بذار الكنيسة
. تتكوّن أرض الجليل ، في أجمل بقاعها، من أتربة رسوبية حمراء . فإذا ما شق فيها المحراث أثلاما، خلْتها، فوق جلدتها ، كلوماً دامية . ثم هي ، بعد حـين، بساط مفُـوِّى . فإَذا ما التفعًتْ زاهية بالحنطة، تغشاها بسنابلها الناضجة ( وقد تعلو هامة الرجل )، فهي أشبه ببرْدة من الأرجوان موشّاة بالذهب . إن أتربة روسيّا السوداء، وسهول الصين الصفراء قد توحي ، إلى حدّ أبعد، بمثل ذاك الإحساس بالخصب المرَيع . وأما سهل عزر يلون وجنيسارت فلا أدري أي رمز خفيّ يقيم فيه الصلة ما بين ثروة الحنطة ، وذكرى اللـحم والدم
. في تلك التربة المحظوظة اثر البذار أن يلقي بذار تعليمه ؛ وتلك المنطقة التي درجت فيها حداثته ، والتي عرض فيها ملامح العمل الذي أزمعه ، سوف يثبت على عهدها أشهراً طويلة... ولسوف يقضي أكثر من ثلثي رسالته في نطاق تلك السهول وتلك الهضاب ، وتلك البحيرة التي غدا فيها صيّادا للناس . وأما الأقاليم الثلاثة الأخرى، فاثنان منها لن يجتاز بهما إلاّ اجتيازاً سريعا، وهما السامرة وبيرية . وأما اليهودية فسوف يقف لها سعيه الأخير ، ويخصّها بمذاق العلقم وعطش النزاع وعود الصليب ... وهكذا، فإن المشاهد الجليلية، في الانجيل ، يغمرها جوّ من النور الهادىء . ولا شك أن يسوع قد خبر طعم السعادة فوق تلك الآكام ، وعند تلك الشواطىء ا لسا جية
. الجليل ولاية صغيرة جداَ عرضُها، من الشرق إلى الغرب ، أربعون كيلومتراً ؛ وتمتدّ طولاً ، من الشمال إلى الجنوب ، إلى نحو ثمانين كيلومتراً . ولم يكن عدد سكانها ليتجاوز الثلاث مئة ألف نسمة . فيجب أن نتصوّر رسالة المسيح محصورة ضمن نطاق ضيقّ جدّاً ؟ وفي ذلك ما يعلل ، نوعاً ما، سرعة اشتهاره
. إلاّ أن الجليل ، على ضيق رقعته ، متنوّع الآفاق . فبين جليل الجبال العالية، وجليل الهضاب ، ومنطقة البحيرة الساحلية، فروق بينة . وتنتظم خريطة البلد، على شيء من الإبهام ، حول محورين : فمن جهة، السهلُ الطويلُ الذي يمرّ به سيَلْ قيسون التاريخي ، والذي يمتدّ عند سفح تلك السلسلة المنتهية، عند البحر، برأس الكرمل ؛ ومن جهة أخرى، مجرى الأردن ، في الداخل
: والأقليم كله على جانب عظيم من الثروة. "فهو - على حدّ قول إفلافيوس يوسيفوس - خصبً ، في جميع أرجائه ، تكسوه الأشجار، على أصنافها، ويستحثّ إلي العمل أقلّ الناس نشاطاً. ولذلك فهو مستغَلّ في جملته ، لا تكاد تعثر فيه علي أرض بور . وتكثر فيه المدن والقرى، من وفرة الميرة فيه " . فخصب التربة، ورطوبة المناخ ، وغزارة المياه المنحسرة من حرمون ، كل ذلك بات من مقوّمات ثروة قد تبدو عجيبة، في بلد من بلاد الشرق المتوسّطي . وقد أثر عن الرابيين قوًلهم ، بشئ من الإطناب
! " إن إقاتة فيلق برمتّه ، بزيتون الجليل ، أيسر من إعالة طفل واحد في سائر مناطق إسرائيل " . ولا تنحصر محاصيل البلاد في الزيتون ؛ بل هناك الحنطة والشعير والكرمة والنخيل ونباتات أخرى متنوعة، تنمو بوفرة نادرة . ويؤكد يوسيفوس أن التين يؤكل ، في الجليل ، مدة عشرة أشهر
. بالإمكان إذن أن نتصوّر المسيح - وهو يخطب في الجموع المزدحمة من حوله - في مثل هذا الإطار، وقد بات اليوم ، كما كان أيام المسيح ، تقريباً، بمرتفعاته المكسوّة بالشقاّر والأقحوان ، وحقوله الصغيرة المتشابكة، ودساكره البيضاء المبذورة بين الآكام . . . وأماّ البحيرة، فقد ثبتت صورتها الطبيعيةّ على حالها عهد المسيح (2. كم ×1. كم ) ، وبقي لها اليوم ما كان يشُاهد لها من انعكاسات فوق صفحة مياهها الشفاّفة ؛ وباتت رمال شواطئها – بحصبائها السوداء، وما يخالطها من أصداف صغيرة بيضاء – لينّةً وثرةً ، مثل تلك التي وطئتها أقدام المسيح . إلاّ أن هناك شيئاً قد تبدّل : فقد كانت ضفافها أكثـسكّـاناً منها اليوم ، يقوم فيها عدد ضخم من القرى المزدهرة، لم يبق منها اليوم إلاّ مدينة طبرية . وأماّ المواقع الإنجيلية الأخرى فقد بادت ولم يدم لها من معالم سوى رسوم شاخصة، وخيام للبدو ، وخصاص من قصب ... لقد كانت تلك المنطقة، عهد كان يتجوّل فيها المسيح مع أتباعه ، شبه " الشاطىء الأزرق " في فرنسا، أو صورةً تضاهي تلك البحيرات الإيطالية ( كوم ، كارد) حيث المدن والقصور والقرى تنتثر بواجهاتها البيضاء، بحذاء ماء صافية
. لقد لبث المسيح إذن ، في الجليل ، من أواخر أيار سنة 28 إلى حزيران سنة 29. وتلك - بموجب التقويم اليهودي - فترة أطول مما هي في تقويمنا . وذلك بأن الأشهر القمرية تتألف من ثمانية وعشرين يوماً . فكان لا بدّ ، إذ ذاك ، من إضافة شهر، كل ثلاث سنين ، في أواخر الشتاء ، ما بين آذار ونيسان ، لإزالة الفرق بين التوقيت القمري والتوقيت الشمسي . والواقع أن عام 29، قد وقع فيه أحد تلك الأشهر الإضافية، فبات أطول من مألوف الأعوام . وهكذا قضى المسيح أكثر من 5.. يوم ، يتجوّل في أرجاء المنطقة . وكان ، أغلب الأحيان ، يسعى ولا شك على قدميه ، وأحيانأ يستعين بركوبة : فإن هناك أسفاراً باتت أسرع ممّا يطيقه المشاة . وأمّا في المناطق الساحلية، فكان يعمد كثيراً إلى زوارق تلاميذه الصيّادين . وإذا استثنينا رحلة سريعة إلى أورشليم ، فالمسيح لم يغـادر وطنه ، سحابة تلك الفترة كلّها، إِلاّ مرّتين : مرّة، ذهب فيها إلى صور وصيدا، الحاضرتين الفينيقيتن ، ومرة أخرى شخص فيها إلى المرتفعات الشّجرة، حيث قامت قيصرية، عاصمة فيلبس . رحلتان قصيرتان ( فالمسافة بيى كفرناحوم وصور، أقل من 75 كيلومتراً )، لا تزال حوافزهما طيّ المجهول . وربما دعت إليهما مقتضيات الفطنة ؛ أو - ما هو أبسط من ذلك - الرغبة في تجنّب قيظ السواحل . وعلى كل ، فهاتان الرحلتان لم تقطعا ، على رسالة الإنجيل ، سياقها
. كان الجليليون الذين وجّه المسيح إليهم الدعوة، من الفلاّ حين المكفيّين ،أو من الصيادين العائشين في خفض من عمل شباكهم ؛ كلهّم من أهل الجدّ والكدح . وقد جاءت شهادة يوسيفوس مطابقة لما ورد عنهم ، في الكتاب المقدّ س ، عهدَ المكابّيين ، لا أنّهم كانوا رجال بأس منذ الطفولة، يقذفون الرعب في قلوب أعداء الحق له . أجل ، لقد كان بإمكان أهل اليهوديّة أن يمتهنوا أولئك الريفيين ، ويهزأوا من خشونة لهجتهم ، ورطانة لفظهم ، ويحتقروا جهلهم لأساليب المماحكة الكلامية. . . ولقد جاء في أقوال أهل أورشليم : " إذا ابتغيت الثروة، فاذهب شمالاً ، وأما العلم فاطلبه جنوبا ! " . إلاّ أن أهل الجليل ، مع ذلك كله ، كانوا يملكون من المناقب ما تُصاغ به الأمم القوية، ويُصار به إلى المآثر الكبرى. ولقد كان للمسيح شأن في توجيه الدعوة أوّلاً إلى مواطنيه ، وقد ثبت في يقينه أن البذار لن يذهب هدراً في تربة بلاده الطيبّة . وإنما تجب الإشارة إلى أن المسيح لم يكن ليأمن كل خطر من توجيه كرازته إلى قوم من ذوي النفوس الساذجة والبأس الشديد، كانوا -. في القرن السابق – قدً تصدّوا بهمةّ عالية للغزُاة الوثنيين الزاحفين عليهم من الساحل . فلقد كان يخشى ألاّ يؤانسوا في ملكوت الله سوى ضربٍ من ضروب الصولة الزمنية، وفي المسيح سوى ملك مظفرّ ! ولذلك فسوف نرى المسيح يعُنى كل العناية بألاّ يركَب مواطنوه مثل ذاك الشطط. ولقد رضي بمجازفة تمكّـنَ معها من إيثار تلك القلوب البسيطة على ذوي العلم والتعصب من أهل اليهودية . . . وكان مأثوراً، في التعاليم الربّينبةّ : " أنّ الثروة أقلّ قيمة من الشرف في نظر الجليليين " ؛ ولذلك فما كان جليليّا ذاك الذي باع معلّمه بقبضة من المال
لقد تمّ إذن انتـخاب التربة المعدّ ة للبذار . ويبدو أن يسوع أراد أن يجعل من هذه الحقبة الجليلية موسما لإرساء جذور الكنيسة. فهو، في الوقت نفسه ، يعرض جوهر تعليمه ، ويستميل إليه تلك الجموع المولعة التي سوف يتألّف منها جمهور المؤمنين ، وُ يخرجُ لها – بفضل معجزة سهلة التفسير – صورة أولى عن الإفخارستيّا . ثم نراه يعمل على حصر نطاق نشاطه ، شيئا فشيئا، منقطعاً لانتخاب تلاميذه وتنشئتهم . وأمّا في اليهودية، - فيً المرحلة الثانيةً من حياته – فسوف تتحقق الناحية القربانية من رسالته . من البديهي أن تأسيس الكنيسة لن يهتمّ نهائيّأَ إلاّ بذبيحة الجلجلة . بيد أن جوهر كيانها وعقيدتها ، إنما أنجِز إعلانهُ في حقبة الجليل . أوَ لم يصرح المسيح ، في تلك الفترة، وفي أحد أمثاله : " هكذا ملكوت الله كأن إنساناً يلقى البذار على الأرض ؛ وينام ويقوم، ليلاً ونهاراً، والبذار يطلع وينمو، وهولا يعلم كيف؟ " ( مرقس 4 : 26 )
. إن الأسلوب الذي اعتمده المسيح ، في تلك الفترة التي بلغت فيها البشارة أقصى مداها، لا يختلف البتة عن ذاك الذي انتهجه في الفترات التمهيدية . فهو، من جهة يخطب ويعلّم ، ومن جهة أخرى يكشف عن قدرته بالمعجزات . وإنما يبدو أن شخصيته ، مذ ذاك ، قد اكتسبت أبعاداً لا مثيل لها . أجل ، إن قدرة الله الحيّ كانت قد تجلت في ذاك النبيّ المجهول ، يوم اخترق ، بنظرْة واحدة، قلب نثنائيل والسامرية، أو في ذاك الشافي الذي أفاء إلى اَلطمأنيئة أحد قوّاد أنتيباس . . . بيد أن تلك القدرة باتت أبهى جلالاً في ذاك الذي راحت الجموع الذاهلة تطيف به ، وهو يخرج لهم ، متكاثراً بين يديه ، ما هو ضروري من خبز الحياة ؛ أو في ذاك الخطيب الذي راح ، من على متن زورق ، أو في فضاء مدرّج ما بين الهضاب ، ينطق بأقوال ثوريةّ تقَلْب الأعراف . هكذا نمت رسالة المسيح شيئا فشيئاً . وما انقشع السرّ عنها تمام الانقشاع إلاّ في اللحظة التي انزاج فيها الحَجرَ عن باب القبر ، وظهر المسيح للنسوة ناهضاً من بين الأموات . بيد أن ملامحها باتتَ تتًـكشّف للناس ، مع توالي الأيام في الجليل ، وبات يتجلىّ ، شيئا فشيئاً، من وراء قسمات وجه النبيّ الإنسان ، جلالُ وجه الله
. لقد كان لكلام المسيح -على ما يبدو- وقع عجيب في الجماهير. فالشرق شديد الإعجاب بفصيح الكلام ؛ وفي تقاليد الساميين ، من يهود وعرب وبابليين ، كان على كل واضع مذهب جديد أن يكون رجلاً من الملهمين ، تجيش القلوبُ لفصاحته . ويوم عهد الله إلى موسى ، عند العوسجة الملتهبة، بإعتاق شعبه من العبودية ، حاول التملّص من تلك إلمهمّة الساحقة بقوله : " … لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا من أول أمس ، ولا من حين كلمت عبدك ، بل أنا ثقيل الفم واللسان ! . . " (خروج 4 : 1. – 16 ) . لقد كان أعاظم الأنبياء كلّهم من أرباب الفصاحة . ومن الثابت أن المسيح قد ملك مثل تلك القدرة على تحريك النفوس بالكلام . ويتضح لنا، من إحدى صفحات مرقس ، أن الجليليين ، لسماعه ، تهافتوا عليه يومأ، ولجّوا في محاصرته ، فاضطرُ إلى الانسحاب من بينهم ، وجاز البحيرة على متن زورق ، فازدادوا اندفاعاً ، وبادروا إلى الطواف حول البحيرة لملاقاته في الجهة المحاذية . . . وقد اتفق للجماهير أيضأ، وهم منصتون إليه ، أن سهوا عن فوات الساعة، وزوال النهار، وذهلوا حتى عن استغاثات الجوع
ماذا كان موضوع كرازة المسيح ؟ هناك طائفة من التعاليم كان ينشرح لها القلب اليهودي ويأنس بها. فعندما كان يقول لمستمعيه :" أنتم نور العالم . . . فليضئ نوركم قدّام الناس ، ليروا أعمالكم الصالحة، ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات " (متى 5 : 14 – 16 ) ؛ أو كان يردد على مسامعهم : " أنتم ملح الأرض ! . ." (متى 5 : 13 ) ، كانوا، إذ ذاك ، يفقهون ، من غير عناء، معنى كلامه ؛ كيف لا، وهم خالفة ذاك الشعب المصطفى، الذي بات يفخر بكونه رسول التوحيد، منذ ألفي سنة ! . . وأن يبُشِّروا بملكوت اللّه ، وما يتـقّبهم فيه من تأسية أحزانهم ، ومغفرة زلاتهم ، وسعادة مقيمة، وخلاص ؛ وأن يعُلنَ لهم : " إن ابن الإنسان قريب على الأبواب ، وأن هذا الجيل لا يمضي حتى يكون هذا كله " (مرقس 13 : 29- 3.)، فذلك كان ، ولا شك ، يصادف عندهم أحرّ الموافقة، ويرُضي ، بكلمات وجيزة ، ما كان يكمن في كيانهم من ترقب دهريّ . بيد أن تعليم المسيح ظلّ ، مع ذلك ، بعيداً كل البعد، عن نسق تلك الدعاوات التي طالما أطلقها، في هضاب فلسطين ، رجال متهوّسون ، نصفُ أنبياء ونصف متآمرين ، لا يبغون ، من ورائها، سوى إرضاء الصلف اليهودي . لقد كان يسوع ، بالمعنى الصحيح ، من المناقضين ، يجابه اللياقات والأعراف المقرّرة في تحديد الواجبات والحقوق ؛ ويتصدّى لما هو بديهيّ من وجوه الرفاه والتوقّر . . . ماكان تفكير ذاك الشعب الجليلي ، يوم طرقت أسماعه كلمات المسيح ، حيث قال : " سمعتم أنه قيل : عين بعين ، وسنّ بسن ! وأما أنا فأقول لكم : أحبوا أعداءكم ، أحسنوا إلى من مبغضيكم ! " (متى 5: 38 ؛ لوقا 6 : 27) . أي خروج ، فيَ ذلك ، على المبادئ السلوكية؟ ! أوَ ما كان يبدو لمواطنيه – حتى في المواقف التي لم يبلغ فيها إلى مثل ذاك التطرّف – على جانب فريد من الغلواء ، يوم راح يؤكّد لهم مثلاً، أنه لاُ يحرّم القتل فقط ، بًل مجرّد الحنق أيضاً (متى5: 21)، وليس الزنى فحسب ، بل حتى تلك النظرة العَـكرة التي يحوّط بها الرجلُ المرأةَ التي يشتهيها (متى 5: 27 ) . هذا، ولم يَكن يكتم عنهم أن تعاليمه سوف تحدث مقاومات هائلة، وأنّ أتباعه سوف يسُامون ألوانا من " الإهانة والاضطهادَ "، ويتُهّمون زوراً بشتى المآثم (متى5: 11 )، وأنّه لا بدّ لهم مع ذلك ، من أن "يحملوا صليبهم " بفرح ! (لوقا 14 : 27). هذه الأقوال المذهلة، وكثر من أشباهها، تبدو اليوم كأنها قد فقدت صرامتها، وأمست لغواً وخطابة ! وقد لطّف الناسُ تلك الحكم العنيفة، وكأنّ آذانهم باتت تنوء بها ! أجل ، إن استيعابها ليس دائماً بالأمر اليسير . فلغة الشرق تجنح إلى شئ من المغالاة، وفيها وُجُوه ٌمن التعبير لم تكن لتخفى على معاصري المسيح مراميها الصحيحة ؛ فإذا حملناها على معانيها الحرفية، تعرّضنا لأن نخرج بها عن الأغراض التي قصد إليها المسيح نفسه . إن ما يُطلَب من المسيحي ، من خلال ذاك الكلام الثورويّ ، إنما هو التنكّر للميوعة سالسهولة والمذاهب المسلكيّة الرغيدة . وليس من حاجة إلى التزام المستحيل . فإنه لم يؤثر قط عن رسول من رسل المسيح أنه " قلع عينه " أو أنه " قطع يده " حجباً للتجربة . وًيسوع نفسه ، في غضون آلامه ، لم يحوّل خدّه الأيسر لمن لطمه على خدّه الأيمن . والكنيسة لم تثنِْ على أوريجانوس ، يوم ضحىّ برجولته ، رغبةً في تفسير بعض آيات من الإنجيل (متى5: 29 – 3. ) بأنها فرائض إلزاميةّ ! فلا بدّ إذن من أن نأخذ بتعاليم المسيح أخذا حرفياً ، حجهد المستطاع ن ولكن من غير جنوح إلى الفضيحة والفوضى …
. هذا ويبقى واقعاً أن المتحضر من أهل هذا الزمان – باستثناء ما ندر ! – لا يفكر مطلقاً بأن يحول خده الأيسر لمن يلطمه على خده الأيمن ، وأنه يزهد كل الزهد في أن يبذل رداءه لمن يغتصبه ثوبه ! والحق أن هذه العبارات لا تزال تُسخطنا ن مع أن لنا من المسيحية تراث ألفي سنة . فكيف بتلك الجماهير من أهل الجليل ، وقد وجهت إليهم في جدتها الأولى ن وسنائها الساطع ؟ … ولا شك أن أولئك اليهود الذين ألفوا المحاسبة الدقيقة ، في تطبيق الشرائع الموسوية ، قد فوجئوا بها ، بقدر ما يمكن أن يفاجأ بها ، في القرن العشرين ، أقوام من المسيحيين المتضجعين في تقاليدهم البرجوازية . فلكي يكون هذا الكلام قد وفق إلى بعث ذاك الولع الشعبي الذي يذكره الإنجيل ، لا بد أن تكون قدرة خفية قد انطلقت منه ، وأن يكون الجليليون قد أنسوا، من خلال بساطتها المطلقة، شيئاً يفوق طاقة المخلوق
. تلك القدرة قد تجلّت أيضا في المعجزات التي جاد بها المسيح ، طوال مقُامه في الجليل . وكأنما أراد أن يدعم كلامه ويوثق إيمان أتباعه ، بتلك الخوارق التي كانت تلُجىء أعصى الناس إلى الإقرار بمصادرها العلوية . ومعجزات المسيح فئتان : منها ما توخىّ به التخفيف من برُحاء الناس والإعراب عمّا كان يحفل به قلبه من رأفة لامحدودة بتلك الطبيعة الرهينة بجميع ألوان العذاب ، والتي منها اتخذ الكلمة جسداً . وأماّ الفئة الأخرى فقد باتت مرتبطة ارتباطاً أوضح بالأهداف الماسويةّ، فتجلىّ بها، من خلال الحسد الفاني ، مجد الله الحيّ !
