ابن الإنسان وابن الله

رسم يسُـوع

آن لنا، ولا شك أن نُقدم على رسم صورة منسّقة لذاك الذي ما تمّ لنا استكشاف شخصيته ، حتى الآن ، إلا من خلال شهادة أعماله . والحقيقة أن ما هنالك من تجاوب كامل ما بين تعليم يسوع وحياته وخُلُقه ، يمهّد لنا التعرّف به من غير ما تعنّت في التحديد. وإننا لنجد في أي صفحة من الإنجيل ما يكشف عن شخصيّته كشفاً وافياً . ذاك الوصف الواقعي الذي يتعملّ في إصابته أمهرُ الروائيين ، نلمسه في رواية الإنجيل ، وقد وُفّق إليه أولئك الكتبة الأميوّن ، قي يسر خارق . فيسوع ، في الإنجيل ، حي بأكمل ما تكون الحياة، نشعر بحضوره شعوراً راغماً في أصغر الأحداث التي نظهر فيها صورته . وإذا رجعنا، بالفكر، إلىَ الطريقة التي اتّبعتْ في وضع الأناجيل ، وما اسُتعمل ، لتصنيفها، من تقاليد مختلفة، بضعَ عشرات من السنين ، بعد موت المسَيح ، ازداد منّا العجب لما بات لتلك الصورة من قوّة الأداء، وصمود الملامح ، على ما هنالك من تعدّ د في الروايات . فكان لا بدّ إذن أن يكون النموذج من بعُد الوقع في نفوس كتبة الإنجيل –على شدة اختلافهم – بحيث جاءت الصورة على جانبٍ خارقٍ من البلاغة و التماسك .ومع ذلك فإذا حاولنا أن نجمع ، جنباً إلى جنب ، المؤدياّت التي يمكننا الوقوع عليها قي متن الإنجيل ، وان نحشد جميع ما يمكننا الوقوف عليه من مشاعر يسوع وأخلاقه وطباعه ، كانت نتيجة ذاك المجهود خيبة ذريعة . إن فيَ سيرة العباقرة والقدّيسين شيئا يتحدّى كل تصنيف وتحليل : وذاك الشيء إنْ هو إلاّ القداسة والعبقرية ! وأما يسوع -وهو أكثر من عبقريّ وقديس - فالسرّ الجوهري الذي تنطوي عليه شخصيته ، إنما هو سرّ الألوهية . وهكذا يتضح العجز الأساسي الذي تتردّ ى فيه الأوصاف " البسيخولوجية "، وتبطل معه الألفاظ . وإنها لتصِبحّ هنا، كلمة " فرا أنجيلكو" (1) - بكل ما تنطوي عليه من معان - حيث قال : " من رام أن يصوّر المسيح ، عليه أن يعيش مع المسيح ! " . ومفاد هذه العبارة التي نطق بها واحد من الفنانين العظام ، أن من يطمح إلى تصوير الكمال بالذات لا بدّ أن يشعر بعجزه ، فتفلت الريشة من يده . وإنما هناك عجز آخر : وهو أن الوسائل المعهودة عند أهل الفن والأدب ، تمسي ، في وصف المسيح ، فاشلة . فإذا بلغ الإنسان منه حدود التحليل ، وجد نفسه أمام حُجبَ من السرّ ، لا ينفع فيها العقل واللسان ، بل الصمت والعبادة .ً

. " إله حقيقي ، وإنسان حقيقي معاً " : عبارةُ تثب! ما تنطوي عليه تلك المهمةّ من وعورة تفوق قوى الإنسان . فيسوع - من حيثْ هو إنسان كباقي الناس - يخضع لأنماط البحث النفساني . ولكن ما إن نعمد إلى إثبات ملمح من ملامح وجهه الإنساني حتى تداهمنا ضرورة التنبهّ للاتصالات السامية التي تربطه بالناحية الأخرى من كيانه ، تلك الناحية التي بها تتفسّر كل ميزّة من ميزّات إنسانية المسيح ،والتي تبقى فوق مستوى الإدراك . وحسبنا، تفاديا من المز الق ، أن نعمد إلى لقب " ابن الإنسان"، فنجد فيه - من جهة - إشارة إلى رجل مثلنا، مولود من امرأة، مجبول من طينتنا ؛ وتعبيراً – من جهة أخرى- عن حقيقة سامية يخشع فيها سرّ ماسويّة الإله الحي . . . لقد حجب التلاميذ الثلاثة وجوههم ، عند تجليّ المسيح ، وقد صعقهم الذهول ، فهابوا أن يتوسّموا ، في ذاك الكائن السني ، وجه صديقهم وأليفهم . .. فهكذا كل من يحاول وصف المسيح يلقي نفسه – مع حفظ الفوارق – في شبه ذاك الوضع : يلتمس إنسانا، وإذا به يصادف ، خلال الإنسان ، إلهاً متأنساً يخطف البصر سناه

. فليس لنا إذن أي حيلة في وصف المسيح وصفة كاملاً وافياً ؛ فإن هناك ناحية جوهرية من كيانه ، تبقى لهّا فوق متناول الإدراك . ولسوف نحاول أن نثبت ملامحه الإنسانية، ونجتزئ، بعد ذلك ، بالوقوف على ما كان يجول في وجدانه الإنساني ، من آرائه الشخصية في ألوهيته . وإنها لمحاولة شبه يائسة أن نعمل على استكشاف العلاقات القائمة، في ذاته ، بين ألوهيّته وبشريته . وكل ما هنالك إشارات نادرة، وملاحظات مبهمة، ليس من شأنها أن تقودنا بعيداً في ذاك المسلك المدلهمّ . ولو كان بإمكان البشر أن يوغلوا فيه ، لبطَلُ سرّ التجسّد، وتجلىّ لنا الثالوث

. وينضاف إلى هذه العقبات التي يتعذّر التمكن من بعضها، معضلة أخرى : وهي أن الإنجيل ليس كتابا تاريخياً بالمعنى العلمي ، كما أنه ليس مصنّفا من مصنفات " علم النفس " . فإن متى ومرقس و لوقا ويوحنا ما كانوا ليتوخّوا ممّا كتبوه عن المسيح ، وصفا تصويريّا : بل كان غرضهم أن يرسوا ركائز الإيمان في نفوس مستمعيهم ، ويدعموا الشهادة التي راحوا ينادون بها . هذا، وما كانوا، لعمري ، رجال منطق ولا أقطاب لاهوت .وكما أنهم لم يُعنوا أيّ عنايةٍ بمقتضيات التوهيم والتصنيع الفنيّ ، كذلك أهملوا تنسيق العناصر التصويرية، ولم يكترثوا لجمع معالم تلك الشخصية، ولا لإلغاء متنا قضاتها وعُقدها . والغريب أنهم ، بذلك كله ، قد أفرغوا فيها صفة الحياة . لقد توفقوا، بصورة عفوية، إلى اكتشاف الأساليب التي يعمد إليها كل روائيّ صَناع ! فالروائي ، يستغلّ الصمت كما يستغل الكلام ؛ وفي وسط تحليلاته نراه يختم مناطق السرّ، تاركاً للقارئ أن يلُمّ بما يخشع فيها من اختبارات حاسمة . أجل ، لم يكن الإنجيليون من طبقة الكتبة الماهرين ؛ ومع ذلك فإنه يخيّل إلينا أنهم عمدـوا إلى تلك " الأسرار " المهنية، وعرفوا كيفُ تحترم مواضع الصمت . ولا شك أن الإسراف في الإيضاح والتنسيق لا يؤدّي إلاّ إلى مسخ تلك الصورة الرائعة المحفوظة في الإنجيل ، تمثالاً هزيلاً كمثل تلك التماثيل التي تشوّه كثيراً من معابدنا . فلئن كان الإنسان العادي ، تتجاوَرُ في وجوده مناطق الحضور النيرّ ومجاهل السرّ ، في تلاصق صميم ، فكم ينبغي أن يكون الأمر كذلك في حياة المسيح ، حيث تشابُكُ الظلال والأضواء، إنما هو انعكاس سرّ وجود الخالق والمخلوق في كائن واحد

