الأرغفة بألوانها الدافئة السمراء . وفي الأفق الأقصى ، من جهة الشرق ، ومن وراء جبل نيبو، وجبال موآب ، ينفسخ السهل ، أمام النظر، إلى ما لا نهاية له ، فيوحي بتلك الممالك النائية، وتلك الإمبراطوريات العظيمة – نينوى ، وبابل ، وأشور- التي تألق سناها في إيران وبلاد الرافدين . وأما قمة الهيكل فكانت تشرف على وادي قدرون من شاهق عظيم ، لم يكن المرء لينظر منه إلى ما أسفل إلا ويأخذه الدوار، على حد قول يوسيفوس . وأما النص التوراتي الذي يستشهد به إبليس ، بكثير من اللباقة والدهاء – وكأنه من الراسخين في علم الكلام – فهو مقتطف من المزمور 91، حيث نجد إشادة المؤمن بسعادته . إذا وضع في الله كل ثقته

! تلك الحادثة المروية في مستهل الإنجيل تنطوي إذن - بلا مراء- على درس خطير .. فهي ، منذ مطلع البعثة العلنية، تحدد رأي يسوع في إرساليته . فهل يستقر ملك الله في العالم بالوسائل التي تركن إليها السلطات البشرية؟ وهل يكون المسيح ذاك العاهل المقتدر، وذاك الغالب الذي كان يترقبه إسرائيل في سواده ؟ عن هذه الأسئلة أجاب المسيح بالنفي ، وذلك بتملصه من . إغواءات خصمه ، ورفضه لممالك هذا العالم ،وترفعه عن تلك المعجزة الرخيصة، معجزة الهبوط في الفضاء من شاهق الهيكل . وأما إعراضه عن قلب الحجارة خبزا فهو، مذ ذاك ، أنبأ بالمسلك الذي سوف يسلكه سحابة حياته كلها .. فهو الذي طالما أحسن إلى الناس بمعجزاته ، ما أراد يوميا أن يجري معجزة واحدة لمصلحته الشخصية، حتى ولا معجزة الهبوط من على الصليب

ذاك المشهد الذي يرى فيه البعض أمرا محالا ، لا بد من التصريح بأنه ، مع ذلك ، راسخ في صميم الواقع الإنساني . فإن ابن الله ، بمجابهته المكائد التي نقابلها كل يوم ، قد تلبس بالأوضاع التي يستطيع كل إنسان أن يصادف فيها نفسه . وسوف يقول الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين : " لأنه في ما هو تألم ، مجرباً يقدر أن يعين المجربين " ( 18:2)

! لقد أضاف البشير لوقا، في ذيل الصفحة التي روى فيها ذاك المشهد، أن إبليس انصرف عن يسوع ، " إلى حين " ( 4 : 13 ) . فهل أراد بذلك أن يلفت النظر إلى أن المسيح - مثل كل فرد من الناس - قد واصل الصراع سحابة الحياة كلها ؟ . . مهما يكن من أمر ، فنحن نوجس حضور العدو، مرة أخرى ، في بستان الزيتون ، ليلة النزاع . . . أجل ! إلى أي حد كل ذلك يجعل الإله / الإنسان قريبا منا

بعد إذ خبر يسوع ، من ذاته ، مضاء عزيمته ؛ بات في وسعه أن يضطلع بأعباء رسالته كمسيح الله . فمن طلب جلائل الأمور، عليه أولا أن يروز حصاة نفسه ا

نظرة إله

. يوم هبط يسوع من الجبل ، ورجع إلى ضفاف الأردن ، ربما كان ذلك ،في أوائل آذار سنة 28 . في ذلك الفصل من السنة يصفر القمح والشعير حول أريحا . ويكون النهار حارا، وأما الليالي فتبقى ، فيه ، باردة . ومن الأمثال اليهودية السائرة " أن الثور، في آذار ، يرتجف من البرد، صباحا ؛ وأما عند الظهيرة فهو يتفيأ ظلال التين يلين فيها إهابه " . ولا بد أن هجائر" الغور" كانت قد بدأت ، إذ ذاك ، تشتد وطأتها . وكان المعمدان نفسه على وشك أن يغادر المعبر ويشخص إلى منطقة الهيكل ، عند " ينابيع السلام " ليتابع فيها رسالة التعميد ؛ فيسوع لن ينزل في تلك البقعة طويلا

. ومع ذلك فقد تميز مروره العابر بذاك المكان بحادثة على جانب فريد من الأهمية، تفرد الرسول يوحنا بروايتها (يوحنا 1 : 35 - 5. ) . وهناك تقليد مستند إلى أساس متين من المنطق ، يرى في تلك الصفحة من إنجيله صدى مباشرا للذكرى التي حفظها التلميذ الحبيب من تلك اللحظة الرائعة المذهلة التي وضع فيها الإله المتأنس ، نظره عليه

" لقد كانت الساعة العاشرة "، على حد ما سجله في ملاحظته الدقيقة،أي نحو الساعة الرابعة من بعد الظهر . و كانت الشمس قد بدأت تنحدر فوق ذرى مشارف يهوذا . وكان يوحنا يسير بصحبة رجل آخر من الجليل ، واحداً من رواد المعبر ، اسمه أندراوس . وكان أندراوس من جملة الكثيرين الذين هرعوا إلى سافلة الأردن ليستمعوا إلى، كلام يوحنا ويقبلوا منه المعمودية. وكان قد ترك الزوارق والشباك التي كان يملكها مع أخيه سمعان ، على ضفاف بحيرة جنيسارت " شراكة مع زبدى والد يوحنا . وكان يوحنا وأندراوس ، كلاهما، قد سمعا النبي المتمنطق بجلود الحيوان ، ينادي بالجماهير إلى التوبة . وكانا قد شهدا أيضا الساعة التي وفد فيها على المعمدان وفد من أهل الحصافة يسألونه : هل هو المسيح ؟

. لقد كانا، إذن ، ذاك المساء، بقرب معلمهم ، إذ مر بهما رجل شهد له المعمدان ، قائلا : " هو ذا حمل الله ! " فأدركا، على الفور، فحوى تلك العبارة، وعرفا أنه إنما أراد بها الإجابة عن أسئلة الرابيين ، وعما كانا، هما، يترقبانه ! وكان مشهد حلول الروح القدس على هامة ذاك الرجل، المجهول ، ساعة عمده المعمدان ، لا يزال ، ولا شك ، ذكره حيا وسط الجماعة المتعبدة التي كانت تختلف إلى " بيت عبرا " . ومن غير تردد، تعقب التلميذان الرجل العابر . فلما رآهما يتبعانه ، قال لهما : " ماذا تطلبان ؟ "، فعمدا إلى استعمال الألقاب ، شأن القرويين البسطاء إذا انفعلوا، وأجاباه بإحدى تلك العبارات المرتبكة التي كثيرا ما تنكشف من خلالها أصفى العواطف :" ربي !الذي تفسيره يا معلم ، أين تمكث؟ ". فقال، لهما : " تعاليا وانظرا ! " ويضيف النص فقط أنهما ذهبا " إلى حيث كان يقيم " وأنهما " مكثا عنده ذلك اليوم " . وأما أن يكون المسيح قد استحوذ، دفعة واحدة، على قرارة نفسيهما، فتتمة الصفحة، بل الأناجيل كلها تشهد بذلك شهادة كافية. وهكذا منذ اللحظة التي اعتلن فيها المسيح ، تجلت فيه تلك الميزة التي سوف تتكرر مرارا ، تلك القوة السرية التي كانت تمكنه من النفاذ، توا ، إلى أعماق مصطفيه ، والاستحواذ عليهم استحواذا كاملا . فأندراوس ، ويوحنا، وسمعان ، وفيلبس ، ونثنائيل ، والمرأة السامرية، والمجدلية الخاطئة . . . كم من مثل هؤلاء سوف يتملك المسيح قلوبهم بمثل تلك القوة التي تفوق الإنسان ؟ ..أجل ، " إن الله ينقض على النفس انقضاض النسر على العصفور "، على حد ما سوف يتردد على ألسنة الصوفيين ! ولئن كانت قد ظهرت ، في مشهد التجربة، بشرية المسيح ، فإن لقاءه بالتلاميذ الأولين قد كشف عن الناحية الأخرى من طبيعته المزدوجة : فإن وجه الله ، ههنا، قد تجلى ! وأما سمعان ، أخو أندراوس ، فلم يكن مع يوحنا وأندراوس عندما صادفا المسيح. فلما أفضيا إليه ، صاح به أندراوس : "لقد وجدنا مسيا، الذي تفسيره المسيح " . وفي الحال طلب أن يذهب إليه . فحدق إليه يسوع – على حد ما وردفي الإنجيل – وقال له : " أنت سمعان بن يونا . أنت تدعى صفا، الذي تفسيره بطرس ". ولا شك أن هذا الكلام قد استبهم عليه ، بادئ الأمر ، ولم تنكشف له معانيه إلا بعد بضة أشهر. ولقد ملك يسوع على ذاك الرجل قلبه . دفعة واحدة، وإلى أبعد ، وإلى أبعد مما وقع للتلميذين الأولين . ولقد رمقه بنظرة واحدة، وبدل اسمه بسلطة مطلقة ، وكان معروفا، عند كل يهودي ، ما المغزى من تبديل الأسماء . ففي العهد القديم ، كان نسخ الاسم القديم باسم جديد، إشارة رمزية إلى اصطفاء من الله ، وإيذانا برسالة خارقة . وذلك ما وقع لإبرام يوم أصبح اسمه إبراهيم ، وليعقوب يوم تجول اسمه إلى إسرائيل

. أندراوس ، ويوحنا، وسمعان .. ثلاثتهم جليليون ، وقد اصطفى النبي الجليلي مواطنيه هؤلاء من بين التأبين الذين كانوا قد تتلمذوا للمعمدان . ورجع يسوع ، مع أصحابه ، إلى إقليمهم . وأما أقصر طريق إلى الناصرة فكانت تجاري وادي الأردن أي بعد ميلين من برية طبرية ( 9. كيلو مترا، تقريبا)، ولكن من غير أن تتطرف كثيرا إلى النهر والأدغال التي تكتنفه ، ثم كانت تنعطف غربا، وتسلك في منبطح فسيح يطل عليه ثابور بأردافه الشقراء . ذهب يسوع ، إذن ، مع أتباعه الثلاثة، في تلك الطريق القديمة، التي كان يسلكها حجاج الفصح ، في قوافلهم الطويلة، منذ أقدم العصور . ولا بد أن مرأى المدينتين الكافرتين – أرخيلاييس و سكيتوبوليسبى - وما كان ينجسهما من قصور فاحشة وأبهة عاهرة، بل من قيام صنم لعشتاروت بين ظهرانيهما، قد أعاد إلى ذهنهم الوضع الأليم الذي كان فيه إسرائيل . وإذ أفضوا إلى المنعطف الذي كان يجب أن يفترق فيه يسوع عن أصحابه ، عدل عن طريقه ، ورافقهم حتى شمالي البحيرة، حيث كانوا يزاولون مهنة الصيد . وهناك ، في بيت صيدا، بلدة أندراوس وبطرس استتبع المسيح رجلين آخرين ، على نحو ما جرى للثلاثة الأولين

. صادف فيلبس ، أولا ، أحد مواطني أندراوس وبطرس ، فقال له : " اتبعني " ولا يورد الإنجيل شيئا آخر من مشهد ذاك اللقاء . وإنما ينبغي أن يكون المسيح قد تمكن من قلب ذاك التلميذ الجديد، إلى حد بعيد.. فهو ينطلق على الفور، ويبشر أصدقاءه بما اكتشف ، ويروج له الدعوة بحمية الحديثي الإيمان

. " وجدنا الذي كتب موسى والأنبياء " . وإذ يستطلعونه الأمر، يقول : " هو يسوع بن يوسف ، الذي من الناصرة ". لقد أجاب ، كما كان في وسعه أن يجيب ، ولم يكن ليعلم شيئا آخر عن ذاك الذي كان ، منذ فترة، قد فوض إليه إيمانه . ولكن الناس ، في بيت صيدا، كانوا على علم بالناصرة وبأهل الناصرة : فالقرية كانت - على مسيرة نصف نهار من بيت صيدا - مثابة لبعض الريفيين من أهل، الوعور، لا يعرف لها اسم ولا تاريخ . فأجابه نثنائيل ، أحد مستمعيه : " أمن الناصرة يمكن أن يكون شئ صالح ؟ " . لقد كان نثنائيل أعرف الناس بالقرية ، ولاغرابة في ذلك ، فقد كان من قانا الجليل (يوحنا 2 : 2 )، على مسافة فرسخين أو ثلاثة . من الموضع الذي زعم فيلبس أنه موطن المسيح . بيد أن فيلبس ، ذاك الحديث في الإيمان ، لم يكن ليغير رأيه ، فقال : " تعال وانظر ! "