. يجب أن نتمثل المسيح وسط زُمرَ من المرض والعرُجْ والشُلّ في توارد مستمرّ . وكانوا يتقاطرون إليه ، فور توقفّه عن الكلام ، عند خروجه من مجمع ، أو هبوطه من زورق : فمن عمُي يلتمسونه بأحداقهم الفارغة، وصمّ يشخصون إليه بوجوههم الكَثيفة. وًلم يكن من قرح خبيث إلاّ وكانوا يقدمون على طرحه أمام ناظريه . وأماّ يسوع فكان يستجيب لذلك كله استجابة لا تعرف الملل . وكان حسبه أن يلمس رغبة صادقة، أو يقع على قبس من الإيمان ، فيجعل شيئاً من قدرته في خدمة تلك القضايا الصغيرة
. في ذات يوم ، جاء المسيح رجلٌ أبرص ، - واحد من أولئك الذين يثيرون كره الناس واشمئزازهم - واندسّ في الجمهور، خلافاً للسنةّ الموسويةّ القاضية بعزلهم (اللاويين 13 :45) . وكشف للمسيح عن اللمعة الحمراء الكريهة، االمكوّرة بشكل فوهة بركانيةّ، يتخللها شعر أبيض . وقال له : " إن أردت ، تقدر أن تطهرني " . أجل إنه يؤمن بقدرة المسيح الخارقة ويتوقع منها غياثاً . . . ولكن ، من أي صنف كان ذاك البرص ؟ فلفظة البرص كانت تطلق على علل كثيرة منها أمًراض جلدية سهلة الشفاء؛ ومنها السلّ العظمي ، ذو القروح المصدّدة، وهو نادر الشفاء، يفتك بسلاميّات الأصابع فيفكّكها ؛ ولا يزال له آثار في الشرق . ومنها البرَص الحقيقي ، ولم يكـن له -إذ ذاك - عند الناس ، علاج ! مهما يكن من أمر، فحسب المسيح كلمة، بل إشارة! ومدّ يسوع يده قائلاٌ : " أريد ، فاطهر ! " . وللحال زال قرحه ، فاستُطير من الفرح ، وتوجّه توّاً إلى قادش - وهي مدينة اللاويين في الجليل - ليشُهِد الكُـهّان فيها على حقيقة شفائه (على ما جاء في الشريعة الموسوية، لاويين 13 : 4 1 )، ويشكر لله تَطهَره من البرص (لوقا5: 12-16 ؛ مرقس 1 :4.- 45 ؛ متى 8 : 1-4)
. وهكذا نرى المسيح يُعيد الحركة إلى مشلول سيق إليه ، والمرونة إلى يد يابسة بسُطت نحوه ، والبـرء إلى غلام أحد القوّاد، كان قد أشفى على الموت . ولم يكن ليستفئ رحمةَ المسيح إخوتهُ في العنصر والدين فقط ، بل كلّ بشر ! ففي رحلته إلى فينيقية، وهي البلد الذي كان يضمر أهلهُ لليهود بغضاً- على حدّ ما أثبته يوسيفوس – نراه يستجيب دعاء الغرباء والوثنيين ، ممن جاؤوا يستنجدونه . منهم ذاك الأصم الألكن الذي قُدّ م إليه ، فوضع أصابعه في أذنيه ، وتفل ولمس لسانه بريقه ، وقال له : " إفّثاً ! أي انفتح ! "، وللوقت انحلّت عقدة لسانه ، وانفتح مسمعاه. (مرقس 8 : 31-37) . ومنهم أيصاً تلك الكنعانية التي أقبلت تستعطفه على ابنتها المريضة ؛ وإذ تظاهر يسوعٍ ، بادىء الأمر، بصرفها، وجدت ، لاسترحامه ، كلمات مؤثرة ، غاية في التواضع . فقد قال لها المعلم : " ليس حسناً أن يؤُخذ خبزُ البنين ، ويلُقى للكلاب ، فأجابت وقالت له : نعم، يا سيّدي !والكلاب أيضاً تحت المائدة تأكل من فتات البنين " (مرقس 7 : 24-3. ؛ متى15 : 21 – 28)
! لقد عزًتْ الكنعانية إلى الشيطان بلوى فتاتها . ولا غرابة في ذلك ، فقد كان الناس ، في ذلك العهد، يتوهّمون الشيطان في كل مكان . وقد ورد في التلمود أن الأبالسة يألفون التردّد إلى الأماكن التي يبيت فيها الرجال وحدهم ، وقد يحضرون أيضاً في المخادع الزوجيّة . فإذا ذُرّ الرماد على حضيضها، ظهرت ، عند الصباح ، آثار أقدامها المعقوفة مثل أقدام الديك . وكانت تعُزى إليهم أمراض عصبية كثيرة، باتوا يكافحونها بالعزائم . وقد روى يوسيفوس خبر رجل اسمه أليعازر، زعم يوماً ، في حضرة الامبراطور فسبسيانسُ ، إعتاق رجل استحوذت عليه الأرواح . فجعل تحت منخريه خاتماً فيه " حشيشة سليمان "، واندفع يعزّم عليه بالرّقى . . . وأمّا المسيح فما تذرّع بشيءٍ من ذلك ، بل اجتزأ بكلمة واحدة، كان فيها شفاء ابنة الكنعانية
. بيد أن القوى التي كان يجابهها، في جولات عنيفة، لم تكن ليستهان بها . فلقد أفضى ، يوماً، إلى بقعة الجدريين - وهي المنطقة الواقعة جنوبي بيت صيدا يولياس ، عند ضفة البحيرة - فواقع فيها رجلاً به شيطان ، كان يقضي حياته في القبور . ( هناك كهوف لا تزال حتى اليوم في الصخور) . وكان من الشراسة بحيث لم يكن في طاقة إنسان أن يقمعه . إذ ذاك جرى بين المسيح والروح النجس صراع ما كان إلاّ لقدرة اللّه أن تحرز فيه نصراً ساحقاً . لقد كان المجنون هناك يصيح ويتخبـطّ ؛ فما إن مثل المسيح ، حتى هرُع إليه ، وكأنّ قدرة خلاّبة قد اجتذبته . وصاح ، وكأنما أراد هو نفسه أن يعُمل الرقية في خصمه العنيد : " مالي ولك ، يا يسوع ابن الله العلي ؟. . اسنحلفك بالله أن لاّ تعذبني ! " فسأله المسيح : " ما اسمك ؟ " فقال : " اسمي لجئون لأننا كثيرون !". فقال يسوع : " اخرج من هذا الرجل ! "، فانصاعت الكتيبة الشيطانية، وتهاوت تلتمس فريسة، فإذا بقطيع من الخنازير، فدـخلت فيه ؛ فتواثب القطيع عن الجرف إلى البحر ! . . برئ الرجل ، وجلس عند أقدام يسوع ، صحيح العقل ، هادئ الأعصاب . ولقد جرى ذلك كله في جوّ من الرعب والبساطة في آن واحد. فأوجس أهل المنطقة ذعراً من ذاك النبيّ ، وما يملكه من قدرة خارًقة، فتوسلّوا إليه أن ينصرف عن تخومهم (لوقا 7 : 26-39 ؛ مرقس 5: 1-2. ؛ متى 8 : 28 - 34 )
. والواقع أنها مرُعبة تلك القوة التي كانت بين يدي المسيح . ولكنه خلافاً للسَحرَة، بل خلافا لموسى بالذات ، لم يسخـرّها قطّ إلاّ للخير . فالموت نفسه كان خاضعا لها . . . فلقد جرى ذلك ، في نايين (نائيم) ، وهي قرية صغيرة بقرب الناصرة . وكان المعلم شاخصاً إليها مع تلاميذه . وإنهم لصاعدون اليها في المقربَة التي لاتزال مسلوكةً حتى اليوم ، وإذا بموكب ينحسر منها شطر الرموس المَنحوتة في سفح الهضبة . وكانوا يشيّعون شاباً فوق نعش قد همدت عليه جثة مُسجّاة بكفن . ومشت وراء النعش امرأة تذرّف السـمع صامتةً لا ثشكو شيئاً، ولا يختلح في ضميرها فكرة واعية، من شدّة الأسى . ولكنّ رأفة الله قد نفذت إلى أعماق تلك النفس الملتاعة : إنه لا بدّ لتلك الأرملة من ان تستعيد ابنها وسندها الأوحد ! . . . ودنا يسوع من النعش ، ولمسه قائلا : " أيها الشاب ، لك أقول قم ! " ( لوقا 7 : 1 1- 16)
. وجرى مثل ذلك ، مرّة أخرى، في كفرناحوم أو في جوارها : هبط يسوع من الزورق ، وإذا في الجمع رجل ينتظره ، اسمه يايروس( يائيروس) . وكان من وجوه القوم ، ورئيساً للمجمع . وكان له ابنة وحيدة قد أشرفت على الموت ؛ فجاء يتوسّل إليه . ولا ريب أن ذاك اليهوديّ المؤمن قد تذكّـر، في تلك اللحظة، أن إيليّا وأليشع قد بعثا أمواتاً ، (كانا يعمدان إلى الجثة، وينطرحان عليها " الفم فوق الفم ، والعين فوق العين ، واليدان فوق اليدين له ) . . . وإذ أقبل إليه من ينبئه بوفاة ابنته ، لم يكفّ عن التوسّل ، بل ظلّ ثابتاً على إيمانه بقدرة اللّه . . . وذهب يسوع إلى بيت الميتة، فإذا بالأمتعة قد قُلبت حدادأ، والزمّارين قد أخذوا بالنواح ؛ فقال يسوع : " طاليثا قومي !". كلمتان أثبتهما مرقس بالعبرية، فكانت بهما الكفاية! " يا بنية، لك أقول قومي ! "، فأطاعت الفتاة، ونهضت أمام والديها ؛ وكانا من شدة الدهش بحيث اضطرُ المسيح -وفيَ قلبه عناية الوالدين - أن يطلب لها من والديها طعاماً . ( لوقا 8 : 4.-42 ؛ 49-56؛ مرقص 5 :22-24 ؛ 35-43 ؛ متى 9 : 8 1 – 9 1 ؛ 23 - 26 )
. لقد كانت إذن هائلة، تلك القوّة، ومع ذلك ، في منتهى الروعة والبساطة . ولقد مرّ بنا أن يسوع لم يتذرعّ قطّ بما كان يتذرعّ به السحرة والرابيوّن من رقىً وعزائم ، ولم يلجأ، في سبيل إحياء الموتى ، إلى ما كان يلجأ إليه كبارالأنبياء، من طرائق . فلقد كانت إرادته كافية لإرغام الطبيعة . إن القوى الجهنمية بحاجة إلى الاعتمال والتمحّل . وأما المسيح فكانُ يجري ، بمنتهى الطبعيةّ، أعمالاً باتت ثفوق الطبيعة. وإذ اتهمه خصومه يوماً بالتعامل مع قوى الجحـيم ، في إجراء تلك الخوارق ، أجابهم هادئاً، مطمئناً : " فإن كان الشيطان يخرج الشيطان . فقد انقسم على ذاته ، فكيف تثبت مملكته؟" (متى 12 : 26). فكل شيء ، في بـطًل تلك المشاهد، يفوح اطمئناناً وثقة بدعوته ؛ بل كل شيء فيه ينمّ عن اللّه
. إن المشاهد الكبرى التي تتخلّل هذا الجزء من الإنجيل قد بات لها، على ما يبدو، غاية أخرى : وهي أن تقوم ، في نظر أولئك المحظوظين الذين اختارهم يسوع أعواناً ، دليلاً ساطعاً على عظمته الفريدة . أجل ، إن الأشفية، وإخراج الأرواح ، وبعث الأموات ، كل ذلك يبهر العقل ، ويلتبس على المنطق . وإنما يبقى بإمكان الذهن أن يتقصى مؤديّاتها، ويكتشف لها شبه حلول وعلل . وأمّا أن ينفّذ إنسان إرادته في عناصر الطبيعة، ويتمكن من نواميسها الأساسية ! . . كان المسيح ، ذات مساء، قد تعب من التبشير، فاستسلم للنعاس في زورق بطرس ، مسنداً رأسه إلي تلك الوسائد التي ما زالت ، من عهد هوميرس حتى اليوم ،ُ تجهزّ بها موخّرات السفن . فهبّت الريح . وربما كان ذلك في الفصل الذي تنصبّ فيه الرياح على البحيرة " زوبعةً هائلة" (على حدّ ما جاء في أحد النصوص الربّينية)، وذلك عبر الشـعاب التي تخدّ نجاد شرقي الأردن . . . وعَـبّ البحرُ، واصطفقت أمواجه ، ثائرة ، تعوي عواء العناصر إذا نشطت من عقالاتها . . . إن الملاّحين ، في طبرية، يهابون حتى اليوم ، مثل تلك العواصف . فهرع التلاميذ إلى يسوع يوقظونه : " يا سيد ،نجنا ، فإننا نهلك"، ففتح المعلّم جفنيه . في ظرف مثل هذا الظرف ، كان جواب قيصر المتعجرف للبحار الذي كان عابراً بهً بحر الأدريتيك : " علامَ الخوف ، وأنت تقُلِّ قيصر وثروته ؟ "؛ وأمّا يسوع فاكتفى بأن قال : " أين إيمانكم ؟ " .ثم انتصب ، وبسط ذراعه في حركة مثّلها رامبراندت في صورة رائعة، وقال للريح : " صه ! "، وللبحر : " أصمت ! " . إذ ذاك استحوذ على قلوب التلاميذ ذهول آخر، ورعب أعظم ! أجل ، لقد كانت ثقتهم بالمعلم عظيمة ! ولكنهم ما كانوا ليتوقّعوا أن يطوّع الريح والبحر ! (لوقا 8 : 22- 25 ؛ مرقس 4 : 35- 41 ؛ متى 8 : 23 – 27 )
. هناك عاصفة أخرى استدعت معجزة لا تقِلّ روعة عن الأولى . وكان للتلاميذ، ليلتها، وحدهم ، في السفينة . وأمّا يسوع ، فكان قد انتحى موضعا يصليّ فيه ، كمألوف عادته . وكان التلاميذ قد فصلوا عن الشاطىء الشرقي يرومون كفرناحوم . ولكن الرياح الهوجاء كانت ترتدّ بهم شطر اليمّ . وعند الساعة الثالثة من الصباح ، كانوا ما زالوا بعد على خمسة كيلومترات أو ستة من المرفأ ، وقد أوهى التعب سواعدهم . إذ ذاك تمثل لهم خيال مقبل إليهم فوق المياه ؛ فانتابهم الخوف لمشهد ذاك الطيف . إلا أن صوتاً تناهى إليهم ، في تلك اللحظة ، قائلاً : " انا هو لا تخافوا ! " ؛ ولم تكنملامح الشبح ، في الظلمة ، على كثير من الوضوح . فصاح بطرس قائلاً : " إن كنت أنت هو ، فمرني أن آتي إليك على الماء !" ؛ فقال : " تعال ! ". فألقى بطرس نفسه في اللجة . ولكنه ما إن جس ، بقدمه ن الغمر المتحرك ، وآنس ذاته في ذاك الوضع المهدد حتى داهمه الشك ؛ وللحال بدأ يغرق . فأمسك يسوع بيده ، وتوجه به شطر الزروق ن وأصعده إليه . لقد كانت العبرة بينة : فالذي يطالب به المسيح أولئك الذين تبعوه ، إنما هو الإيمان بلا خلل ، مهما كانت مريبة الظروف التي يقذفهم فيها
. ذاك هو الوجه الثاني الذي تميزّت به الرسالة التي قام بها يسوع ، طوال ثماني عشر شهراً، وسط الهضاب الجليلية. فهو، في الوقت نفسه ، قد علّم ، وبرهن عن قدرته بالآيات . ولم يكن هناك أدلّ على قدرته ، من معجزتىْ " تكثير الخبز "، حيث استعاد المسيح ، نوعاً ما -ولمجرّد إقاتة بعض آلاف من الجياع - قدرة الخلاّق ، فبعث في الناس طعامة بات كأنه ، سلفاً، بشرى الطعام الذي سوف تغتذي به الأرواح ! ويتبين أن المسيح ، في مختلف نواحي رسالته ، قد اتبع نهجاً واحداً، في ما هو من تبليغ رسالته وفق نظام تدريجي ، والاحراز من أن يكشف للناس ، دفعة واحدة، عن مضمون تعليمه . فكما سنراه يخاطب الناس بأمثال ، نراه أيضاً يتقدّم إلى الذين أوثروا بمعجزاته ، أو الذين وقفوا عليها، بألاّ يبوحوا بها للجموع . فهو قد حظرَ الكلام ، مثلاً ، على الأبرص والأخرس ويائيرُس وكثر غيرهم . وإنما ليس من عجب ألاّ يكون ذاك الحظرْ قد نُفّذ تنفيذاً كاملاً . فالولع الذي أثاره المسيح بكلامه ، كان زهيداً إلى جانب ما أثاره بخوارقه :" فكلما زجرهم عن الكلام ، ازدادوا إعلاناً لتلك الأمور، لأن إعجابهم به كان عظيما" : مثلُ هذا التعبير كثير في الإنجيل
. يبقى أن نعرف كيف كانت أصداء هذه المعجزات في المسيح ذاته ، من حيث بشريّته ! قد لا يعسر أن ندرك ، فيه ، نفسيّة الخطيب الذي بات يسيطر على الناس بقوّة بلاغته . . . ولكن ما كان أمر الشافي، وقهّار الأبالسة، وباعث الموتى؟ . . . إن الإقلاع عن كل بحثٍ نفسي متعين هنا ! فإنما نحن بإزاء سرّ مطويّ ! بيد أن هناك حادثة قصيرة- وردت في الأناجيل المؤتلفة- تبسو كأنها تفُسح إلى ذاك السرّ منفذاً، لا يعتم أن ينحجب من جديد ؛ وإذا بتلك الأسطر الانجيلية تخلّف من المعضلات أكثر مما تكشف عنه من حلول ! . .
. لقد جرى ذلك في اليوم الذي أنهض فيه يسوع ابنة يائرس من الموت . فقد كان في الجمع امرأة يحرّم عليها الشرع اختلاطها بالناس ، إذ كانت مصابة " بنزيف دم " باسوريّ ، باتت معه ، في نظر الناموس ، من فئة المنجسين . وكانت ، عبثا، قد استفرغت لشفائها كل حيلة ؛ وقد صرّح مرقس – بلا مواربة- أن الأطباّء كانو! قد تحيفوا ثروتها . . . وربما كانت قد عمدت ، أيضا، إلى الوصفات الغريبة التي أشار بها حكماء إسرإئيل في معالجة ذاك الداء : من مثل حمل رماد بيضة نعام في جراب صغير فوق الصدر، أو حبةّ شعير مأخوذة في روث بغلة بيضاء. مهما يكن من أمر فقد توفقّت المرأة إلى أن تدنو من المسيح –ولم يًبق لها سوى أمل وحيد ! – ستلمس أحد الأهداب الزرق التي كان يحملها، - جريا على العوائد- في أطراف عباءته . " وفي الحال – على حد ما جاء في إنجيل لوقا- (في تلك اللّحظة السرّية المعيّنة)، وقف نزف دمها. فقال يسوع : " من لمسني ؟ فإني قد شعرت بقوّة قد خرجت مني !". لقد أوجس ، في وسط الجموع المزدحمة من حوله ، ذاك النداء الصامت الموجّه إلى قدرته ، وعرف أن الآب ، بواسطته ، قد أثاب إيمان تلك المرأة . فقال لها، وهي عند أقسامه مرتعدة : " يا ابنتي ! إيمانك خلّصك ، اذهبي بسلام ! ". أجل ! إننا ندرك حق الإدراك صنيع المرأة، وثقتها المتواضعة . وأماّ يسوع ؟ . . فهل نفقه شيئاً من ذاك الجهاز النفسيّ الذي أنبأه بالقوّة التى استرقت منه ؟ . . ربما كان بالإمكان أن نتحسّس ، من خلال هذه الحادثة، شَيئا من السرّ السحيق الذي اكتنف عمل الطبيعة الإلهية، عبر الطبيعة الانسانية، في السيد المسيح
. علينا أن نقتفي الآن يسوع في رحلته التبشيرية ضمن بلاد الجليل ، ونصغي إلى التعاليم التي وجهّها إلى الجماهير الزاحفة في إثره . وليس عسيرا على من يطالع الأناجيل المؤتلفة، أن يتمثل تلك التكتّلات الشعبية المتراصّة في العراء، وكأنها التربة يلقي فيها الإله المتأنس بذار تعليمه ، في بساطة وجلال . لقد كان " يهوى " - ربّ القدرة والمهابة- قد اختار سيناء، في روعة موقعه ، ووحشة إطاره، ودخان عواصفه ، لكي ينُزل الوحي على موسى . وأمّا معلّم الانجيل ، فكان حسبه من المواضع ما بات أقلّ شموخاً وفخامة ؛ فإمّا خليح وادع ، مزدان بأشجار الدلفى ، تصطفق لديه مياه البحرة اصطفاقا لينا؟ وإماّ هضبة ضيقّةُ تحدق بها التلال : تلك كانت المدرّجات التي ترجّعت فيها أصداء صوته
. لقد أثبت مرقس في إنجيله أن المسيح " وابتدأ أيضاً يعلّم عند إلبحر، فاجتمع إليه جمع كثير، حتى أنه دخل السفينة وجلس على البحر، والجمع كله كان عند البحرعلى الأرض " (مرقس 4 : 1 ) . وجاء في لوقا " ونزل معهم ووقف فى موضع سهل هو وجمع من تلاميذه ، وجمهور كثير من الشعب ، من جميع اليهودية وأورشليم ، وساحل صور وصيداء …. ورفع عينيه إلى تلاميذه وقال . . . " ( لوقا 6 : 17 -2.). فتلك التعاليم التي ألقاها من على السفينة، والخطبة التى قالها فوق الجبل إنما هي جوهر الانجيل وخلاصته . والعالم المسيحـي ، منذ ألفي سنة ، يسعى ، جهده ، إلى وضع تلك الأفوال التي دوًتْ في ربوع الجليل ، موضع التنفيذ . ولو كُتب على الإنسانيةألاّ تكون قد أكرْمـت " بالتطويبات " وبالأمثال الإنجلية الكبرى لحُرِمت أجمل ما نطق به لسان بشر
. لقد كثر الجدل في تحديد الموضع الذي ألقْيت فيه " خطبة الجبل ". فالبعض يذهبون إلى جعله في " الطابغة " وهي على بعد 13 كـلم شمالي طبرية، و 3 كلم من كفرناحوم . هناك رابيةٌ قليلة الارتفاع ، قد تتسع لاحتضان جمع غفير . وقد أثبتت فيها بعضُ. التقاليد القديمة الموضع الذي جرى فيه الحادث الإنجيلي ؛ وكانت تشاهد فيه ، منذ أمد قريبَ ، أشـجار عتيقة، عُرِفت " بأشـجار التطويبات "، وقيل إنها شهدت يوم الخطبة . ولكن هل ينسجم ذاك المكان المؤنس - في جوار البحيرة- وما يوحي به الإنجيل ، إيحاءً جليّـاً، من أن الموضع كان منعزلاً ، وموحشاً بعض الشيء ؟ ولذا فقد ذهبت تقاليد أخرى إلى اعتماد موضع آخر، وهو شبه مرتفعٍ تكتنفه رابيتان منخفضتان ، يطلق عليهما اسم " قرون حطيّن " . . . فالبقعة موحشة، بمروجها الشاحبة المكسوّة بالبرَاوِق ، وحـجارتها النسفيّة السوداء المضرجة بدم الشقائق الأرجوانية . وتشُاَهدَ البحـيرة من خلال الفرجة الواقعة بين التلال . . . في تلك البقعة، أو في بقعة مضاهية لها، تغمرها الأضواء، ولا يزينها سوى شـجيرات ، وأعشاب ، وركامات حجارة، وآفاق جميلة، ينبغي أن نتمثل مشهد " الخطبة " ، وليس وسط الأروقة والآثار، كما تصوّره رامبراندت ، بتأثير ممّا ثبت فيَ ذهنه من صور حياة الفلاسفة
. أمّا نص " الخطبة " فقد ورد في إنجيليْ متىّ ولوقا، (متى5: 7؛ لوقا 6 :17-49)، على شئ من التباين . فقد ذكر الأول ثماني تطويبات ، بينما اكتفى الآخر بذكر أربع . ولكنّ لوقا قد عقبّ على " التطويبات " بأربع " لعنات " لا نجدها في رواية متى . وهناك تباين ، بين الروايتين ، في التعبير أيضاً . فالبشير متى يجنح ، أكثرمن البشير لوقا، إلى تأويل وصايا المسيح تأويلاً روحياً . فهو يورد، مثلاً ؛ " طوبى للمساكين بالروح " وليس " طوبى للمساكين " ؛ ولا يذكر " الجياع " فحسب ، بل " الجياع والعطاش إلى البرّ " . إلاّ أن هذا التباين لا يبلغ قطّ حدود التناقض ، ومن اليسير أن نجد له تعليلاً . فالبشير لوقا قد توجّه بانجيله إلى الوثنين الداخلين في طاعة الدين ، واكتفى ، من ثمّ ، بالتنوية بوصية المحبّة، وهي ، من الانجيل ، شريعته الجوهرية . وأمّا البشير متى فقد عمد الى إبراز ما تتميزّ به الخطبة من سموّ وعظمة
. قد تُسُوئِل أحياناً : هل خطبة الجبل هي خلاصة مواعظ كثيرة، جمعها الإنجيليان في نصّ واحد متماسك . مهما يكن من أمر، فإن طريقة التوسعّ ، والفكرة الأساسية، والأجزاء الرئيسية متشابهة في كلتا الروايتين . وتسطع ، في كلتيهما، بجلاء تامّ ، تلك الأصالة السامية التي تتميزّ بها تعاليم المسيح الصحيحة
. إفتتح المسيح خطبته بتلك العبارات الغريبة الصادمة، التي روّجت لها اسم "موعظة التطويبات " ؛ ثمّ مهّد لها بذكر المناَقب الي لا بدّ منها لدخول ملكوت اللّه ؛ فصاح قائلاً : " طوبى للمساكن بالروح -أي الذين يحسنون التجرّد - فإن لهم ، ملكوت السماوات . . . طوبى للودعاء، فإنهم يرثون الأرض . . . طوبى للأنقياء . . . طوبى للرحماء . . . طوبى لصانعي السلام . . . "
.. كل ذلك يبقئ في حيزّ المعقول : فإن " يهوى " ، هو أيضاً، كان يثيب أهل الفضيلة. ولكن هناك ما بات أشدّ غرابة : فالمحرومون ، على هذه الأرض ، هم المفضّلون ، بالمعنى الصحيح ! ذلك ما يقوله لوقا صراحة : " طوبى لكم ، أنتم الفقراء ، .. أنتم الجياع ، … أنتم الباكين الآن …. أنتم المرذولين والمضطهدين …. " . ثم إنه يستعين بأسلوب من أساليب الطباق المعهودة عند خطباء اليهود ، فيضيف ، زيادة في الإيضاح : " الويل للأغنياء ، لأنهم أصابوا ، على هذه الأرض ، عزاءهم . الويل للضاحكين وللذين يلتمسون عند الناس فخرهم ومجدهم … " . إنه لم يكن على خطأ ذاك الحكيم الإسرائيلي الذي كتب ، في ذات الحقبة تقريباً : " الملكوت إنما هو إنقلاب الدنيا ! " . لقد كان " يهوى " ، في العهد القديم ، كثيراً ما يثيب ، على هذه الأرض ، أمانة المؤمنين وطاعتهم : وقد جرى مثل ذلك لأيوب الصديق . وأما اليوم فما بقي على الأرض ثواب يرتجى ! وإنما هناك ، في السماء ، ميزان كل شئ . وأما الدنيا ، فنصيب المؤمنين منها علقم واضطهاد ! أو لم تكن تلك قسمة الأنبياء جميعاً ؟