ملامح يسوع

. وقبل كل شيء ، نودّ لو نعرف وجهه ! فهل بالإمكان أن نتمثّل ملامح ذاك الإنسان الذي يغير في وجداننا عالماً من المشاعر، فنفرغ عليها من الودّ ما نفرغه على ملامح كائن أليف ؟ . . إننا لا نجد في الإنجيل أي إشارة إلى أوصاف المسيح . ولقد حاول البعض الاستناد إلى أحد نصوص إنجيل لوقا (19: 1– 4 )، حيث الكلام عن زكّا، عشاّر أريحا . فقد ورد عن هذا الرجل أنه " كان يطلب أن يرى من هو يسوع ، ولم يستطع بسبب الجمع ، لأنه كان قصير القامة " . بيد أنه من الشطط والتمحّل في التفسير أن ننسب قصر القامة إلى يسوع ؛ فالموصوف بالقصر، إنما هو زكّـا، بلا مراء؛ وقد راح ، من بعد ذلك ، يتسلقّ جميزّة لكـي يرى يسوع . وأمّا أن نتبينّ جمال المسيح وجلال قوامه من بعض آيات أخرى، كتلك التي ورد فيها خبر المجدلية، يوم عرفته من بين المدعوّين ، فأقبلت تفيض الطيب! على قدميه ، أو خبر المرأة التي ميّزته من الجمع ، فرفعت صوتها بالثناء والتبجيل (لوقا 21 : 27)، فذلك أيضاً من قبيل التعنّـت في التفسير

. من الثابت إذن أننا لا نملك عن المسيح صورة من صنع الناس ، فيها قدرٌ ، ولو زهيد، من معالم الصحّة . ومع ذلك فقد شاع منها، عبر التاريخ ، عدد كبير ! . . فهنالك مثلاً ، ذاك الحـجر الكريم – وهو من التحف القديمة – الذي حُمل من القسطنطينية إلى روما، في عهد النهضة، والذي ترك أثراً في كثير من رسوم المسيح الجانبية . . . وإننا لنجد قرابة - تكاد تكون شبهاً - بين هذا النموذج ولوحة منسوبة إلى جان فان إيك ، ثم بينه وبين نوط منحوت ، من القرن السادس عشر، هو اليوم في بواتييه

. وهناك تقاليد شبه أسطورية قد اعتقدت بوجود صور منسوبة إلى مصادر إعجازية . من ذلك ، أن الرسل ، أن بعد صعود المسيح ، رغبوا إلى البشير لوقا -وكان رساّماً- أن يضع لهم صورة تخلّد وجه المسيح . وقضى لوقا ثلاثة أيام في الصوم والصلاة، تأهباً لعمله . وإذ همّ فيه ، ظهر وجهه القدوس، على اللوحة البيضاء، بطريقة معجزة . ومن ذلك أيضاً أن المرأة التي أبرأها يسوع من نزف دمها، راحت تلتمس من يرسم لها ملامح ذاك الذي أنقذها . وكان الفرق كل مرّة، بين الرسم والنموذج ، بحيث أوشكت أن تفقد الأمل . إذ ذاك رثى لها المسيح ، رجاء يلتمس عندها طعاماً ؛ ومسح وجهه بمنديل فرسخت عليه قسماته . وليس من يجهل قصّة فيرونيكا – وهي ، في نظر بعض التقاليد، ذات المرأة النازفة- تلك التي رافقت المسيح فيَ طريقه الوجيع إلى الجلجلة، ومسحت وجهه المتصبّب عرقاً ودما بمنديل ارتسمت عليه صورته الخالدة . . . وكانُ يحفظ أيضا، في كنيسة الانتقال ، في موسكو، منديل آخر : وذلك أن الأبجر ، ملك الرها، بعد أن حاول عبثاً أن يقنع يسوع باللجوء إلى ولايته ، أنفذ إلى فلسطين فنانا، يرسم صورة ذاك الذي طارت إليه شهرته . بيد أن الفنان أخذ بروعة الإله المتجسد، فما استطاع إلى التصوير سبيلاً . إذ ذاك أدنى المسيح رداء الرسّام من وجهه ، فثبتت فيه ملامحه ، أروع من أن تجود بمثلها يد الإنسان . .

! أساطير، ولا شك ! ولكنها لا تخلو من أن تترك في القلب أثراً،وتوحي إلى العقل رمزاَ بيّناً : وهو أن المسيح لا يستودع صورته إلا قلوب الذين يحبّونه . أجل ، إنها لا تعود بشيء ، على التاريخ ، كل تلك الأقاصيص ! . . ولكنها مسيحيةّ في روحها

. ليس بالإمكان أن نكون أكثر اطمئناناً إلى أولئك الشهود الذين ادّعوا - عبر الأجيال - أن يزوّدوا الناس بمعلومات لها صلة بأوصاف المسيح الخارجية . ففي سنة 55.، قام أنطونيوس البليزنسي بحج إلى القدس ؛ وأكّد أنه شاهد فيها، من المسيح ، " أثر قدم جميلة صغيرة نحيلة "، وأنه اطِلع على لوحة رسمت فيها صورة السيد، إبّان حياته ، فبدا فيها " ذا قامة نصف ، ووجه وسيم ، وشعر مجـعّد شيئاً، ويدٍ أنيقة، وأنامل مستطيلة "

. ويروى أنً أندراوس الكريتي قد وقف ، في الجيل الثامن ، على الصورة التي رسمها لوقا الإنجيلي ؛ وقد بدا فيها المسيح " بحاجبين متصلين ، ووجه مستطيل ، ورأس مُنحْن ، وقامة متناسقة " . وأمّا إيفانيسُ - وهو راهب يوناني ، عاش بعُيد ذلك - فقد بات في وسعه أن يغُرق في الإيضاح ، فإذا قامة المسيح ستة أقدام ، وأنفه طويل ، وبشرَته " بلون الحنطة " وحاجباه أسودان ، وبشرته أصهب ، وإذا به أيضا . . . كثير الشبه بأمه ! وأما يوحنا الدمشقي - في القرن الثامن - ونيقيفورس كلسّتس - وقد كتب في القرن الرابع عشر، نقلاً عن رواية من القرن العاشر- فلا نرى لشهادتهما، في هذا الشأن ، قيمةً أوثق

. أبرز وثيقة، في هذه السلسلة، إنما هي " رسالةٌ من لنتولس "، ما عُرِف لها وجود إلاّ في القرن الرابع عشر ، حيث تمّ لها رواج عظيم . فالمزعوم " بوبليس لينتولس " (؟ ) – وهو ، في نظر نفسه ، " والي أورشليم " (؟) – قد وجّه إلى " مجلس روما وشعبها " (وهذا تعبير جمهوري لم يكن طيباريوس ليأنس إليه ) رسالة"، جاء فيها، عن ملامح يسوع ، أوصاف دقيقة . بيد أن هذه الأوصاف ، على ما فيها من مسحة شعرية، وما يتميزّ به بعضها من ملاحظة نفسية عميقة، لا تستند إلى التاريخ بوجه من الوجوه : " له وجه وقور، من نظر إليه أحبّه وهابه ، في آن واحد (وصف عميق ‍‍)؛ له شعر بلون البندق البالغ ، سبط إلى حدّ الأذنينً ، مع انعكاسات زرقاوية طفيفة، ومنسدل على الكتفين . وله بشرة زاهية، وأنف وفم لا عيب فيهما . وله لحية وافرة، بلون شعر رأسه ، قصيرة، مشعوبة عند أسفل الذقن. وقامة فارعة، منتصبة، ويدان وذراعان غاية في العجب " . وينتهي الوصف بآية من الكتاب ، هي - ولا شك ، مفتاح سرّ الرسالة ؛ إنه أبهى بني البشر ! " (مز45 : 3) ؛ ولا بدّ أن الرسالة كلهّا قد وضعت لتفسيرها والتعليق عليها