. إذ ذاك جرى ، مرة أخرى ، واحد من تلك المشاهد السريعة التي اعتاد فيها المسيح أن يأخذ بمجامع القلب بغتة ، ولا شك أن ذاك المشهد قد فاق سواه إعجازا وبعد إيحاء . . . لقد كان نثنائيل هذا رجلا صديقا، ربما على شيء من الخشونة، والنزوع إلى الانتقاد، ولكنه حسن النية، لا يشوبه التواء . فمن اجتماعه بيسوع ، وجها لوجه ، انفجر له ذاك الضياء المفاجىء، حيث تنكشف النفس عن ذاتها انكشافا تاما، فإذا بها، في آن واحد، خفاقة من الترقب والحنين ، وريانة من السعادة . قال يسوع : " هو ذا، إسرائيلي حقاً لا غش فيه " ، فقال له نثنائيل مستغربا : " من أين تعرفني ؟ " فأجاب يسوع : " قبل أن دعاك فيلبس ، وأنت تحت التينة، رأيتك . . . " عبارة مختزلة ! .. تلك الهواجس التي باتت مطوية عنا، وتلك التأملات الوجيعة التي كان نثنائيل يتابعها في سر عزلته ، لقد نفذ إليها الناصري ! إننا ، نوعا ما، رهن الذين وقفوا على سر كياننا الصميم ، حتى وإن شق علينا ذلك ! وأما ذاك الرجل ، فما إن كاشفه المسيح بدخيلة أمره ، حتى انهد قلبه ، وأخذت منه النشوة مأخذا مقدسا، فقال : " يا معلم! أنت ابن الله ! أنت ملك إسرائيل ! " .ولكنه ، هذه المرة ، بات يتسرع في أقواله ، فأعاده يسوع إلى حدود الاعتدال بقوله : " هل آمنت لأني قلت لك إني رأيتك تحت التينة ! سوف ترى أعظم من هذا ! " ولأول مرة يصرح المسيح – بصفته المسيا- يتعهد بنفسه صدق مواعيده ، ويعلن ( مشيرا إلى السلم التي رآها يعقوب في حلمه الشهير ، والنصر الذي وعده به الله ) أن السماء والأرض به ستلتقيان ، وأن معجزات أخرى سوف تؤيد صدق الدهشة العلوية التي اهتز لها قلب نثنائيل

. فما بين "بيت عبرا" و "بيت صيدا" وفق المسيح ، ببضع كلمات ، إلى استتباع خمسة رجال، من ذوي الإيمان الراسخ ، وسوف يتأثرن به حتى الموت . ولسوف يكونون خمستهم في عداد الرسل. وأما الذي يدعوه الإنجيل الرابع " نثنائيل "، فهو- على الأرجح - ذاك الذي تسميه الأناجيل الثلاثة " برثلماوس " . فاللفظة الأولى هي لقب الرجل ، وأما الثانية فهي كنيته . فبرثلماوس معناها : ابن ثلماوس . . . وإن أربعة من هؤلاء الخمسة سوف يستشهدون من أجل المسيح

عرس قانا الجليل

. يبدو أن ثلاثة من التلاميذ الخمسة قد لبثوا عند ضفاف البحيرة . حيث كانت تربطهم ، ولا شك ، مشاغل حرفتهم ، وهم سمعان وأندراوس ويوحنا. ولعلهم ما كانوا قد أدركوا، بعد، أن الحياة التي دعاهم إليها المسيح تتطلب التضحية بكل شيء ، وأن ليس هناك من حائل مهنة أو أسرة أو أي شيء آخر، يمكن أن يعيق عليهم انطلاقهم

. وأما فيلبس ونثنائيل فقد رافقا معلمهم الجديد ، وكان شاخصا - على حد ما جاء في إنجيل يوحنا، وهو وحده يتفرد برواية هذه الحادثة بجميع تفاصيلها- إلى قانا الجليل ، ليشهد فيها عرسا . وكانت أم يسوع قد سبقته إليه . إن الموضع الذي يزار اليوم على أنه القرية التي حدثت فيها المعجزة، يدعى كفر كنا . وهي قرية ضخمة، زاهية وسط الحدائق والمياه ، قائمة فوق منحدر قمة تل ، بين في ثابور والجرماق ، يرتادها العرسان المسيحيون من أهل فلسطين لنيل بركة الزواج . وإنما هناك ، في منطقة أكثر انخفاضا ، موضع آخر يدعى " خربة قانا "، يوجد فيها اليوم حقل أثري . ومهما يكن من أمر، فإن "كفر كنا" و "خربة قانا" كلتيهما قريبة من الناصرة، إحداهما على مسافة 1. كيلومترات ، والثانية على بعد 14 كيلومترا ، هذا بالطريق المعبدة . وأما في المسالك الجبلية فالمسافة أقصر. فمن الطبيعي إذن أن يكون ليسوع ، في تلك القرية، بعض الأصدقاء أو الأقارب ، وليس من حاجة إلى ا فتراض أن نثنائيل كان هو صاحب الدعوة ، نظرا إلى أنه من قانا

. إن الدرب بين بيت صيدا وقانا، تصعد في الجبل صعودا مجهدا . فالبحيرة تنخفض عن سطح البحر مائتين وثمانية أمتار . وأما قانا فهي على علو خمس مائة متر ، والشقة بينهما بعيدة بعض الشيء ، لا تقل مسافتها عن 28كيلومترأ. وكلما صعد المسافر في الدرب ، ويكون خلفه منطقة النخيل وموفيا على مناطق الحنطة والكرمة، انفسح الأفق أمام ناظريه . فإذا حانت منه إلتفاتة إلى الوراء، قبل أن يلج شعب أربئيل ، استطاع أن يسرح الطرف في مشهد تلك الفرجة الواسعة، حيث يفضي الأردن مسرعا، في ما بين القصب ، بزرقته الناضرة، تنعكس فيها ثلوج حرمون ، وأما في الربيع فليس من النادر أن تمر بها أسراب من النعام ، راسمة فوق صفحتها، في طيرانها الوردي الأسود، تعاريجها الطويلة . . . وفي أخريات المطاف ، إذ يفضي الطريق إلى منطقة المشارف ، ينبسط سهل عزريلون ، أمام النظر، ببساطه الموار، وحصائده الناضجة. فما أعذبها، فترة آذار في تلك الربوع ! ، وفي قانا، في ذاك النهار البهيج ، كان ، ولا شك ، يتعالى نشيد ألأعراس

. كان يواكب الأعراس ، في بلاد اليهود ، حفلات ومباهج كثيرة . وكانت تستمر من ثلاثة أيام إلى ثمانية أيام ، وفقاً لثروة العروسان . أما أصحاب العرس الذي دعي يسوع إليه ، فكانوا ولا شك ، من أهل النعمة ، بدليل كمية الغسول المعد لمراسيم التطهير ، ووجود " رئيس وليمة " ، وهو بمثابة رئيس الخدم .. فعلى افتراض أن العرس قد ابتدأ نهار الأربعاء – كما هو مرعي في زواج الأبكار – فلابد أنه استمر حتى السبت ، على أقل تقدير . فإذا جئ بالعروس ، فوق المحمل ، إلى مقرها الجديد ، وأفيض الطيب تحت الهودج ، على ما هو مقرر في المراسيم ، وتبودلت العهود ، في طل خمار العرس ، كانوا ينصرفون إلى الموائد وطيباتها . إن اليهود على جانب من القناعة ، في حياتهم المألوفة . بيد أنهم ، في مثل تلك المناسبات ، كانوا يميلون إلى الترغد حتى الإسراف . فكانت الأطباق الدسمة تتوالى على الموائد طويلاً ، بسمنها الفياض ، ولحومها وأسماكها المحشية. وكنت ترى البصل في جميع الأطباق ، وكان قد أصبح من مقومات الطهي في إسرائيل ، منذ مقامهم في مصر ، على عهد يوسف . وكانوا ، إلى ذلك ، يكثرون من الشرب . فالشرب والمأدبة ، في اللغة العبرية ، لفظتان مترادفتان ، وليس لهما أي مدلول قبيح . وكانت الكرمة ، في إسرائيل ، شجرة محبوبة ، وشبه مقدسة . فقد كان يزين الهيكل كرمة من ذهب

. وسوف يستوحي يسوع ، من الكرمة، بعضا من رموزه ، بل سوف يعلن يوما : " أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرام " ( يوحنا15 : 1 ) . وكانت خمور اليهود جيدة ، شديدة الكحول واللون . فكانوا يضطرون ، إلى مزجها بالماء، قبل استهلاكها . وأما في الأعراس فكان استخدامهم للماء محصورا في التطهر . .

. ما إن انقضى من العيد زمن حتى كان الخمر قد نفد. لقد كان رئيس الوليمة قد أخطأ في حساباته . وربما لم يكن يتوقع مثل ذاك العدد من الوافدين . وكان يسوع ، في المأدبة ، متكئاً مع المدعوين ، على أحد فرش القاعة . وإذا بأمه تزدلف إليه . إن النساء سريعات الملاحظة ، متنبهات لمثل تلك الأمور . قالت له : "ليس لهم خمر ! ". عبارة كنت بها، بأسلوب لطيف ، عن ملتمس لم يكن ليخفى عن المسيح مرماه . ولكن يسوع لم يستجب لطلبها، بل قال : " ما لي ولك يا امرأة ؟"، ذاك كان الجواب كما ورد نصه في الإنجيل . وقد يحمل على الاستغراب أن يكون قد جرى على لسان ابن مخلص يلتقي أمه بعد شهرين ونيف من الفراق . وهو يبدو، في لغتنا الحديثة خصوصا ، على جانب من الخشونة، بل من العنف . ولكنه لم يكن كذلك قي اللغة الارامية، حيث تستعمل لفظة " امرأة "، على سبيل التأدب والحفاوة . (وسوف ينادي المسيح أمه بذات اللفظة ، من على الصليب ) . وأما التعبير الذي يصدمنا (مالي ولك )، فاستعماله شائع في العهد القديم (قضاة 11 : 12 ، 2 صموئيل 16 : 1. ، 1 ملوك 17 : 18 ، 2 ملوك 13 : 3)، ولا يعي أكثر من قولنا : " ما عليك ! "ـ أو " معلهش " كما نستخدمها في لغتنا العربية العامية -. وربما كان ذاك التخلص ضمن ما لمسناه ، عند المسيح ، من رغبة حكيمة في ألا يعتلن للعالم قبل أن يحين الزمان . بيد أن مريم لم تقنع بالجواب ، بل قالت للخدام : " مهما قال لكم ، فافعلوه ! " أجل ! لقد كانت تعرف ابنها حق المعرفة

هل قرر يسوع الاستجابة لطلب أمه ، رأفة فقط بمضيفه المعنى؟

. إننا نتردد في الاعتقاد بأن قدرة الله العلية قد سخرت لقضية زمنية بمثل هذا الوزن . فهل كانت الغاية الرمزية –وهي على أشد الوضوح – هي الباعث الحقيقي على إجراء تلك المعجزة ؟ . . أم علينا أن نلتمس تعليلها فيما أورده الإنجيل نفسه من أن التلاميذ، في إثر تلك المعجزة ، " آمنوا به " ؟ . . . إذن لكانت تحقيقا لما بات نثنائيل، في انتظاره ، وواحدة من تلك العظائم التي وعد يسوع بتنفيذها

. لقد كان ، عند مدخل البيت ، ست أجران من حجر، معدة لمراسيم الاغتسال ، تسع كل واحدة منها كيلين أو ثلاثة . والكيل - وهو البت عند اليهود، والمطر عند اليونان - بمثابة أربعين لترا . فيكون مجموع متسع الأجران ، من ست مائة إلى سبع مائة لتر . . . فقال يسوع للخدام :" املأوا الأجران ماء " ، فملأوها إلى فوق ". فقال لهم أيضا : " استقوا الآن ، وقدموا إلى رئيس المتكأ، فقدموا ". فلما ذاق الخمر، ولم يكن يدري من أين هي ، صاح بالعريس مداعبا : "كل إنسان ، إنما يضع الخمر الجيدة أولاً، ومتى سكروا فحينئذ، الدون ! أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن ! "

. تلك كانت قي قانا الجليل ، أولى معجزات يسوع ، " المعجزة الأولى،المعجزة اللطيفة، - على حد ما جاء في إحدى روايات دوستويفسكي - حيث نرى المسيح يتعهد الفرح الإنساني ، الفرح لا الألم ! . وقد حرص الرسول يوحنا، بالرغم من اقتصاده في ذكر المعجزات (7 فقط )، على أن يضع معجزة قانا الجليل ، في مستهل إنجيله ، فهو لم يكن إذن ليستخف ، شأنها ؟ والواقع أن تلك المعجزة يفوح منها شذا الأشياء الطبيعية، وتلامس الأرض ، كما أحبها المسيح دوما أن يلامسها . . . ويجب ألا نتصور تلك الولائم الريفية على كثير من الأبهة والجلال .. فالخمرة التي سالت لصوت المسيح هي ، تقريبا، نفس الخمرة التي تجود بها كروم الجليل . وليس من العبث أن يكون المسيح ، بمعجزته ، قد خلع على مباهج ذاك العرس ، رونقا مذهلا ، وكأني به قد أراد، سلفا، أن يسم زواج الرجل بالمرأة بوسم التعليم الذي سوف يقر مبادئه

في ديارك ، يا أورشليم

. غادر يسوع قانا، وانحدر ثانية إلى ضفاف البحيرة، إلى كفرناحوم ( يوحنا 2 : 12 )، ليقضي فيها ردحا من الزمن ؛ وذلك إما عن دعوه من فيلبس ، وإما رغبة في مشاهدة أصدقائه سمعان بطرس ، وأندراوس ويوحنا ؛ وإما أنه آثر أيضا – وهو من أهل الجليل – طريق الغور على طريق الغور على طريق السامرة الكافرة ، للشخوص إلى أورشليم ، حيث كان يدعوه داعي الفصح

ذاك الشخوص إلى المدينة المقدسة . والحدث المدوي الذي واكب مروره

. فيها، هما جزء من تلك المظاهرات الأولى التي باتت محفوفة بغلالة من السر، والتي تراءت من خلالها، بالتلويح إن لم يكن بالتصريح ، رسالته الماسوية . ولقد ثبتت ، بفضلهما ، بين المخلص ومدينة إسرائيل المقدسة ، تلك العلاقة التي سوف تصبح ، في الجلجلة، رباطا راهنا ، وبين هيكل اله وذاك الجسد الذي بات آهلا" بسر ألألوهة، شبه رمزي سوف يسطع يوم انبعاث يسوع من القبر