. ويخلص المسيح من ذكر الأنبياء ، إلى تحديد موقفه – وهو الذي قال عن نفسه : إنه أعظم من نبي – من شريعة إسرائيل : " لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء ، بل لأكمل " . إن شريعة الله ثابتة أبدية ؛ وإنما ينبغي البلوغ بها إلى غاية مراميها الروحية ، والتسامي بها فوق بر الكتبة والفريسيين . لقد كانت الشريعة الموسوية تنهى عن القتل : " لا تقتل ! " . أما المسيح فيذهب إلى تحريم الغضب والعنف . كانت الشريعة تنهى عن الزنى . أما يسوع فيذهب إلى ضرورة النقاوة حتى في النظر إلى النية . كانت الشريعة ترخص في الطلاق . أما يسوع فيريد الزواج ثابتاً لا ينفصم . كانت الشريعة تحرم الحنث وشهادة الزور . وأما تلميذ المسيح فعليه أن يقول الحق بلا مواربة ومن غير أن يستشهد السماء ولا الأرض . لقد كانت العدالة القديمة على جانب من القسوة ، ومبدأ " العين بالعين ، والسن بالسن " من القواعد المقررة ، أقله من الناحية النظرية
. وامّا يسوع فقد ذهب إلى أن روح الشريعة الحقة يقوم بالتماس الكمال في أهدافه العُليا، حيث يُصْبر على الإهانة، ويُتنازل عن الحق ، ويُتنكّـبُ عن الئأر، ويُغْلب الخصمُ بالمحبة . فهل كان ذلك كله مجهولاً في إسرائيل ، ومحدَثاً إحداثاٌ جنرياً؟ لا، بل! إننا نعثر في تعليم الرابيين، على أقوال تضاهي أقوال المسيح ، ولا سيما في شأن النقاوة الباطنية، واستقامة النيّة، وإنْ تعذّر الجزم هل هي قبل المسيح أم هي من وحي الإنجيل . وأمّا في شأن معضلة الطلاق والحَلف ، فقدكان رأي الأسينين ورأي المسيح واحداً . بيد أنّ ذاك الذى ما كان ، في تقاليد إسرائيل ، سوى اتجاه استثناني موفّق ، أصبح ، مع المسيح ، سُنّةً شاملة، ومبدأ حياة روحية : فتمّ بذلك تحوّل حاسم ، في نظرة الإنسان الى الحياة
شطْر ذاك التحوّل في مفاهيم الحياة أراد المسيح أن يذهب بأتباعه ، في الجزء الثاني من خطبته . فماذا عليهم أن يعملوا لكي يبلغوا إلى الحياة الجديدة ؟ . عليهم أوّلاً أن يسعوا إلى الفضيلة سعياً نزيهآ مجرّداً . فلا يخطر ببالهم أن يتباهوا، أمام الناس ، بحسناتهم ، ويتبجّحوا بصدقاتهم وأصوامهم . فليس البرّ بحاجة إلى أن يُعلن بالبوق أمام اللّه ، كاشف خفايا القلوب . ويجب أن يكون أتباع المسيح من نفاذ البصيرة بحيث يؤثرون الكنوز الحقيقية، على تلك التي يكدّسها الناس على هذه الأرض . وليكن القلب جميعه في غمرة من نور الله . " أطلبوا أوّلا ملكوت الله وبرّه ، وهذا كلّه يزاد لكم ! " . فالله رحيم ، لاُ يخيّب طلباً . أوَ ليس هو الأب الذي يؤتي الناس خبزاً ؟
. وتنتهي الخطبة بدعوة سريعة إلى التنفيذ : " من يسمع أقوالي هذه ، ولا يعمل بها، يشُبّه برجل جاهل بنى بيته على الرمل ". ويتبين أن هذه الموعظة تحمل إلى حدّ بعيد صبغة الظروف التي قيلت فيها. فهي ، في موقعها من مطلع الرسالة الإنجيلية، أي حوالي شهر حزيران سنة 28، قد توجّهت إلى أولئك الذين أزمعوا اتبّاع المسيح ، فإذا هي دستور الكنيسة الناشئة . ولكنها قد توجّهت أيضاً إلى تلك الجموع المختلطة التي غلبت فيها العناصر الشعبية ؛ ولذلك فقد جاءت تعابيرها من البلاغة والسهولة بحيث باتت في متناول أبسط فرد من أفراد الشعب . وذلك ما يقع في نفسنا، نحن أيضاً، وما يفرغ على تلك .ً الكلمات ، بعد ألفي سنة، وفي مختلف الأمصار، ما تختلج له القلوب. فإنه ليس بالإمكان ألاّ نهتزّ لسماع مثل هذه الأقوال : " أقول لكم : أحبوا أعداءكم ! " أو " إذا صُمت فادهن رأسك ! " أو " لا تستطيعون أن تعبدوا الله والمال ! " . . . فإن هذه الحِكم ، في بساطتها الرائعة، إنما تنفذ إلى أعماق قلب الإنسان ، وتكشف عماّ يصطرع فيه من أهواء هاصرة، ونزوات الحقد والكرياء والشهوة
لماذا لا نقع جملى مثل هذه البساطة، وذاك الأسلوب البليغ البين ، في جميع التعاليم الإنجيلية ؟ ففي الفترة التي عقبت ، عن كثب ، تاريخ خطبة الجبل ، أي حوالي شهر تشرين الثاني ، سنة 28، عدل المسيح –على ما يبدو – عدولاً تاماً عن أسلوبه الأوّل ، وطفق يتكلم " بأمثال " ! لماذا ؟ . . إننا بإزاء معضلة شهيرة، لم تصادف ، حتى اليوم ، على كثرة ما وقف لها من أبحاث ، حلاّ مرضيأ من جميع جوانبه . فهناك من يذهب إلى أنهَ لم يطرأ على طريقة يسوع الخطابية، تبدّل و بالمعنى الصحيح ؟ وأنّ " المثل "، في مفهومه الواسع ، توجد له نماذج في خطبة الجبل . من ذلك قول المسيح : " أنتم ملح الأرض . لكن إذا فسد الملح فبماذا يرُدّ إليه طعمه ؟ " (متى5: 13 ) . فالمؤمنون ، إذا فترت عبادتهم ، يشُبهون بالملح العتيق الذي تعرّض للهواء والشمس طويلاً ، ففقد ملوحته . . . فذلك ، توسعّا، ضربٌ من ضروب " المثل " . إلاّ أن هناك من المفسّرين من يعتقد – بالعكس – أن تبدّلاً مقصوداً قد طرأ على طريقة المسيح في تعليمه . فلربما أقلق المسيحَ ما صادفه ، منذ مطلع رسالته ، من مقاومات الفريسين وسعاَياتهم ، فآثر الاستعانة بأساليب التورية ، ريثما تحين الساعة، فيعمد إلى أسلوب أوضح . إننا نجد في إنجيل متى (13 : 1.-17) شبه تعليل لذاك السرّ. ولكن كم يبقى غامضا، ذاك التعليل ، ومُثيراً للجدل ! وذلك أن التلاميذ، إذ سمعوا المعلّم يتكلّم بأمثال ، استفسروه عن طريقة تعليمه هذه ، فأجاب : " قد أعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات . وأمّا لأولئك ، فلم يعط. فإن من له سيعطى ويزداد. وأماّ من ليس له ، فالذي عنده سيؤخذ منه . . . لإن قلب هذا الشعب قد غلظ ، وآذانهم قد ثقل سماعها . وغمضوا عيونهم . . . ولكن ، طوبى لعيونكم لأنها تبصر ، ولآذانكم لأنها تسمع ! ". عبارات غريبة، تكاد أن تبعث على الريبة والشكّ . وَلتُصبحُ أشدّ إحفاظاً وإثارة، إذا قورنت بالآيات التي يومىء إليها المسيح ، في سفر أشعيا النبي ، حيث جاء : " اسمعوا سماعاً ولا تفهموا، وانظروا نظراً ولا تعرفوا . غلّط قلب هذا الشعب ، وثقل أذنيه ، وأغمض عينيه ، لئلاّ يبصر بعيونه ، ويسمع بآذانه ويفهم بقلبه ، ويرجع فيشفى ! " (أشعيا 6 : 9- 1.) . " لئلاّ ! ": تعببر مخيف ! ولكأنّ المسيح قد تبنىّ ما استشهد به من آيات النبيّ ! ولكن الواقع أن هذا التعبير، وهو من أساليب البيان الشرقي ، قد استعُمل هنا لا بمعنى الإنشاء ، بل بمعنى الخبر [ مفاد ذلك أن النبي لا يأمر الشعب بالتصلب ، بل يخبر بواقع ذاك التصلب ] . أفيكون إذن أن المسيح قد سئم
. جحود الشعب المطيف به ، فتركه لمصيره المشؤوم ؟ كلا ! بل إن تتمة الإنجيل تؤيد عكس ذلك وتثبت أن رحمة الله اْوسع حلما مما يطيقه قلب الإنسا ن .
. ففي هذه الأقوال الشديدة التي تنمّ على لوعة حبّ خائب ، ما ينبغي أن نتبينّه قبل غيره ، إنما هو حكم شامل على وضع الإنسان ، وما يكمن في إرادتنا وفي إخلاصنا من وَهن عُضال . لقد علم المسيح حقّ العلم - وهو كاشف خفايا القلوب - أن أولئًك الذين يهتفون اليوم بحياته ، بسبب المعجزات التي بات يصنعها، سوف يرتدون عنه يوم تتحوّل رسالته إلى مأساة . إن سرّ تصلّب إسرائيل - وقد جاء يوحناّ على ذكره، مستشهدأ بنفس تلك الآيات من سفر أشعيا (يوحنا 12 : 17- 4.)- ليس أبعد غوراً من سرّ تصلّب المسيحين الذين سوفُ تخفق الأقوال والآيات ، عبر الأجيال ، في استرجاعهم إلى اللّه ! فماذا يبقى إذن ؟ . . إن الأقداس إنما هي للقديسين ! " لا تعطوا القدس للكلاب ، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير " (متى 7 : 6). فليع كلامَ الله إذن من لهم آذان لسماعه ! فعندـما يبدو المسيح كأنه يماطل ويتأنىّ في تبليغ الوحي كاملاً ، ويعمل على تقنيعه وتحويطه بالسرّ، فهو، بذلك ، يتسلّف الحكم على الكنيسة، تلك الجماعة البشرية الخاضعة، في كثر من ذاتها، لصروف الدهر وصغائر الحياة، والتي لا تنفك ، مع ذلك ، حاملة في جوهرها (بـوجه خفيّ )، وفي بعض أعضائها، (بوجه ظاهر) المواهب الكبرى التي تصوغ القديّسين
. هذا، وإنه من العبث ، نوعاً ما، أن نتمحّل في تحديد مفهوم " المثل "، بالاستناد إلى التصنيفات المدرسيةّ المألوفة عند اليونان . فإن كانت هذه اللفظة باللغة اليونانية (IIarobolh ) ، وهي مشتقة من فعل (IIarabollw = قذف ، ألقى) تعني "التشبيه " ، وتتميزّ، من ثمّ ، عن " الأحجيةّ " و " الرمز " و " الاستعارة "، فإن لفظة " مثل "، في العبرية، هي أشد إغراقاً في الإبهام والإشكال . والدليل على ذلك ، أن يوحنا يستعمل لفظة يونانية أخرى (IIaramia) أي : حكمة . فكل قول مأثور ، مثل " أيها الطبيب اشف نفسك ! " ، وكل خبر يستهدف درساً، مثل قصة " لعازر والغنى "، كَل ذلك يدـخل في نطاق " المثل "، كما تدخل فيه ، على حدّ سواء، الأمثال الإنجيلية الكبرى، "كالزارع " و " الابن الضال " . وكان هذا الأسلوب شائعا جداً عند اليهود، يعمدون إليه ليس فقط كلون من ألوان البديع ، بل كأبلغ وسيلة من وسائل الإقناع . فاللغة العبرية مقتضبة منمّقة. ولكنّها تعيا في التعبرً عن المجرّدات والحقائق العُليا، فتعمد، إذ ذاك ، إلى الصور والرموز والتشابيه . " فالمثل " إنما هو تلك الطريقة في التزام وجه أو وضع من أوضاغ الحياة الواقعية، بحيث يتناوله العقل والمخيلة، فيصبح ، في نظرهما، نموذجاً، أو يثير مشكـلة . وما القصص الإنجيلى، بصيغته المقتضبة، ورونقه الخيالي ، والعبرة التي تشُتقّ منه ، سوى لون من ألوان "المثل " العبراني . وكان معروفاً عند الرابيين ، وقد ورد منه في التلمود مئات . هذا، ولا بد من الإشارة إلى أن الفكرة الساميّة بعيدة كل البعد عن أنماط الفكر الإغريقي ، وأنها لم تكن لتفرض على ذاك اللون القصصي ما يتوخّاه أهل الغرب من دقّة منطقية وتشدّد منهجي
. تلك الأمثال الإنجيلية، في صيغتها الراهنة، هي من عيون الأدب . وقد أصاب رينان عندـما ذهب إلى أنها " أشبه بروائع النحت الإغريقي ، حيث الكمال ملموس ومستحبّ ! ". ونحن نقع عليها في جميع مرإحل الإنجيل وحتى إلأيام الأخيرة، من حياة المسيح . وإن بعضا منها، - كمثل الزارع ،ومثل الزؤان ، ,العذارى الحكيمات والجاهلات ، والابن الضال ، والسامري الصالح – قد اندمج في ذاكرتنا اندماجاً بات معه جزءأ لا يتجزّأ من جوهر التراث المسيحي . وتتميزّ كلهّا بطابع واحد من البساطة في الأداء والواقعية السليمة، تجللّهما صبغة شعرية خالصة، من معدن تلك التي لا تستوحى روعتها إلاّ من طاقات القلب
. ونجد عدداً من تلك الأمثال قد أدرج عمداً في مواضع معينّة من الأناجل المؤتلفة، في شبه مجموعات متماسكة (لوقا 8 ؛ مرقس 4 ؛ متى 13) [ وأما إنجيل يوحنا فلا نجد فيه أثراً لهذا اللون من الأدب التهذيبي ]. وتنتظم هذه المجموعات حول موضوع واحد : هو ملكوت الله . وقد شبهّه يسوع بالبذار يلقيه الزارع في حقله ، فما يتأصّل منه إلاّ ما وقع في الأرض الطيبّة ؛ أو بالحقل يبذر فيه صاحبه بذاراً جيدّأ، فيأتي عدوه ليلاً ، ويزرع بين الحنطة زؤاناً ؛ أو بحبةّ الخردل (وهي أصغر الحبوب جميعاً) تصبح شجرة فتستظل . بها الطيـور ؛ أو بالخمير يخمر العجين كله ؛ أو بالشبكة تلقى في البحر فيزدحم فيها السمك : من جيّدُ يحتفظ به ، وقبيح ُيهمل ؛ أو باللؤلؤة الحسنة، يبُذَلُ كلّ شيء في سبيل اقتنائها ؛ أو بالكـنز المدسوس في التراب ، يملأ قلب واجده اغتباطاً . . . ولا شك أن هناك تسَلَسْلاًً مقصوداً في سياق تلك الأمثال . فالمسيح قد أراد أوّلاً وصف ملكوت السماوات ، في مرحلته التأسيسية، بالزرع الذي يبُذرُ في التراب ، ثم ينمو من تلقاء ذاته ؛ وأمّا الخردل والخميرة فإنما يرمزان إلى مرحلة التطوّر والنشوء . ويشيُر الكنز واللؤلؤة إلى أهمية الملكوت . ويوحي الزؤان والشبكة بضرورة الاختيار ووعورته . أجل ! قد لا يصيب المنطق غرضه في مثل هذه التشابيه ! .. ولكن من بوسعه أن ينكر عليها بلاغتها ووقعها في أغوار قلبنا الإنساني
. " يشبه ملكوت السوات إنساناً زرع زرعاً جيداً في حقله ، وفيما الناس نيام ، جاء عدوه ، وزرع زواناً في وسط الحنطة ومضى . فلما طلع النبات وصنع ثمراً ، حينئذ ظهر الزوان ايضاً . فجاء عبيد رب البيت وقالوا له : يا سيد ، أليس زرعاً جيداً زرعت في حقلك ، فمن أين له الزوان ؟ . فقال لهم : إنساناً ، عدو ، فعل هذا . فقال له العبيد : أتريد ان نذهب ونجمعه . فقال : لا ، لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان ، وأنتم تجمعونه . دعوهما ينميان كلاهما معاً إلى الحصاد ، وفي وقت الحصاد أقول للحصادين ، أجمعوا أولاً الزوان ، واحزموه ن حزماً ليحرق ، وأما الحنطة ، فاجمعوها إلى مخزني ! " ( متى 13 : 24 – 3. )
. ما أروعه ، في خطوطه الصافية ، هذا المثل الذي نقله البشير متى في أسلوب بارع ! وكم كان ينبغي أن يجيدوا فهم تعابيره ، أولئك الفلاحون الجليليون ، وكل شئ فيه ناطق بلغتهم ، نابض باختبارات حياتهم . فذاك الحقل المفلوح فلاحة جيدة ، ذاك البذار الطيب الملقي في التراب ، ذاك الزوان الذي قلما يتميز عن الحنطة في الفترات الأولى من نموه ، ولا يعرف إلا بحباته المرة السوداء السامة . ( وكانوا يظنون أنها تصيب الدماغ ، وتولد فيه الميول الرديئة ) ؛ ذاك الحصاد الذي يروزه ربه بنظرة ، فيكمد إذا كانت الحبة " وسخة " – كما يقول الفلاحون – والأعشاب الرديئة مستفحلة … أي وقع ن وقع هذا المثل الذي ترتسم لنا ، من خلاله ، صورة الحصاد الأخير ، ساعة يأتي الديان ليدين الناس ، ويتلف الزوان . وكم يبلغ ، في النفس ، مدى تأثيره ، إذ يكشف لنا عن مصادر الشر الدفينة ويثبت لنا ما نعهده من اختبارنا اليومي ، من أن البذار الجيد لا يلفى وحده على وجه الأرض ، وأن العدو سرعان ما يقذف بينه بذار الخطية …. إن فن المثل هذا منصرف كل الإنصراف عن الزخرف الأدبي ، ومع ذلك فهو قمة من قمم البراعة ! … وليس هناك من " رابي " – ممن عالجوا هذا اللون الأدبي - ، بل ليس هناك من رسول – وقد أقلعوا كلهم عن مجاراة المعلم في هذا المضمار – قد وفق إلى إصابة تلك الروعة المعجزة ، وذاك الكمال العفوي
. هل استرعى انتباهنا أن أربعة من " الأمثال " تلمح إلى الحنطة وإلى الخبز ؛ وأن إحدى التطويبات التي أعلنها المسيح هي هذه : " طوبى للجياع الآن فإنهم يشبعون " ؟ .. من ابلغ الملامح التي تميزت بها شخصية المسيح النابضة أنه كان يلتزم دائماً ، في تعليمه ن مراعاة المهام اليومية ، ويبقى ، مع كونه إلهاً ن في متناول الإنسان . فهو يعلم ويفهم ما يساور الإنسان من هموم ورغبات ومخاوف ، ويدرك أن " أخانا الجسد " – على حد تعبير أحدهم – له مقتضيات ؛ بيد أنه يسمو بتلك الحاجات الصغيرة إلى عالم الروح فتصيب فيه شفاء غليلها
. فلقد اتخذ المسيح من الخبز والخمر وسائر مقومات الغذاء في حقائقها المألوفة ، ليس فقط عناصر تشبيهية ، بل ركائز حياة روحية ، مازالت الكنيسة ، منذ ألفي سنة تتزود منها
. ففي ذات يوم ، إذ كانت الجموع محتشدة حول المسيح وتلاميذه ، قرر أن يفصل عن ذاك المكان ، ويلتمس في بعض الخلوات ، شيئاً من الراحة والهدوء .وكان ذلك ايام الربيع ، بضعة أيام قبل فصح سنة 29 ، في أوائل نيسان … فترة هانئة – وإن عابرة – يخضل فيها العشب فوق الروابي ، وتتوارى الجبال ، بخضرة مروجها وحمرة شقائقها ، تحت سماء ألطف زرقة منها في الصيف . وأقلع يسوع مع تلاميذه ، من كفر ناحوم ، وخاضوا البحيرة ميممين شطر الأراضي الخلاء ، الممتدة جنوبي بيت صيدا يولياس . ولكن الجمهور في ولعه ، لم يكن ليرضى عن ذاك الإنسحاب . ومن عادة الجماهير أن تشتط في الجسارة فلا يردعها وازع عمن تعشق من أقطاب الشهرة ، اياً كان صنفهم . وسرعان ما استروحوا الوجهة التي سار فيها النبي ؛ فخفوا على أقدامهم ، يلتمسون الشرق . فمن كفر ناحوم إلى بيت صيدا ، لا تنيف المسافة على 1. كيلو مترات ، بما فيها من انعطاف الطريق على الجسر الممتد فوق الأردن ، قبل مصبه في البحيرة . فعندما هبط يسوع من الزورق ن كان الجمع ينتظره على الشاطئ بهتافاته ومظاهر فرحه .. فكان لا بد من تأجيل فترة الراحة والهدوء حتى موعد آخر
! ولم يبد المسيح أي إستياء من فشل مسعاه ؛ بل راح يصعد في رابية هناك ، والجمع يطوقه من كل وجهة ، باندفاع لا يعرف التبصر والتحفظ ، ويستمع إلى تعاليمه ، وينال شفاء عاهاته … توالت الساعات ومال النهار ! ألعل التلاميذ هم الذين لفتوا نظر المعلم إلى ضرورة صرف أولئك الجياع ( على ما ورد في رواية الأناجيل المؤتلفة ) أم المسيح هو الذي ( بحسب رواية يوحنا ) سأل فيلبس ، ممتحناً إيمانه : " من أين نبتاع خبزاً فيأكل هؤلاء الناس ؟ " . على كل ، كان بحث القضية متعيناً . " اما يسوع ، فكان عالماً بما سيصنع " وكان الجمع نحو خمسة آلاف ! فأجاب فيلبس : " لا يكفيهم خبز بمئتي دينار ، حتى يصيب كل واحد منهم شيئاً يسيراً " . مئتا دينار ! .. مبلغ كبير بالنسبة إلى أولئك الصيادين ، ولكنه زهيد بالنسبة إلى حاجة مثل ذاك الجمهور
. وبلغ الإرتباك أقصاه ، في صفوف تلاميذ المسيح . فطفق كل منهم يهتم للأمر . وأقبل أندراوس ، أخو بطرس ، مزوداً بإفادة : " ههنا غلام ، معه خمسة أرغفة من الشعير وسمكتان ! " ؛ ولكنه استدرك كلامه وكأنه شعر بسخافة إفادته : " ولكن ما هذا لمثل هذا الخلق ؟ " . وأما يسوع فظل محتفظاً بهدوئه ، شأنه في جميع أحوال حياته . فقال لهم : " مروا الناس أن يتكئوا ! " . وكان التلاميذ قد تعودوا سياسة الجماهير ، وباتوا يفلحون في وظيفتهم التنظيمية , وتوزع الحاضرون فئات : خمسين خمسين ومئة مئة ، فوق رحاب الهضبة . وأخذ يسوع الأرغفة ، وباركها رافعاً عينية إلى السماء ؛ ثم صنع كذلك بالسمكتين . وتقدم إلى التلاميذ بتوزيعها على الناس ، فكان القوت ، كلما أصاب منه إنسان حاجته ، يتوفر بين أيديهم بلا إنقطاع ! ولما شبعوا فضل عنهم سمك وخبز كثير . وكان من عادة اليهود أن يحملوا معهم قفطاً للزاد والأمتعة …. فملأوا اثنتي عشرة قفة من فضلات تلك الوجبة المعجزة ، أمام ذلك ، في غمرة من الدهش ، فمن الإعجاب ، فمن الإندفاع المحموم
. هذه الحادثة هي من أشهر معجزات الإنجيل ، وأكثرها ثبوتاً . فهي مدرجة في الروايات الأربع ، على كثير من التشابه . ( متى 14 : 13 – 21 ؛ مرقس 6 : 3. – 41 ؛ لوقا 9 : 1. – 17 ؛ يوحنا 6 : 1 – 15 ) . كما نجد في روايتي مرقس ومتى ذكراً لمعجزة أخرى ، كثر فيها المسيح خبزاً وسمكاً ، من بعد رحلته إلى فينيقية والمدن العشر ، وفي موضع لا يبعد كثيراً عن موضع المعجزة الأولى . وبين المعجزتين فروق طفيفة . ففي المعجزة الثانية عدد الأرغفة سبعة ، وعدد الآكلين 4 آلاف ، وعدد السلال سبعة
. وليس شئ أقرب إلى الصحّة، من موقف المسيح هذا، وما تجلىّ فيه من صفات العطف والتنبّه الأبوي . ومن العبث أن نجاري بعض " العقلانين " في اعتبار تلك الحادثة مجرّد درس في ضرورة وضع الثقة بالعناية الرباّنيةّ . فالمسيح - في نظرهم ! - ما تقدّم إلى تلاميذه بتوزيع الطعام إلاّ يقينا منه بأن ذخائر أخرى كانت مخبوءة في الجمع ، وكان لا بدّ أن تظهر في الوقت المناسب . . . وإنه لمن المردود أيضاً أن نعزو تلك المعجزة إلى " تضخّم الطاقة الغذائية في الخمسة الأرغفة " أو إلى إيهام مغنطيسي ، خضعت له خمسة آلاف جهاز هضمي . كل ذلك هُرِاء لا طائل فيه ! فإنما نحن ، هنا، بازاء حدث من تلك الأحداث التي لا تنتسَخ من الإنجيل إلاّ اذا انتسخ الإنجيل كله ! فيبقى أن ما جاء به ذاك الغلام ، في مزوده ، من خبز وسمك ، إنما هو تحدّ للعقل ودعوة له إلى الإتضاع
. بيد أن تلك المعجزة بات لها " مغزى " آخر، غير المغزى البشري . ولقد تساءل القديس أوغسطينوس يوماً : " من يقوت الخليقة إلاّ ذاك الذي ينُبت ، من بعض الحُبَيبْات ، حصاداً ؟ فالمسيح قد أجرى ما أجراه بقدرة من ألوهيته ؛ تلك القدرة التي تنشىء من البذار سنبلاً ، هي التي كثرّت الأرغفة بين يديه . لأن القدـرة هي من صفات المسيح ، وتلك الأرغفة كانت شبه بذار ! أجل ، إنها لم تُبْذرَ في الأرض ، ولكنها نمت بين يدَيْ ذاك الذي فطر الأرض ! " . ولا ريب أن اليهود الذين أصابوا من المعجزة غُنْما، قد ذكروا، لدى ذاك المشهد، آيات من سفر التكوين ، جاء فيها وصف بروز الخلائق من يد " ألوهيم " .. ما هو ضروري للحياة، ما ينشأ في الماء، ويدبّ على الأرض ، ويسبح في الفضاء، " والعشب الذي ينُبت بزراً "، والأشجار المثمرة . . . أجل ، لقد سطعت ألوهية المسيح في تلك الحادثة المعجزة . .