. أمّا الحقيقة فقد صرّح بها غير واحد من آباء الكنيسة : إيرناوس ، أسقف ليون ، وقد عاش في أواخر القرن الثاني ، وانتسب ، عن طريق بوليكرُبس ، إلى الفوج الأوّل من مسيحي أفسس ، وقد اكتفى بأن قال : " إن صورة المسيِح الجسدية قد خفيت عناّ ! " ، والقديس أوغسطينوس الذي صرّح مُقرّاَ : " أمّا قسمات المسيح ، فنجهلها كل الجهل ! ". فإذا ذكرنا ما كانت عليه اليهودية الحنيفة من التشدّد في تحريم صورة الإنسان ، زال العجب ، واتضح لنا تعذّر العثور على أيةّ صورة صحيحة من صور المسيح . وأمّا أن نتوقع! من أصحاب الأناجيل - وهم شهود عيان - أن يثبتوا لنا أوصاف مظهره الإنساني ، فذلك وهم وجهل بنفسيتهم وقصدهم : أو ليس من الإشارات البليغة، أن الوصف الوحيد الذي نعثر عليه في الأناجيل الأربعة، إنما هو ذاك الذي تناول المسيح - بأسلوب تلميحي مقتضب - في روعة تجليّه ؟

.. ففي مثل هذه الأوضاع ، نرى من العبث أن نعود إلى ذاك الجدل الذي اضطربت له الكنيسة، لا سيما في آجالها الأولى، لمعرفة هل كان المسيح جميلاً أم قبيحاً؟ فلقد ذهب القديس يوستينوس الشهيد إلى أنه كان " بلا منظر ولا جمال ، حقير المنظر " ، ورأى إيرناوس ( ذاك الذي أقرّ بأننا لا نعرف شيئاً عن صورة، المسيح الجسدية)، أنه كان " ضعيف البنية " ، وأوريجانيس أنه كان " قصيراً ودميما " ، وكومديانس أنه كان " شبه عبدٍ ، ذا طلعةٍ زريه ! " ، وذهبت بعض الأساطير إلى وصفه بالبرًص . . بيد أننا نجد، إلى جانب هؤلاء الآخذين بنظرية " قبح المسيح "، عددا من المفسّرين الآخرين القائلين بجماله ، منهم غوريغوريوس النيُصي ، ويوحنا الذهبي الفم ، وأمبروسيس وايرونيمس ، وكثير غيرهم .

. صراعات لا تجدي فتيلاً ! فبين المسيحيين الأقدمين وبيننا اليوم ، تباين عظيم في وجهة النظر : فالناحية التصويرية لم تكن لتستدعي اهتمامهم ، ولا بوجه من الوجوه . ولقد أعرب اكليمنضس الإسكندري عن حقيقة عميقة، حيث قال : " نحن الذين نرغب في الجمال الراهن ، لا نؤنس جمالاٌ إلاّ في المخلّص " ، ونجد فيَ " أعمال بطرس " -وهو كتاب منحول - نفس المعنى، في تعبير متناقض : " لقد كان جميلا وقبيحاً معاً ! ". . . والحقيقة أن أصحاب كلٍ من هذين المذهبين ، ما توخّـوا سوى تدعيم ما جاء في الكتاب من نبوءات ماسويةّ . فاستند البعض إلى الآية التي اعتمدها لنتولسُ المزعوم : " إنه أبهى بني البشر ؛ وقد انسكبت النعمة على شفتيه " (مز45 )، وإلى أشباهها في الأسفار القانونية وغير القانونية ، واستشهد البعض الآخر بالفصل 53 من نبوءة أشعياء، حيث الكلام عن المسيح المتألّم : " مزدرى ومخذول من الناس ، رجل أوجاع ومتمرس بالعاهات ، ومثل أولئك الذين يستر الوجه عن مرآهم مزدرى فلم نعبأ بـه "، وببعض النصوص الأخرى المقاربة، منها المزمور 22 حيث نقع على وصف ذاك الذي " ثقُبت يداه ورجلاه ، وأحْـصيت عظامه " فكان مثل " دودة الأرض ، لا كإنسان ".. . فتعارض هذين المذهبين في المسيح قد انعكس في ذاك الجدل " الجمالي "؛ إلا أننا لا نجد، في ذلك كله ، ما يقرّبنا من معرفة أوصاف المسيح

. فأنىّ لنا، إذن ، أن نرُضي ذاك الارتقاب الذي لا بدّ أنه يختلج في قرارة الكثير من قلوب المسيحيين ؟ إن الرغبة في معرفة أوصاف المسيح الجسدية لهي أعمق من أن تكون مجرّد فضول باطل . إنها، نوعاً ما، وجه من أجلّ وجوه الإكرام ، نؤدّ يه لذاك الذي - وهو إله - اتخذ صورة بشرية، ملغياً بذلك ما نهت عنه الشريعة الموسوية ، من أنُ يمثلَ الله بصورة إنسان

. بقي الفن ! وما أعمق كلام من تجرّأ وقال : " إن مسيح الفن - إذا تحقق لهذه اللفظة أسمى معانيها - إنما هو مسيح الإيمان . فهو، في نظرنا، المسيح الحقيقي ، الذي يقضي على حجب الظواهر، فينجلي شعاع من الضياء الباطن . ولا بدّ من الإقرار بأن لكلّ شعب حقهّ في التماس ما ينسجم مع كيانه ، من صور المسيح . وقد كتب البطريرك فوتيسُ ، في القرن التاسع : " إن قسمات المسيح عند الرومان تختلف عن ملامحه عند اليونان أو الهنود أو الأحباش . فكل أمّة من هذه الأمم تؤكد أن المسيح إنما تجلىّ لها في ملامحها القومية الخاصة " . فأن يرسم المسيح صينيّاً أو زنجيّـاً فذاك مماّ لا يغيظ إلاّ الذين جهلوا حقيقة الرسالة الماسوية . أجل ، لقد كان المسيح يهوديّ الأصل ؛ ومن المرجحّ أن تكون قد رسخت في وجهه – مدة حياته الأرضية- ملامح الشعب المختار . بيد أن ذاك الانتساب الذي يدـخل في نطاق السرّ المهيمن على مصير إسرائيل ، لا يستوعب رسالة المسيح كلّها . فإن معنى حياته في موته ! ولقد مات المسيح من أجل قضية سامية في شمولها، وبموته فدى البشرية كلهّا وصار منها. ومنذ تلك اللحظة، حقّ لكل إنسان أن يعرف ذاته من خلال ذات المسيح

لقد صدق الذين -منذ أقدم العصور- قالوا بالمسيح " إنسانا شبيها بالبشر " (فيلبي 2 : 7)، وأنه " لم يكن يتميزّ بشيء عن غيره " (سيلقيِسُ المقاوم للدين المسيحي )، و " أن له وجهاً كوجه جميع بني آدم " (يوحنا الدمشقي ، القرن الثامن ). وهناك نصّ ، نسُب طويلاً إلى كبريانس ، أسقف قرطاجة، في القرن الثالث ، نجد فيه الكلمة الفصل ، في بحثنا هذا : " قال يسوع : سوف ترونني في ذواتكم ، كما يرى الإنسان وجهه في مرآة " . ففي نظر التاريخ ، كما في نظر الدين ، ليست قيمة المسيح في مظهره الخارجي ، بل في ما بذله آلاف المسيحيين ، منذ ألفي سنة، في سبيل

. التشبه به . إنهم على يقين أنهم لن يشاهدوا المسيح "وجهاً إلى وجه "-على حدّ تعبير بولس الرسول - إلاّ في يوم الدين . بيـد أن الذين يرومون مشاهدته ، إذ ذاك ، كما هو، يجب أن يكونوا، منذ الآن ، قد أصبحوا " شبيهين به " (يوحنا 3: 2)

حياته البشرية

. يبدو المسيح إذن ، من خلال صفحات الإنجيل ، إنساناً كالناس ، وواحداً من أفراد ذاك الشعب البسيط ، الذي راح ينشد فيه أتباعه ، وحاذياً حذو بيئته في نمط المعيشة، وطرائق الأكل واللبس . ولا يعني ذلك أننا بحاجة -تقصّياً للصحة التاريخية- إلى أن نغـرُق في الحطّ من صورته ، ونتخيلّه –كما جاء في عبارة متطرّفة- " ابن جارية من الرعاع " . فهو، إلى الملامح التي ظهرت فيها بساطته ، قد جمع مخايل تلك العظمة التي تجلىّ للناس جلالها. وإلى جانب صورة العامل المتواضع ، يجب أن ترسخ في الذهن ، ليتم التوازن ، صورة الرجل الشافي ، والنبي ، وصانع المعجزات ؛ بل صورة ذاك الذي تجلىّ في مجده، أمام بطرس ويعقوب ويوحنا، فوق أحد المشارف

. يسوغ لنا كل السـواغ ، ومن غير أن نهبط إلى ذرائع " الترميم " الرخيص ، أن نستعين على تمثَلّ المسيح ، بما يتوفّر لنا من ملاحظة العادات والأعراف المرعيةّ اليوم في بلاد فلسطين ؛ بل علينا أن نستفيد مماّ لا يزال محفوظا، في الشرق ، قبل أن تقضي عليه ألوان الحضارة الدخيلة . .