. كان يتقاطر إلى أورشليم ، من الجماهير اليهودية، بقدر ما يتقاطر من المسيحيين ، مثلا ، إلى المحاج العجائبية ، في مواسمهم الكبرى ، أو من أهل الهند ، في وفودهم البشرية الضخمة إلى بيناريس ، أو من المسلمين إلى مكة . فمن الشمال ومن الجنوب ، من الشرق ومن الغرب ، من أطراف البادية ومن حواضر مصر وبابل ، ومن الجاليات المنتشرة في آسيا الصغرى ، كان المؤمنون يتوافدون إلى المدينة المقدسة، فيبيتون تحت الخيام ، أسابيع متتالية، ويحجبون بمخيماتهم المختلطة، الساحات والآكام والمناطق المحيطة بأسوار أورشليم . وكانت تقوم ، عند أبواب قيصرية، ويافا خصوصا، مراكز منظمة لتأمين النقل البحري ، واستقبال المراكب المحملة بالحجاج ، فكانوا، إذا وطئت أقدامهم أرض الميعاد، يقبلون ترابها. وإذا صح ما جاء في تاريخ يوسيفوس ، من أن 2556..حمل قد ذ بحت في الفصح الذي سبق خراب الهيكل ، سنة 7.، وحسبنا لكل عشرة حجاج ذبيحة، وجب الاعتقاد بأن موجة عارمة من مليونين ونصف مليون من البشر، كانت تنهال على ضواحي المدينة في مثل تلك المواسم الدينية الكبرى

. وكان الهيكل ، في تلك الحقبة، هو ذاك الذي أمر هيرودس بإعادة بنائه من قبل زهاء نصف قرن ، تباهيا بعظمته ، وتوددا إلى الشعب اليهودي . ففوق الموضع الذي رفع فيه سليمان هيكله ، آية مقدسة، والذي بني فيه العائدون من الجلاء ، بدل الهيكل المهدوم ، معبدا صغيرا متناسبا وأوضاع قوم مهزومين ، أقدم الطاغية على تشييد " هيكل ثالث " ، فكان من الأبهة والاتساع والعظمة، بحيث لم يكن البناء قد أنجز بعد ست وأربعين سنة من تاريخ وضع الحجر الأول ، ولن يفرغ منه إلا سنة 46، أي ستة أعوام قبل تهدمه

. ذاك الأدومي كان قد تمثل مشروعه في غاية العظمة . ولا شك أن حب الأبهة والمبنى الفخيم بات من مناقبه المستحسنة ؟ ولم يكن له منها الشيء الكثير . وقد جند عشرة آلاف عامل ، (ومنهم من يصل بهم إلى 18 ألف )، ودرب ، على مهنة العمارة، ألف كاهن ، للعمل في الأجزاء الداخلية، وكانت محرمة على العوام ؛ وحشد الحجارة والأخشاب ، والأصناف النادرة من الرخام ، والمعادن الكريمة ؛ سخر لذاك المشروع خير ما كان لديه من عزم ولباقة قد أقرهما له التاريخ

. وجاء الهيكل الجديد، في مبناه الداخلي ( المصلى ) ، شبيها بهيكل سليمان . وأما المرافق الخارجية، فقد وسعت كثيرا، وذلك بإقامة جدران تدعيمية ضخمة، عند قواعد الهضبة، أد ت إلى مضاعفة الفسحة عند مستوى القمة . (وما يعرف اليوم " بحائط المبكى "، إنما هو ما بقي من حجارة تلك الدعائم الهيرودسية ) . وفوق تلك الفسحة المصطنعة، قامت أربع مساحات يتفاوت ارتفاعها بقدر اقترابها من المصلى . فهناك " ساحة الأمم "، وكانت مشروعة للجميع ، وحتى الوثنيين ؛ وقد عثر على كتابة منقوشة، بثلاث لغات ، تشير إلى الحدود التي كان اختراقها، للوثنيين ، سبب موت . وهناك " ساحة النساء " وكانت حل على النساء الإسرائيليات . وأما " ساحة الإسرائيليين " فكانت وقفا على الرجال من اليهود، تفضي إليها ساحة أخيرة ،ضيقة الفسحة، مخفورة خفرا شديدا، هي ، " ساحة الكهنة "

. وكانت ساحة الأمم ،أكثر ما تغشاه الحشود الشعبية . فتلك الفسحة العظيمة، وراقاها القائمان إلى جنبيها ، باتت لسكان أورشليم ، في جميع أحوالهم ، مثابة يؤمونها لأشغالهم ولقضاء أوقات فراغهم . وكان الرواق الشرقي ، المدعو " رواق سليمان " ، بمماشيه الثلاثة ، وأعمدته الضخمة المائة والثمانية والستين ، والرواق الجنوبي ، المدعو " رواق الملك " ، بسقوفه المرتفعة إلى علو ثمانية وعشرين مترا، يستخدمان لما كانت تستخدم له ، قي حواضر إيطاليا واليونان وآسيا الصغرى، جميع الأروقة المضاهية، حيث كانت الجماهير تهوى التجمع

. وأما في عيد الفصح ، فكانت الحشود، في الساحة، تعدو حدود المألوف . فالخمر من أبيض وأصفر ومخطط ، و" العقالات " السود أو المذهبة، والعمائم ، والقبعات الفريجية الحمراء ، جميع تلك الألبسة الشائعة في الإمبراطورية، وفي الشرق الأدنى ، كانت تشاهد في ذاك الخليط البشري . وأما اليهود الأتقياء، فكانوا، ما بين الجماهير المحتشدة، يشقون لهم سبيلا إلى ساحة المؤمنين ، وقد اعتمروا بالخمار الأبيض المهدب الذي كان ، بخصله ، يرمز إلى لفظ الجلالة

. ولم تكن ساحة الهيكل فقط مجتمعا للناس ، في الهواء الطلق . بل كانت ، إلى ذلك ، مصرفا، وسوقا ، وحظيرة للدواجن والأغنام . فكنت ترى الصيارفة، أمام موائدهم الصغيرة الحافلة بالنقود، يأخذون من الحجاج ، لقاء أرباح جيدة، ما كانوا قد أتوا به من عملة أجنبية نجسة، يونانية كانت أم رومانية، ويؤد ونهم نقودا يهودية، تمكنهم من افتداء أرواحهم ، بدفع الضريبة المفروضة على كل فرد من أفراد اليهود ( نصف مثقال ) ، وكنت تقع على اللاويين ، في ركن آخر، وقد فتحوا سوقا لبيع الملح والطحين والخمر والبخور والزيت ، وكانت من لوازم التقادم المقدسة . بيد أن العرقلة الكبرى ، كان يسببها اختلاط المواشي بجمهور الشعب . وكان على المؤمن ، فور وصوله إلى الهيكل ، أن يبتاع ، في إحدى الدوائر الكهنوتية ، " ختما ." يتفاوت سعره بتفاوت ثروته ودرجة إيمانه .. فهناك ختم " العجل " ، وختم " الخروف " وختم " الجدي "، وختم " الخاطى " ؛ وكان يأخذ لقاء ذلك ، في الساحة، عجلا أو خروفا، أو عنزة أو ثورا . . . وكان الكهنة يتعهدون ، بأنفسهم ، بيع تلك البهائم المقدسة، ويحملون الناس على شرائها . ومن البديهي أن المساومة على أثمانها لم يكن لينقضي إلا بكثير من المشادة والصياح ، وأن النفوس التقية ما كانت لترتاح لمثل تلك التجارات التقوية، إلا بكثير من العنت والجهد

! ويصبح مفهوما أنه لم يكن في وسع نفس ملتهبة بالإيمان ألا تتأذى من مثل تلك المشاهد. ولا شك أن ما يسود بعض المزارات المقدسة، في أيامنا، من خسة تجارية، يثير فينا بعض ما ثار في نفس يسوع من حفيظة قدسية . أو لم يكن ملاخي النبي قد أنبأ بأن رسول الرب سوف يطهر الهيكل وبنى لاوي (ملاخي 3 : 1 -3) ؟ . . أو لم يكن قد ورد أيضا ، في نبوءة زكريا، أن لن يكون بعد تجار في الهيكل ، عهد المسيح ( 14 : 21 ) ؟ . . . فلما ألفى يسوع نفسه ، وسط أولئك التجار، إلتهب من الغيظ ، فاصطنع سوطا من حبال ، وراح يهوي به على سماسرة الساحة، ويقلب الموائد والمقاعد التي في الأروقة، وينثر الدراهم ، ويتصدى للصيارفة أنفسهم . لقد بات في إمكان نبي الناصرة أن يردد ما جاء على لسان صاحب المزامير : "إن غيرة بيتك أكلتني " (مز 69) . كيف لا، وقد عاين الفضيحة " في ديار بيت الرب ، وفي ديارك ، يا أورشليم " ( مز 116 : 19 ) . وهو، ابن الآب ، لم يقو عليها صبرا

. إن هذه الحادثة تكشف عن جانب خطير من جوانب نفس المسيح ، وحيوية مزاجه . فهو إنسان ، هزته سورة إنسانية ، فاغتاظ، وانتفض ، وهوى بالضرب . وإنه ليقع في نفسنا ذاك اليهودي ا العصبي المزاج الذي تجرأ ورفع احتجاجه عاليا، غير مكترث للجمهور . . . بيد أن الحادثة بات لها صدئ آخر : وذلك أن الحاضرين استفسروه عن عمله بقولهم : " بأي حق تتصرف هكذا ؟ " وهل بإمكانك أن ترينا آية، تؤيد بها امتيازاتك النبوية، وتبرر فعلتك ؟ فأجابهم يسوع : " انقضوا هذا الهيكل ، وأنا أقيمه في ثلاثة أيام ! " فسخروا قائلين : " في ست وأربعين سنة، بني هذا الهيكل ، وأنت في ثلاثة أيام تقيمه ؟ . . " . ولا شك أنهم ، في إثر ذلك ، تحولوا عنه وقد بدا لهم واحدا من المتهوسين . ولسوف يجرم بتلك العبارة أمام المحكمة، ويتضح إذ ذاك معناها : فالهيكل الذي سيرفعه في ثلاثة أيام ، لم يكن ذاك الصرح بساحاته الغاصة بالناس ، وأعمدته الباذخة ، بل ذاك الهيكل الحي الذي سكن فيه الله متجسدا . وهكذا خطا المسيح خطوة جديدة في دروب الكشف عن وعوده الماسوية ؛ بيد أن تلاميذه -على حد ما جاء في الإنجيل --لم يتذكروا أقوال المسيح هذه ، إلا بعد قيامته ، فوجدوا فيها لإيمانهم دعامة

كان إنسان .. اسمه نيقوديموس

. هناك وعد ماسوي آخر أفضى به المسيح ، في أورشليم أيضا ، بعد ذلك بزمن يسير ، إلى واحد من زعماء الأمة اليهودية ؛ من أولئك الشيوخ ، أعضاء السنهدرين ، الذي تجسمت فيهم السلطة والتقاليد القومية . ولا شك أن الرجل قد فقه معنى ذاك الوعد، ولكنه لم يجد من نفسه العزم على الخضوع لنداء المسيح ، وما يقتضيه من انقلاب في السيرة . ولكم من الناس ، من بعده ، سوف ينكصون مثله ، عن تلبية ذاك النداء ! . .

. لقد كان أمرا طيبا، على حد ما صوره إنجيل يوحنا (3 : 1 - 15 )، واحدا من أولئك الرجال الفاضلين الذين يملكون من رهافة الحس الخلقي ما يمكنهم من اكتشاف الطريق المفضية إلى الكمال ؛ بيد أنهم لا يقدمون على الخوض فيها، بقلب متيم ، بسبب ما يقيدهم من عادات ذهنية، وتهبب برجوازي ، وجبانة متأصلة . وكان نيقوديموس على جانب عظيم من الثراء ؛ وقد قال فيه التلمود، بشيء من التزيد، إنه كان بوسعه أن يقوت الشعب الإسرائيلي بأجمعه ، مدة عشرة أيام ! كان غنيا ومحترما

. ولذلك فهو، لما سمع بخبر النبي الجديد، ورغب في التحدث إليه ، آثر أن يوافيه ليلا : فالفطنة فضيلة يرتاح إليها الأناس " المحترمون " . فلما صار إليه ، طفق يستفسر ، بكل كياسة- والكياسة هي أيضا من قوانين بيئته - عن الأحداث المعجزة التي باتت تعزى إليه ، وعما يجب استنتاجه من تلك الأحداث ؟ : " يا معلم ، نعلم أنك قد أتيت من الله معلما . لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل، إن لم يكن الله معه ! " . هو السؤال الحاسم الذي كان كل يهودي ورع يضمره في قلبه : هل يسوع هو، بالحقيقة، ذاك المنتظر؟ . . وهل سيقيم ملكوت الله على الأرض ؟ .