.. وإنما هناك حقيقة أخرى تنطوي عليها أعجوبة الخبز . فليس بامكان أحد أن يطالع خبر المعجزة التي بارك فيها يسوع الخبز وقدّمه للناس ، من غير أن تتبَادر إلى ذهنه ذكرى لحظة أخرى - في الليلة التي سبقت استشهاده - أخذ فيها المسيح خبزاً أخر ووزّعه على الذين كانوا من حوله ، على أنه جسده بالذات ! وإن الشبه بين هذين الحدثين هو من قوّة الإرغام بحيث ذهب بعض " العقلانين " -من أمثال لوازي وريفيل - إلى أن قصة تكثير الخبز ما هي سوى رمز مأدبة إفخارستية. وأماّ الكنيسة فهي تعتقد بحقيقة تلك المعجزة وواقعيتها
: وليس من سبيل إلى الشك في هذا الوجه من التأويل . فالإنجيل الرابع يشير إليه إشارة واضحة (يوحنا 6 : 22-59 ) . وقد جاء فيه أن يسوع ، بعد تكثير الخبز، توارى عن هتافات الشعب ، فاجتاز البحيرة ثانية إلى كفرناحوم . فطلبته الجماهير ثانيةً ، فوجدته . واضطرُّ يسوع أن يعود إلى الكلام ؟. فجمع الذين جاؤا ليستمعوه ، في مجمع كفرناحوم (ولم يكن اليوم سبتا، وإلاّ لما تمكنّ يسوع من عبور البحيرة ، فكانت القاعة فارغة، تحت تصرّف الشعب ) . ما عساه أن يقول لذاك الجمع ؟ . . إنه يعلم حق العلم أن الجمهور قد فاته ، من المعجزة، مغزاها الحقيتي . " فهو - على حدّ تعبير أحد المعلقّين - عوض أن يتوسمّ في الخبز رمزاً، لم يرً في الرمز سوى الخبز ! ". وإنه لمِن أطوار البشر ألاّ ينظروا إلى هبات الله السنيات ، إلاّ من خلال علاقاتها بمصالح الدنيا . ولذا فقد عمد المسيح إلى تفسير المعجزة
. "إنكم تطلبوني ليس لأنكم رايتم آيات بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم .اعملوا لا للطعام البائد ، بل الطعام الباقى للحياة الأبدية، الذي يعطيكم ابن الإنسان …. ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء، بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء. لأن خبز الله هو النازل من السماء، الواهب الحياة للعالم " . يوم تحدث إلمسيح إلى السامرية، في خطاب لم يكن فيه الخبز رمزأ بل الماء !لحيّ ، التمست منه أن يؤمن لها دائما الماء الذي يشفي الغليل . . . كذلك أجاب يهود كفرناحوم أيضا، غير مكترثين إلاّ لجوع الجسد : " يا سيد أعطنا، في كل حين ، من هذا الخبز ! ". ولكن يسوع نهض بالجدل إلى صعيد أسمى، فأجاب : " أنا هو خبز الحياة ! من يقُبل إليّ فلا يجوع أبداً ؛ ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً . . . لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني ، أن كل من يرى الإبن ويؤمن به ،تكون له حياة أبدية ؛ وأنا أقيمه في اليوم الأخير ! ". فانتفض الجمع ، من الدهشة، إنتفاضةً ، باتت كأنها السخط في طلائعه ! ماذا ؟ أيعُادِل نفسه بالله ، هذا النبيّ ؟ ذلك عين التجديف ! وأخذت تسعى في صفوفه همسات : " أليس هذا هو يسوع بن يوسف ، الذي نحن عارفون بأبيه وأمّه . . فكيف يقول هذا : إني نزلت من السماء ؟" فسمع يسوع كلامهم ، فأجاب بأسلوب أكثر بيانا : " الحق الحق أقول لكم : إن من يؤمن بي ، فله حياة الأبدية . أنا هو خبز الحياة . آباؤكم أكلوا المنّ في البرّ ية، وماتوا . هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء : إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد ! ". ثم أضاف ، منبئا بالفاجعة التي باتت تترقب مصير رسالته : " والخبز الذي أنا أعطيه ، هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم ! "
. وهكذا ثبت ، بوجه أكيد، ما تميزّ به مصير المسيح من صبغة قربانية. ولكن هل كان بوسع أولئك اليهود الذين كانوا قد هللّوا لمعجزة تكثير الخبز، أن يفقهوا مغزاها الحقيقي ؟ لا ! بل إنهم راحوا، ولا شك ، يحلمون باسترجاع العرش – وفقاً لنظريتهم القديمة في المسيح المظفرّ- فيكون من أنسب المناسبات أن يتربعّ عليه رجل بمثل هذا السلطان . وإذا بهم يتضعضون وقد استغلقت عليهم أقواله : " لإن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق ! " . ما عساها تعني ، هذه العبارات المستهجنة؟. . أفلعلهّ مقدْ م على بذل جسده ليـؤكل ؟ . . لقد كان ذاك الكلام من الوعورة والاستبهام بحَيث ارتد عنه ، لحظةً ، بعضٌ من تلاميذه أنفسهم . قالوا : " إن هذا الكلام صعب ، من يقدر أن يسمعه. .". مهما يكن من أمر، فقد قيل ما قيل ! ولسوف يدرك المؤمنون ، بعد فترة من الزمن ، أن معجزة !لخبز، على سخائها، ليست شيئاً إلى جانب تلك العطية الأخرى، المبذولة في الجلجلة ؛ وأنه ليس من عظمة، ولا إشراق ، ولا حياة إلاّ بالدمّ
. قال الرسول بولس ، في قدامى الأنبياء: " رجموا ، نشروا ، جربوا ، ماتوا قتلاً بالسيف ، طافوا في جلود غنم ، وجلود معزى ، معتازين ن مكروبين ، مذلين . وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم . (إلى العبرانيين 11 : 37-38) . ولقد خضع ، هو أيضاً ، لذلك القانون الأعظم - قانون الشهادة بالدم - آَخرُالأنبياء ، ذاك الذي، في مخاضة الأردن ، بشر بدنوّ مجيء المسيح . وبلغ نبأ مصرعه إلى ضفاف بحيرة الجليل ، في آواخر آذار سنة 29، قبُيل المعجزة التي تمّ بها تكثير الخبز للمرّة الأولى . ويرى البشير متى أن ذاك النبأ كان من الدواعي التي حملت يسوع على النزوح فجأة عن وطنه ؛ وكانت غايته من عبور النهر والانضواء إلى حماية فيلبس الوالي ، وحسنِ رعايته ، أن يصبح في منجاة من سطوة أنتيباس ، قاتل يوحنا المعمدان
. وكان المعمدان ، منذ عشرة أشهر، سجينا في قلعة موحشة، وفي شبه عزلة عن عالم الأحياء . لقد كانت نائية قلعة ماخيرونتس ، وصفيقة جدرانُ معتقلاتها . ومع ذلك فقد كانت الصلات قائمة بين يوحنا وتلاميذه ؛ وعن طريقهم ، كانت تتمّ إليه أخبار المآثر التي بدأت تتجلىّ، من خلالها، قدرة ذاك الذي حلّ الروح عليه ! . . واتفق ، في غضون صيف 28، أن . وفد على يسوع اثنان من تلاميذ يوحنا، يقولان له ، عن لسان يوحنا ؛" أأنت هوالآتي ، أم ننتظر آخر ؟ . . " الآتي ! . ."، هي اللفظة التي كان فد أوما بها يوحنا إلى المصطفى الذي كان مزمعا أن يعُمّد بالروح ، وينقَيّ البيدر ! (متى 3 : 11 ) . كان المعمدان قد شهد، فوق هامة يسوع ، الآية التي أعلن الله بها للعالم ابنه الحبيب . أفلعلّها تزعزعت عقيدة ذاك النبيّ العنيد المتشدّد؟ أمْ لعلّ الشك تسلّط على عقله في وحشة تلك السجون التي تتضخّم فيها الرِيَب ؟. . أم لعلهّ بات يحِنّ –شأنَ كل يهودي – إلى إعتلان مخلّص إسرائيل في غمرة من الأمجاد السياسية؟ أم لعلّه توخىّ فقط – في تواضعه – أن يجعل إيمان تلاميذه في خدـمة المسيح ؟.. من ذلك لا نعلم شيئا كثيراً . فان حوافز ذاك الإجراء، هى على جانب من الغموض . وأما يسوع فأجاب الموفدَين ، بقوله : " اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتبصران ، العمي يبصرون ، والعرج يمشون ، والبرص يطهرون ، والصمّ يسمعون ، والموتى يقومون ، والمساكين يُبشرون ، وطوبى لمن لا يعثر فيّ ! " جواب ، لعمري ، قّاطع وبليغ معا . فلقد كان أشعياء النبي ، في النص الذي اشار إليه يسوع في جوابه إشارة بينّة، قد توسّم آية مجيء المسيح ، في تلك الخوارق التي كانت تجري على يد الناصريّ … ثم أما كان ينبغي أن يقوم دليلاً على ماسوية يسوع [ أي أن يسوع هو المسيا المنتظر ] ، أعظَم من دليل المعجزات ، ذاك التعليمُ الجديدُ الذي بدأ يشيع في الجماهير الشعبية؟.. فلقد كان ينبغي أن للمسيح ، موفد العلي – على ما ورد في أشعياء أيضاً – ( 61 : 1 ) أن " يبشر المساكين "
. إذ ذاك فاء الرض إلى قلب موفدَيَ المعمدان ، فقفلا راجعن إلى معلمهما، يخبرانه بما وقفا عليه . ( لوقا 7 : 18-23 ؛ متى 11 : 2 – 6 )
. في تلك الأثناء، كان هيرودس أنتيباس لا يزال يواصل الرقابة على يوـحنا، وقلبه غرض يتعاوره من عواطف القلق ، والاحترام ، والريبة، والمهابة، ما كان قد دإهمه يوم أمر بالقبض عليه . لقد كان أنتيباس ضعيف النفس متردّداً، متناَزعاً ما بين تسويلات دهائه ، ونزوات أهوائه وأوهامه الخرافية . ولربّما آثر ذاك الرجلُ - الذي وصفه إفلافيوس يوسيفس بكونه " شديد الحرص على راحته " - أن يقف من المعمدان موقف التحفظ والترقب . ولكنّ الذي عجلّ في مصرعه ، إنما هو حقد هيروديّا : وكان المعمدان قد شهرّها بالفجور، فوطّنت النفس على خنق ذاك الصوت الذي بات يبكتها بخزيها
. من إلمحتمل أن يكون هيرودس أنتيباس قد قام برحلته إلى بلاد ما بين النهرين ، في شتاء 28-29 ؛ وعند عودته ، في آذار، عرّج على قلعة ماخيرونتس ، في جبال موآب ؛ وكان بصحبته ، على ما جاء في الانجيل ، حاشية عظيمة، " من عظمائه وضباّطه وأعيان الجليل "، كانت قد واكبته إلى ذاك القصر النائي . . . وكانت هيرودياّ هناك ، مزهوّة بتنسّم العرش الملكي ، وبقربها ابنتها سالومي ، في ميعة صباها . وكان آلُ هيرودس من هواة البذخ .. فقد كان لهيرودس الكبير، في صرحه ، عشر قاعات للأكل مجهزّة بآنية من ذهب . وكانت عادة الرومانين في تكليل الهامة بأوراق الشجر والزهور، قد شاعت في قصور أولئك الأمراء الأخلاط . وكان الأكلون يتكئون ، كالمألوف ، على الأسرّة، وقد تطيبوا بعطور الورد، وارتدَوا قمصانا بلا أكمام لكي تخفّ سواعدهم لشؤونها ؛ وينصرفون للأكل ساعاتٍ طوإلاً ، يلتهمون ، أثناءها، أْغذية مودّ كة ثقيلة
. وكانوا يسرفون في الشرب . وقد كان المطربون ، في مثل تلك الولائم ، يضربون على الكنّارة، ذات النغم الغليط ، أو على القيثارة الرقيقة، أو ينفخون في ضروب من المزاميَر والأقصاب المرهفة . وكانت الراقصات يرفّهن المدعوّين ، أئناء الفترات الطويلة التي كانت تتخلّل توزيع الأكل . . . من بين تلك الرواقص ، برزت ، في وليمة ماخيرونتس ، سالومي ، ابنة هيروديّا
. تعمد الرَقصات البدويـة[ نذكر أن الأمراء الهيرودسيين كانوا من أصل أدومي ، ومن خالفة تلك القبائل البدوية التي باتت تترحل ، جنوبي اليهودية ، منذ ألف سنة ] –كما تشُاهَد حتى اليوم ، في سوريا وشرقيّ الأردن – إلى أساليب العنف واللطف معاً، لاستثارة المتفرّجن . وترتدي الراقصة البدوية برُوداً ثقيلة، شديدة الزرقة، تخالها، من الصفاقة، نسيجاً من شَعَر. وتتقدّم ببطء – وقد حلت عقائص شعرها، وأسدلت ذراعيها على جنبيها – شطر النار التي يذكي الرجال وقودها . . . وأوّلُ ما تطالع به الحفل ، تميّسُُ رأسها على وقع المعازف والغناء . " في الليالي ، على مضجعي ، التمست من تحبه نفسي ! . . التمسته فما وجدته ! صادفني الحرّاس الطائفون في المدينة : ارأيتم من تحبه نفسي ! . " (نشيد الأناشيد 3 : 1 –3) . ثم إذ تحتدّ سرعة الإيقاع ، ترى الراقصة، وقد انحنت بعنقها إلى الوراء ، إلى أشد ما يمكنها الانحناء ثم تدور وتدوّم في الدوران ؛ ويتجوّف وجهُها، ويهوي رأسها وكأنه يجري وراء لمتّها الكثيفة ؛ وينفك ذراعاها عن كشحيها، ويرتفعان إلى السماء في ابتهالات ضارعة . وينتصب وجهها شامخا، وكانه يتحدّ ى خصما مجهولاً . وتدور حول نفسها ثم تدور، وكأنها دوّامة بين جناحي غراب ، ولا تنفك تترنح ، بين كرّ وفرّ، وضفائر شعرها الأسود تراوح الضرب بين صدرها وحقويها ؛ فإذا فترت حركتها مرّة ، وبدا لك وجهها، وجدتَ له أنفا رقيقا، وفما دقيقا،وحدقتين فارغتين قد اضناهما الطرب . . . والمغنوّن ، أثناء ذلك ، يصفقّون بأكفهم ، في إيقاع تزداد سرعته لحظة بعد لحظة : " إرجعي ، إرجعي ، أيتها الشولمية ! إرجعي ، إرجعى، فننظر إليك.. . ماذا تشاهدون في الشولمية . . انتظام صفوف في معسكر ! " (نشيد الأناشيد 7 ) . ثم لا تعود الراقصة، إزاء النار، سوى مشعل أسود أزرق يتلوّى في آهات متقطعة . . . فإذا خَفتً صوتُ الناي ، وهمد عزف القيثارة، كثيراً ما ترى الراقصة تهوي كالذبال المنطفئ ، وكأنما فقدت ، فجأة، دعامة خفيةّ ! . .
. إذ ذاك - كل حدّ مما ورد في الانجيل الثالث - قال الملك للصبيةّ : " سليني ما شئت فأعطيك ! ". وأقسم أن " مهما سألتني ، أعطيك ، ولو نصف مملكتي ! ".َ فخرجت سالومي ، وقالت لأمهّا : " ماذا أطلب ؟ "، فقالت هيرودياّ : " رأس يوحنا المعمدان !". فرجعت الفتاة مسرعةً إلى الملك ، وطلبت قائلة : " أريد أن تعطيني ، على الفور ، رأس يوحنا المعمدان في صحفة! ". فاستحوذ على الملك غمّ شديد. ولكنهّ بسبب الأقسام ، والمتكئين معه ، لم يشأ أن يرجع عن كلامه ، ويصدّها "
. "وأنفذ الملك ، في الحال ، شرطيّا، وأمره بأن يأتي برأس يوحنا . فمضى وقطع رأسه في السجن ؛ وجاء برأسه في صحفة، ودفعه إلى الصبيةّ، ودفعته الصبيةّ إلى أمّها!" . وفي رواية، عن القديس إيرونيمس، أن هيرودياّ، رغبةً في التمليّ من نشوة انتصارها، أخذت نصلاً وطعنت به اللسان الذي شهرّها
. لا ندري شيئا عن موقف إلمعمدان من تلك إلمَظلمة الأخيرة . ولا شك أنه كان يتوخ ذاك القرار الشي كان ينبغي أن يتمّ به مصيره . لقد قال يوما : " ينبغى لي أن أنقص ! . ." . وهوى ذاك البشير المتواضع في صمتَ من أدرك "أن كلمته قد انتهت . وقد علّق الآباء القدّيسون ، مراراً، علىَ تلك الحادثة إلعظيمة، الرائعة والمروّعة معاً، واهتموا لما انطوت عليه من رموزٍ جليّة : فالخطيئة تطغى على الخير؛ وذاك هو الصراع الأبدي الذي بات الوجود رهانَه . " إنه ليس أمكرمن النساء الفاجرات ؛ لا يتورّعن عن مصرع أيّ إنسان يتصدّى لمآربهنّ ! ": كلمة سوف يقولها القديس يوحنا الذهبي الفم ، وقد ذهب ، هو أيضا، ضحيّة الملكة الباغية، إفذوكسيّا، في مثل الظروف التي أدّ ت إلى مصرع المعمدان . وأمّا القديس أمبروسيُس ، فقد صاح يوماً، في إحدى خطبه : " صدّيق تصرعه الزواني ! . . نبيّ تساوم به راقصة ! . . يا لك من ملك مكّـار ! ليست ضربة السيف هي التي أطبقت جفنيه ، بل فجورك ! . . وهذا الفم الذي ما كنت لتصبر على تقريعاته ، ألا حدّق إليه ! . . إنه صامت ، ولكنه لا يزال يلقي الرعب في نفسك ! "
.. والواقع أن الوالي ، بعد إذ تخلّص من ذاك النبيّ المتوعّد، ما ازداد إلاّ ايجاسا لتهديدات صوت المعمدان ، وقد أمست ، من بعد موته ، صوتَ ضميره!
. ولما سمع تلاميذ يوحنا بمصرع معلّمهم ، جاؤوا يلتمسون جثته ، فأمر لهم بها . ويروي تقليد قديم أنهم وارَوها التراب فى إحدى بقاع السامرة . وتوجد اليوم في سبسطية - وهي مدينة السامرة القديمة - كنيسةٌ محوّلةٌ إلى جامع . قد شيّدت على اسم المعمدان . .
. " ثم إن تلاميذ يوحنا أتوا وأخبروا يسوع . . . "؛ بيد أن الانجيل لم يذكر ما كان رأي المسيح فيَ ذاك النبأ ؛ فأمّا هيرودس أنتيباس ، فلم يكن يسوع بحاجة إلى أن يستزيد عنه علماً، فلقد بات يعرفه حق المعرفة ! ويتبادر إلى الذهن ، منذ الآن ، أن هذا الطاغية، الضعيف العنيف ، سوف يكون المسيح يوما - زُهاء ربع ساعة- تحت رحمته ، إباّن المحاكمة ! . . . وأمّا المصير الذي يترقّب الأنبياء، فلم تكن الواقعة لتزيده ، فيه ، خبرة جديدة : وقد كان أعلم من أي إنسان آخر، بالعاقبة التي كان صائراً إليها
. لا ندري ما قاله يسوع ، يوم ذاك ، في مديح ذاك الذي مهّد له السبيل ، وبذل دمه ، ذوداً عن قضية شبيهة بقضيّته . وإنما نعلم أن يسوع قد أشاد علناً بمدحه ، بضعة أشهر قبلً الفاجعة، يوم وافاه تلاميذ يوحنا يستفسرونه عن واقع ماسويته ؛ فإذ انطلق الرسولان ، طفق يسوع يقول قي يوحنا، متوخّياً إزالة اللبس ، وتبديدَ القلق : " ماذا خرجتم تنظرون في البرّية ؟ . . أقصبة تهزها الريح ؟ بل ماذا خرجتم تنظرون . أإنسانا عليه الثياب الناعمة ؟ . . إن الذين عليهم الثياب الناعمة، ويعيشون في الترف ، هم في قصور الملوك . فماذا خرجتم تنظرون . أنبياً ؟ . . أجل ، بل أقول لكم : وأفضلَ من نبيّ ! إنه هو المكتوب عنه : " هاءنذا أرسل ملاكي أمام وجهك ،ُ يهئ لك الطريقَ قدّامك ! ". أقول لكم : إنه ليس في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمدان ! . . " (لوقا 7 : 4 2-28 ) . أي ثناء أحق بأن يقال في يوحنا ، يوم توارى من ساحة التاريخ ؟ . .