. لم يكن الاسم الذي حمله من الأسماء النادرة : " يشوع " . وهي لفظة عبرية، معناها " الله يخلّص " أو" الله خلاص " أو " الله يعين " ؛ وهي نفس لفظة يشوع في العهد القديم . وقد أصبحت باليونانية إيسوس . وأما لفظة " الناصري " ، فهي لقب من الألقاب التي جرت العادة – لذلك العهد – في إلحاقها بالاسم ، على سبيل التعيين والتمييز [ نعرف ، مثلاً ، أن سمعان أحد تلاميذ المسيح قد لقب بالغيور ، وتوما بالتوأم ، وسمعان بكيفا ]

. أما ثيابه فما كانت لتختلف كثيراً عما يلبسه اليوم أهل الريف في فلسطين . فعلى الرأس منديل معصوب حول الجبين ، يتدلى حتى المنكبين ، ويعرف بالكوفية . وأكبر الظن أنه كان يرخي شعر رأسه ولحيته . وكان يرتدي برداء من كتان تتدلى من أطرافها – بموجب الشريعة الموسوية – أهداب زرق ( وهي التي لمستها المرأة المنزوفة ) . وكانت العادة أن يتمنطق المرء بمناطق ثلاث : الأولى لحزم الثياب ، والثانية لها جيوب لحفظ الدراهم . وأما الثالثة ، فمنطقة طولها 15 متراً ، كان يعمد إليها في الأسفار . وأما أقدامهم فكانوا ينتعلون لها نعالاً بسيطة تربط بسيور ( تلك التي قال المعمدان إنه غير أهل لأن يحلها … )

. وكان يسوع ، في تجولاته ، يتضيف هذا أو ذاك من الناس . والضيافة ، في الشرق ، عادة موروثة لا تزال حتى اليوم قائمة على نطاق واسع . واكن المضيف يجهز لضيفه ، في إحدى غرف المنزل ، أو على أحد السطوح ، فراشاً من قش ، أو رجاحة من مسد ، أو مجرد جلد أو حصيرة أو طنفسة . وكان الناس يأنسون إلى النوم في الحقول ، يستعذبون ، فيها ، طراوة الليل بعد قيظ النهار ؛ فكانوا يغيظون رؤوسهم بطرف من عباءاتهم ويسسلمون لعذوبة الرقاد ، في جنح ذاك الصمت الآهل باختلاجات الآلاف المؤلفة من النجوم ، إلى أن تتفجّر، مع الصبح ، " هتافات الرعيان بقرب المناهل " . وأمّا القوت فكان يسوع يصيب معظمه في المضافات . هذا وقد كان للمسيح وتلاميذه كيسهم المشترك (ذاك الذي كان الاسخريوطي قيّماً عليه ، بحسب ما جاء في إنجيل يوحنا 12 : 29) . وكان بعض أصدقائهم من الرجال الأثرياء، ولا سيما من النساء الموسرات " يبذلون من أموالهم في خدمته " (لوقا 8 : 3) . وعلى كلٍ فما كانوا ليبذلوا، في سبيل معيشتهم ، نفقات باهظة . فالجليليون ، من أهل الريف ، كانوا يقتصرون من الطعام على الخبز والألبان والخضار والفواكه ، ثم ، طبعاً، على الأسماك ؛ وكان الماء هو الشراب المألوف في الأوساط المكفيةّ ؛ فإذا أوْلموا عمدوا إلى الخمرة أو إلى صنف من أصناف الجعة المستخرجة من الفواكه والحبوب . وليس من المستبعد أن يكون يسوع قد اشترك -أحيانا- في بعض تلك المآدب التي ُيحبّ الشرقيون فيها البذخ ، أو في بعض الولائم المأتميّة، حيث كان يُقتصر على تناول العدس . .

. كل شيء ، في الإنجيل يوحي الشعور بتلك الحياة البسيطة التي باتت حرّة من عقالات الفاقة، ولكن ليس بفضل ثروة مقتناة، بل بفضل التجرّد والقناعة

. هناك معضلة أشد إثارة للجدل . وهي معضلة اللغات التي نطق بها المسيح . ففي أيامه ، ومن قبل قرنين تقريباً، كانت اللغة الآرامية هي اللغة الذائعة في فلسطين . والآراميون هم ذاك الفرع الشمالي من الساميين ، الذي إتخد له ، في إثر إرتحالات وهجرات غامضة التاريخ ، مقرّاً رئيسياً شمالي الهلال الخصيب ، عند سفوح جبال طورس . هناك ، في حرّان ، أقام إبراهيم فترة طويلة، بعد أن نزح عن أور الكلدانين ؛ وإلى تلك البقعة أيضا – " أرض الاباء "- رجع اسحق ويعقوب يلتمسان لهما زوجتين . وكان العبرانيون يلخّصون أقدم تقاليدهم بقولهم : " إن أبي كان آراميّا تائها " . . . (تثنية 26 :5) . إننا نعثر عليهم ، في كل منعطف من منعطفات التاريخ المقدّس ، أولئك الرحّل ، وقد باتوا ذخائر لا تنفد من اًلقبائل المتنقلة، الزاحفة زحفاً لا يعرف الملل . وقد صادف الملوك العبرانيوّن –من القرن التاسع حتى القرن السابع ( ق . م . )- في التصدّي لهم ، عناء كبيراً. وأصبح التسرّب الآرامي من بعد الأثر، في جميع أنحاء سوريا وفلسطين ، وعلاقاتُ أولئك الدائبين قي الرحل ، بسكّان ما بين النهرين ، من اتساع المدى بحيث انتشرت لغتهم انتشاراً عظيماً، في جميع البقعة الممتدة . ، بين سيناء وطورس ، ومن هناك حتى الخليج الفارسي . وقد أقرّها الإسرائيليون ، بعد الجلاء، لغة قومية متداولة . فليس من جدال في أن المسيح قد تكلّم اللغة الآرامية ؛ وقد ورد في الإنجيل ، بالآرامية، عبارات خرجت من فمه : " أباّ " (الآب ) ؛ " إفثا " (انفتح ) ؛ " لمّا شبقتي " (لماذا تركتني ) ؛ " طاليثا قومي " (أيتها الفتاة انهضي ) ؛ وهناك أيضاً ألوان بديعية يتجلىّ فيها الطابع الآرامي ، من مثل العبارة الشهيرة : " أنت كيفا ! " . وهناك أخيراَ، في كلام المسيح ، من أنماط الإيقاع ، والجرس، والتوزيع ، ما يتصل - بلا منازع - بأساليب البيان الآرامي

. ولكن ألم يكن المسيح مطّلعاً على غير هذا اللسان ؟ بلى، على الأرجح . وحسبنا عود على ما جاء في إنجيل لوقا ( 4 : 16 )، من أن المسيح " دخل المجمع ، ونشر سفر أشعيا، وقرأ فيه . . . "، ليتّضح لنا أنه كان ، ولا شك ، يتقن اللغة العبرية . وكانت العبرية قد أمست من اللغات الميتة ، من بعد أن حلّت الآرامية محلّها – نهائياً- منذ القرن الرابع ق . م . بيد أنها كانت ما برحت مستعملة في طقوس العبادة، شأنها، في ذلك ، شأن اللغة اللاتينية التي صمدت في وجه اللغات القوميّة، بفضل ما استخدـمت له من الشؤون الليترجية . وكانت العبرية هي " اللغة المقدسة " ، يلم بها كل يهودي ، أثناء دراسته في المجمع ، ويستخدمها أساساً لكل ثقافة