. نفذ يسوع ، بنظرة واحدة، إلى قرارة تلك النفس -كما نفذ إلى أعماق غيرها من قبل - وكشف ما فيها، إلى جانب خلوص راهن ، من تقاليد متحجرة، وأراء موروثة، ووهن . . . فأجابه ، منتقلا بالمعضلة إلى نطاق جديد : " الحق الحق أقول لك : إن كان أحد لا يولد من فوق ، لا يقدر أن يرى ملكوت الله "

لأول مرة نلقى المسيح ، ههنا، يعرض تعليمه في خطوطه المجملة. فالميلاد من فوق ، أو الميلاد الجديد ( وللفظة اليونانية، في الإنجيل ، هذان المعنيان ) ، إنما هو تحقيق الانقلاب الجذري ، والتجدد الكامل ، والبلوغ بهما إلى ذروة التوبة التي دعا إليها المعمدان . ولكن ما كان معنى تلك العبارة في نظر ذاك المتشدد قي حفظ الناموس ؟ سوف يذهب فيلون الفيلسوف إلى أن النفس ، إذا تجردت من الجسد ، صارت إلى أحضان خالقها ، وكان لها ذلك بمثابة " ميلاد جديد " . وقد استعملت تلك العبارة نفسها، في الديانات الباطنية، للدلالة على دخول المرء في أسرارها . بيد أن نيقوديموس لم يكن ليفكر في نظريات فلاسفة الإسكندرية، ولا في طقوس سيبل أوإيزيس(1)(Cybele) . فسأله ، بشيء من البلادة : " كيف يمكن الإنسان أن يولد، وهو شيخ ؟ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟ " . فبين له يسوع أن الميلاد الذي يقتضيه ليس له علاقة بالمرأة . فالمولود من الجسد جسد هو. والروح فهي كالأم تلد الروح . والروح ، في الآرامية والعبرية، مؤنثة، وتعني " الريح " أيضاً . ولا غرابة أن الروح القدس ، يتصرف كالريح ، لا ندري من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. فهي تهب أنى تشاء، وتبقى مخفية عن الأنظار . ومع ذلك فما أعظم ما يبدو من مفاعيلها ! . . . كذلك الروح القدس هو الذي يغير دخيلة النفس ، ويفيض فيها حياة جديدة، ويفرغ فيها الصبر على خدمة الله . أو ليس هذا التعليم مرقوما في الكتب ؟ وهل بإمكان معلم في إسرائيل أن يجهله ؟

وإذا بالمسيح ، فجأة ، يتخطى ذاك السنهدريني ، وكأنى به يتوجه بكلامه إلى العالم الذي بات يترقب مكاشفاته. وانفسحت أمام ذاك الرجل الوجل الطيب ، آفاق لم يكن ليتوقعها . فهذا الذي بقربه يخاطبه ، إنما هو الرسول الذي بعثه الله ليلقن الناس ما هو من أمر ذاك " الميلاد الثاني " ؛ وهو نفسه يصارحه بذلك . أفيذعن للإيمان؟ ولكن ما كان أغرب ذاك المسيح ، في نظر يهودي ورع ! وكم كان بعيد الشبه بالصورة المترقبة ! وصمت نيقوديموس ، غير مقدم على فهم مثل ذاك الكلام . وذلك ما ألمع إليه المسيح ، في تلك اللحظة عينها : فإلذين أوثروا على غيرهم بتلك التعاليم ، سوف يتنكرون لها . وكيف لا يحجمون عن السماويات ، وهم من أبسط الخوارق يتزعزعون ! . . . ولكن إلى من تتوجه تلك الكلمات ، يا ترى ؟ أ إلى الإنسانية كلها أم إلى الشعب المصطفى ؟

. ما هـم ! . . أو لعل بذار الخلاص قد حصر في ذاك الشاهد الوحيد الذي بات سجين صممه المتعمد؟ لقد طفق يسوع يفصح عن فكره ، في حديث طويل مع نفسه ، جاء شبه خلاصة مسبقة عن الإنجيل . فابن الإنسان قد نزل إلى الأرض ، إلها متجسدا، وابنا وحيدا للعلي ؛ وقد أرسل " لا ليدين العالم ، بل ليخلص به العالم ". وكما أن موسى قديما، قد عصم الشعب ، في البرية، من لسعات الأفاعي المحرقة كذلك ينبغي للرسول الجديد أن يؤتي العالم فداء وخلاصا . ولسوف ينفصل به النور عن الظلمة، ويضيء الحق ؛ والذين يتبعونه ينالون الحياة الأبدية . ذاك هو " الميلاد الثاني "، والتغيير الذي يجريه الروح في سرائر النفوس

. لم يورد الإنجيل جواب نيقوديموس . ولكننا ندرك جيدا ، من كونه لم يلتحق بالرسل ، أنه لم يستسلم للمسيح . أجل ! لقد كان مثلنا جميعا، ذاك الرجل " المحترم " ، الذي بات راسفا في تقاليده المتحجرة ، تنفره القرارات الخطيرة . بيد أن ذاك المشهد الليلي قد رسخ في ذاكرته . ولا ريب أنه حفظ في قرارة قلبه المتنازع ، لذاك النبي ، تقدير ومحبة . وقد أقدم على الدفاع عنه ، يوم دبرت عليه المؤامرة (يوحنا 7 : 5. ) ؛ ويوم حمل جسد المصلوب ، جاء بمائة رطل من الطيب والحنوط . (يوحنا 19 : 39 ) . وقد سلمت إحدى التقاليد القديمة بخلوص نيته ، فذهبت إلى أنه قد تعمد على يد بطرس ، ومات شهيدا للمسيح . ومهما يكن من أمر، فقد قام بمهمة على جانب عظيم من الخطورة، إذ مهد ليسوع أن يأتي بخلاصة مجملة من تعليمه ورسالته

ينبغي أن ذلك يزيد وإني أنا أنقص

. انقضت فترة التلميح والتحفظ في التبشير . فقد تجلى كيان المسيح في طبيعتيه الإلهية والإنسانية، وقدمت للناس باكورة تعاليمه ، وقامت الأدلة الأولى على القدرة التي سوف يستخدمها، واعتلنت تباشير موته وقيامته . هذا ، وقد جرت ، في ذات الفترة، أحداث عجلت وقوع الأقدار

. كان يوحنا المعمدان ، أثناء إقامة يسوع في أورشليم ، يواصل تعميد الجماهير. وكان -على ما جاء في الإنجيل (يوحنا3 : 22 - 3.) - " وكان يوحنا يعمد في عين نون ، بقرب ساليم ، لأنه كان هناك مياه كثيرة " . ويحدد لهذا الموقع ، عادة، منطقة من الينابيع لا تبعد كثيرا عن سكيتوبوليس ، وتقرب كل القرب من بقعة تعرف اليوم باسم " تل ساليم " . ولما كانت " عين نون "، في الآرامية ، تعني " الينبوع " ، و "ساليم " تعني " السلام " فقد كان اختيار الموضع موفقا، بسبب دلالته الرمزية . ولكن يسوع ، هو أيضا، كان قد غادر أورشليم ، وطفق يعمد ؛ أو، بالأحرى ( يوحنا 4 : 2 ) ، ترك لتلاميذه مهمة القيام بشعائر التعميد، في حضرته ، من غير أن يقوم بها بنفسه : ولا عجب ، فإن ساعة التعميد بالروح لم تكن بعد قد وافت . (يوحنا 7 : 39)، ولن تأزف إلا من بعد موت المسيح وتمجده

: ولا بد أن الجماعتين كانتا على تجاور، إذ أن أتباع يوحنا أوجسوا من نشاط يسوع غيرة . فقد نشأ شبه نزاع ، وانعقدت إحدى تلك السعايات التي تبرع فيها بطانات الأشخاص العظام ، وهي أبدا شديدة التمسك بامتيازات زعمائها . وذلك أن أحد اليهود، كان ربما قد قبل معمودية يسوع ، فأقبل إلى تلاميذ يوحنا يفاضل بين مفاعيل المعموديتين متمادياً في الثرثرة . فوافوا إلى معلمهم يشكون إليه الأمر . ولكن المعمدان ظل ،كما كان دائماً ، عظيما في تواضعه ، فأجاب

. " لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئا إن لم يكن قد أعطى من السماء . أنتم أنفسكم تشهدون لي أني قلت : أني قلت لست أنا المسيح ، بل إني مرسل أمامه . من له العروس فهو العريس . أما صديق العريس الذي يقف ويسمع ، فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس . إذا فرحي هذا قد كمل . ينبغي أن ذلك يزيد وإني أنا أنقص " (يوحنا 3 : 27 - 3. )

. كلام رائع خليق بذاك الرجل السامي الذي أجاد التطوع لتلك المهمة الشاقة التي أسندها الله إليه . كان قد صرح عن نفسه أنه لا يستحق أن يحل ، للمسيح المنتظر ، سيور حذائه . وها هوذا اليوم يشبه مهمته بمهمة " صديق العريس " (وكان ، في الأعراس اليهودية، يعنى بلوازم الحفلة، بتضحية وتجرد كاملين ) . بل راح ينبئ بأنه سوف يأفل نجمه ، لكي يتمكن الوافد الجديد من البلوغ إلى أوج سنائه . أجل ، لقد كان في ذلك ما يحمل على الخيبة أشد الناس حمية ؛ وإننا لنعجب بأولئك الذين ضلوا، مع ذلك ، ثابتين على ولائهم للمعمدان ، حتى في وسط ذاك الانهيار الذي أنبأ به . ونعلم أن بعضا منهم لبثوا، من بعد مصرعه ، متمسكين بتعاليمه ؛ منهم أولئك الذين سوف يقع عليهم بولس ، في أفسس (أعمال 19 : 1 -7)

. " ينبغي أن ذلك يزيد وإني أنا أنقص! " : كلمة كان لا بد أن تكتسب ، بعد فترة وجيزة ، معنىً حافلاً بالهول والأسى . . . فقد كان هيرودس أنتيباس ، والي الجليل ، يعيش في تصوره عيشة الملوك ، في بسطة من البذخ والترف ، ويعمل على تشييد عاصمته طبرية، عند ضفاف البحيرة الساحرة . وكان ، إلى ذلك ، قد طلق امرأته ، ابنة ملك الأنباط ، وتزوج بهروديا امرأة أخيه . فعظمت ، في فلسطين ، فضيحة ذاك الحب الحرام الذي كان يود ، في نظر الشرع ، سفاحا . (سفر اللاويين 18 : 16 ؛ 2. : 21) . فمثل المعمدان بين يديه ، جاريا على غرار الأنبياء من قبله ، وقال له : " لا يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك ! "

. إن داود لم يقدم على اعتقال ناثان ، قديما، يوم جاء يبكته بامرأة أوريا الحثي . ولكن أمير طبرية لم يكن من الشهامة بحيث ينصاع لضرورة التوبة ، فألقى عاذله في السجن ، تفاديا من سماع صوته . . . ذاك ما يورده الإنجيل ، في تعليل اعتقال المعمدان (لوقا 3 : 19 ، متى 14 : 3- ه ، مرقس 6 : 17 ) . بيد أن إفلافيوس يوسيفوس يرى، لذاك الاعتقال ، فضلا عما ذكره الإنجيل ، بعض الدوافع السياسية : وذلك أن الأمير " رأى الجموع تحتشد حول المعمدان ، وتغوى بتعاليمه ، فخشي أن يستخدم النبي نفوذه لاستنهاض الشعب إلى الفتنة ". ومهما يكن من أمر، فليس بين ذينك السببين من تعارض : فالشؤون الدينية ، في إسرائيل ، تلابسها حتما مداخلات سياسية ..

. إن الموضع الذي سجن فيه يوحنا المعمدان كان يقوم في أقصى تخوم ولاية أنتيباس . فماخيرونت هي اليوم حقل أثري في نجد متجعد . من جبال موآب ، يمتد شرقا، إلى ما لا نهاية له ، شطر البيداء العربية، بينما يشرف غربا، من شاهق عامودي مخيف ، على الهوة التي تهجع فيها مياه البحر اللعين . وأما المدينة التي كانت ترتزق قديما من تجارة القوافل ، فلم يبق منها سوى طريق مفككة الصفائح ، وقواعد هيكل الشمس . وأما الحصن الذي كان على يوحنا أن يسلخ فيها أخريات حياته ، فلا يزال كثير من بقاياه شاخصا فوق هضبة مجاورة، مخروطية الشكل ، عزيزة المنال . وكان للحصن ذؤابة يبلغ قطرها مائة متر، وتشرف على سائر أبنية القلعة من علو لا يقل عن مائة وخمسين مترا . ولا تزال ترى، حتى اليوم ، أساسات الأسوار الخارجية ؛ وأما في الداخل ، فلا يزال يوجد بئر سحيق القاع ، وصهريج ، وبرجان ، يشاهد، في أحدهما، ثغر صغيرة محفورة في حجارة البناء، كانت تثبت فيها ، قديما ، حلقات السلاسل التي كانوا يكبلون فيها المجرمين

. في ذاك السجن قضى ، المعمدان عشرة أشهر من حياته . وإنما يبدو أنه لم يكن فيه معنتا . فقد كان هيرودس أنتيباس يوجس ، بسببه ، شيئا من تبكيت الضمير . ونجد في إنجيل مرقس أن الوالي " كان يهاب يوحنا عالماً أنه رجل بار وقديس ، وكان يحفظه، وإذ سمعه فعل كثيراً وسمعه بسرور " ( 6 : . 2 ) . ولا غرو فهو لم يأمر باغتياله إلا نزولا على طلب هيروديا . وكان قد سمح لبعض من تلاميذ يوحنا في اللحاق بمعلمهم . .

. لقد كان بإمكان المعمدان أن يسرح الطرف ، من أعالي الأسوار، في ذاك المشهد الذي بات فيه البحر الميت ، على عمق 12.. متر، كأنه قطعة من السماء هوت في قاع سحيقة . ولا بد أنه كان يجيل النظر أيضأ، جهة الشمال ، ومن فوق الرمال العسجدية والفيافي الغبراء، في ذاك الجبل الذي بات ، برسمه البارز، كأنه غمامة فوق الأفق .. إنه جبل نيبو، حيث وقف موسى يوما، قبل أن يموت ، نظر نظرة أخيرة إلى الأرض الموعودة التي قضي عليه بألا يطأ تربتها. لقد كان المعمدان هو أيضا - مثل ذاك البشير الأول - قد رضي بأن يحل محله رجل آخر : " ينبغي أن ذلك يزيد وإني أنا أنقص. . . "؛ وفوض أمره لله خاضعا . .