. تروي الأناجيل المؤتلفة أحداث مصرع المعمدان في معرض الكلام عن الرِيبَ التي راودت قلب أنتيباس ، في شان تصرّفات المسيح . فقد " سمع هيرودس الملك ، لأن اسمه ( يسوع ) صار مشهوراً " (مرقس 6 : 14 ).، ونمى إليه ما كان يجري عن يده ، فلم يدَْر أيّ رأي يرتأيه : فإن بعضاً كانوا يقولون :" إن يوحنا المعمدان قد قام من الأموإت " ؛ وغيرهم : " إنه إيليّا ! " ؛ وآخرين : " أن نبياً من القدماء قد قام !" . وأمّا هيرودس فكان يغمغم مضطرباً : " يوحنا ،أنا قطعت رأسه ! . . فمن هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذا ؟ " (لوقا 9 : 7- 9)
. ولم يكن انفعال الملك هذا، سوى ظاهرة من ظاهرات العداء، الذي كانت قد بدت طلائعه ، منذ اللحظة التي استأنف فيها يسوع بشارته العلنية ؟ وما زال ذاك العداء على تضخم واستفحال وانتظام ، حتى بات حلفا يعمل ، في الظلام ، على مقاومة نشاطه . وكان محرّك تلك المقاومة حزبُ الفريسيين ، إن لم يكن كلّه ، فبعض زعمائه. وقد عُرِف الفريسيّون بتشدّدهم في الذود عن التقاليد والمعتقدات ، وحرصهم على احتكار الدين ، فغاظهم أن يسطع نجم ذاك الرجل الذي لم يكن من بيئتهم ، ولم يكن يحمل خاتم مذهب من مذاهبهم ، والذي هبّ يتزعّم حركة شعبيّة عارمة ! . . وكان في الجليل ، - كما في سائر مرابع اليهود- من مثل أولئك الأئمة المتشدّدين ، تجمعهم ، على اختلاف مناشئهم ، رابطةٌ من المصالح السياسية والروحية . وإننا لنوجس أن أعضاء الحزب في الجليل قد اكتفوا، بادىء الأمر، بمراقبة يسوع ، معلّلين النفس باستخدامه لأغراضهم ؛ حتى إذا ما طغت على قلوبهم عوامل القلق ، هبّوا يستنجدون بأصحاجهم وأسيادهم في أورشليم ، فأوفدوا من قبَلهم من يتجسّس على النبي الجديد . ومذ ذاك نرى أولئك المتجسّسين ، وقد ارتسم ظلّهم من وراء ستار المشاهد الإنجيلية ، يلاحقون المسيح بمراوغاتهم وأحابيلهم ودسائسهم ، ثم ، بعد قليل ، بمؤامرتهم القاضية
. لقد جمع البشيران مرقس (في الفصلين الثاني والثالث ) ولوقا (في الفصلين الخامس والسادس ) ، في رواية متماسكة، خمسة أحداث ، أثبت فيها المسيح مجابهته الهادئة للفرّيسيين . وأمّا البشير متى ( فصل 9 و 12 ) ، فقد رواها موزّعة . ومهما يكن من أمر، فالحقيقة راهنة : وهي أن يسوع ، كلّما سنحت له سانحة، كان يُثبتُ تعارض فكرته وما ألفه الكتبة من أساليب المماحكة والمجادلة ؛ ويتهكَّـم بتشريعاتهم العقيمة تهكّـما هادئاً مطمئنا
. ففي ذات يوم – وقد جرى ذلك في مطلع رسالته ، في أواخر أيار أو أوائل حزيران سنة 28- كان يسوع يعلّم في منزل أحد أصدقائه ، في كفرناحوم . وكان وفد الكتبة وعلماء الناموس ، هناك ، يحاجّه تارة، ويصغي إليه تارة أخرى، ولكن بشئ من التحفّظ . وكان الجمع قد ازدحم خارج البيت . وكان بعض المتطوّعن يأتون بالمخلّعين ، فوق محاملهم ، يترقبون المعجزات . وإن أربعة رجال ، إذ امتنع عليهم الوصول إلى النبي الشافي ، بسبب الجمع ، خطر لهم أن يصعدوا، مع المريض ، الدرج الخارجي المفضي إلى السطح . إننا نجد، حتى اليوم ، في حوران ، كثيراً من البيوت المجهّزة بمثل تلك الأدراج . وأما سقوف المنازل الشرقية، فما كانت على جانب عظيم من المناعة، وكثيراً ما كانت تهوي تحت وابل الأمطار . وكانتً تصنع من عوارض ضخمة، تمدّ فوقها جرائد نخل أو جذوع قصب ، وتجهزّ بفرُشُ من بلاّن ، كانوا يسُيّعونها بقشرة رقيقة من الطين . . . ومن ثمّ ، فقد كان من اليسير جداً، على حاملي السرير، أن يفتحوا ثغرة في السقف ، ويدلّوا منها إلمريض ، كالرزمة، في الغرفة التي كان فيها يسوع ! . . فراقت في عينيه تلك إلاستغاثة الجريئة، ولم يؤانس فيها سوى شهادة إيمانهم . فقال للمخلعّ : " يا ابني ، مغفورة لك خطاياك ! ". كلمات فاه بها المسيح ، ولا شك ، لأجل الفرّيسيين . فانتفضوا لها ! . . بم تلفّظ ذاك الرجل ؟ . . إن للّه وحده أن يغفر الخطايا . ومن ادّعى ذلك ، سوى الله ، فقد جدّف ! ،ولكنّ يسوع كان عالما بأفكارهم . فهو إنما نطق بتلك العبارة الصغيرة لكي يعرفوا من هو، وإن كان لا بدّ من أن ُيحجموا عن الفهم ! . . ولما لم يكن أعسر على الله الحيّ أن يبرىء هذا المريض المفكك ، من أن يغفر الخطايا، قال للمخلعّ : " قم ! واحمل فراشك ، واذهب إلى بيتك ! "
. بُعَيدْ ذلك ، كان يسوع مارّاً بقرب شاطىء البحيرة، يتبعه تلاميذه وكانت كفرناحوم مدينةً على الحدود، فيها كثير من مراكز دفع الجزية، يسيرها سوَادٌ من المكّـاسين والمحتالين وغيرهم من قراصنة الدولة . ولم يكن لهؤلاء " العشارين " أي صلة بأولئك المزارعين الأثرياء، الذين كانوا – بأسم روما – يستغلون الأقاليم عن طريق الخراج . فالعشّارون كانوا من صغار الموظّفين . ولئن اتفق لبعضهم أن يكونوا على جانب من سلامة النيّة، فقد كانوا جميعاً ، بسبب تعاملهم مع الولاة والرومان ، في فرض سياسة الضغط والتنكيل ، وبسبب خضوعهم لأسياد مكروهين ، عرضةً للسخط والكراهية ! وقد جاء، فيَ أحد المصنّفات التلمودية، ذكرُ القتلة والنهّابين والعشّارين ، في باب واحد . وكان مجرّد الاتصال بهم ، بأيّ وجه كان ، - حسب المعتقد الفريسي –من أسباب النجاسة . وكان لهم من سوء السُمعة ما اضطرّ البشيرين مرقس ولوقا- في روايتهما الحادثة التي نحن في ذكرها – إلى تسمية بطلها بأسم " لاوي " – وهو اسم لم يدُْرج في لائحة أسماء الرسل – بينما نرى صاحب الانجيل الأوّل ، البشير متى ، لا يتحرّج ، في اتضاعه ، من أن يشير إلى أنه ، هو نفسه ، ذاك العشاّر . . . مرّ يسوع إذن بمائدة الجباية، فألقى على واحد من موظفّيها نفس تلك النظرة التي كانت قد اخترقت نثنائيل يوماً . . . وإذا بالعشّار متى ( لاوي ) ، ينهض للفور، ويمشي في إثره! . . يا لها معثرة في نظر " المُطهرّين " ! ولم يكتف النبيّ بذلك ، بل قبل الدعوة إلى مائدة ذاك التلميذ الجديد - يا للغنيمة ! - بصحبة أناسٍ من ذات الفضيلة ! .
. لقد كان يغَيظ الفريسيين ، في مسلك يسوع ، قلةُ اكتراثه بالسنن التي كانوا يقدّسونها . فإذا ما أخذوا عليه تواطؤه مع أولئك العشّارين الأرذال ، أجابهم ، في منطق مطمئن : "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب لكن ذوو الأسقام ! . . إني لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة ! " . وإذا استفسروه عن امتناع تلاميذه عنَ الصوم ، تخطىّ نطاق القضية، بحيث لا يبقى لها شبهٌ بأي معضلة أخرى، ولا بأي مذهب من المذاهب المتداولة في المدارس الربينية ! . . والواقع أن الصوم القانوني الوحيد كان يفرْض بمناسبة عيد " التكفير " . وكان يَضاف إليه أحياناً أصوام يأمر بها المحفل أو المجمع ، في بعض المناسبات ، تفادياً لنكبة، أو احتفالاً بذكرى . بيد أن الفريسـيين وعلماء الناموس كانوا قد وضعوا من فرائض الصوم والإمساك في كل مكان . فكانوا، كل اثنين وكل خميس ، يبرزون بأثوابٍ كالحة، يستلفتون بها أنظار الناس إلى ما كانوا يكابدون ، في سبيل الله ، من جوع هاصر
. لقد كان إذن بإمكان المسيح أن يقارعهم بالبينات ، وُ يحاجّهم بالناموس ؛ ولكنه اجتزأ بجواب ، بات معناه، ولا شك ، مقصوراً على أفهام أتباعه ، وقد جاء فيه إنباءٌ بمصيره : " أوَ يستطيع بنو العرس أن يصوموا، والعريس معهم ؟ . . فما دام العريس معهم ، لا يستطيعون أن يصوموا ؛ ولكن ستأتي أيام يرفع فيها العريس عنهم ، وعندئذ يصومون ، في ذلك الوقت . . . " . ئم تطرّق إلى القول ، في لهبجة استهزاء بينّة : " ليس من أحد يخيط رقعة من نسيج جديد في ثوب عتيق ، وإلاّ فالرقعة الجديدة تأخذ من العتيق ملأها، فيصير الخرق أسوأ ! وما من أحد يجعل خمرا جديدة في زقاق عتيقة، وإلاّ فالخمرتشقّ الزقاق ، فتتلف الخمروالزقاق معاً ! . . " . ما عساه كان يعني بالثياب العتيقة والزقاق البالية ؟ . . ألعلهّ كان يشير، بتلك التعابير الهازئة، الى المراسيم الفريسيةّ ؟ . .
. هذا ولم تكن القضية، في ذلك كله ، سوى قضية فرائض لم تكن ، على جليل حرمتها، لتلزم أصحاجها إلزاماًُ محرجاً. ولكنّ يسوع بات كأنه يستهر حتى بأقدس شرائع الناموس . . . فقد كان الفريسيوّن يؤثرون بالتعظيم والتقديس، من بين جميع الشرائع التي سنهّا موسى ، شريعة " الراحة السبتية ". وكانوا، على توالي العصور، قد أشبعوها بحثاً، متنافسين في التعليق عليها، والتانق في تفسيرها، والتزيدّ فيها . ونجد في التلمود بابا، في هذا الشأن ، يشمل لا أقلّ من 39 صنفاً من الأعمال التى تحرّمها شريعة الراحة السبتية : منها كتابة أكثر من حرفين من حروف الأبجدية، ولّ رباط ، وحمل رزمة إلى أكثر من ألفي ذراع . وقد اختلفوا في بيضة السبت ، أحلال أكلها أم لا ! . . وأما استعمال أسنان مستعارة، وحمل أكثر من ثلاثة تعاويذ (أي ناب ثعلب ، وبيضة جراد، ومسمار رجل مشنوق ) فقد ثبت ، عند الفقهاء، تحريمها ! وحسبنا إشارة عارضة إلى بعض تلك الفرائض السخيفة ، فتبين لنا رغبة المسيح في الرجوع بها إلى جادة الصواب . فقد ورد ، في إحدى تلك الفرائض " أنه من المحرم قطع غصن ، أو ورقة ن أو قطف ثمرة ن نهار السبت " … واتفق يوماً أن تلاميذ المسيح قد اقتلعوا سنبلاً نهار السبت ، واقتاتوا بها . فتمتم الفريسيون ، قائلين : " تطلع ! .. لم يفعلون في السبت ما لا يحل !؟ " . ويخيل إلينا أننا نسمع المسيح ، وهو يجيبهم بلهجة مطمئنة ، وربما بشئ من السخر : " أما قرأتم قط ما فعل داود ، حين احتاج وجاع هو ومن معه ، كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة ؟ " ( 1 صموئيل 21 ) ثم قال لهم : " السبت جعل لأجل الإنسان ، لا الإنسان من أجل السبت " . ولكن مثل هذه الأدلة لم تكن لتفلح إلا قليلاً في إقناع أولئك المهوسين لطقوسهم ، لا بل كانت تزيدهم سخطاً ن يوماً بعد يوم ، إلى ان طفح كيل التحدي ، ساعة أبرأ المسيح ، بمعجزة ، - في أحد السبوت – رجلاً مسكيناً مشلول الذراع . إذ ذاك لم يبق مجال للريب والتردد ، " فخرجوا ، وفي الحال ، ائتمروا عليه ، مع الهيرودسيين ، ليهلكوه!"
هكذا ، منذ اللحظة التي استهل فيها المسيح بشارته ، وجد نفسه في تعارض مع " المحافظين " من أهل زمانه ؛ ومنذ طلع على العالك ، ثبت كونه " هدفاً للمخالفة !" . ويسوغ القول : إن المؤامرة التي أفضت به إلى الإستشهاد ، في فصح سنة 3. ، كانت قد حبكت منذ اللحظة التي اتضحت فيها للفريسيين أهداف المسيح ! أما الهيرودسيون ، خصومهم ، والذين استنجدهم علماء الناموس على يسوع ، فقد حملهم على مناهضته دواع سياسية ، وخوفهم من البلبلة التي راح يثيرها . وأما الفريسيون فقد كان لهم به شأن آخر .. وهو أن يشهروا ذاك الذي ادعى الألوهية ، واغتصب حقوقها . هناك حادثة مفصلة رواها البشير يوحنا ، ومن شأنها أن تقيم على ذلك دليلاً ساطعاً ( يوحنا 5 : 1 – 47 ) . فقد كان عيد لليهود – لا شك عيد العنصرة – فشخص يسوع إلى أورشليم ، ومرّ بقرب بركة بيت حسدا، في ضواحي أورشليم ، بالقرب من الباب الذي كانت تسُاق فيه الأضاحي إلى الهيكل . وكان يطيف بالبركة أربعة أروقة، ويمتدّ ، في وسطها، رواق خامس ، فباتت للناس منتدىً للتجمعّ والحديث . وكان اليهود ينسبون إلى مياه البركة طاقات علاجية : فأوّل مريض كان ينحدر إليها، حالاً بعد تفوّر الماء، كان يبرأ حتما من علّته . . . " في هذه ، كان مضطجعاً جمهور كثير من مرضى وعمي وعرج وعسم يتوقعون تحريك الماء " . وكان هناك رجل سقيم منذ ثمان وثلاثين سنة . فلمّا رآه يسوع مضطجعاً قـال له : " أتريد أن تبرأ ؟ " فأجابه المريض : " يا سيد ، ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء ، بل بينما أنا آت ينزل قدامي آخر! ". فقال له يسوع : " قم ، احمل سريرك وامشِ ! ". وفي الحال برئ الرجل . وكان في ذلك اليوم سبت "
. حادثة شبيهة، في ذاتها، بالأحداث التي أتينا علي ذكرها، منذ لحظة . وكان سخط الفريسيين ، في أورشليم كسخط زملائهم في الجليل . بيد أن المسيح ، لسبب نجهله -ربما تمهيداً لما كان مزمعاً أن يحدث في المدينة المقدّسة - انتهزها فرصة للإفصاح عن مسلكه . فلقد أجاب الذين هبوا يلومونه في تعدّيه لشريعة السبت : " أبي يعمل حتى الآن ، وأنا أعمل ! ". لو لم يكن قد صرّح للفريسيين ، في الجليل ، بعبارة مقتضبة : " أنّ ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً ! " . بيد أنه ، ههنا، قد أمعن في الإيضاح ، معلنا أنه هو شهيد الآب ورسوله ، و " أن أعمالاً أعظم من هذه ، سوف تتم عن يده ". فالراقدون في القبور سوف يُبعثون لصوته ، وسوف تفوّض إليه كل دينونة . وأما الشريعة الموسويةّ الي انقطع الفريسيون لمدارستها فهم يسيئون فهمها . ولا يجيد تفسيرها إلاّ يسوع ، الذي هو المسج . ولسوف يشكوهم ، عند الآب ، موسى نفسهُ ، وقد جاروا عن فهم خالصِ شرائعه : كيف لا وقد سقط الإيمان عن قلوبهم ، وتحجرّت نفوسهم ، وراحوا يرسفون في أغلال حرفيتهم وجمودهم واعتزازهم الباطل . .
. لم يكن التعارض إذن ، بين يسوع وخصومه ، من باب العرض ، بل من صميم الجوهر. وكان لا مندوحة، من ثم ، عن أحد أمرين : إماّ أن يرضوا بيسوع ويتوبوا، وإماّ أن يشهروا في وجهه عداء مستميتاً. وتلك ، لعمري ، ظاهرة لا تزال حتى اليوم بادية للعيان : فالناس في موقفهم من الدين ، أبداً، بين هذين الأمرين ! . . وكنيسة المسيح ، من قبل أن تنشأ ، كانت قد اهتدت إلى ساحات جهادها ! . .
. أماّ المقاومات الأخرى الني تصدّ ت لكرازة المسيح ، فقد باتت ، من وجوه كثيرة، أقلّ خطورة، وأقلّ مسَاَساً بمقوّماتها الجوهرية . . . هناك حادثة أدرجها البشير لوقا، حالاً بعد تلاوة السفر في مجمع الناصرة ؛ وهي تنتسب إلى ذاك اللون من المعارضة والإعنات ، اَلذي طالما يتعرّض لمثله ، ضمن عشيرتهم ، أولئك الذين يحدوهم هدف عظيم . . . فإذ جاء الناصرة يوماً، أقبل عليه قوم من مواطنيه ، يلحفون في السؤال : " كل ما سمعنا أنك فعلت في كفرناحوم ، افعله ههنا، أيضا، في وطنك ! " . . . من جواب المسيح ، يمكننا استنتاج ما خامر كلامهم من حسَدَ مرير ! أجل ! إن المسيح لم يرُسل ليكون رهينة أهله وذويـه ؛ كما أن إيليّا – ذاك النبيّ العظيم – لم يوفد ليموّن بيوت الشعب المختار، بل ليعول أرملة " فينيقية " فقيرة، في صرفة صيدا ؛ وكما أن أليشع قد آثر بالشفاء، على جميع برص إسرائيل ، نعمان السوري ، ذاك الرجل الغريب . . . لم يكن مثل ذاك الكلام ليرَوقَ أهل الناصرة، بل ليبعث في نفوسهم خيبة ذريعة . . . لقد منعهم من المعجزات – " بسبب قلة إيمانهم " ، يقول متى ؛ وتلك ملاحظة لها شأنها في بحث شروط المعجزة - وإذا به ، بعد ذلك كله ، ينبئهم بدعوة الأمم الأخرى إلى الاشتراك في أمجاد إسرائيل . إذ ذاك " امتلأوا كلهم حنقاً ، وقاموا ، ودفعوه إلى خارج المدينة، واقتادوه إلى قمة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه ، ليطرحوه عنها. أما هو فجاز في وسطهم ومضى . .. ". انسحاب يشبه أن يكون اختفاء مفاجئاٌ ، بل ربما اختفاء معجزاً، على حدّ ما يوحي به النص الإنجيلي . .
. على بعد كيلومترين ، جنوبيّ غربيّ الناصرة ، تشُاهد اليوم ، من مرتفع صغير، الحفرة التي أوشك اليهود أن يقذفوا فيها المسيح . وقد قامت ، في الجوار، كنيسة حديثة على اسم " سيدة الذعر "، فوق بقايا معبد قديم ، من قبل القرن التاسع ؛ وذلك إحياءً لذكرى رواية اسطورية . فقد كان يحكى أن مريم ، عندما سمعت توعّدات الشعب الثائر على ابنها، خفِّتْ إلى الجمع تتعقب إثره . ولما أفضت إلى المكان الذي انطلق منه الصياح ، ألفت القوم وقد هدأت ثورتهم ، ولم يكن يسوع بينهم . فأيقنت إذ ذاك ، أنهم أوقعوا بابنها، فاستندت إلى صخرة هناك وقد غابت عن وعيها من شدة الذعر والهلع : إذ ذاك انفلقت الصخرة وآوتها ! .
. "ليس نبيّ مقبولاً في وطنه ! ": قول مأثور جَمعَتْ فيه حكمة الأجيال خلاصة هذه الحادثة الإنجيلية . فلئن كان نادراً أن يقبلَ عبقري في أهل بيته ، فمن الأندر أيضاً أن يقُبل في بني قومه . ففي نظر أولئك الريفيين من أهل الناصرة، هل كان يسوع إلاّ واحداً منهم ، شبيهاً بكل فرد من أفرادهم ؟ . . لقد كانت أمه ، وحدها ، تحمل في قلبها سرّ مولده العجيب ! . . بيد أن الموقف الذي وقفه من يسوع مواطنوه ، بل ذوو قرباه، له على التاريخ فضل عظيم : فهو يبينّ إلى أي حدّ كان المسيح ، في ذاته ، وفي ظاهر حياته ، إنساناً كباقي الناس ، لا يبدو لمعاصريه إِلاّ من خلال طبيعته البشرية ! ما كان رأي أنسبائه ، ورأيُ أبناء عمومته الكثيرين ، مثلاً ؟ . . كانوا، ولا شك ، يعتقدون أن تلك البلبلة، إذا تمادت ، فقد تنزِل به نوازل المكروه ، وأن جلجلة الصيت لاُ تحْمدُ عقباها . وكانوا يردّدون ما كان يجري على ألسنة الناس ، من أنه " شارد العقل ! " ، تلك التهمة التي ألصقت بكثير من أنبياء العهد القديم ، بل لقد خطر لبعضهم أن يلقوا القبضَ عليه ، ويعزلوه عن الناس ( مرقس 3 : . 2 - 21 )
بيد أن تلك الحادثة المنكرة قد أفضت إلى عبـرْةٍ قيّمة . فالمسيح كان واقفاً على أمر تلك العداوة الناجمة عن محاذرات أهله وتحفّظاتهم . فكان لا .بدّ من أن ينتهز أوّل سانحة، لوضع الأمور في نصابها . فإذ كان ، ذات يوم ، منصرفاً إلى التعليم ، قيل له : " إن أُمّك وإخوتك في الخارج يطلبونك ! " . فأجابهم : " من أميّ ومن إخوتي ؟ . . "، وأجال نظره في المتحلّقين حوله ، وقال : " ها أمي وإخوتي ! فإن من يعمل مشيئة الله هو أخي وأختي وأميّ ! " إن أواصر الرحم قد تمسي ، للذين يرومون حياة الروح ، قيداً لا طائل منه ؛ وفي الكنيسة التي وُلدت من الإنجيل ، إنما يكون " إخوةً " أولئك الذين قبلوا بأن يخوضوا معاً مغامرة واحدة، واعتمدوا بمعمودية واحدة، ودانوا بحبّ واحد. (مرقس 3 :31- 35 ؛ متى 12: 46 ؛ لوقا 8 : 19)
. إننا نتتبع آثارهم ، خلال مراحل الإنجيل، أولئك الأوفياء المُولعَين الذين باتوا يفرّجون عن قلب المسيح ما كان يؤلمه من خصومة الفريسيين وازورار مواطنيه . إنهم طلائع المؤمنين ، وفي صفوفهم نشأت باكورة المسيحين . وقد جاء الانجيل ، مراراً، على ذكر تلك " الجموع " . . . أجل ، إنه من المتعذر أن نحدد عددها ؟ بيد أن هناك إشارات – كالتي وردت في حادثة تكثير الخبز – تومىء إلى أرقام في حدود البضعة آلاف : وتك ، لعمري ، أرقام ذات بال ، إذا قيست برقعة البلاد . وكانوا يفدون من جميع النواحي ؟ من مدن الجليل ، أوّلاً : كفرناحوم ، مجدلا، بيت صيدا ، خورزيم ؛ وحتى من الحواضر التي غلبت فيها العناصر الأجنبية، من يونان ورومان (تاريشة، طبريةّ ) . وكانوا يأتون أيضاً من مناطق بعيدة . فالإنجيل ، في سياق أخباره ، يذكر يهودأ من اليهودية ، وقيصرية ، وتراخونيتيدس ؛ وأدوميين قد خفوّا إلى يسوع من مفازاتهم ؛ وفينيقين من صور وصيدا؛ وأقواماً من شرقيّ الأردن وسورية : " فذاع الخبر عنه أكثر ، فاجتمع جموع كثيرة لكي يسمعوا ويشفوا به من أمراضهم" (لوقا 5 : 15) ؛ " وذاع خبره في سورية كلّها . . . " ( متى 4 : 24 )
. ممن كانت تتألّف تلك الجموع . . . من عناصر، ولا شك ، وضيعة جداً ؛ يثبت ذلك ما أورده البشير يوحنا، صراحة، على لسان الفريسيين ، في المباحثة التي سبقت عَقدْ المؤامرة على يسوع : " ألعل أحداً من الرؤساء أو من الفرّيسيين آمن به؟ . .ولكن هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون ! " (يوحنا 7 : 48-9 4 ) . . . من الثابت إذن ، أن " الوجهاء " كانوا قلةّ بين أتباع المسيح ، وقد باتوا أقلّ الناس مبالاةً بالمجازفة بكل شيء في سبيل اتبّاعه . فكان معظم التلاميذ من عامةّ الشعب ، من تلك " الحثالة " (العم هآريتس ) ، التي كان يدُميها زهوّ الأعيان وتجبرّهم . ولسوف يقول المسيح ، يوماً، " لأدعياء البرّ " : " إن العشاّرين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله ! " (متى 11 : 21) ؛ ولسوف يبدو منطقياً أن يُصلب مع ذاك المسيح - الذي راح يخالط مثل تلك البطانة الزرّية - اثنان من رُذالة الأشقياء! . . إن الطيور على أشكالها تقع ! ! .