هناك لغة ثالثة ، كانت أيضاً على جانب عظيم من الشيوع : وهي اللغة اليونانية . فمنذ عهد الفنوحات التي قام بها الاسكندر ، واستقرار الممالك الهلينية ، باتت لغة اليونان – وكانت قد تغيرت بالنسبة إلى أفلاطون ! – في سائر الشرق ، والعالم المتوسطي ، هي لغة التفاهم الدولي ، شأنها ، في ذلك ، شأن اللغة الإنجليزية اليوم ، وشأن البابلية حوالي السنة 2...ق.م . فإلى اللغة الآرامية التي لبثت – في الشرق الأدنى – لغة الشعب ، انضافت اللغة اليونانية ، وشاع استعمالها في شئون التجارة والدبلوماسية والفكر . وكان موظفو الدولة الرومانية ، في تلك الأصقاع ، ينطقون بها . ومع أن المتشددين من علماء الناموس كانوا ينددون بها ، قائلين : " من لقن أبناءه اليونانية فهو شر ممن يطعمهم خنزيراً " ، فقد كان عسيراً أن يستغنى عنها . فهل ملك يسوع اللغة اليونانية ؟ ليس في الإنجيل ما يشير إلى ذلك إشارة ثابتة ؛ وعلى كل ، لا نجد أثراً للهينية في كلامه . إلا أننا نلاحظ ، في الاستنطاق الذي قام به بيلاطس ن ما يبعث على الشعور بأن الحوار ، بين المسيح والوالي ، إنما جري من غير ترجمان ، بين رجلين يفهم أحدهما لغة الآخر فهماً محكماً . ولكن ذلك مجرد إشارة …

. ومن ثم فليس هناك ما يسوغ القول بأن يسوع كان من " أهل الثقافة " ، بما لهذه اللفظة من مفهوم عصري . إنه من الثابت ، ولا شك ، أن بعضاً من ألمع الفقهاء في إسرائيل ، قد خرجوا من بيئة شعبية وضيعة ، حيث كانوا يزاولون مهنة يدوية بسيطة ، فأصبحوا أقطاباً في علم الناموس ، وهو ، في نظر اليهود ، أسمى درجات المعرفة . ولكن ذلك إنما استقام لهم بفضل ما بذلوه من جهد جاهد . وقد مر بنا أن ليس هناك ما يشير إلى أن يسوع ، في سني حداثته ، قد تبحرّ كثيراً في العلوم . فإذا تصفحنا الإنجيل اتضح لنا أن فكرته لمْ تتخطّ الحيزّ الذي انحصرت فيه اهتمامات النفوس الدينّة، من أهل عصره وبلده . أجل ، إن في كلامه تلميحات عفوية إلى أحداث العهد القديم ، واستشهادات بالكتب المقدّسة ؛ بل هو، إلى ذلك ، في حواراته مع الفريسيين ، قويّ الحجةّ،ُ محكم الجواب ، واقف على أساليب الجدل . ولكنه كان يأبى أن يجارى الفقهاء في ميدانهم ، بل كان يتمكن منهم باللجوء إلى مؤديّات العقل السليم ، ومقتضيات شريعته " الجديدة "، وقد باتت ، في معظم الأحيان ، تعبيراً عن فرائض السنُةّ الطبيعيةّ . ومن العجب أنه كان يجمع إلى أهبة نفسية للاستطلاع الدائب ، !الوعي الشامل ، حِكمةً لا تمتّ بصلة إلى أساليب الثقافة المدرسية . له ، في الكلام ، أسلوب فريد، ولهجة فذّة. وذلك ، في كيانه ، من النواحي التي يسطع فيها، ليس فقط ما لا أجرؤ على تسميته " عبقرية " – لأن العبقرية من أوصاف الأرض – بل شبه إشراق سماوي يصبح معه العقل البشريّ مشِعّاً بسنى الروح القدس

قلب الله

. من المتعذر أن نتصوّر"إنسانا أبعد من يسوع عن أولئك النظريين المتحجرّين الذين بات اعتدادهم بيقينهم بمقدار تشبثهم بحقوقهم ؛ الذين يهبطون على النـاس ، بأحكامهم ، من علَُ ، ويمسخون تعليم المسيح - وهو أحبّ ما أخرج للناس - مقصلةً صارمة، ومجموعةً من الفرائض الضارية

. إن الإنجيل حافل بالشواهد التي يبدو المسيح ، من خلالها، إنسانا خاضعا للعواطف الإنسانية، في وسعه أن يخبر ما يخبره الناس من نزوع إلى الصداقة والحنان الرقيق ، بل من ذاك الجاذب السرّي الذيُ يهيب بنا، - من حيث لا ندري - إلى توثيق معرفتنا بكائن آخر، والشعور بدفء محبته . فهكذا كان البشير يوحنا ، " التلميذ الذي اتكأ على صدر يسوع "، واحداً من أولئك الذين خصّهم المسيح بمحبتّه ؛ كما أنه خصّ بمودّته ، في بيت عنيا، تلك الأسرة التي أكرمها بمعجزة كانت آخر معجزاته ، ومن أعظم خوارقه ؛ وقد أثبت ذلك ما جاء في الإنجيل الرابع من أن يسوع " كان يحب مرثا و مريم أختها، ولعازر" (يوحنا 11 : 5 ) . وهناك حادثة قلّما في الإنجيل ما يضاهيها حياةً وبراعةً في أداء واقعية الأشخاص : فلقد دنا من المسيح شابّ غنيّ ، كاد أن يعقد النيّة على اتباعه ، وسأله قائلاً : " أيها المعلّم الصالح ، ماذا عليّ أن أعمل ، لأرث الحياة الأبدية ؟ " . فقال له يسوع : " أنت تعرف الوصايا : لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد بالزور، ولاتتعدّ على أحد، أكرم أباك وأمك ". فقال له : للم يا معلّم ، كل هذا قد حفظته منذ صباي ! ". فحدّق إليه يسوع وأحبّه ! ". . . ما أروعها طبيعيـةّ ! فالإنسان ، في المسيح ،ُ نباغته في تلك النظرة ؛ كما أننا نفهم كل الفهم عواطف الشاب الغنيّ ، إذ أجابه المسيح : " واحدة تنقصك ! إمض وبع مالك ، وأعطه للفقراء . . . " . لقد انقبض لهذا الكلام ، ومضى حزيناً، لأنه كان ذا مال كثير . " (مرقص 1. : 17-22 ؛ متى 19 : 16 -12 ؛ لوقا 18 : 18 -23 )

بيد أن المسيح - ذاك الذي أشاد بحبّه القديس برنردُ س ، والذي نوّه في كتاب " الاقتداء بالمسيح "، في إحدى فقراته الرائعة، " بصداقته الأليفة " - هو أعظم من أن يحصر صادق مودّته ، ورقيق شعوره ، في بعض الأفراد المحظوظين . أجل ، إننا نجد في ميول قلبه ما يقرّبه منا، ويقع في نفسنا . بيد أن هناك ما هو أعظم . فالمسيح قد شمل بعطفه الفائض جميع الذين جاوروه والتمسوا إزره . وإن ما ذكرناه من صفات الحزم والنفوذ نراه دوما مشفوعاً ومُعادلاً بما يوازيه من مناقب الوداعة والحفاوة . فالمسيح ينتسب إلى تلك الفئة التي هو - في الحقيقة - مثالها، فئة الذين يبذلون حبهم لجميع المرتقبين ، وحنانهم لجميع البائسين ، وصفحهم لجميع العاثرين . . . من استنجده فقد كفل نجدته : ولكم نراه ، في الإنجيل ، وقد أعياه التعب ، واشتدت عليه حاجة الخلوة والراحة، يستجيب لمستجير ثقيل ؛ فما ظهر يوماً أنه عيل صبراً ، بل كان أبداً حاضر الأهبة للجميع ، بلا استثناء . . .