السامرية والماء الحي

. في إثر اعتقال يوحنا ، قرر يسوع أن يغادر اليهودية، ويعود إلى وطنه . وكان قد نمى إليه " أن الفريسيين قد سمعوا بأنه يصير ويعمد تلاميذ أكثر من يوحنا " (يوحنا 4 : 1) . فنحن نوجس ، من خلال هذه العبارة الصغيرة، الريب والمقاومات التي بدأت تتعرض لرسالة المسيح العلنية وهي بعد في المهد . ولم تكن بعد قد حانت ساعة التصدي لها بوجه مكشوف . . . هذا وكانت الشرطة، في ولاية أنتيباس ، تبدو أقل تريباً منها في مدينة الكهان . كل ذلك قد أهاب بيسوع إلى أن ينفصل عن أورشليم

. ولكن ، ما الذي دفعه إلى إيثار طريق الهضاب على طريق الغور، في إيابه إلى الجليل؟ لا شك أنه إنما أراد محايدة القيظ الشديد الذي يتراسب في الوادي المحصور، ابتداء من شهر أيار . على كل ، قد أدى اختياره لتلك الطريق إلى وقوع حادثة هي من أروع وأهم حوادث الإنجيل ، تكون شبه حلقة تمهيدية بين فترة الآيات الأولى، وحقبة البشارة العلنية

. إن الطريق من بيت إيل إلى شكيم فالسامرة فعين جنين ، تستمر في المناطق العالية من تلك البلاد . وهي تجتاز بكثير من العقبات والمواقع المشمسة الرمضاء ؛ ولكن الريح تهب فيها، عند المساء، هبوب ذاك النسيم العليل الذي كان بوعز يذري فيه القمح فوق البيدر . . . ولا شك أن الأغبرة الكثيفة كانت في أيام المسيح ، كاليوم ، تفرش تحت أقدام المسافر، بساطا وثيرا، وفي ذات الوقت ، تصيب حلقه بأوار بطئ . وكانت الرحلة من أورشليم إلى بحيرة طبرية، على تلك الطريق ، تدوم لا أقل من ثلاثة أيام

! بيد أن اختيار ذاك السبيل قد يحمل على الاستغراب .. فهو يمر بالسامرة ؛ ولم يكن اليهود ليقدموا على المرور بها إلا بعد روية وتفكير . لا شك أن الفصح كان قد انقضى على مروره ردح وأن السامريين كانوا قد غادروا مراصدهم على أول الطريق ، حيث كانوا يتربصون بالحجاج الوافدين إلى أورشليم ، في فترة العيد، ليلحقوا بهم عكس مظاهر الترحيب والتأهيل ! ولا غرابة في ذلك ، فقد كانت الخصومة القائمة بينهم وبين اليهود، قد تحولت ، منذ زمن بعيد، إلى كراهية راسخة . وذلك منذ عهد الانشقاق الذي حل في الشعب اليهودي سنة 935 ق . م . ، فور موت سليمان ، وتوزع الأمة إلى مملكة صغيرة قامت في الجنوب (مملكة يهوذا)، ومملكة كبيرة، في الشمال ، انضم إليها معظم القبائل (مملكة إسرائيل ) . وما عتمت المعضلات الدينية والسياسية أن أفسدت الصلات بين المملكتين . وفي سنة 88.ق. م . بنى عمري ، أحد ملوك إسرائيل ، مدينة السامرة، وجعلها عاصمة المملكة الشمالية،. فوق مشرف يطل على جميع تلك البقعة حتى البحر الذي يبدو لألاؤه ، عند المغيب ، من خلال فرجة فسيحة بين الهضاب . وعندما هدم سرجون الأشوري ، سنة 733 ق . م . ، عاصمة السامريين ، وشرد معظم أهليها في المنافي ،لم يكن ذلك ليلقي في قلوب إخوانهم من أهل الجنوب ، أقل عاطفة من الشفقة والرثاء .ثم إن الأشوريين ..أحلوا محل الإسرائليين المشردين ، خليطا من الشعوب الوثنية، مستقدما من أربعة أطراف الإمبراطورية الأشورية ؛ فطغت على عبادة الله الأحد، في أرض السامرة، عبادات وثنية مختلطة المصادر . وأما " اليهود "، سكان مملكة يهوذا، في الجنوب ، فقد ظلوا متشددين في إيمانهم ، وقطعوا كل علاقة بأولئك السامريين " الأنجاس "، وقد باتوا، منذ ذلك العهد، في نظرهم ، مثل الوثنيين وأقبح . . . وكان الرابيون يرددون في أقوالهم : " إن ماء السامريين أنجسن من دم الخنزير ! " . . . كان يجب إذن أن يكون اليهودي متلهبا من العطش ، لكي يطلب إلى السامريين من مائهم

! في اليوم التالي ، كان يسوع وتلاميذه قد قطعوا مسافة 5.كيلومترا، فأفضوا إلى ضواحي شكيم ، ذاك الموقع التاريخي القديم ، موطن الآباء والقضاة ، حيث كان يعقوب قد وهب ابنه يوسف أرضا آوى فيها ضريحه ، وحيث كان يشوع قد حشد الشعب المختار، في احتفال مهيب ، ليقطع وإياهم ، مع الله ، عهدا على الأمانة والوفاء . . . يا لها من ذكريات أمسى لها الآن في قلب كل يهودي وفي ، طعم العلقم

. في الموضع الذي كانت قائمة فوقه المدينة التاريخية القديمة، عند الشعب الواقع ، على ارتفاع 7. 5 مترا، بين جبلي عيبال وجرزيم ،لم يكن قد بقي ، إذ ذاك ، سوى قرية موات تدعى سيخار . وكان أهلوها، مع تراخي الزمن ، ما انفكوا ينزحون عنها التماسا للرزق في المنخفضات المجاورة حيث قامت مدينة جديدة، ازدهرت على أيام فسبسيانس، وأطلق عليها اسم " إفلافيا نيا بوليس " ؛ وهي ، اليوم ، نابلس ، ملاذ البقية الباقية من السامريين المنشقين ، يعيشون فيها طائفة صغيرة لا يتجاوز عدد أفرادها المائتين

. إن نص الإنجيل الرابع هو من الدقة في وصف المكان ، بحيث استطاع رينان أن يقول : " إنه ما تمكن أن يروي مثل هذا، سوى يهودي من فلسطين ، قد ألف التردد إلى مدخل وادي شكيم " . بمثل تلك الدقة تميز توقيت الرواية أيضا : فقد كانت الساعة السادسة عندما بلع الموكب إلى مدخل سيخار . وبين أن الذي خرج من أورشليم صباحا، مشيا على الأقدام ، لا بد أن يوافي المكان ، عند ظهر اليوم التالي

. هـي الهجيرة ! فالسهل المحصود كان ، ولا بد ، يضج ، في لظى الشمس ، بأصوات صراراته المتنادية ؛ وتحت القناطر القديمة، لم يبق ، في حفائر السيول الجافة، سوى ركامات من الحصباء، يتخللها، على غير توقع ، بعض الأشجار. وكان يسوع قد أعيا من المسير ، فجلس ريثما يذهب التلاميذ إلى القرية لشراء بعض القوت. وكان هناك بئر ، متقادمة العهد، ذات حرمة عظيمة، معروفة عند القوم باسم " بئر يعقوب " . عند موضع البئر، وفوق أنقاض كنيسة قسطنطينية، شرع في تشييد كنيسة، قبل سنة 1914 ، لم ينجز بناؤها حتى اليوم . ويضم البئر معبد جوفي، يوافيك فيه الكاهن المكلف بالحراسة، بشمعة مضاءة فوق طبق . فإذا أحدر الطبق في البئر، بواسطة حبل طويل ، تبين لك عمق تلك الحفرة السحيقة - 32 مترا - يلمع ، في قاعها، الماء الذي التمسه يسوع

إن للآبار شعرا طالما اهتزت له أفئدة الرحل في الأقطار المجدبة . ولا بدع ، فالشرقي ، في ساعات القيظ ، يحلم بقطرة الماء الزهيدة، ويحن حنينا إلى تلك الأكواز الناضجة، وما يتبرد فيها من سائل ثمين . فإذا ما فتح " صاحب العين " مغلاق الماء، هبطت النساء سريعا، والجرار فوق رؤوسهن . لواحدة من أولئك النساء، الواردات إلى بئر يعقوب ، قال المسيح : " أعطيني لأشرب ! "

. طلب ليس فيه ما يثير العجب . ومع ذلك فقد بدا على جانب من الغرابة بل أوشك أن يكون مستهجناً ، بسبب الأعراف اليهودية، لذلك العهد . فلقد كان مستقبحاً عند معلمي الناموس ، أن يخاطب الرجل امرأة، في العلن .. ففي الشارع حتى وإن كانت زوجته ، أو أخته أو ابنته ، وذلك تفاديا من قالة الناس . ثم هل كان ليهودي صميم ، من أتباع العلي ، أن يخوض فى الحديث مع سامرية كافرة، فيبدو كأنه يضيف بذلك معثرة على معثرة؟ . . للمرة الأولى – ولن تكون الأخيرة- نرى المسيح يتصدى، مطمئنا ، لتقاليد وأعراف ومقتضيات لم تكن – على ما بات لها عند الناس من حرمة- سوى مظهر من مظاهر التعصب اليهودي الذميم

. وسرعان ما انعقد المشهد ؟ وقد أفرغ عليه البشير يوحنا، في روايته النابضة ، رونقا رائعاً من الحياة : " كيف تطلب مني لتشرب ، وأنت يهودي ، وأنا إمرأة سامرية ؟ " . جريئة، لعمري ، تلك المرأة ! تعرف كيف تجيب الرجال ، وفي الصوت ذرة من الوقاحة . ولكن يسوع لم يخدع بلهجتها : " لو كنت تعلمين عطية الله ،ومن هو هذا الذي يقول لك : أعطيني لأشرب ، لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا ! ". وتلقى الدهشة في صوت السامرية مزيدا من الاحترام ، فتجبب : " يا سيد " – ولكنها تستسلم بعد- " لا دلو لك والبئر عميقة ، فمن أين لك الماء الحي! العلك أعظم من أبينا يعقوب ا الذي أعطانا البئر، وشرب منها هو وبنود ومواشيه ؟ " . لقد كان نيقوديموس ، هو أيضا، قد عمد إلى سؤال ، مثل هذا، عقلاني وترابي . فأجاب يسوع بهدوء، قائلا : "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا ؛ ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا ، فلن يعطش إلى الأبد ! ". الماء الحي ! ذاك الذي يبرد قلب الإنسان ، كلما جففته لوائح الشقاء والخطيئة ؛ ذاك الذي " ينبع إلى حياة الأبدية "، والذي كان يرتاح المسيحيون الأقدمون إلى إثبات رموزه على نواميسهم ، وكأنه الوعد بالسعادة . .

. ألعل السامرية أوجست معنى السر، أم أرادت أن تكفي نفسها بعض العناء؟ . . قالت : " يا سيد ، أعطني هذا الماء، لكي لا أعطش ، ولا آتي إلى هنا لأستقي " . إذ ذاك أسقط عنها المسيح ما كانت تتدرع به من أقنعة مزيفة، وانفتحت له سبل الظفر بها. نحن نتصور نظرته إليها، كما كان قد نظر، من قبل ، إلى نثنائيل ! قال لها : " اذهبي ، وادعي زوجك ، وتعالي إلى ههنا" . أجابت : " ليس لي زوج ! ". إنها توارب لتخفي خزيها . قال لها : " حسناً قلت : ليس لي زوج ! لأنه كان لك خمسة أزواج ، والذي لك الآن ليس زوجك . هذا قلت بالصدق !". حسبها ! لقد استسلمت ! وإذا بها تغمغم قائلة ! " يا سيد ! أرى أنك نبي "

ما أقربها إلى الإنسانية وإلى الحقيقة هذه الخاطئة التي تنكشف لنا طويتها انكشافا تاما، من خلال هذا الحوار القصير ! وقاحة ثم اضطراب ، ثم ، في أعماق قلبها - شأن كل النساء - ذاك الخضوع ، وذاك الانصياع لا للبراهين ، بل لما انكشف من قصة حياتها، ثم ذاك الانقلاب الباطن الناجم من شعورها بأن هناك نظرا قد اخترق سريرتها. ولقد اصطفاها المسيح - هي المرأة المنحطة ، نوعا ما- لكي يفضي إليها ببعض من أخطر أسرار الرسالة التي باتت تترقبه . فلقد بدت كأنها تفصح له عما يراودها من تلبية دعوته ، والانضمام إلى دين إسرائيل ، وتأدية فرائض العبادة، ليس فوث جبل جريزيم ، بل في أورشليم . إذ ذاك أجابها المسيح بتصريح جوهري : " أجل ؟ إن الخلاص من اليهود يأتي لا، لأنه من ذريتهم يولد المسيح .ولكنها قد أتت الساعة التي ينبغي أن تتقلص فيها ديانتهم القومية، وتحل محلها ديانة عالمية، يعبد فيها الآب بالروح والحق . . . هل استوعبت حاملة الماء الآتية من سيخار، ذاك الدرس الذي استوت فيه رسالة المسيح دفعة واحدة على الصعيد الذي سوف تتحقق فيه . لا بد أنها فهمت شيئاً من ذلك . فلقد أجابت أن تلك الأشياء سوف تكشف للعالم ، عند مجئ المسيح . أجل ! إنها لا تجهل هذا. إذ ذاك أسر إليها المسيح ، هي الخاطئة والغريبة، بما لم يكن قد باح به ، حتى ذاك ، بأسلوب جازم : " المسيح ؟. . أنا الذي يكلمك هو!"