. هناك فقرات ، من الإنجبل ، تمهدّ لنا سبيل الولوج ، أحياناً، في نفسية أولئك المؤمنين . من ذلك ، حادثة قائد المئة، وحادثة المرأة الخاطئة . أما الأولى فقد جرت في كفرناحوم ، بعُيد خطبة الجبل . فقد كان يسوع منحدراً إلى المدينة، إذ أقبل إليه وفد من اليهود، مبعوثين من قبل " قائد المئة "، آمر المنطقة العسكرية ؛ وسواء أكان ضابطأ في إحدى الفرق الرومانية الاحتياطية، أم مرتزقاً في خدـمة أنتيباس ، فقد كان ، على كل حال ، مقتنعاً كل الاقتناع من المبادىء المقدّسة المرعيةّ في نظم الجيش الروماني . جنديّ ، ولا شك ، من قدامى الجيش ، خرج من صفهّ ، ووُليّ قيادة فرقة صغيرة ؛ ولكنهّ بات ، في تلك القرية الإقليميةّ، ممنّ يشُار إليهم بالبنان . وكانت له ، مع أهل المنطقة، علاقات وديةّ، يشهد لها قول الشيوخ ليسوع ، إذ جاؤوا يكلّمونه في شأنه : " إنه مستحق أن تصنع له هذا، لأنه يحبّ أمتنا، وقد بنى لنا المجمع " . وربما كان واحداً من " متقـّي الله "، الذين كانوا يدينون بالمعتقدات التوحيدية، ويتبّعون الشريعة، من غير أن ينتسبوا انتسابا كليّاً إلى الجماعة اليهودية، ومن غير أن يختتنوا
. كان لقائد المئة هذا غلام مريض : أو ليس بإمكان يسوع أن يأتي ويشفيه ؟ .. فأجابهم إلى ملتمسهم . وإنه في طريقه إلى منزل الجندي ، إذ التقاه وفد آخر : لقد ساور الضابط قلق جسيم ! .. فهل بالإمكان أن يرضى لنفسه ن وهو الكائن العدم ، والوثني الخاطئ ، أن يكلف النبي مؤونة الذهاب إلى منزله ؟ .. وقال له بلسان الوفد : " يا سيدي ، لا تتعب نفسك ، لأني لا أستحق أن تدخل تحت سقفي ؛ من أجل ذلك لم أجرؤ أن أجئ إليك ! ولكن قل كلمة فيبرأ الغلام ! .. " ؛ إنه لم يقل ليسوع : " توسل من أجل غلامي ! " بل : " مر أن يبرأ الغلام ! " . أجل ! لقد كان إيمانه عظيماً ! .. وكان يعلم حق العلم قدرة الأوامر … وتلك الثقة التي باتت تحمله على الإعتقاد بقوة النظام العسكري ن قد أهابت به أيضاً إلى الاعتقاد بسلطان المسيح ؛ قال : " إني أنا إنسان مرتب تحت سلطان ؛ ولي جند تحت يدي ؛ فأقول لهذا : أمض ، فيمضي ؛ ولآخر : أئت ، فيأتي ؛ ولغلامي : أفعل هذا ، فيفعل ! " . وكان معنى كلامه : " وأنت ، يا سيدي ، اصنع كذلك ! " . فأجاب يسوع ، وقد أعجب بتلك الثقة التامة : " غني لم أجد ، حتى في إسرائيل ، مثل هذا الإيمان " ( لوقا 7 : 1 – 1. ؛ متى 8 : 5 – 13 )
. وثني إذن ، واحد من أولئك " الكفار " الذين باتوا ، في نظر الفريسيين " أقبح من البهائم ، وغير أهل للشفقة ! " . وقد رحب به به المسيح . والواقع أنه ليس من طريق أبلغ إلى الله ، من طريق الإيمان والتواضع … وهذه مخلوقة أخرى ، قد حفلت نفسها بهاتين الفضيلتين – وهما ابداً في طليعة الفضائل المسيحية .. إنسانة زرية ، لم يكن علماء الناموس لينظروا إليها إلا بعين الاحتقار ! .. لقد طلب إلى يسوع فريسي ، اسمه سمعان ، أن يأكل عنده ؛ وربما دعاه عن فضول ، أو رغبة في مراقبته عن كثب . وأولمت الوليمة بمقتضى الأصول ، ولكن في جو بارد . ولم يكلف المضيف نفسه كبير عناء .. فهو لم يغسل رجليه – جرياً على العوائد المرعية – ولم يدهن رأسه بطيب ، بل لم يتكرم عليه بقبلة السلام . وبينما كان يسوع يتناول الطعام ، وهو متكئ على مرفقه الأيسر ،فوق فراش وطئ ، ورجلاه العاريتان شطر الحائط ، وغذا بامرأة قد دخلت الغرفة … لم تكن العوائد في الشرق لتحرم على النساء دخول المنازل . بيد أن حكماء إسرائيل كانوا – كما رأينا – قد حظروا اختلاط النساء بالرجال . وكان مثول أشباه تلك المرأة خصوصاً ، نكراً مستهجناً .. فقد كانت إمرأة بغياً ، مشهورة الأطوار … ودنت من يسوع ، وفي يدها قارورة طيب ، وجثت عند قدميه . ما بغيتها ، يا ترى ؟ .. وأي أسى اجتاح نفسها ؟ … ونفر الدمع من مقلتيها ، وانهمل من وجهها ، وامتزج بالطيب الذي أفاضته على المخلص ؛ ثم إنها ، في غمرة إلتياعها ، حلت ضفائر شعرها ، وطفقت تمسح بها قدمي المسيح وتقبلهما بلهف . وكان المدعوون ، أثناء ذلك ، ينظرون بعضهم إلى بعض ن وملء احداقهم الهزء والاحتقار ز إذ ذاك تكلم ذاك العارف ما في القلوب ، وخاطب مضيفه قائلاً : " يا سمعان ، عندي شئ أقوله لك ! " فقال : " قل يا معلم ! " ؛ قال : " كان لمداين غريمان : على أحدهما خمس مئة دينار ، وعلى الآخر خمسون . وإذ لم يكن لهما ما يوفيان به ، سامحما كليهما ! ..فأيهما يكون أوفر حباّ له ؟ "؛ فأجاب سمعان : " هو، في ما أرى، الذي سامحه بالأكثر ! " فقال له : " بالصواب حكمت ! . . أترى هذه المرأة ؟ " ؛ واسترسل يسوع في إلقاء درسه العميق . فسمعان رجل صالح ، صدّيق ، ولم يكن بحاجة، من ثمّ ، إلى أن يصفح عنه المسيح صفحاً كثيرأ ! . . ولكن هل في ذلك ما يبرّر قلّة حبّه ؟. . وأمّا هي - تلك المسكينة- فبمجامع قلبها المغموس في المعاصي ، العامر بالتوبة والحنان ، قد أقبلت تتوسّل إليه ! . . فالذي يجد إلى قلب الله سبيلاً ، أكثر من ذاك اليقين المتصلّب الذيُ يخلد إليه أهل البرّ والاستقامة، إنما هو الشعور بذاك الضعف الصميم الذي لا يصادف ، إلاّ في الحب ، تعزية وسلواناً. . . ثم قال المسيح للمرأة : " إيمانك خلّصك ، إذهبي في سلام ! "
. تلك هي الحادثة التي باتت من الصفاء والروعة، بحيث نودّ أن نستعيد، في التعليق عليها، قول القديس غوريغوريس الكبير : " كلما تأملتها، شعرت بحاجة إلى الصمت والبكاء! ". إن تلك المرأة المسكينة التي وجدت ، في معرفة ذلّها، طريقاً الى الخلاص ، إنما هي صورة كل نفس لا يضلّلها صَلَفُ " الأنقياء " . . ليس في الإنجيل كلّه صفحة أدعى الى التأثر ! وقد تفرّد لوقا بروايتها، (7 : 36- 5. )، فما كان يوما أحق باللقب الشي وصفه به دانتي ، حيث قال : " لوقا مؤرّخ حِلم المسيح ! "
. لقد كانت كثيرةً أشباه تلك النفوس اللاّهبة، التي أجرى كلامُ المسيح فيها إنقلاباً كاملاً ! . . وكانت في جملة تلك الجماهير التي راحت تتأثر خطى المسيح في الدروب وفوق الهضاب وعند شواطىء البحيرة . أجل ، لم يكونوا كلهم من التابعن الأوفياء ؛ وتلك سنُةّ الناس في تألبّاتهم الضخمة أن يقوم ، الى جانب أصحاب اليقين ، رهط الفضوليين والنفعيين والبطّالين ، ممنّ لا يعادل هزُالَ فطنتهم ورويتّهم ، إلاّ قلةُ اكتراثهم . ولم يكن يسوع ليخفى عليه أمرهم ووزنهم . فهو ما كان يوماً – ولا بوجه من الوجوه – من صنف أولئك الزعماء الشعبيين الذي يجدّون في التماس الجمهور والاتصال به ، لأنهم بحاجة إلى تلك النشوة الفريدة التي يصيبون فيها تحقيق شخصيتّهم . كلاّ ! بل نراه مَراراً ينسلّ من بين الجموع المحدقة به . وقد تكرّر! الإنجيل مثل هذه العبارة السريعة : " أما هو فكان ينتحي عزُلة ليصلي ! "
. لم يكن يسوع ، إذن ، ممـنّ يأنسون إلى الأوهام . فالمعجزات التي بات يصنعها ، كم هم الذين يفقهون غرضها الصحيخ ، ويؤانسون فيها مصداق رسالته ؟ . . بل ما أكثر أولئك الذين لا يلتمسون فيها سوى لون من ألوان الدعاوة، وإرضاء الفضول ! فالناس يَهووْن دائما " آيات من السماء " ؛ فإذا أصابوها، قلّ اكتراثهم ، وإذا حرموها فشلوا وسـخطوا ! ولذا فقـد أبي المسيح كل معجزة كانت تلُتمس لأغرَاض ملتوية (مرقس 7 : 12 ) ؛ وليس ذلك دأبَ المشعوِذين ! .
. من الثابت إذن أن أولئك التابعين الأولين باتوا، للكنيسة العتيدة، صورة وبذارأ . ومن ثم فلا بدّ من الإقرار بأنهم كانوا يملكون من الملامح الخلقية، ما اتّـصف به المسيحيون ، عبر الأجيال . فإلى جانب الذين كانوا يعيشون من وحي إيمانهم ، ويجعلون كل لحظة من حياتهم شهادةً ليقينهم ، كنت ترى أفواج الذين استسلموا للسُبات والامبالاة والخيانة المبطنة . وإننا لنُفكّـر في هؤلاء المسيحيين الذين نراهم ، اليوم ، يشهدون الصلاة، وهم عنها ذاهلون ، ومن غير أن ترجع إلى ذهنهم ، لحظة واحدة، فكرة " الذبيحة الرهيبة " التي جاؤوا، مبدئياً، يستعيدون ذكراها . ونفكّـر أيضاً في أولئك الذ'ن اتخذوا من الإنجيل مطيّةً لتبرير ما لزموه من عادات الترف والأنانية، وتسويغ " النظم المقرّرة " ، والتحامي من البحث فيها على ضوء العدالة والإنصاف . . . أوَ لم يشبّه يسوع بعضاً من مسعتمعيه ، بأولئك الذين جاء عنهم ، في إحدى أغاني الصبيان : " زمّرنا لكم ، فلم ترقصوا ؛ نحنا لكم فلم تبكوا !.." (لوقا 7 : 31 ؛ متى 11 : 16)؟.. ليس إذن من ريب في أن عدداً كبيرأ من تلك الجماهير " كان لهم آذان لكي لا يسمعوا، وعيون لكي لا يبصروا ". ولا غرو ففي ملكوت الله " كثيرون هم المدعوّون ، وأمّا المختارون فقليلون ! "
. وإننا نوجس لونا من الأسى، في الخطاب الذي وجّهه يسوع ، قبُيَلْ أن يغادر الجليل ، إلى المدن التي طالما بذل من نفسه في سبيلها : " ويل لك ، يا كورزين ( خورزيم) ! ويل لك ، يا بيت صيدا ! لأنه لو صنع فيَ صور وصيداء ماصنع فيكما من العجَائب ، لتابتا، من قديم ، في المسوح والرماد !. . ولذلك فإني أقول لكم : إن صور وصيداء ستكونان أهون مصيراً منكما في يوم الدينونة . . . وأنت يا كفرناحوم ! . . أو ترتفعين حتى السماء؟ إنه سيهُبطَ بك إلى الجحيم ! لأنه لو صنع في سدوم ما صُنع فيك من العجائب ، لثبتت إلي اليوم ! " (متى 1 1 : 21- 24 ) . ولقد أثبتت الأيام تلك النبوءة الاقتصاصية : فمن كفرناحوم وبيت صيدا ، لم يبق سوى رسوم ؛ ومن خورزيم إلاّ شبه آثار . . . وقد توسّمت فيها الأسطورة موطن " المسيح الدجّال " . . . أجل إنها لصعبة سياسة الناس، وخياّبة ! . . ولقد خبر الله تلك الخيبة، عبر الأزمان ؛ وعاناها المسيح معاناة طافحة، يوم وُجد وحيداً في عذابه ، مرذولاً فوق صليبه . .
. ولا بدّ من الاشارة إلى أن بعضاً من خيرة أتباعه ، ومن أرسخهم ولاء، قد انقادوا أحياناً لمحاولات مشبوهة، اضطرّ المسيح إلى صدها . فأيّ بأس في أن يذهبوا بمعلّمهم وزًعيمهم شطر العرش ؟ ولم لا يحققون ، معه ، ذاكً الحلم اليهوديَ القديم ، حُلم مسيحٍ مظفـرّ يحرّر الأرض ، ثم يدُْخَلُ به أورشليم ، دخول الفاتحين ، وُيمسح فيها ملكا؟ . . وإننا لنوجس ، حالاً بعد " معجزة تكثير الخبز " الأولى، شبة محاولة قومية، كان لا بدّ أن تفضي إلى شبه مؤامرة يشترك فيها الرسُلُ من قريب أو من بعيد، ويكون الغرض منها بعث حركة سياسية تنتهي بتتويـج يسوع . . . أمّا كيف قضى المسيح على تلك المحاولة، واضطرّ تلاميذه إلى ركوب السفينة، وكيف لبث بالمكان وحده ريثما يصرف الجـمع ، كل ذلك قد رواه البشير مرقس بلا مواربة . ( 6 :45 ) . ولن تكون تلك هي المرة الوحيدة يبرز فيها ذاك الخطر الكامن ! .
. بل سوف يبقى ذلك ، مدى الأجيال ، مضَلّة من مضلاّت الكنائس أن تلُبّس ملكوتَ الأرض بملكوت السماء، والعظمة الحقّة المبنيةّ على التواضعَ والصمت ، بالسيطرة و بهارجها الزائفة
. انتدب المسيح أعواناً يؤازرونه في قيادة تلك الكُـتل البشرية التي سوف تدين بشريعته . ولقد تمّ ذلك –على ما يبدو- في أوائل حقبة البشارة العلنية، ولا شك ، منذ اللـحظة التي بدأت تتصدّى له مهاجمات خصومه ، وتنذره بوجوب تجهيز المستقبل ، وإعداد من يخلفه في مواصلة العمل . ولا يخفى أن تلك " الهيئة الرسولية " التي أشرف على وضعها المسيحُ بالذات ، هي على جانب عظيم من الأهمية . أجل ، لقد كان لفلاسفة الإغريق ، ولأنبياء إسرائيلً ، في العهد القديم ، حتى المعمدان ، أتباعٌ يردّ عون تعاليمهم ؛ ولكنهم ما كانوا لينوبوا مناب المعلّم أو ليتولّوا سلطته . فالمذهب " الرواقي " [ هو مذهب فلسفي قديم ( القرن الرابع ق.م ) ، منسوب إلى الرواق الذي كان يجتمع فيه أنصار المذهب حول معلمهم ومنشئهم " زينون " . وقد اشتهر الروايون بنظامهم الخلقي الشديد ، واعتقادهم بالقدر المحتوم ]، مثلاً، كان يضم أفراداً مشتّتين ، تجمعهم عقيـدة واحدة من غير أن تقضي على فرديتهم واستقلالهم. وأمّا الكنيسة فقـد بات لها، وهي في المهد، قادتها . ولسوف يضع لها مؤسسّسهُا، بعد فترة من الزمن ، هيئة رسولية ثانية، مؤلفة من " السبعن رسولاً "، وهي نواة الهيئات الإدارية المستقبلة ! لقد كان للأسّينين أيضاً نظام تسلْسُلي ، يشُرف عليه قادة منتخبون ، وزعيم أكبر –" معلّم البرّ " – كانت في يده مقاليد السلطة العليا. ولا يستبعد أن يكونَ يسوع قد وقف على طريقة ذاك التنظيم ؛ ولكنه ذهب ، في توسيع نطاقه وتطبيق مبادئه ، إلى حدّ بعيد، فشمل به مجموعة المؤمنين كلهّم . . . لا شك إذن أن النظام التسلسُليّ الذي تتميزّ به الكنيسة حتى اليوم له مصادر5ه التاريخية في الانجيل ؛ وذلك واقع لا جدال فيه . إذا استندنا إلى جُملة ما ترويه الأناجيل الثلاثة المؤتلفة، في شأن تلك الدعوة، استقام لنا النصّ التالي : " خرج يسوع إلى الجبل ليصليّ . وأمضى الليل في الصلاة إلى الله . ولما كان النهار دعا إليه تلاميذه الذين أرادهم ، وأقام منهم اثني عشر ليكونوا معه ، ويرسلهم للكرازة ؛ وسمّاهم رسلآ، وقلّدهم سلطاناً لكي يطردوا الأرواح النجسة، ويشفوا كل مرض وكل سقم " (متى 1. : 1 ؛ مرقس 3 : 13 ؛ لوقا 6 : 12) . مشهد جميل : فالمسيح قد قضى الليل كلّه في تبصّر القرار الذي أزمع اتخاذه ، واستلهام الآب لما كان مقدماً عليه من تعيين وانتداب ؛ ثم أولئك الرجال المصعّدون في الجبل ، والمتحلّقون حول معلّمهم ، وهو يفرز المختارين من بينهم ؛ ثم ذاك الموقع المنعزل ، الموحش ، حيث تمّ الانتخاب في جوّ من العظمة والجلال ! . . ونلاحظ أن المسيح ، في تلك المناسبة، قام بمهمّة الانتداب ، بقرار شخصي لم يعمد فيه إلاّ إلى إرادته . ولا بدَعْ ، فاللّه يوم ينتدب أمثال تلك النفوس الكبيرة، إنما هو الذي يستحوذ عليها، فلا يطلب منها سوى أن تنقاد له انقياداً راضياً متواضعاً . ولسوف يقول يسوع لأعوانه يوماً : " لستم أنتم قد اخترتموتي بل أنا اخترـتكم وأقمتكم . . . "(يوحنا 15 : 16 ) . والواقع أن أندراوس ويوحنا، عند ضفاف الأردن ، ثم سمعان بطرس ، ثم ، من بعدهم ، فيلبس ونثنائيل ، هم أيضاً لم يستبقوا الله إلى الاختيار ! .
. ان لفظة " رسول " - ويعادلها باليونانية " Ahoatolos"، كانت تطلق على موفدي السنهدرين الى الجاليات اليهودية النائية، في مهمّات معيّنة. وقد ندر استعمالها في أناجيل مرقس ومتى ويوحنا . وأمّا البشير لوقا فهو الذي عمّم استعمالها في انجيله وفي " أعمال الرسل " . ولا شك أن بين لفظتي " تلميذ " و " رسول " تدرّجاً في المفهوم ، وترًسّخاً في الإلتزام ، وأن الذين أطلقت عليهم اللفظة الثانية هم أعلى شأناً من عامّة التلاميذ . وأمّا رقم " الاَثني عشر " فلا شك أنه من وضع يسوع بالذات ، بدليل ما جرى ، بعد خيانة يهوذا وموته ، من مبادرة إلأحد عشر الباقين إلى انتخاب متّيا خلفاً للـخائن ، وردّ الجوقة إلى عددها السابق . وربما كان ذاك الرقم من مؤدّيات التقليد الأسّيني ؛ فقد كان يشرف على أمور تلك الجماعة الرهبانية، مجلس يتألّف من اثني عشر زعيماً . وأمّا أن يكون له أيضاً هدفٌ رمزي ، فيبدو من الصعب أن نضع ذلك موضع الشك . فلسوف يعد المسيح تلاميذه بأنهم " سوف يجلسون على اثني عشر كرسـيّـأ ليدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر " (متى 19 : 28) : وتلك نقطة من النقاط التي يلتقي فيها العهدان ، القديم والحديث
. لقد وردت لائحة الاثني عشر ثلاث مرّات في الأناجيل، ومرّة في سفر " أعمال الرسل " (متى 1. : 2-4 ؛ مرقس 3 : 16-19 ؛ لوقا 6 : 14 -16 ؛ أعمال 1 : 13) . وإنما يتعذّر مطابقة هذه اللوائح ، اثنتين اثنتين ، بوجه محكم . فلئن ورد اسم بطرس دئماً في الرأس، واسم يهوذا في الذيل ، ولن احتلّ فيلبس ويعقوب بن حلفا نفس الموضع في اللوائح الأربع، فإننا نصادف ، في ما عدا ذلك ، بعض الإشكال . وسبب ذلك أن عدد الأسماء المتداولة عند اليهود كان ضئيلا ، فشاع استعمال النظائر الاسميـه ، ووجب ، من ثم ، اللـجوء إلى الألقاب . وهكذا كان يهوذا -وهو نظير يوداس - يلقّب بتدّاوس ، أي " العظيم الصدر " ، أو بلبّاوس ، أي " الواسيم القلب " . وأمّا يهوذا الآخر ، الرسول الخائن ، فكان يلقّب بالإسخريوطي . وقد شاع تنسيق اللائحة، على الوجه التالي : سمعان بطرس ، وأندراوس أخوه ؛ يعقوب الكبير ويوحنا أخوه ، (وكلاهما ابنا زبدى) ؛ فيلبس وبرثلماوس ، (أي نثنائيل ) ؛ توما ومتى العشّار ؛ يعقوب الصغير ابن حلفا ؛ يهوذا (أو تدّاوس ) ؛ سمعان الملقّب بالغيور ؛ ويهوذا .الاسخريوطي الخائن
. وليس الرسل كلّهم ، في الإنجيل ، على وتيرة واحدة من البروز . فهناك من لا نعرف منهم سوى اسم أو لقب يثُبت أحد ملامحهم الخلقية أو الطبيعية . فعن سمعان ، مثلاً ، (وهو سميِّ سمعان بطرس ) لا ندري هل لقّب " بالغيور "، بسبب حميّته فيَ العمل (إلاّ أننا لا نجد لتلك الحميّة أثراً في الانجيل ) ، أم بسبب انتمائه إلى حزب " الزيلوتيين " ( أي الغيورين ) . . . وقد لقّب أحياناً " بالقانوني "، ربما تحريفاً عن لفظة " قانا " ، ومعناها، بالعبرية : " الغيور " . . . وعن يعقوب الصغير أيضاً ، لا ندري هل دعي كذلك ، لأنه كان قصير القامة، أم لأنه كان أقلّ شأناً من سميهّ ، يعقوب بن زبدى. وقد كتب هيجيسيبس ، حوالي سنة 7.، عن رجل ، اسمه يعقوب ، كان " نذيراً " ، أي محرّراً لله ، لا يشرب خمراَ، ولا يأكل لحماً، ولا يحلق شعراَ، ولا يتطيب ، بل ولا يغتسل ، وكان ، من مواصلته الصلاة، قد " جسأت جلدة ركبتيه ، فصارت بصلابة جلود الإبل " . . . ولكنّ كثيراَ من المفسّرين قد شكّـوا في أن يكون يعقوب هذا، المدعوّ " أخا الرب "، والذي أصبح أوّل أسقف على أورشليم ، هو نفس " يعقوب بن حلفا " الرسول