. ولا يعي ذلك أنه لم يكن يؤثر فئةً من الناس على غيرها. فقد كان للبؤساء والمحرومين ، من قلبه ، حق الصدارة ." طوبن للمساكين ! " : صرخةٌ تردّدت أصداؤها في جميع في صفحات الإنجيل ! إلاّ أن ذلك لا يسوّغ لأحد أن يتوسّم في يسوع شبه زعيم شعبي يدعو إلى احتجاج وثورة الفقر على الغنيّ . فإن موقفه من الأغنياء واضح كل الوضوح . فعندـما انصرف عنه الشاب الغنيّ لم يزد على قوله ، مُعلقّاً : " يا بـيَّ ، ما أعسر على ذوي الأموال ، أن يدخلوا ملكوت اللّه ! . . إنه لأسهل أن يمرّ جمل في ثقب الإبرة، من أن يدخل غنيّ ملكوت الله " . لقد تعُنُّتَ كثيراً، ما بين الأوساط اللاهوتية، في التلطيف من معنى هذه العبارة التونيبية . فأن تكون الصورة من أساليب الإطناب الشرقي ، وأن يوجد مثلها في القران ( سورة 7 : 26)، أو في بعض النصوص الهندية، كل ذلك لا يمنع أن يبقى للعبارة فحواها . فلماّ كان البلوغ إلى ملكوت الله - في نظر المسيح - هو الأرب الوحيد، فالغني يبدو له امرْأً " تاعسا "، أحق بالشفقة من سواه ، لأنه غافل عن شقائه ، ولأن عوائق المال تصدّه صدّ اً مخيفا عن الدخول " من الباب الضيق " ! فليس في هذا الشعور أي نقمة ولا أي عنف ! لا بل فيه ، من وجه آخر، ملامح الشفقة . وعلى كل ، فإذ سأله التلاميذ قائلين : " من يستطيع إذن أن يخلص ! "، أجابهم : " كل شيء ، عند الله ، مستطاع ! "

. فليس اقتناءُ الأموال يندّد به المسيح ، بل الغرور باقتنائها ! والذين يعافهم إنما هم الصَلفون ، والبطرون ، والذين يموّهون بأقنعة فضائلهم المتُرْفة، دمامة نفوسهمَ الخسيسة .َ وهو، البراءة المتجسّمة، والذي لم يراود نفسه ظلّ خطيئة - نراه يفرغ على الخطأة حناناً ما بعده حنان ، ويفتح لهم قلبه ، على شرط أن ينُيبوا إلى اللّه بقلب صادق . إن شكوى الفريسيين قامت على أساس ، يوم قالوا : " هذا الإنسان يقبل الخطأة ويأكل معهم ! " ( لوقا 15 : 2 ) . بل يخيّل أن المسيح قد آثر الخطأة على غيرهم إيثاراً ملحوظاً . ولا بدَعْ ، فالأم أكثر عزاء بتماثل ابنها المريض ، منها بصحة سائر أفراد الأسرة ؛ والراعي أكبر غبطة بالعثور على الخروف الضال ، منه ببقاء التسعة والتسعين خروفاً داخل المرابض . هكذا تفرح المرأة أيضاً، عندما تعثر على الدرهم الضائع في إحدى زوايا البيت . وهكذا من حقه أن يقيم العيد، ذاك الوالد الذي ألفى ابنه الشاطر، وقد آب إلى المنزل ، بعد غيبة طويلة قضاها في مغامرات رعناء إ.. لقد جاء المسيح " ليخلّص ما قد هلك ". فإن بات للخطيئة، في حياة الإنسان ، معنى وفائدة، فذلك بأن تذهب به شطر التواضع الفادي ، وتحطّم فيه الكبرياء، وتُشْرع على الحبّ فؤاده

. ولقد ذهب المسيح إلى أبعد من ذلك . فالكلمات التي نطق بها فوق الهضبة، في مطلع رسالته ، انطوت على فريضة أشدّ وعورة : " سمعتم أنه قيل : " أحبب قريبك ، وأبغض عدوّك ! "، أمّا أنا فأقول لكم : " أحبوّا أعداءكم ، وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم . . . فإنه ، إن أحببتم من يحبّكم ، فأي أجر لكم ؟ " (متى5 : 43 ؛ لوقا 6 :32 –33). فالمحبة، هنا، تعبث بالممكنات : فهي تجتاز حدود المودّات البشرية، وتتخطىّ ذاك العطف الذي يشْمل به القلبُ النبيل مصائب الآخرين وأخطاءهم ؛ بل هي تعدو نطاق الصفح عن المساءة - والصفع كثيراً ما يأتي عن طريق النسيان ومرِّ الزمان ! فالمحبة التي نادى بها المسيح إنما تقضي على الإنسان بانقلاب جذري ، يسمو طاقات البشر ، وبإذلال الطبيعة وكراماتها الشرعية، وتقبيل اليد التي ضرَبت

. وأماّ أن يكون تطبيق مثل هذا التعليم على جانب فريد من الوعورة، فذلك ما لم يموّههْ الإنجيل. فالمسيح ، إذ غادر الجليل يوماً وهمّ أن يجتاز بالسامرة، سيّـر قدامه رشلاً يمهّدون له الطريق . وحدث أن قرية من قرى السامرة أبت استقباله : وقد كان بغض السامريين لليهود متوثباً بين ضلوعهم . فلما رأى ذلك التلميذان ، يعقوب ويوحنا، قالا : " يارب ، أتريد ان نستنزل النار من السماء فتحرقهم ؟ " . فالتفت يسوع ، وزجرهما قائلاً : " إنكما لا تعلمان من أي روح أنتما ! فإن ابن البشر لم يأت ليهلك نفوس الناس، بل ليخلّـصها " ( لوقا 9 : 51-56 )

. ولا بدّ من القول ، تعقيباً على هذه الملاحظات ، أن محبة يسوع قد انسجمت مع جملة من الفضائل ، قد تفتقر إليها أحياناً المحبّات البشرية . فهناك من التلطّف مـا هو ضرب صميم من ضروب اللامبالا؛ ومن الموادعة ما ينجم عن التعـامي . إن ما رأيناه ، في تصرّفات المسيح ، من مظاهر الشدة أحياناً ، يكسب وداعته قيمة فريدة . فنحن لا نرى أن يسوع بات ، يوماً، ضـحيـة ختل أو. خداع ، كما يتّفق للسيّدات المحسنات أن يمكر بهنّ محترفو التسوّل . فلقد كان له ، في الناس ، بصيرة نافذة . وقد خبر بطرس من ذلك بعض الشيء ، يوم أنبأه معلّمه بأنه سوف يخور، ساعة الخطر، ويجحد ذاك الذي زعم أنه بالمهجة يفديه ! إلاّ أن ذاك النفاذ، في بصيرته ، كانت توازيه رقّة مثُلى . إن من أهل البرّ من يطغى عليهم تعوّد ما يقفون عليه من بؤس الناس ، والمفاسد التي يجرّ إليها البؤس جرّاً طبيعياً، فينضب ، في قلوبهم ، ماء الشفقة، ويداخل عطفهم شيء من آفات العنف والاليّة و " الإدارية " . فلقد أمسى الفقير، في نظرهم ، رقماً تنقضي حقوقه بكسرة خبزٍ أو بحذاء ! . . أمّا يسوع فما كان أبعده عن مثل ذاك الشذـوذ ! أيّ رقة في موقفه من تلك السامرية التي استشفّ له سرّها، ومن تلك النساء الساقطات ، وتلك المرأة الزانية التي سوف نراه يواجهها بالصمت ! - والصمت أسمى أشكال المحبة ! لكم كان يرفق بما يحتفظ به أحطّ الناس ، من حشُاشات أخيرة تؤهّلهم للتوبة والاصطلاح ، إذا شعروا أنهم ، وإنُ سعفوا، محَوّطون بالتقدير

! إن الشواهد التي أتينا على ذكرها تُلمح كلها إلى أحداث تجلىّ فيها عطف المسيح على المرأة . وإننا نجد في هذه الظاهرة من مسلكه ما يسترعي الانتباه . لقد كان العرف اليهودي - ولا شك - يقُرّ للمرأة، عمليّـاً، مكانة عظيمةً في إدارة شؤون البيت . هذا وقد ورد في الكتاب المقدّس ذكر الكثير من النساء الرائعات . ومع ذلك ، فقد كان كره المرأة ، في إسرائيل ، من مجانح الرأي العام ، يسومها لوناً من التعيير المبطن والاحتقار . وإننا نوجس في الشريعة الموسوية، وفي طائفة من النصوص التلمودية .َ نفوراَ يكاد أن يكون صريحا، من المرأة – الخليقة النجسة – واحترازاَ عظيمأ من تلك التي تستغوي الرجل ، وتستدرجه إلى المعصية . وكانت الشريعة الإسرائيلية من كثرة العناية بالرجال ، بحيث كانوا وحدهم – من دون النساء- ملتزمين بمراسيم الناموس ، كالصلاة اليومية، والشعائر الفصحية . وكانت الشريعة تقضي أن يفُقّه البنون في الدين ، وأما البنات فكنُّ يصبُن ، من التعاليم الدينية، طرفا زهيداً جدّ اً، إذا رضي الأب بذلك