وانتهى المشهد عند هذا الحد، وما بقي من شئ إلا وقد قيل . وعاد التلاميذ بما تيسر لهم من خبز وزيتون وجبن . ماذا ؟ أفالمعلم يخاطب هذه المخلوقة ؟ لقد فكروا بذلك في أنفسهم ، وإن لم يجرؤوا على الجهر به . أما يسوع فقد كان لم يزل بعد تحت تأثير ذاك اللقاء. . . إنه لجميل الظفر في معركة النفوس . والنعجة الضالة غالية على قلب الراعي . وعندما قدم له الطعام ، قال : " أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم . . طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله . . . "

. واقبل أهل سيخار على يسوع يحوطونه ، متعطشين إلى كلامه ، وقد نادت بهم المرأة ؛ فاستلفت المسيح أنظار تلاميذه إلى أولئك الذين جاءوا ينتظرون الكلمة ..أجل ، سوف ينمو حصاد النفوس ، كما تنمو الحنطة أوان الربيع ، في السهل المجاور . وهؤلاء التلاميذ –وكلهم من أهل الريف الجليلي- هم أدرى الناس بمواسم الزرع ومواقيت نضوجه ؛ أفلم يدركوا أن الساعة قد اقتربت لإعمال المنجل في تلك الحصائد البشرية

. بعد أن مكث يسوع يومين عند السامريين ، تابع سيره شطر الشمال

بدء الحياة العلنية

. مع عودة يسوع إلى الجليل ، ابتدأت فترة حياته العلنية . فالأناجيل الثلاثة (لوقا ومتى ومرقس ) ، قد استأنفت ، منذ تلك الساعة، رواية أحداث بعثته العلنية ؛ وأما يوحنا فقد تفرد بنهج مستقل توخى به الدلالة على أن ابن الله الحامل في ذاته قدرة العلي ، أراد أن يبقى ، مع ذلك ، خاضعا لنواميس طبيعته الأخرى ، فيعبر المراحل الإعدادية الغامضة التي يعبرها كل إنسان تسيره بغية عظيمة (لوقا 4 : 14؛ مرقس 1 :14؛ متى 4 : 17 ؛ يوحنا 4 : 45 ) . كان ، حتى تلك الساعة ، قد حمل الرسالة إلى بعض الأتباع ، إلى يهودي في مجالسة سرية، إلى امرأة غريبة في قرية على طريق الصد ف . وأما الآن فقد حان له أن يتوجه إلى الجماهير، ويسطع بما أكرمه به الآب من مواهب ، ويعلم ، ويصنع المعجزات ، ويستدعي إليه القلوب

ولا بد ، منذ الآن ، أن نواجه معضلة، كان بالإمكان تأجيل البحث فيها، طالما كان الإنجيل الرابع رائدنا الوحيد . تلك المعضلة هي معضلة التوقيت .. فكم دامت رسالة المسيح العلنية؟ ومهما بدا وجه الغرابة في ذلك ، فتلك واحدة من المعضلات التي يجد التاريخ نفسه ، حيالها ، على جانب عظيم من الارتباك. ويخف العجب إذا تذكرنا أن الغاية التي توخاها الإنجيليون لم تكن غاية تاريخية، وأن العناية ، المفروضة في المؤرخ ، بتوقيت الأحداث المثبتة وربطها بعضها ببعض، كانت بعيدة عن مراميها . فالقديس مرقس ، مثلا، يجتزئ بالقول : " وكان يبشر في مجامع الجليل . . . "، أو " وذهب من هناك إلى مدينة صور . . . " . وأما المدة التي كانت تستغرقها تلك التنقلات ، فلا يأتي البتة على ذكرها . والبشير يوحنا نفسه الذي يعتبر ،

. إجمالا ، أكثر عناية بالدقة، فإنه يظل ، في روايته ، دون المقتضى التاريخي الذي يكفي الباحث مؤونة الافتراض ؛ لا سيما وأن الإنجيل الذي كتبه لا يخلو من أن يستلهم ، صراحة، أغراضا ما ورائية لاهوتية حتى إن بعض النقاد قد اشتبهوا برغبة صاحبه في التلميح إلى أحداث العهد القديم ، بل في الانقياد لأساليب الرمزية العددية ، المألوفة عند اليهود

. فلكي نتمكن من توقيت سيرة المسيح ، لا مفر من أن نلتمس ، في الأناجيل الأربعة، تلميحات نهتدي بها، بطريق الاستنتاج ، إلى بعض المعالم .فهناك إشارات واضحة : عندما يذكر الإنجيليون ، مثلا ، عيدا من أعياد اليهود السنوية، فإذا جيء ثلاث مرات على ذكره ، فلا بد من التسليم بفترة لا تقل عن سنتين . هناك ملاحظات أخرى تسوغ كل لنا من النتائج ما يبدو حصيلة استدلالات حاسمة : فنحن نقرأ، مثلا ، في إنجيل البشير مرقس ( 4 : 39)، أن الشعب ، يوم تكثير الخبز ، كان متكئا على العشب الأخضر، بينما نرى التلاميذ، من قبل ، يقطفون السنابل في حقول الحنطة .فإذا ثبت أن الحنطة،في فلسطين ، تحصد قي أواخر نيسان ، وأن العشب ، إذ ذاك ، يكون قد اصفر في الشمس ، فالخلاصة أن بين هذين الحدثين فترة من الزمن لا تقل عن عشرة أشهر أو أحد عشر شهرا

. ومن الطبيعي أن تفسح طريقة البحث هذه مجالا عريضا للافتراض والتخمين ، وأن يلجأ غير واحد من المفسرين إلى تأويل النص بما ليس فيه من إيضاحات توقيتية . فعندما يصرح يسوع لتلاميذه ، في حادثة السامرية، أن حصاد النفوس، قد اقترب ، يعمد إلى هذا التشبيه : " أما تقولون : إنه يكون أربعة أشهر ، ثم يأتي الحصاد؟. . . ". (يوحنا 4 :35) : هناك من ؟ أراد أن يستنتج من تلك العبارة -التي تبدو مجرد قول مأثور- إيضاحا توقيتيا يسوغ تحديد تاريخ تلك الحادثة ، أربعة أشهر قبل موسم الحصاد ! وعندما يورد المسيح ، في مثل التينة، قول صاحب الكرم ، إلى كرامه : " ها إن لي ثلاث سنين ، آتي وأطلب ثمرا على هذه التينة ولا أجد .. . "، فمن المجازفة أن نستنتج ، من ذلك ، أن رسالة المسيح العلنية قد استمرت ثلاث سنوات . .

. اليوم ، بين نظرية القائلين بفترة لا تقل عن أربعين شهرا، ونظرية الذين يزعمون حصر أحداث السيرة كلها في بضعة أسابيع (بحجة أن الشرطة الرومانية لم تكن لتطيق نشاط ذاك المشاغب ، مدة أطول ) تتوسط نظرية الذين يقترحون مدة سنتين وبضعة أشهر ؛ وهي أكثرها شيوعا

. فهذه النظرية المعقولة، إذا أسند ت إلى الملاحظات التي اقترحناها في شأن مطلع الرسالة العلنية، تسمح للباحث بأن يضع جميع أحداث السيرة في مواضعها، من غير أن يلجأ إلى حشرها ضمن فتره ضيقة، ولا إلى توزيعها على آماد لا داعي لها : وإليك خلاصتها : اعتمد يسوع في كانون الثاني سنة 28، وتوجه إلى أورشليم في شهر آذار من السنة عينها . وفي منتصف آيار غادر المدينة المقدسة، عابراً بالسامرة، ليشرع في رسالته العلنية . وتقع "عظة الجبل " حوالي شهر حزيران، و تحتل معجزة"تسكين العاصفة " محلها الطبيعي في شهر كانون الأول . وفي السنة التالية، أي سنة 29، عيد المسيح عيد الفصح ، في الجليل ، وذلك بضعة أيام قبل معجزة "تكثير الخبز. " للمرة الأولى ؛ وأما التجلي فقد تم في يوم من أيام آب المرمضة . وفي خريف هذه السنة الثانية، شخص المسيح إلى اليهودية، ولن يرجع منها أبدا إلى الجليل ، حتى موته. ويكون نيسان سنة 3. هو الشهر الذي تم فيه صلب المسيح وموته

. هناك أمر يبدو ظهيرا لنظرية القائلين بأن الرسالة العلنية قد استغرقت فترة غير يسيرة: وهو الأسلوب الذي اعتمده المسيح لإبلاغ رسالته . فهو، بلا مراء، أسلوب تدريجي ، وذلك وجه من أوجه التقارب القائم بين العهدين ، القديم والجديد . . . فقد أراد المسيح أن يفهم سامعيه أن ملكوت الله الحقيقي يستأنف في اختلاجة النفس ، والرغبة في الكمال ، وأنه لا بد لمريديه من أن يحسبوا حسابا لما سيصادفونه ، عند الآخرين ، من تنكر وخبث ومواربة وحقد، وأن يحققوا مصائرهم مواجهين كل يوم عقبات أعظم . وهكذا فقد سار المسيح قدما. ، شأن الرجل الذي يلاحق عزيمة نضجت إلى أبعد ما يكون النضوج . فهو، مدة خمسة عشر يوما، سوف يعلن للعالم المقومات الأساسية التي يرتكز عليها تعليمه وأسلوبه ، حتى إذا ما جاهره خصومه بالمقاومة، راح يعمد إلى الوسائل الكبرى

تعليم يسوع

. شرع يسوع في التعليم رسميا، فور رجوعه إلى الجليل ، فصادف في تلك المنطقة أكثر مستمعيه عددا وولعا . فلقد كانوا أناسا طيبين ، أولئك الجليليون من أهل الريف أو البحر، رجالا أشداء، خلقا وجسما، نفوسا سليمة وقلوبا مستقيمة . وكانوا قد اشتهروا، في إسرائيل ، بنخوتهم وبشاشة أخلاقهم . وخلافا لما كان عليه جيرانهم في السامرة، فقد كانوا، من يوم ارتدت بلادهم إلى حكم المكابيين ، من أنصار الدين القويم ، لقد كانوا أخشن طباعا من أهل اليهودية آ ولكنهم كانوا أكثر استعدادا للمروءة . لم يكونوا من المتحذلقين في الفقه أو في علم الكلام ، ولكنهم كانوا يحبون الله حباً صراحاً

لقد بدأ المسيح كرازته في المجامع ، . وذلك مما تجدر الإشارة إليه . فإن هناك صورة، أمست مألوفة في عالم الفن ، قد توهم بأن المسيح ما كان يخاطب الجموع إلا في الهواء الطلق ، فوق منحدرات الهضاب الوادعة المطيفة ببحيرة طبرية، أو منتصبا في صدر زورق ، والجموع محتشدة عند الشاطئ تسمع كلامه . فالبشير لوقا الذي توقف على أحداث هذه الفترة (لوقا4 : 4 1 -2 2، و 1 3 : 32) قد أبرز، بوضوح ، الطابع الذي تميز به تعليم المسيح ، في صيغته الأولى : فالمجمع ، لذلك العهد، هو الموضع القانوني الذي كان لا بد أن يعمد إليه اليهودي ، إذا رام نشر رسالة دينية . وهل كان بالإمكان العثور على ما هو أفضل من ذاك المكان المقدس ، الذي كان ، في آن واحد، بيت صلاة ومعهدا دينيا ، يتنادى إ ليه المؤمنون كل سبت . ولم يكن في جميع أنحاء فلسطين ، عهد المسيح ، من قرية، مهما رق حالها، إلا وكانت تعتز بامتلاك واحد من مثل تلك الأبنية . وحتى الجماعات اليهودية ، التي كانت مبددة في جميع أطراف الامبراطورية، كانت قد بنت لها مجامع ، وكان في روما لا أقل من ثلاثة عشر مجمعا . وكان المجمع يتألف من بعض الأبنية البسيطة : قاعة متوسطة الحجم – 24×18 مترا في كفرناحوم – يزخرفها على غير تأنق ، رسوم من الفسيفساء تمثل سعفا ونجوما ، وباحة تزينها بركة الوضوء؛ وبعض حجر للضيوف

. من عابري السبيل ، وقاعات للتدريس . وقد عثر علماء الآثار على بقايا الكثير من تلك المجامع . وكان يتولى إدارتها " رئيس مجمع " يعاونه مساعد، كان يعهد إليه بوظائف السدانة والتعليم والخزانة

.. بيد أن المجامع لم تكن لتستخدم في تأدية شعائر العبادة : فالعبادة لا تجدر تأديتها إلا في هيكل أورشليم . ولذا فقد كان استعمالها محصورا في تعليم الحقائق الدينية والتقاليد الإسرائيلية ؛ يشرف عليها أولو الأمر من الكتبة أو علماء الناموس .

. في واحد من تلك المجامع تكلم المسيح يوما في الناصرة عك حد ما وصفه لنا البشير لوقا، في لوحة نابضة بالحياة ( لوقا 4 : 16 – 21 ) ؛ فإذا به ينهض ، ويعلو المنبر، ثم ينشر صحيفة الرق الطويلة، حيث أثبت نص . أشعياء ، ويقع على بعض الآيات فيقرأها، ثم يعيد السفر إلى الخادم ، ويندفع في تفسير الآيات " بينما عيون الذين في الجمع تشخص إليه بأجمعها " : " روح الرب علي ، لأنه مسحني لأبشر المساكين ، وأرسلني لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر ، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة " ( أشعياء 61 )

. هل أوجس السامعون ما انطوى عليه ذاك النص المنتقى ، من انطباق على الأوضاع الراهنة ؟ وهل ارتاب أولئك القرويون ، قاطنو الهضاب الجليلية، أن الذي يخاطبهم إذا هو عمانوئيل الذي ذكره النبي ، وأن السعادة التي باتت تترقبهم هي أحلي من الرخاء المعهود في سنوات " القبول "، تلك " السنوات السبتية " التي أمر اليهود بإقامتها كل خمسين سنة ، فتظل الأرض ، أثناءها، بلا فلاحة ، وتعتق رقاب العبيد ، وترد الأراضي المرهونة إلى أصحابها؟ . . أجل ، لقد أشار المسيح ، في خطابه ، إلى تحقق ذلك كله : "إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم ". ولكنهم هل أدركوا ؟ . . إن الموقف الذي سوف يقفونه من المسيح ، بعد زمن يسير، يشير إلى أنهم قلما فهموه