. وأمّا الرسل الذين تبسّط الإنجيل في ذكر أخبارهم ، فما أيسر أن نستعيد ملامحهم الإنسانية، ونتمثل شخصيتهم . وإن ذاك التنوّع في أداء الأوصاف الخلقية، لهو من أبلغ الأدلّة على صحة الكتاب ؛ والذي ألف مطالعة القصص الروائي لا يمكنُه إلاّ أن يـعُجب بتلك الظاهرة الفنية . .َ . في صفحة رائعة من صفحات " سواعية الملك رينه "، في المكتبة الوطنية ( باريس )، رسمَ للفنّان صورة يسوع ، وحوله الإثنا عشر . ويتجلى اختلاف الأمزجة من خلال تلك القسمات الني دبّجها، في القرن الخامس عشر، بارع مجهول . ولا بدّ أن ذاك الفناّن القديم كان قد تمعنّ في الانجيل ، برواياته الأربع ، حيث برز بطرس ، ويوحنا، وفيلبس ، وتوما ، في تميَزّ ملامحهم ، وصمود شخصيّاتهم ، خلال النصوص الأربعة
. هذا بطرس : قلب قويم ، ونفس لاهبة ! فكلّ مرة يأتي البشير مرقس - وهو راويته الخاص - على ذكر تصرفاتـه لا يخلو من أن يضيف : " وللحال " . سريع العزم والقول ؛ لا يتردّد في استجواب المعلّم : " كم من مرّة ينبغي أن أصفح عن أخي ؟أإلى سبع مرّات . . . " . وفي الليلة التي اعتقُل فيها معلّمه نراه ، وحده ، يندفع ويشهر السيف . وقد يتفق له أن ينساق للعنف والانفعال . فعندما وصل المسيح ، إلى بطرس ، ليلة العشاء الأخير، ليغسل رجليه ، اعرض واحتح : " لا، لن تغسل رجليّ أبداً !" فأجابه يسوع : " إن لم أغسلك ، فليس لك نصيب معي ! ". فقال له سمعان ، على الفور : " يا رب ! لا رجليّ فقط ، بل يديّ ورأسي أيضاً ! ". لقد كان يهودياً صميمأ، من وجوه كثيرة، يستصعب التسليم بالماسويةّ في مفهومها الصحيح ؛ ولكنه كم كان ، إلى ذلك ،ُ مخلصأ صريحاً، شغفاً بذاك الذي مشى في اثره ! وكما كان اسمه ، عموماً، في مطلع اللائحةَ، نراه أيضاً عند العمل ، في طليعة الرسل . وقد يتفق للآخرين أن يتذبذبوا ؛ أمّا هو، فعلى صخر ! فيوم قال يسوع للاثني عشر، وقد " استصعبوا " تعليمه – في خبز الحياة ( يوحنا 6 : 59 – 71 ) - : " وأنتم أفـلا تريدون أيضاً أن تذهبوا . . . " أجاب بطرس :" وإلى من نذهب ، يا رب ؟ إن عندك كلام الحياة الابدية ! " . قال بطرس ذلك ، نيابةً عن الاخرين ؛ كما أنه هو الذي أفصح عن فكرتهم ، يوم استجوبهم يسوع ، قائلاً : " وأنتم ، من تقولون إني هو .." فأجاب بطرس :" أنت المسيح ابن الله الحيّ ! "
. ثم ها هم الرسل الآخرون : يوحنا، " الذي كان يسوع يحبّه "، وقد ارتسمت قسماته الفنّية ، في غير واحدة من صفحات الانجيل الرائعة ؛ فهو الذي " اتكأ على صدر المعلّم "، وتبعه ، من دون الآخرين ، إلى بيت قيافا وإلى الجلجثة . ولقد أفرغ ربيع شبابه على حياة الإله الإنسان ، مدة مكوثه بالأرض ، لوناً من ألوان الصداقة الرقيقة . ومع ذلك فقد لقّبه المسيح " بابن الرعد " ؛ وفي ذلك إيماء إلى مزاجه الناريّ ، وروحه الصوفية ، وشبه إنباء بذاك الذي سوف يسجّل فيَ إنجيله أروع ما أوحى به الله ، والذي سوف يدوّن في " رؤياه " ، - عن لسان الشهداء- هذه الكلمة الصاعقة : " حتى متى ، أيها القدّوس والحق ، لا تقضي ولا تنتقم لدمنا، من سكان الأرض ؟ " ( رؤيا 6 : 1. )
. وأما فيلبس ، فقد غلبت ثروة إيمانه ، على نباهة ذهنه ؛ فهو الذي أعيا عن الجواب يوم اختره يسوع ، فيَ قضية إطعام الخمسة الآلاف ، في البرية، قبل معجزة الخبز ؛ وهو الذي التمس من يسوع ، ليلة العشاء الأخير، أن : " أرنا الآب ، وحسبنا! "، فاستـجرّ هذا الجواب المحزون :" أنا معكم الزمان ، ولم تعرفني ، يا فيلبس ؟ من رآني فقد رأى الآب ! " ( يوحنا 14 : 8 – 9 ) . وفي ما سوى ذلك ، كان رجلاً طيباً ، نشيطاً ، ألوفاً ، نموذجاً عالياً من تلك النفوس الصافية التي يختار منها الله أولياءه
. وتوما الذي بات اسمه رمزاً " للريبة " ، من يوم اشتهر بتكذيبه لظهور المسيح ، بعد قيامته ! .. أجل ، لقد كان من فصيلة الذين يأنسون إلى الشك والحذر ؛ وهو الذي ، إذ قال يسوع لتلاميذه ، ليلة العشاء الأخير : " أنتم تعرفون الطريق إلى حيث أذهب " أجابه : " يا رب ، لسنا ندري إلى أين تذهب ، فكيف نعرف الطريق ؟ " . ( يوحنا 14 : 4 – 6 ) . ولكنه كان ، إلى ذلك ، رجلاً صلباً ، شجاعاً . فهو ، عندما أوجس الرسل خيفة ، وأحجموا عن مرافقة المسيح إلى اليهودية ، في رحلته الأخيرة ، صاح بهم متشائماً ، ولكن بطلاً : " هلموا لنموت نحن أيضاً معه ! .. " ( يوحنا 11 : 16 )
. إن أكثر الرسل غموضاً ، في ملامح شخصيته ، إنما يهوذا ، آخر من في اللائحة . فقد بات وجهه القاتم عنصراً في أحداث " الذبيحة " التي بها حل الخلاص في صلب التاريخ .. وقد قام فيها بمهمة مرعبة مجدية معاً . كل شئ فيه حالك ، مستغلق ! .. لماذا لقب بالإسخريوطي ؟ .. لقد ذهب البعض إلى أنه لُقب كذلك نسبة إلى إشارة منشأه ؛ وقد التمسوه في قرية ، جنوبي اليهودية ، اسمها خريوط ، استناداً إلى إشارة غير موثقة وردت في تاريخ إفيلافيوس يوسيفوس . وذهب البعض الآخر إلى أن الأحرف التي يتألف منها لقبه ( س . خ . ر ) تلهم ، في العبرية ، معنى " التسليم " و " الخيانة " ؛ وتوسموا ، في ذاك اللقب ، علاقة بالعمل المنكر الذي ارتكبه . . . ثم أليس من علاقة بين اسمه (يهوذا ) والنظرية القائلة بأن " أهل اليهودية " هم المسؤولون عن قتل المسيح ؟ . . هذا، ويبقى صحيحاً – على حدّ ما جاء في " الموسوعة الكاثوليكية الأمريكية "- " أن كل المعضلات المبنوية والمسائل الجزئية تبدو زهيدة إلى جانب المعضلة الأدبية الكبرى التي يواجهها الباحث في بواعث سقطته وخيانته " . فإنه من الثابت أن ذاك الرجل قد اشترك ، مدة سنتين ، في أعمال الرسالة، فعلّم الجماهير ، وأبرأ المرضى ، وطرد الشياطين ؛ واحتل ، بين الرسل ، مركزاً مرموقاً، وقد وُكلت اليه أمانة الصندوق المشترك ؛ ومع ذلك ، فقد خان المسيح ! لماذا ؟ . . ليس هناك من تعليل - والتعليلات أكثر من أن تحصى- إلاّ ويبقى دون مستوى الإقناع . وهناك ما هو أشدّ إبهاماً : لماذا أبقاه المسيح في جماعته مع علمه بالخيانة قبل وقوعها : " واحد منكم هو شيطان ! " (يوحنا 6 : . 7) . لكي نحاول الوقوف على شيء من تلك النفس المظلمة، نودّ أن نتذكّر تلك النزوات الراغمة التي تحملنا على الشرّ مع كُرهنِا له ، فيتهيأ أ لنا، اذ ذاك ، أن نرثي لذاك الرجل التاعس الذي أمسى ، بين يدي قدر فاجع ، آلة ضعيفة : ولكم يتفق لنا أن نضعف ، نحن أيضاً، وإن في ظروف أخفّ عاقبة ! . . في القرون الأولى من تاريخ الكنيسة، اضطرّ ترتليانُس وإيرناوس أن يناهضا بعض المندفعين الذين راحوا ينادون بالثناء على يهوذا، لأنه بالخيانة، مهّد السبيل إلى الفداء . . . من جهة، لا شكّ أن يهوذا - كما اتضحت مهمته في الكتاب ، المقدّس - مذُنبٌ ، مسؤول عن ذنبه ، على نحو ما أذنب آدم وحواء، في الزمان الأوّل . ولكن ، من جهة أخرى، لولا خطيئة ادم وحوّاء، لما كان المسيح ؛ ولولا جريمة الاسخريوطي ، لما كان الصليب ! . . أجل ، هناك من الأسرار ما يخفى عن مدارك الإنسان
. لقد كان الرسل كلّهم -على ما يبدو- من بيئة اجتماعية واحدة :لا من أهل العازة، ولا من ذوي اليسار . " وكانوا أميّين ومن عامّة الشعب " على حدّ ما ورد عنهم في سفر أعمال الرسل (4 : 13) . فأمّا الستة الأولون ، فقد مرّ بنا أنهم كانوا من طبقة الصيادين الريفين من أهل !لجليل . رزقهم من شباكهم وزوارقهم ، يحرزون ، بفضلها ، كفايةً شريفة مستمدّة من الكدّ ، دون سواه. وأمّا متى العشّار - وهو سابعهم - فقد كان ، ولا شك ، أوسع ثقافة، وربما على شيء من الثروة ؛ ولكنه كان ، مع ذلك ، بمستوى زملائه . والواقع أن يسوع قد اتخذ أعوانه ممّا كان في متناول يده . فالروح قادر، إذا شاء، أن يغيـرّ الإنسان . فيسوع لا يطالب أتباعه بما هو مُنيف من صفات العقل ، ولا بما هو نافع من العلاقات البشرية . وإنما يطالب بالخلق العظيم ، شرط كل عظيم على هذه الأرض
. ولكم كان الرسل بحاجة إلى مثله ، لكي يتهيأ لهم اتّباع المسيح في المناهج التي رسمها لهمم . فلقد طُلبَ منهم ألاّ يقتصروا، في زهدهم ، على ما كان قد شغل حياتهم اليومية، حتى ذاك ، من مزاولة مهنتهم العريقة، والعناية بشباكهم ومحاريثهم ، وتصريف محاصيلهم ، والانصراف كل مساء - بعد سحب الزوارق ، ونشر الشباك -إلى مجالس السمر الطويلة، تحت جنحٍ من الليل ، خفّاق النجوم . بل لقد كان عليهم ، علاوة على ذلك ، أن يخضعوا لألوان من القطيعة ، أشدّ إيلاماً ! إن مقتضيات المسلكيّة الإنجيلية باتت في نظرنا ، اليوم - أقلّه نظرياً . . . - من الأمور المألوفة . ولكن أيَ انقلاب كان لا بدّ أن يفرض على أولئك اليهود التقُاة، الذين تعوّدوا ألاّ ينظروا إلى الدين إلاّ من خلال طقوسهم الشكلية، وأن يحسبوا انقباضهم القوميّ لوناً من التقوى، وأن يترقبوا يوم الثأر . . . وإذا بهم يطُالعَون ، فجأة، بدين جديد قِوامه الروح ، وحبّ الأعداء، والشمول المطلق
. إن حياة الترحّل التي أخلد إيها الرسل مع معلّمهم ، مدة سنتين كاملتين ، لم تكن -في ذاتها- لتنغـص على أولئك الشرقيين حياتهم ، إلى حدّ بعيد. وإنما كان عليهم أن يضـحّوا، في سبيل المسيح ، بحياتهم العيلية . ولا بدّ أنهم - باستثناء يوحنا- كانوا كلهّم متأهلين . . . وكانوا يتقلّبون في الأرض ، من قرية إلى قرية . فإذا وقعوا على صديق ، حلوّا عليه ضيوفاً ؛ وإلاّ اتخذوا العراء لهم مائدةً ، يولمون فيه على يسير من الخبز والملح والعنب والعسل والثمر، أو على بعض سمك البحيرة، إذا اتسع لهم وقت للصيد. فإذا ما أطبق الليل التحفوا بعباءاتهم ، وافترشوا الثرى تحت الزيتون أو الجمّيز . لم يكن لهم أن يخطبوا في الناس ، في حضرة المعلم : فكل تلميذ تجرّأ على التعليم في حضرة أستاذه ، ارتكب منُكراً، كان عقابه الموت في شرع التلمود . وأماّ في غيابه ، فكان عليهم أن يقوموا مقامه في تبليغ الحقائق التي أخذوها عنه . فإذا ما احتشدت الجموع حول المسيح ، متعطشةً إلى سماعه ، كانت مهمتّهُم أن يعنوا بتحويطهم ، وتوجيههم ، ومَراقبتهم . وتلك المهمة المزدوجة، أليست هي ، حتى اليوم ، مهمّة خلفائهم الأساقفة
! فلكي يرضوا بذاك الإنسلاخ عن سالف عاداتهم ، ويأنسوا إلى مقتضيات ذاك المصير الجديد، هل كان الرُسُل من السمو بحيث يتعذّر أن نتبينّ فيهم ما نصادفه ، في ذواتنا، من أوهان ؟ كلاّ ! بل إننا نجد، في غير واحدة من صفحات الإنجيل ، تفنيد من يتوهّم أن القديسين هم بمنجاة من الإغراء ات الي تعبث بمصير الإنسان ، وأنهم راسخون ، في تقـواهم ، رسوخ التماثيل الجامدة . أجل ، لقد كانوا على الإيمان . ولكن هل الإيمان إلاّ نعمة يصُار إليها، كل لحظة، بالجهاد المرير ! لقد قال لهم يسوع يوما : " أعرف أنّ فيكم من لا يؤمنون ! " (يوحنا 6 : 46). لقد خانت بطرسَ ثقته بالمسيح ، يوم استند إلى ذراعه ، فوق اللجّة العاتية ؛ ولا أحد يجهل تلك الساعة العصيبة، حيث فارقته قواه ، فأنكر المسيح ثلاثاً، في تلك الليلة، ليلة التخليّ . ونرى الرسل – وهم نخبة المؤمنن – يستنكرون أسمى ما نطق به المسيح من وحي كان عليهم ، في المستقبل ، أن يقوموا بتبليغه . فإنهم ، يوم قال لهم المسيحً : " أنا خبز الحياة . من يأكل جسدي ، ويشرب دمي ، فله الحياة الأبدية"، طفقوا ينظرون بعضهم إلى بعض –والاستغراب على شفاههم – ويقولون : " هذا الكلام صعب ، من يستطيع سماعه ؟ " (يوحنا 6 : 6. ) . وبطرس ، بطرس نفسه ، يوم أنبْى بالنهاية الفاجعة التي باتت تتـرصّد المسيح ، أظهر من عُنف التنكّـر ما ألجأ يسوع إلى مبادرته بهذا الجواب الهاثل : " إذهب خلفي ، ياشيطان ! إنك لي معثرة ! لأن أفكارك ليست أفكار الله ، بل أفكار الناس " . وفي الواقع، أليسوا هم إلاّ أناساً، مثلنا جميعاً ؟ . . أو ليس فيهم من الصغائر، ما بات من مألوف اختبارنا . . . " وداخلتهم هذه الفكرة ! من تراه الأعظم فيهم . " ( لوقا 9 : 46 ) . مثل تلك المطامح لا تزال حتى اليوم ، وقد اندسّت في أقدس الأوساط ، وتسرّبت إلى الحُـصون والأديرة ! إنها آفة التواضع
. لقد كانوا إذن بشراً، أولئك الرسل ؛ بشراً ليس إلاّ . وإنما عليهم هبّ روح الحياة، فظلـوّا به منطلقين حتى الاستشهاد
. يبدو أن المسيح ، في الحقبة الأخيرة من مقامه في الجليل ، قد تفرّغ ، بوجه أخصّ ، لتنشئة الرسل . ولربما شعر أنه لن يُصيب ، فيما بعد، مُتّسعاً من الوقت لتلك المهمّة الأساسية ؛ فكان لا بدّ اذن أن يكون مطمئناً إليهم ، يوم تنفجر المأساة، ويحين أوان الحصاد . .
. ولذلك نرى المسيح يدفعهم ، فجأة ، في ميدان العمل ، ثمانية أشهر أو عشرة من بعد انتدابهم ؛ وكأن المسيح قد أراد لهم فترة اختبار تُعدّهم للمهمةّ التى سوف تترقّبهم يوم لن – يكون هو الى جانبهم . (لوقا 9 : 1-6 ؛ مرقس 6 : 6-13؛ متى 1.: 5 - 16و 11 :1)
. أرسلهم اثنين اثنين ؛ ولسوف ينطلق المبشرون هكذا دائماً ، في أوائل تاريخ الكنيسة، وذلك عن فطنة، لكي يكون الواحد عوناً للآخر ورقيباً عليه ، يحرزه من الوقوع في سَرَف النشوة التي تطغى على الخطيب ، إذا كان وحيداً إزاء الجماهير . . منذ تلك اللحظة، استحق " الرسل " لقبهم ، فكانت بداية مؤسسة جديدة لم يعرف لها نظير في التاريخ . " وأعطاهم سلطاناً على الأرواح النجسة ! اشفوا المرضى ، أقيموا الموتى طهّـروا البُرص ، اطردوا الشياطين " . لقد تنازل عن سلطانه الخاص لأولئك الذين باتوا يمثّلونه ، مع ما كان فيَ ذلك التنازل من انتقاص نفوذه . بيد أنه حدّد لهم نطاق مهمّتهم وأهدافها : فصرفهم عن التبشير بالمسيح - وكيف يبشرون به ، ومعرفتهم له قاصرة ؟ - الى الكرازة بالتوبة فقط ، و" بأن ملكوت الله قريب ". وأزالهم عن العناية بالوثنيين ، والأمم ، والسامريين ، وتقدّ م إليهم " بالذهاب إلى الخراف الضالة من بيت اسرائيل "
. وقد اهتم يسوع لوضع النهح الذي لا بدّ من التقيّد به ، في عمل الرسالة، ولا سيما الفقر ؛ وهو من الصفات اللازمة الي يجب أن يكونوا فيها قسوة للآخر'ن . وكان من عادة المسافرين أن يحتملوا معهم ، - للاستبدال – قمصاناً ومناطق ؛ ثم عصاً ومزوداً، وحذاءً احتياطياً، ومعطفاً ، بعض الأحيان . وأمّا هم ، تلاميذ ذاك الفقير، فعليهم ألاّ يرتبكوا في مثل ذلك : " لا تقتنوا ذهباً ولا فضّة ولا نحاساً فيَ همايينكم ، ولا مزوداً للطريق ، ولا ثوبين ولا حذاءً ولا عصاً " . ولكن أين يجدون رزقهم ؟ هناك عناية ساهرة . فإذا دخلوا قريةً ، فعليهم أن يلتمسوا فيها بيتاً أهلا" لأن يضيفهم . فإنّ إيواء رسل الله من المكرُمات . فإذا طردوهم - ولا غرابة في ذلك ، فإن حياة الرسالة تحفّ بها الصعاب ؛ ولسوف يكونون " كالحملان بين الذئاب " ؛ ولسوف يقُاتلَون ، وُ يجلدون ، وُ يجرّون إلى السجون - فلا عليهم ، آنذاك ، بل فلينصرفوا نافضين غبار أرجلهم ، عند عتبة ذاك البيت الصّدود . هكذا، منذ اللحظة التي رسم فيها للكنيسة مبادئ رسالتها، وضع لها شرطاً أساسياً : ألا وهو الفقر والتجرّد
. لم تستغرق تلك الرسالة، على ما يبدو، فترة طويلة ؛ وما كانت ، في الواقع ، سوى تجربة تمهيدية . وأغلب الظن أنهم انطلقوا لها في شباط 29، واجتمعوا حول المعلّم ، من جديد، قي شهر نيسان ، عهْد جرت معجزة الخبز . ومذ ذاك انقطع لتلقينهم مبادىء عقيدته الأساسية، تلقيناًُ محكماً . ويبدو أن معظم تعليمه ، في تلك الفترة ، بات موجّهاً إلى الاثني عشر، بصورة خاصة ؛ فهو لا ينفك يفسّر لهم فكرته تفسيراً مفصّلاً ، ويبين لهم ما استعصى منها على مداركهم . ولم يكن ذلك بالأمر الهين ؛ فالأناجيل كلّها - ولا سيما إنجيل مرقس : لم تسَتـر ماعاناه المسيح في سبيل فضّ تلك الدروع الجسيئة ضـمن العادات المطبقة والأوهام المستحكمة . . . كانوا كلّهم ، ذات يوم ، في الزورق . فأفضوا الى أحد الشواطىء، بقرب مدينة فيها، ولا شك ، بعض العناصر الوثنية . فأشفق التلاميذ ألاّ يجدوا فيها خبزاَ مصنوعاً بمقتضى المراسيم الشرعية. فقال لهم يسوع : "إياكم وخمير الفريسيين ، والصدوقيينين ، وخمير هيرودس . . . !ا. فما تبادر الى ذهنهم إلا شأن مَعدِتهم ! ما عساهم يأكلون ، إذا لم يجدوا في المنطقة سوى خبز " منجّس "؟ . . فاضْطرُ يسوع إلى تذكيرهم بأنهم ما افتقروا يوماً الى طعام ! فانكشف لهم ، إذ ذاك ، أن خمير الفريسيين إنما هو رياؤهم ، وتمسّكهم العقيم بالناموس ؛ وخمير الهيرودسيين إنما هو كبرياؤهم وتضجّعهم في التقاليد الرخيصة ؛ وخمير هيرودس إنما هو الفحش والعنف . (مرقس 8 : 14-21 ؛ متى 15: 5 - 12 ؛ لوقا 12 : 1)
يتبينّ من خلال هذه النوادر، ما تميزّ به تعليم المسسيح من بلاغة وواقعية وانطباق على شؤون الحياة . فهو بعيد كل البعد عن الأسلوب " التدريسي " الذي نهجـهُ الفلاسفة ؛ وعن الجدل الدقيق الذي نقع عليه في المحاورات السقراطية . فالمبدأ الصـحيح الذي استندت إليه طريقة المسيح ، انما هو التزام قاعدة الصواب : ولذلك فقد جاء تعليمه منسجماً مع الانسان انسجاماً رائعاً . فأي عائدة ترجى من إقامة الشعائر الوضوئية، اذا كان القلب مدنساً بالخطيئة ؟ . . ولمَ يعمدَُ الى تطهير " الكؤوس والجرار وقصاع النحاس والأسرّة "، إذا كانت النفوس مريضة، وأسمى فرائض الشريعة الموسويةّ مزدراة من غير ما حرج ؟ . . إن طهارة الأطعمة، مهما بدت خطيرة في نظر تُقاة اليهود، لا توازنُ بنقاوة الضمير : " ليس شئ مما هو خارج
. الإنسان ، يمكنه ، إذا دخل الإنسان ، ان ينجّسه ! لأنه لا يبلغ إلى قلبه ، بل يذهب إلى الجوف ، ومنه إلى المرحاض . إن ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجسّ الإنسان . لأنها من الداخل ، من قلوب الناس ، تنبعث الأفكار الرديئة : الفجور والسرقة والقتل والزفى والطمع والخبث والمكر والعهارة والحسد والاغتياب والكبرياء والحماقة " (مرقس 7 : 1 -23 ؛ متى15 : 1- 2.)