. مثل ذاك الاحتقار كان أيضاً ظاهرة من ظاهرات المدنيّة الرومانية . أجل ، لم يكن كل الناس على رأي سينيكا[ فيلسوف روماني ( 2 – 66 ) ، ولد في قرطبة ( الأندلس ) ، وولي مهمة تأديب الإمبراطور نيرون ، في حداثته . استوحى مبادئه الفلسفية من المذهب الرواقي ] ، في كره المرأة، ونعتها بالحيوان العاهر . . . و مع ذلك فقد كانت المرأة معزولة عن الحياة الرسمية . فإذا كانت ربةّ بيت ، فهي محصورة في نطاق مهامّها المنزلية ؛ وإذا كانت فتاةً أو مطلّقة فهي ضحيةّ ما كان قد بدأ يشيع ، إذ ذاك ، من عادات التحرّر والانفلات . فالمرأة الرومانية كانت إذن بعيدة كل البعد عن أن تحتل المكانة الأساسية التي رفعتها إليها الحضارة المسيحيّة، في غضون ألفي سنة

. فالمسيح ، في هذه القضية أيضا - كما قي غيرها من القضايا- قد بدّل الأوضاعَ المقرّرة . فنحن نراه - من خلال رواية لوقا- يجول في المدن والقرى، ومعه " بضع نساء كنّ قد برئن من أرواح شرّيرة، ومن أمراض . وهنّ مريم التي تدعى المجدية، التي خرج منها سبعة شياطين ، وحنّة امرأة كوزى، قيّم هيرودس ، وسوسنة، وأخَر سواهن . . . ". هكذا قام أيضاً – عبر التاريخ - نخبةٌ من النساء الساميات . . . ولا شك ، فالنفس الأنثويةّ قريبة إلى الحب : إنه قُوتهُا اليومي ، به ثغتذي وتعيش . ولكم من تلك النفوس ، على ممرّ التاريخ ، استجابت لمثل الدعاء الذي وجّهه يسوع إلى السامرية والمجدلية . ولكم من نساءٍ وجـدن ، في الحبّ السماوي اللاهب ضمن الأديرة، ذاك الفرح الإنساني الذي تصبو إليه كل امرأة، ولا تصيبه إلاّ في غمرة التضحية والبذل

. هذا، ولا بدّ من الإشارة إلى أن يسوع ، في موقفه الجديد والجريء من المرأة، لا يترك أي مجال للريبة في صفاء علاقاته وتصرّفاته : فدموع الخاطئات وأطيابهنّ لم تكن لتعكّـر عليه نقاء شعوره . إن عناية الرجل بالمرأة قلّما ثخلو من شبهة ؛ والمرشدون الروحيون يعلمون ذلك ، ولا بدّ أنهم يحثاطون له حيطة دائبة : " طوبى لأنقياء القلوب ! " . وأمّا نقاوة المسيح فهي البلوّر صفاء وسلامة

! بيد أن شخصيّة المسيح ، مهما تبينّ لنا صفاؤها وسموها، ومهما أشرقت جوانبها الإنسانية، فيَ خضوعها الشامل لمقتضيات الحبّ ، فإن لها، في الإنجيل ، ملمحاً آخر . أجل ، لقد كان يسوع ذاك الرجل الذي امتاز بروعة تفهّمه وعطفه - والذي نودّ لو كناّ قد عرفناه وأحببناه ! ويسوغ القول إن قوّة تلك الصورة النفسيّة هي من أثبت الأدلّة على نزاهة الأناجيل ، إذ يبدو من المتعذّر على رجال بمنزلة متى ومرقص ولوقا ويوحنّا أن يكونوا قد ابتدعوا تلك الشخصيةّ البليغة من غير أن تتطرّق إليها شوائبهم البشرية . لقد كان الإنجيليون من الكتُّاب الذين فاتتهم صناعة الإنشاء ؛ بيد أنهّم ، بهدي الروح ، قد وُفّقوا إلى وصف الكمال من غير إسفاف ، وذروة المحبّة من غير ابتذال .. . بيد أن تلك الشخصية،الخفيةّ الجليّة معاً، تستشفّ عن شئ آخر : إن محبةّ يسوع هي ، بالمعنى الحرفي ، فوق حدود الطبيعَة

! هل كان يعي المسيح أنه " المسيا " ؟

. لقد قال المسيح عن نفسه إنه " ابن الله " ، بما لهذه العبارة من معنى كامل حقيقي . فالفرّيسي بولس - قبل اهتدائه إلى المسيحية على طريق دمشق - ناهض المسيحيين لأنهـم كانوا يجدّفون على الله بانتحالهم القول بتلك " البنوة " . والمسيح يوم أعلن نفسه ابن الله ، على وجه " المحفل الأعظم " ، قد استنزل بنفسه حكم الموت … في وثائق الدعوى التي أقيمت على جان دارك ، وعلى هامش النص الذي أعلنت فيه الفتاة انتساب رسالتها إلى مصدر علوي ، علق المسجل بهذه الكلمات الثاقبة : " جواب فيه حكم الموت ! " . وكلمات يسوع التي أجاب بها إلى سؤال الكاهن الأعظم : " أأنت ابن المبارك ؟ - أنا هو ! " ، تلك الكلمات هي التي استجلبت عليه قضاء الموت أيضاً ! .. وأما الشكوى التي رفعت إلى بيلاطس ، بأنه جعل نفسه ملكاً ، فما كانت سوى حجة سياسية فإن التهمة التي تظلم بها عليه الفقهاء والكهنة ، والسبب الدفين الذي أوغر عليه صدورهم هم أنه جعل نفسه إلهاً ، مفترياً بذلك وحدانيته تعالى. وفي ذلك ما يعلل تلك الدسيسة التي لم تعرف الهوادة ،والتي تضافرت فيها على يسوع عوامل العنف والحيلة ( ولا بدع ، فالمجدف قد سقطت عنه حقوقه الإنسانية ) ؛ وتلك الاستهزاءات الضارية التي قذفوه بها ، ساعة كان معلقاً على الصليب : " إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب " ( متى 27 : 4. – 44 ) . بل إن حكم الصلب دلالة قاطعة على أنه ادعى " البنوة الإلهية " ، على افتراض أن مثل هذا التصريح لا يؤخذ من كلامه وتصرفاته . ومن الثابت إذن أن الألوهية لم تكن ، في كيان يسوع ، حقيقة خفية مطوية عن وعيه . وهو لم يعلن نفسه " مسيحاً " وحسب ، أي تحقيقاً لآخر مرحلة من مراحل الماسوية اليهودية ، بل حول الماسوية تحولاً جذرياً ، باعلان بنوته الإلهية . وإذا كان لابد من استعمال تعبير لاهوتي ، فهو قد عرف ذاته " مساوياً لله في الجوهر " – هذا بحسب التعبير الذي اعتمدته الكنيسة رسمياً في المجمع المسكوني الأول الذي انعقد في نيقية سنة 325 ، في إثر استفحال الهرطقة الآريوسية ، وهي التي نفت الألوهة عن المسيح – وكل شئ برهان على ذلك : موقفه من الشريعة الإلهية ، وقد أعلن ذاته " سيداً " عليها ، ولم يتردد في استخدامها ، وتبديل تعابيرها ، متيقناً أنه باعث كمالها ، ومصرحاً بأنه يملك روحها بينما لا يملك الآخرون سوى حرفها ؛ ثم تلك السيطرة الهادئة ، سواء أكان في طريقة تعليمه ، أم في استعمال طاقاته الخارقة ؛ ثم أخيراً تصريحاته التي تتلخص في هذه العبارة الجازمة : " أنا والآب واحد ! " ( يوحنا 1. : 3. )