. وانحدر يسوع ، في إثر ذلك ، إلى كفرناحوم . ولفظة " الانحدار " هذه على جانب من الدقة. فإنه ، من الممكن ، حتى اليوم ، سلوك تلك الطريق الذاهبة توا من الناصرة إلى ضفة البحيرة. فبعد مسيرة عشر ساعات تقريبأ، تنكشف البحيرة فجأة، بكاملها، في إطار من الصخور النسفية الكالحة، تطيف بزرقتها الشديدة شطآن بلون النحاس الكامد . فإذا ما اجتاز المسافر شعب أربيل ، تبدلت المناظر، وامتدت الطريق متمشية مع شاطىء ضيق في معظمه ، تشرف عليه أجرف شاهـقة . بيد أن قرقرة المياه الصافية، وانسياب الزوارق الوادعة، وخضرة أشجار الليمون والدفلى ، تؤلف لوحة أقل وحشة وجفاء . وكلما اقترب من البحيرة، اشتدت الحرارة، وخيل للمرء أنه والج في دفئه . ولابد أن المسيح قد شاهد، في البعد، ومن جهة الجنوب ، أبراج طبرية البيضاء، وأسطحه أنتيباس المتوهجة بالذهـب . . . ثم تنفرج الأرض شيئاً فشيئا، وينبسط سهل جنيسارت ، بمربعاته الحمراء والصفراء . وكانت كفر ناحوم ، أيام المسيح ، أعظم المدن القائمة عليه . وأما أهل المنطقة فكانوا يتعاطون التجارة والزراعة وصيد الأسماك

. ولم تكن كفرناحوم، كجارتيها طبرية ويوليادا، حاضرة هلينية، بل مدينة يهودية . إلا أنها كانت كثيرة الحفاوة بالوثنيين المنحدرين إليها من سهول حوران الثرية، أو الوافدين إليها من الشواطئ الفينيقية . في أزقتها الضيقة كان يفوح شذا الليمون والورد، فيختلط بالروائح المنبعثة من حراشف السمك المهملة فوق الحضيض . . . وكانت المنازل مبنية فيها بالحجارة النسفية، ما خلا المجمع -الذي كان قد أنجز بناؤه من زمن يسير - فقد كان مرتفعا، في وسطها، بحجارته الكلسية البيضاء . وكان أهل كفرناحوم يعتزون بمجمعهم هذا . وكان قائد الموقع قد تبرع من ماله الخاص ، للمساهمة في بنائه ، (لوقا 7 : 5 ) ، ولا شك أن أنتيباس قد اشترك هو أيضا في تمويل البناء، بدليل، النخلة التي يتميز بها شعاره ، والتي يشاهد رسمها في ما بقي من المجمع ، حتى اليوم " من آثار جميلة

. لقد علم يسوع أيضا في مجمع كفرناحوم . ولكن ما كان موضوع تعليمه ؟ إن أكثر الإنجيليين دقة يبقى، في ذلك ، على جانب من الغموض . هناك فقط خلاصة وجيزة نقع عليها في إنجيل البشير مرقس : " قد كمل الزمان ، واقترب ملكوت الله ، فتوبوا، وآمنوا بالإنجيل " ( 1 : 15 ). التوبة والإيمان : هما، في الواقع ، الركيزتان اللتان سوف . تقوم عليهما رسالة الإنجيل . بيد أن يسوع ، كان ، ولا بد ، يتوسع في أكثر من ذلك ، بدليل ما نجده في النجيل مرقس أيضا من أن الحاضرين " بهتوا من تعليمه "، لأنه كان يعلم كمن له سلطان ، وليس كالكتبة " (مرقس 1 : 22 ) . إشارة بعيدة المعنى ! فهذا السطر، وحده، يصور لنا المسيح ، في رسالته الخطابية ، صورة دونها كل تعليق مسهب ! لقد كان الكتبة يتمحكون في النصوص ، ويكثرون من الإسنادات والمراجع ، ولا يقد مون على قول ، مهما كان بديهيا، إلا وكأنهم يستوحون رأيهم من الناموس أو من الأنبياء، متذرعين بتأويلات بهلوانية في معظمها . وأما المسيح فكان على النقيض من ذلك كله ، وبعيداً أقصى البعد عما ألفه الفريسيون من التحذلق والتصنيع ، يستند، في تعليمه ، إلى مبادئ تلك الشريعة الإلهية التي يمكن كل قلب سليم أن يستوعبها من غير عناء. فهو، منذ تلك اللحظة، ذاك الذي سوف يقول يوما: "ليكن كلامكم : نعم نعم أو لا لا إ. . ". إنه يتكلم بملء السلطة، لأن السلطة العليا متركزة فيه . فهو لا يفتقر إلى الاستشهاد برابي هليل أو برابي شمعي أو برابي غمالئيل ، ولا بأي معلم آخر . . . ولأنه كان مخلصاً للشريعة، فقد كان أهلا لأن يسمو فوق مقتضياتها ويجعلها في متناول الإنسان . وذلك ما حمل الكتبة وأضرابهم من أهل الفقه على ملاحقته بالسخط حتى النهاية

أشفية يسوع

. هناك مآثر أخرى كانت تتجلى من خلالها، في ذات الوقت ، قدرة ذاك النبي المحدث ، فتبعث على القلق والتساؤل . فإن وقع كلامه ، في المجامع ، لم يكن للناس مصدر يقين وحسب ، بل كان يبدو كأنه يملك طاقات أخرى من عالم الغيب، و ليس من المستبعد أن يكون نبأ المعجزة التي صنعها في قانا، قبل شهرين ، قد انتشر في جميع تلك الأنحاء. . . وكان هناك قائد من قواد أنتيباس الوالي ، له ابن في كفرناحوم قد أشرف على الموت . فخطر له أن يستنجد بيسوع . وكان يسوع ، يوم ذاك ، في قانا. ميمما ضفاف البحيرة . فصعد القائد للقائه . ولا بد أنه ذهب باكرا، فوق جواده ، متحديا الهواجر، فوصل، في الساعة السابعة إلى القرية الجاثمة فوق الهضاب . ودنا إلى النبي ملتمسا منه أن " ينز ل ويشفي الغلام " . ولكن هل كان من الضروري أن ينزل ؟. . أو ليس لقدرة الله أن تنفذ من مسافة سبعة أميال ؟. . ولسوف يستغيث بالمسيح ، وفي نفس الأوضاع ، قائد. آخر، أعظم إيماناً من قائد المائة هذا، ويصيح قائلا : " قل كلمة فقط فيبرأ فتاي ! " . وكشف يسوع لسائله هزال إيمانه ، قائلا : " أو لا تؤمنون ما لم تعاينوا العجائب والآيات ؟. . . " ولكن المسيح شفوق ، والوقت قصير. وألح الوالد متوسلا : " انزل يا سيدي قبل أن يموت ولدي ! " فقال له يسوع : " اذهب ، فإن ابنك حي !". بأية لهجة نطق المسيح بهذه الكلمات ؟. . مهما يكن من أمر، فقد حل الإيمان بغتة في قلب ذاك الرجل الذي إنما جاء إلى يسوع كإلى ملاذ أخير . فامتطى جواده ثانية وعاد أدراجه . ووافى الليل ، وبموافاته ابتدأ يوم جديد . ( لأن النهار، عند اليهود، يبدأ في مساء اليوم الفائت ) ، وإذا به يصادف في الطريق ، عند ضفة البحيرة أو في أحد الشعاب ، رجاله ، وقد هرعوا لملاقاته : " الولد في قيد الحياة ! " . فاستخبرهم عن الساعة التي تماثل فيها، فقالوا: " أمس ، الساعة السابعة فارقته الحمى ! " . أجل ! هي الساعة التي قال له فيها يسوع : " ابنك حي ! " (يوحنا 4 : 45-54)

إن السلطة التي أقرها الناس ليسوع في تعليمه ، كان إذن يمارسها في أعماله أيضاً . وكانت تسمو بفعلها عن مألوف الناس . فالأمراض المستحوذة على الأجسام كانت تخضع له ، كما كان يعنو له - وهو أشد دهاء من المرض - ذاك الشر الآخر الذي يفترس النفوس . . . ففي غضون السبت الذي قضاه في كفرناحوم - والذي يتيح لنا الإنجيل استبناءه بوجه دقيق - نرى المسيح ، في مشهد صاعق ، يواجه ثانية ذاك العدو الذي كان قد أبلى به ، في عزلة جبل الأربعين . فالمسيح كان قد انتهى من تفسير آيات الكتاب وكان يخيم على الحاضرين انتباه صامت ، إذ انفجرت فجأة جلبة صراخ بددت الخشوع . . . إنه إنسان يصيح ! . . من مألوف قوات الظلام إنها تهوى الحضور في الأماكن المقدسة، وكأنها تجد في توتر القوى النفسية ما يوافق أغراضها . وكان الرابيون يعلمون أن الأبالسة تهرع في السبوت إلى المجامع ، وتجثم على ركب المؤمنين . ثم أليست الديورة، على توالي الأجيال ، هي الأمكنة التي كثرت فيها وساوس الشيطان ؟

. مس من الشيطان ! ما هي ، يا ترى، تلك الظاهرة التي أورد لنا البشيران لوقا ومرقس أحداثها، بأسلوب شديد الوقع ؟ ( لوقا 4 : 33-37 ؛ مرقس 1 : 23-28). إنه لم يحن الوقت لتحليل مقوماتها. كل ما هنالك أن وصف ذاك المشهد الإنجيلي القصير، يبعث في النفس إحساسا قويا بالحقيقة . فهو، بلا مراء، صراع ناشب بين القوة الروحية التي راحت تخبط الممسوس أرضا، وتصيح بحنجرته ، والإله الإنسان الذي وقف وقفة المعاند الغلاب ، في منتهى السكينة والجلال ! وزفر الشيطان بصوت المعترى، قائلا : "آه ، مالنا ولك يا يسوع الناصري ؟ أو جئت لتهلكنا ؟ لقد عرفت من أنت . إنك قدوس الله !" . لقد أطلقها عثارا تلك اللفظة الأخيرة ! أو يتلفظ بأسم الجلالة . . . وداخل المجمع أيضا ؟ لا بد أن التقاة، من بين الحاضرين ، اندفعوا يمزقون ثيابهم ، وقد كلحت . من الذعر وجوهـهم . وأما المسيح فما كان إلا أن نطق ببضع كلمات ، فعاد كل شيء إلى نصابه . فزجره قائلا : " صه ! واخرج من الرجل " ؛ فصرع الرجل صرعة أخيرة، وتداعى إلى الأرض في صرخة عظيمة . وانتهى كل شيء بتقهقر الروح النجس . وأما الحضور فقد استحوذ عليهم الذعر وطفقوا يتساءلون: " ما هـذا الكلام ؟ . . إنه يأمر الأرواح النجسة بسلطان وقدرة، فتطيعه ! " هناك أحداث أخرى جرت أيضا في " يوم كفرناحوم " ( متى 8 : 14 -17 ؛ مرقس 9:1 2-34 ؛ لوقا 4 : 38-41). وقد أثبتها البشير مرقس خصوصا ، فكان ، في وصفها ، من الدقة، بحيث يخيل إلى القارىء أنه يطالع ذكرى مباشرة من ذكريات سمعان بطرس معلمه ؛ وهو الذي أوحى، ولاشك ، إلى مرقس بمضمون إنجيله . فقد صادف المسيح ، على ضفاف البحيرة ، التلاميذ الثلاثة الآخرين ، الذين كان قد استهوى قلبهم ، عند المعبر . وإذ انتهى يسوع من تناول الفرائض الدينية، في مجمع كفرناحوم ، دعي إلى تناول الطعام في بيت أحدهم ؛ وهو بطرس الذي كان قد أنبأه ، بأسلوب خفي ، أنه سوف يصبح " صفا " أي الصخرة . وقبل الشروع في صلوات البركة الطقسية التي كان يقدس بها كل طعام ، جاء بطرس وهمس في أذن يسوع : إن حماته طريحة الفراش ، فهل بالإمكان إسعافها ؟ لم يكن ذلك طلبا صريحا بل تلميحا لطيفا . . . ما كانت تلك الحمى التي أخذت ببردائها حماة بطرس ؟ لقد كانت الملاريا من الأمراض السارية في وادي الأردن ، يساعد على انتشارها تفاقم البعوض في غدران كفرناحوم . وكانت الحمى المالطية كثيرة التفشي أيضا في الشرق ، تتميز بسوراتها الحادة ، وانحنى يسوع فوق البسط التي كانت المرأة ملقاة عليها، وأخذ بيدها، وأمر الحمى ففارقتها منصاعة ، فنهضت في الحال ، وطفقت تخدم ضيف صهرها، ذاك الذي عافاها من مرضها . .