. ما هو إذن ذاك التعليم الذي طالب يسوع بإيثاره على جميع الفرائض ؛ ألا إنه في منتهى البساطة، وينحصر كلّه في كلمات يسيرة، ويساعد على اكتناهه بعض أمثال نيرة . وأوّل ما ألزم به المسيح أتباعه ، حبّ وتضحية مطلقان : " من أحبّ أباً أو أمّاً أكثرمني فلا يستحقني " (متى 1. : 37) فإن إرادة الله أن يهب له المرسلُ ذاته من غير قيد، وأن يقف له كل لحظة من لحظات حياته : فإذا ما سقطت عن الرُسل هموم المادة، وانتفت عنهم ضرورة التخيرّ بين ربيّـن : اللّه والمال ، تهيأ لهم أن ينقطعوا انقطاعاً ثاماً للواحد الصمد
. ان ما نادى به المسيح ، بإلحاح مذهل ، بل أكثر من مناداته بحب اللّه - وحبّ اللّه شرعة عفوية - إنما هو حبّ الناس ، بل فريضة المحبّة الشاملة . وقد عاد إلى التذكير بها، في توصياته الأخيرة، ليلة أسلْمَ إلى الصلب : " هذه هي وصيتي : أن يحب بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا ! " (يوحنا 15 : 12) . وقد أثر عن المسيح " حديث "، بذات المعنى ، في صيغة رائعة : " إذا رأيت أخَاك ، فقد رأيـت إلهك ! "
! إنما سلاح الكنيسة المحبة . وليست المعارك الدنيوية هي التي سجّلت لها في التاريخ أجدى انتصاراتها . فلئن تبينّ ، مع تراخي الزمن ، أن الفتوحات الصليبية باتت عبثاً عقيماً، فإنه لا يضيع سدىً بذلُ رسول متواضع ، ولا إشعاع محبّة فيَ قلب راهبة. فالمحبّة إنما هي دليل حضور اللّه ووسيلته :" أقول لكم الحق ، إذا اتفق اثنان منكم على الأرض ، في أي شيء يطلبانه ، فإنه يكون لهما من قبل أبي الذي في السماوات . فإنه حيثما اتجمع اثنان أو ثلاثة باسمي ، فأنا أكون هناك فيما بينهم "(متى 18 : 19) . وإننا نسمع صدى هذا الوعد، في " حديث " آخر، عُثر عليه في مخطوطة مصرية من ورق الردي : " حيثما وجد اثنان ، فالله معهما " . وينبغي ألاّ يضعوا حدا للصفح ، بعضهم عن بعض ، حتى وان أخطأ أحدهم " ليس فقط سبع مرات ، بل سبعين مرة سبع مرات " (متى 18 : 21 – 22). وليحرزوا من التشبهّ بذاك العبد القاسي ، الذي سامحه لمجده بديونه ، فراح يعنّف غرماءه ، ويأخذ بخناقهم . (متى 18 : 23 – 35 ؛ لوقا 17 : 3 – 4 ) . ولا بدّ من الاقتصاد والاعتدال حتى في تأديب أصحاب الكبائر المشتهرة. فلا يحكم عليهم إلاّ بعد أن يصُار إلى تونيبهم في السرّ، ثم بحضور شاهدين أو ثلاثة . (متى 18 :15 – 2. ) وينبغي أن يعاملوا بالحسنى من هم على غير دينهم ؛ فلربما تاهوا عن جادّة الحق ، عن نيةّ سليمة . وقد جاء في الانجيل أن يوحنا صادف إنساناً يخرج الشياطين باسم يسوع ، فثارت حفيظته . فقال له يسوع : " من ليس علينا، فهو لنا؛ فإنه ما من أحد يصنع آيةً باسمي ، ويقدر، بعدئذ، أن يقول فيّ سوءًا" (مرقس 9 : 38-4. ؛ لوقا 9 : 49-5.) . فلتبحث الكنيسة، إذن عّما يجمع ، وليس عمّا يفرّق
. في مثل هذ5الأحاديث - وكثير غيرها - كان يصادف التلاميذ لنفوسهم تهذيباً، ولمهمّتهم العتيدة تأهّباً ، ولعزائمهم قوّةً ، تؤهّلهم ، في الأجَل المسمىّ، لمواصلة العمل الذي بدأه المسيح ، ولإشاعة تعاليمه إلى أبعد نطاق . " إنكم ملح الأرض ! " (لوقا 6 1 : 34- ه 3 ؛ مرقس 9 :49 ؛ متى5: 13 ) . عبارة شهيرة، ردّدها المسيح على مسامع تلاميذه، وقد باتت تنطبق على أحوالهم أكثر من انطباقها على جمهور " خطبة الجبل " . والواقع أنه ليس من خطر أنكى على الكنيسة، من أن تتحيفّها التفاهة في جزء من أجزائها : والأزمات الضخمة التي كابدتها المسيحية، عبر الأجيال ، باعِثهُا الدفين إنما هو تنكـرّ المسيحيين لشرعتهم الأصلية
. كان صيف سنة 29، في حياة المسيح ، فترة أسفار خارج الجليل .ففي حزيران ، وَفَوْرَ إيابه من أورشليم ، حيث كان قد أبرأ المخلع ، انطلق يسوع إلى فينيقية، حيث أعتق ابنة الكنعانية من الشيطان ، ثم بعد أن اجتاز، ولا شك ، بقرب صيدون الزاهية في وسط حدائقها، عَبر الأردن عند جسر" بنات يعقوب "، ليقيم بضعة عشر يوماً، في بعض مدن الذيكابوليس ؛ وفي تلك الفترة تمّت معجزة شفاء الأ صم الأبكم ؛ ثم ، عند شاطىء البحيرة، كانت " معجزة الخبز " الثانية . وإذ اشتدّ القيظ ، شخص يسوع س صوب الشمال ، إلى تلك المنطقة من المشارف المدغلة الرائعة، التي باتت كالمدارج عند سفوح حرمون
. وكان قد أوفى هناك ، عند حدود فلسطين ، على بقعة كان يتعذر فيها على كل يهودي ، سواء أكان من أورشليم أم حتى من الناصرة، أن يؤانس فيها ما ألفه من ملامح وطنه . . . كان يقُال ، عند العبرانيين ، في سالف الأزمان ، للدلالة على طرفي أرض الميعاد، شمالاً وجنـوباً : " من دان إلى بئر سبع " . فهناك كانت مدينة " دان " ؛ وكان اسمها " لائيش " في عهد "الأجداد "، فتبدّل اسمها، من يوم استقرّت قبيلة " دان " في ربوعها . فإذا ما اجتاز المسافر رمضاء السهول المحرقة، وشارف تلك المرابع الخصبة من سلسلة لبنان الشرقية، توهّم نفسه في جنة من جنان الفردوس . فالنسيم فيها بارد ينحدر من الثلوج الناصعة، المًستقرّة فوق أعطاف حرمون ؛ والمياه كثيرة، فيّاضة، تتدافع تحت الآجام ، من صخر إلى صـخر ؛ وأشجار الحور واللوز والصفصاف والتين والبطم تختلط في تعانق طريف ؛ وفوق ذلك كله يحوم ، من الدفلى ، شذا أريج لذيذ
. من البديهي إذن أن يكون الإغريق قد أخذوا بروعة تلك المشاهد، فأوجسوا ، من خلال حفيف الأشجار، وزغردة السيول ، الصرخة الأبدية، المنطلقة من أعماق النشوة الوثنية : " حي ، بان الأكبر "
. هناك ، بقرب الفالق السحيق ، من حيث تخرج إحدى عيون الأردن ، تشُاهد ، حتى اليوم ، كُهُوف قد اُ تخذت معابد لإله تلك النباتات المتجددة أبدا . . . وقد أطلق على تلك البقعة ، .منذ عهـد البلاطسة، اسم بانياس . وقد شيّد هيرودس الكبير، فوق نتأة ضيقة، شرفة على الينابيع ، هيكلاً لأوغسطس ، من مرمر أبيض ، لا تزال آثاره حتى اليـوم . وأمّا ابنه فيلبس ، سيد تلك البقعة، فكًان قد فرغ ، منذ قليل ، من بناء مدينة أطلق عليها - تملّقاً- اسم قيصرية . وكان فيلبس يؤثر الإقامة فيها
. " وخرج يسوع وتلاميذه إلى قرى قيصرية فيلبس " (مرقس 8 : 27). ولنلاحظ -على سبيل الإشارة- دقّة الأداء : فلقد حايدوا قيصرية، لما عاث فيها من مفاسد الوثنية . وإننا لنجد، في مثل هذه التفاصيل ، ما يوثق شهادة الانجيل . هناك ، فوق أحد تلك المشارف ، من حيث ينبسط النظر فسيحاً على حرمون الأبيض ؛ أو عند ضفة من تلاث الضفاف التي يهًش لها الأردن – وهو في أول طلعته – مداعبة رمالها الناعمة تحت وطء القدم العارية ؛ هناك انعقد مشهد حاسم تقرّر فيه نهائياً، لكنيسة الغـد ، بدأ النظام التسلسلي ، الذي كان المسيح قد وضع ركائزه الأولى
. فإذ كان يسوع ، يوماً، في حديث مع تلاميذه ، سألهم قائلاً : " من يا تُرى ابن البشر في نظر الناس؟". قالوا : " بعضهم يقولون : إنه يوحنا المعمدان . وغيرهم : إنه إيليا . وغيرهم : إنه إرميا، أو واحد من الأنبياء " . فقال لهم : " وفي نظركم أنتم ، من أنا؟" ، فأجاب سمعان بطرس وقال : " أنت المسيح ، ابن الله الحيّ ! "؛ أجاب يسوع ، وقال له : " طوبى لك ، يا سمعان ؛ فإنه ليس اللـحم والدم [ اللحم والدم في لغة الكتاب المقدس ، كناية إلى الإنسان من حيث هو كائن ضعيف ، متهافت .] أعلنا لك هذا ، بل أبي الذي في السماوات . وأنا أقول لك : أنت صخر ، وعلى هـذ5 الصخرة سأبني كنيستي ، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها . وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات . فكل ما تربطه على الأرض ، يكون مربوطة في السماوات ، وما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات " . ثم أوصى تلاميذه بأن لا يقولوا لأحد إنه المسيح . (متى 16 : 13-2. ؛ لوقا 9 : 18-22 ؛ مرقس 8 : 27 - 3. )
. تتضمن هذه الرواية الانجيلية عنصرين أساسين : أولهما اعتراف بطرس ، باسم الاثني عشر، بألوهية المسيح . أجل لم تكن هذه أوّل مرّة تثبت فيها للتلاميذ هويةّ معلههم . فلقد " سجدوا " له ، مثلاً، بعد معجزة العاصفة، معترفين بأنه " ابن الله ". (متى 14 : 33) إلاّ أن هذا الإقرار الرسمي قد اكتسى، في هذه اللـحظة، خطورة فريدة . فالمسيح كان قد صادف مقاومة وصَداء ؛ وبعض الجـمهور، عن مللَ ، كان قد أمسك عن اتّباعه ، غيرَ حافل بالمعجزات . وأمّا الرسل ، فهاهم ثابتون على إيمانهم ، لا يشكّـون فيه ولا يمارون . ولا بدع ، فقد كان عليهم أن يحملوا الى العالم بشرى الماسوية . ولكن ليس على الفور، ولا في هذا البلد الذي طغت فيه الوثنية، وباتت فيه النفوس مضعضعة . . . هذا، وكانوا هم أنفسهم بحاجة إلى أن يستوعبوا فهم تلك الماسوية، قبل أن يبثوها في الناس. ولذا فقد تقدّم !ليهم يسوع بالتزام الصمت ، بل راح ، بعد فترة يسيرة، يخبرهم باستشهاده ! .
. وإنما يبقى أنهم وحدهم حملة تلك الرسالة " وأعوانها " . . . وأما العنصر الآخر، من مؤدّيات هذا النص ، فلا يقلّ أهمية عن الأول : وهو انتداب بطرس زعيماً على التلاميذ، وذلك في أسلوب بليغ جدّ آَ . فالاستعارة التي كان المسيح قد عمد الى استعمالها (يوم استبدل اسم " سمعان " بلفظة " كيفا " ، عند لقائهما الأول ) باتت ، هذه المرّة، واضحة مبيّأ . . ، لا نعلم هل كانت لفظة " كيفا " - قبل أن يعمد إليها المسيح - من الأعلام المتداولة في العبرية
: من النُقّاد " المتحررين " من شكّـوا في صـحّـة هذه الايات ، مستندين ، في ذلك ، إلى أنها لم تدرج إلاّ في إنجيل متى ؛ وذهبوا إلى أنها قد دُسّتْ في النص ، على يد النَقلَة ، في العهد الذي أمست فيه الكنيسة واقعاً تاريخياً وباتت بحاجة إلى تدعيم السلطة البابوية، بالأدلة الكتابية . الاّ أنّ هذا التزييف ليس له أثر، ولا في واحدة من النسخ القديمة التي نملكـها من انجيل متى ؛ لا بل اننا نجد تلك الآيات في جميع المخطوطات ، وفي أقدم القراءات . . . هذا، وقد اجتمعت آراء جميع الإخصائيين -مع -الأب لاغرانج - على أنه ليس في الأناجيل الأربعة ما هو أشد رسوخاً في الآرامية، من هذا النص ، من حيث تعابيره ، واستعاراته ، وتراكيبه . . . فنحن نجد فيه ، فضلاً عن استعمال الجناس (في لفظتي صخر وصخرة)، عدّة تعابير ثابتة الانتساب إلىَ التقاليد اليهودية . فلفظة " الأبواب " ، مثلاً ، كان قد عمّ استعمالها، منذ الجيل الرابع قبل المسيح ، للدلالة على " قوى الجحيم " . وامّا الإشارة إلى " المفاتيح " ، فهي أرسخ في السامية . ويشاهد، حى اليوم ، عند العرب ، من الملاّكين ، من يحمل رزمة من المفاتيح الضخمة فوق منكبيه ، تباهياً . وقد ورد في أشعيا ( 22 : 22 )، عن رئيس خدّام الملك ، أنه يحمل مفتاح بيت داود على كتفه ، وأنه " يفتح فلا يغلق أحدٌ ، ويغلق فلا يفتح أحد " . وأمّا " الحلّ " و " الربط " - بالمعنى الذي رمى إليه المسيح - فقد كان استعمالها شائعاً، عند علماء الناموس ؛ ويعرف عن رابي نكنيا - وقد جاء ثلاثين عاماً بعد المسيح - أنه كان يختم تعليمه ، بقوله إلى اللّه ، مبتهلاً
. " لا تحلّ ما أربطه ، ولا ترْبط ما أحله ! ولا تنجّس ، اللهم ، ما أطهّـره ولا تُطهّر ما أْنجّسه ! "
. لا يسعنا إذن أن نتخذ " صمت " الإنجيلييَن المؤتلفين الآخرَين ، حجةً على بطلان تلك الايات الخطيرة . ولئن تحتم إلغاء جميع النصوص التي يتفرّد بها إنجيليّ دون الآخرين ، لذهب كثيرٌ من أروع ما أثر عن المسيح . ولا شك أن الهوى والتحيّـز لهُما، في هذه القضية، شأن كَبير ! فليس هناك أسباب أدعى إلى الشك في صحة هذا النص منها في صحة الإنجيل كله
: لقد برز بطرس ، من بين سائر الرسل ، فآثره المعلّم بشرف تأييده في ما صرحّ به من أن يسوع هو " المسيّا"، وبشّره بأنه سوف يولىّ زعامة التلاميذ، باكورة الأسرة المسيحية . ولقد استحق أولئك المؤمنون من بين المؤمنين ، الذين لازموا المسيح ، يوم فارقه ضعاف الإيمان ، في إثر كلامه عن " خبز الحياة "، أن ينفذوا إلى معرفة أعماق السرّ الماسوي . . . " ومنذئذ شرِع يسوع يبين لتلاميذه أنه ينبغي له أن يمضي إلى أورشليم ويتعذب كًثبراَ من قبل الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وأن يقُتل ويقوم في اليوم الثالث " (متى 16 : 21 - 22 ؛ مرقس 8 : 31-33 ؛ لوقا 9 : 22) . وكان ذلك أوّل إنباء بالآلام ، وأوّل تحذير حاسم للرسل ، ألاّ ينظروا إلى " الماسويةّ " نظرة الرعاع من اليهود، وألاّ يتوسّموا فيها بشرى استعادة الملك الزمني ، وأمجاده العابرة . فأن تكون تلك الأقوال قد بعثت في قلوب أولئك البسطاء رُعباً وقلقاً فذلك واقعٌ لم يستره الإنجيل : فإن بطرس ، ساعتها، اجترأ على معلّمه بالاحتجاج ، فاجتذبه إليه وطفق يزجره بقوله : " معاذ الله ، يا رب ، لا، لن يكون ذلك البتة ! "، وكانت عاقبة ذاك الاحتجاج جواباً صاعقاً
. " إذهب خلفي ، يا شيطان ! " . لقد أنبأ يسوع إذن بالفاجعة، ولسوف ينبىء بها مراراَ؛ بيد أن ذلك لن يعصم الرسل ، يوم وقوعها، من أن تدهم نفوسهم دواهم الذهول والذعر واليأس
ولكن ألمْ يكن المسيح ، ساعة أنبأ بموته البشري ، قد صرّح بأن الموت لن يكون سوى مرحلة عابرة، يعقبها فجر الانتصار؟ . . " ولسوف يأتي ابن البشر في مجد أبيه مع ملائكته ، وعندئذ يجازي كل أحد بحسب أعماله " (متى 16 : 27 ؛ لوقا 9 : 26 ؛ مرقس 8 : 38). بل أوَ لم يكن قد صوّر لهم تصويراً دقيقأ، في كشفٍ إلهي ، ما سيكون ذاك الرجوع ؟
. لقد كان ذلك حوالي ثمانية أيام ، بعد اعتراف بطرس بألوهية يسوع ، أي ستة أيام كاملة، بحسب توقيت اليهود . فقد أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه إلى جبل عال ، على حدة . وفيما هو يصلي تغيرّ منظر وجهه ، وصارت ثيابه بيضاء ساطعةً، حتى لا يستطيع قصّار على الأرض أن يبيّض مثلها . وإذا برجلين – موسى وايليا- يخاطبانه . وكانا يتحدّثان عن موته الذي سيقاسيه في أورشليم . وكان بطرس ورفيقاه قد ثقلت عليهما وطأة النعاس . وإذ لبثوا ، مع ذلك ، مستيقظين ، شاهدوا مجده ، والرجلين القائمين معه . إذ ذاك صاح بطرس قائلاً – وهو يكاد لا يعي ما يقول : " يا معلّم ، إنه لحسن أن نكون ههنا، فنصنع ثلاث مظال ، واحدة لك ، وواحدة لموسى ، وواحدة لإيليّا " . وفيما هو يتكلّم أقبلت غمامة، وظلّلت الجميع . فاستحوذ الذعر على التلاميذ، وانطلق من الغمامة صوت يقول : " هذا هو ابني الحبيب ، فله اسمعوا ! " . وللحال نظروا إلى ما حولهم ، فلم يبصروا بعد أحدأ معهم سوى يسوع وحده . وفيما هم نازلون من الجبل ، أوصاهم ألاّ يخبروا أحداً بما رأوا، إلاّ متى قام ابن البشر من الأموات . فحفظوا الوصية متسائلين في ما بينهم : "ما معنى : متى قام من بين الأموات ؟ " (متى 17 : 1 – 8 ؛ مرقس 9 : 2 - 8 ؛ لوقا 9 : 28-36)
. مشهد تجلّله روعة من رؤى الغيب . وكل الفنانين الذين حاولوا استيحاءه ، عبر العصور، وتمثيلَه في شتىّ أشكال الأداء، قد أبرزوا هلع أولئك الرجال الثلاثة الذين تكشّف لهم مجد الله . ولم يكن لأيّ واحد من " تجلّيات " الله ، في العهد القديم ، -وحتى في طور سيناء- مثل هًذا السناء المتألّق ، وهذه السكينة العجيبة . وقد أتى وصف المشهد، الى ذلك ، غايةٌ فيَ الصدق والنزاهة : فنحن نراهم -أولئك الثلاثة- وقد أثقل النعاس جفونهم ، بعد صعودهم الطويل الجاهد في الجبل ، وباتوا يفركون عيونهم متسائلين : أفي يقظة هم أم فيَ منام ؟ ونفهم حق الفهم ذاك الرجل الطيّب -بطرس -، وقد استطير لبهّ من الدهش والغبطة، فهبّ يـعُرب عن مشاعره بما ذكرناه من أقوال مؤثرة، قد لا تخلو من بعض السذاجة
! وأمّا مغزى تلك الرؤيا فهو غايةٌ في الوضوح : فقد كان الرسل ، حتى ذاك ، قد آمنوا بالمسيح لأنهم سمعوا كلامه ، وعاينوا آياته ؛ ولكنهم ما كانوا بعد قد شاهدوه " وجها إلى وجه " ، كا شاهد الله موسى في طور سيناء. وقد ورد في " أعمال يوحنا " – وهو من الكتب المنحولة- " حديث " عن المسيح ، أنه قال : " لم أكن أبدو ما كنتهُ ، ولست ما أبدوه ! ". أجل ، لقد كان سرّ المسيح مطويّأ عن الناس
. لقد تجلىّ يسوع أمام أولئك الئلاثة وحدهم (1). وأمّا في سائر أحوال حياته ، فكان انساناً كالناس . وما قيل عن المسيح ، في كتاب منحول آخر، من أن نور الله كان يغشاه ، أثناء رقاده ، فهو، ولا شك ، زعم باطل ! هناك ، على قمة الجبل ، تجلى المسيح ! أو قل ، بتعبير أصح ، إنه " تحوّل "؛ وهي اللفظة الواردة في النص اليوناني ؛ وقد عمد إليها الرسول بولس ، في رسالته الثانية إلى الكورنثيين ، للتعبير عن سنى أولئك الذين سوف " يتحوّلون إلى صورة المسيح بعينها، ويعكسون ، فيَ وجوه سافرة، مجد الربّ ! " (2 كو 3 : 18 ) . ولسوف يستشهد الرسل - وبطرس في طليعتهم - بتلك الرؤيا، ويبرزونها حجةً دامغة، وركيزة من ركائز إيمانهم . ولقد عرف التاريخ ظاهرات من هذا النوع قد تركت في أصـحابها مثل هذا الأثر الحاسم : من ذلك رؤيا بولس ، على طريق الشام ا
. وحادثة " التجليّ " ، بموقعها المقصود، في أعقاب نبوءة المسيح الأولى بآلامه ، وبما جاء فيها من إشارة واضحة إلى تلك الآلام ، قد قذفت في نفوس الرسل يقيناً سوف تنكشف لهم معالمه ، جليّة، في مستقبل الأيام . لقد تساءلوا فيما بينهم : " ما معنى قوله : عندما أقوم من بين الأموات ؟ " أجل ، سوف يفهمون ! . . قال البابا لاون الكبير – وهو من أقطاب اللاهوت ، في القرن الخامس – " إن المسيح ، بتجلّيه إنما أراد أن يستأصل – سلفاً – من نفوس الرسل ، " عثرة الصليب " . ألعلهم ذكروا تلك الصبيحة المشرقة، أولئك الرسل الثلاثة، ليلة كانوا في بستان الزيتون ، وقد رزح النعاس بأجفافهم ، ففاتهم شهود ذاك السرّ الآخر، وذاك الحوار القائم بين يسوع والقدرة الإلهية . أمّا الموضع الذي جرت فيه حادثة التجليّ ، ففيه جدال . فهناك جبلان يتنازعان حقّ التشرّف بها ؛ وقد ورد اسمهما في المزمور القائل : " ثابور وحرمون باسمك يتهلّلان " (مز 89 : 13 ) . فهناك تقليد قديم جداً يرقى، ولا شك ، الى القرن الرابع ، ويشير إلى ثابور، تلك الهضبة المكوّرة الجرداء التي تنتصب ، وحيدة، وسط الجليل ، وتقوم فوقها اليوم الكنيسة الجميلة التي شادها الفرنسيسكان تذكاراً للتجليّ . وإنما يعترض على ثابور أن ارتفاعه لا يتجاوز 562 متراً، وأنه ، من ثم ، لا يتناسب وتلك العظمة الشامخة التي يوحي بها جبل التجليّ في الإنجيل . أجل ، إن المشهد ينبسط ، رائعا، أمام عين الناظر من قمته : فهناك التلالُ المتجعّدة، ووادي الأردن ببطاحه الفسيحة، وجبالُ جلعاد شرقاً، ولألاء المتوسّـط غرباً. وأمّا قمة الجبل فهي ناصية ضيقة وعرةٌ ، تغشاها أشـجار العرعر وتكدّها الرياح كدّاَ متواصلاَ . أجل ، إنها قد تتلاءم وروعة ذاك المشهد الغيبي ؛ وإنما يبقى أن حامية رومانية كانت ، في عهد المسيح ، ترابط في قلعة قائمة هناك ؛ ويبقى أيضا أن تلك القبّعة الجاثمة بين السنابل - وحسبنا نظرةٌ إلى إحدى صورها - لا يمكن أن توازى بسيناء موسى، فتفترض موقعاً لتلك الرؤيا الخارقة . . . ولذا فقد توجّهت الأفكار، مراراً ، الى حرمون ، وهو قريب من قيصرية فيلبس ، حيث عرّج يسوع فترة قُبَيلْ التجلي ... حرمون ، بكر الجبال - على حد ما جاء في آية ربينية - يبلغ إرتفاعه 28.. متراً، ومنه يمتد النظر الى أبعد وأفسح ، إلى صحراء سورية، والشواطىء الفينيقية، بل إلى أرض الميعاد بأسرها، ويتاح لمتأمل في مشاهده ، أن يجمع في نظرة واحدة، وطن اليهود وبقاع الأمم الوثنية. . . يصُعد اليوم إلى ناصية الحرمون الأكبر، في ست ساعات ، وينُحدر منه في أربع ؛ والواقع أن يسوع وأصدقاءه الثلاثة لم يعودوا منه إلاّ في اليوم التالي ، وفيَ ذلك إيماء الى طول الرحلة . ومهما يكن من أمرٍ ، فالإنجيليون لم يُعنوَا بهذه المشكلة الزهيدة . فالحدث الجوهري يبقى هو هو، سواء أجرى في ثابور أم في حرمون . ويبقى أن العقل يذهل حائراَ، إذا تأمّل صورة ابن الإنسان ، وقد تألّق فيها مجده الإلهي ، في سنى صبيحة من صبائح آب
. وأمّا تتمة الأحداث التي واكبت عودة يسوع إلى السهل فتبدو مغمورة بذاك الضياء السني . فشفاء الغلام " المصروع " الذي كانت قد أخفقت فيه قدرة الرسل ( لوقا 9 : 37-43 ؛ مرقص 9 : 14 – 29 ؛ متى 17 : 14 – 21 ) ؛ وذاك الدرس الرائع الذي أتخف به أصدقائه، ساعة احتضن طفلاً وقال : " إن لم ترجعوا فتصيروا كالأولاد، فلن تدخلوا ملكوت السماوات " (متى 18 : 3- 4 ) ؛ وسائر التعاليم التي والى إلقاءها فيَ ضرورة المحبّة الكاملة، كل ذلك ، على خطورته ، بدا - ! نظر التلاميذ – أخفّ سيطرة على العقلٍ من ذاك الكشف المزدوج الذي أوثروا به ، والذي باتت قلوبهم مضعضعة من جرّائه . فهم يستفسرون المعلّم عما جرى أمامهم ، ويستوضحونه الغرض ، من وجود إيليّا في تلك الرؤيا، ذاك الذي كانت رجعته ، في نظر اليهود ، علامة من علامات الأزمنة الماسوية ؛ فيجيبهم ، -مستعيناً بالتشبيه – أن إيليّا قد جاء فيَ شخص المعمدان ، كما ورد في النبوءات ؛ وأنه كما تعذّب المعمدان ، لا بدّ للمسيح أيضاً من أن يتألم ويموت . (مرقس 9 : 1. -13 ؛ متى 17 : 9 - 13 ) . أفدائماً ذاك النبأ المروّع ، وذاك الخطر المتوعّد؟ . . وما باله يردّ د على مسامعهم ، بعد ذاك الوعد المنظور بالملُك السنيّ ، نبأ العذاب والاستشهاد ؟ وما باله ، للمرّة الثانية، قبل أن يغادر الجليل ، يكرّر لهم تلك النبوءة المشؤومة : أن الزمان قد اقترب ، وأنه لا بدّ من الشخوص إلى اليهودية، والصعود إلى المدينة التي سوف تكون مذبح ضحيتّه ! ولقد ظلّ هؤلاء الرجال - طلائع المسيحين - على التنكّـر لتلك الحقيقة الحاسمة، إلى يوم وقعت الكارثة، وأنجز الطاغي جريمته ، فاتضح لهم ما كان قد استغلق على أفهامهم ، من كلام المسيح ؛ ووُلدت الكنيسة، آن ذاك ، من دم المسيح
. كان يقول لهم : " إن ابن البشر سيُسلم إلى أيدي الناس ، فيقتلونه ، وفي اليوم الثالث يقوم " . غير أنهم لم يفهموا هذا الكلام ، بل لبث مستغلقاً عليهم ، ولم يدركوه ! وهابوا أن يسألوه قي هذا الشأن " ( مرقس 9 : 3. ؛ متى 17: 21-22 ؛ لوقا 9 : 44-45)
. (1) يحتل بطرس ويعقوب ويوحنا ، الرتبة الأولى . ولقد قارن الأب دانييلو وضعهم بوضع مجلس الجماعة الأسينية ، وكان مؤلفاً من 12 شخصاً ، وثلاثة كهنة ، وربما كان هؤلاء الثلاثة من جملة الأثني عشر