. لقد تلقن أتباع يسوع ، من يسوع – إذ كان بعد على الأرض – هذه الحقيقة الخالدة ، التي ينبغي لكل مسيحي أن ينعم النظر فيها ، وهي أن التعليم الصادر من كلام المسيح وشهاة حياته يبقى عقيماً ، إذا لم ينبعث في النفس ذاك الصوت الآخر الذي به يتم اليقين ، وبه يرضى الإنسان بأن يتجدد . فالله لا يفرض شيئاً على الإنسان المستعصي . ويوم أعلن بطرس إيمانه بأن المسيح " هو ابن الله الحي ! " ، أجابه يسوع قائلاً : " طوبى لك يا سمعان . فإنه ليس اللحم والدم أعلنا لك هذا ، بل أبي الذي في السماوات " ( متى 16 : 16 – 17 ) . أجل ، إن تعليم المسيح لا يصبح " روحاً وحياة " ، " وطريقاً يؤدي إلى الآب " ، إلا لمن يرضى بالإنصات إليه ؛ وهكذا ينشئ كل إنسان ، في ذاته ، ألوهية يسوع . بيد أن هذه الألوهية كانت ، في وعي ذاك الكائن الحي الذي نتأمل فيه ، حقيقة صامدة ، ما كان يوماً ليجهلها أو ليرتاب في أمرها ؛ وليس من الحق في شئ ، ما قيل عن يوحنا الإنجيلي ، من أنه ، في شبه هذيان لآهوتي ، دون مطلع إنجيله : " في البدء كان الكلمة ! .. " . فكون الكلمة قد " أصبح جسداً وحل بيننا " ، حقيقة عرفها يسوع ، وصرح بها ، وكشف عنها ، هو نفسه : " الله لم يره أحد قط . الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر ! " ( يوحنا 1 : 18 )

الإنسان والإله

. بقيت مشكلة لا بدّ من الإيماء إليها - ولا أبغي إلاّ الإيماء، لأنه من العبث محاولة حلّها ؛ فإنّ أعصى المعضلات المتعلقة بالمسيح، إنما هي معضلة الصلات القائمة، في كيانه ، بين طبيعته الإلهية وطبيعته الإنسانية ؛ بين ما كان يجعله شبيهاً بنا، وما كان يجعله مختلفاً عنا اختلافاً جذرياً . وهذه المعضلة، في حدّ ذاتها، لا تدخل في نطاق علم النفس ، ولا في نطاق التاريخ . فالاعتقاد بوجود إنسان وإله في كائن واحد وفي ذات الآن ، ينتسب إلى تلك العيوب التي يتهرّب منها العقل ، والتي تسميّها الكنيسة " أسراراًَ"، والتي تدخل قي نطاق ما يدعوه بولس " عثرة " . في رسالته الأولى إلى الكورنثيين ( 1 : 23 - 24 )

. كتب باسكال : " إن الكنيسة قد بذلت من الجهد في سبيل البرهان عن إنسانية يسوع المسيح ، للذين أنكروها، مثل الذي تكلّفته للبرهان عن ألوهيته " . وغريب أن البدع التي أنكرت على الله أن يتأنسّ أكثر من البدع التي رفضت أن تقرَّ للإنسان أن يتألّه . وكأني بتلك الغواية القديمة لا تزال عالقة بقلب الإنسان - الغواية الوثنية - تلك التي وسوست بها الأفعى ( رمز للشيطان ) إلى آدم : " سوف تكونان آلهة ! ". وقد لاحظ باسكال مصُيباً " أن البدعة لم يكن في وسعها أن تعقل انسجام حقيقتين متنافيتين . فلمّا بدا لها أن الإقرار بإحداهما يتضمن إنكار الأخرى ، تمسّكت بإحداهما وتنكّـرت للأخرى . وأماّ العقيدة الصحيحة فهي في اندغام الحقيقتين " وذاك ما صرح به مجمع نيقية ، يوم أعلن أن يسوع هو " ابن الله المولود من جوهر الآب ، مساو له في الجوهر ، مولود غير مخلوق ، أبدي ، مثل الآب ، ومن ثم ، صامد في طبيعته " . ونجد ملخص ذلك في قانون الإيمان – وهو القانون النيقاوي ، أو بالحرى ، قانون مجمعي نيقية ( 325 ) والقسطنطينية ( 381 ) : " إله حق ، مولود غير مخلوق ، مساو للآب في الجوهر … " . بيد أننا نجد في تتمة هذا النص تصريحاً ببشرية المسيح لا يقل وضوحاً عن التصريح بألوهيته : " تجسد من الروح القدس ، ومن مريم العذراء ، وصار إنساناً … " فالله والإنسان متميزان فيه ومتحدان في آن واحد ، وقائمان قياماً ثابتاً ، ليس له انفصام . فمن آمن بهذا السر فهو على السنة الصحيحة ، ومن أنكره فقد خرج على الكنيسة

هل كان بالإمكان أن نقع ، في متن الإنجيل ، على شئ من سر العلاقات التي قامت ، في يسوع ، بين طبيعته الإلهية والإنسانية ؟ .. إن ما يتضح وضوحاً كاملاً هو أن الألوهية فيه لم تمتص الطبيهة الإنسانية ، كما توهم القائلون بالطبيعة الواحدة . ففي المشهد الرائع الذي جاء فيه وصف " التجربة " ، نراه قريباً كل القرب من أوضاعنا البشرية ، ومضطراً إلى مجالدة العدو : فهو يجهز على خصمه ، لأنه إله ، ولكنه مضطراً إلى مصارعته لأنه إنسان . ولقد أورد لوقا ( 12 : 5. ) عبارة أعلن فيها المسيح أن له " معمودية يعتمد بها " – وهي التي قصد بها آلامه واستشهاده – ثم أضاف قائلاً : " وما اشد تضايقي حتى تتم ! " . عبارة مؤثرة ، يؤخذ منها تواجه الطبيعتين ، واضطراب الطبيعة الإنسانية بإزاء ما وقفت عليه الطبيعة الإلهية من سر مصيره الفاجع . وفي بستان الزيتون ، في الليلة التي سبقت استشهاده ، يتجلى لنا أيضاً ذاك التواجه في مشهد مروع : فالمسيح ، من جرى خضوعه للقدرة الإلهية خضوعاً حرّآَ، أخذ ينازع من شدّ ة الهول ، فقام دليلاً على صراعه ، ذاك العرق المتساتل على الثرى " كقطرات من دم "

. ( لوقا 22 : 44 )

. بالإمكان إذن أن نتمثل الألوهية، في يسوع ، قوّةً قد أحاط بها إحاطة كاملة، وآزرته ، بل سمت به فوق ذاته في تحقيق أهداف رسالته الجلىّ، حتى إذا ما حانت ساعة التضحية، خضع لها خضوعاً حرّاً، وتنازل لها عن حياته تنازلاً مطلقاً . . . ولكن هل بالإمكان أن نفهم كيف استطاع إنسان أن يعَي وجود الله فيه ؟ . . إننا نجد، في الكتاب ، إشارات مقتضبة جدّ اً، هي أقرب إلى الإشكال منها إلى الإفصاح عن تلك المخبّـآت . فنحن نذكر، مثلاً ، حادثة المرأة المنزوفة ، يوم لمست ، خفية ، هدب ردائه ، و كيف التفت إليها وقد شعر " أن قوةً قد خرجت منه ! " . ونحن نقرأ أيضاً، في إنجيل لوقا، أن يسوع " قد تهلّل في الروح القدس " (لوقا 1. : 21) ، كما أننا في ، في إنجيل يوحنا، إشارات مضاهية إلى " ارتعاش يسوع في روحه "، و" اضطرابه " ، ساعة أنهض لعازر من القبر (يوحنا 11 : 33) . ارتعاش غامض لا يعود البتة إلى أسباب بشرية ، بل رّبما إلى أغوار سر من أعمق الأسرار

. لا نستطيع أن نتجاوز هذا الحدّ من التقصّي. فإنه حيثما توجّهنا في شعاب التحليل ، واستيضاح ملامح يسوع الطبيعية ولنفسية، اصطدمنا بحاجز منيع : إنه السرّ وكفى ! عبث كل عاولة لا تتوخى من وصف المسيح سوى الاستطلاع ؛ ومن التجديف أن يتصوّر الباحثون ، مهما تورعوا، أن باستطاعتهم أن " ينظروا إلى المحجوب وكأنه سافر"، على حدّ ما جاء في صلاة ليترجيةّ قديمة ؛ من التجديف أن يعزب عن ذهنهم أنهم ليسوا بإزاء معضلة علميّة، بل بإزاء حقيقة إيمانية


. راهب دومينكاني ( 1386- 1455 ) له في الفن رسوم مشهورة منها " البشارة " و " تكليل العذراء "

 

 فيلم يسوع باللغة العربية