. وسرى خبر تلك الخوارق ، في كفرناحوم .في غضون فترة ما بعد الظهر كلها . ولا بدع ، فإن تلك الساعات التي تفرضها راحة السبت ، هي أنسب الأوقات للمحادثات الطويلة، وتناقل الأخبار . فما إن أمسى المساء حتى ما بات في القرية إنسان إلا ودفعته رغبته إلى مكاثبة المنزل الذي نزل فيه المسيح ، واستطلاع الأخبار . وكانت شريعة السبت تقضى باعتزال كل عمل، في ذاك النهار، حتى ولو كان مجرد نقل مريض إلى ، عند أقدام المعلم . ( وجل ما رخص فيه الرابيون ، حمل حقيبة صغيرة . . . ) . فما إن غابت الشمس ، حوالي الساعة السابعة ، من وراء الروابي حتى تدفقت الجموع على المنزل ، وقد أتوا بمرضاهم ومصابيهم من كل حدب وصوب . فكان يسوع يضع يديه عليهم تارة، ويأمر تارة أخرى، ويفيض على ا لناس من دلائل عطفه وآيات قدرته . وإننا لنتخيله وقد ازدحمت من حوله الجموع صاخبة مستهامة ، وهو لا يني ملبيا . آمالها، ومقيماً عند حسن ظنها. فالقوة التي كانت له، ما بذلها يوما إلا في سبيل الناس ،. وهكذا منذ أول اتصال جرى بينه ، وبين الشعب ، تجلى ما كان يرحب به، قلبه من رحمة لا حدود لها

. في الغداة، عندما عاد الشعب إلى التجمهر حول منزله ، عبثاً طلب فلم يوجد. لقد نهض قبل الفجر، وراح ينشدُ، في غيابة أخريات الليل ، منُعنزلا عن الناس . وإننا لنقرأ من خلال رواية مرقس ، الدهشة على وجه سمعان بطرس والآخرين : لقد اختفى المعلّم المنتصر! وعندما تعقبوه وجدوه يصلي في أحد الوديان المخفيةّ عن الأبصار، ووجهه إلى البحيرة في هدأة مياهها اللؤلؤية، عند الصباح . ولسوف يكون ذلك دأبه ، مراراً كثيرة، وكلّ مرّة كان يأتي بعمل خارق (بعد تكثير الخبز، مثلا) . وإنما كان غرضه ، من ذلك ، ألا يترك للمندفعين مجالاً للتطرّف في غلوائهم ، لأن يستعيد قوّته في جوار الله . أو لم يصرّح للتلاميذ، في يومه الأخير ، ساعة خذلوه : " ولست وحدي لأن الآب معي ! " (يوحنا 16 : 32) وقال له بطرس : " الجميع يطلبونك ! " ، ومعنى كلامه : " علام . الانسحاب ؟ " . ولكنّ المسيح أبى أن يرجع ، وقد نالت كفرناحوم نصيبها لهذه المرّة . وكان من الضروريّ أن يتوـسـعّ نطاق هذه الرسالة التي كانت قد طلعت طلائعها، فتمتدّ إلى مناطق أخرى ، ويصيب الجميع مبادئها الجوهرية . . . وهكذا ابتدأت ، في سيرة المسيح العلنية، المرحلة الثانية

دعوة التلاميذ

. ولما كان لهذا المشروع أن يتسّع لنطاقات جديدة ، كان لا بدّ للمسيح من أن يتخذ له أعواناً . ولذا فقد اختتم هذه المرحلة الأولى من حياته ، وهي مرحلة قصيرة لم تتعدّ الأسبوعين أو الثلاثة- بتوجيه الدعوة، نهائياً، إلى رفاقه . كان المسيح قد اكتسب ودّهم ، أولئك الذين صادفوه عند ضفاف الأردن . وأماّ اليوم فهـو يريدهم لنفسه أتباعاً يتتلمذون له عن رضى وقبول . ولسوف يأتي يوم (متى 1. ) ينتدبون فيه لشرف الرسالة، فينالون من المسيح قدرة تفوق قوى الطبيعة، ويصبحون ، من الكنيسة، نواتها الأولى

. لقد أثبت البشير لوقا، في هذا الموضع من سياق الأحداث ، دعوة المسيح لتلاميذه .ويبدو ذلك على جانب من المنطق . فالمسيح ، بتعاليمه ،في المجامع ، وبآياته الخارقة، كان قد بين لأولئك الذين أزمعوا اتباعه ، معنى الرسالة التي انتدبهم لها . فالله لا يأتي الناس غرّةً ، والكنيسة لا تطمئن إلى الدعوات المفاجئة الي تمليها العاطفة وحدها . ولكَن إذا تمّ للنفس أن تتأهب بالتأمل ، وتتحقق طريقها، وتروز قواها، دفعها الروح إذ ذاك ، دفعة حاسمة

. إن الإنجيل إنما يثبت لنا قدرة ذاك الحفز الإلهي ، عندما يأتي على وصف الدعوة التي وجهّها المسيح إلى سمعان وأندراوس ويوحنا ويعقوب ، بحزم فائق ، وانقيادهم لذاك النداء انقياداً فورياً، معُرِضين عن كل شيء في سبيل اتباعه . ثلاثة منهم كانوا قد تعرفوا به حق المعرفة، من أيام بيت عبَرَا، والعودة من أورشليم . وأما يعقوب ، رابعهم ، فربّما صادفه عهد مروره الأول بضفاف البحيرة ج ولا بدّ أن أخاه يوحنا كان قد فاتحه بأمره . ومهما يكن من أمر، فالثابت أنْ ما من أحد كان قد وطن النفس على هجر الدنيا وما فيها للالتحاق به ، وخوض تلك المغامرة العلوية ، حيث " من يريد أن يخلصّ نفسه لا بدّ من أن يهلكها" . ومصداق ذلك أنهم كانوا قد انصرفوا عن جماعة المولعين الذين باتوا يلازمون المعلّم ، واستعادوا مهنتهم الأولى، ناظرين إلى مصالحهم الدنيوية الزهيدة ؛ وراح بعضهم يصلحون شباكهم عند شاطئ البحيرة، يشدّونها من وتد إلى وتد، كما هي العادة حتى اليوم ؛ وأوغل البعض الآخر، ليلا ، في عرض البحر، طلبا للصيد . أجل ، لقد كانوا أبعد من أن يبذلوا كل شيء في سبيل الله وحده . إذ ذاك جاء يسوع يستلحقهم ... إن رواية هذه الأحداث ، في إنجيلي مرِقس ( 1 : 11 - . 2 ومتى 4 : 18 -23 ) هي في غاية الاقتضاب : مرّ يسوع بشاطئ البحيرة، فدعا سمعان وأندراوس ويعقوب ويوحنا، فتبعوه جميعهم . بيد أن هذا النص -على ما فيه من اختزال - يصف وصفا أخّاذاً، استحواذ القدرة الإلهية على تلك النفوس المصطفاة، استحواذاً صاعقاً . وأمّا البشير لوقا، فقد استند إلى معلومات أوسع ، فروى خبر ذاك الانتداب في معرض كلامه عن " الصيد المعجز " الشي حقّقه المسيح لصالح تلاميذه . أجل ، هناك منَ يناقش موضع هذه الحادثة من سياق السيرة ؛ إلاّ أنها، إذا احتلت محلّها في هذه القرائن ، فهي تكتسب قيمة فريدة، إذ تصبح رمزاً من أجلى الرموز، يتجـلى، من خلاله ، مصير الرسل " صيّادي الناس "

. أفمجرّد رمز إذن ؟ كلاّ ! فهي تشُعر بأنها من وحي الحياة، بتفاصيلها الدقيقة، وأوصافها الملموسة . لقد كان سمعان وأندراوس وزبدي مع ابنيه يعقوب ويوحنا شركاء في مهنة الصيد، كما هي اليوم حالة البحّـارين على شواطئ طبرية، ومواقع أخرى من شطأن العالم … فإن ضرورة اقتناء شباك ثقيلة الوقر، باهظة الثمن ، وزوارق ومعدات أخرى كثيرة، تحمل رجال البحر على التكتل في السعي والتشارك في المكسب . ويرى اليوم ، فيَ الموضع الذي تمت فيه المعجزة، رجال يتصيدون بشباكهم المستديرة : يسندوها إلى ساعدهم الأيسر، وبيمناهم ينشرونها، قاذفين في البحر، في حركة سريعة محكمة، حواشيها المثقلة بالرصاص . ويشاهد أيضاً، عند المساء، زوارقُ صغيرة، تبتعد ببطء عن الشاطئ ، وتنصب ، في عرض البحر، شِراكاً عموديةّ، مثقلّة بالرصاص ، في حواشيها السفلى، ومجهزّة بعوّامات صغيرة في حواشيها العليا. فإذا ما انتصبت هكذا في اللجة، أخذت في حبائلها ما يصطدم بها ليلاً من رفوف الأسماك . وكانت البحيرة، في ذلك العهد، كما هي اليوم ، مسْمكة جدّ اً . وكانت مواقع الصيد، على شطآنها ، كثيرة، (على حدّ ما ذكرًه ، إفلافيوس يوسيفوس) : منها كفرناحوم ، وبيت صيدا، وعمّاوس ، ومجدلا … وفي الخليج الواقع بين عين طابغة ومجدلا، تلتقي المياه الباردة، ( وهي تنحدر إلى الأردن ، عند ذوبان الثلوج فوق منحدرات حرمون ) والمياه الحارّة (وهي تنبع في كفرناحوم وترفد البحيرة من مصابهّا السبعة ) ؛ وعند ملتقى المائين (البارد والحارّ )، تكثر السبخة ( هي ما يطفو على سطح الماء من أجسام حية ، صغيرة وكثيرة جداً ، ترعاها الأسماك ) ويغزر السمك

! ... كان ذلك ، ولا ريب ، في الصباح الباكر ؛ فالقيظ ، في أخريات أيار، يحول دون العمل نهاراً . ولم يكن الضباب الأبيض قد بدأ يـعوم فوق مياه البحيرة ؛ فكان لها غبرة لؤلؤية، ترتعش فوق صفحتها، بلمعان الفضة، أخاديد الزوارق الماخرة . وقد ازدهت ، جبال جلعاد ، بزرقتها الكوبالتية ، تتشّح ، بين الفينة والفينة، وقبل أن تهمّ الشمس بالبروز ، بأوشحة قاتمة ... لقد ساد السكـون ، وراح البجع الأبيض والوردي يطفو ناعساً فوق البحيرة، بينما ابتدأت غربان الماء حراستها الطويلة، تنتصب لها، صابرة، فوق حصباء الشواطئ . وعاد الرجاَل ، وفي أجسامهم إعياء، وفي قلوبهم أسى : فلقد قضوا الليل كله في الصيد . وإذ عجزوا عن مراقبة مسالك الرفوف ،بسبب إنحجاب القمر، عمدوا إلى أخشاب ينفرّون السمك بقعقعتها، لعلها تؤخذ بحبائلهم ... ولكنهم باؤوا بالخيبة

. وعاد سمعان من الصيد، مع فرقته ، في أحد تلك الزوارق الرحبة التي كانت تتسع لثلاثة عشر شخصاً (لوقا 8 : 22- 25 ؛ متى 8 : 23- 27 ؛ مرقس 4 :35-41)، فأبصر يسوع على الشاطئ وقد طوّقه الجمع يلحّ ملتمسا كلاماً وآيات . وإذا بالمعلّم يفُلت منهم ، ويثب إلى السفينة، ويواصل منها كلامه إلى الجماهير الواقفة عند الضفّة

. ألعلّ المسيح آنس من صديقه تجهّماً، وقد هدّ عزيمته جهادٌ عقيم طوال الليل ؟ إن النفس المجهودة تجد إلى الله تقرّباً، والكلمة الحلوة تعيد إلى الجسد المكدود قوّةً وتأسية . قال له يسوع : " ابعد إلى العمق ، وألقوا شباككم للصيد ". ولكنّ زعيم الصيّادين كان متيقناً أنها محاولة لا بدّ فاشلة . فأجاب : " يا معلّم ، قد تعبنا الليل كلّه ولم نأخذ شيئاً! " . إلاّ أن ثقثه بذاك الذي تقدّم إليه بالمضي في العمل ، كانت من الرسوخ ، بحيث استدرك قائلاً : " ولكن على كلمتك ألقي الشبكة ! ". وطرح الشبكة في الماء فأخذ فيها من السمك ما أوشكت أن تتخرّق به الحبائل . فأمسى لا بدّ من الاستنجاد بالزورق الآخر، والتكاتف في العمل ، فملأوا السفينتين حتى كادتا تغرقان !.. هكذا انطلقت تباشر معجزة أخرى، معجزة الملايين من أبناه .الإنسان يؤخذون عبر الأجيال في شباك الرسل " صيّادي النفوس "، ويحملون ، في سفينة المسيح ، شطر الموانئ الأبدية

... ويلفت النظر في هذه الحادثة، بروز شخصية بطرس . فهو رُباّن السفينة . إليه تتوجّه أوامر المسيح ، وعليه تنفيذها،. فهو في تلك المعجزة التي حرّجت عليه اتخاذ قرار بالرفض أو بالقبول يضطرب ويتلعثم : " أخرج من سفينتي يا رب ، لأني رجل خاطئ ! " . ولم يكن زملاؤه بأمثل منه حالة ؛ فنحن نوجس فيهم صراع المقُدمين على قرارات حاسمة ، والتزامات مصيرية . أجل ، إنهم يدركون ، بوجه الإجمال ، ما يتوقّعه منهم المعلّم ؛ فلقد توفّر لهم مجال التفكر في ما عاينوا وسمعوا، ولم يقرّروا اتباع المسيح ، عن تهوّس أعمى، كما زعم بعض الوثنيين - فيما بعد- من أمثال برفريس الفيلسوف ، ويوليانس الإمبراطور الجاحد ؟ ومع ذلك كله فقد كانت المخاطرة صعبة والرهان ثقيلاً

. وقال يسوع لسمعان : " لا تخف ، من الآن تكون، تصطاّد الناس ! " . ولمّا جاؤا بالسفينتين إلى البرّ ، تركوا كل شئ ، وتبعوه ! وهكذا استطاع المسيح ، بقدرته - هذه المرّة أيضاً- أن يحقق ما لم يكن في طاقة الطبيعة أن تسلّم به . والذي يدعو إلى العجب ، أكثر من اختباط السمك داخل الزورقين ، إنما هو ذاك الانقلاب المفاجئ الذي تمّ في نفوس أولئك الأوفياء ، فراحوا، من ثم، يحملون في الدنيا أعباء مهمة خارقة، سوف يكونون لها أكفاء ! أولئك الرجال الخاملون من أهل البحيرة، أولئك المساكين الذين حُرموا كلّ علم وثقافة، على عواتقهم سوف تنهض الكنيسة الناشئة !.. ما كانوا سوى بشر كغيرهم من أبناء الناس ، إلى أن كانت إليهم نظرة وكلمة : وإذا بهم طلائع المبشرين


1. سيبل : Cybele وهي إلهة الأرض ، أو الإلهة الأم ( وأحياناً أم الآلهة ) ، عرفت بهذا الاسم عند اليونان وآسيا الصغرى ، حتى القرن الخامس قبل الميلاد ، وعرفت بأسماء أخرى كثيرة منها : عناة ، عشتار ، إيزيس .. إلخ ( معجم ديانات وأساطير العالم - إعداد د.إمام عبد الفتاح - مكتبة مد بولي )

  فيلم يسوع باللغة العربية